الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة بين يدي الإِحرام (1):
يستحب لمن عزم على الحج أو العمرة المفردة؛ أن يغتسل للإِحرام، ولو كانت
حائضاً أو نُفَساءَ.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الحائض والنفساء إِذا أتتا على الوقت؛ تغتسلان وتحرمان،
وتقضيان المناسك كلها؛ غيرَ الطواف بالبيت" (2).
ثمّ يلبس الرجل ما شاء من الألبسة التي لم تفصّل على قدر الأعضاء، وهي
المسماة عند الفقهاء بـ (غير المخيط)، فيلبس الإِزار فيلفُّ به النصف
الأسفل من البدن، والرداء يلف به النصف الأعلى منه، ونحوهما، والنعلين؛
وهما كل ما يلبس على الرجلين لوقايتهما مما لا يستر الكعبين.
ولا يلبس القلنسوة والعمامة ونحوهما مما يستر الرأس مباشرة (3). هذا للرجل.
وأما المرأة؛ فلا تنزع شيئاً من لباسها المشروع؛ إلاَّ أنها لا تشد على
وجهها النقاب (4) والبرقع أو اللثام أو المنديل ولا تلبس القُفَّازين (5)
وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا
__________
(1) عن كتاب "مناسك الحج والعمرة" لشيخنا -رحمه الله- بتصرّف وزيادة.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1534)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (754)، وانظر "الصحيحة" (1818).
(3) وسيأتي بإِذن الله -تعالى-.
(4) قال شيخنا -رحمه الله-: "هو القناع على مارن الأنف، وهو على وجوه: إِذا
أدنَت المرأة نقابها إِلى عينها فتلك الوصوصة، أو البرقع، فإِن أنزلته دون
ذلك إِلى المحْجِر فهو النقاب، فإِن كان على طرف الأنف فهو اللغام. وسمي
نقاب المرأة، لأنه يستر نقابها؛ أي: لونها بلون النقاب. انتهى ملخصاً من
"لسان العرب".
(5) قال شيخنا -رحمه الله-: "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "منسكه" (ص
365): =
(4/315)
يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا
البُرنُس (1)، ولا السراويل، ولا ثوباً مسّه ورس ولا زعفران، ولا الخفين؛
إِلا أن لا يجد نعلين [فيلبس الخُفّين] " (2).
"لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين" (3).
ويجوز للمرأة أن تستر وجهها بشيء؛ كالخمار أو الجلباب؛ تلقيه على رأسها
وتسدله على وجهها، وإِن كان يمس الوجه على الصحيح، ولكنها لا تشدّه عليها؛
كما قال شيخ الإِسلام -رحمه الله تعالى-.
وله أن يلبس الإِحرام قبل الميقات ولو في بيته، كما فعله رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله عنهم-؛ وفي هذا
تيسير على الذين يحجّون بالطائرة، ولا يمكنهم لبس ملابس الإِحرام عند
الميقات، فيجوز لهم أن يصعدوا الطائرة في لباس الإِحرام، ولكنهم لا يُحرمون
إِلا قبل الميقات بيسير حتى لا يفوتهم الميقات وهم غير محرمين.
وأن يدّهن ويتطيب في بدنه بأي طيب شاء؛ له رائحة ولا لون له؛ إِلا النساء؛
فطيبهنّ ما له لون ولا رائحة له.
__________
= "والقفازات: غلاف يصنع لليد كما يفعله حملة البزاة". والبزاة: جمع بازٍ،
وهو نوع من الصقور يستخدم في الصيد.
(1) جاء في "النهاية": "هو كلّ ثوب رأسه منه ملتزق به، من دُرّاعة أو جُبّة
... قال الجوهري: هو قَلَنسُوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإِسلام،
وهو من البِرس -بكسر الباء-: القطن، والنون زائدة. وقيل: إِنه غير عربي".
(2) أخرجه البخاري: 1542، ومسلم: 1177، 1178.
(3) أخرجه البخاري: 1838.
(4/316)
عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال:
"انطلق النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة بعد ما
ترجّل وادّهن ولبس إِزاره ورداءه هو وأصحابه" (1).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كأني انظر إِلى وَبِيص (2) الطّيب في
مفارق (3) رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم" (4).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كنت أُطيِّب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لإِحرامه حين يحرم، ولِحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت"
(5).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: "كنّا نخرج مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مكة؛ فنُضمّد جباهنا بالسُّكِّ (6) المطيَّب عند
الإِحرام، فإِذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلا ينهاها" (7).
وهذا كلّه قبل أن ينوي الإِحرام عند الميقات ويلبّي به. وأمّا بعده فحرام.
الإِحرام ونيّته:
فإِذا جاء ميقاته؛ وجب عليه أن يُحرم، ولا يكون ذلك بمجرد ما في قلبه
__________
(1) أخرجه البخاري: 1545.
(2) الوبيص: البريق واللمعان. "نووي".
(3) مفارق: جمع مَفرِق [بفتح الميم وكسر الراء]، وهو المكان الذي يفترق فيه
الشعر في وسط الرأس. "فتح".
(4) أخرجه البخاري: 1538، ومسلم: 1190.
(5) أخرجه البخاري: 1539، ومسلم: 1191.
(6) السُّكّ: هو طيب معروف؛ يضاف إِلى غيره من الطيب ويُستعمل. "النهاية".
(7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1615).
(4/317)
من قصد الحج ونيّته؛ فإِن القصد ما زال في
القلب منذ خرج من بلده، بل لا بد من قول أو عمل يصير به محرماً، فإِذا لبّى
قاصداً للإِحرام؛ انعقد إِحرامه اتفاقاً (1).
ما يباح للمحرم (2):
1 - الاغتسال لغير احتلام، ودلك الرأس.
عن عبد الله بن حنين: أنّ عبد الله بن العباس والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ
اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله بن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور:
لا يغسل المحرم رأسه، فأرسَلني عبد الله بن العباس إِلى أبي أيوب الأنصاري؛
فوجدته يغتسل بين القرنين؛ وهو يستتر بثوب، فسلّمت عليه، فقال: من هذا؟
فقلت: أنا عبد الله ابن حنين، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك: كيف
كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغسل رأسه وهو محرم؟
فوضع أبو أيوب يده على الثوب؛ فطأطأه حتى بدا لي رأسه؛ ثمّ قال لإِنسان
يصُبُّ عليه: اصبُبْ؛ فَصَبَّ على رأسه، ثمّ حرّك رأسه بيديه فأقبل بهما
وأدبر، وقال: هكذا رأيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل" (3).
وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك أبداً" (4).
__________
(1) وهكذا لا تكفي النيّة؛ كما كان يعلمنا شيخنا -رحمه الله-؛ بل لا بُدّ
من العمل، ولا يجزئ عن الإنسان نيّة إِيمانه دون التلفُّظ بالشهادتين
والإِيمان بما يجب الإيمان به؛ مع ما يتبعه من العمل.
(2) من (1 - 6) عن كتاب "حجة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-" لشيخنا -رحمه الله - بتصرّف.
(3) أخرجه البخاري: 1840، ومسلم: 1205.
(4) أخرجه مسلم: 1205.
(4/318)
وعن ابن عباس قال: "ربما قال لي عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- ونحن محُرمون بالجحفة: تعالَ أباقيك أيُّنا أطول
نفساً في الماء" (1).
وعن عبد الله بن عمر: أن عاصم بن عمر وعبد الرحمن بن زيد وقعا في البحر
يتمالقان (2)؛ يغيِّب أحدهما رأس صاحبه، وعمر ينظر إِليهما، فلم ينكر ذلك
عليهما".
2 - حكّ الرأس والجسد، ولو سقط منه بعض الشعر، وحديث أبي أيوب المتقدّم
آنفاً دليل عليه. وعن أمّ علقمة بن أبي علقمة أنها قالت: سمعت عائشة زوج
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُسأل عن المحرم: أيحك
جسده؟ فقالت: نعم؛ فليحكه وليشدُد، ولو رُبِطت يداي، ولم أجد إِلا رجلي
لحككت (3).
ولم ير ابن عمر وعائشة -رضي الله عنهم- بالحكّ بأساً (4).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "المجموعة الكبرى" (2/ 368): "وله أن يحك
بدنه إِذا حكَّه، وكذلك إِذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك؛ لم يضره".
__________
(1) أخرجه الشافعي وغيره، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وانظر "الإِرواء"
(1021).
(2) أي: يتغاطسان.
(3) أخرجه مالك، وسنده حسن في الشواهد.
(4) رواه البخاري معلقاً "كتاب الصيد" (باب الاغتسال للمحرم)، وانظر
"الفتح" (4/ 55).
(4/319)
3 - الاحتجام ولو بحلق الشعر مكان الحجم؛
لحديث ابن بُحينة -رضي الله عنه- قال: "احتجم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم بـ (لَحْيَيْ جمل) (1) في وسط رأسه" (2).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في "مناسكه" (2/ 338): "وله أن يحك بدنه إِذا
حكه، ويحتجم في رأسه وغير رأسه، وإِن احتاج أن يحلق شعر الذّكر جاز؛ فإِنّه
قد ثبت في "الصحيح" ... " ثمّ ساق هذا الحديث، ثمّ قال: ولا يمكن ذلك إِلا
مع حلق بعض الشعر، وكذلك إِذا اغتسل وسقط شيء من شعره بذلك؛ لم يضره، وإن
تيقن أنه انقطع بالغسل".
وهذا مذهب الحنابلة؛ كما في "المغني" (3/ 306)، ولكنه قال: "وعليه الفدية".
وبه قال مالك وغيره.
ورده ابن حزم بقوله: (7/ 257) -عقب الحديث-: "لم يخبر -عليه السلام- أن في
ذلك غرامة ولا فدية، ولو وجبت لما أغفل ذلك، وكان -عليه السلام- كثير الشعر
أفرع (3) وإنما نهينا عن حلق الرأس في الإِحرام".
4 - شم الريحان وطرح الظفر إِذا انكسر.
قال ابن عباس -رضي الله عنه-: والمحرم يدخل الحمام، وينزع ضرسه، ويشم
الريحان، وإذا انكسر ظفره طرحه، ويقول: أميطوا عنكم الأذى، فإِن الله -عزّ
وجلّ- لا يصنع بأذاكم شيئاً (4).
__________
(1) موضع بصريق مكّة.
(2) أخرجه البخاري: 1836، ومسلم: 1203.
(3) الأفرع: التام الشعر.
(4) رواه البيهقي بسند صحيح، وانظر "مختصر البخاري" (1/ 365).
(4/320)
إِلى هذا ذهب ابن حزم (7/ 246). وروى مالك
عن محمد بن عبد الله ابن أبي مريم: أنه سأل سعيد بن المسيب عن ظفر له انكسر
وهو محرم؟ فقال سعيد: اقطعه.
5 - الاستظلال بالخيمة أو المظلة (1) (الشمسية) وفي السيارة.
ورفع سقفها من بعض الطوائف تشدد، وتنطع في الدين، لم يأذن به رب العالمين،
فقد صحّ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بنصْب
القُبَّة له بـ (نمرة)، ثمّ نزل بها (2).
وعن أمّ الحصين -رضي الله عنها- قالت: "حججتُ مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجّة الوداع، فرأيت أسامة وبلالاً؛ وأحدهما
آخذ بخطام ناقة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر
رافعٌ ثوبَه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة" (3).
6 - وله أن يشد المنطقة والحزام على إِزاره، وله أن يعقده عند الحاجة، وأن
__________
(1) وأما ما روى البيهقي عن نافع قال: أبصر ابن عمر -رضي الله عنه- رجلاً
على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس، فقال له: ضح لمن أحرمت له.
وفي رواية من طريق أخرى: أنه رأى عبد الله بن أبي ربيعة جعل على وسط راحلته
عوداً، وجعل ثوباً يستظل به من الشمس وهو محرم، فلقيه ابن عمر فنهاه!
قال شيخنا -رحمه الله-: "فلعل ابن عمر -رضي الله عنه- لم يبلغه حديث أم
الحصين المذكور؛ وإلا فما أنكره هو عين ما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك قال البيهقي: "هذا موقوف، وحديث أم الحصين
صحيح". يعني: فهو أولى بالأخذ به، وترجم له بقوله: "باب المحرم يستظل بما
شاء ما لم يمس رأسه" ... ".
(2) وسيأتي -إِن شاء الله تعالى-.
(3) أخرجه مسلم: 1298.
(4/321)
يتختم، وأن يلبس ساعة اليد، ويضع النظارة؛
لعدم النهي عن ذلك، وورود بعض الآثار بجواز شيء من ذلك.
فعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنها سُئلت عن الهِميان (1) للمحرم؟ فقالت:
وما بأس؟ ليستوثق من نفقته" (2).
قال عطاء: يتختمّ ويلبس الهِميان" (3).
قال شيخنا -رحمه الله-: "ولا يخفى أن الساعة والنظارة في معنى الخاتم
والمنطقة، مع عدم ورود ما ينهى عنهما، {وما كان ربك نسيًّا} (4) {يريد الله
بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولِتُكملوا العِدّةَ ولتكبروا الله على ما
هداكم ولعلكم تشكرون} (5).
7 - تبديل الرداء والإِزار.
قال إِبراهيم النَّخعِيُّ: "لا بأس أن يبدل ثيابه" (6).
__________
(1) الهِميان -بكسر الهاء-: معرّب، يشبه تكّة السراويل، يجعل فيها النفقة
ويشدّ في الوسط. "فتح" (3/ 397).
(2) وسنده صحيح.
(3) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحج" "باب الطيب عند الإِحرام"، وانظر
"الفتح" (3/ 396).
(4) مريم: 64.
(5) البقرة: 185.
(6) رواه البخاري معلقاً "كتاب الحج" (باب - 23)، وانظر "الفتح" (3/ 405).
(4/322)
8 - نقض الشعر وتمشيطه.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قدمت مكة وأنا حائض، لم أطف بالبيت ولا
بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: انقُضي رأسك وامتشطي" (1).
9 - لُبس الخُفّين للمحرم إذا لم يجد النعلين، والسراويل لمن لم يجد
الإِزار.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "سمعت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب بعرفات: مَن لم يجد النعلين؛ فليلبس الخُفّين،
ومن لم يجد إِزاراً؛ فليلبس سراويلَ؛ للمُحرم" (2).
وفي رواية: " .. وإن لم يجد نعلين فليلبس الخفّين، وليقطعْهما حتى يكونا
أسفل من الكعبين" (3).
جاء في "مناسك الحج والعمرة" (ص 13): "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في
"منسكه": "وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقطع أولاً؛ ثمّ رخص بعد ذلك في عرفات
في لبس السراويل لمن لم يجد إِزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين،
هذا أصح قولي العلماء".
10 - قتل القمل.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رجلاً أتاه فقال: إِني قتلت
__________
(1) أخرجه مسلم: 1211.
(2) أخرجه البخاري: 1841، ومسلم: 1178.
(3) أخرجه البخاري: 1842، ومسلم: 1177.
(4/323)
قملة وأنا محرم؟ فقال ابن عمر -رضي الله
عنه-: أهون قتيل" (1).
وعن ميمون بن مهران قال: كنت عند ابن عباس -رضي الله عنهما- وسأله رجل
فقال: أخذْتُ قملةً فألقيتها، ثمّ طلبتُها، فلم أجدها، فقال له ابن عباس -
رضي الله عنهما-: تلك ضالة لا تبتغى" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قتل القملة: " .. وما نُهيتُم إِلا عن
قتل الصيد" (3).
11 - قتْل الفواسق الخمس ونحوها.
عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "خمس من الدواب كلهنّ فاسق (4) يُقْتَلْن في الحرم:
الغراب والحِدَأة (5) والعقرب والفأرة والكلب
__________
(1) أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إِسناد جيد رجاله كلهم
ثقات رجال البخاري". وانظر "الإِرواء" (1034).
(2) أخرجه الشافعي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا سند صحيح، وانظر
"الإرواء" (1035) ".
(3) أخرجه البيهقي. وقال شيخنا -رحمه الله-: "وإسناده جيد". وانظر
"الإِرواء" (1035).
(4) قال الإِمام النووي -رحمه الله- (8/ 114): "وأمّا تسمية هذه المذكورات
فواسق؛ فصحيحة جارية على وفْق اللغة، وأصْل الفسْق في كلام العرب: الخروج،
وسمّي الرجل الفاسق لخروجه على أمر الله -تعالى- وطاعته، فسمّيت هذه فواسق
لخروجها -بالإِيذاء والإِفساد- عن طريق معظم الدواب. وقيل: لخرجها عن حكم
الحيوان في تحريم قتْله في الحرم والإِحرام".
(5) الحِدَأة: طائر من الجوارح.
(4/324)
العَقور (1) " (2).
وفي لفظ: "الحية" (3).
12 - دفْع الصائل من الآدمييّن.
يجوز للمحرم أن يدفع عن نفسه أذى الآدمييّن؛ سواءً كان هذا الإِيذاء في
العرض أو المال أو النفس.
عن سعيد بن زيد عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "من
قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله أو دون دمه، أو دون دينه فهو
شهيد" (4).
*13 - ولا بأس من المجادلة بالتي هي أحسن حين الحاجة؛ فإِنّ الجدال المحظور
في الحجّ؛ إِنما هو الجدال بالباطل المنهي عنه في غير الحج أيضاً؛ كالفسق
المنهي عنه في الحج أيضاً؛ فهو غير الجدال المأمور به في مثل قوله -تعالى-:
{ادع إِلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي
__________
(1) العقور والعاقر: الجارح، قال الإِمام النووي -رحمه الله-: "واختلفوا في
المراد به [أي: الكلب العقور]: فقيل: هذا الكلب المعروف خاصة حكاه القاضي
عن الأوزاعي وأبي حنيفة والحسن بن صالح وألحقوا به الذئب وحمَل زفر معنى
الكلب على الذئب وحده. وقال جمهور العلماء: ليس المراد بالكلب العقور تخصيص
هذا الكلب المعروف، بل المراد هو كل عادٍ مفترس غالباً؛ كالسبع والنمر
والذئب والفهد نحوها ... ".
(2) أخرجه البخاري: 1829، ومسلم: 1198.
(3) أخرجه مسلم: 1198.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1148) وغيرهما، وانظر "الإِرواء" (708).
(4/325)
أحسن}، ومع ذلك فإِنه ينبغي على الداعية أن
يلاحظ أنه إذا تبين له أنه لا جدوى من المجادلة مع المخالف -لتعصبه لمذهبه
أو رأيه- وأنه إِذا صابره في الجدال؛ فلربما ترتب عليه ما لا يجوز أنه من
الخير له حينئذ؛ أن يدَع الجدال معه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة (1) لمن ترك المراء وإن كان
مُحقّاً ... " الحديث (2) * (3).
محظورات الإِحرام (4):
1 - لباس المخيط، وهو ما كان على قدْر العضو؛ كالقميص والبرنس (5)
والسراويل والعمامة ونحوها.
وكذلك يحرم لُبس الثوب الذي مسّه ورس -وهو نبت أصفر يُصبغ به- أو زعفران.
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "يا رسول الله! ما يلبس المحرم
من الثياب؟ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يلبس
القُمُصَ ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانِس ولا الخفاف؛ إِلا أحد لا
يجد نعلين؛ فليلبس خفين وليقطعهما
__________
(1) ما حولها خارجاً عنها، تشبيهاً بالأبنية التي تكون حول المدن وتحت
القلاع. "النهاية".
(2) أخرجه أبو داود وغيره، وهو حديث حسن، خرّجه شيخنا -رحمه الله- في
"الصحيحة" (273).
(3) ما بين نجمتين من "مناسك الحج والعمرة" (ص 8).
(4) من "فقه السنة" بتصرّف وزيادة.
(5) البُرنس: كلّ ثوب رأسه منه ملتزَق به. "النهاية".
(4/326)
أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب
شيئاً مسّه زعفران أو ورس" (1).
أمّا المرأة؛ فإِنها تلبس جميع ذلك، ولكن يَحْرم عليها الثوب -الذي مسّه
الطيب- والنقاب والقفازان.
قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق على "الروضة الندية": "وأما سدْلها على
وجهها فجائز، وهو غير التنقيب، والتسوية بينهما خطأ، كما بيّنه ابن القيم
في "إِعلام الموقّعين" (1/ 269) ".
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تنتقب (2) المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين (3) "
(4).
وعنه -رضي الله عنه-: أنّه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى النساء في إِحرامهن عن القفازين، والنقاب، وما مس الورس
والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب؛ مُعَصفراً
أو خزّاً (5)، أو حلياً أو سراويل أو قميصاً أو خفاً" (6).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1542، ومسلم: 1177، وتقدّم.
(2) النقاب، قال الحافظ: "الخمار الذي يشدّ على الأنف، أو تحت المحاجر.
والمحاجر: جمع مَحجر: ما أحاط بالعين".
(3) شيء يلبسه نساء العرب في أيديهنّ، يغطّي الأصابع والكف والساعد من
البرد، ويكون فيه قطن محشو. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1838، وتقدّم.
(5) الخَزّ: ثياب تُنسج من صوف وإبْرَيسَم. "النهاية". والإِبرَيسَم:
الحرير.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1612).
(4/327)
ولبست عائشة -رضي الله عنها- الثياب
المعصفرة (1) وهي محرمة، وقالت: لا تَلَثَّمْ ولا تتبرقعْ (2)، ولا تلبس
ثوباً بورس ولا زعفران.
وقال جابر: لا أرى المعصفر طيباً.
ولم تر عائشة بأساً بالحُلي والثوب الأسود والمورّد والخُفّ للمرأة (3).
ومن لم يجد الإِزار والرداء؛ فله أن يلبس السراويل.
ولا يلبس الخُفّين؛ إِلا إِذا لم يجد النعلين؛ فليقطعهما حتى يكونا أسفل من
الكعبين، وتقدّم دليل هذا في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
جاء في "مناسك الحج والعمرة" (ص 12): "قال شيخ الإِسلام ابن تيمية في
"منسكه": وليس عليه أن يقطعهما دون الكعبين؛ فإِن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالقطع أولاً، ثمّ رخصّ بعد ذلك في عرفات في لبس
السراويل لمن لم يجد إِزاراً، ورخص في لبس الخفين لمن لم يجد نعلين، هذا
أصح قولي العلماء" ... ". انتهى. وتقدّم.
قلت: يشير -رحمه الله- إِلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: خطبنا
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات فقال: "من لم يجد
الإِزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النّعلين فليلبس الخُفين" (4).
__________
(1) عصْفر الثوب وغيره: صبغه بالعُصفر. "الوسيط".
(2) أي: تلبس البُرقع، وهو قناع فيه خرَقان للعينين.
(3) رواه البخاري معلقاً في "كتاب الحج" (23 - باب ما يلبس المحرم من
الثياب ... )، وانظر "الفتح" (3/ 405) لبيان وصْل هذين الأثرين.
(4) أخرجه البخاري: 1843، ومسلم: 1178.
(4/328)
قال الحافظ -رحمه الله-: "وجزم المصنف
بالحكم في هذه المسألة دون التي قبلها؛ لقوة دليلها، وتصريح المخالف بأن
الحديث لم يبلغه، فيتعين على من بلغه العمل به".
2 - الجماع ودواعيه؛ كالتقبيل، واللمس بشهوة، وخطاب الرجل المرأة فيما
يتعلّق بالوطء.
3 - اقتراف المعاصي والمنكرات.
4 - المخاصمة والمجادلة مع الرفقاء والخدم وغيرهم.
والأصل تحريم هذه الأمور في غير الحجّ؛ وهي ها هنا آكد، ولبيان خطرها في
الحجّ.
ودليل ما تقدّم قوله -تعالى- {فمن فرَض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا
جدال في الحج} (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "الرفث: الإِعرابة (2) والتعريض للنساء
بالجماع. والفسوق: المعاصي كلّها. والجدال: جدال الرجل صاحبه" (3).
*وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث: الجماع وما دونه من قول الفحش.
__________
(1) البقرة: 197.
(2) الإعرابة: الإِفحاش في القول والرفث: اسم موضوع من التعريب والإِعراب،
يقال: عرّب وأعرب: إِذا أفحش، وقيل: أراد به الإيضاح والتصريح بالهجْرِ مْن
الكلام. "النهاية" بحذف يسير.
(3) أخرجه الطبراني في "الكبير"، والضياء في "المختارة"، وهو ثابت موقوفاً،
ضعيف مرفوعاً، وانظر "الضعيفة" (1313).
(4/329)
وقال طاوس: هو أن تقول للمرأة: إِذا حلَلْت
أصبتك.
وقال ابن عباس وابن عمر -رضي الله عنهم-: الرفث: غشيان النساء.* (1)
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون أنّ لمس الزوجة بشهوة من محظورات
الإِحرام؟
فأجاب: "إِنه محظورٌ لغيره، من باب سدّ الذريعة".
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُجّاجاً، حتى إِذا كنا بالعرْج؛ نزل رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونزلنا، فجلست عائشة إِلى جنب
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وجلست إِلى جنب أبي،
وكانت زِمالة (2) أبي بكر وزمالة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - واحدة مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه،
فطلع وليس معه بعيره، قال: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال: فقال أبو
بكر: بعير واحد تُضله؟ قال: فطفق يضربه ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبسم، ويقول: انظروا إِلى هذا المحرم ما يصنع! قال
ابن أبي رِزْمَةَ: فما يزيد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- على أن يقول: انظروا إِلى هذا المحرم ما يصنع! ويتبسم" (3).
وهذا ليس فيه إِقرار؛ بل هو كهيئة الإِنكار اللطيف، كما قال الحافظ ابن
كثير -رحمه الله- في تفسيره.
لذلك جاء في "سنن ابن ماجه" تحت (باب التوقّي في الإِحرام).
__________
(1) ما بين نجمتين من "تفسير ابن كثير".
(2) زِمالة؛ أي: مركوبُهما وأداتهما وما كان معهما في السفر. "النهاية".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1602) وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2373) وغيرهما.
(4/330)
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل يفهم من
الحديث السابق جواز تأديب الخادم ونحوه، كما قال بعضهم؟
فقال: "لا بل هو للإِنكار".
5 - عقْد النّكاح لنفسه أو لغيره، بولايةٍ أو وكالة.
عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يَنِكحُ المحرم ولا يُنكَح ولا يخطُب" (1).
وأمّا ما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم" (2).
فهو معارض بما ورد عن يزيد بن الأصمّ -رضي الله عنهما-: حدثتني ميمونة بنت
الحارث -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال" (3)!
قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر مسلم" (ص 212): "والحديث [أي: تزوج ميمونة
وهو مُحْرِم] شاذ عند المحقّقين؛ لمخالفته للحديث الذي بعده [أي: حديث يزيد
بن الأصمّ] انظر مقدّمة "آداب الزفاف" ... وقد أشار الإِمام الشافعي في
"الأم" (5/ 160) إِلى شذوذه فراجعه؛ فإِنّه مهمّ".
وسألت شيخنا -رحمه الله- هل ترون بطلان عقْد نكاح المحرم؟
__________
(1) أخرجه مسلم: 1409.
(2) أخرجه البخاري: 1837، ومسلم: 1410.
(3) أخرجه مسلم: 1411.
(4/331)
فقال: "نعم؛ نكاحه باطل".
ويرى صديق خان صاحب "الروضة" عدم بطلان الحج بالجماع قبل وقوف عرفة.
وردّ عليه شيخنا -رحمه الله- متعقباً: "قلت: قد نقل الحافظ في "الفتح" (4/
42) الإِجماع على إِفساد الحج والعمرة بالجماع، وسبقه إِلى ذلك ابن حزم في
"مراتب الإِجماع" (ص 42)، وقيده بأن يكون ذاكراً؛ ما لم يَقْدم المعتمر
مكة، ولم يأت وقت الوقوف بعرفة للحاج.
ولم يتعقبه شيخ الإِسلام بشيء؛ فالظاهر صحة هذا الإِجماع، فإِذا صحّ؛ فهو
الدليل على الفساد، والله أعلم".
ثمّ أشار شيخنا إِلى ما ذكره شيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- في "رسالة
الصيام" حول ذلك.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون إِبطال حج أو عمرة من جامع أهله (1)؟
فأجاب -رحمه الله-: "نعم".
6 - تقليم الأظفار وإِزالة الشعر أو غيره بالحلق أو القصّ أو بأي طريقة.
قال الله -تعالى-: {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي مَحِلَّهُ} (2).
قال ابن المنذر: "وأجمعوا على أنّ المحرم ممنوع من ... أخْذ الشعر وتقليم
__________
(1) يعني: قبل التحلُّل المعروف.
(2) البقرة: 196.
(4/332)
الأظفار" (1).
وتقدّم جواز طرح الظفر إِذا انكسر.
ويجوز إِزالة الشعر إِذا تأذّى ببقائه، مع وجوب الفدية؛ لقول الله -تعالى-:
{فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نُسُك}
(2).
وسيأتي التفصيل بإِذن الله -تعالى-.
7 - التطيّب في الثوب أو البدن سواءً أكان رجلاً أم امرأة.
عن صفوان بن يعلى: أنّ يعلى قال لعمر -رضي الله عنه-: "أرني النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين يوحى إِليه، قال: فبينما النّبيُّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعرانة -ومعه نفر من أصحابه-؛
جاءه رجل فقال: يا رسول الله! كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو مُتَضَمِّخٌ
بطيب؟ فسكت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساعة، فجاءه
الوحي، فأشار عمر -رضي الله عنه- إِلى يعلى، فجاء يعلى؛ وعلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوب قد أُظِلّ (3) به، فأدخل رأسه؛
فإِذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْمَرُّ الوجه
وهو يَغِطُّ (4)، ثمّ سُرًّي (5) عنه فقال:
__________
(1) "الإِجماع" (ص 49).
(2) البقرة: 196.
(3) أي: جُعل عليه كالظلّة. "فتح".
(4) يَغِطّ؛ أي: ينفخ. والغطيط: صوت النفس المتردّد من النائم أو المغمى،
وسبب ذلك شدّة ثِقل الوحي. "فتح".
(5) سُرّي عنه: أي؛ أُزيل ما به وكشف عنه؛ والله أعلم. "نووي".
(4/333)
أين الذي سأل عن العمرة؟ فأُتي برجلٍ فقال:
اغسل الطّيب الذي بك ثلاث مراتٍ، وانزع عنك الجُبة، واصنع في عمرتك كما
تصنع في حجتك" (1).
وفي رواية: "اغسل عنك أثر الصُّفرة -أو قال: أثر الخلوق (2) -" (3).
وإذا مات المحرم؛ فإِنّه لا يوضع الطيب في غسْله ولا في كفنه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنّ رجلاً وقَصه (4) بعيره -ونحن مع النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -- وهو محرم، فقال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا
تُمسوه طيباً، ولا تخمروا (5) رأسه؛ فإِن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً"
(6).
وتقدّم جواز شم الريحان ونحوه للمحرم.
8 - لبس الثوب الذي مسّه ورس أو زعفران أو نحو ذلك.
للحديث المتقدّم: "ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسّه زعفران أو ورس".
التعرض للصيد (7):
يجوز للمحرم أن يصيد صيد البحر، وأن يتعرض له، وأن يشير إِليه، وأن
__________
(1) أخرجه البخاري: 1536، ومسلم: 1180، وتقدّم.
(2) الخلوق: نوع من الطيب مركّب فيه الزعفران. "فتح".
(3) أخرجه مسلم: 1180.
(4) الوقْص: كسر العنق. "النهاية".
(5) أي: تغطّوا.
(6) أخرجه البخاري: 1267، ومسلم: 1206.
(7) عن "فقه السّنّة" (1/ 678) -بتصرّف-.
(4/334)
يأكل منه.
ويحرم التعرّض لصيد البرِّ بالقتل أو الذبح، أو الإِشارة إِليه، وإنْ كان
مرئيّاً، أو الدلالة عليه؛ إِنْ كان غير مرئي، أو تنفيره.
والدليل على هذا قول الله -تعالى-: {أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه (1) متاعاً
لكم وللسيارة (2) وحُرّم عليكم صيد البَرّ ما دمتم حُرُماً} (3).
الأكل من الصيد (4):
يحرُم على المحرم الأكل من صيدَ البر الذي صيد من أجله، أو صيد بإِشارته
إِليه، أو بإِعانته عليه.
عن أبي قتادة: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج
حاجّاً فخرجوا معه، فصرَف طائفة منهم فيهم أبو قتادة فقال: خُذوا ساحل
البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلمّا انصرفوا أحرموا كُلُهم إِلا أبا
قتادة (5) لم يُحرم، فبينما هم يسيرون؛ إِذ رأوا حُمُر وحش، فحمل أبو قتادة
على الحُمُر فعقر منها أتاناً (6)، فنزلوا
__________
(1) وطعامه: ما لفَظه ميِّتاً. " تفسير ابن كثير".
(2) السيّارة: جمْع سيّار. وقال عكرمة: لمن كان بحضرة البحر ... "تفسير ابن
كثير" أيضاً.
(3) المائدة: 96.
(4) عن "فقه السّنّة" (1/ 678) بتصرّف.
(5) كذا للكشميهني. ولغيره: "إلاَّ أبو قتادة" بالرفع، وانظر "الفتح"
للمزيد من الفوائد اللغوية.
(6) الأتان: الحمار؛ يقع على الذكر والأنثى، والأتان الحمارةُ الأنثى خاصة.
"النهاية".
(4/335)
فأكلوا من لحمها، وقالوا: أنأكل لحم صيدٍ
ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان، فلمّا أتوا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: يا رسول الله! إِنّا كنّا أحرمنا، وقد
كان أبو قتادة لم يحرم، فرأينا حُمُر وحَش، فحمل عليها أبو قتادة، فعقر
منها أتاناً، فنزلنا فأكلنا من لحمها، ثمّ قلنا: أنأكل لحم صيد ونحن
محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، قال: منكم أحدٌ أمره أن يحمل عليها، أو
أشار إِليها؟ قالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمها" (1).
ويجوز له أن يأكل من لحم الصيد الذي لم يَصِدْه هو، أو لم يُصَدْ من أجله
أو لم يُشر إِليه، أو يُعِنْ عليه للحديث السابق: " ... منكم أحدٌ أمره أن
يحمل عليها أو أشار إِليها؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها".
وعن عثمان التيميّ قال: كنّا مع طلحة بن عبيد الله ونحن حُرُم، فأُهدي له
طير وطلحة راقد؛ فمنّا من أكل، ومنّا من تورع، فلمّا استيقظ طلحة وفَّقَ
(2) من أكله، وقال: أكلناه مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -" (3).
قال الترمذي -رحمه الله-: "والعمل على هذا عند أهل العلم؛ لا يَرون بأكل
الصيد للمحرم بأساً، إِذا لم يصده أو يُصَد من أجله".
وما جاء في الأحاديث المانعة مِن أكل لحم الصّيد؛ فهي محمولة على ما صادَه
الحلال من أجل المحرم؛ جمعاً بين الأحاديث، كحديث الصعب بن جَثّامة
__________
(1) أخرجه البخاري: 1824، ومسلم: 1196.
(2) أي: دعا له بالتوفيق، واستصوَب فعِله.
(3) أخرجه مسلم: 1197.
(4/336)
الليثي: أنه أهدى لرسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حماراً وحشيّاً وهو بالأبواء (1) -أو بودَان
(2) - فردّه عليه، فلمّا رأى ما في وجهه قال: إِن لم نردّه عليك إِلا أنّا
حُرُم (3) " (3).
جواز حلق الرأس للمحرم إِذا كان به أذى، ووجوب الفدية عليه (4):
عن كعب بن عُجرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أنّه قال: "لعلك آذاك هوامُّك (5)؟ قال: نعم يا رسول الله!
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احلق رأسك، وصم
ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسُك بشاة" (6).
وفي رواية: "وقف عَليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالحديبية؛ ورأسي يتهافت قملاً (7).
فقال: يُؤذيك هوامّك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك -أو قال: احلق- قال: فيّ
نزلت هذه الآية: {فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ... } إِلى
آخرها، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: صم ثلاثة
أيام، أو تصدّق بفرق (8) بين ستةٍ، أو انسُك
__________
(1) مكانان بين مكة والمدينة.
(2) أي: محرمون.
(3) أخرجه البخاري: 1825، ومسلم: 1193.
(4) هذا العنوان من تبويب الإِمام النووي -رحمه الله- لـ "صحيح مسلم".
(5) الهوامّ: جمع هائة، وهو ما يدبّ من الحشرات. وقال النووي -رحمه الله-:
القمل.
(6) أخرجه البخاري: 1814، ومسلم: 1201.
(7) يتهافت قملاً؛ أي: يتساقط شيئاً فشيئاً. "فتح".
(8) فرْق: بفتح الراء وإسكانها، لغتان. قال الحافظ في "الفتح": " .. ووقع
في رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عند أحمد وغيره: "والفَرَق ثلاثة آصع".
ولمسلم [1201] من طريق أبي قلابة عن ابن أبي ليلى: "أو أطعم ثلاثة أرطال من
تمر على ستة مساكين". =
(4/337)
بما تيسّر" (1).
وفي رواية: "تجد شاة؟ فقلت: لا. فقال: فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين،
لكل مِسكين نصف صاع" (2).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 231) -بحذف-: " .. لكن رواه
الدارقطني (288) بلفظ: "أمعك نسك؟ قال: لا. قال: فإِن شئت فصم ... "
الحديث. وهو رواية لأبي داود (1858).
فهذا يدل على أن التخيير إِنما كان بعد أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِياه بالنسيكة، واعتذر كعب بأنّه لا يجدها، ويشهد له ما يأتي:
1 - عن عبد الله بن معقل قال: "قعدت إِلى كعب -رضي الله عنه- وهو في
المسجد، فسألته عن هذه الآية: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك}؟ فقال كعب
-رضي الله عنه-: نزلت فيَّ؛ كان بي أذى من رأسي، فحُملت إِلى رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ما كنت
أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى! أتجد شاة؟ فقلت: لا. فنزلت هذه الآية: {ففدية
من صيام أو صدقة أو نسك}. قال: صوم (وفي رواية: فصم) ثلاثة أيام، أو إِطعام
(وفي الرواية الأخرى: أو أطعم) ستة مساكين نصف صاع طعاماً لكل مسكين. قال:
فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامّة".
__________
= وإذا ثبت أن الفَرَق ثلاثة آصع؛ اقتضى أن الصاع خمسة أرطال وثلث؛ خلافاً
لمن قال: إِنّ الصاع ثمانية أرطال".
(1) أخرجه البخاري: 1815، ومسلم: 1201.
(2) أخرجه البخاري: 1816.
(4/338)
أخرجه البخاري (1/ 454) ومسلم (4/ 21 - 22)
والسياق له والترمذي ...
2 - عن محمد بن كعب القُرَظي عن كعب بن عجرة قال: "أمَرني رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثمّ
أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به".
أخرجه الشافعي (1017) وابن ماجه (3080). وإسناده حسن.
أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتمتع:
إِذا أراد المرء الإِحرام: فإِن كان قارناً قد ساق الهدي؟ قال: "لبيك
اللهم! بحجة وعمرة".
وإِن لم يسُق الهدي -وهو الأفضل-؛ لبّى بالعمرة وحدَها ولا بد، فقال: "لبيك
اللهم! بعمرة".
فإِن كان لبّى بالحج وحده؛ فسخه وجعلَه عمرة؛ لأمر النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقوله: "دخلت العمرة في الحج إِلى يوم
القيامة"؛ وشبك بين أصابعه" (1).
وقوله: "يا آل محمد! من حج منكم؛ فليهل بعمرة في حَجّة" (2)، وهذا هو
التمتع بالعمرة إِلى الحج".
__________
(1) أخرجه مسلم: 1218، وأبو داود وغيرهما، ولفظ مسلم: " .. لا بل لأبدٍ
أبدٍ"، وانظر "الإِرواء" (982).
(2) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار"، وابن حبّان، وأحمد وغيرهم، وصححه
شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2469).
(4/339)
الاشتراط:
وإن أحبّ قَرَن مع تلبيته الاشتراط على ربه -تعالى- خوفاً من العارض من مرض
أو خوف، فيقول كما جاء في تعليم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "اللهمّ! محِلّي حيث حبستني" (1)؛ فإِنه إِن فعل ذلك، فحبس أو
مرض؛ جاء له التحلّل من حجه أو عمرته، وليس عليه دم ولاحج من قابل؛ إِلا
إِذا كانت حجة الإِسلام، فلا بُدّ من قضائها.
يشير شيخنا -رحمه الله- بهذا الحديث إِلى حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت:
"دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ضُبَاعة بنت
الزبير فقال لها: لعلك أردت الحج؟!
قالت: والله لا أجدني إِلا وجعة، فقال لها: حُجي واشترطي، قولي: اللهم!
محِلّي حيث حبستني؛ وكانت تحت المقداد بن الأسود" (2).
جاء في "شرح النووي" (8/ 131): " .. فيه دلالة لمن قال: يجوز أنْ يشترط
الحاج والمعتمر في إِحرامه؛ أنه إِن مرض تحلّل؛ وهو قول عمر بن الخطاب وعلي
وابن مسعود وآخرين من الصحابة -رضي الله عنهم- وجماعة من التابعين وأحمد
وإسحاق وأبي ثور، وهو الصحيح من مذهب الإِمام الشافعي؛ وحجّتهم هذا الحديث
الصحيح الصريح.
وقال أبو حنيفة ومالك وبعض التابعين: لا يصحّ الاشتراط، وحملوا الحديث على
أنها قضية عين، وأنّه مخصوص بضُبَاعة.
__________
(1) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207.
(2) أخرجه البخاري: 5089، ومسلم: 1207.
(4/340)
قال أبو عيسى -رحمه الله- عقب حديث ضباعة
-رضي الله عنها-: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند بعض أهل
العلم؛ يرون الاشتراط في الحج ويقولون: إِن اشترط فعرض لى مرض أو عذر؛ فله
أن يحل ويخرج من إِحرامه. وهو قول الشافعي، وأحمد، وإِسحاق.
ولم ير بعض أهل العلم الاشتراط في الحج، وقالوا: إِن اشترط؛ فليس له أن
يخرج من إِحرامه، ويرونه كمن لم يشترط".
فقولهم: (إِن اشترط فعرض له مرض) بيّنٌ في جوازه لمن لم يكن به مرض من قبل،
وأنّ الاشتراط عام. والله -تعالى- أعلم.
وليس للإِحرام صلاة تخصّه، لكن إِن أدركته الصلاة قبل إِحرامه، فصلّى ثمّ
أحرم عَقب صلاته؛ كان له أسوة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، حيث أحرم بعد صلاة الظهر (1).
الصلاة بوادي العقيق:
لكن من كان ميقاته ذا الحليفة؛ استُحبّ له أن يصلّيَ فيها، لا لخصوص
الإِحرام، وإنما لخصوص المكان وبركته.
فعن عمر -رضي الله عنه- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آتٍ من ربي، فقال: صلِّ في
هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةٌ في حَجّة" (2).
__________
(1) انظر "صحيح مسلم" (1218).
(2) أخرجه البخاري: 1534.
(4/341)
وفي رواية: "عمرةٌ وحجة" (1).
وعن ابن عمر عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنّه رُئي
(وفي رواية: أُرِيَ) (2) وهو مُعَرِّسُ (3) بذي الحليفة ببطن الوادي، قيل
له: إِنك ببطحاء مباركة" (4).
وفي رواية: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركع بذي
الحُليفة ركعتين" (5).
استقبال القبلة قائماً:
ثمّ يستقبل القبلة قائماً؛ عن نافع قال: "كان ابن عمر -رضي الله عنهما-
إِذا صلّى بالغداة بذي الحليفة؛ أمر براحلته فرُحلَتْ، ثمّ ركب، فإِذا
استوت به؛ استقبل القبلة قائماً، ثمّ يلبّي حتى يبلغ المحرَم، ثمّ يمسك،
حتى إِذا جاء ذا طوى (6)؛ بات به حتى يصبح، فإِذا صلّى الغداة اغتسل، وزعم
أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل ذلك" (7).
__________
(1) أخرجه البخاري: 7343.
(2) أخرجه البخاري: 2336، قال الحافظ (3/ 393): "بضمّ الهمزة؛ أي: في
المنام، وفي رواية كريمة "رُئي" بتقديم الراء، أي: رآه غيره".
(3) التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلةً للنوم والاستراحة. "النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1535.
(5) أخرجه مسلم: 1184.
(6) ذا طوى: وادٍ معروف بقرب مكة.
(7) رواه البخاري معلّقاً (1553)؛ والبيهقي موصولاً بسند صحيح، وانظر
"مختصر البخاري" (1/ 370).
(4/342)
التلبية (1):
ثمّ يلبّي بالعمرة أو الحج والعمرة، ويقول: اللهمّ! هذه حجة؛ لا رياء فيها
ولا سمعة (2).
مشروعيتها:
عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: يا آل محمد! من حج منكم فليهلَّ بعمرة في حجة"
(3).
__________
(1) جاء في "النهاية": التلبية: [هي]
إِجابة المنادي؛ أي: إِجابتي لك يا رب! وهو مأخوذ من لبَّ بالمكان وألبّ:
إِذا أقام به، وألبّ على كذا: إِذا لم يُفارقه، ولم يستعمل إِلا على لفظ
التثنية [لبيك اللهمّ لبيك] في معنى التكرير: أي: إِجابة بعد إِجابة؛ وهو
منصوب على المصدر بعامل - رضي الله عنه - لا يظهر، كأنك قلت: ألبُّ
إِلباباً بعد إِلباب، والتلبية من لبيك؛ كالتهليل من لا إِله إِلا الله.
وقيل: معناه: اتجاهي وقصدى يا رب! إِليك، من قولهم: دارِي تَلّبُّ دارك؛
أي: تُواجهها.
وقيل: معناه: إِخلاصي لك، من قولهم: حَسَبٌ لُبَابٌ: إِذا كان خالصاً
محضاً، ومنه لُبُّ الطعام ولُبابه". انتهى.
قال ابن عبد البر: "قال جماعة من أهل العلِم معنى التلبية إِجابة دعوة
إِبراهيم حين أذن في النّاس بالحجّ". "عون المعبود" (5/ 175).
وبيّن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ثمانية أقوال في معنى التلبية؛ كما في
"تهذيب السنن".
(2) أخرجه الضياء بسند صحيح.
(3) أخرجه الطحاوي في "شرح المعاني والآثار"، وابن حبّان، وأحمد، وصحّحه
شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (2469).
(4/343)
حكمها:
والتلبية واجبة؛ للحديث المتقدّم: "فليهل بعمرة في حجة"؛ ولام الأمر
للوجوب، ولم يرد -فيما علمت- عن أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- ترْك
التلبية.
لفظها:
عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنه-: أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لبيك اللهم! لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إِن الحمد
والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك؛ لا يزيد على هؤلاء الكلمات" (1).
قال نافع: وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يزيد فيها: "لبيك لبيك
وسعديك (2) والخير بيديك لبيك، والرغباء (3) إِليك والعمل" (4).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: "أهلّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -فذكر التلبية مثل حديث ابن عمر-؟ قال: والناس
يزيدون: "ذا المعارج! " (5)، ونحوه من الكلام والنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمع، فلا يقول لهم شيئاً" (6).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1184.
(2) وسعديك؛ أي: مساعدة لطاعتك بعد مساعدة. "شرح النووي".
(3) والرغباء -بالمدّ-: من الرغبة، كالنُّعمى والنعماء من النّعمة.
"النهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1549، ومسلم: 1184 - واللفظ له-.
(5) أي: لبيّك ذا المعارج! جاء في "النهاية": المعارج: المصاعد والدّرج،
واحدها مَعرَج، يريد معارج الملائكة إلى السماء. وقيل: المعارج: الفواضل
العالية.
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1598).
(4/344)
وفي رواية: "لبيك ذا المعارج! لبيّك ذا
الفواضل! (1) " (2).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان من تلبية النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لبيّك إِله الحق! " (3).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - خطب بعرفات، فلمّا قال: لبيّك اللهم! لبيك؟ قال: إِنما الخير
خير الآخرة" (4).
والتزام تلبيته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفضل، وإنْ كانت
الزيادة عليها جائزة؛ لإِقرار النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- على ذلك.
رفع الصوت في التلبية:
ويؤمر المُلبي بأن يرفع صوته بالتلبية؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أتاني جبريل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمرني
أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية" (5)، وقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
__________
(1) الفواضل في اللغة: الأيادي الجميلة كما في "اللسان" فالمراد: عظيم
الإِنعام والإِحسان والتفضل. والله أعلم.
(2) أخرجه أبو داود، وأحمد في "مسنده"، والبيهقي، وانظر "حجة النّبيّ" (ص
55).
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2579)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2362)، وابن خزيمة وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة"
(2146).
(4) أخرجه البيهقي، وحسّنه شيخنا -رحمه الله في "الصحيحة" (2146).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1599)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (663)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2364)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2580)، وانظر "المشكاة" (2549).
(4/345)
"أفضل الحج: العجُّ (1) والثج (2) " (3)،
ولذلك كان أصحاب النن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته
يصرخون بها صُراخاً.
وقال أبو حازم: كان أصحاب النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
إِذا أحرموا؛ لم يبلغوا (الروحاء) حتى تبحّ أصواتهم وقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كأني أنظر إِلى موسى -عليه السلام- هابطاً من
الثّنية، وله جُؤَارٌ (4) إِلى الله بالتلبية" (5).
تلبية النساء:
والنساء في التلبية كالرجال، لعموم الحديثين السابقين؛ فيرفعن أصواتهنّ؛ ما
لم تُخْش الفتنة، ولأنّ عائشة كانت ترفع صوتها حتى يسمعها الرجال، فقال أبو
عطية: سمعت عائشة تقول: إِني لأعلم كيف كانت تلبية رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثمّ سمعْتها تلبّي بعد ذلك: "لبيّك اللهم!
لبيّك ... " (6) إِلخ.
وقال القاسم بن محمد: خرج معاوية ليلة النفر، فسمع صوت تلبية، فقال: من
هذا؟ قيل: عائشة أم المؤمنين؛ اعتمرت من التنعيم؛ فذكر ذلك لعائشة؟ فقالت:
لو سألني لأخبرْتُه (7).
__________
(1) العج: رفع الصوت بالتلبية.
(2) سيلان دماء الهدي والأضاحي.
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (661)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2366)، وانظر "الصحيحة" (1500).
(4) الجؤار: رفع الصوت والاستغاثة. "النهاية".
(5) أخرجه البخاري: 3355، ومسلم: 166.
(6) أخرجه البخاري: 1550، وتقدّم.
(7) رواه ابن أبي شيبة، كما في "المحلّى" (7/ 94 - 95)، وسنده صحيح، وقال =
(4/346)
ويلتزم التلبية؛ لأنها "من شعائر الحج"
(1)، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مُلبٍّ يلبي
إِلا ولبّى ما عن يمينه وعن شماله من شجر وحجر، حتى تنقطع الأرض من هنا
وهنا -يعني- عن يمينه وشماله" (2)؛ وبخاصة كلما علا شرفاً، أو هبط وادياً؛
للحديث المتقدّم قريباً: "كأني انظر إِلى موسى -عليه السلام- هابطاً من
الثّنية، له جُؤار إِلى الله تعالى بالتلبية"، وفي حديث آخر: "كأني أنظر
إِليه إِذا انحدر في الوادي يلبي" (3).
وله أن يخلطها بالتكبير والتهليل؛ لقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "خرجت مع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فما ترَك التلبية حتى
رمى جمرة العقبة؛ إلاَّ أن يخلطها بتكبير أو تهليل" (4).
ماذا إِذا أطلق الإِحرام ولم يعيّنه؟
من أحرم إِحراماً مطلقاً من غير تعيين؛ فإِنّه يحوّل إِلى عمرة الحج؛ وهو
التمتّع، وبه يقول شيخنا -رحمه الله- في بعض إِجاباته لي.
__________
= شيخ الإسلام -رحمه الله- في "منسكه": "والمرأة ترفع صوتها بحيث تسمع
رفيقاتها، ويستحب الإِكثار منها عند اختلاف الأحوال ... ".
(1) هو جزء من حديث صحيح مخرج في "الصحيحة" (830) بلفظ: "أمرني جبريل برفع
الصوت في الإِهلال؛ فإِنه من شعائر الحج".
(2) رواه ابن خزيمة، والبيهقي بسند صحيح، كما في تخريج "الترغيب والترهيب"
(2/ 118).
(3) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "وأمّا موسى ... كأني أنظر إِليه انحدر في الوادي "أخرجه
البخاري: 3355، ومسلم: 166، وتقدّم.
(4) أخرجه أحمد بسند جيد، وصححه الحاكم، والذهبي، كما في "الحج الكبير".
(4/347)
وسأله أحد الإِخوة عن ذلك؟
فقال شيخنا -رحمه الله-: "متى تذكّر؟ فأجاب السائل: في مكة وقد اعتمر.
فقال -رحمه الله-: يتحلّل ويَعدّ هذا تمتُّعاً، وإذا أنهى الحج؛ فلا حرج
عليه بالذي أتى به".
فإِذا بلغ الحرم المكي، ورأى بيوت مكة؛ أمسك عن التلبية (1)؛ ليتفرغ
للانشغال بغيرها مما يأتي (2).
الاغتسال لدخول مكة:
ومن تيسَّر له الاغتسال قبل الدخول؛ فليغتسل، وليدخل نهاراً؛ أسوة برسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1573.
(2) عن عبد الملك بن أبي سليمان قال: "سئل عطاء: متى يقطع المعتمر التلبية؟
فقال: قال ابن عمر: إِذا دخل الحرم. وقال ابن عباس: حتى يمسح الحجر. قلت:
يا أبا محمد! أيهما أحب إِليك؟ قال: قول ابن عباس". أخرجه البيهقي. وقال
شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 297): "وسنده صحيح".
وعن مجاهد قال: "كان ابن عباس -رضي الله عنه- يلبي في العمرة حتى يستلم
الحجر ثمّ يقطع. قال: وكان ابن عمر -رضي الله عنه- يلبي في العمرة حتى إِذا
رأى بيوت مكة ترك التلبية، وأقبل على التكبير والذكر؛ حتى يستلم الحجر".
سنده صحيح أيضاً، قاله شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/ 298).
(3) انظر "صحيح البخاري" (1574).
(4/348)
وليدخل من الناحية العليا التي فيها اليوم
باب المعلاة؛ فإِنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلها من الثنية
العليا؛ ثنية (كَدَاءَ)، المشرفة على المقبرة، ودخل المسجد من باب بني
شيبة؛ فإِن هذا أقرب الطرق إِلى الحجر الأسود.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء، ويخرج من
الثنية السفلى" (1).
وله أن يدخلها من أي طريق شاء؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "كل فجاج مكة طريق ومنحر" (2).
وفي حديث آخر: "مكة كلها طريق: يدخل من هاهنا، ويخرج من هاهنا" (3).
فإِذا دخلت المسجد؛ فلا تنس أن تقدّم رجلك اليمنى (4)، وتقول: "اللهم! صلّ
على محمد وسلم، اللهمّ! افتح لي أبواب رحمتك" (5).
أو: "أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم من الشيطان
__________
(1) أخرجه البخاري: 1576، ومسلم: 1257.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1707)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2473)، وانظر "الصحيحة" (2464).
(3) رواه الفاكهي بسند حسن.
(4) فيه حديث حسن مخرج في "الصحيحة" (2478).
(5) انظر "الكلم الطيب" لشيخ الإِسلام ابن تيمية، بتحقيق شيخنا -رحمهما
الله- (ص 51، 52).
(4/349)
الرجيم" (1).
فإِذا رأى الكعبة؛ رفع يديه إِن شاء؛ لثبوته عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
(2).
ولم يثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هنا دعاء خاص،
فيدعو بما تيسير له، وإن دعا بدعاء عمر: "اللهم! أنت السلام، ومنك السلام
فحيّنا ربّنا بالسلام" فحسن؛ لثبوته عنه -رضي الله عنه- (3).
تحريم المرور أمام المصلّي في الحرمين:
*احذر يا أخي! مِن أنْ تمرّ بين يدي أحد من المصلّين في المسجد الحرام وفي
غيره من المساجد؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لو يعلم
المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه؛ لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمر
بين يديه".
قال الراوى: لا أدري قال: أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة؟! رواه الشيخان
في "صحيحيهما"، وكما لا يجوز لك هذا؛ فلا يجوز لك أيضاً أن تصلّي إِلى غير
سترة؛ بل عليك أن تصلي إِلى أي شيء يمنع الناس من المرور بين يديك، فإِن
أراد أحد أن يجتاز بينك وبين سترتك؛ فعليك أن تمنعه، وفي ذلك أحاديث وآثار،
أذكر منها:
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (441)، وانظر "تخريج الكلِم الطيب"
برقم (65).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح عنه.
(3) أخرجه البيهقي بسند حسن عن سعيد بن المسيب قال: سمعت من عمركلمة ما بقي
أحد من الناس سمعها غيرى، سمعته يقول إِذا رأى البيت ... فذكره. ورواه
بإِسناد آخر حسن أيضاً عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول ذلك، ورواه ابن أبي
شيبة عنهما.
(4/350)
1 - "إِذا وَضَع أحدكم بين يديه مثل
مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ ولا يبالي من مرَّ وراء ذلك" (1).
2 - إِذا صلّى أحدكم إِلى شيء يستره من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين
يديه؛ فليدفع في نحره، وليدرأ ما استطاع، فإِن أبى فليقاتله؛ فإِنما هو
شيطان" (2).
3 - قال يحيى بن أبي كثير: "رأيت أنس بن مالك دخل المسجد؛ فركز شيئاً أو
هيّأ شيئاً يصلّي إِليه".
رواه ابن سعد (7/ 18) بسند صحيح.
4 - عن صالح بن كيسان قال: "رأيت ابن عمر يصلّي في الكعبة ولا يدع أحداً
يمر بين يديه".
رواه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخ دمشق"، وكذا ابن عساكر في "تاريخ دمشق"
بسند صحيح.
ففي الحديث الأول: إِيجاب اتخاذ السترة، وأنه إِذا فعل ذلك فلا يضره من مرّ
من ورائها.
وفي الحديث الثاني: إِيجاب دفع المار بين يدي المصلي إِذا كان يصلّي إِلى
سترة، وتحريم المرور عمداً؛ وأن فاعل ذلك شيطان.
وليت شعري ما هو الكسب الذي يعود به الحاج إِذا رجع وقد استحق هذا الاسم:
"الشيطان"؟!
__________
(1) تقدّما في "كتاب الصلاة".
(2) تقدّما في "كتاب الصلاة".
(4/351)
والحديثان وما في معناهما مطلقان لا يختصان
بمسجد دون مسجد، ولا بمكان دون مكان، فهما يشملان المسجد الحرام والمسجد
النبوي من باب أولى؛ لأن هذه الأحاديث إِنما قالها - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مسجده، فهو المراد بها أصالةً، والمساجد الأخرى
تبعاً.
والأثران المذكوران نصان صريحان على أن المسجد الحرام داخل في تلك
الأحاديث، فما يقال من بعض المطوفين وغيرهم؛ أن المسجد المكي والمسجد
النبوي مستثنيان من النهي؛ لا أصل له في السنة، ولا عن أحد من الصحابة،
اللهم! سوى حديث واحد، روي في المسجد المكي لا يصح إِسناده، ولا دلالة فيه
على الدعوى ... ".* (1)
أمّا ما روُي عن كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وِدَاعَةَ، عن بعض أهله عن
جده: "أنه رأى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصلّي ممّا
يلي باب بني سَهْمٍ، والناس يمرُّون بين يديه، وليس بينهما سُترة".
قال سفيان: ليس بينه وبين الكعبة سترة!
فإِنّه ضعيف (2).
وعلى أي حال؛ فالكلام يطول في هذا الموضوع؛ فأقول مختصراً:
إِنّ ممّا يُؤْسَفُ له: أن لا تعظَّم حُرمات الحرمين من قِبَل الكثير
الكثير في حالات عديدة يستطيعون أن يتفادوا المرور بين يدي المصلّي، حتى
إِنهم فيما
__________
(1) ما بين نجمتين عن كتاب "حجّة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -" (ص 21).
(2) انظر "ضعيف سنن أبي داود" (437).
(4/352)
استطاعوا اجتنابه في المساجد الأُخرى لا
يجتنبونه في الحرمين؛ بزعم جواز المرور! ففهموا أنّ الأصل الجواز، وليتهم
فهموا أنّ ذلك في حالة الاضطرار التي لا محيص عنها! والله المستعان.
هل يلزم من يدخل البيت الحرام الطوافُ؟
ليس هناك من دليل على هذا. أما حديث: "تحية المسجد الطواف":
فقد قال شيخنا -رحمه الله- في شأنه في "السلسلة الضعيفة" (1012):
"لا أعلم له أصلاً، وإن اشتهر على الألسنة، وأورده صاحب "الهداية" من
الحنفية بلفظ: "من أتى البيت فليُحيِّه بالطواف".
وقد أشار الحافظ الزيلعي في تخريجه إِلى أنه لا أصل له بقوله (2/ 51):
"غريب جدّاً".
وأفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر فقال في "الدراية" (ص 192): "لم أجده".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: ولا أعلم في السنة القولية أو العملية ما
يشهد لمعناه، بل إِن عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد
تشمل المسجد الحرام أيضاً، والقول بأن تحيته الطواف مخالف للعموم المشار
إليه، فلا يقبل إِلا بعد ثبوته؛ وهيهات! لاسيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا
يمكن للداخل إِلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام المواسم،
فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
وإنّ مما ينبغي التنبيه له: أن هذا الحكم إِنما هو بالنسبة لغير المحرم؛
وإلا فالسُّنّة في حقّه أن يبدأ بالطواف، ثمّ بالركعتين بعده".
(4/353)
فضل الطواف:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "سمعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: من طاف بالبيت وصلّى ركعتين؛ كان كَعتق
رقَبة" (1). |