الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة آداب الصيام
1 - السحور (1)
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "تسحّروا فإِنّ في السُّحور (2) بركة" (3).
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 213): "باب الأمر بالسحور أمر
ندب وإرشاد، إِذ السحور بركة، لا أمْر فرض وإيجاب يكون تاركه عاصياً
بتركه".
ثمّ ذكَر -رحمه الله- حديث أنس -رضي الله عنه-.
وسألت شيخنا -رحمه الله- إِن كان يرى الوجوب في السّحور؛ لحديث أنس السابق
-رضي الله عنه- فقال: لا نقول بالوجوب.
وعن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "فصْل ما بين صيامنا وصيامِ أهل الكتاب أكلةُ السَّحَر"
(4).
__________
(1) جاء في "النهاية": "هو بالفتح اسم ما يُتَسَحَّر به من الطعام والشراب،
وبالضم المصدر والفعل نفسه، وأكثر ما يروى بالفتح.
وقيل: إِنّ الصواب بالضم؛ لأنه بالفتح الطعام، والبركةُ والأجر والثواب في
الفعل لا في الطعام". وجاء في "القاموس المحيط": "السَّحَر: قبيل الصُّبح".
(2) بالضم والفتح.
(3) أخرجه البخاري: 1923، ومسلم: 1095.
(4) أخرجه مسلم: 1096.
(3/267)
فضله:
لقد ورد في فضل السحور أحاديثُ كثيرة، منها:
1 - عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله وملائكته يُصلّون على المتسحِّرين" (1).
2 - وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "دعاني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى السحور في رمضان فقال: هلُمَّ إِلى
الغداء المبارك" (2).
3 - وعن عبد الله بن الحارث عن رجل من أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "دخلْتُ على النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهو يتسحَّر فقال: "إِنّها بركة أعطاكم الله إِياها، فلا
تَدَعوه" (3).
4 - وعن سلمان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "البركة في ثلاثة: في الجماعة، والثريد، والسحور"
(4).
بمَ يتحقّق؟
يتحقّق السحور ولو بجَرعة من ماء.
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وابن حِبّان في "صحيحه"، وصححه شيخنا
-رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1053).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2054) والنسائي وابن خزيمة وابن
حبان في "صحيحيهما"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب"
(1054).
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2042) بإِسناد حسن، وصححه شيخنا
-رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1056).
(4) أخرجه الطبراني في "الكبير"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح =
(3/268)
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تسحروا ولو بجَرعة
(1) من ماء" (2).
فضل السحور بالتمر
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "نعم سَحور المؤمن التمر" (3).
وقته:
يبدأ قبيل الفجر -فيما يبدو- ففي "القاموس المحيط " -كما تقدم-: السحر:
قبيل الصُّبح (4) وينتهي بتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
قال الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر} (5).
وعن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: "لمّا نزلت {حتى يتبيّن لكم
__________
= الترغيب والترهيب" (1052).
(1) الجُرعة: -بالضمّ- الاسم من الشرب اليسير، وبالفتح: المرّة الواحدة
منه، وانظر "النهاية".
(2) أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح الترغيب
والترهيب" (1058).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2055)، وابن حبان في "صحيحه"،
وصححه شيخنا في "صحيح الترغيب والترهيب" (1059).
(4) وربّما أكل المرء قبله بساعات، فلا يسمّى سحوراً.
(5) البقرة: 187.
(3/269)
الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود} عَمَدْتُ
إلى عِقَال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلْتُ أنظر في
الليل فلا يَسْتَبِين لي، فغدوت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فذكَرت له ذلك، فقال: إِنما ذلك سوادُ الليل وبياض النهار"
(1).
وعن سهل بن سعد قال: "أُنْزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ
الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر}، فكان رجال إِذا أرادوا
الصوم؛ ربَط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى
يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {من الفجر} فعلموا أنّه إِنّما يعني
الليل والنهار" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنه قال: "إِنَّ بلالاً يؤذِّنُ بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أمِّ
مكتوم" (3).
وفي لفظٍ لها -رضي الله عنها- "أنَّ بلالاً كان يؤذِّن بليل، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن
أمّ مكتوم، فإِنّه لا يؤذن حتى يطلع الفجر. قال القاسم: ولم يكن بين
أذانهما إِلا أن يرقى ذا وينزل ذا" (4).
وعن عبد الله بن النعمان السُّحَيمي قال: "أتاني قيس بن طَلق في رمضان في
آخر الليل -بعدما رفعت يدي من السّحور لخوف الصبح- فطلب مني
__________
(1) أخرجه البخاري: 1916، ومسلم: 1090.
(2) أخرجه البخاري: 1917، ومسلم: 1091، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 622، ومسلم: 1092.
(4) أخرجه البخاري: 1918، 1919، ومسلم: 1092.
(3/270)
بعض الإِدام، فقلت له: يا عمّاه! لو كان
بقي عليك من اللَّيل شيء لأدخلتك إِلى طعام عندي وشراب.
قال: عندك؟ فدخل، فقربت إِليه ثريداً ولحماً ونبيذاً (1)، فأكَل وشرب،
وأكرهني فأكلْتُ وشربْتُ، وإني لَوَجِلٌ من الصُّبح.
ثمّ قال: حدَّثني طَلْق بن علي أن نبيّ الله قال: كلوا واشربوا، ولا
يَهيدنّكم السَّاطع المُصعِد (2)، فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"
(3).
جاء في "بذل المجهود" (11/ 147) -في شرح "حتى يعترض لكم
__________
(1) جاء في "النهاية": النّبيذ: هو ما يُعمل من الأشربة من التّمر والزبيب،
والعسل، والحنطة، والشَّعير، وغير ذلك.
يُقال: نبذْتُ التمر والعنب؛ إِذا تركْت عليه الماء ليصير نبيذاً، فصُرِفَ
مِن مفعول إِلى فعيل. وانتبذْته: أي: اتخذته نبيذاً.
وسواء كان مسكراً أو غير مسكر فإِنه يُقال له: نبيذ، ويُقال للخمر
المعتَصَر من العنب: نبيذ، كما يقال للنّبيذ: خمر.
(2) لا يهِيدنكم: أي: لا تنزعجوا للفجر المستطيل؛ فتمتنعوا به عن السَّحور؛
فإِنه الصُّبح الكاذب، وأصل الهَيْد: الحركة. "النهاية".
الساطع المُصعِد: جاء في "النهاية": السَّاطع أي: الصبُّح الأوّل المستطيل،
يُقال: سطع الصُّبح يسطع فهو ساطع: أوّل ما ينشقّ مستطيلاً.
وفي "بذل المجهود" (11/ 147): السَّاطع المُصعِد: أي المرتفع طولاً. وفي
"تحفة الأحوذي" (3/ 389): من الإِصعاد: أي المرتفع.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2058) والترمذي وابن خزيمة
وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2031).
(3/271)
الأحمر"-: "قال في "الدّرجات": أي: يستبطن
البياض المعترض أوائل حمرة؛ لأنّ البياض إِذا تتامّ طلوعه؛ ظهر أوائل
الحُمْرة، والعرب تشبِّه الصّبح بالبلق في الخيل؛ لما به من بياض وحمرة،
قلت [أي: صاحب بذل المجهود]: لا يصحّ كونه أحمر إلاَّ قبل نزول قوله تعالى:
{حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض} الآية لأنّه معنى الآخر هو النَّهار إِلا
أنَّ الشمس لم تطلع، وكلاهما يعارض الآية، وهذا كله على ظاهره، وإلا فإِنَّ
الأحمر يطلق على الأبيض أيضاً، فإِن أطلق عليه وافق الآية فتنبّه له إِن
كنت فائق السجيَّة".
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 210): "باب الدليل على أنَّ
الفجر الثاني ... هو البياض المعترض الذي لونه الحُمْرة إِن صحَّ الخبر ...
".
ثمّ ذكَر حديث أبي طلق بن علي -رضي الله عنه-.
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (5/ 52) عَقِبَ الحديث:
"واعلم أنَّه لا منافاة بين وصفه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لضوء الفجر الصَّادق (بالأحمر) ووصفه تعالى إِياه بقوله: {الخيط الأبيض}؛
لأنّ المراد -والله أعلم- بياض مشوب بحمرة، أو تارة يكون أبيض، وتارة يكون
أحمر، يختلف ذلك باختلاف الفصول والمطالع.
وقد رأيت ذلك بنفسي مراراً من داري في (جبل هملان) جنوب شرق (عمّان)،
ومكَّنني ذلك من التأكد من صحَّة ما ذكَره بعض الغيُورين على تصحيح عبادة
المسلمين؛ أنّ أذان الفجر في بعض البلاد العربية يرفع قبل الفجر الصَّادق؛
بزمن يتراوح بين العشرين والثَّلاثين دقيقة -أي: قبل الفجر
(3/272)
الكاذب أيضاً! -.
وكثيراً ما سمعت إِقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصَّادق،
وهم يؤذِّنون قبلها بنحو نصف ساعة، وعلى ذلك فقد صلَّوا سنّة الفجر قبل
وقتها.
وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضاً قبل وقتها في شهر رمضان، كما سمعته من
إِذاعة دمشق وأنا أتسحَّر رمضان الماضي (1406)، وفي ذلك تضييقٌ على الناس
بالتعجيل بالإِمساك عن الطَّعام، وتعريضٌ لصلاة الفجر للبطلان.
وما ذلك إلاَّ بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي، وإعراضهم عن التوقيت
الشرعي: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر}، "فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"، وهذه ذكرى، (والذكرى تنفع
المؤمنين) ". انتهى.
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (6/ 342) (مسألة 756): "ولا يلزم
صومٌ في رمضان ولا في غيره إِلا بتبيُّن طلوع الفجر الثاني، وأمَّا ما لم
يتبيّن؛ فالأكل والشُّرب والجماع مباح، كلُّ ذلك كان على شكّ من طلوع
الفجر، أو على يقين من أنه لم يطلع.
ومن أكل شاكّاً (1) في غروب الشَّمس أو شَرِب فهو عاصٍ له تعالى، مفسد
لصومه، ولا يقدر على القضاء؛ فإِنْ جامع شَاكّاً في غروب الشّمس فعليه
__________
(1) الشّك لغةً: خلاف اليقين، والمقصود هنا أنّه أكل ولم يتيقّن أو يرجّح
الظنّ أن الشمس قد غربت.
(3/273)
الكفّارة ... ". ثمّ ذكَر الأدلّة على ذلك.
وقال (ص 346): "وروينا من طريق معمر عن أبان عن أنس عن أبي بكر الصدِّيق
أنّه قال: إِذا نظر الرَّجلان إِلى الفجر فشكَّ أحدهما؛ فليأكلا حتى يتبين
لهما".
وقال (ص 347): "ومن طريق الحسن: أنّ عمر بن الخطاب كان يقول: إِذا شكّ
الرجلان في الفجر فليأكلا حتى يستيقنا.
ومن طريق ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عبّاس قال: أحل الله الشراب
ما شَككْت؛ يعني في الفجر.
وعن وكيع عن عمارة بن زاذان عن مكحول الأزدي قال: رأيت ابن عمر أخذ دلواً
من زمزم وقال لرجلين: أَطَلَع الفجر؟ قال أحدهما: قد طلع، وقال الآخر: لا؛
فشرب ابن عمر".
وقال -رحمه الله- (ص 349): "وعن الحسن: كُلْ ما امتريت وعن أبي مجلز:
السّاطع: ذلك الصُّبح الكاذب؛ ولكن إذا انفضح الصبح في الأفق.
وعن إِبراهيم النخعي: المعترض الأحمر يُحلّ الصلاة (1) ويُحرّم الطعام.
ومن طريق ابن أبي شيبة: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم قال: لم يكونوا
يعدون الفجر فجركم، إِنّما كانوا يعدُّون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق.
وعن معمر: أنّه كان يؤخِّرُ السّحور جداً، حتى يقول الجاهل: لا صوم له! ".
__________
(1) أي: صلاة الفجر.
(3/274)
فائدة:
إِذا سمع النِّداء والإِناءُ على يده، أو كان يأكل، فله أَنْ يستكْمِل
شرابه وأكْله، ويقضي حاجته منهما؛ لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا سمع أحدكم
النِّداء والإِناء على يده، فلا يضَعْه حتى يقضي حاجته منه" (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 417): "وفيه دليل على أَنَّ
مَنْ طلع عليه الفجر وإناء الطعام أو الشراب على يده؛ أنّه يجوز له أن لا
يضعه حتى يأخذ حاجته منه.
فهذه الصورة مستثناة من الآية: {وكلوا واشربوا حتى يتبيّن لكم الخيطُ
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}.
فلا تعارُض بينها وما في معناها من الأحاديث؛ وبين هذا الحديث، ولا إِجماع
يعارضه، بل ذهب جماعة من الصحابة وغيرهم إِلى أكثر ممّا أفاده الحديث، وهو
جواز السّحور إِلى أن يتضح الفجر، وينتشر البياض في الطرق، راجع "الفتح"
(4/ 109 - 110).
وإِنَّ من فوائد هذا الحديث إِبطال بدعة الإِمساك قبل الفجر بنحو ربع ساعة؛
لأنَّهم إِنَّما يفعلون ذلك خشية أن يدركهم أذان الفجر وهم يتسحّرون، ولو
علموا هذه الرخصة لما وقعوا في تلك البدعة. فتأمّل".
استحباب تأخيره:
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّا معشر
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2060)، وغيره.
(3/275)
الأنبياء أُمِرنا بتعجيل فِطرنا، وتأخير
سحورنا، وأن نضَع أيماننا على شمائلنا في الصلاة" (1).
وعن أنس عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: "تسحَّرنا مع النّبىِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ قام إِلى الصلاة، قلت (2): كم
كان بين الأذان (3) والسّحور؟ قال: قَدْر خمسين آية (4) " (5).
جاء في "الفتح" (4/ 199): "قال ابن عبد البرّ: أحاديث تعجيل الإِفطار
وتأخير السّحور صِحاح متواترة، وعند عبد الرزاق بإِسناد صحيح عن عمرو بن
ميمون الأودي قال: كان أصحاب محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أسرَعَ النّاس إِفطاراً وأبطأهم سحوراً".
هل يفطر إِذا أكل أو شرب أو جامع، ظانّاً غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر؟
مَن أكَل أو شرب أو جامع ظانّاً غروب الشمس، أو عدم طلوع الفجر، ثمّ
__________
(1) أخرجه ابن حبان والضياء بسند صحيح، وانظر "التعليقات الرضيَّة" (2/ 20)
و"الصحيحة" (4/ 376).
(2) قلتُ: هو مقول أنس، والمقول له زيد بن ثابت -رضي الله عنهما-.
(3) أي: الإقامة، وبوّب له البخاري -رحمه الله- في كتاب الصوم بقوله: (باب
كم بين السَّحور وصلاة الفجر). جاء في "الفتح" (4/ 138): "وقال: أي انتهاء
السّحور وابتداء الصلاة؛ لأنّ المراد تقدير الزّمان الذي ترك فيه الأكل
والمراد بفعل الصَّلاة؛ أول الشّروع فيها قاله الزين بن المنيّر".
(4) أي: متوسطة؛ لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة "فتح".
(5) أخرجه البخاري: 1921، ومسلم: 1097.
(3/276)
ظهر له خلاف ذلك فإِنّه لا يفسد صومه، وليس
عليه قضاء ولا كفّارة.
جاء في "المحلّى" (6/ 331) المسألة (753): "ومن أكل وهو يظنّ (1) أنّه ليل،
أو جامَع كذلك؛ أو شرب كذلك؛ فإِذا به نهار -إِما بطلوع الفجر، وإمّا بأنّ
الشَّمس لم تغرب-: فكلاهما لم يتعمّد إِبطال صومه، وكلاهما ظن أنَّه في غير
صيام، والناسي ظنّ أنّه في غير صيام ولا فرق، فهما والناسي سواء ولا فرق.
وليس هذا قياساً (2) -ومعاذ الله من ذلك- وإنما يكون قياساً لو جعلنا
الناسي أصلاً؛ ثمّ شبّهنا به مَن أكل وشرب وجامع، وهو يظنّ أنّه في ليل
فإِذا به في نهار، ولم نفعل هذا، بل كلّهم سواء في قول الله تعالى: {ليس
عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدت قلوبكم} (3) وفي قول رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّ الله تجاوز لأمّتي الخطأ
والنِّسيان وما استُكرِهوا عليه" (4)، وهذا قول جمهور السَّلف.
ثمّ ساق بإِسناده إِلى جمْع من السَّلف في ذلك ومنه:
__________
(1) الظنّ: إِدراك الذهن الشيءَ مع ترجيحه، وقد يكون مع اليقين. "الوسيط".
(2) قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في التعليق: "سواءٌ رضي المؤلف أن
يكون هذا قياساً أو لم يرضَ، فإِنه قياسٌ في الحقيقة على الناسي، لأنّ
النصّ لم يدلّ على عدم بطلان صوم من أفطر ظانّاً أنه في ليل، والقياس على
الناسي -الذي ذكره المؤلّف- قياس صحيح، وإنْ تحاشى هو أن يُسمّيه قياساً".
(3) الأحزاب: 5.
(4) تقدّم.
(3/277)
عن زيد بن وهب قال: أفطر النّاس في زمن عمر
بن الخطاب فرأيت عِساساً (1) أُخرجَت من بيت حفصة، فشربوا، ثمّ طلعت الشّمس
من سحاب، فكَأنّ ذلك شقَّ على النّاس.
فقالوا: نقضي هذا اليوم فقال عمر: لِمَ؟ والله ما تجانفنا لإِثم (2) ".
وروينا أيضاً من طريق الأعمش عن المسيّب عن زيد بن وهب، ومن طريق ابن أسلم
عن أخيه عن أبيه ولم يذكر قضاء.
وقد رُوي عن عمر أيضاً القضاء، وهذا تخالف من قوله، فوجب الرُّجوع إِلى ما
افترض الله تعالى الرّجوع إِليه عند التنازع، من القرآن والسنة؛ فوجدنا ما
ذكَرنا قبل، مع أنّ هذه الرواية عن عمر أولى؛ لأن زيد بن وهب له صحبة،
وإنّما روى عنه القضاء من طريق علي بن حنظلة عن أبيه.
ومن طريق شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عمّن تسحّر نهاراً وهو يرى أنّ
عليه ليلاً، فقال: يُتمّ صومه.
وعن مجاهد قال: من أكل بعد طلوع الفجر وهو يظنّ أنّه لم يطلع فليس عليه
القضاء؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {حتى يتبيّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط
الأسود من الفجر}.
وعن الحسن البصري فيمن تسحَّر وهو يرى أنّه ليل، قال: يُتمُّ صومه.
وعن جابر بن زيد فيمن أكل يرى أنَّه ليل فإِذا به نهار، قال: يُتمّ صومه.
__________
(1) العِساس: جمع العُسّ: القدح الكبير.
(2) أي: لم نمِلْ فيه لارتكاب الإِثم، ومنه قوله تعالى: {غير متجانفٍ
لإِثم} [المائدة: 3]. "النهاية".
(3/278)
ثمّ اتفق عروة وعطاء فيمن أكل في الصّبح
وهو يرى أنّه ليل: لم يقضه.
فهؤلاء: عمر بن الخطاب، والحكم بن عتيبة، ومجاهد، والحسن، وجابر ابن زيد
أبو الشعثاء، وعطاء بن أبي رباح، وعروة بن الزبير.
فإِنْ ذكَروا ما رويناه ... عن أسماء بنت أبي بكر قالت: "أفطر النّاس على
عهد رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ طلعت الشّمس".
قال أبو أسامة: قلت لهشام: فأُمِروا بالقضاء؟ فقال: ومن ذلك بدٌّ (1)؟!
فإِنّ هذا ليس إلاَّ من كلام هشام، وليس من الحديث، فلا حُجّة فيه (2)، وقد
قال معمر: سمعت هشام بن عروة في هذا الخبر نفسه يقول: لا أدري أقضوا أم
لا؟! فصحّ ما قُلنا.
وأمَّا مَنْ أُكره على الفطر، أو وطئت امرأة نائمة، أو مكرهة أو مجنونة أو
مغمى عليها، أو صُبّ في حلقه ماء وهو نائم، فصوم النّائم والنّائمة،
والمُكْره، والمُكْرهة تامّ صحيح لا داخلة فيه، ولا شيء عليهم، ولا شيء على
المجنونة، والمغمى عليها، ولا على المجنون والمغمى عليه، لمَا ذكَرنا من
قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ الله تجاوز
لأمتّه عن الخطأ والنِّسيان وما استُكرهوا عليه (3).
والنّائم والنّائمة مكرهان بلا شك، غير مُخْتارين لما فُعِل بهما.
وقال زفر: لا شيء على النّائم والنّائمة، ولا قضاء كما قلنا، سواء سواء،
وصومهما تامّ -وهو قول الحسن بن زياد.
__________
(1) أخرجه البخاري: 1959.
(2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى- كلام شيخ الإِسلام -رحمه الله- في ذلك.
(3) تقدّم.
(3/279)
وقد رُوي أيضاً عن أبي حنيفة في النّائم
مثل قول زفر.
وقال سفيان الثّوري: إِذا جومعت المرأة مُكْرهة في نهار رمضان فصومها تامّ،
لا قضاء عليها، وهو قول عبيد الله بن الحسن، وبه يقول أبو سليمان، وجميع
أصحابنا.
والمجنون والمغمى عليه غير مخاطَبَين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، والنائم حتى
يستيقظ، والصبي حتى يحتلم" (1).
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (25/ 228): " ... وكذلك
طرد هذا أنّ الصائم إِذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً أو مخطئاً، فلا قضاء
عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف ومنهم من يُفَطِّر الناسي والمخطئ
كمالك ... ".
وقال -رحمه الله- (ص 231): "وأيضاً فقد ثبت في "صحيح البخاري" عن أسماء بنت
أبي بكر قالت: "أفطرنا يوماً من رمضان في غيم على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ طلعت الشمس ... ".
وهذا يدلّ على شيئين: على أنّه لا يُسْتحَب مع الغيم التأخير إِلى أن
يتيقّن الغروب ...
والثاني: لا يجب القضاء فإِنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- لو أمَرهم بالقضاء لشاع ذلك كما نقل فطرهم، فلمّا لم يُنقَل ذلك دلّ على
أنّه لم يأمرهم به.
فإِنْ قيل: فقد قيل لهشام بن عروة: أمروا بالقضاء؟ قال: أو بد من القضاء؟
__________
(1) تقدّم.
(3/280)
قيل: هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في
الحديث، ويدلّ على أنّه لم يكن عنده بذلك علم أنّ معمراً روى عنه قال: سمعت
هشاماً قال: لا أدري أقضوا أم لا؟
ذكَر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمِّه فاطمة بنت المنذر عن
أسماء.
وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه،
وهذا قول إِسحاق بن راهويه -وهو قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب:
أصوله وفروعه، وقولهما كثيراً ما يجمع بينه ... ".
وجاء (ص 259) منه: "وسئل عن رجل باشر زوجته، وهو يسمع المتسحر يتكلّم، فلا
يدري: أهو يتسحّر؟ أم يؤذّن، ثمّ غلب على ظنِّه أنّه يتسحَّر، فوطئها، وبعد
يسير؛ أضاء الصبح، فما الذي يجب عليه؟ أفتونا مأجورين.
فأجاب: هذه المسألة للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: عليه القضاء، والكفّارة، هذا إِحدى الروايتين عن أحمد.
وقال مالك: عليه القضاء لا غير، وهذه الرواية الأخرى عنه، وهذا مذهب
الشافعي، وأبي حنيفة وغيرهما.
والثالث: لا قضاء ولا كفّارة عليه.
وهذ قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو أظهر الأقوال،
ولأنّ الله تعالى عفا عن الخطأ والنِّسيان، وأَباح -سبحانه وتعالى- الأكل
والشرب، والجماع حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، والشاكّ في طلوع
الفجر يجوز له الأكل والشرب والجماع بالاتفاق، ولا قضاء عليه إِذا استمر
الشَّك".
(3/281)
وجاء (ص 264) منه: "وهذا القول أصحّ
الأقوال، وأشبهها بأصول الشريعة، ودلالة الكتاب والسنَّة، وهو قياس أصول
أحمد وغيره، فإِنّ الله رفع المؤاخذة عن الناسي، والمخطئ، وهذا مخطئ.
وقد أباح الله الأكل والوطء حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
الفجر، واستحبَّ تأخير السّحور، ومن فعل ما ندب إِليه، وأُبيح له، لم يفرّط
فهذا أولى بالعذر من الناسي، والله أعلم".
وقال الحافظ رحمه الله- في "الفتح" (4/ 200) -بحذف-: "وقد اختلف في هذه
المسألة فذهب الجمهور إِلى إِيجاب القضاء ... وجاء ترك القضاء عن مجاهد
والحسن، وبه قال إِسحاق وأحمد في رواية.
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 239): "ليس في هذا الخبر أنّهم
أمروا بالقضاء، وهذا من قول هشام: بدٌّ من ذلك، لا في الخبر، ولا يُبيّن
عندي أنّ عليهم القضاء، فإِذا أفطروا والشمس عندهم قد غربت، ثمّ بان أنها
لم تكن غَرَبت؛ كقول عمر بن الخطاب: والله ما نقضي ما يجانفنا من الإِثم".
وسألت شيخنا -رحمه الله- قائلاً: إذا أكل ظانّاً غروب الشمس فظهر خلاف ذلك،
أو ظنَّ عدم طلوع الفجر. فقال -رحمه الله-: "إِذا كان معذوراً في ظنّه فلا
يعدُّ مُفطراً". انتهى.
قلت: والراجح عدم القضاء -والله تعالى أعلم- لِمَا وردَ عن السلف من آثارٍ
في ذلك، فإِنْ كان بالنقل فهم أولى، وإن كان بالرأي فرأيهم خير من رأي
سواهم (1).
__________
(1) ذكره بعض العلماء.
(3/282)
حشَرَنا الله وإياهم مع النبيّين
والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
2 - تعجيل الفطر
عن سهل بن سعد أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"لا يزال الناس بخير ما عجّلوا (1) الفطر" (2).
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 274): (باب ذِكر دوام الناس على
الخير، ما عجّلوا الفطر، وفيه كالدلاله على أنّهم إِذا أخّروا الفِطر؛
وقعوا في الشّر). ثمّ روى الحديث السابق.
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تزال أمَّتي على سُنَّتي ما لم تنتظر بفطرها
النّجوم.
قال: وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا كان صائماً
أمَر رجلاً، فأوفى على شيء، فإِذا قال: غابت الشمس أفطر" (3).
وقد بوّب له ابن خزيمة -رحمه الله- بقوله: "باب ذكر استحسان سنّة المصطفى
محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لم ينتظر بالفطر قبل طلوع
النجوم".
__________
(1) وهذا يقتضي معرفة الوقت والدّقة في ذلك، وأوراق التقويم في معظم البلاد
مع الأسف -إن لم نقُل كلها- تقريبيّة. والله المستعان.
(2) أخرجه البخاري: 1957، ومسلم: 1098.
(3) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (3/ 275)، وقال شيخنا -رحمهما الله تعالى-:
إِسناده صحيح، وأخرجه ابن ماجه من طريق المصنف دون الزيادة المدرجة.
(3/283)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا يزال الدين ظاهراً، ما عجّل
النّاس الفطر؛ لأنّ اليهود والنّصارى يؤخّرون" (1).
وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 199): "من البدع المنكَرة ما
أُحدِث في هذا الزّمان؛ من إِيقاع الأذان الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة
في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جُعلت علامةً لتحريم الأكل والشرب على من
يريد الصيام؛ زعماً ممّن أحدثه أنّه للاحتياط في العبادة، ولا يعلم بذلك
إِلا آحاد النّاس.
وقد جرّهم ذلك إِلى أنْ صاروا لا يؤذِّنون إِلا بعد الغروب بدرجة لتمكين
الوقت زعموا، فأخَّروا الفِطر وعجَّلوا السّحور وخالفوا السنّة، فلذلك قلَّ
عنهم الخير وكثير فيهم الشرّ، والله المستعان".
متى يُفطر الصائم
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أقبل الليل (2) من ها هنا، وأدبر النهار من ها
هنا، وغربت الشمس من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم" (3).
وعن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: "كنّا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر وهو صائم، فلمّا غابت الشّمس قال لبعض
القوم: يا فلان قُم فاجدح
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2063) وابن خزيمة في "صحيحه"
(2060)، وقال شيخنا -رحمه الله -: إسناده حسن.
(2) أي: من جهة المشرق.
(3) أخرجه البخاري: 1954، ومسلم: 1100.
(3/284)
لنا (1)، فقال: يا رسول الله لو أمسيت (2)،
قال: انزل فاجدَحْ لنا، قال: يا رسول الله فلو أمسيت، قال: انزل فاجدَحْ
لنا، قال: إِنّ عليك نهارا (3)، قال: انزل اجدَحْ لنا.
فنزل فجدَح لهم، فشرب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمّ
قال: إِذا رأيتم الليل قد أقبل من ها هنا؛ فقد أفطر الصائم" (4).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 215): "وسُئل عن غروب الشّمس: هل يجوز للصائم
أنْ يفطر بمجرد غروبها؟
فأجاب: إِذا غاب جميع القرص أفطر الصائم، ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية
في الأفق، وإذا غاب جميع القرص ظهر السواد من المشرق، كما قال النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر
النهار من ها هنا، وغربت الشمس؛ فقد أفطر الصائم"".
__________
(1) الجدْح: تحريك السَّويق ونحوه بالماء بعود، يُقال له المِجْدَح [عود]
مُجَنَّح الرأس [وربّما يكون له ثلاث شعب]. "الفتح" والزيادة من "النهاية".
والسَّويق: طعام يُتخذ من مدقوق الحنطة والشعير، سمي بذلك؛ لانسياقه في
الحلق. "الوسيط".
(2) لو أمسيت: فيه دليل على أنّ وقت المساء يبدأ مِن غروب الشمس قاله بعض
طلاّب العلم.
(3) قال الحافظ -رحمه الله-: يُحْتمل أن يكون المذكور كان يرى كثرة الضوء
من شدة الصحو؛ فيظن أنَ الشّمس لم تغرب، ويقول لعلّها غطّاها شيء من جبلٍ
ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقَّق غروب الشّمس.
(4) أخرجه البخاري: 1955، ومسلم: 1101.
(3/285)
علام يُفطر؟
يسنّ أن يُفطر على رطبات قبل صلاة المغرب، فإِنْ لم يجد فعلى تمرات، فإِن
لم يجد فعلى الماء.
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفطر على رُطبات، قبل أنْ يُصلّي، فإِنْ لم تكن رطبات
فعلى تمرات، فإِنْ لم تكن حسا (1) حسَوات من ماء" (2).
3 - الدعاء عند الفِطر
عن مروان (3) قال: "رأيت ابن عمر يقبض على لحيته، فيقطع ما زاد على الكفّ،
وقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أفطر قال:
ذهب الظمأ، وابتلّت العُروق (4)، وثبت الأجر (5) إِن شاء الله" (6).
__________
(1) حسا: أي: شرِب، وفي "النهاية": "الحُسوة -بالضمّ- الجرعة من الشراب،
بقدر مرة واحدة والحَسوة -بالفتح- المرّة".
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2065)، وغيرهما، وانظر
"الإِرواء" (922)، و"صحيح الترغيب والترهيب" (1064)، وهذا حتى يصلّي
الجماعة في المسجد؛ إِن كان يسمع النداء، أو يصلّي مع أهل بيته جماعة كذلك،
ثم يستكمل طعامه.
(3) هو ابن سالم المقفع.
(4) وابتلت العُروق: أي: بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش.
(5) وثبت الأجر: أي: حصل الثواب، وهذا حثٌّ على العبادات، فإِنّ التعب
يُسرّ لذَهابه وزواله. قال الطيبي: ذِكر ثبوت الأجر بعد زوال التعب استلذاذ
أيّ استلذاذ، ونظيره قوله تعالى حكايةً عن أَهل الجنة: {الحمد لله الذي
أذهب عنّا الحَزَن إِنّ ربنا لغفورٌ شكور}. [فاطر: 34]، انظر "المرقاة" (4/
488).
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2066)، وغيره، وحسنه شيخنا -رحمه
الله- في "الإِرواء" (920).
(3/286)
4 - الجود ومدارسة
القرآن.
عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه
جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلَرسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يلقاه جبريل أجود بالخير
من الريح المرسلة (1) " (2).
فينبغي الاقتداء بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجود
والعطاء.
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 193) تبويباً لهذا الحديث: (باب
استحباب الجود بالخير والعطايا في شهر رمضان إِلى انسلاخه، استناناً
بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -).
5 - الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من
رمضان.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِذا دخل العَشرُ شدَّ
__________
(1) المرسلة: أي: المطلقة يعني: أنّه في الإسراع بالجود أسرع من الريح،
وعبّر بالمرسَلَة إِشارة إِلى دوام هبوبها بالرحمة، وإلى عموم النفع بجوده
كما تعمّ الريح المرسَلَة جميع ما تهب عليه ...
وقال النووي: في الحديث فوائد: منها: الحث على الجود في كل وقت، ومنها:
الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه: زيارة الصلحاء وأهل
الخير، وتكرار ذلك إِذا كان المزور لا يكرهه، واستحباب الإكثار من القراءة
في رمضان، وكونها أفضل من سائر الأذكار. "الفتح" (1/ 31)، وتقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 3220، ومسلم: 2308، وتقدّم في "كتاب الزكاة".
(3/287)
مِئْزره (1) وأحيا ليله، وأيقظ أهله (2) "
(3).
وفي رواية: "كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره" (4).
وعن علي -رضي الله عنه- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان" (5).
ترهيب الصائم من الغِيبة والفُحش والكذب ونحو ذلك (6)
لا شكّ أنّ الصِّيام يهذِّب النّفس ويزكّيها، ويمرّسها على فِعل الخير
وترْك الشر، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما
كُتب على الذين من قبلكم لعلّكم تتّقون} (7).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من لم يدَع قول الزور والعَمَلَ به؛ فليس لله
حاجةٌ؛ في أن يدَع طعامه وشرابه" (8).
__________
(1) أي: اعتزل النساء، وقال الخطابي: يُحتمل أنه يريد به الجدّ في العبادة،
كما يُقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمّرْت له، ويحتمل أن يراد التشمير
والاعتزال معاً ... ". "فتح" (4/ 269).
(2) أي: للصلاة.
(3) أخرجه البخاري: 2024، ومسلم: 1174.
(4) أخرجه مسلم: 1175.
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (637).
(6) هذا العنوان من كتاب "الترغيب والترهيب" للمنذري.
(7) البقرة: 183.
(8) أخرجه البخاري: 1903.
(3/288)
وعنه -رضي الله عنه- أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلاَّ الجوع، ورُبَّ قائم ليس له
مِن قيامه إِلا السّهر" (6).
وعنه أيضاً قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"قال الله: كلّ عمل ابن آدم له، إِلا الصّيام فإِنه لي وأنا أجزي به،
والصيام جُنّة (1).
وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث (2) ولا يصخب (3)، فإِنْ سابّه أحدٌ أو
قاتله فليقل إِنّي امرؤٌ صائم" (4).
وعنه كذلك -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- قال: "لا تسابّ وأنت صائم، فإِنْ سابّك أحد؛ فقل: إِنّي صائم، وإنْ كنتَ
قائماً فاجلس" (5). |