الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

صلاة السفر
وجوب القصر في السفر:
قال الله تعالى: {وإِذا ضرَبْتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصُروا من الصلاة إنْ خفتُم أن يفتنَكم الذين كفروا} (1).
ولولا ورود ما يأتي من النصوص لقال العلماء بتقييد القصر بالخوف.
فعن ابن سيرين عن ابن عبّاس: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سافر من المدينة لا يخاف إلاَّ الله عزّ وجلّ، فصلّى ركعتين حتى رجع" (2).
وعن يعلى بن أميّة قال: "قلت لعمر بن الخطاب: {ليس عليكم جناح أن تقصُروا من الصلاة إِنْ خفتم أن يفتنَكم الذين كفروا} فقد أمِنَ النّاس! فقال: عجبتُ ممّا عجبتَ منه. فسألتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: "صدقةٌ تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" (3).
وعن عائشة زوج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: "فرض الله الصلاة، حين فرضها ركعتين ثمَّ أتمّها في الحضر، فأُقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى" (4).
__________
(1) النساء: 101
(2) أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (3/ 6).
(3) أخرجه مسلم: 686، وهذا قد أفاد الوجوب عند أبي حنيفة وكثيرين، ويرى الشافعي ومالك أفضلية القصر وجواز الإِتمام وانظر "شرح النووي" (5/ 694).
(4) أخرجه البخاري: 3935، ومسلم: 685

(2/328)


وعنها -رضي الله عنها- قالت: "أولُ ما فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فلمّا قدم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة صلى إِلى كلِّ صلاةٍ مثلها غير المغرب؛ فإِنّها وتر النهار، وصلاة الصبح لطول قراءتها، وكان إِذا سافر عادَ إِلى صلاته الأولى" (1).
وعن عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه قال: "صحبْتُ ابن عمر في طريق مكّة، قال: فصلّى لنا الظهر ركعتين، ثمَّ أقبل وأقبَلنا معه حتّى جاء رحله (2)، وجلَس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحوَ حيث صلّى فرأى ناساً قياماً. فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يُسبّحون (3) قال: لو كنت مُسبّحاً لأتممتُ صلاتي، يا ابن أخي! إِنّي صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر، فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبتُ أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثمَّ صحبتُ عثمان (4) فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله وقد قال الله: {لقد كان لكم في رسول الله أُسوةٌ حسَنة} (5) " (6).
__________
(1) أخرجه الطحاوي في "معاني الآثار" وغيره وانظر تفصيله في "الصحيحة": (2814).
(2) أي: منزله.
(3) أي: يصلّون السبحة، وهي النافلة.
(4) قال الحافظ: و"في ذِكر عثمان إِشكال؛ لأنّه كان في آخر أمرهُ يتمّ الصلاة ... فيُحمل على الغالب أو المراد به أنّه كان لا يتنفل في أول أمره ولا في آخره، وأنَّه إِنّما كان يتم إِذا كان نازلاً، وأمَّا إِذا كان سائراً فيقصر، فلذلك قيده في هذه الرواية بالسفر".
(5) الأحزاب: 21
(6) أخرجه البخاري: 1101 و1102، ومسلم: 689 وهذا لفظه.

(2/329)


قال شيخنا -حفظه الله- بعد أن ذكَر عدداً من الأحاديث في الموضوع: " ... دلّت الأحاديث المتقدّمة على أنَّ صلاة السفر أصلٌ بنفسها وأنّها ليست مقصورة من الرباعية كما يقول بعضهم، فهي في ذلك كصلاة العيدين ونحوها؛ كما قال عمر -رضي الله عنه-: "صلاة السفر وصلاة الفطر وصلاة الأضحى؛ وصلاة الجمعة؛ ركعتان تمامٌ غير قصر على لسان نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1)
وذلك هو الذي رجّحه الحافظ في "فتح الباري" بعد أن حكى الاختلاف في حكم القصر في السفر، ودليل كلٍّ فقال (1/ 464): "والذي يظهر لي -وبه تجتمع الأدلّة السابقة- أنَّ الصلوات فُرضت ليلة الإِسراء ركعتين ركعتين إلاَّ المغرب، ثمَّ زيدت بعد الهجرة عقب الهجرة إلاَّ الصبح، ... ثمَّ بعد أن استقر فرْض الرباعية؛ خفف منها في السفر عند نزول الآية السابقة وهي قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصُروا من الصلاة}، ويؤيد ذلك ما ذكره ابن الأثير في "شرح المسند": أنّ قصر الصلاة كان في السَّنَة الرابعة من الهجرة ... ".

مسافة القصر
لقد كثُرت أقوال العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة والراجح "أنّه لا حدّ لذلك أصلاً، إلاَّ ما سُمّي سفراً في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام، إِذ لو كان لمقدار السفر حدّ غير ما ذكَرنا لما أغفل عليه السلام بيانه البته، ولا أغفلوا هم سؤاله عليه السلام عنه، ولا اتفقوا على
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما"، وهو مخرّج في "الإِرواء" (638).

(2/330)


تَرْك نقْل تحديده في ذلك إِلينا" (1).
قال شيخ الإِسلام في "الفتاوى" (24/ 12): "وقد تنازع العلماء: هل يختص بسفر دون سفر؟ أم يجوز في كلّ سفر؟ وأظهر القولين أنّه يجوز في كل سفر قصيراً كان أو طويلاً، كما قصر أهل مكة خلف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو بريد: أربع فراسخ.
وأيضاً فليس الكتاب والسنّة يخصّان بسفر دون سفر، لا بقصر ولا بفطر، ولا تيمُّم، ولم يحدّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسافة القصر بحدّ، لا زمانيّ، ولا مكانيّ، والأقوال المذكورة في ذلك متعارضة، ليس على شيء منها حجّة، وهي متناقضة، ولا يمكن أن يَحُدّ ذلك بحد صحيح.
فإِنَّ الأرض لا تُذرَع بذَرع مضبوط في عامّة الأسفار، وحركة المسافر تختلف، والواجب أن يُطلَق ما أطلقه صاحب الشرع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويُقَيّد ما قيَّده، فيقصُر المسافر الصلاة في كل سفر، وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالسفر، من القصر والصلاة على الراحلة، والمسح على الخفّين.
ومن قسَّم الأسفار إِلى قصير وطويل، وخصّ بعض الأحكام بهذا وبعضها بهذا، وجعلها متعلقة بالسفر الطويل، فليس معه حُجّة يجب الرجوع إِليها، والله سبحانه وتعالى أعلم".
ونقل شيخنا -حفظه الله- كلاماً طيّباً له من "مجموعة الرسائل والمسائل" بعد أن بيّن وضْع حال الحديث (439) من "السلسة الضعيفة" وأنّه موضوع ولفظه: "يا أهل مكّة! لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة بُرُد
__________
(1) "المحلى" (5/ 21)، وذكره الشيخ عبد العظيم في "الوجيز" (ص 138).

(2/331)


من مكة إِلى عُسفان" وفيه: "وممّا يدل على وضع هذا الحديث، وخطأ نسبته إِليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ما قاله شيخ الإِسلام ابن تيمية في رسالته في أحكام السفر (2/ 6 - 7 من مجموعة الرسائل والمسائل): "هذا الحديث إِنّما هو من قول ابن عباس، ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعاً إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باطلة بلا شك عند أئمّة الحديث، وكيف يخاطِب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل مكة بالتحديد، وإِنّما قام بعد الهجرة زمناً يسيراً وهو بالمدينة، لا يحدّ لأهلها حدّاً كما حدّه لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين؟!
وأيضاً، فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إِلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلاَّ خاصة الناس، ومَن ذكره؛ فإِنّما يخبر به عن غيره تقليداً، وليس هو ممّا يقطع به، والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقدِّر الأرض بمساحة أصلاً، فكيف يُقدّر الشارع لأمّته حدّاً لم يجْرِ به له ذِكْر في كلامه، وهو مبعوث إلى جميع الناس؟!
فلا بد أن يكون مقدار السفر معلوماً علماً عاماً".
ومن ذلك أيضاً أنَّه ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء الحديث؛ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حَجّة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة، ومزدلفة، وفي أيام منى، وكذلك أبو بكر وعمر بعده، وكان يصلّي خلفهم أهل مكة، ولم يأمروهم بإِتمام الصلاة، فدلّ هذا على أن ذلك سفر، وبين مكة وعرفة بريد، وهو نصف يوم بسير الإِبل والأقدام.
والحق أنَّ السفر ليس له حدٌّ في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إِلى العُرف، فما كان سفراً في عُرف الناس؛ فهو السفر الذي علّق به الشارع

(2/332)


الحكم.
وتحقيق هذا البحث الهامّ تجده في رسالة ابن تيمية المشار إِليها آنفاً، فراجِعها، فإِنَّ فيها فوائد هامّة لا تجدها عند غيره". انتهى.
جاء في "الدراري المضية" (1/ 204) (1) -بحذف-: وإيجاب القصر على من خرج من بلده قاصداً للسفر وإن كان دون بريد (2) وجْهُه أن الله تعالى
__________
(1) انظر "الروضة" (1/ 376).
(2) البريد = 4 فراسخ، الفرسخ = 3 أميال، الميل = 4000 ذراع مرسلة، الذراع المرسلة = 6 قبضات، القبضة = 24 أصبعاً، الأصبع = 1.925 سم، إِذاً طول الذراع المرسلة = 24×1.925 = 46.2 سم، الميل = 4000×46.2 = 1848 م = 1.848 كم. الفرسخ = 3×1848 = 5544 م = 5.544 كم. البريد = 4×5544 = 22176 م = 22.176 كم. من كتاب "الأموال في دولة الخلافة" لعبد القديم زلوم (ص 60) وذكره الشيخ محمد صبحي حسن حلاّق في التعليق على "الروضة".
قلت: وذَكر ما جاء عن مقدار البريد والفرسخ والميل وقد ذكره ابن الأثير في "النهاية" وفيه: "والبريد كلمة فارسية يُراد بها في الأصل: البغل، وأصلها بريده دم، أي: محذوف الذنب، لأًنَّ بغال البريد كانت محذوفة الأذناب كالعلامة لها، فأُعربت وخُفّفت، ثمَّ سمّى الرسول الذي يركبه بريدا، والمسافة التي بين السِّكَّتين بريداً، والسكة موضع كان يسكنه الفُيوج المرتّبُون من بيت أو قبّة أو رِباط، وكان يُرتب في كل سكة بغال، وبعد ما بين السكتين فرسخان وقيل: أربعة".
جاء في "الفتح" (2/ 567): ذكر الفراء أن الفرسخ فارسي معرب، وهو ثلاثة أميال، والميل من الأرض منتهى مد البصر يميل عنه على وجه الأرض حتى يفنى إِدراكه، وبذلك جزم الجوهري. وقيل حدّه أن ينظر إِلى الشخص في أرض مسطّحة، فلا يدرى أهو رجل أم امرأة أو هو ذاهب أو آت، قال النووي: الميل: ستة آلاف ذراع والذراع: أربعة وعشرون =

(2/333)


قال: {وإِذا ضربْتُم في الأرض فليس عليكم جُناحٌ أن تقصُروا من الصلاة} (1)، والضرب في الأرض يصدق على كل ضرْب، لكنه خرج الضرب - أي: المشي لغير السفر- لِما كان يقع من - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الخروج إِلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر، ولم يأتِ في تعيين قدْر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إِلى ما يسمى سَفَراً لغة وشرعاً، ومن خرج من بلده قاصداً إِلى محلّ يعد في مسيره إِليه مسافراً قصر الصلاة، وإنْ كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاثة وما زاد على ذلك بحجة نيّرة. وغاية ما جاءوا به حديث: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم"، وفي رواية: "يوماً وليلة" (2). وليس في هذا الحديث ذِكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين.
وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي قال: "سألت أنساً عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين" والشك من شعبة، أخرجه مسلم (3)
__________
= إِصبعاً معترضة معتدلة والإِصبع؛ ست شعيرات معترضة معتدلة اهـ. وهذا الذي قاله هو الأشهر، ومنهم من عبر عن ذلك باثنى عشر ألف قدم بقدم الإِنسان، وقيل: هو أربعة آلاف ذراع، وقيل: بل ثلاثة آلاف ذراع نقله صاحب البيان، وقيل: وخمسمائة صححه ابن عبد البر، وقيل: هو ألفا ذراع.
(1) النساء: 101
(2) أخرجه البخاري: 1088
(3) برقم: 691

(2/334)


وغيره.
فإِنْ قلت: محلّ الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون مَحرَم هو كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمّى ذلك سفراً، قلت: تسميته سفراً لا تنافي تسمية ما دونه سفراً ... ".
وفي "الروضة" (1/ 378) -بحذف-: "أقول: مسألة أقلّ السفر قد اضطربت فيها الأقوال، وطال فيها النزاع، وتشعّبت فيها المذاهب، وليس في ذلك شيء يستند إِليه، إلاَّ مجرد قول الرواة قصر رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في كذا من دون بيانٍ لمقدار يرجع إِليه، وأصرح ما في ذلك ما قاله بعض الرواة: أنَّه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كان يقصر إِذا سافر ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ هكذا على الشك، مع أنّه لم يُبيِّن مقدار المسافة التي هي انتهاء سَفَره، وغاية ما وقع التعويل عليه أحاديث: "لا يحل لامرأة" كما تقدّمت، والمعمول عليه هاهنا رواية البريد، لأنَّ ما فوقها يعتبر فيه ذلك بفحوى الخطاب.
لكن لا ملازمة بين اعتبار المحرم للمرأة وبين وجوب القصر على غيرها من المسافرين؛ لأنَّ علّة مشروعية المحرم غير علّة مشروعية القصر، فلم يبق في المسألة ما يصلح للاستناد إِليه، فوجب الرجوع إِلى ما يصدق عليه مسمّى الضرب في الأرض على وجهٍ يُخالف ما يفعله المقيم من ذلك.
فالحاصل: أنَّ الواجب الرجوع إِلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة أو عرفاً لأهل الشرع، فما كان ضرباً في الأرض يصدق عليه أنَّه سفر وجب فيه القصر".

(2/335)


وجاء في "الإِرواء" (3/ 15): "فالعمدة على حديث أنس (1)، وقد قال الحافظ في "الفتح" (2/ 567): "وهو أصح حديث ورَد في بيان ذلك وأصرحه، وقد حمَله من خالفه على أنَّ المراد به المسافة التي يُبتَدأ منها القصر، لا غاية السفر، ولا يخفى بُعد هذا الحمل مع أنَّ البيهقي (قلت: وكذا أحمد) ذكر في روايته من هذا الوجه أنَّ يحيى بن يزيد راويه عن أنس قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة، وكنت أخرج إِلى الكوفة -يعني من البصرة- فأصلّي ركعتين حتى أرجع، فقال أنس: فذكَر الحديث.
فظهر أنّه سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضع الذي يُبتَدأ القصر منه. ثمَّ إِنَّ الصحيح في ذلك أنّه لا يتقيد بمسافة، بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها. وردّه القرطبي بأنّه مشكوك فيه فلا يحتجّ به، فإِن كان المراد به أنّه لا يحتجّ به في التحديد بثلاثة أميال فمسلّم، لكن لا يمتنع أن يحتج به في التحديد بثلاثة فراسخ، فإِنّ الثلاثة أميال مندرجة فيه، فيؤخذ بالأكثر احتياطاً. وقد روى ابن أبي شيبة عن حاتم بن إِسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال: قلت لسعيد ابن المسيب: أَقصرُ الصلاة وأُفطِر في بريد من المدينة؟ قال: نعم.
قلت: وقد صحّ عن ابن عمر -رضي الله عنه- جواز القصر في ثلاثة أميال، كما سيأتي بعد حديثين، وهي فرسخ، فالأخذ بحديث أنس أولى من حديث ابن عباس لصحته، ورَفعه وعمل بعض الصحابة به، والله أعلم.
__________
(1) وهو في "صحيح مسلم" (691) بلفظ: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ (شعبة الشاك) صلّى ركعتين"، [وتقدّم].

(2/336)


على أنَّ قصره في المدة المذكورة لا ينفي جواز القصر في أقل منها؛ إِذا كانت في مسمّى السفر، ولذلك قال ابن القيّم في "الزاد": "ولم يحدّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمُّم في كلّ سفر. وأمّا ما يُروى من التحديد باليوم واليومين أو الثلاثة فلم يصح عنه منها شيء البتة، والله أعلم".
ثمَّ قال شيخنا -حفظه الله تعالى- (ص 18 - 19): "وقد صح عن ابن عمر القصر في أقل من البريد، فأخرج ابن أبي شيبة (2/ 108/1) عن محمّد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: "تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال" (1).
ثمَّ روى (2/ 109/1) عن محارب بن دثار قال: سمعت ابن عمر يقول: "إِنّي لأسافر الساعة من النهار وأقصر". وإِسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (2/ 567).
ثمَّ روى (2/ 111/1) عن نافع عن ابن عمر: "أنّه كان يقيم بمكة فإِذا خرج إِلى منى قصر". وإِسناده صحيح أيضاً.
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم سمعت ابن عمر يقول: "لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة". ذكره الحافظ وصححه.
قلت [أي: شيخنا -حفظه الله-]: وهذه الآثار عن ابن عمر أقرب إِلى
__________
(1) وقال في التخريج: وإسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير ابن خليدة، هذا وقد روى عنه جماعة من الثقات كما في "الجرح والتعديل" (3/ 2/256) وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" (1/ 206/2).

(2/337)


السنّة على ما سبق بيانه قبل حديثين، والله أعلم.
قلت: والذي قبل الحديثين: حديث ابن عباس وابن عمر: "كانا لا يقصران في أقل من أربعة بُرُد" وعلّقه البخاري.
والخلاصة: أنَّه لا حدّ للمسافة التي تقصر فيها الصلاة، فيجب الرجوع إِلى ما يسمّى سفَراً لُغةً وعُرفاً وما كان ضرباً في الأرض؛ يصدق عليه أنّه سفر وما وردَ من نصوص متعلّقةٍ بالسّفر؛ إِما أن تكون سفراً طويلاً؛ أو سفراً قصيراً؛ وهي نماذج للسفر، وأمثلة عليه، لا تفيد الحصر، فقصْره فيما ذُكر لا ينفي جواز القصر في أقل منها؛ إذا كانت في مسمّى السَّفر، والله تعالى أعلم".
ولشيخنا -شفاه الله تعالى- كلام نفيس في "الصحيحة" تحت الحديث (163) فارجع إِليه -إِن شئت-.

الموضع الذي يقصر منه:
ذهب جمهور العلماء إِلى أنَّ قصر الصلاة يشرع بمفارقة الحضر، والخروج من البلد، وأنّ ذلك شرط ولا يتِمّ حتى يدخل أول بيوتها.
قال ابن المنذر: ولا نعلم أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في شيء من أسفاره إلاَّ بعد خروجه عن المدينة (1). وقال أنس: "صليت الظهر مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين" (2).
__________
(1) انظر "الأوسط" (4/ 354) وذكَره السيد سابق -حفظه الله- في "فقه السنة" (1/ 285).
(2) أخرجه البخاري في مواضع: 1039، 1471، 1472، 1473، وغيرها ومسلم: 690، 691، وغيرهما.

(2/338)


* المسافر إِذا أقام لقضاء حاجة ولم يُجمع إقامة يقصر حتى يخرج (1):
عن جابر قال: أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة" (2).
قال ابن القيّم: "ولم يقُل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأمّة لا يقصر الرجل الصلاة إِذا قام أكثر من ذلك؛ ولكن اتفق إِقامته هذه المدّة".
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسعة عشر يوماً يقصر، فنحن إِذا سافَرنا تسعة عشر قصرنا وإِنْ زدنا أتمَمنا" (3) *.
وأخرجه البيهقي وغيره بلفظ: سبعة عشر يوماً، وجمَع البيهقي وغيره بأنّ من روى الأولى عدّ يوم الدخول ويوم الخروج، ومن روى الأخرى لم يعدّهما وقال الحافظ: وهو جمعٌ متين والله أعلم (4).
قلت: والذي يبدو أنَّ هذا الذي اتّفق لهم، فقد ذَكرنا حديث جابر "أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام بتبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة". وثبت أنَّ ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة وقد حال الثلج بينه وبين الدخول.
فعن ابن عمر أنَّه قال: "أريح علينا الثلج (5)، ونحن بأذربيجان ستة أشهر
__________
(1) ما بين نجمتين من كتاب "الوجيز" (ص 139) بتصرّف.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1094) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (574).
(3) أخرجه البخاري: 1080 وغيره.
(4) وانظر "الإِرواء" (3/ 27).
(5) أي: اشتدّ علينا.

(2/339)


في غزاة، وكنّا نصلي ركعتين".
قال شيخنا في "الإِرواء" (3/ 28): "وإِسناده صحيح، كما قال الحافظ في "الدراية" (129)، وهو على شرط الشيخين كما نقله الزيلعي (2/ 185) عن النووي وأقره.
وله طريق أخرى، فقال ثمامة بن شراحيل: "خرجت إِلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ فقال: ركعتين ركعتين، إلاَّ صلاة المغرب ثلاثاً، قلت: أرأيت إِنْ كنا بـ (ذي المجاز)؟ قال: وما (ذو المجاز)؟ قال: قلت: مكان نجتمع فيه، ونبيع فيه، ونمكث عشرين ليلة أو خمس عشرة ليلة، فقال: يا أيها الرجل! كنت بأذربيجان -لا أدري قال- أربعة أشهر أو شهرين، فرأيتهم يصلّونها ركعتين ركعتين، ورأيت نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصر عيني يصلّيها ركعتين ثمَّ نزع إِلي بهذه الآية: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسَنة} (1) " (2).
وفي "الروضة الندية" (1/ 383): "وقول أكثر أهل العلم: إِنَّه يقصر أبداً ما لم يُجمع إِقامة". انتهى.
والأئمة الأربعة متفقون على أنَّه إِذا أقام لحاجةٍ ينتظر قضاءَها يقول: اليوم أخرج؛ فإِنّه يقصر أبداً إلاَّ الشافعي في أحد قوليه فإِنّه يقصر عنده إِلى سبعة عشر أو ثمانية عشر يوماً ولا يقصر بعدها، وقد قال ابن المنذر في
__________
(1) الأحزاب: 21.
(2) رجاله كلهم ثقات غير ثمامة هذا فقال الدارقطني: "لا بأس به شيخ مقل" وذكره ابن حبان في "الثقات" (1/ 7).

(2/340)


"إِشرافه" (1): أجمع أهل العلم أنَّ للمسافر أن يقصر ما لم يُجمع إِقامة إِن أتى عليه سنون (2).
وفهمت من شيخنا أنَّ مدار الأمر؛ فيما إِذا أجمع المرء الإِقامة وحدّد مدّتها، أو عدم ذلك، فإِنْ لم يحدّد مضت عليه أحكام المسافر، وإنْ حدّد مضت عليه أحكام المقيم، إلاَّ إِذا بقيت عنده أحوال المسافر، والله تعالى أعلم.
قال ابن المنذر في "الأوسط" (4/ 342): "ذِكر إِباحة قصر الصلاة للمسافر في المدن يقْدُمُها إِذا لم ينوِ مقاماً يجب عليه له إِتمام الصلاة".
ثمَّ قال: في قدوم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة عام حجة الوداع مقيمين بها أياماً يصلون ركعتين، دليل على أن للمسافر أن يقصر الصلاة في المدن إِذا قدمها، ولم يعزم على أن يقيم بعد قدومه مدة يجب عليه بمقام تلك المدة إِتمام الصلاة.
ثمَّ ساق بإِسناده إِلى موسى بن سلمة قال: سألت ابن عباس قلت: "إِني مقيم هنا يعني بمكة فكيف أصلّي؟ قال: ركعتين، سنّة أبي القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).

صلاة التطوع في السفر:
قال البخاري: (باب من تطوّع في السفر في غير دُبُر الصلوات وقبلها وركع
__________
(1) يشير بذلك إلى كتاب "الإِشراف على مذهب الأشراف".
(2) انظر "فقه السنة" (1/ 287).
(3) أخرجه مسلم: 688

(2/341)


النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركعتي الفجر في السفر) (1) وذكر تحته أحاديث:
1 - حديث رقم: (1103) من حديث ابن أبي ليلى بلفظ: "ما أنبأ أحدٌ أنه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى الضحى غيرُ أمّ هانئ: ذكَرت أنَّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة اغتسل في بيتها، فصلّى ثمان ركعات، فما رأيته صلّى صلاة أخفّ منها، غير أنّه يُتمّ الركوع والسجود".
2 - وحديث رقم (1104): من حديث عبد الله بن عامر: "أنَّ أباه أخبره أنّه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلّى السُّبحة بالليل في السفر على ظهر راحلته؛ حيث توجَّهت به" (2).
3 - وحديث رقم: (1105): من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبّحُ على ظهر راحلته حيث كان وجهُه، يُومئ برأسه وكان ابن عمر يفعله" (3).
قال الحافظ في "الفتح" (2/ 578): "قوله (باب من تطوع في السفر في غير دبر الصلاة) هذا مُشعِر بأنَّ نفي التطوع في السفر محمول على ما بعد الصلاة خاصة، فلا يتناول ما قبلها، ولا ما لا تعلّق له بها من النوافل المطلقة؛ كالتهجد والوتر والضحى وغير ذلك، والفرق بين ما قبلها وما بعدها أنَّ التطوع قبلها لا يظن أنّه منها، لأنّه ينفصل عنها بالإِقامة وانتظار الإِمام غالباً ونحو
__________
(1) وصَله مسلم في قصّة النوم عن صلاة الصبح من حديث قتادة كما في "الفتح" (2/ 578)، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 266).
(2) وأخرجه مسلم: 700
(3) وانظر "صحيح مسلم": تحت رقم (700).

(2/342)


ذلك، بخلاف ما بعدها فإِنّه في الغالب يتصل بها فقد يظنُّ أنّه منها". انتهى.
وقال النووي في "شرحه" (5/ 210) بعد أن ذكر الأحاديث المتقدّمة وما في معناها خلا حديث أم هانئ: وفي هذه الأحاديث جواز التنفّل على الراحلة في السفر حيث توجّهت، وهذا جائز بإِجماع المسلمين، وشرطه أن لا يكون سفر معصية ... ".

السفر يوم الجمعة:
يجوز السفر يوم الجمعة ما لم يسمع النداء، فإِذا سمعه وجب عليه الحضور (1)، وليس في السنّة -فيما علمتُ- ما يمنع من السفر يوم الجمعة، بل إِنَّ فيها ما يشعر بالجواز.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليس على مسافر جمعة" (2).
ولا يستلزم من ذلك أن يكون هذا مقتصراً، على من كان مسافراً من قبل جادّاً في سيره؛ ماضياً فيه.
قال شيخنا في "الضعيفة" (1/ 386) -بحذف بعد أن ذكَر حديثاً موضوعاً في منع السفر يوم الجمعة-: "وليس في السنّة ما يمنع السفر يوم الجمعة مطلقاً ... ".
وقد روى البيهقي (3/ 187) عن الأسود بن قيس عن أبيه قال: "أبصر
__________
(1) انظر "تمام المنّة" (ص320).
(2) صحيح بكثرة الطُّرُق والشواهد، انظر "الإرواء" (592، 594).

(2/343)


عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رجلاً عليه هيئة السفر، فسمعه يقول: لولا أنّ اليوم يوم جمعة لخرجْتُ، قال عمر -رضي الله عنه-: اخرُجْ فإِنَّ الجمعة لا تحبس عن سفر. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 205/2) مختصراً.
وهذا سند صحيح رجاله كلهم ثقات، وقيس والد الأسود؛ وثّقه النسائي وابن حبان. فهذا الأثر مما يُضعّف هذا الحديث ... ، إِذ الأصل أنّه لا يخفى على أمير المؤمنين عمر لو كان صحيحاً.

هل يشرع الجمع لسفر المعصية؟
سألت شيخنا -عافاه الله وشفاه- فقال: فيه عندي تفصيل: إِنْ أنشأ السفر للمعصية؛ أرى ما يقوله أهل العلم أنَّه ليس له الترخّص ولكن إِن كان أصل المعصية لم ينشأ ابتداءً ولكن وقع في المعصية وهو في سفره؛ فالحُكم يبقى على عمومه.

(2/344)