الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

الوتر (2)
حُكمه وفضله:
الوتر سنّة مؤكّدة حضّ عليه الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فعن عليّ -رضي الله عنه- قال: الوترُ ليس بحتْم كصلاة المكتوبة، ولكن سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله وترٌ يحبّ الوتر، فأوتروا يا أهل القرآن". (3)
عن ابن محيريز: أنَّ رجلاً من كِنَانَة يدعى المُخدجي سمع رجلاً بالشام
__________
= قال القاضي: واختلفوا في المقصورة، فأجازها كثيرون من السلف ... وكرهها ابن عمر والشعبي وأحمد وإسحاق".
(1) أخرجه مسلم: 883
(2) الوِتر بالكسر: الفرد وبالفتح الثأر "الفتح"، وفي النهاية: وتكسر واوه وتُفتَح.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي واللفظ له والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة في "صحيحه"، وقال الترمذي: حديث حسن، قاله المنذري في "الترغيب والترهيب"، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (588).

(2/115)


يُدعى أبا محمّد يقول: إِنَّ الوتر واجب، قال المُخدجي: فرُحتُ إِلى عبادة بن الصامت فأخْبرته فقال عبادة: كذَب (1) أبو محمّد، سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "خمسُ صلوات كتبهنّ الله على العباد، فمن جاءَ بهنّ لم يُضيّع منهن شيئاً استخفافاً بحقّهنّ؛ كان له عند الله عهدٌ أن يُدخله الجنّة، ومن لم يأت بهنّ؛ فليس له عند الله عهد، إِن شاء عذَّبه، وإنْ شاء أدخله الجنّة" (2).
قال شيخنا في "الصحيحة" (1/ 222) بعد أن ذكر حديث "إِن الله زادكم صلاة، وهي الوتر ... " (3): "يدل ظاهر الأمر في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فصلُّوها" على وجوب صلاة الوتر، وبذلك قال الحنفية؛ خلافاً للجماهير، ولولا أنّه ثبَت بالأدلة القاطعة حصْر الصلوات المفروضات في كلّ يوم وليلة بخمس صلوات؛ لكان قول الحنفية أقرب إِلى الصواب، ولذلك فلا بدَّ من القول بأنّ الأمر هنا ليس للوجوب، بل لتأكيد الاستحباب، وكم من أوامرَ كريمةٍ صُرفت من الوجوب بأدنى من تلك الأدلة القاطعة، وقد انفكّ الأحناف عنها بقولهم: إِنهم لا يقولون بأن الوتر واجب كوجوب الصلوات الخمس، بل هو واسطة بينها وبين السنن، أضعف من هذه ثبوتاً، وأقوى من تلك تأكيداً!
فليعلم أنّ قول الحنفية هذا قائم على اصطلاح لهم خاص حادث، لا تعرفه الصحابة ولا السلف الصالح، وهو تفريقهم بين الفرض والواجب ثبوتاً وجزاء؛
__________
(1) أي: أخطأ وفي "لسان العرب": وقد استعمَلت العرب الكذب في موضع الخطأ، وذكَر بيت الأخطل: "كَذَبتك عينك أم رأيت بواسط .... ".
(2) أخرجه مالك وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1258) والنسائي وابن حبان في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (363)، وتقدّم.
(3) سيأتي بتمامه وتخريجه إِن شاء الله في (وقت الوتر).

(2/116)


كما هو مفصَّل في كتبهم.
وإِنّ قولهم بهذا معناه التسليم بأن تارك الوتر معذّب يوم القيامة عذاباً دون عذاب تارك الفرض؛ كما هو مذهبهم في اجتهادهم، وحينئذ يقال لهم: وكيف يصحّ ذلك مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمن عزم على أن لا يصلي غير الصلوات الخمس: "أفلح الرجل"؟!
وكيف يلتقي الفلاح مع العذاب؟! فلا شكَّ أن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذا وحده كاف؛ لبيان أن صلاة الوتر ليست بواجبة، ولهذا اتفق جماهير العلماء على سنيَّته وعدم وجوبه، وهو الحقّ.
نقول هذا مع التذكير والنصح بالاهتمام بالوتر، وعدم التهاون عنه؛ لهذا الحديث وغيره، والله أعلم".

وقته
يبدأ وقت الوتر من بعد صلاة العشاء حتى الفجر.
عن أبي تميم الجيشاني أنَّ عمرو بن العاص خطب الناس يوم الجمعة فقال: إِنَّ أبا بصرة حدّثني أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ الله زادكم صلاةً، وهي الوتر، فصلّوها بين صلاة العشاء إِلى صلاة الفجر" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "مِن كلِّ الليل قد أوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، مِن أوّل الليل وأوسطه وآخره. فانتهى وِتْرهُ إِلى السَّحَر" (2).
__________
(1) أخرجه أحمد وغيره وانظر "الصحيحة" (108)، و"الإِرواء" (423)، و"صحيح سنن ابن ماجه" (958).
(2) أخرجه البخاري: 996، ومسلم: 745

(2/117)


من خاف أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر أوله:
عن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوّله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإِنَّ صلاة آخِر الليل مشهودة (1). وذلك أفضل".
وقال أبو معاوية: "محضورة" (2).
وفي رواية: "أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر ثمَّ ليرقد، ومن وثَقِ بقيامٍ من الليل فليوتر من آخره فإِنّ قراءة آخر الليل محضورة وذلك أفضل" (3).
وعن جابر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر: "أيَّ حينٍ توتر؟ قال: أوّل الليل بعد العتمة، قال: فأنت يا عمر؟ فقال: آخر الليل، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمَّا أنت يا أبا بكر فأخذت بالوُثقى، وأمَّا أنت يا عمر فأخذت بالقوة" (4).
وعن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الذي لا ينام حتى يوتر حازم (5) " (6).
__________
(1) أي: تشهدها الملائكة.
(2) أخرجه مسلم: 755.
(3) أخرجه مسلم: 755.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1271)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (988)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1084).
(5) الحزم: ضَبْط الرجل أمرَه والحذر من فواته، من قولهم حزمْتُ الشيء: أي شددْته. "النهاية".
(6) أخرجه أحمد وغيره وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الصحيحة" (2208).

(2/118)


عدد ركعات الوتر:
أقلّ الوتر ركعة، لحديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أنَّ رجلاً سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا خشي أحدكم الصبح؛ صلّى ركعةً واحدة، توتِر له ما قد صلّى" (1).
وفي رواية "للبخاري" (993): "صلاة الليل مثنى مثنى، فإِذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر ما قد صلّيت".
قال القاسم ورأينا أناساً منذ أدركنا يوترون بثلاث، وإِنَّ كلاًّ لواسع؛ أرجو أن لا يكون بشيء منه بأس.
وأعلاه إِحدى عشرة ركعة؛ كما في حديث عائشة عن أبي سلمة أنَّه سأَلَ عائشة -رضي الله عنها- كيف كانت صلاةُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان فقالت: ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة؛ يصلّي أربعاً فلا تسَلْ عن حُسنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يُصلِّي أربعاً فلا تسَل عن حُسنهنّ وطولهنّ، ثمَّ يُصلِّي ثلاثاً" (2).
بيْد أنَّه قد ثبت أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى ثلاث عشرة ركعة لحديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بثلاث عشرة، فلما كبُر وضعُف، أوتر بسبع" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 990، ومسلم: 749
(2) أخرجه البخاري: 1147، ومسلم: 738
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (379)، وفيه: " ... قال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما روي أنَّ النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يوتر بثلاث عشرة ركعة قال: إِنَّما معناه إِنّه =

(2/119)


وفي "صحيح مسلم" (737): عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ يوتر من ذلك بخمس؛ لا يجلس في شيء إِلا في آخرها".
وقد ورد في رواية أخرى لمسلم (737): "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي ثلاث عشرة ركعة بركعتي الفجر".
وفي "صحيح البخاري": (992) من حديث ابن عباس أنَّه بات عند ميمونة، فذكر الحديث وفيه: "ثمَّ صلى ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ ركعتين، ثمَّ أوتر، ثمَّ اضطجع حتى جاءه المؤذّن فقام فصلّى ركعتين، ثمَّ خَرج فصلّى الصبح".
وفي "صحيح سنن ابن ماجه" (981): من حديث أمّ سلمة -رضي الله عنها- أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلّي بعد الوتر ركعتين خفيفتين وهو جالس".
وفيه أيضاً برقم: (982): عن أبي سلمة؛ قال حدَّثتني عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوتر بواحدة، ثمَّ يركع ركعتين يقرأ فيهما وهو جالس. فإِذا أراد أن يركع، قام فركع".
فهذه ثلاث عشرة ركعة خلا سنّة الصبح.
ويجوز الوتر بثلاث وخمس وسبع؛ لحديث أبي أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "الوتر حقٌ، فمن شاء فليوتر بخمس، ومن
__________
= كان يصلي من الليل ثلاث عشرة مع الوتر، فنسبت صلاة الليل إِلى الوتر ... "، انظر -إِن شئت- للمزيد من الفائدة "تمام المنّة" (ص250).

(2/120)


شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة" (1).
ويجوز الوتر بتسع لحديث عائشة قالت: "كُنّا نُعِدّ له سواكه وطهوره، فيبعثه الله (2) ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضّأ ويصلّي تسع ركعات، لا يجدس فيها إلاَّ في الثامنة فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يقوم فيصلّي التاسعة، ثمَّ يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثمَّ يسلّم تسليماً يُسمعنا، ثمَّ يصلّي ركعتين بعد ما يسلّم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، يا بُنيّ (3) فلما سنّ (4) نَبِيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأخذهُ اللحمُ (5) أوتر بسبعٍ. وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأوّل، فتلك تسع يا بُنيَّ ... " (6).

صفته (7):
1 - يصلي ثلاث عشرة ركعة يفتتحها بركعتين خفيفتين، وفيه أحاديث: الأول: حديث زيد بن خالد الجهني أنه قال: "لأرمقنّ (8) صلاة رسول الله
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1260)، والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (978)، وانظر "المشكاة" (1265).
(2) أي: يوقظه.
(3) المخاطب سعد بن هشام.
(4) في بعض النُسخ أسنّ.
(5) الظاهر أنَّ معناه كثُر لحمه كما ذكر بعض العلماء.
(6) أخرجه مسلم: 746، وتقدّم بعضه.
(7) عن "صلاة التراويح" (ص 86) بتصرّف.
(8) أي لأنظرنّ نظراً طويلاً، قال بعض العلماء: "أي لأطيلنّ النظر إِلى صلاته حتى =

(2/121)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الليلة، فصلّى ركعتين خفيفتين ثمَّ صلّى ركعتين طويلتين طويلتين، ثمَّ صلّى ركعتين، وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ صلّى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثمَّ أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة" (1).
الثاني: حديث ابن عباس قال: "بتُّ عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة وهو عند ميمونة، فنام حتى ذهب ثلث الليل أو نصفه استيقظ فقام إِلى شن (2) فيه ماء فتوضّأ، وتوضّأتُ معه، ثمَّ قام فقمتُ إِلى جنبه على يساره، فجعلني على يمينه، ثمَّ وضع يده على رأسي كأنه يمسّ أذني كأنّه يوقظني، فصلّى ركعتين خفيفتين، قد قرأ فيها بأمّ القرآن في كل ركعة، ثمَّ سلّم، ثمَّ صلى حتى صلّى إِحدى عشرة ركعة بالوتر ثمَّ نام، فأتاه بلال، فقال: الصلاة يا رسول الله، فقام فركع ركعتين، ثمَّ صلّى بالناس" (3).
الثالث: حديث عائشة قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا قام من الليل، افتتح صلاته بركعتين خفيفتين (4)، ثمَّ صلّى ثمان ركعات، ثمَّ أوتر". وفي لفظ: "كان يصلّي العشاء، ثمَّ يتجوز بركعتين، وقد أعد سواكه وطَهوره، فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه فيتسوك، ويتوضّأ، ثمّ يصلّي ركعتين، ثمَّ يقوم فيصلّي ثمان
__________
= أرى كم صلّى وكيف صلّى".
(1) أخرجه مسلم: 765
(2) أي: قربة.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1215) وأصْله في الصحيحين وتقدّم.
(4) رجّح شيخنا -حفظه الله تعالى- في أول كتاب "صلاة التراويح" أنَّ هاتين الركعتين هما سنّة العشاء.

(2/122)


ركعات، يسوي بينهنّ في القراءة ثمَّ يوتر بالتاسعة، فلمّا أسنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأخَذه اللحم (1)، جعل تلك الثماني ستاً، ثمَّ يوتر بالسابعة، ثمَّ يصلي ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {إِذا زُلزلت} (2) " (3).
2 - يصلي ثلاث عشرة ركعة، منها ثمانية يسلّم بين كل ركعتين، ثمَّ يوتر بخمس لا يجلس ولا يسلم إلاَّ في الخامسة، وفيه حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرقد، فإِذا استيقظ تسوّك، ثمَّ توضّأ، ثمَّ صلّى ثمان ركعات، يجلس في كل ركعتين فيسلم، ثمَّ يوتر بخمس ركعات لا يجلس إلاَّ في الخامسة، ولا يُسلّم إِلا في الخامسة [فإِذا أذَّن المؤذن قام فصلّى ركعتين خفيفتين] " (4).
3 - يصلّي إحدى عشرة ركعة ثمَّ يسلّم بين كلّ ركعتين، ثمَّ يوتر بواحدة، لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلّي فيما بين أن يفرُغ من صلاة العشاء -وهي التي يدعو الناس العَتَمة- إِلى الفجر إِحدى عشرة
__________
(1) أي: كثُر لحمه.
(2) وانظر "صلاة الوتر".
(3) أخرجه الطحاوي (1/ 165) باللفظين وإسنادهما صحيح، والشطر الأول من اللفظ الأول أخرجه مسلم: 767، وأبو عوانة (2/ 304)، وكلهم رووه من طريق الحسن البصري معنعناً، لكن أخرجه النسائي (1/ 250) وأحمد (6/ 168) من طريقه مصرّحاً بالتحديث باللفظ الثاني نحوه ....
(4) رواه أحمد (6/ 123، 230) وسنده صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه مسلم: 737، وأبو عوانة (2/ 325) وأبو داود (1/ 210) والترمذي (2/ 321) وصححه.

(2/123)


ركعة، يُسلّم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، [ويمكث في سجوده قدْر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه] فإِذا سكَت المؤذن من صلاة الفجر وتبيّن له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين، ثمَّ اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيَه المؤذن للإِقامة" (1).
4 - يصلي إِحدى عشرة ركعة أربعاً بتسليمة واحدة، ثمَّ أربعاً مثلها، ثمَّ ثلاثاً (2).
وظاهر الحديث أنه كان يقعد بين كلّ ركعتين من الأربع والثلاث، ولكنّه لا يُسلّم.
5 - يصلي إِحدى عشرة ركعة، منها ثمان ركعات، لا يقعد فيها إلاَّ في الثامنة يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ يقوم ولا يُسلم، ثمَّ يوتر بركعة ثمَّ يسلم ثمَّ يصلي ركعتين وهو جالس، لحديث عائشة -رضي الله عنها- رواه سعد بن هشام بن عامر أنه أتى ابن عباس فسأله عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال ابن عبّاس: ألا أدلّك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: من؟ قال: عائشة فأْتِها فسأَلْها، فانطلقْتُ إِليها قال: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقالت: "كنا نعد له سواكه وطَهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ويتوضّأ ويصلّي تسع ركعات لا يجلس فيها إلاَّ في الثامنة، فيذكر الله ويحمده [ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ويدعوه، ثمَّ ينهض ولا يُسلّم، ثمَّ يقوم فيصلي التاسعة، ثمَّ يقعد فيذكر الله ويحمده
__________
(1) أخرجه مسلم: 736، وأبو عوانة وأبو داود والطحاوي وأحمد، وأخرجه الأولان ن حديث ابن عمر أيضاً، وأبو عوانة من حديث ابن عبّاس.
(2) أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة وتقدّم.

(2/124)


[ويصلّي على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ويدعوه، ثمَّ يُسلم تسليماً يُسمعنا، ثمَّ يصلي ركعتين بعد ما يُسلّم، وهو قاعد، فتلك إِحدى عشرة يا بنيّ، فلما أسنَّ نبي الله وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنَع في الركعتين مِثل صنيعه الأول، فتلك تسع يا بنيّ" (1).
6 - يصلي تسع ركعات منها ستّ ركعات؛ لا يقعد إلاَّ في السادسة منها، يتشهد ويصلّي على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ يقوم ولا يُسلم، ثمَّ يوتر بركعة، ثمّ يسلم ثمَّ يصلّي ركعتين وهو جالس؛ لحديث عائشة المتقدّم.
هذه هي الكيفيات التي كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بها صلاة الليل والوتر، ويمكن أن يزاد عليها أنواع أخرى، وذلك بأن ينقص من كل نوع من الكيفيات المذكورة ما شاء من الركعات وحتى يجوز له أن يقتصر على ركعة واحدة فقط لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ... فمن شاء فليوتر بخمس ومن شاء فليوتر بثلاث، ومن شاء فليوتر بواحدة" (2).
فهذا الحديث نصٌّ في جواز الإِيتار بهذه الأنواع الثلاثة المذكورة فيه، وإِنْ كان لم يصحّ النقل بها عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل صحّ من حديث عائشة أنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يوتر بأقلّ من سبع كما سبق هناك. فهذه الخمس والثلاث إِنْ شاء صلاّها بقعود واحد وتسليمة واحدة؛ كما في النوع الثاني، وإن شاء صلاها بقعود بين كلّ ركعتين بدون سلام.
__________
(1) أخرجه مسلم: 764، وأبو عوانة (2/ 321 - 325)، وأحمد (6/ 53 - 54، 168) وأبو داود (1/ 210 - 211) والنسائي (1/ 244 - 250) وابن نصر (49) والبيهقي (3/ 30)، وتقدم.
(2) تقدم.

(2/125)


هل يقعد بين الشفع والوتر ويسلّم عند الإِيتار بثلاث؟
قال ابن نصر المروزي في "قيام رمضان" (ص 125): "وقد روي في كراهة الوتر بثلاث أخبار بعضها عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعضها عن أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتابعين، منها"، ثمَّ ذكَر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس ... "، قال شيخنا (ص 97): وسنده ضعيف لكن رواه الطحاوي وغيره من طريق آخر بسند صحيح، وهو بظاهره يعارض حديث أبي أيوب المخرَّج هناك بلفظ: " ... ومن شاء فليوتر بثلاث"، والجمع بينهما بأن يحمل النهي على صلاة الثلاث بتشهّدين؛ لأنَّه في هذه الصورة يشبه صلاة المغرب وأما إِذا لم يقعد إلاَّ في آخرها فلا مشابهة.
ذكر هذا المعنى الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 301) واستحسنه الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 8)، وأبعد عن التشبه في الوتر بصلاة المغرب الفصل بالسلام بين الشفع والوتر كما لا يخفى.
قال ابن القيم في "الزاد": قال مهنا سألتُ أبا عبد الله (يعني الإِمام أحمد) إِلى أيّ شيء تذهب في الوتر، تسلّم في الركعتين؟ قال: نعم، قلت: لأيّ شيء؟ قال: لأنَّ الأحاديث فيه أقوى وأكثر عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم في الركعتين، وقال حرب: سئل أحمد عن الوتر؟ قال: يُسلّم في الركعتين، وإن لم يُسلّم رجوت ألا يضرَّه، إلاَّ أنّ التسليم أثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم".
ويتلخّص من كلّ ما سبق؛ أن الإِيتار بأيّ نوع من هذه الأنواع المتقدّمة جائز حسن، وأنّ الإِيتار بثلاث بتشهدين كصلاة المغرب لم يأت فيه حديث

(2/126)


صحيح صريح، بل هو لا يخلو من كراهة، ولذلك نختار أن لا يقعد بين الشفع والوتر وإذا قعد سلّم، وهذا هو الأفضل لما تقدّم. والله الموفق لا ربّ سواه. انتهى.
وانظر -للمزيد إِن شئت- "زاد المعاد" (1/ 327) فصل في سياق صلاته بالليل ووتره وذِكر صلاة أوّل الليل.

ماذا يقرأ فيه؟
"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في الركعة الأولى {سبّح اسم ربّك الأعلى}، وفي الثانية: {قُل يا أيها الكافرون}، وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} " (1).
وكان يضيف إليها أحياناً: {قُلْ أعوذ بربِّ الفلَق} و {قل أعوُذ بربّ الناس} (2).
ومرّة: "قرأ في ركعة الوتر بمائة آية من: {النساء} " (3).
جاء في "صفة الصلاة" (ص 179): و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في ركعة الوتر" (4)، أحياناً.
قال شيخنا في التعليق: وإنما قلنا: "أحياناً"، لأنّ الصحابة الذين رووا الوتر لم يذكروا القنوت فيه، فلو كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله دائماً؛ لنقلوه جميعاً عنه،
__________
(1) أخرجه النسائي والحاكم وصححه.
(2) أخرجه الترمذي وأبو العباس الأصمّ في "حديثه" والحاكم وصححه الذهبي.
(3) أخرجه النسائي وأحمد بسند صحيح.
(4) أخرجه ابن نصر والدراقطني بسند صحيح.

(2/127)


نعم رواه عنه أبيُّ بن كعب وحده؛ فدلّ على أنَّه كان يفعله أحياناً، ففيه دليل على أنَّه غير واجب، وهو مذهب جمهور العلماء، ولهذا اعترف المحقّق ابن الهمام في "فتح القدير" (1/ 306 و359 و360) بأن القول بوجوبه ضعيف لا ينهض عليه دليل، وهذا من إِنصافه وعدم تعصُّبه، فإِنّ هذا الذي رجّحه هو على خلاف مذهبه! ".
ويجعله قبل الركوع (1).

دعاء القنوت:
"اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت؛ وقني شرّ ما قضيت، [فـ] إِنك تقضي ولا يُقضى عليك، [و] إِنَّه لا يَذِل من واليت، [ولا يَعِزُّ من عاديت]، تباركت ربنا وتعاليت، [لا منجا منك إلاَّ إليك] " (2).
ويشرع الصلاة على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في آخره لجريان عمل السلف بها، وثبوت ذلك عن الصحابة -رضي الله عنهم (3) -.

ما يقول في آخر الوتر:
جاء في قيام رمضان (ص 32) لشيخنا -حفظه الله تعالى-: "ومن السنة
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإرواء" (426).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وغيرهم، وهو حديث صحيح خرّجه شيخنا في "الإِرواء" (429).
(3) انظر "تمام المنّة" (ص 243)، و"تلخيص صفة الصلاة" (ص 29).

(2/128)


أن يقول في آخر وتره قبل السلام أو بعده: "اللهمّ إِنّي أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك" (1).
وإِذا سلم من الوتر قال: "سبحان الملِك القدّوس، سبحان المَلِك القدّوس، سبحان الملِك القدّوس، [ويمدّ بها صوته ويرفع في الثالثة] " (2).

لا وتران في ليلة
عن قيس بن طلق قال: "زارنا طلق بن عليّ في يوم من رمضان، وأمسى عندنا وأفطر، ثمَّ قام بنا تلك الليلة، وأوتر بنا، ثمَّ انحدر إِلى مسجده فصلّى بأصحابه، حتّى إِذا بقي الوتر، قدَّم رجلاً فقال: أوتِر بأصحابك، فإني سمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا وتران في ليلة" (3).

قضاء الوتر
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من نام عن وتره أو نسيه؛ فليصلّه إِذا ذَكره" (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1265)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2824)، والنسائي وابن ماجه وغيرهم، وانظر "الإرواء" (430).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1267)، والنسائي والزيادة له "صحيح سنن النسائي" (1606)، وانظر "المشكاة" (1275).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1276) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (391) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (981).
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1268) والترمذي "صحيح سنن =

(2/129)


فإِن لم يكن معذوراً فلا وتر له؛ كما في حديث أبي سعيد أيضاً أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أدرك الصبح ولم يوتر؛ فلا وتر له" (1).
وعن أبي نهيك "أنَّ أبا الدرداء كان يخطب الناس فيقول: لا وتر لمن أدركه الصبح، قال: فانطلق رجالٌ إِلى عائشة فأخبروها فقالت: كذب (2) أبو الدرداء؛ كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبح فيوتر" (3).
قال شيخنا -حفظه الله تعالى-: والظاهر أنَّ أبا الدرداء -رضي الله عنه- أراد بقوله "لا وتر لمن أدركه الصبح" من كان غير معذور وذكر بعض الآثار المؤيدة لذلك، ومنها ما رواه إبراهيم بن محمّد بن المنتشر عن أبيه أنَّه كان في مسجد عمرو بن شرحبيل، فأقيمت الصلاة، فجعلوا ينتظرونه، فجاء فقال: إِنّي كنت أوتر، قال: وسُئل عبد الله: هل بعد الأذان وتر؟ قال: نعم وبعد الإِقامة، وحدّث عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "أنّه نام عن الصلاة حتى طلعت الشمس ثمَّ صلّى" (4).
__________
= الترمذي" (386) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (976)، وانظر "الإِرواء" (2/ 153).
(1) أخرجه الحاكم وعنه البيهقي وابن حبان وابن خزيمة والبزار، وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وانظر "الإِرواء" (2/ 153) التحقيق الثاني.
(2) أي: أخطأ.
(3) أخرجه أحمد وابن نصر بإِسناد صحيح، وانظر "الإرواء" (2/ 155).
(4) أخرجه النسائي والبيهقي بسند صحيح، والشاهد منه تحديث ابن مسعود أنه - صلى الله عليه وآله وسلم- صلى بعد أنْ طلعت الشمس، فإِنّه إِنْ كان ما صلى صلاة الوتر فهو دليل واضح على أنه- صلى الله عليه وآله وسلم- إِنما أخّرها لعذر النوم، وإن كانت =

(2/130)


وعن الأغر المزني أنّ رجلاً أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "يا نبي الله! إِنّي أصبحتُ ولم أوتر، فقال: إِنّما الوتر بالليل" (1).
قال شيخنا -شفاه الله وعافاه الله- تحت الحديث السابق: "وهذا التوقيت للوتر، كالتوقيت للصلوات الخمس، إِنما هو لغير النائم وكذا الناسي، فإِنّه يصلّي الوتر إِذا لم يستيقظ له في الوقت، يُصلّيه متى استيقظ، ولو بعد الفجر، وعليه يحمل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للرجل في هذا لحديث: "فأوتر" بعد أن قال له: "إِنما الوتر بالليل".

الركعتان بعده
قال شيخنا -حفظه الله تعالى- في "قيام رمضان" (ص 33): "وله أن يصلي ركعتين، لثبوتهما عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِعْلاً (2)، بل إِنّه أمَر بهما أمّته فقال: "إِنّ هذا السفر جهد وثِقَل، فإِذا أوتر أحدكم، فليركع ركعتين، فإِن استيقظ وإِلا كانتا له" (3).
والسنّة أن يقرأ فيهما: " {إِذا زُلزلت الأرض} و {قل يا أيها
__________
= هي صلاة الصبح -كما هو ظاهر والمعروف عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة خيبر- فهو استدلال من ابن مسعود على جواز صلاة الوتر بعد وقتها؛ قياساً على صلاة الصبح بعد وقتها؛ بجامع الاشتراك في العلّة وهي النوم، والله أعلم".
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"، وانظر "الصحيحة" (1712).
(2) أخرجه مسلم: 738، وغيره.
(3) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" والدارمي وغيرهما، وهو في "الصحيحة" (1993)، وفيه فوائد هامّة.

(2/131)


الكافرون} " (1).

القنوت في الصلوات الخمس حين النوازل (2)
و"كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد؛ قنت (3) في الركعة الأخيرة بعد الركوع؛ إِذا قال: (سمع الله لمن حَمِده، اللهمّ ربّنا لك الحمد) " (4). و"كان يجهر بدعائه" (5)، و"يرفع يديه" (6)، و"يؤمِّن من خلفه" (7).
و"كان يقنت في الصلوات الخمس كلِّها" (8)؛ لكنّه "كان لا يقنت فيها إِلا إِذا دعا لقوم؛ أو دعا على قوم" (9)، فربّما قال: "اللهم أنْج الوليد بن الوليد، وسلمةَ بن هشام، وعيّاشَ بن أبي ربيعة، اللهم اشدُد وطأتك على مُضَر،
__________
(1) أخرجه أحمد وابن نصر والطحاوي وابن خزيمة وابن حبّان بسند حسن صحيح، وتقدم بعضه.
(2) عن "صفة الصلاة" (ص 178) بحذف.
(3) المراد هنا بالقنوت: الدعاء بعد الركوع من الركعة الأخيرة.
(4) أخرجه البخاري: 4560، وأحمد.
(5) أخرجه البخاري: 4560، وأحمد.
(6) أخرجه أحمد والطبراني بسند صحيح، وهذا مذهب أحمد وإسحاق أنّه يرفع يديه في القنوت؛ كما في "المسائل" للمروزي (ص 23).
(7) أخرجه أبو داود والسراج، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وغيره.
(8) أخرجه أبو داود والسراج والدارقطني بسندين حسَنين.
(9) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه"، والخطيب في "كتاب القنوت" بسند صحيح، وانظر "الصحيحة" (639).

(2/132)


واجعلها سنين كَسِني يوسف، [اللهم العن لِحيان ورِعلاً وذَكوان وعُصَيَّة عصت الله ورسوله] " (1).
ثمَّ "كان يقول -إِذا فرغ من القنوت-: "الله أكبر"، فيسجد" (2).

القنوت في صلاة الفجر
لا يشرع تخصيص القنوت في صلاة الفجر البتّة، إلاَّ في النوازل، فيشرع القنوت فيه.
فعن أبي مالك الأشجعي قال: قلت لأبي: يا أبت إِنّك صلّيت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هاهنا بالكوفة نحو خمس سنين، أكانوا يقنتون في الفجر؟ قال: "أي بنيّ مُحدَث" (3).
فهذا الصحابي -رضي الله عنه- بيّن أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- لم يقنتوا في الفجر، وقد وصّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يودّع أمّته بالتمسُّك بسنّته وسنّة الخلفاء الراشدين، وذلك عند الاختلاف الكثير.
فعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعَظنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظة بليغة وجِلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنّها موعظة مودع فأوصِنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ تأمّر عليكم عبد [حبشي] وإنه من يعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً،
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري: 4560 والزيادة لمسلم: 675
(2) أخرجه النسائي وأحمد والسراج، وأبو يعلى في "مسنده" بسند جيد.
(3) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1026) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (435).

(2/133)


فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ وإِياكم ومُحدثات الأمور، فإِنَّ كلّ بدعة ضلالة" (1).
ولم يقتصر الأمر على التمسك بسنّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسنّة الخلفاء الراشدين، وهي واحدة، ولا ريب، لأنهم يعملون بها، لذلك قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "عَضّوا عليها" ولم يقل عضوا عليهما أقول: ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إِنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نهى عن البدعة فقال: "وإِياكم ومحدَثات الأمور فإِنّ كل بدعة ضلالة".
وها هو هذا الصحابي الجليل -رضي الله عنه- يُبيّن أنها بدعة. فهل من مُدّكر!
وعن سعيد بن جبير أنّه قال: "إِنّ القنوت في صلاة الفجر بدعة" (2).
وأمّا ما رواه محمّد بن سيرين أنّه "سئل أنس بن مالك: أقنَت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصبح؟ قال: نعم، فقيل: أوقنَت قبل الركوع [أو بعد الركوع]؟ قال: بعد الركوع يسيراً" (3).
فهذا هو قنوت النوازل الذي لا يخصّ به صلاة دون صلاة، ويكون بعد الركوع، وكان لا يفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ إِذا دعا على أحد أو دعا لأحد.
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3851) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2157) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (40) وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (34)، و"كتاب السنّة" لابن أبي عاصم: (ص 54) بتحقيق شيخنا -حفظه الله تعالى-.
(2) قال شيخنا في "الإِرواء" (436) التحقيق الثاني -بعد تضعيف نسبته إِلى ابن عباس رضي الله عنهما-: "والصحيح أنّه من قول سعيد بن جبير".
(3) أخرجه البخاري: 1001، ومسلم: 677، وغيرهما.

(2/134)


فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعوَ لأحد؛ قنَتَ بعد الركوع ... " (1).
ومن ذلك ما رواه مسلم في "صحيحه" (679) (2) من حديث خُفاف بن إِيماء قال: "ركَع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمَّ رفع رأسه فقال: غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله وعصيَّةُ عصَتِ الله ورسولَه اللهم العن بني لِحيان والعن رِعلاً وذَكوان".
لذلك لمّا جاء عاصم وسأل أنسَ بن مالك عن القنوت، فقال: "قد كان القنوت قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله، قال: فإِنّ فلاناً أخبرني عنك أنّك قلت: بعد الركوع! فقال: كذَب؛ إِنّما قنَت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الركوع شهراً، أُراه كان بعَث قوماً يُقال لهم القُرّاء زُهاء (3) سبعين رجلاً إِلى قومٍ من المشركين دون أولئك، وكان بينهم وبين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عهد فقنَتَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً يدعو عليهم" (4).
فقد نفى أنس بن مالك أن يكون القنوت بعد الركوع، فهذا يُفهِم أنَّ قنوت الوتر يُفعل قبل الركوع، أمّا بعد الركوع فإِنّما هو قنوت النازلة، حين الدعاء على أحد.
__________
(1) أخرجه البخاري: 4560
(2) ونحوه في البخاري: 1006، وتقدّم نحوه في (القنوت للصلوات الخمس للنازلة).
(3) أي: ما يقرب من سبعين رجلاً.
(4) أخرجه البخاري: 1002

(2/135)


وأمّا حديث: "ما زال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا" فإِنّه منكر فيه: أبو جعفر الرازي واسمه عيسى بن ماهان مُتكلَّم فيه.
قال ابن التركماني: ... قال ابن حنبل والنسائي: ليس بالقوي، وقال أبو زرعة: يَهِمُ كثيراً، وقال الفلاس: سيئ الحفظ وقال ابن حبان يحدث بالمناكير عن المشاهير ... وانظر التفصيل في "الضعيفة" (1238).
قال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (1/ 271) -بحذف-: "ومن المحال أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في كلّ غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: "اللهمّ اهدني فيمن هديت، وتولّني فيمن توليت ... ". إِلخ ويرفع بذلك صوته، ويؤمّن عليه أصحابه دائماً إِلى أن فارق الدنيا، ثمَّ لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة، بل يضيّعه أكثر أمّته وجمهور أصحابه، بل كلّهم؛ حتى يقول من يقول منهم: إِنّه محدَث! ".
وقال (ص 276) تعليقاً على الحديث السابق بعد بيان عدم صحته: " ... ولو صحّ لم يكن فيه دليل على هذا القنوت المُعيّن البتة، فإِنّ القنوت يطلق على القيام والسكوت ودوام العبادة والدعاء والتسبيح والخشوع، كما قال تعالى: {وله مَن في السموات والأرضِ كلٌّ له قانتون} (1) {وكانت من القانتين} (2).
وقال زيد بن أرقم: "لمّا نزل قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (3) أُمِرنا
__________
(1) الروم: 26
(2) التحريم: 12
(3) البقرة: 238

(2/136)


بالسكوت ونُهينا عن الكلام" (1).
فمِن أين لكم أنّ أنَسَاً إِنّما أراد هذا الدعاء المعيَّن دون سائر أقسام القنوت؟ ".
وقال (ص283): ولمّا صار القنوت في لسان الفقهاء وأكثرِ الناس، هو هذا الدعاء المعروف: "اللهمّ اهدني فيمن هديت ... " إِلخ، وسمعوا أنّه لم يزل يقنت في الفجر حتى فارَق الدنيا وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة؛ حمَلوا القنوت في لفظ الصحابة على القنوت في اصطلاحهم.
ونشأ من لا يعرف غير ذلك، فلم يشكّ أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا مداومين عليه كلّ غداة! وهذا هو الذي نازعهم فيه جمهور العلماء وقالوا لم يكن هذا من فِعله الراتب، بل ولا يثبت عنه أنّه فعَله. انتهى.
وبعد هذا نسأل: لماذا خصّصوا الفجر بالقنوت؟
فإِنْ قالوا قد صحّ في ذلك نصوص:
قلنا: صحّ فيه -كما تقدّم- من غير تخصيص، ولكن في جميع الصلوات في النوازل.
فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان القنوت في المغرب والفجر" (2). فلماذا لا تخصّصونه في المغرب!
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينما يصلّي العشاء إِذ
__________
(1) أخرجه البخاري: 4534، ومسلم: 539
(2) أخرجه البخاري: 1004

(2/137)


قال: "سمع الله لمن حمده" ثمَّ قال: قبل أن يسجد: اللهمّ نجّ عيّاش بن أبي ربيعة ... " (1).
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنّه سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- يقول: "والله لأُقَرِّبنّ بكم صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أبو هريرة يقنت في الظهر والعشاء الآخره وصلاة الصبح، ويدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين" (2).
وجاءت بعض النصوص من غير تسمية صلاة كما في حديث أنس قال: "قنت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شهراً يدعو على رِعل وذَكوان" (3).
لذلك أقول: لا أعلم نصّاً ورَد بتسمية صلاة العصر في القنوت، ولكنه يدخل في العموم كما لا يخفى، وقد وردَ تسمية الفجر، فلا يعني التخصيص. وبالله التوفيق.
__________
(1) أخرجه مسلم: 675
(2) أخرجه مسلم: 676
(3) أخرجه البخاري: 1003، ومسلم: 677، وتقدّم.

(2/138)


قيام الليل
ما وردَ في الترغيب فيه:
قيام الليل سُنّة مستحبّة، وقد ورد في الترغيب فيه العديد من النصوص من ذلك:
1 - قوله سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (1).
2 - وقوله سبحانه: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (2).
3 - وقوله سبحانه في وصْف المؤمنين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3).
4 - وحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يعقِد الشيطان على قافية رأس أحدكم إِذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب على كلّ
__________
(1) الذاريات: 15 - 19
(2) الفرقان: 63 - 66
(3) السجدة: 16 - 17

(2/139)


عُقدة؛ عليك ليلٌ طويل فارقد! فإِنِ استيقظ فذكَر الله تعالى انحلَّت عُقدة، فإِنْ توضّأ انحلّت عقدة، فإِنْ صلّى انحلّت عُقَدُه كلّها، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس، وإِلاَّ صبح خبيث النفس كسلان" (1).
5 - وحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "في الجنّة غرفةٌ يُرى ظاهرها من باطِنها، وباطِنُها من ظاهرها، فقال أبو مالك الأشعري: لمن هي يا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطعَم الطعام، وبات قائماً والناس نيام" (2).
6 - وحديث جابر -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِنَّ في الليل لساعة؛ لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة؛ إلاَّ أعطاه إِيّاه، وذلك كلَّ ليلة" (3).
7 - وحديث أبي الدرداء عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ثلاثةٌ يحبّهم الله، ويضحك إِليهم، ويستبشر بهم: الذي إِذا انكشفت فئةٌ قاتل وراءها بنفسه لله عزّ وجلّ، فإِمّا أن يُقتل، وإمّا أنْ ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إِلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟
والذي له امرأة حسنة وفراش ليِّن حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يَذَرُ شهوته ويذكُرني، ولو شاء رقد.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1142، ومسلم: 776
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" بإِسناد حسن والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (611).
(3) أخرجه مسلم: 757

(2/140)


والذي إِذا كان في سفر، وكان معه ركْب، فسهروا، ثمَّ هجعوا، فقام من السَّحر في ضرّاء وسرّاء" (1).

أجْر من نوى قيام الليل وغَلَبته عينُه حتى أصبح
عن أبي الدرداء أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم يصلّي من الليل؛ فغلبته عينُه حتى أصبح؛ كُتب له ما نوى، وكان نومه صدقة عليه من ربّه" (2).

الوصاة بإِيقاظ الأهل لقيام الليل
1 - عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رحم الله رجلاً قام من الليل فصلّى وأيقظ امرأته، فإِنْ أَبَت نضَح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلّت وأيقظت زوجها، فإِنْ أبى نضحت في وجهه الماء" (3).
2 - وعن أبي هريرة وأبي سعيد -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فصلّيا أو صلّيا ركعتين جميعاً؛ كُتبا
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الكبير" بإِسناد حسن وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (623).
(2) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (1686)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1172) وغيرهما، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (19)، و"الإرواء" (454).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1287) والنسائي "صحيح سنن النسائي" (1519) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1099) وابن خزيمة "صحيح ابن خزيمة" (1148)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (619).

(2/141)


في الذاكرين والذاكرات" (1).
3 - وعن أمّ سلمة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "استيقظ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة فَزِعاً يقول: سبحانه! ماذا أنزَلَ الله من الخزائن؟ وماذا أُنزِل من الفِتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يريد أزواجه- لكي يصلّين؟ رُبّ كاسية في الدنيا عاريةٍ في الآخرة" (2).

الرقود وترْك الصلاة إِذا غلبه النعاس
أن يترك الصلاة ويرقد إِذا غلبه النعاس حتى يذهب عنه النوم لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إِذا قام أحدكم من الليل، فاستعجم (3) القرآن على لسانه، فلم يدرِ ما يقول؛ فليضطجع" (4).
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "دخَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسجد وحبلٌ ممدود بين ساريتين فقال: "ما هذا؟ " قالوا: لزينب تُصلّى، فإِذا كسِلَت أو فترَت أمسكت به، فقال: "حُلُّوه ليصلِّ أحدكم نشاطه، فإِذا كَسِل أو فتر قعد" وفي حديث زهير "فليقعد" (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1288)، والنسائي، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1098)، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (620).
(2) أخرجه البخاري: 7069
(3) استعجم: أي استُغلق عليه فلم يقدر أن يقرأ؛ كأنّه صار به عُجْمة. "النهاية" -بتصرف-.
(4) أخرجه مسلم: 787 وغيره.
(5) أخرجه البخاري: 1150، ومسلم: 784

(2/142)


عدم المشقة على النفس في القيام والمواظبة عليه
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دخَل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي امرأة فقال: من هذه؟ فقلت: امرأة لا تنام، تصلّي، قال: عليكم من العمل ما تطيقون، فوالله لا يملّ الله حتى تملّوا" وكان أحبَّ الدِّين إِليه ما داومَ عليه صاحبه" (1).
وفي رواية عنها -رضي الله عنها- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئل: "أيُّ العمل أحبُّ إِلى الله؟ قال: أدومُه وإنْ قلّ" (2).
وعن علقمة قال: "قلت لعائشة -رضي الله عنها-: هل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يختصّ من الأيام شيئاً؟ قالت: لا، كان عمله ديمة (3)، وأيكم يُطيق ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُطيق؟ " (4).
وعن عائشة: "كان آل محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا عملوا عملاً أثبتوه" (5).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عبد الله! لا تكن مِثل فلان؛ كان يقوم من الليل فترك قيام
__________
(1) أخرجه البخاري: 1970، ومسلم: 785 وهذا لفظه.
(2) أخرجه مسلم: 782
(3) أي: دائماً، قال أهل اللغة: الديمة مطر يدوم أياماً، ثمَّ أُطلقت على كل شيء يستمرّ.
(4) أخرجه البخاري: 1987، ومسلم: 783
(5) أي: لازموا فِعله وداوموا عليه ولم يتركوه.

(2/143)


الليل" (1).
وعن حفصة عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل، قال سالم: فكان عبد الله بعد ذلك لا ينام من الليل إلاَّ قليلاً" (2).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: "ذُكر عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقيل: ما زال نائماً حتى أصبح؛ ما قام إِلى الصلاة، فقال: بال الشيطان في أُذنه" (3).

وقته:
يبدأ قيام الليل من بعد صلاة العشاء ويستمرّ حتى الفجر.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفطر من الشهر حتى نظنُّ ألاّ يصوم منه، ويصوم حتى نظنّ أن لا يُفطر منه شيئاً، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مُصلّياً (4) إلاَّ رأيته ولا نائماً إلاَّ رأيته" (5).
وعن الأسود قال: سألتُ عائشة -رضي الله عنها-: "كيف صلاة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالليل؟ قالت: كان ينام أوّله، ويقوم آخره، فيصلّي ثمَّ يرجع إِلى فراشه، فإِذا أذّن المؤذّن وثب، فإِن كانت به حاجة اغتسل وإلاَّ توضّأ " (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1152، ومسلم: 1159
(2) أخرجه البخاري: 1157، ومسلم: 2479، وهذا لفظه.
(3) أخرجه البخاري: 1144، 3270، ومسلم: 774
(4) أي: يقوم بحسب ما تيسّر له ذلك.
(5) أخرجه أحمد والبخاري: 1141
(6) أخرجه البخاري: 1146

(2/144)


أفضل أوقاته
يفضل تأخير صلاة الليل إلى ثلث الليل أو نصفه، ومن الأدلة على ذلك:
1 - حديت أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ينزل ربُّنا (1) تبارك وتعالى كلّ ليلة إلى السماء الدنيا؛ حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعونْي فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه، من يستغفرني فأغفرَ له" (2).
2 - وعنه -رضي الله عنه- أيضاً عن النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لولا أن أشقّ على أمّتي لأمرْتهم بالسواك مع الوضوء، ولأخّرت العشاء إِلى ثلث الليل أو نصف الليل، فإِذا مضى ثلث الليل أو نصف الليل؛ نزل إلى السماء الدنيا جلّ وعزّ فقال: فذكر الجمل الثلاث وزاد (3) هل من تائب فأتوب عليه (4).
3 - عن عبد الله بن عمرو قال: "قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أحَبُّ الصيام إِلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، وأحبُّ الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه" (5).
__________
(1) نزولاً حقيقياً يليق بجلاله سبحانه؛ من غير تكييف ولا تمثيل ولا تأويل ولا تعطيل، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وانظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- كتاب "شرح حديث النزول" لشيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.
(2) أخرجه البخاري: 1145، ومسلم: 758
(3) من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له.
(4) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط الشيخين، "الإرواء" (2/ 197).
(5) أخرجه البخاري: 3420، ومسلم: 1159، قال عليّ: وهو قول عائشة: =

(2/145)


4 - عن عمرو بن عبسة -رضي الله عنه- أنَّه سمع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "أقرب ما يكون الربّ من العبد في جوف الليل الآخر، فإِنِ استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن" (1).

عدد ركعاته:
عدد ركعاته إِحدى عشرة ركعة كما في حديث عائشة الآتي -إِن شاء الله- في صلاة التراويح "ما كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزيد في رمضان ولا في غيره على إِحدى عشرة ركعة ... ".

تتحقق صلاة الليل ولو بركعة
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ذَكَرتُ قيام الليل فقال بعضهم إِنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "نصفه، ثلثه، ربعه، فُواق (2) حلب ناقة، فواق حلب شاة" (3).
__________
= "ما ألفاه السحَر عندي إلاَّ نائماً".
قال الحافظ (6/ 455): "ولم أره منسوباً [أي: اسم عليّ] وأظّنه علي بن المديني شيخ البخاري، وأراد بذلك بيان المراد بقوله: "وينام سدسه" أي: السدس الأخير، وكأنَّه قال: يوافق ذلك حديث عائشة: "ما ألفاه -بالفاء- أي وجده -والضمير للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والسَّحر الفاعل، أي لم يجىء السَّحَر والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاَّ وجده نائماً".
(1) أخرجه الترمذي واللفظ له، وابن خزيمة في "صحيحه" وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (622).
(2) الفُواق: ما بين الحَلْبتين من الراحه وتُضَمّ فاؤه وتُفتَح "النهاية".
(3) أخرجه أبو يعلى ورجاله محتجّ بهم في الصحيح، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (621).

(2/146)


من فاته قيام الليل
عن عائشة -رضي الله عنها- "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إِذا فاتته الصلاة من الليل من وَجَعِ أو غيره، صلّى من النّهار ثنتي عشرة ركعة" (1).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا عَمِل عملاً أثبته، وكان إِذا نام من الليل أو مَرض؛ صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة قالت: وما رأيتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام ليلةً حتى الصباح، وما صام شهراً متتابعاً إلاَّ رمضان" (2).

ما يستحبّ أثناء القراءة:
يُستحبّ لكل من قرأ في صلاة الليل إِذا مرَّ بآية رحمة؛ أن يسأل الله سبحانه من فضله، وإِذا مرَّ بآية عذاب أن يتعوّذ بالله من النار، وإذا مرَّ بآيةٍ فيها تسبيح سبّح، وإذا مَرَّ بسؤالٍ سأل.
لما رواه مسلم (772) عن حذيفة قال: "صليت مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة، فافتتح البقرة فقلت: يركع عند المائة، ثمَّ مضى، فقلت: يُصلّي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها، ثمَّ افتتح النّساء فقرأها، ثمَّ افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسِّلاً (3)، إِذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبَّح، وإذا مرَّ بسؤالٍ سأل، وإِذا مرَّ بتعوّذ تعوّذ، ثمَّ ركع فجعل يقول: سبحان ربِّيَ العظيم، فكان ركوعه نحواً
__________
(1) أخرجه مسلم: 746، وغيره.
(2) أخرجه مسلم: 746
(3) أي: متمهلاً متأنياً.

(2/147)


من قيامه، ثمَّ قال: سمع الله لمن حمده، ثمَّ قام طويلاً، قريباً ممّا ركع، ثمَّ سجد فقال: سبحان ربِّيَ الأعلى، فكان سجوده قريباً من قيامه".
قال شيخنا -حفظه الله- في الردّ على من يقول في استحباب ذلك في صلاة الفرض: "هذا إِنما ورد في صلاة الليل كما في حديث حذيفة ... ، فمقتضى الاتباع الصحيح الوقوف عند الوارد وعدم التوسع فيه بالقياس والرأي، فإِنّه لو كان ذلك مشروعاً في الفرائض أيضاً لفَعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو فعَله لنُقِل، بل لكان نقْله أولى من نقل ذلك في النوافل كما لا يخفى".

(2/148)