الموسوعة الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة

كتاب الاعتكاف

(3/347)


الاعتكاف

تعريفه (1):
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبْس النَّفس عليه، يُقال: عكَف بالمكان: إِذا أقام به، والمعكوف: المحبوس.
قال الله تعالى: {والهديَ معكوفاً أن يبلغ مَحِلَّه (2)} (3).
وشرعاً: المُقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة.

مشروعيّته (4):
لا خلاف في مشروعيّة الاعتكاف، وقد كان يعكتف النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله عزّ وجلّ (5).
فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوماً" (6).
__________
(1) ملتقطاً من "فتح الباري" (4/ 271)، و"حلية الفقهاء" (ص 110).
(2) قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "أي: وصدُّوا [أيّ: الكفّار] الهَدي أنْ يصل إِلى مَحِلِّه وهذا مِن بغيهم وعنادهم ... ".
(3) الفتح: 25.
(4) انظر "الروضة الندية" (1/ 569).
(5) انظر "صحيح البخاري" (2026)، و"صحيح مسلم" (1171).
(6) أخرجه البخاري: 2044، وشطره الأوّل عند "مسلم" من حديث عائشة -رضي الله عنها-: 1172.

(3/349)


قال شيخنا -رحمه الله- في "قيام رمضان" (ص 34): "والاعتكاف سُنّة في رمضان وغيره من أيّام السنة.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} (1)،
مع توارد الأحاديث الصحيحة في اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتواتر الآثار عن السلف بذلك ... ".

حكمه:
الاعتكاف سُنّة إلاَّ أنْ يكون نَذْراً فيلزم الوفاء به، وممّا يدلُّ على أنّه سُنّة؛ فِعْل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومداومته عليه، تقرُّباً إِلى الله -تعالى- وطلباً لثوابه، واعتكاف أزواجه معه وبعده (2).
جاء في كتاب "الإِجماع" لابن المنذر -رحمه الله- (ص 47): "وأجمعوا على أنّ الاعتكاف لا يجب على النّاس فرضاً؛ إلاَّ أنْ يوجبه المرء على نفسه؛ فيجب عليه".
وقال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (4/ 271): "والاعتكاف ليس بواجب إِجماعاً إلاَّ على مَنْ نذرَه".
فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من نَذَر أنْ يطيع الله فليُطعه، ومن نذر أن يعصيَه فلا يعصِه" (3).
__________
(1) البقرة: 187.
(2) "المغني" (3/ 118).
(3) أخرجه البخاري: 6696 و6700.

(3/350)


عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "يا رسول الله! إِنّي نذرتُ في الجاهلية أنْ أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال له النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أوفِ نذرك، فاعتكَف ليلةً" (1).

مقصود الاعتكاف
قال الإِمام ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 86): "لمّا كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيْره إِلى الله -تعالى- متوقفاً على جمعيّته على الله، ولمّ شَعثه بإِقباله بالكليَّة على الله -تعالى- فإِنَّ شَعَثَ القلب لا يَلُمُّه، إلاَّ الإِقبال على الله -تعالى-، وكان فُضول الطعام والشراب، وفضول مخالطة الأنام، وفضول الكلام، وفضول المنام، ممّا يزيده شَعَثاً، ويُشَتِّتُه في كلِّ وادٍ، ويقطعه عن سيره إِلى الله -تعالى- أو يُضعِفه، أو يُعوّقه ويوقفه؛ اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده، أنْ شرع لهم من الصوم، ما يُذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوّقة له عن سيْره إِلى الله -تعالى- وشرعه بقدر المصلحة، بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأُخراه، ولا يضرُّه ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة والآجلة.
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله -تعالى- وجمعيِّته عليه، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق والاشتغال به وحده -سبحانه- بحيث يصير ذكره وحبه، والإِقبال عليه في محل هموم القلب وخطراته، فيستولي عليه بدلها، ويصير الهمُّ كُلُّه به،
__________
(1) أخرجه البخاري: 2042، ومسلم: 1656.

(3/351)


والخطرات كلُّها بذِكْره، والتفكُّر في تحصيل مراضيه وما يقرِّب منه.
فيصير أُنْسه بالله بدلاً عن أُنْسه بالخلق، فيعدُّه بذلك لأُنْسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يُفرح به سواه، فهذا مقصود الاعكتاف الأعظم".

زمانه:
يؤدّى الاعتكاف الواجب حسبما نَذَره وسمّاه النّاذر، فإِنْ نَذَر الاعتكاف يوماً أو أكثر؛ وجب الوفاء بما نذَره (1).
ويشرع الاعتكاف المستحبّ في أيّ وقت من أيّام العام.
وقد ثبت أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتكف في العشر الأول من شوّال. ففي حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " ... وتَرَك الاعتكاف في شهر رمضان؛ حتى اعتكف في العشر الأَوّل من شوّال" (2).
* وآكدُه في رمضان لحديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف في كلِّ رمضان عشرة أيّام، فلمّا كان العام الذي قُبض فيه؛ اعتكف عشرين يوماً" (3).
وأفضله آخر رمضان، لأن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "كان يعتكف العشر الأواخر من
__________
(1) "فقه السنة" (1/ 476).
(2) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173 واللفظ له، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- بتمامه.
(3) تقدّم.

(3/352)


رمضان حتى توفَّاه الله -عزّ وجلّ-" (1). * (2)

شروطه (3)
1 - الإِسلام، قال الله تعالى: {لئنْ أشركت ليحبطنّ عَمَلُك} (4).
2 - العقل.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النّائم حتّى يستيقظ، وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم" (5).
لا يُشرع الاعتكاف إلاَّ في المساجد؛ لقوله تعالى: {ولا تباشروهنَّ (6) وأنتم عاكفون في المساجد} (7).
وقالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "السنّة في المعتكِف أنْ لا
__________
(1) أخرجه البخاري: 2026، ومسلم: 1171، وتقدّم.
(2) ما بين نجمتين من "قيام رمضان" (ص 35).
(3) عن "قيام رمضان" (ص 35) بتصرف وزيادة.
(4) الزُّمر: 65.
(5) أخرجه أبو داود، والنسائي وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (297)، وتقدّم.
(6) أي: لا تجامعوهنّ، قال ابن عباس: المباشرة والملامسة والمسّ جماع كله، ولكنّ الله عزّ وجلّ يكنّي ما شاء بما شاء. أخرجه البيهقي بسند رجاله ثقات.
(7) البقرة: 187.

(3/353)


يخرج إِلا لحاجته التي لا بدّ له منها، ولا يعود مريضاً، ولا يمسّ امرأته، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلاَّ في مسجد جماعة، والسنَّة فيمن اعتكف أنْ يصوم" (1).
وينبغي أنْ يكون مسجداً جامعاً؛ لكي لا يضطر للخروج منه لصلاة الجمعة، فإِنّ الخروج لها واجب عليه، لقول عائشة في روايةٍ عنها في حديثها السابق: " ... ولا اعتكاف إلاَّ في مسجد جامع" (2).
قال شيخنا -رحمه الله-: ثم وقَفْت على حديث صحيح صريح؛ يُخصّص؛ {المساجد} المذكورة في الآية بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النّبوي، والمسجد الأقصى، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا اعتكاف إلاَّ في المساجد الثلاثة" (3).
وقد قال به من السلف فيما اطّلعت: حذيفة بن اليمان، وسعيد بن المسيِّب، وعطاء، إلاَّ أنّه لم يذكر المسجد الأقصى.
وقال غيرهم بالمسجد الجامع مطلقاً، وخالف آخرون فقالوا: ولو في مسجد بيته، ولا يخفى أنّ الأخذ بما وافق الحديث منها هو الّذي ينبغي
__________
(1) أخرجه البيهقي بسند صحيح، وأبو داود بسند حسن.
(2) روى البيهقي عن ابن عباس قال: إِنّ أبغض الأمور إِلى الله البدع، وإنّ من البدع الاعتكاف في المساجد التي في الدور.
(3) أخرجه الطحاوي والإِسماعيلي والبيهقي بإِسناد صحيح عن حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- وهو مخرج في "الصحيحة" (2786)، مع الآثار الموافقة له ... وكلها صحيحة.

(3/354)


المصير إِليه، والله -سبحانه- وتعالى أعلم".
وجاء في "الصحيحة" (6/ 670): "واعلم أنّ العلماء اختلفوا في شرطيّة المسجد للاعتكاف وصِفَته؛ كما تراه مبسوطاً في "المصنَّفَين" المذكورَين (1) و"المُحلّى" وغيرهما.
وليس في ذلك ما يصح الاحتجاج به سوى قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}، وهذا الحديث الصحيح، والآية عامّة، والحديث خاصٌّ، ومقتضى الأصول أنْ يُحمل العام على الخاصّ.
وعليه: فالحديث مخصِّص للآية ومبيِّن لها، وعليه يدلُّ كلام حذيفة وحديثه، والآثار في ذلك مختلفة أيضاً، فالأَوْلى الأخذ بما وافق الحديث منها، كقول سعيد بن المسيِّب: "لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبيّ". أخرجه ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عنه".
3 - لا بد من الصوم في الاعتكاف على الراجح وتقدّم حديث عائشة - رضي الله عنها-: "والسّنة فيمن اعتكف أنْ يصوم".
قال الإِمام ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (2/ 87): "ولم يُنقل عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه اعتكف مفطراً قطّ، بل قد قالت عائشة: "لا اعتكاف إلاَّ بصوم"، ولم يذكر سبحانه الاعتكاف إِلا مع الصوم، ولا فَعَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلا مع الصوم.
__________
(1) يريد شيخنا -رحمه الله تعالى- "مصنف ابن أبي شيبة" و"مصنف عبد الرّزاق" كما في (ص 669).

(3/355)


فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف أنّ الصوم شرط في الاعتكاف، وهو الذي كان يرجِّحه شيخ الإِسلام أبو العباس ابن تيمية" (1).

متى يدخل المعتكَف؟
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يعتكف؛ صلّى الفجر، ثمّ دخَل معتكفه" (2).
وسألْتُ شيخنا -رحمه الله- عن قول بعض الفقهاء؛ في دخوله المعتكف قبل غروب الشمس من يوم، والخروج بعده بيوم؟
فأجاب: نعم جائز؛ والمهمّ أنْ يدخل صائماً.
وقال ابن حزم -رحمه الله-: "ومن نذر اعتكاف يوم أو أيّام مسمّاة، أو أراد ذلك تطوّعاً؛ فإِنّه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبيّن له طلوع الفجر، ويخرج إِذا غاب جميع قرص الشمس؛ سواء كان ذلك في رمضان أو غيره؟
ومن نذر اعتكاف ليلة أو ليال مسمّاة، أو أراد ذلك تطوُّعاً؛ فإِنّه يدخل قبل أنْ يتمّ غروب جميع قرص الشمس؛ ويخرج إِذا تبيّن له طلوع الفجر؛ لأن مبدأ الليل إِثر غروب الشمس، وتمامه بطلوع الفجر، ومبدأ اليوم بطلوع الفجر، وتمامه بغروب الشمس كلّها، وليس على أحد إلاَّ ما التزم أو ما
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله-: "ويترتّب عليه أنّه لا يشرع لمن قصد المسجد للصلاة أو غيرهما أنْ ينوي الاعتكاف مدة لبْثه فيه، وهو ما صرّح به شيخ الإسلام -رحمه الله- في "الاختيارات"".
(2) أخرجه البخاري: 2041، ومسلم: 1173 واللفظ له.

(3/356)


نوى؟ " (1).

ما يستحبّ للمعتكِف (2)
يستحبّ للمعتكف التشاغل بالصّلاة، وتلاوة القرآن، وذِكْر الله تعالى ونحو ذلك من الطاعات المحضة، ويجتنب ما لا يعنيه من الأقوال والأفعال، ولا يكثر الكلام؛ لأنّ من كثُر كلامه كثر سَقطه.
وفي الحديث: "مِنْ حُسن إِسلام المرء ترْكه ما لا يعنيه" (3).
ويجتنب الجدال والمراء والسّباب، والفحش، فإِنّه لا ينبغي في غير الاعتكاف، ففيه أولى.
قال ابن قدامة (4) -رحمه الله-: "فأمّا إِقراء القرآن، وتدريس العلم، ودرسه ومناظرة الفقهاء، ومجالستهم، وكتابة الحديث، ونحو ذلك مما يتعدّى نفْعه؛ فأكثر أصحابنا على أنّه لا يستحبّ، وهو ظاهر كلام أحمد.
وقال أبو الحسن الآمدي: في استحباب ذلك روايتان، واختار أبو الخطاب أنّه مستحبّ إِذا قصد به طاعة الله -تعالى- لا المباهاة وهذا
__________
(1) "المحلّى" (5/ 292) مسألة (636) وذكره السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (1/ 480).
(2) عن كتاب "المغني" (3/ 148) -بتصرف-.
(3) أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1886)، وانظر "شرح العقيدة الطحاوية" (268 و345).
(4) "المغني" (3/ 149).

(3/357)


مذهب الشافعي، لأنّ ذلك أفضل العبادات، ونفْعه يتعدّى، فكان أولى مِن ترْكه كالصلاة.
واحتجّ أصحابنا بأنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف، فلم يُنقَل عنه الاشتغال بغير العبادات المختصَّة به، ولأنّ الاعتكاف عبادة من شرطها المسجد، فلم يُستحبّ فيها ذلك؛ كالطواف (1) انتهى".
وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن هذا.
فقال: "الاعتكاف عبادة محضة، فنحن لا نرى هذا؛ كما ننكر على الأئمّة في شهر رمضان مِن فصْلهم الصلاة وإنشاء استراحة؛ تتخلّلها موعظة أو درس، وهذا كقول القائل: "تقبّل الله" لمن صلّى، فهذه زيادة لم تكن في عهد النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا السلف.
والاعتكاف عبادة محضة؛ صلاة -ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر- (2) وتلاوة قرآن ... إِلخ".
قال ابن قدامة -رحمه الله- في "المغني" (3/ 149) -بتصرف يسير-:
__________
(1) ثمّ أتمّ -رحمه الله- قوله: "وما ذكروه يبطُل بعيادة المرضى وشهود الجنازة، فعلى هذا القول؛ فِعْله لهذه الأفعال أفضل من الاعتكاف".
قلت: وفي هذا الكلام نظر؛ لأنّ ما ذكروه يبطُل بالجماع كذلك، فهل هو خيرٌ من الاعتكاف في كلّ الأحوال؟
وكذلك ما ذكروه يُبطل بالخروج لغير سبب، فهل هذا أيضاً أفضل من الاعتكاف!
ولا يُقال باستحباب المناظرات والتدريس في المعتكف، ونحو ذلك؛ لأنّ لللمعتكِف أن يختار أجر المناظرات والتدريس أو الاعتكاف.
(2) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وقال شيخنا -رحمه الله- في "صحيح =

(3/358)


"وليس من شريعة الإِسلام الصمت عن الكلام، وظاهر الأخبار تحريمه.
قال: قيس بن أبي حازم: "دخل أبو بكر -رضي الله عنه- على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم فقال: ما لها لا تَكلَّمُ؟ قالوا: حجّت مُصمتةً، قال لها: تكلّمي فإِنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية، فتكلّمت" (1).
وعن عليّ -رضي الله عنه- قال: "حفظت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: لا صُمات يوم إِلى الليل" (2).
فإِنْ نذر ذلك في اعتكافه أو غيره، لم يلزمه الوفاء به، وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر، ولا نعلم فيه مخالفاً؛ لما روى ابن عباس قال: بينا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إِذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل، نذر أنْ يقوم ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم.
فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مُرْهُ فليتكلم وليستظلّ، وليقعد وليُتمّ صومه" (3).
ولنا النّهي عنه، وظاهره التحريم، والأمر بالكلام ومقتضاه الوجوب، وقول أبي بكر الصدِّيق -رضي الله عنه-: "إِنّ هذا لا يحلّ، هذا من عمل الجاهلية".
__________
= الترغيب والترهيب" (383): "له شواهد يتقوّى بها؛ فأخرجه الطيالسي وأحمد والحاكم من طريقين عن أبي ذر، وأحمد وغيره، من حديث أبي أُمامة؛ فالحديث حسن إِن شاء الله -تعالى-.
(1) أخرجه البخاري: 3834.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2497).
(3) أخرجه البخاري: 6704.

(3/359)


وهذا صريح ولم يخالِفه أحد من الصحابة؛ فيما علِمناه، واتباع ذلك أولى".

ما يجوز للمعتكف (1):
1 - الخروج من معتكفه لقضاء الحاجة، وأن يُخرج رأسه من المسجد، ليغَسّل ويُسَرَّح.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "وإنْ كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليُدخِل عليَّ رأسه وهو [معتكف] في المسجد، [وأنا في حجرتي] فأُرَجِّلُه، [وفي رواية: فأغسله وإنّ بيني وبينه لعتبة الباب وأنا حائض].
وكان لا يدخل البيت إِلا لحاجة [الإِنسان]، إِذا كان معتكفاً" (2).
وعليه ألا يتوسّع في الخروج، قال أبو زُرعة العراقي -رحمه الله تعالى- بعد هذا الحديث: "لو جاز له الخروج لغير ذلك، لما احتاج إِلى إِخراج رأسه من المسجد خاصّة، ولكان يخرج بجملته؛ ليفعل حاجته من تسريح رأسه في بيته ... " (3).
2 - أن يتوضأ في المسجد، لقول رجلٍ خدَم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "توضّأ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد وضوءاً خفيفاً" (4).
__________
(1) من (1 - 4) من "قيام رمضان" (ص 37) -بتصرف-.
(2) أخرجه البخاري: 295، ومسلم: 297.
(3) قاله في "طرح التثريب" (4/ 177) ونقَله الشيخ علي الحلبي -حفظه الله تعالى- في كتابه النافع "الإِنصاف في أحكام الاعتكاف".
(4) أخرجه البيهقي بسند جيد، وأحمد مختصراً بسند صحيح.

(3/360)


3 - أن يتخذ خيمةً صغيرةً في مؤخرة المسجد يعتكف فيها؛ لأنّ عائشة -رضي الله عنها- "كانت تضرب للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِبَاءً (1) إِذا اعتكف، وكان ذلك بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (2).
و"اعتكف مرّة في قُبَّةٍ تُركيّةٍ (3) على سُدَّتِها (4) حصير" (5).
4 - ويجوز للمرأة أن تزور زوجها وهو في مُعْتكَفه، وأن يُوَدّعها إِلى باب المسجد، لقول صفيّة -رضي الله عنها-: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتكفاً [في المسجد في العشر الأواخر من رمضان] فأتيته أزوره ليلاً، [وعنده أزواجه، فَرُحْن]، فحدّثته [ساعة]، ثم قمت لأنقلب، [فقال: لا تعجلي حتى أنصرف
__________
(1) الخِباء: "أحد بيوت العرب من وبرٍ أو صوف ولا يكون من شَعَر، ويكون على عمودين أو ثلاثة". "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173.
(3) القُبّة من الخيام: بيت صغير مستدير؛ وهو من بيوت العرب. "النهاية". وجاء في "إكمال إِكمال المعلّم" (4/ 132): "هي قُبَّة صغيرة من لِبْد" واللِّبد: هو الشّعر أو الصوف المتلبّد. "الوسيط".
(4) والسُّدّة: كالظلّة على الباب، لتقي الباب من المطر، والمراد أنه وضع قطعة حصيرعلى سُدّتها لئلا يقع فيها نظر أحد؛ كما قال السندي.
قال شيخنا -رحمه الله-: وأولى أن يقال: لكي لا ينشغل بال المعتكف بمن قد يمرّ أمامه تحصيلاً لمقصود الاعتكاف وروحه؛ كما قال الإمام ابن القيّم: "عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشْرة ومجلبة الزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون، والاعتكاف النبوي لون، والله الموفق".
(5) هو طرف من حديث أبي سعيد الخدرى، أخرجه مسلم: 1167.

(3/361)


معك].
فقام معي ليقْلِبَني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد [حتى إِذا كان عند باب المسجد الذي عند باب أمّ سلمة]، فمرّ رجلان من الأنصار، فلمّا رأيا النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسرعا.
فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: على رِسْلكما (1)؛ أنها صفية بنت حُيَيٍّ، فقالا: سبحان الله! يا رسول الله!
قال: إِنّ الشيطان يجري من الإِنسان مجرى الدم، وإنّي خشيت أنْ يقذف في قلوبكما شراً، أو قال: شيئاً" (2).
بل يجوز لها أن تعتكف مع زوجها، أو بمفردها؛ لقول عائشة -رضي الله عنها-: "اعتكَفَتْ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة مستحاضة (وفي رواية: أنّها أمّ سلمة) من أزواجه، فكانت ترى الحُمرة والصُّفرة، فربما وضعنا الطَّسْت تحتها وهي تصلّي" (3).
وقالت أيضاً: "كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفّاه الله، ثمّ اعتكف أزواجه من بعده" (4).
__________
(1) أي: اثبتا ولا تعجلا. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 2035، ومسلم: 2175.
(3) أخرجه البخاري: 2037، وهو مخرَّج في "صحيح سنن أبي داود" (2138)، والرواية الأخرى لسعيد بن منصور كما في "الفتح" (4/ 281) لكن سمّاها الدارمي (1/ 22): "زينب". والله أعلم.
(4) أخرجه البخاري: 2026، ومسلم: 1172، وتقدّم نحوه.

(3/362)


5 - ولا بأس أنْ يأكل المعتكف في المسجد، ويضع سُفرة، يسقط عليها ما يقع منها؛ كيلا يُلوّث المسجد (1).

منْع الرجل أهله من الاعتكاف
للرجل أن يمنع أهله من الاعتكاف، كما في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا أراد أن يعتكف صلّى الفجر، ثمّ دخَل معتكفه، وإنّه أَمَر بخبائه فضُرِب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.
فأمرت زينب بخبائها فَضُرِب، وأمَر غيرُها من أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبائه فضُرب.
فلمّا صلّى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفجر، نظر فإِذا الأخبية، فقال: آلبر (2) تُرِدْن؟ فأمر بخبائه فقوِّض (3) وتَرَك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأوّل من شوال (4) " (5).
__________
(1) "المغني" (3/ 151).
(2) أي: الطاعة.
(3) أي: أُزيل.
(4) وذكر الإمام النووي عدة وجوهٍ ذكَرها القاضي -رحمهما الله تعالى- لمنع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أزواجه -رضي الله عنهن- من ذلك منها: "أنّه كرِه ملازمتهن المسجد؛ مع أنه يجمع النّاس، ويحضره الأعراب والمنافقون، وهنّ محتاجات إِلى الخروج والدخول لما يعرض لهنّ، فيبتذلن بذلك.
أو لأنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآهن عنده في المسجد، وهو في المسجد، فصار كأنّه في منزله بحضوره مع أزواجه، وذهب المهمّ من مقصود الاعتكاف وهو التخلّي عن الأزواج، ومتعلقات الدنيا وشبه ذلك، أو لأنهنّ ضيّقن المسجد بأبنيتهنّ .. ".
(5) أخرجه البخاري: 2033، ومسلم: 1173، واللفظ له.

(3/363)


ما يُبطل الاعتكاف
1 - الارتداد عن الدِّين (1) لقوله تعالى: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} (2).
2 - الجماع، لقوله تعالى: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} (3).
وقال ابن عباس: "إِذا جامع المعتكف بطل اعتكافه، واستأنف (4) " (5).
ولا كفّارة عليه لعدم ورود ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه (6).

فوائد متنوّعة
1 - هناك من يرى أن الخروج اليسير من المسجد يُبطل الاعتكاف، وأنّ الخروج في غير ما سبق ذِكره ينافي الاعتكاف، ولا دليل -فيما علمت- على إِبطاله.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الخروج اليسير، فقال: "لا يبطله ولكنّه
__________
(1) انظر "المغني" (3/ 145).
(2) الزمر: 65.
(3) البقرة: 187.
(4) أي: أعاد اعتكافه.
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 92) وعبد الرزاق بسند صحيح، وانظر "قيام رمضان" (ص 41).
(6) انظر "قيام رمضان" (ص 41).

(3/364)


يقلّل الأجر".
2 - الاستحاضة لا تمنع الاعتكاف؛ لأنها لا تمنع الصلاة ولا الطواف (1).
كما في حديت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "اعتكفَتْ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأهّ مستحاضة (وفي رواية: أنّها أمّ سلمة) من أزواجه، فكانت ترى الحُمرة، والصُّفرة، فربّما وضَعْنا الطَّسْت تحتها وهي تصلّي" (2).
3 - يرى بعض العلماء أنّ ذهاب العقل بجنون ونحوه يبطل الصوم، ولا دليل على هذا.
قال الإِمام الشافعي -رحمه الله- في "الأم" (4/ 385): "وإذا جُنّ المعتكف، فأقام سنين؛ ثم أفاق بنى".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: "الجنون كالنوم، فإِذا أفاق وهو لا يزال في نيّة الاعتكاف، فإِنّه يتمُّ اعتكافه، وكذلك الحيض والنّفاس لا يُبطلان الاعتكاف، ولكنهما يمنعان من الصلاة ولا يمنعان مِن ذِكر الله تعالى".
4 - ويرى عدد من العلماء أن مَن قبّل زوجه؛ لا يفسد اعتكافه إلاَّ أن يُنزل.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن هذا فقال: "حتى الاستثناء لا نقول به، قال الله تعالى: {ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد} (3)، وهذا
__________
(1) انظر "المغني" (3/ 154).
(2) تقدّم قريباً.
(3) البقرة: 187.

(3/365)


التقبيل ولو كان مقروناً بالإِنزال؛ فهو كالتقبيل المقرون بالإِنزال وهو صائم (1)، فهذا لا يفطّر وهذا لا يفطّر، ولكن هل ذلك ممّا يجوز؟
الجواب: لا، ففرق بين الأمرين".
5 - سألت شيخنا عمّا ذكره السيد سابق في "فقه السنّة" عن الإِمام الشافعي -رحمهم الله أجمعين-: إِن لم يكن عليه نذْر اعتكاف أو شيء أوجبه على نفسه، وكان متطوعاً فخرج، فليس عليه قضاء؛ إلاَّ أن يحبّ ذلك اختياراً منه.
وكلّ عمل لك أن لا تدخل فيه، فإِذا دخَلت فيه وخرجْتَ منه؛ فليس عليك أن تقضي إِلا الحجّ والعمرة".
فقال -رحمه الله- مجيباً عن العبارة الأخيرة:
يُقيَّد ذلك بأن لا يكون فرضاً، ولا بدّ من الإِتمام لقوله تعالى: {وأتمّوا الحجّ والعمرة لله} (2). وإذا لم يتيّسر له؛ فكما قال الإِمام -رحمه الله-: "فعليه القضاء".
لكن هنا يحضرني تقييد؛ وهو عدم اشتراطه كما في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اللهمّ
__________
(1) وقد تقدّم رأي أهل العلم في ذلك؛ فأغنى عن الإِعادة، ثم رأيت للإِمام الشافعي -رحمه الله- كلاماً مفيداً في "الأمّ" (4/ 382) برقم (5064): بلفظ: "ولا يفسد الاعتكاف من الوطء؛ إلاَّ ما يوجب الحدّ؛ لا تفسده قبلة ولا مباشرة ولا نظرة؛ أنزل أو لم يُنزل، وكذلك المرأة؛ كان هذا في المسجد أو في غيره".
(2) البقرة: 196.

(3/366)


محلّي حيت حبَستني (1) " (2). فإِذا حصل طارئُ مرض أو كسْر أو نحوه؛ فلا يجب عليه القضاء لأنّه اشترط، هذا إِذا كان حجّ نافلة.
والخلاصة: جواب الإِمام الشافعي -رحمه الله- صحيح، مع ذِكر الاشتراط؛ فإِذا اشترط بقوله: "اللهمّ محلّي حيث حبستني" فلا قضاء عليه.
وسألت شيخنا -رحمه الله- هل يشترط اعتكاف الليالي مع الأيام؟
فأجاب: السُّنّة الأيام مع الليالي، ويجوز اعتكاف الأيام دون الليالي.
-تمّ بحمد الله تعالى-
__________
(1) جاء في "شرح النووي" (8/ 131): " ... فيه دلالة لِمن قال: يجوز أنْ يشترط الحاج والمعتمر في إِحرامه؛ أنّه إِن مرض تحلّل وهو قول عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وآخرين من الصحابة -رضي الله عنهم- وجماعة من التابعين وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الإِمام الشافعي وحجّتهم هذا الحديث الصحيح الصريح.
وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصحّ الاشتراط، وحملوا الحديث على أنها قضيّة عين وأنّه مخصوص بضُبَاعَة" ولعله يأتي -إن شاء الله تعالى- في موضعه.
(2) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207.

(3/367)