الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

المفطّرات
1 - الأكل والشُّرب عمداً عن طريق الفم أو الإِبر المغذّية ونحوه، فإِن أكل أو شرب ناسياً فلا يفطر، ولا قضاء عليه ولا كفّارة.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من أكل ناسياً وهو صائم؛ فليُتمّ صومه فإِنّما أطعمه الله وسقاه" (3).
__________
(1) رواه البخاري -رحمه الله- معلقاً مجزوماً عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "أنّه قال: لا بأس أن يتطعَّم القِدْر أو الشيء، ووصله ابن أبي شيبة في "المصنف" والبغوي في "الجعديات"، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 451) وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (937).
(2) أي: لا يُفطّر.
(3) أخرجه البخاري: 6669، ومسلم: 1155.

(3/307)


وجاء في "الإِرواء" (4/ 86): "ولفظ أبي داود: "جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إِنّي أكلت وشربت ناسياً، وأنا صائم؟ فقال: أطعمك الله وسقاك".
وهو (1) رواية للبيهقي وابن حبان (3513)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الدارقطني وزاد: "ولا قضاء عليه": إِسناده صحيح وكلهم ثقات".
وفيه (ص 87): عن أبي سلمة عنه بلفظ: "من أفطر في شهر رمضان ناسياً، فلا قضاء عليه، ولا كفّارة" (2).
وفي الحديث: "رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه" (3).
2 - القيء عمداً، فإِنْ غَلَبَه وسَبَقه؛ فلا قضاء عليه ولا كفّارة.
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من ذَرَعه (4)
__________
(1) قاله -رحمه الله- في التحقيق الثاني.
(2) قال شيخنا -رحمه الله تعالى- في الكتاب المذكور: أخرجه ابن حبان (906) والحاكم (1/ 430) وصححه على شرط مسلم! ووافقه الذهبي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي وقالا: "كلهم ثقات". قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وإسناده حسن.
وانظر ما قاله شيخنا -رحمه الله- في التعليق على صحيح ابن خزيمة (3/ 239) و"التعليقات الرضية" (2/ 16).
(3) أخرجه ابن ماجه وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (82 و 2565)، وتقدّم.
(4) ذرعَه: أي: سبقه وغلبه في الخروج. "النهاية".

(3/308)


القيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمداً فليقض" (1).
قال ابن المنذر -رحمه الله-: وأجمعوا على إِبطال صوم من استقاء عامداً. "الإِجماع" (ص 47).
قال الترمذي: "والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة، عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ الصائم إِذا ذرعه القيء، فل قضاء عليه، وإذا استقاء عمداً فليقض.
وبه يقول الشافعي، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق".
3 - الحيض والنّفاس إِذا وقع قبل غروب الشمس ولو بلحظات.
4 - الجماع، وتجب الكفّارة (2) الآتي بيانها -إِن شاء الله- في هذا الحديث:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "بينما نحن جلوس عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هَلَكتُ، قال: مالك؟ قال: وقعت
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2084) وابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (577) وغيرهم، وانظر "الإِرواء" (923).
(2) وهذا خاصّ في صوم رمضان دون غيره؛ لعدم ورود النصّ في غير رمضان.
قال في "المغني" (3/ 61): "ولا تجب الكفّارة بالفطر في غير رمضان في قول أهل العلم وجمهور الفقهاء.
وقال قتادة: تجب على من وطئ في قضاء رمضان، لأنّه عبادة تجب الكفّارة في أدائها، فوجبت في قضائها كالحجّ. ولنا أنّه جامع في غير رمضان فلم تلزمه كفّارة كما لو جامع في صيام الكفّارة ويفارق القضاء الأداء؛ لأنّه متعيّن بزمان محترم، فالجماع فيه هتك له بخلاف القضاء".

(3/309)


على امرأتي وأنا صائم.
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إِطعام ستين مسكيناً؟ قال: لا.
قال: فمكث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبينا نحن على ذلك أتى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَرَق (1) فيها تمر -والعرق: المِكتَل (2) - قال: أين السائل؟ فقال: أنا، قال: خُذ هذا فتصدق به.
فقال الرجل: على أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابَتَيها (3) -يريد الحرَّتيْن- أهل بيتٍ أفقرُ من أهل بيتي، فضحك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعِمه أهلك" (4).
أمّا إِذا جامَع ناسياً، فلا يفطر، ولا كفّارة عليه ولا قضاء، مع أنّ تحقّق هذا قد يصعب، لأن أحد الزوجين قد يتذكر، فيذكّر الآخر، كما ذكر ذلك شيخنا -رحمه الله-.
__________
(1) يقال للعَرَق: الزّبيل، والزِّنبيل ويقال له القُفّة وعند الفقهاء ما يسع خمسة عشر صاعاً وهي ستون مدّاً؛ لستّين مسكيناً، لكل مسكين مدّ. وانظر "شرح النووي".
(2) جاء في "النهاية": المِكتل بكسر الميم: الزَّبيل الكبير [قال ابن دريد: سمّي زبيلاً لأنّه يُحمل فيه الزّبل والعَرَق] قيل: إنّه يسع خمسةَ عشر صاعاً؛ كأنّ فيه كُتلاً من التمر: أي: قطعاً مجتمعة".
(3) هما الحرّتان، والمدينة بين حرّتين، والحَرّة: الأرض الملبّسة حجارةً سوداً. "شرح النووي".
(4) أخرجه البخاري: 1936، ومسلم: 1111.

(3/310)


ولكن لا يبعد أن يقع النّسيان من الطرفين، فربّما كانا في عمرة في رمضان، وبعد التحلّل، وقع الجماع لأن الذهن منصرف بالتحلُّل من العمرة ونسيا شهر رمضان.
وقال الحسن ومجاهد: "إِنْ جامَع ناسياً فلا شيء عليه" (1).

على من تقع الكفّارة؟
اختلف العلماء في ذلك، والراجح وجوبها على الرجل دون المرأة، ففي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم؛ كان الخطاب للرجل دون المرأة، " ... هل تجدُ رقبةً تعتقها؛ ... هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين، ... خذ هذا فتصدّق به".
جاء في "المغني" (3/ 58): "وهل يلزمها الكفّارة؟ [أي: مع عدم العُذر] على روايتين:
إِحداهما: يلزمها، وهو اختيار أبي بكر، وقول مالك وأبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر، ولأنّها هتكت صوم رمضان بالجماع، فوجبت عليها الكفّارة كالرّجل.
والثانية: لا كفّارة عليها، قال أبو داود سئل أحمد: من أتى أهله في رمضان أعليها كفّارة؟ قال: ما سمعنا أنّ على امرأة كفّارة.
وهذا قول الحسن، وللشافعي قولان كالروايتين، ووجه ذلك أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر الواطئ في رمضان أنْ يعتق رقبة، ولم يأمر في المرأة بشيء -مع علمه
__________
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله عبد الرزاق بإِسنادين عنهما، وهو عن مجاهد صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 452).

(3/311)


بوجود ذلك منها- ولأنّه حقّ يتعلّق بالوطء من بين جنسه، فكان على الرجل كالمهر".
وقال في "نيل الأوطار" (4/ 295): عقب حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- السابق: "قوله: "تصدق بهذا" استدلّ به ... من قال: إِنّ الكفّارة تجب على الرجل فقط، وبه قال الأوزاعي وهو الأصحّ من قولي الشافعي.
وقال الجمهور: تجب على المرأة على اختلافٍ بينهم في الحُرَّة والأَمَة والمطاوعة والمُكرهَة، وهل هي عليها أو على الرجل".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل الكفّارة تقع على الرّجُل في جميع الحالات، أم المتسبّب في الجماع؟
فقال -رحمه الله-: الرجل يكفّر في جميع الحالات".

ترتيب الكفّارة كما ورَدَت في الحديث
وتجب الكفّارة كما هي مُرتّبة في الحديث، فيجب العتق أولاً، فإِنْ لم يستطع صام شهرين متتابعين، فإِنْ لم يستطع أطعم ستين مسكيناً.
قال ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- في "صحيحه" (3/ 216): "باب إِيجاب الكفّارة على المجامع في الصوم في رمضان بالعتق إِذا وجده، أو الصيام إِذا لم يجد العتق، أو الإِطعام إِذا لم يستطع الصوم" ثم ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.

إِذا تكرّر الجماع، هل تتكّرر الكفّارة؟
وإذا تكرّر الجماع في يوم آخر؛ تكرّرت الكفّارة؛ لأنّ كل يومٍ عبادة

(3/312)


مستقلة، كما ذكَر بعض أهل العلم.
وهذا هو الراجح من أقوال العلماء.
وهل يقال لمن يجامع نساءه طوال شهر رمضان نهاراً: عليك كفّارة واحدة؟!

لا تجب الكفّارة على من لم يستطعها
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 220): "باب الدليل على أنّ المجامع في رمضان إِذا ملَك ما يُطعم ستين مسكيناً؛ ولم يملك معه قوت نفسه وعياله، لم تجب عليه الكفّارة".
ثم ذكر خبر أبي هريرة -رضي الله عنه- "ما بين لابتيها أحوج منّا".

هل يجوز صيام الشهرين متفرّقاً في كفّارة الجماع؟
لا يجوز ذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث المتقدّم: "فهل تستطيع أنْ تصوم الشهرين متتابعين".
قال ابن خزيمة -رحمه الله- في "صحيحه" (3/ 222): "باب الدليل على أنّ صيام الشّهرين في كفّارة الجماع لا يجوز متفرّقاً؛ إِنِّما يجب صيام شهرين متتابعين".
وذكر الشاهد السابق بلفظ مقارب.

أَمْر المجامع بقضاء صوم يوم مكان اليوم الذي جامع فيه، إِذا لم يجد الكفّارة.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رجلاً جاء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد وقع بأهله

(3/313)


في رمضان، فذكر الحديث، وقال في آخره: "فصم يوماً، واستغفر الله" (1).

هل الاستمناء بمباشرة الرجل زوجه أو باليد يفسد الصوم؟
قال السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنّهَ" (1/ 466) في (ما يبطل الصيام): "الاستمناء سواء أكان سببه تقبيل الرجل لزوجته أو ضمّها إِليه، أو كان باليد، فهذا يبطل الصوم ويوجب القضاء".
قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المِنّة" (ص 418): "لا دليل على الإِبطال بذلك، وإلحاقه بالجماع غير ظاهر، ولذلك قال الصنعاني: "الأظهر أنه لا قضاء ولا كفّارة إلاَّ على من جامع، وإلحاق غير المجامع به بعيد".
وإليه مال الشوكاني، وهو مذهب ابن حزم، فانظر "المُحلّى" (6/ 175 - 177 و205).
وممّا يرشدك إِلى أنّ قياس الاستمناء على الجماع قياس مع الفارق؛ أنّ بعض الذين قالوا به في الإِفطار لم يقولوا به في الكفّارة، قالوا: "لأنّ الجماع أغلظ، والأصل عدم الكفّارة". انظر "المهذب" مع "شرحه" للنووي (6/ 368).
فكذلك نقول نحن: الأصل عدم الإِفطار، والجماع أغلظ من الاستمناء، فلا يقاس عليه فتأمّل.
وقال الرافعي (6/ 396): "المني إِنْ خرَج بالاستمناء أفطر؛ لأنّ الإِيلاج من غير إِنزال مبطل، فالإِنزال بنوع شهوة أولى أن يكون مفطّراً".
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (1954) وأخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1357): بلفظ: "وصم يوماً مكانه". وانظر "الإِرواء" (4/ 91)، وتقدّم.

(3/314)


قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: "لو كان هذا صحيحاً؛ لكان إِيجاب الكفّارة في الاستمناء أولى من إِيجابها على الإِيلاج بدون إِنزال، وهم لا يقولون أيضاً بذلك، فتأمّل تناقض القياسين!
أضِف إِلى ذلك مخالفتهم لبعض الآثار الثابتة عن السلف في أنّ المباشرة بغير جماع لا تفطّر ولو أنزل، وقد ذكرْتُ بعضها في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" تحت الأحاديث (219 - 221) (1)، ومنها قول عائشة -رضي الله عنها- لمن سألها: ما يحلّ للرجل من امرأته صائماً؟ قالت: "كلّ شيء إِلا الجماع".
أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (4/ 190/8439) بسند صحيح، كما قال الحافظ في "الفتح"، واحتج به ابن حزم. وراجع سائرها هناك.
وترجم ابن خزيمة -رحمه الله- لبعض الأحاديث المشار إِليها بقوله في "صحيحه" (3/ 242): "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم، والدليل على أنّ اسم الواحد قد يقع على فعلين: أحدهما مباح، والآخر محظور، إِذ اسم المباشرة قد أوقعه الله في نصّ كتابه على الجماع، ودلّ الكتاب على أنّ الجماع في الصوم محظور، قال المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنّ الجماع يفطّر الصائم، والنّبيّ المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد دلّ بفعله على أنّ المباشرة التي هي دون الجماع مباحة في الصوم، غير مكروهة".
وإنّ ممّا ينبغي التنبيه عليه هنا أمرين:
__________
(1) وذكرْت ما قاله -رحمه الله- فيها تحت (القبلة والمباشرة ... من كتابنا هذا).

(3/315)


الأول: أنّ كون الإِنزال بغير جماع لا يفطّر؛ شيء، ومباشرة الصائم، شيء آخر، ذلك أنّنا لا ننصح الصائم وبخاصّة إِذا كان قوي الشهوة؛ أنْ يباشر وهو صائم، خشية أن يقع في المحظور؛ الجماع، وهذا سداً للذريعة المستفادة من عديد من أدلّة الشريعة، منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ومَن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه".
وكأنّ السيدة عائشة -رضي الله عنها- أشارت إِلى ذلك بقولها حين روت مباشرة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو صائم: "وأيّكم يملك إِربه؟ ".
والأمر الآخر: أنّ المؤلف لمّا ذكر الاستمناء باليد، فلا يجوز لأحد أن ينسب إِليه أنّه مباح عنده، لأنّه إِنّما ذكَره لبيان أنَّه مبطل للصوم عنده.
وأما حكم الاستمناء نفسه، فلبيانه مجال آخر، وهو قد فصّل القول فيه، في "كتاب النكاح"، وحكى أقوال العلماء، واختلافهم فيه ...
وأمّا نحن؛ فنرى أنّ الحق مع الّذين حرَّموه، مستدلين بقوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون إِلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أَيْمانهم فإِنّهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} (1).
ولا نقول بجوازه لمن خاف الوقوع في الزنا، إِلا إِذا استعمل الطبَّ النبوي، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للشباب في الحديث المعروف الآمر لهم بالزواج:
"فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنّه له وجاء".
ولذلك فإِننا نُنكر أشد الإِنكار على الذين يُفتون الشباب بجوازه؛ خشية الزنا، دون أن يأمرهم بهذا الطبّ النّبويّ الكريم". انتهى.
__________
(1) المؤمنون: 5 - 7.

(3/316)


وقال أخي الشيخ مشهور حسن -حفظه الله تعالى- في مقدّمة تحقيقه على "بلوغ المنى في حُكم الاستمنى" للشوكاني -رحمه الله- ملخّصاً ما ذهب إِليه في مسألة الاستمناء-: "إِنْ فعَله ليكسر حدَّة شهوته، وشدّة شبقه فحسب فحرام، فإِنْ كان هذا الفعل لدفع مضرّة الزنى أو اللواط، التي باتت أو كادت [أن تكون] متحققة في حقّه، فهو مباح بعد أن يجرّب الصيام، ويجاهد نفسه، ويتقي الله ما استطاع". انتهى.
قلت: فلا تنظرنّ إِلى كلمة (فهو مباح) حتى تنظر فيما أشار إِليه من الصيام ومجاهدة النفس، والتقوى المستطاعة؛ وهذا يتضمّن التحصُّن بالصلاة الخاشعة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقراءة القرآن، والأذكار، والدعاء والابتهال إِلى الله -سبحانه- أن يصرف عنك مقته وغضبه.
فإِذا اجتمع هذا مع اجتناب الأطعمة والأشربة المثيرة للشهوة، مع غضّ البصر والابتعاد عن الاختلاط وأسباب الفتنة، فإِن النجاة بإِذن الله -تعالى- متحقّقة.
لكن؛ لا بُدّ لنا أن نُذكّر بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِن تصدق الله يصدقْك" (1)، وبالله التوفيق.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 214): " ... وأمّا من استمنى فإِنه يُفطر".
وتقدم ما جاء في "الصحيحة" (1/ 437): "وروى ابن أبي شيبة (2/ 170/1) عن عمرو بن هرم قال: سُئل جابر بن زيد عن رجل نظر إِلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها؛ هل يفطر؟ قال: لا؛ ويتمّ صومه".
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النّسائي" (1845) والطبراني وغيرهما.

(3/317)


قال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيّد، وعلّقه البخاري على عمرو بصيغة الجزم، وسكت عنه الحافظ (4/ 151).
وترجم ابن خزيمة للحديث بقوله: "باب الرخصة في المباشرة التي هي دون الجماع للصائم، والدليل على أنّ اسم الواحد قد يقع على فعلين أحدهما مباح والآخر محظور".
وجاء في التعليق على "بلوغ المنى في حُكم الاستمنى" (ص54 - في التعليق): "وقرّر المرغيناني في "الهداية" أنّ الاستمناء لا يفطّر ... ".
وانظر تفصيل الشيخ مشهور -حفظه الله- (ص 54) فإِنه نافع قويّ.
قلت: ومهما يكن مِن أمر؛ فإِنّه لا ينبغي أن نختلف، أو نتفرّق، أو نُوالي، أو نعادي في هذه المسائل.
فهناك من قال من أهل العلم أنّ الاستمناء يفطّر، وهناك من قال أنّه لا يفطّر ولا شكّ أنّه حرام -أي باليد ونحوه- لما ذَكرناه وقدّمناه.
أمّا الاستمناء بضمّ الزوجة ونحو ذلك في الصيام؛ فمن رأى بعد الاطلاع على ما قال أهل العلم أنّ ذلك لا يفطّر فله ذلك، ومن رأى أنّه يفطّر؛ فإِنّ العلماء القائلين بأنّه لا يفطّر؛ لم يوجبوا عليه هذا الفعل.
لكن ليس لأحدٍ أن يُلزم الآخر برأيه، والمهم ألا يتبع المرء هواه، فما دام قد اعتمد على أقوال العلماء، مع بذل الأسباب في معرفة الحقّ والصواب، والتجرّد من الهوى والتعصّب، فقد سدّد وقارب ونجا بإِذن الله -تعالى- وبالله التوفيق.

(3/318)


قضاء رمضان
من أفطر لعذر شرعي وجب عليه القضاء.
جاء في "الرّوضة النّدية" (1/ 547): "يجب على مَنْ أفطر لعذر شرعي أنْ يقضي؛ كالمسافر والمريض.
وقد صرح بذلك القرآن الكريم: {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيّام أُخر} (1).
وقد ورد في الحائض حديث معاذة عن عائشة -رضي الله عنها- ... والنفساء مِثلها". [بلفظ: فتؤمر بقضاء الصِّيام ولا تؤمر بقضاء الصّلاة] (2).

متى يقضى قضاء رمضان (3)
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: {فعِدَّة من أيّام أُخر} (4): في القضاء " ... هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان:
أحدهما: أنّه يجب التتابع، لأنّ القضاء يحكي الأداء.
والثاني؛ لا يجب التتابع، بل إِنْ شاء تابع، وهذا قول جمهور السلف والخلف، وعليه ثبتت الدلائل؛ لأن التتابع إِنِّما وجب في الشّهر؛ لضرورة
__________
(1) البقرة: 184.
(2) أخرجه البخاري: 321، ومسلم: 335.
(3) هذا العنوان في "صحيح البخاري" (كتاب الصوم) "باب - 40".
(4) البقرة: 185.

(3/319)


أدائه في الشّهر، فأمّا بعد انقضاء رمضان، فالمراد صيام أيام عدّة ما أفطر، ولهذا قال الله تعالى: {فعدّة من أيّام أُخر} ". انتهى.
عن أبي سلمة قال: سمعْتُ عائشة -رضي الله عنها- تقول: "كان يكون عليَّ الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلاَّ في شعبان. قال يحيى: الشُّغل من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (1).
وقال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "لا بأس أن يُفرِّق؛ لقوله الله تعالى: {فعدّة من أيّام أُخر} (2).
وعنه -رضي الله عنهما- كذلك في قضاء رمضان: "صُمه كيف شئت"، وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- "صُمه كما أفطرته" (3).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- في قضاء رمضان-: "يُتابِع بينه" (4).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: يواتِره (5) إِن شاء" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1950، ومسلم: 1146.
(2) البقرة: 185.
(3) أخرجه البيهقي وعنه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وهذا سند صحيح على شرط الشيخين".
(4) أخرجه ابن أبي شيبة وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وسنده صحيح".
(5) يواتره: أي: يُفرِّقه، فيصوم يوماً ويفطر يوماً، ولا يَلزَمُه التتابع فيه فيقضيه وتراً وتراً". "النهاية".
(6) أخرجه الدارقطني وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (4/ 95): "وإسناده صحيح".

(3/320)


قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 97): "وخلاصة القول؛ أنّه لا يصحّ في التفريق ولا في المتابعة حديث مرفوع، والأقرب جواز الأمرين كما في قول أبي هريرة -رضي الله عنه-[المتقدّم: "يُواتره إِن شاء] (1) ".
جاء في "الفتح" (4/ 189): "قال الزين بن المنيِّر [-بحذف بعد حديث عائشة رضي الله عنها- السابق]: ... وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء لولا ما منَعَها من الشغل، فيشعر بأنّ من كان بغير عذر لا ينبغي له التأخير. قلت: -أي: الحافظ رحمه الله-: ظاهر صنيع البخاري يقتضي جواز التراخي والتفريق؛ لما أودَعَه في الترجمة من الآثار كعادته -وهو قول الجمهور-.
ونقل ابن المنذر وغيره عن عليّ وعائشة وجوب التتابع، وهو قول بعض أهل الظاهر.
وروى عبد الرزاق بسنده عن ابن عمر قال: يقضيه تباعاً ... ولا يختلف المجيزون للتفريق أنَّ التتابع أولى".
وجاء في "تمام المِنّة" (ص421): "قوله -أي: الشيخ السيد سابق رحمه الله-: "قضاء رمضان لا يجب على الفور، بل يجب وجوباً موسَّعاً في أيِّ وقت، وكذلك الكفَّارة".
قلت: -أي: شيخنا رحمه الله- هذا يتنافى مع قوله تعالى: {وسارعوا إِلى مغفرة من ربّكم} [آل عمران: 133]، فالحقّ وجوب المبادرة إِلى القضاء حين الاستطاعة، وهو مذهب ابن حزم (6/ 260)، وليس يصحُّ في
__________
(1) هذه الزيادة من التحقيق الثاني "للإِرواء".

(3/321)


السُّنّة ما يعارض ذلك.
وأمّا استدلال المؤلف على عدم الوجوب بقوله: "فقد صحّ عن عائشة أنّها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان. (رواه أحمد ومسلم)، ولم تكن تقضيه فوراً عند قدرتها على القضاء".
فليس بصواب؛ لأنّه ليس في حديث عائشة أنّها كانت تقدر أن تقضيه فوراً، بل فيه عكس ذلك، فإِنّ لفظ الحديث عند مسلم (3/ 154 - 155): "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إِلا في شعبان، الشغل من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
وهكذا أخرجه البخاري أيضاً في "صحيحه" -خلافاً لما أوهمه تخريج المصنف- وفي رواية لمسلم عنها قالت: "إِنْ كانت إِحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فما تقدر على أنْ تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى يأتي شعبان".
فالحديث بروايتيه صريح؛ في أنّها كانت لا تستطيع، ولا تقدر على القضاء قبل شعبان، وفيه إِشعار بأنَّها لو استطاعت لَمَا أخّرته، فهو حجّة على المؤلف ومَن سبَقه.
ولذلك قال الزين بن المنيِّر -رحمه الله-: "وظاهر صنيع عائشة يقتضي إِيثار المبادرة إِلى القضاء، لولا ما منعها من الشغل، فيشعر بأنّ مَنْ كان بغير عذر، لا ينبغي له التأخير" (1).
واعلم أنّ ابن القيم والحافظ وغيرهما قد بيّنا أنّ قوله في الحديث:
__________
(1) وتقدم في بداية المبحث.

(3/322)


"الشُّغل من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أو برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"؛ مدرج في الحديث، ليس من كلام عائشة، بل من كلام أحد رواته، وهو يحيى بن سعيد، ومن الدليل على ذلك قول يحيى في روايةٍ لمسلم: "فظننت أنّ ذلك لمكانها من النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".
ولكن هذا لا يخدج فيما ذكَرنا؛ لأنّنا لم نستدل عليه بهذا المدرج، بل بقولها: "فما أستطيع .. "، والمدرج؛ إِنّما هو بيان لسبب عدم الاستطاعة، وهذا لا يهمنا في الموضوع.
ولا أدري كيف خفي هذا على الحافظ حيث قال في خاتمة شرح الحديث: "وفي الحديث دلالة على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقاً، سواء كان لعذر أو لغير عذر؛ لأن الزيادة كما بيّناه مدرجة ... فخفي عليه أنّ عدم استطاعتها هو العذر فتأمّل".
وجاء فيه (ص424): "وجملة القول؛ أنّه لا يصحّ في هذا الباب شيء لا سلباً ولا إِيجاباً، والأمر القرآني بالمسارعة يقتضي وجوب المتابعة إلاَّ لعذر، وهو مذهب ابن حزم أيضاً (6/ 261)، قال: "فإِنْ لم يفعل فيقضيها متفرِّقة، وتجزيه لقول الله تعالى: {فعدّةٌ من أيّام أُخر}، ولم يحدد تعالى في ذلك وقتاً يبطل القضاء بخروجه، وهو قول أبي حنيفة". انتهى.
والخلاصة التي بدت لي: وجوب الصوم على الفور إِلا من عُذر، مع التتابع.
وجواز تفريقه من عُذرٍ أو ابتغاء استراحة؛ تدفع عنه مشقة التتابع، إِذ القول بجواز عدم الصيام على الفور وعدم التتابع، قد يفضي إِلى تأخير القضاء

(3/323)


شهوراً أو سنوات، وقد يقول قائل: إِنّ تأخير عائشة -رضي الله عنها- قضاءَها إِلى شعبان ليس على الوجوب. فماذا إِذاً؟!
أليس هذا بِمُفضٍ إِلى التقصير والتأخير؛ بل التفريط؟!
ولا يخفى علينا قوله تعالى: {وما تدري نفس ماذا تكسب غداً} (1).
وعن أبي أُمَامَة بن سهل قال: "دخلت أنا وعروة بن الزبير يوماً على عائشة، فقالت: لو رأيتما نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم، في مَرضٍ مَرِضَه.
قالت: وكان له عندي ستةُ دنانير -قال موسى: أو سبعة- قالت: فأمرني نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أفرّقها، قالت: فشغلني وجع نبيّ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى عافاه الله.
قالت: ثم سألني عنها؟ فقال: ما فعَلت الستة -قال: أو السبعة-؟ قلت: لا والله، لقد كان شغلني وجعك.
قالت: فدعا بها، ثمّ صفَّها في كفّه، فقال: "ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقي الله عزّ وجلّ، وهذه عنده! يعني: ستة دنانير أو سبعة" (2).
فهذا هو حُسن الظنّ بالله -سبحانه- فمن وافتْه المنيّة وقد أدّى ذلك؛ فقد فعَل الخير.
ومن وافتْه المنيّة في فترةٍ كان يستريح فيها يوماً أو يومين أو أكثر من ذلك، ذلك بحسب طاقته وقدرته، وقد عَلِم الله تعالى منه صِدق نيّته، فإِنه يرتجى له من الله المغفرة والرحمة، ولكن من أَخّر وسوَّف، فهذا الذي نرثي
__________
(1) لقمان: 34.
(2) أخرجه أحمد وغيره، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (1014).

(3/324)


له ونأسف عليه.
ثمّ ما الفرق بين هذا وبين الذي استطاع الحجّ فأجّله لغير عُذر، ثمّ جاء أجله ولم يحجّ!
وعلى كلّ حال إِنّ مدار الأمر لا يُغادر وجود العُذر وعدم الاستطاعة؛ لمن أجَّل وفرّق، والله -تعالى- أعلم.
ثمَّ تدبّرت بعض ما جاء في الطرق الأُخرى من حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم بلفظ: "إِنْ كانت إِحدانا لتُفطر في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ حتى يأتي شعبان" (1).
فتأمّل يرحمك الله: "أنْ تقضيه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -"، وتدبّر -وفّقك الله- الطريق الأخرى بلفظ: "ما كنتُ أقضي ما يكون عليّ من رمضان إلاَّ في شعبان، حتى توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
فماذا بعد أن توفّي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
هل كانت عائشة -رضي الله عنها- تؤخّر القضاء إِلى شعبان؟
لا شكّ أنّ الجواب ظاهر، لأنّ الشغل برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا وجود له بعد مصيبة موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكذلك لا محلّ لعدم الاستطاعة التي كانت تقولها -رضي الله عنها-:
__________
(1) أخرجه مسلم: 1146.
(2) أخرجه الترمذي وابن خزيمة وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر "الإِرواء" (4/ 98).

(3/325)


"فما أستطيع" كما هو في حياته.
فلمن كان في مثل حال عائشة -رضي الله عنها- من الشُّغل، مِمّا يعذرها ولا تستطيع معه القضاء، نقول: لا بأس لا بأس!
وفي حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "مرّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل يقلِّب ظهره لبطنه، فسأل عنه؟ فقالوا: صائم يا نبي الله! فدعاه فأمره أنْ يفطر فقال: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! " (1).
وهكذا لأمَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك الصحابي الذي كان يعاني من مشقة الصيام، على صومه، قائلاً: أما يكفيك في سبيل الله، ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى تصوم؟! وتأجيل عائشة من هذا الباب ... ومع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " -والله تعالى أعلم-.
ثمّ إِنّ هذا يدخل في مسألة أعمّ من هذه وهي: "ما حُكم أداء ما يتوجّب من الحقوق المتعلّقة بالله -سبحانه- أو العباد؟ أعلى الفور أمْ على التراخي؟ ".
ويطول الكلام في هذا، وحسْبنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مطل (2) الغني ظُلم" (3).
وعن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لَيّ (4) الواجد (5)
__________
(1) أخرجه أحمد وإسناده صحيح على شرط مسلم، وانظر "الصحيحة" (2595)، وتقدّم.
(2) أي: تسويف القادر المتمكّن من أداء الدين الحالّ.
(3) أخرجه البخاري: 2287، ومسلم: 1564.
(4) جاء في "الفيض" (5/ 400): "الليّ: المطل، أصْله لوى فأدغمت الواو في الياء".
(5) الواجد: الغني من الوُجد -بالضمّ- بمعنى السِّعة والقدرة، ويُقال: وجَد المال وجْداً أي: استغنى.

(3/326)


يُحلّ (1) عِرْضَه (2) وعقوبته (3) " (4).
ولنا أنْ نقول مقولة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غير هذه المناسبة: "فدين الله أحقُّ أنْ يُقضى" (5).
وما تقدّم من آثار في جواز التفريق، ينبغي أن تُحمل على العُذر؛ لا على مضادّة قوله سبحانه: {وسارعوا إِلى مغفرةٍ من ربّكم وجنَّةٍ عرضها السَّموات والأرض أُعدَّت للمتَّقين} (6).

هل على من أَخَّر القضاء كفّارة؟
لم يَرِد في هذا حديث مرفوع، فلا كفّارة.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: هناك قول، ولكن ليس هناك حديث مرفوع.

هل يقضي مَن أَفطر متعمّداً؟
إِذا أفطر متعمِّداً في رمضان، هل يُشرع له قضاؤه أم لا؟
__________
(1) يُحلّ: بضمّ الياء من الإِحلال.
(2) عرضه: بأن يقول له المدين: أنت ظالم، أنت مماطل ونحوه؛ ممّا ليس بقذف ولا فُحش.
(3) بأن يعزّره القاضي على الأداء بنحو ضربٍ أو حبس حتى يؤدِّى".
(4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3086) وغيرهما، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1434).
(5) تقدّم.
(6) آل عمران: 133.

(3/327)


قال شيخنا -رحمه الله- في "تمام المنّة" (ص 425) -بحذف وتصرف- بعد أن رجّح عدم القضاء: "والظاهر الثاني، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية، فقد قال في "الاختيارات" (ص 65): "لا يقضي متعمِّدٌ بلا عذرٍ صوماً ولا صلاة، ولا تصحُّ منه، وما رُوي أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر المجامع في رمضان بالقضاء ضعيف".
وهو مذهب ابن حزم، ورواه عن أبي بكر الصدّيق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وأبي هريرة، فراجع "المُحلّى" (6/ 180 - 185) [المسألة: 735].
والحقّ أنه ثابت صحيح بمجموع طرقه كما قال الحافظ ابن حجر، وأحدها صحيح مرسل كما كنت بيّنته في تعليقي على رسالة ابن تيمية في "الصيام" (ص 25 - 27)، ثمّ في "إِرواء الغليل" (4/ 90 - 92). فقضاء المجامع من تمام كفّارته، فلا يلحق به غيره من المفطرين عمداً.
أمّا الصلاة فهو مختار المصنّف (1) أيضاً تبعاً لابن حزم -وقد كان نقَل كلامه في ذلك مُلخَّصاً في "الصلاة" قبيل "الجمعة"- وكان يلزمه أن يختار مثله في الصوم، فإِنّ دليل عدم القضاء فيه مثله في الصلاة.
ولا سيّما أنّه مذهب ابن حزم أيضاً، فقد قال: "برهان ذلك أنّ وجوب القضاء في تعمُّد القيء قد صحَّ عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ... ولم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو الشرب أو الوطء نصٌّ بإِيجاب القضاء.
__________
(1) أي: الشيخ السيد سابق -رحمه الله- كما في "فقه السنة".

(3/328)


وإنما افترض تعالى رمضان -لا غيره- على الصحيح المقيم العاقل البالغ، فإِيجاب صيام غيره بدلاً منه؛ إِيجاب شرْعٍ لم يأذن الله -تعالى- به، فهو باطل.
ولا فرق بين أنْ يوجب الله -تعالى- صوم شهر مسمّى، فيقول قائل: إِنّ صوم غيره ينوب عنه بغير نصّ وارد في ذلك، وبين من قال: إِنّ الحجّ إِلى غير مكّة ينوب عن الحجّ إِلى مكّة، والصلاة إِلى غير الكعبة، تنوب عن الصلاة إِلى الكعبة، وهكذا في كل شيء.
قال الله تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} (1)، وقال تعالى: {ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه} (2).
ثمّ شرع يرُدُّ على المخالفين قياسهم كل مفطر بعمد؛ على المفطر بالقيء، وعلى المجامع في رمضان.
ثم روى مثل قوله عن الخلفاء الراشدين حاشا عثمان، وعن ابن مسعود وأبي هريرة، فراجِعه.
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: لكن المجامع في رمضان قد صح أنّه أمره بالقضاء أيضاً".

قضاء صوم النَّذر عن الميت من قِبل وليِّه
عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من مات وعليه
__________
(1) البقرة: 229.
(2) الطلاق: 1.

(3/329)


صيام (1) صام عنه وليُّه" (2).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما-: "أنّ امرأة ركبَت البحر فنذَرت، إِنِ الله -تبارك وتعالى- أَنْجاها أنْ تصوم شهراً، فأنجاها الله عز وجل، فلم تصم حتى ماتت.
فجاءت قرابة لها [إِمّا اختها أو ابنتها] إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال: [أرأيتك لو كان عليها دَيْن كُنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فَدَيْن الله أحق أن يُقضى]، [فـ] اقضِ [عن أمّك] " (3).
وعنه -رضي الله عنهما-: "أنّ سعد بن عبادة -رضي الله عنه- استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إِنّ أمّي ماتت وعليها نذر فقال: اقضه عنها" (4).
جاء في "أحكام الجنائز" (ص 215) -بتصرّف بعد أنْ ذكَر هذه الأحاديث-:
"قلت: وهذه الأحاديث صريحة الدَّلالة في مشروعيَّة صيام الوليّ عن
__________
(1) خبر بمعنى الأمر، تقديره: فليصُم عنه وليّه، قاله الحافظ في "الفتح" (4/ 193).
(2) أخرجه البخاري: 1952، ومسلم: 1147.
(3) أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي والبيهقي والطيالسي وأحمد والسياق مع الزيادة الثانية له، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، والزيادة الأولى لأبي داود والبيهقي، وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي وصححه، وابن ماجه بنحوه، وفيه عندهم جميعاً الزيادة الثانية وعند مسلم الأخيرة. عن "أحكام الجنائز" (ص 214).
(4) أخرجه البخاري: 2761، ومسلم: 1638.

(3/330)


الميِّت صوم النَّذر، إلاَّ أنّ الحديث الأوّل (1) يدلُّ بإِطلاقه على شيء زائدٍ على ذلك، وهو أنّه يصوم عنه صوم الفرض أيضاً، وقد قال به الشافعيَّة، وهو مذهب ابن حزم (7/ 2، 8) وغيرهم.
وذهب إِلى الأوّل الحنابلة، بل هو نصُّ الإِمام أحمد، فقال أبو داود في "المسائل" (96): "سمعت أحمد بن حنبل قال: لا يُصامُ عن الميِّت إلاَّ في النَّذر".
وحمَل أتباعه الحديث الأوَّل على صوم النَّذر، بدليل ما روت عَمْرة: أن أمّها ماتت وعليها من رمضان فقالت لعائشة: أقضيه عنها؟ قالت: لا بل تصدَّقي عنها مكان كل يوم نصف صاعٍ على كل مسكين. أخرجه الطحاوي (3/ 142) وابن حزم (7/ 4) واللفظ له بإِسنادٍ؛ قال ابن التركماني: صحيح.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "إِذا مرض الرجل في رمضان، ثمّ مات ولم يصم؛ أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن كان عليه نَذْر قضى عنه وليُّه".
أخرجه أبو داود بسند صحيح على شرط الشيخين، وله طريق آخر بنحوه عند ابن حزم (7/ 7) وصحح إِسناده.
قلت: [أي: شيخنا -رحمه الله-] وهذا التفصيل الذي ذَهَبتْ إِليه أمّ المؤمنين، وحَبْر الأمّة ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وتابعهما إِمام السنَّة أحمد بن حنبل، هو الذي تطمئنُّ إِليه النَّفس، وينشرح له الصدر، وهو أعدل
__________
(1) يشير بذلك -رحمه الله- إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- المتقدّم.

(3/331)


الأقوال في هذه المسألة وأوسطها.
وفيه إِعمالٌ لجميع الأحاديث؛ دون ردٍّ لأيّ واحد منها، مع الفهم الصحيح لها؛ خاصّة الحديث الأول منها، فلم تَفْهَم منه أمُّ المؤمنين ذلك الإِطلاق الشامل لصوم رمضان، وهي راويته.
ومن المقرَّر أنَّ راوي الحديث أدرى بمعنى ما روى، لا سيّما إِذا كان ما فَهِمَ هو الموافق لقواعد الشريعة وأصولها، كما هو الشأن هنا". انتهى.
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 269): "وسُئل عن الميِّت في أيّام مرضه أدركه شهر رمضان، ولم يكن يقدر على الصّيام، وتوفّي وعليه صيام شهر رمضان.
وكذلك الصلاة مدّة مرضه، ووالديه بالحياة. فهل تسقط الصلاة والصيام عنه إِذا صاما عنه، وصلّيا؟ إِذا وصَّى، أو لم يوصِ؟
فأجاب: إِذا اتّصل به المرض، ولم يمكنه القضاء فليس على ورثته إلاَّ الإِطعام عنه، وأمّا الصلاة المكتوبة، فلا يصلِّي أحد عن أحد، ولكن إِذا صلَّى عن الميت واحد منهما تطوُّعا، وأهداه له، أو صام عنه تطوُّعاً وأهداه له، نفَعه ذلك، والله أعلم".
وجاء في "تهذيب السنن" لابن القيم -رحمه الله- (7/ 27): "وقد اختلف أهل العلم فيمن مات وعليه صوم هل يقضى عنه؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: لا يُقضى عنه بحال، لا في النّذر ولا في الواجب الأصلي، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه.

(3/332)


الثاني: أنّه يُصام عنه فيهما، وهذا قول أبي ثور وأحد قولي الشافعي.
الثالث: أنّه يُصام عنه النَّذر دون الفرض الأصلي، وهذا مذهب أحمد المنصوص عنه، وقول أبي عبيد والليث بن سعد، وهو المنصوص عن ابن عباس.
روى الأثرم عنه أنه "سئل عن رجل مات وعليه نذر صوم شهر، وعليه صوم رمضان؟ قال: أمّا رمضان فليطعم عنه، وأمّا النَّذر فيصام".
وهذا أعدل الأقوال، وعليه يدلُّ كلام الصحابة، وبهذا يزول الإِشكال.
وتعليل حديث ابن عباس أنه قال: "لا يصوم أحد عن أحد، ويُطْعم عنه"، فإِنّ هذا إِنّما هو في الفرض الأصلي، وأمّا النَّذر فيصام عنه، كما صرَّح به ابن عباس.
ولا معارضة بين فتواه وروايته، وهذا هو المرويُّ عنه في قصّة مَنْ مات وعليه صوم رمضان وصوم النَّذر، فرَّق بينهما، فأفتى بالإِطعام في رمضان، وبالصوم عنه في النَّذر.
فأيُّ شيء في هذا ممّا يوجب تعليل حديثه؟ وما روي عن عائشة من إِفتائها في التي ماتت وعليها الصوم: أنّه يُطعَم عنها؛ إِنما هو في الفرض لا في النذر؛ لأنّ الثَّابت عن عائشة فيمن مات وعليه صيام رمضان: "أنّه يطعم عنه في قضاء رمضان، ولا يصام".
فالمنقول عنها كالمنقول عن ابن عباس سواء، فلا تعارُضَ بين رأيها وروايتها.

(3/333)


وبهذا يظهر اتفاق الروايات في هذا الباب، وموافقة فتاوى الصحابة لها، وهو مقتضى الدليل والقياس، لأنّ النّذر ليس واجباً بأصل الشرع، وإنّما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه.
ولهذا شبَّهه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدَّين في حديث ابن عبّاس، والمسؤول عنه فيه؛ أنّه كان صوم نذر، والدين تدخله النيابة.
وأمّا الصوم الذي فرَضه الله عليه ابتداء؛ فهو أحد أركان الإِسلام، فلا يدخله النيابة بحال، كما لا يدخل الصلاة والشهادتين، فإِنّ المقصود منها طاعة العبد بنفسه، وقيامه بحقِّ العبودية التي خُلِقَ لها وأُمِر بها.
وهذا أمر لا يؤدّيه عنه غيره، كما لا يُسْلِم عنه غيره، ولا يصلِّي عنه غيره، وهكذا من ترك الحجّ عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترَك الزكاة فلم يُخرجها حتى مات (1)، فإِنّ مقتضى الدليل وقواعد الشرع: أن فِعْلهما عنه بعد الموت لا يبرئ ذمَّته. ولا يُقبل منه، والحق أحقُّ أن يتبع.
وسرُّ الفرق: أنَّ النَّذر التزام المكلَّف لِمَا شُغِل به ذمَّته، لا أنّ الشارع ألْزَمه به ابتداءً، فهو أخف حُكْماً ممّا جعله الشَّارع حقاً له عليه، شاء أم أبى.
والذِّمّة تسَع المقدور عليه والمعجوز عنه، ولهذا تقبل أنْ يشغلها المكلِّف بما لا قُدرة له عليه؛ بخلاف واجبات الشرع، فإِنِّها على قدر طاقة البدن، لا تجب على عاجز.
__________
(1) ولكن يبقى الحق المتعلِّق بالعباد، فتبرئة ذمَّته من جهتهم لا بدَّ منها، وذلك عن طريق الورثة، فلا بُدّ من دفْع الزكاة لأهلها. والله -تعالى- أعلم.

(3/334)


فواجب الذِّمَّة أوسع من واجب الشرع الأصلي، لأنَّ المكلّف متمكِّن من إِيجاب واجبات كثيرة على نفسه لم يوجبها عليه الشارع.
والذِّمَّة واسعة، وطريق أداء واجبها أوسع من طريق أداء واجب الشرع، فلا يلزم من دخول النِّيابة في واجبها بعد الموت دخولها في واجب الشرع.
وهذا يبيِّن أنّ الصحابة أفقه الخلْق، وأعمقهم عِلماً، وأعرفهم بأسرار الشرع ومقاصده وحكمه، وبالله التوفيق".
والخلاصة: "أنّه لا يُصام عن الميِّت إلاَّ صوم النَّذر، أمّا رمضان فيطعم عنه".
والحديث المتقدم: "من مات وعليه صيام صام عنه وليّه". يحمل على صوم النّذر.
وكذلك حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- " جاء رجل إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إِنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: نعم؛ فدين الله أحقّ أن يقضى" (1).
فقد جاء ما يفسّرهما عند الشيخين أنّه صوم النَّذر قال شيخنا في "تمام المنّة" (ص 428) في الرَّد على السيد السابق -رحمهما الله تعالى- بعد قوله وروى أحمد وأصحاب السنن: "هذا يوهم أنّه لم يخرِّجه من هو أرقى في الصحَّة من المذكورين، وليس كذلك، فقد أخرجه الشيخان (2) في "الصوم"
__________
(1) أخرجه البخاري: 1953، ومسلم: 1148.
(2) قلت: فانظر -يرحمك الله- تحت الرقم السابق في "صحيح البخاري" =

(3/335)


عن ابن عباس، وفي رواية لهما: "ماتت وعليها صوم نذر".
فهذا الحديث إِذن وارد فى صوم النَّذر، فلا يجوز الاستدلال به على صوم الفرض كما فعل المؤلِّف".

ماذا يقول الصائم إِذا دُعي إِلى طعام؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا دُعي أحدكم إِلى طعام وهو صائم؛ فليقل: إِنّي صائم" (1).
وفي الحديث الإِشارة إِلى تأليف القلوب وتطييب خاطر الداعي.
وإنّ ممّا يُخشى من عدم قوله: "إِني صائم" إِحداث شيءٍ في نفس الداعي، أو ظنّه أن الطعام أو الشراب لم يُعجِب الزائر، فيتكلّف في إِحضار غيره، والله -تعالى- أعلم.

الترغيب في إِطعام الصائم (2)
عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من فطَّر صائماً؛ كان له مثل أجره، غير أنّه لا ينقص من أجر الصَّائم شيء" (3).
__________
= (1953) تجد تتمّة الحديث "وقال عبيد الله: ... عن ابن عباس: قالت امرأة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذر"، وكذلك هو تحت رقم "صحيح مسلم" السابق (1148، 156). وانظر كلام الحافظ حول وصْل حديث البخاري -رحمهما الله تعالى-.
(1) أخرجه مسلم: 1150.
(2) هذا العنوان من "كتاب الترغيب والترهيب" للمنذري -رحمه الله-.
(3) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في =

(3/336)


الصوم لمن لم يستطع الباءة (1)
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "دخلت مع علقمة والأسود على عبد الله، فقال عبد الله: كنّا مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شباباً لا نجد شيئاً، فقال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا معشر الشباب، من استطاع الباءة فليتزوج، فإِنّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإِنّه له وِجاء (2) " (3).

ليلة القدر
فضلها:
ليلة القدر لها فضْل عظيم، فهي خيرٌ من ألف شهر، وهى أفضل ليالي رمضان.
قال الله تعالى: {إِنّا أنْزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر* تنزّل الملائكة والرُّوح فيها بإِذن ربِّهم من كل أَمْر سلام هي حتى مطلع الفجر} (4).
__________
= "صحيحيهما"، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه شيخنا - رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (1065).
(1) الباءة: القُدرة على مؤن النكاح، وفي "الفتح" (9/ 108) فوائد طيبة فارجع إليه إِن شئت.
(2) الوجاء: أن تُرضّ أنثيا الفحل رضّاً شديداً؛ يذهب شهوة الجماع. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 5066، ومسلم: 1400.
(4) القدر: 1 - 5.

(3/337)


جاء في تفسير العلاّمة السعدي -رحمه الله-: {ليلة القدر خير من ألف شهر} أي: تعادل في فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر، خالية منها.
وهذا ممّا تتحيَّر فيه الألباب، وتندهش له العقول، حيث مَنَّ -تعالى- على هذه الأمّة الضعيفة القوّة والقوى؛ بليلة يكون فيها العمل يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمّر عمراً طويلاً، نيفاً وثمانين سنة.
وجاء في "تفسير ابن كثير" -رحمه الله- في قوله تعالى: {تنزَّلُ الملائكة والرّوح فيها} أي: يكثُر تنزُّل الملائكة في هذه الليلة؛ لكثرة بركتها، والملائكة يتنزّلون مع تنزُّل البركة والرحمة، كما يتنزَّلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بِحِلَق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق؛ تعظيماً له".

متى تُتحرّى وتُلتمس؟
جاء في "الروضة النديّة" (1/ 576): "وفي المسوّى: "اختلفوا في أي ليلة هي أرجى، والأقوى إِنّها ليلة في أوتار العشرة الأخيرة، تتقدّم وتتأخّر"، "وقول أبي سعيد: أنّها ليلة إِحدى وعشرين".
وقال المزني، وابن خزيمة (1): إِنِّها تنتقل كلّ سنة ليلة؛ جَمْعاً بين الأخبار.
قال في "الروضة": وهو قوي، ومذهب الشافعي أنَّها لا تلزم ليلة بعينها، وفي "المنهاج" ميل الشافعي إِلى أنَّها ليلة الحادي والثالث والعشرين، وعن
__________
(1) انظر "صحيح ابن خزيمة" (3/ 329).

(3/338)


أبي حنيفة أنّها في رمضان، لا يدري أية ليلة هي ... ". انتهى.
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله-: "وروي عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ليلة القدر: أنّها ليلة إِحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، وآخر ليلة من رمضان" (1). انتهى.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجاور (2) في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: تحرَّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" (3).
وعنها -رضي الله عنها- أيضاً أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تحرَّوا ليلة القدْر في الوتر من العشْر الأواخر من رمضان" (4).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تحرَّوا ليلة القدر في السَّبْع الأواخر" (5).
وفي لفظ له قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: التمسوها في العشر الأواخر (يعني ليلة القدر)، فإِن ضَعُف أحدكم أو عجز؛ فلا يُغلَبنَّ على السَّبْع البواقي" (6).
__________
(1) انظر "صحيح سنن الترمذي" (1/ 238).
(2) أي: يعتكف. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 2020، ومسلم: 1167، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه-.
(4) أخرجه البخاري: 2017، ومسلم: 1169.
(5) أخرجه مسلم: 1165.
(6) أخرجه مسلم: 1165.

(3/339)


عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "اعتكف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر؛ قبل أنْ تُبان له (1)، فلما انقضين أمَر بالبناء فقوِّض (2)، ثم أبينتْ له أنّها في العشر الأواخر.
فأمر بالبناء فأُعيد، ثمّ خرج على النّاس، فقال: يا أيها الناس! إِنّها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإِنِّي خرجتُ لأُخبركم بها، فجاء رجلان يحْتَقَّانِ (3) معهما الشيطان، فَنُسِّيتُها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة.
قال قلت: يا أبا سعيد! إِنّكم أعلم بالعدد منّا قال: أجل، نحن أحقُّ بذلك منكم، قال قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟
قال: إِذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتين وعشرين وهي التاسعة، فإِذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضى خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة" (4).
عن عبد الله بن أُنَيس أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أُريت ليلة القدر ثمّ أُنسِيتُها، وأراني صُبْحَها أسجد في ماء وطين.
قال: فمُطرنا ليلة ثلاث وعشرين، فصلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانصرف، وإنَّ
__________
(1) أي: توضّح وتُكشف.
(2) أي: قُلِع وأُزِيل. "النهاية".
(3) أي: يختصمان كما فسّرها ابن خلاد أحد رواة الحديث.
(4) أخرجه مسلم: 1167.

(3/340)


أثر الماء والطّين على جبهته وأنفه.
قال: وكان عبد الله بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى (2)، في سابعة تبقى (3)، في خامسةٍ (4) تبقى" (5).
وعن معاذ بن جبل أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سُئل عن ليلة القدر؟ فقال: "هي في العشر الأواخر، أو في الخامسة، أو في الثالثة" (6).
وعن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "هي في العشر الأواخر، في تسع (7) يمضين أو في سبع (8) يبقين" (9).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1168.
(2) أي: ليلة الحادي والعشرين. قاله الكرماني.
(3) أي: ليلة ثلاث وعشرين.
(4) ليلة خمس وعشرين. "عمدة القاري".
(5) أخرجه البخاري: 2021.
(6) أخرجه أحمد، وقال شيخنا -رحمه الله-: وإسناده جيّد، فإنّ رجاله كلهم ثقات، وبقيّة قد صرّح بالتحديث، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (1471).
(7) أي: ليلة التاسع والعشرين. قاله الكرماني.
(8) أي: ليلة السابع والعشرين.
(9) أخرجه البخاري: 2022.

(3/341)


وعن معاوية -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "التمسوا ليلة القدر آخر ليلة من رمضان" (1).
وجاء في "مجموع الفتاوى" (25/ 284) -بحذف-: "وسُئل عن ليلة القدر وهو معتقل بالقلعة قلعة الجبل -سنة ست وسبعمائة-.
فأجاب: الحمد لله، ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صحّ عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "هي في العشر الأواخر من رمضان" (2)، وتكون في الوتر منها.
لكنّ الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إِحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ويكون باعتبار ما بقي كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لتاسعةٍ تبقى، لسابعةٍ تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى" (3).
فعلى هذا إِذا كان الشهر ثلاثين؛ يكون ذلك ليال الأشفاع، وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى، وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح، وهكذا أقام النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشَّهر.
__________
(1) أخرجه ابن نصر في "قيام الليل" وابن خزيمة في "صحيحه"، وانظر "الصحيحة" تحت الحديث (1471).
(2) يشير إِلى حديث البخاري: 2022، المتقدم: "هي في العشر الأواخر".
(3) أخرجه البخاري: 2021 دون "لثالثة تبقى"، وهي ثابتة كما في "الصحيحة" (3/ 456) تحت الحديث (1471).

(3/342)


وإِن كان الشَّهر تسعاً وعشرين، كان التاريخ بالباقي، كالتاريخ الماضي.
وإذا كان الأمر هكذا، فينبغي أنْ يتحرّاها المؤمن في العشر الأواخر جميعه؛ كما قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "تَحَرَّوها في العشر الأواخر" (1).
وتكون في السَّبع الأواخر أكثر، وأكثر ما تكون ليلة سبع وعشرين، كما كان أُبيّ بن كعب يحلف اُنّها ليلة سبع وعشرين ...
وقد يكشفها الله لبعض الناس في المنام، أو اليقظة فيرى أنوارها، أو يرى من يقول له هذه ليلة القدر، وقد يفتح على قلبه من المشاهدة ما يتبيّن به الأمر، والله -تعالى- أعلم".
وسُئل عن ليلة القدر وليلة الإِسراء بالنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّهما أفضل؟
فأجاب: "بأنَّ ليلة الإِسراء أفضل في حقّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليلة القدر أفضل بالنسبة إِلى الأمّة، فحظُّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي اختُصّ به ليلة المعراج منها؛ أكمل من حظّه من ليلة القدر.
وحظ الأمّة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، وإن كان لهم فيها أعظم حظّ، لكن الفضل والشرف والرتبة العليا إِنِّما حصلت فيها، لمن أُسري به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -".

تحديدها:
هي ليلة سبع وعشرين من رمضان على الأرجح، وعليه أكثر الأحاديث (2).
__________
(1) تقدّم.
(2) انظر "قيام رمضان" (ص 19).

(3/343)


عن زِرّ بن حُبَيْش قال: "سألت أُبيّ بن كعب -رضي الله عنه- فقلت: إِنّ أخاك ابن مسعود يقول: من يقم الحول يُصب ليلة القدر.
فقال -رحمه الله-: أراد أن لا يتّكل الناس، أمَا إِنّه قد عَلِم أنها في رمضان، وأنّها في العشر الأواخر، وأنّها ليلة سبع وعشرين، ثمّ حلف لا يستثني (1)، أنّها ليلة سبع وعشرين.
فقلت: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعَلاَمة، أو بالآية التي أخبَرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّها تطلع يومئذٍ لا شُعاع لها" (2).
وفي لفظ عنه "قال: سمعت أُبيّ بن كعب يقول: وقيل له: إِنّ عبد الله بن مسعود يقول: من قام ليله السَّنَةَ أصاب ليلة القدر).
فقال أُبيّ: والله الذي لا إِله إِلا هو! إِنّها لفي رمضان (يحلف ما يستثني) ووالله إِنِّي لأعلم أيّ ليلة هي، هي الليلة التي أمَرنا بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقيامها، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين، وأمارتها أنْ تطلع الشّمس في صبيحة يومها بيضاء؛ لا شعاع لها".

قيامها والدعاء فيها
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من قام ليلة القدر إِيماناً
__________
(1) لا يستثني: أي: حَلفَ حلفاً جازماً؛ مِن غير أن يقول عقيبه: إِن شاء الله -تعالى- مِثل أن يقول الحالف: لأفعلنّ إلاَّ أن يشاء الله، أو إِن شاء الله؛ فإِنه لا ينعقد اليمين، وإنّه لا يظهر جزم الحالف. "عون" (4/ 177).
(2) أخرجه مسلم: 762.

(3/344)


واحتساباً؛ غفِر له ما تقدّم من ذنبه" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله: أرأيت إِنْ علمت أيّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهمّ إِنّك عفوٌ تحبُّ العفو فاعف عني" (2).

صفة ليلة القدر
1 - تكون ليلة طَلْقة (3) لا حارّة ولا باردة.
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنّي كنت أُريت ليلة القدر، ثم نسيتُها، وهي في العشر الأواخر من ليلتها، وهي طَلْقة بَلجة (4) لا حارّة ولا باردة" (5).
2 - تطلع الشّمس في صبيحة يومها بيضاء؛ لا شعاع لها.

كثرة الملائكة في الأرض ليلة القدر (6)
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "ليلة القدر ليلة
__________
(1) أخرجه البخاري: 1901، ومسلم: 759.
(2) أخرجه أحمد وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (3105) والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2789)، وصححه شيخنا في "المشكاة" (2091).
(3) طَلْقة: أي: سهلة طيّبة يُقال: يوم طَلْق وليلةٌ طلقٌ وطلقة: إِذا لم يكن فيها حرٌّ ولا بردٌ يؤذيان. "النهاية".
(4) بَلجة: أي: مشرفة، والبُلجة [البَلجة] بالضم والفتح ضوء الصبح. "النهاية".
(5) أخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2190)، وقال شيخنا -رحمه الله-: وهو حديت صحيح ... لشواهده.
(6) هذا العنوان من "صحيح ابن خزيمة" (3/ 332).

(3/345)


سابعة أو تاسعة وعشرين، إِنّ الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى" (1).
__________
(1) أخرجه الطيالسي في "مسنده" وعنه أحمد، وكذا ابن خزيمة في "صحيحه"، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2205): وهذا إِسناد حسن وسكت عليه الحافظ في "الفتح" (4/ 209).

(3/346)