الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة شروط الطواف
(2)
1 - الطهارة من الحَدَثين والنجاسة:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الطواف حول البيت مثل الصلاة؛ إِلا أنكم تتكلمون فيه،
فمن تكلم فيه فلا يتكلم إِلا بخير" (3).
وفي طريق أُخرى عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال الله لنبيّه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {طَهِّرْ بَيْتِيَ للطائفين والعاكفين
والرّكع السجود}؛ فالطواف قبل الصلاة، وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الطواف بالبيت بمنزلة الصلاة؛ إِلا أن الله قد أحل
فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إِلا بخير" (4).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2393) وغيره، وصححه شيخنا - رحمه
الله- في "الصحيحة" (2725).
(2) ملتقطاً من "فقه السُّنّة"، و"الروضة الندية"، و"منار السبيل" بتصرّف،
وانظر "الوجيز" (ص 249).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (767)، والنسائي "صحيح سنن النسائي"
(2735)، والدارمي وغيرهم، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (121).
(4) أخرجه الحاكم، وصححّه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1/ 157).
(4/354)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "خرجنا لا
نُرَى إلاَّ الحج، فلمّا كنا بِسَرِفَ حِضتُ، فدخل عليّ رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، قال: أَنَفِسْتِ؟ قلت: نعم. قال:
إِنّ هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاقضي ما يقضي الحاجُّ؛ غير أن لا
تطوفي بالبيت حتى تغتسلي" (1).
وعنها- أيضاً: "أنّ أوّل شيء بدأ به حين قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أنه توضأ ثمّ طاف" (2).
وجاء في "المغني" (3/ 390): مسألة (ويكون طاهراً في ثياب طاهرة): "يعني: في
الطواف؛ وذلك لأنّ الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف
في المشهور عن أحمد، وهو قول مالك والشافعي. وعن أحمد أن الطهارة ليست
شرطاً للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإِن خرج إِلى بلده جبره بدم.
وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة. وعنه فيمن طاف للزيارة وهو ناسٍ
الطهارةَ: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطاً. واختلف
أصحابه، فقال بعضهم: هو واجب. وقال بعضهم: هو سنة؛ لأنّ الطواف ركن الحج،
فلم يشترط له الطهارة كالوقوف.
ولنا ما روى ابن عباس أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "الطواف بالبيت صلاة؛ إِلا أنكم
تتكلمون فيه"؛ رواه الترمذي والأثرم. وعن أبي هريرة: أن أبا بكر الصديق
بعثه في الحَجّة التي أمَّرَه عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قبل حَجّة الوداع يوم النحر في رهطٍ يؤذِّن في الناس: ألا لا
يَحُجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت
__________
(1) أخرجه البخاري: 294، ومسلم: 1211.
(2) أخرجه البخاري: 1614، 1615، ومسلم: 1235.
(4/355)
عُريان (1). ولأنها عبادة متعلقة بالبيت؛
فكانت الطهارة والستارة فيها شرطاً كالصلاة. وعكس ذلك الوقوف".
2 - سَتْر العورة:
قال الله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد} (2).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عُريانة،
فتقول: من يُعيرُني تِطوافاً (3) تجعله على فَرْجها، وتقول:
اليومَ يبدو بعضُهُ أوكلُّهُ ... فما بدا منه فلا أحِلُّهُ
فنزلت هذه الآية: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}.
ولحديث أبي بكر -رضي الله عنه- المتقدّم؛ وفيه: "ولا يطوف بالبيت عُريان".
3 - أن يكون سبعة أشواط كاملة:
ويجب أن يطوف الطائف سبعة أشواط كاملة؛ فإِنْ ترَك شيئاً من السبع -ولو
قليلاً- لم يُجزئه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قَدِم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة، فطاف وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرَب الكعبة
بعد طوافه بها، حتى رجع من عرفة" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1622، ومسلم: 1347.
(2) الأعراف: 31.
(3) جاء في "النهاية": "هذا على حذف المضاف؛ أي: ذا تَطْواف. ورواه بعضهم
بكسر التاء [تِطوافاً]، وقال: هو الثوب الذي يُطافُ به".
(4) أخرجه البخاري: 1625.
(4/356)
فمن شكّ في العدد؛ فليطرح الشكّ وليتحرَّ
الصواب، وإن لم يمكنه؛ فَلْيَبْنِ على الأقلّ.
جاء في "الروضة الندية" (1/ 616): "الأقرب -والله أعلم-: أنّ الطواف يوافق
الصلاة، فمن شكّ هل طاف ستة أشواط أو سبعة؛ فليطرح الشك وليتحر الصواب،
فإِن أمكنه ذلك عمل عليه، وإن لم يمكنه فَلْيَبْنِ على الأقل، كما ورد بذلك
الدليل الصحيح".
4 - أن يبدأ الطواف من الحجر الأسود، وينتهي إِليه، ويجعل البيت عن يساره:
عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قدم مكة؛ أتى الحجر فاستلمه، ثمّ مشى على يمينه؛
فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً" (1).
وعن سفيان عن عمرو قال: "سألْنا ابن عمر -رضي الله عنهما-: أيقع الرجل على
امرأته في العمرة قبل أن يطوف بين الصفا والمروة؟ قال: قدم رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فطاف بالبيت سبعاً، ثمّ صلّى خلف
المقام ركعتين، وطاف بين الصفّا والمروة، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله
أسوة حسنة} (2) " (3).
5 - أن يكون الطواف خارج البيت، وقد قال
الله تعالى: {وليطَوَّفوا بالبيت العتيق}، فالله تعالى أمر بالطواف بالبيت؛
لا في البيت".
فلو طاف في الحِجْرِ لا يصحّ طوافه؛ إِذ الحِجْرُ من البيت.
__________
(1) أخرجه مسلم: 1218.
(2) الأحزاب: 21.
(3) أخرجه البخاري: 1623، ومسلم: 1234.
(4/357)
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سألت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجَدْر (1): أمِن البيت
هو؟ قال: نعم. قلت: فَلِمَ لَمْ يدخلوه في البيت؟ قال: إِنّ قومك قصُرت بهم
النفقة. قلت: فما شأنُ بابه مرتفعاً؟ قال: فعل ذلك قومك لِيدخِلُوا من
شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا، ولولا أنّ قومك حديثٌ عهدُهم في الجاهلية، فأخاف
أن تنكر قلوبهم؛ لنظرت أن أدخل الجدار في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض"
(2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قلت: يا رسول الله! ألا أدخل البيت؟!
قال: ادخلي الحِجر؛ فإِنه من البيت" (3).
6 - الموالاة:
لأنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف كذلك، وقد قال:
"لتأخذوا مناسككم" (4).
وجاء في "صحيح البخاري" (5): (باب إِذا وقف في الطواف)، قال عطاء فيمن يطوف
فتقام الصلاة، أو يدفع عن مكانه: "إِذا سلّم يرجع إِلى حيث قُطع عليه،
فيبني (6).
__________
(1) يريد الحِجر؛ لما فيه من أصول حائط البيت. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 1584، ومسلم: 1333.
(3) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2725)، وانظر "الإِرواء" (4/ 307).
(4) أخرجه مسلم: 1297.
(5) انظر "كتاب الحج" (باب - 68).
(6) وصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه نحوه. "مختصر البخاري" (1/ 386).
(4/358)
ويُذْكَرُ نحوه عن ابن عمر (1)، وعبد
الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم (2) -.
وإذا أعيا في الطواف؛ فلا بأس أن يستريح. قاله الإِمام أحمد -رحمه الله-".
عدم مخالطة الرجال النساء في الطواف
قال ابن جريج: أخبرني عطاء -إِذ مَنَعَ ابنُ هشام النساءَ الطوافَ مع
الرجال- قال: كيف يمنعهنّ وقد طاف نساء النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مع الرجال؟! قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إِي لعمري؛ لقد
أدركته بعد الحجاب، قلت: كيف يُخالطن الرجال؟ قال: لم يَكْنَّ يخالطْنَ،
كانت عائشة -رضي الله عنه- تطوف حَجْرة (3) من الرّجال لا تخالطهم. فقالت
امرأة: انطلقي نستلم يا أمّ المؤمنين! قالت: عَنْكِ! وأبَتْ، يخرجن متنكرات
بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهنّ كنّ إِذا دخلن البيت؟ قُمن حتى يدخلن
وأُخرج الرجال" (4).
هل يركب الطائف؟
اختلف العلماء في هذه المسألة واستدلّ المجوّزون بحديث ابن عباس -
__________
(1) وصله سعيد بن منصور عن جميل بن زيد عن ابن عمر نحوه، وجميل هذا ضعيف،
"مختصر البخاري" (1/ 386) أيضاً.
(2) وصله عبد الرزاق بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي بكر. "مختصر البخاري"
(1/ 386) كذلك.
(3) حَجْرةً؛ أي: ناحية. "فتح".
(4) أخرجه البخاري: 1618.
(4/359)
رضي الله عنهما- قال: "طاف النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن
بمِحجَن (1) " (2).
واستدلّوا كذلك بحديث جابر -رضي الله عنه- قال: "طاف رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالبيت في حجة الوداع على راحلته؛ يستلم
الحجر بمحجنه؛ لأن يراه الناس وَلِيَشْرُفَ وليسألوه؛ فإِنّ الناس غَشُوه"
(3).
ومنهم من منَع ذلك (4) إِلا لمرض أو سبب؛ وهو الراجح -والله أعلم- لما
يأتي:
1 - إِن حديث جابر وضّح سبب الركوب، وهو قوله -رضي الله عنه-: "لأن يراه
الناس، وليشرف، وليسألوه؛ فإِن الناس غَشُوه".
فماذا إِذا لم تكن حاجة لأن يُرى الطائف أو يشرف؟! وماذا إِذا لم يَغْشَهُ
الناس؟!
2 - إِن المتأمّل في النصوص الواردة في الركوب لا يراها تعدو وجود مرض أو
سبب، وما أُجمل؛ فالروايات الأخرى تفصّله.
ومن ذلك: حديث أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: "شكوت إِلى رسول
__________
(1) المِحْجن: عصا مُعقفة؛ يتناول بها الراكب ما سقط له، ويحرّك بطرفها
بعيره للمشي. "شرح النووي".
(2) أخرجه البخاري: 1607، ومسلم: 1272.
(3) أخرجه مسلم: 1273.
(4) انظر ما قاله الحافظ -إِن شئت- في ترجيحه المنع.
(4/360)
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أنّي أشتكي؟ فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة ... " (1).
لذلك ذكر الإِمام البخاري -رحمه الله- حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-
السابق تحت (باب المريض يطوف راكباً)، قال الحافظ -رحمه الله- تحت الحديث
(1633): " ... وقد تقدّم الكلام عليهما [أي: حديث ابن عباس وأم سلمة -رضي
الله عنهم-] في (باب إِدخال البعير المسجد للعلّة). وأنّ المصنّف حمل سبب
طوافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكباً على أنّه كان عن
شكوى".
وجاء في "منار السبيل" (1/ 253): " .. فلا يجزئ طواف الراكب لغير عُذر ...
"؛ ونقل الأقوال المخالفة.
استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة
فيها، والدعاء في نواحيها كلها (2)
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دخل الكعبة، هو وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة الحَجَبي (3)
فأغلقها عليه، ثمّ مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: جعل عمودين عن
يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة
أعمدة، ثمّ صلّى" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1633.
(2) هذا العنوان من "صحيح مسلم" (كتاب الحج" (باب-68).
(3) الَحَجبي: منسوب إِلى حجابة الكعبة، وهي: ولايتها وفتحها وإغلاقها
وخدمتها، ويقال له ولأقاربه: الحجبيون. "شرح النووي".
(4) أخرجه البخاري: 505، ومسلم: 1329.
(4/361)
يبادر المرء إِلى الحجر الأسود، فيستقبله
استقبالاً فيكبّر، والتسميةُ قبله صحت عن ابن عمر موقوفاً.
ثمّ يستلمه بيده ويقبِّله بفمه؛ فعن عمر -رضي الله عنه-: "أنه جاء إِلى
الحجر الأسود فقبله فقال: إِني أعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني
رأيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقبلّك؛ ما قبّلتك"
(1).
ويسجد عليه أيضاً، فقد فعَله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، وعمر وابن عباس (2).
فإِن لم يمكنه تقبيله؛ استلمه بيده ثمّ قبّل يَدَه.
عن نافع قال: "رأيت ابن عمر يستلم الحجر بيده، ثمّ قبّل يده؛ وقال: ما
تركته منذ رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله"
(3).
فإِن لم يمكنه الاستلام؛ أشار إِليه بيده.
ويفعل ذلك في كلّ طَوْفَةٍ.
ولا يزاحم عليه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يا عمر!
إِنك رجل قوي، فلا تُؤْذِ الضعيف، وإذا أردت استلام الحجر؛ فإِنْ خلا لك
فاستلِمْه؛ وإلا فاستقبله وكبّر" (4).
وفي استلام الحجر فضْل كبير؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"ليبعثنّ الله الحجر يوم القيامة،
__________
(1) أخرجه البخاري: 1597، ومسلم: 1270.
(2) أخرجه الشافعي، وأحمد وغيرهما، وهو حديث قوي؛ كما بينّه شيخنا -رحمه
الله- في "الحج الكبير"، وانظر "الإِرواء" (1112) ففيه تحقيق وتخريج مفيد.
(3) أخرجه مسلم: 1268.
(4) صححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والذهبي.
(4/362)
وله عينان يُبصِر بهما، ولسانٌ ينطق به،
ويشهد على من استلمَه بحقّ"، وقال: "مسْح الحجر الأسود والركن اليماني
يحطان الخطايا حطاً" (1).
وقال: "الحجر الأسود من الجنة، وكان أشدّ بياضاً من الثلج، حتى سوَّدته
خطايا أهل الشرك" (2).
ثمّ يبدأ بالطواف حول الكعبة يجعلها عن يساره، فيطوف من وراء الحجر سبعة
أشواط، من الحجر إِلى الحجر شوط، يضطبع (3) فيها كلها، عن يعلى بن أميّة:
"أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف بالبيت مضطبعاً؛
وعليه بُرد" (4).
ويرمل في الثلاثة الأُوَل منها، من الحجر إِلى الحجر، ويمشي في سائرها.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأصحابه اعتمروا من الجِعرّانة، فرملوا بالبيت، وجعلوا أرديتهم
تحت آباطهم، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى" (5).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "رَمَل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الحجر إلى الحجر ثلاثاً، ومشى أربعاً" (6).
__________
(1) حسنه الترمذي، وصححه ابن حبان، والحاكم، والذهبي.
(2) صححه الترمذي، وابن خزيمة.
(3) الاضطباع: أن يدخل الرداء من تحت إِبطه الأيمن، ويردَّ طرفه على يساره،
ويبدي مَنكِبه الأيمن، ويغطي الأيسر، وهو بدعة قبل هذا الطواف وبعده.
(4) أخرجه ابن ماجه والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (682).
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1659)، وانظر "المشكاة" (2585).
(6) أخرجه مسلم: 1262.
(4/363)
حكمة الرَّمَلِ:
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حُمَّى يثرب، قال المشركون:
إِنّه يَقْدَمُ عليكم غداً قوم وهنتهم الحمّى، ولقوا منها شدّة، فجلسوا
ممّا يلي الحِجْرَ، وأمرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الرّكنين، ليرى المشركون جَلَدَهُمْ،
فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أنّ الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا
وكذا! قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها؛ إِلا
الإِبقاء عليهم" (1).
ومع حدوث هذا الأمر لسبب؛ إِلا أنّ العلماء قالوا بعدم زوال حُكمه، وإن كان
قد زال سببه.
عن أسلم أنّ عمر بن الخطاب قال: "ما لنا وللرَّمَل؟! إِنما كنّا راءينا به
المشركين، وقد أهلكَهم الله! ثمّ قال: شيء صنَعه النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فلا نحبّ أن نتركه" (2).
وفي رواية: "يقول [أي: عمر]: فِيمَ الرَّمَلان -اليوم- والكشف عن المناكب؟!
وقد أطّأ (3) الله الإِسلام، ونفى الكفر وأهله! مع ذلك لا ندع شيئاً كنا
نفعله على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 1602، ومسلم: 1266 - واللفظ له-.
(2) أخرجه البخاري: 1605.
(3) أطّأ الله الإِسلام: أي: ثبتّه وأرساه. والهمزة فيه بدل من واو وطّأ.
"النهاية".
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1662)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2389).
(4/364)
ويستلم الركن اليماني بيده في كل طوفة، ولا
يقبّله، فإِن لم يتمكنّ من استلامه؛ لم تشرع الإِشارة إِليه.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لم أرَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم من البيت إِلا الركنين (1) اليمانيين" (2).
وعن ابن عمر قال: "ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحَجَرَ -مُذْ
رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلمهما- في شدّة
ولا رخاء" (3).
ويقول بينهما: " {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنَا عذاب
النّار} " (4).
ولا يستلم الركنين الشاميين؛ اتباعاً للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - (5).
__________
(1) قال النووي -رحمه الله-: " .. فالركنان اليمانيان: هما الركن الأسود
والركن اليماني؛ وإنما قيل لهما: اليمانيان للتغليب، كما قيل في الأب
والأم: الأبوان، وفي الشمس والقمر: قمران، وفي أبي بكر وعمر -رضي الله
عنهما-: العمران، وفي الماء والتمر: الأسودان، ونظائره مشهورة. واليمانيان
بتخفيف الياء؛ هذه اللغة الفصيحة المشهورة. وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما
فيها لغة أخرى؛ بالتشديد".
(2) أخرجه البخاري: 1609، ومسلم: 1267.
(3) أخرجه مسلم: 1267.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1666) وغيره.
(5) قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "والاستلام هو مسْحه باليد،
وأمّا سائر جوانب البيت ومقام إِبراهيم، وسائر ما في الأرض من المساجد
وحيطانها، ومقابر الأنبياء والصالحين -كحجرة نبينا - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومغارة إِبراهيم، ومقام نبينا - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كان يصلّي فيه- وغير =
(4/365)
مشروعية التزام الملْتزم في الطواف (1):
ويشرع التزام الملتزم في الطواف؛ لثبوت ذلك عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فإِنّه "كان يضع صدره ووجهه وذراعيه وكفّيه بين
الركن والباب؛ يعني: في الطواف" (2).
قال شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في "منسكه" (ص 387): "وإن
أحب أن يأتي الملتزم -وهو ما بين الحجر الأسود والباب - فيضع عليه صدره
ووجهه وذراعيه وكفّيه، ويدعو، ويسأل الله تعالى حاجته-؛ فعَل ذلك. وله أن
يفعل ذلك قبل طواف الوداع؛ فإِنّ هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال
الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة .. ولو وقف عند
الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت، كان حسناً".
موضعه:
مكان الملتزم بين الركن والباب؛ للحديث السابق، ولقول ابن عباس -رضي
__________
= ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، وصخرة بيت المقدس؛ فلا تستلم ولا تقبّل
باتفاق الأئمة. وأمّا الطواف بذلك؛ فهو من أعظم البدع المحرّمة، ومن اتخذه
ديناً يُستتاب؛ فإِنْ تاب وإلا قُتِل".
قال شيخنا -رحمه الله-: وما أحسن ما روى عبد الرزاق (8945)، وأحمد،
والبيهقي عن يعلى بن أميّة قال: طُفت مع عمر بن الخطاب (وفي رواية: مع
عثمان) -رضي الله عنه- فلمّا كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر؛
أخذت بيده ليستلمه، فقال: أما طُفت مع رسول الله؟! قلت: بلى. قال: فهل
رأيته يستلمه؟ قلت: لا. قال: فانْفُذْ عنك؛ فإِنّ لك في رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة".
(1) هذه العنوان من "الصحيحة" (5/ 170).
(2) حسنه شيخنا -رحمه الله- من طريقين؛ كما في "الصحيحة" (2138).
(4/366)
الله عنهما-: "هذا الملتزم بين الركن
والباب" (1).
وعن مجاهد: قال جئتُ ابن عباس وهو يتعوّذ بين الركن والباب (2).
وعن عروة: "أنه كان يلصق بالبيت: صدره ويده وبطنه" (3).
متى يلتزمه؟
يأتي الملتزم حين يفرغ من السبع؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه (4) قال: "طفت
مع عبد الله بن عمرو، فلما فرغنا من السبع؛ ركعنا في دُبُر الكعبة، فقلت:
ألا نتعوذ بالله من النّار؟! قال: أعوذ بالله من النّار، قال: ثمّ مضى
فاستلم الركن، ثمّ قام بين الحجر والباب، فألصق صدره ويديه وخده إِليه، ثمّ
قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل"
(5).
وليس للطواف ذِكْر خاصٌّ، فله أن يقرأ من القرآن أو الذكر ما شاء؛ لقوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الطواف بالبيت صلاة، ولكنّ الله
أحلّ فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في
"الصحيحة" تحت الحديث (2138).
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في
"الصحيحة" تحت الحديث (2138) أيضاً.
(3) أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وصحح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الصحيحة"
(5/ 171).
(4) في بعض الكتب عن جدّه، وانظر "الصحيحة" (2138).
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2397)، وانظر "الصحيحة" (2138).
(4/367)
إِلا بخير"، وفي رواية: "فأقلّوا فيه
الكلام" (1).
ولا يجوز أن يطوف بالبيت عريان ولا حائض؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ولا يطوف بالبيت عريان" (2).
وقوله لعائشة حين قدمت معتمرة في حَجّة الوداع: "افعلي كما يفعل الحاج؛ غير
أن لا تطوفي بالبيت [ولا تصلّي] حتى تطهري" (3).
صلاة ركعتين بعد الطَّواف:
وينطلق إِلى مقام إِبراهيم؛ وقد غطّى كتفه الأيمن، ويقرأ: {واتخذوا من مقام
إِبراهيم مصلّى}، ويجعل المقام بينه وبين الكعبة، ويصلّي عنده ركعتين.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " .. قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فطاف بالبيت سبعاً، ثمّ صلّى خلف المقام ركعتين"
(4).
وعن جابر قال: "لما قدم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مكة؛ دخل المسجد فاستلم الحجر، ثمّ مضى على يمينه؛ فرمل ثلاثاً ومشى
أربعاً، ثمّ أتى إِلى المقام فقال: {واتخذوا من مقام إِبراهيم مصلّى}،
فصلّى ركعتين، والمقام بينه وبين البيت، ثمّ أتى
__________
(1) أخرجه الترمذي وغيره، والرواية الأخرى للطبراني، وهو حديث صحيح، كما
حققه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (121).
قال شيخ الإسلام: "وليس فيه ذكر محدود عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا بأمره، ولا بقوله، ولا بتعليمه؛ بل يدعو فيه
بسائر الأدعية الشرعية".
(2) أخرجه البخاري: 1622، ومسلم: 1347، وتقدّم.
(3) أخرجه البخاري: 1650، ومسلم: 1211.
(4) أخرجه البخاري: 1623، ومسلم: 1234.
(4/368)
الحجر بعد الركعتين فاستلمه، ثمّ خرج إِلى
الصفا -أظنه قال-: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله} " (1).
جواز تأديتهما أوقات النهي:
وتؤدّيان في جميع الأوقات؛ حتى أوقات النهي.
عن جبير بن مُطعِمٍ أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّةَ ساعة
شاء من ليل أو نهار" (2).
وعن عبد العزيز بن رُفيع قال: "رأيت عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-
يطوف بعد الفجر ويصلّي ركعتين" (3).
إذا صلّى المكتوبة؛ هل تجزئه؟
وإذا صلّى المكتوبة بعد الطواف؛ أجزأته عن الركعتين؛ بشرطين:
1 - أن يكون عند المقام؛ بحيث يمضي فيه قوله تعالى: {واتخذوا من مقام
إِبراهيم مصلّى}.
2 - أن ينوي ذلك (4).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1218 من حديث جابر الطويل، والترمذي "صحيح سنن الترمذي"
(679) -وهذا لفظه-.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (688)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1036)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (570)، وانظر "الإِرواء" (481).
(3) أخرجه البخاري: 1630.
(4) أفادنيه شيخنا -رحمه الله- إجابةً عن بعض سؤالاتي.
(4/369)
وقرأ فيهما: " {قل يا أيها الكافرون} و {قل
هو الله أحد} " (1).
وينبغي أن لا يمرّ بين يدي المصلّي هناك، ولا يدع أحداً يمرُّ بين يديه وهو
يصلّي؛ لعموم الأحاديث الناهية عن ذلك، وعدم ثبوت استثناء المسجد الحرام
منها، بله مكة كلها!
ثمّ إِذا فرغ من الصلاة؛ ذهَب إِلى زمزم فشرب منها، وصبَّ على رأسه، فقد
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ماء زمزم لما شرب له" (2).
وقال: "إِنها مباركة، وهي طعام طُعْم، [وشفاء سُقْمٍ] " (3).
وقال: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم؛ فيه طعام من الطُّعم (4)، وشفاء من
السقم" (5).
ثمّ يرجع إِلى الحجر الأسود؛ فيكبّر ويستلمه على التفصيل المتقدّم.
إِذا وقف في الطواف (6):
قال عطاء فيمن يطوف، فتقام الصلاة أو يدفع عن مكانه: إِذا سلّم يرجع
__________
(1) انظر"صحيح مسلم" (1218).
(2) حديث صحيح؛ كما قال جمع من الأئمة، وقد خرّجه شيخنا -رحمه الله- وتكلم
على طُرقه في "الإِرواء" (1123)، وأحدها في "الصحيحة" (883).
(3) حديث صحيح، رواه الطيالسي وغيره، وهو مخرج في "الصحيحة" تحت الحديث
(1056) وغيرها.
(4) أي: يشبع الإِنسان إِذا شرب ماءها، كما يشبع من الطعام. (النهاية).
(5) أخرجه الضياء في "المختارة" وغيره، وهو مخرج في المصدر السابق (1056).
(6) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب الحج) (باب - 68).
(4/370)
إِلى حيث قطع عليه فيبني (1).
ويُذكر نحوه عن ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم- (2)
السعي بين الصفا والمروة:
ثمّ يعود أدراجه ليسعى بين الصفا والمروة.
حُكْمه:
اختلف العلماء في حُكم السعي بين الصفا والمروة: فمنهم من قال بركنيته،
ومنهم قال بوجوبه، ومنهم من قال بسنّيته.
والراجح -والله أعلم- الركنّية؛ لحديث عروة قال: "سألت عائشة -رضي الله
عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله
فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما}؛ فوالله ما على أحدٍ
جناح أن لا يطوف بالصّفا والمروة، قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إِنّ هذه
لو كانت كما أوّلتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطّوف بهما)! ولكنها
أُنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يُهِلُّون لِمناة الطاغية التي
كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان من أهلّ يتحرّج أن يطوف بالصّفا
والمروة، فلمّا أسلموا سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن ذلك؛ قالوا: يا رسول الله! إِنّا كنّا نتحرّج
__________
(1) رواه البخاري معلقاً مجزوماً به، ووصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه،
وانظر "مختصر البخاري" (1/ 386).
(2) رواه البخاري معلّقاً، وجاء في "مختصر البخاري" (1/ 386): "وصله سعيد
بن منصور عن جميل بن زيد عن ابن عمر نحوه، وجميل هذا ضعيف. ووصله عبد
الرزاق بسند صحيح عن عبد الرحمن بن أبي بكر".
(4/371)
أن نطوف بين الصفا والمروة؟ فأنزل الله
تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله} الآية، قالت عائشة -رضي الله
عنها-: وقد سنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الطواف
بينهما؛ فليس لأحدٍ أن يترك الطواف بينهما" (1).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وطاف المسلمون؛ فكانت سُنّة، فلعمري ما أتمّ الله حج من لم يطف
بين الصفا والمروة" (2).
وعن حبيبة بنت أبي تِجْرَأة قالت: "دخلتْ على دار أبي حسين نسوةٌ من قريش،
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة
وهو يسعى، يدور به إِزاره من شدة السعي، وهو يقول لأصحابه: اسعوا فإِن الله
كتب عليكم السعي" (3).
وسألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا ترون حُكم السعي بين الصفا والمروة؟
فقال -رحمه الله-: "رُكن".
أصل مشروعيته:
قال ابن عباس: "أول ما اتخذ النساء المِنطَق (4) من قِبل أم إِسماعيل؛
اتخذت مِنطقاً لتُعفّي (5) أثرها على سارة، ثمّ جاء بها إِبراهيم وبابنها
إِسماعيل
__________
(1) أخرجه البخاري: 1643، ومسلم: 1277.
(2) أخرجه مسلم: 1277.
(3) أخرجه أحمد، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1072).
(4) المِنْطَق: هو ما يشدّ به الوسط.
(5) أي: لتُخفي، وانظر ما قاله الحافظ -رحمه الله- في شرح هذا الأمر.
(4/372)
-وهي تُرضعه- حتى وضعها عند البيت عند دوحة
(1) فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما
هنالك، ووضع عندهما جراباً (2) فيه تمر وسقاءً فيه ماء، ثمّ قفّى (3)
إِبراهيم منطلقاً، فتبعته أمّ إِسماعيل فقالت: يا إِبراهيم! أين تذهب
وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إِنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل
لا يلتفت إِليها، فقالت له: آللهُ الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إِذن لا
يُضيعنا، ثمّ رجعت.
فانطلق إِبراهيم حتى إِذا كان عند الثّنيّة حيث لا يرونه؛ استقبل بوجهه
البيت ثمّ دعا بهؤلاء الكلمات ورفع يديه فقال: {ربنا إِني أسكنتُ من
ذرّيّتي بوادٍ غير ذي زرع} حتى بلغ: {يشكرون}؛ وجعلت أمّ إِسماعيل ترضع
إِسماعيل وتشرب من ذلك الماء، حتى إِذا نفد ما في السقاء؛ عطشت وعطش ابنها،
وجعلت تنظر إِليه يتلوّى -أو قال: يتلبّط (4)؛ فانطلقت كراهية أن تنظر
إِليه، فوجدت الصّفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمّ استقبلت
الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا، حتى إِذا بلغت
الوادي؛ رفعت طرف دِرعها، ثمّ سعت سعي الإِنسان المجهود حتى جاوزت الوادي،
ثمّ أتت المروة فقامت عليها؛ فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً،
__________
(1) الدوحة: الشجرة الكبيرة.
(2) وعاء يحفظ فيه الزاد ونحوه. "الوسيط".
(3) أي: ولّى راجعاً إِلى الشام.
(4) أي: يتمرّغ ويضرب بنفسه الأرض ويقرب منها.
ملاحظة: استفدت من "فتح الباري" في شرح غريب ألفاظ هذا الحديث.
(4/373)
ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فذلك سعي النّاس بينهما"
(1).
هل يشرع الركوب في السعي؟
وما قيل في الركوب في الطواف؛ يقال في السعي بين الصفا والمروة؛ فإِنه يجوز
لمرض أو حاجة.
فعن جابر -رضي الله عنه- قال: "طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالبيت في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه؛ لأن
يراه الناس، وليشرف، وليسألوه؛ فإِنّ الناس غَشُوه" (2).
وعن أبي الطفيل قال: "قلت لابن عباس -رضي الله عنهما-: أخبرني عن الطواف
بين الصفا والمروة راكباً؛ أسنّة هو؟ فإِنّ قومك يزعمون أنّه سُنّة! قال:
صدقوا وكذبوا. قال: قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟! قال: إِنّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمّد،
هذا محمّد، حتى خرج العواتق (3) من البيوت، قال: وكان رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يضرب النّاس بين يديه، فلمّا كثر عليه
ركب؛ والمشي والسّعي أفضل" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 3364.
(2) أخرجه مسلم: 1273، وتقدّم.
(3) العواتق: جمع عاتق، وهي البكر البالغة، أو المقاربة للبلوغ، وقيل: التي
تتزوّج، سُمّيت بذلك لأنّها عتقت من استخدام أبويها وابتذالها في الخروج
والتصرّف التي تفعله الطفلة الصغيرة. "شرح النووي".
(4) أخرجه مسلم: 1264.
(4/374)
السعي بين الميلين:
يسنّ المشي بين الصفا والمروة؛ إِلا ما كان بين الميلين؛ فإِنّه يشتد سعيه.
عن جابر -رضي الله عنه-: " .. حتى إِذا انصبّت (1) قدماه في بطن الوادي
سعى، حتى إِذا صَعِدتا (2) مشى" (3).
عن أم ولد شيبة -رضي الله عنها- قالت: "رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا يُقطع الأبطح
(4) إِلا شدّاً" (5).
الرُّقِيُّ على الصفا والمروة والدعاء عليهما مع استقبال البيت:
عن جابر -رضي الله عنه- في حديثه الطويل: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمّا دنا من الصفا قرأ: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر
الله}، أَبَدأُ بما بدأ الله به، فبدأ بالصّفا فرقي عليه، حتّى رأى البيت
فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبّره وقال: لا إِله إِلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، لا إِله إِلا الله وحده،
أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثمّ دعا بين
__________
(1) أي: انحدرت في المسعى. "النهاية".
(2) أي: ارتفعت قدماه عن بطن الوادي. "شرح النووي".
(3) أخرجه مسلم: 1218.
(4) الأبطح: المكان المتّسِع يمرّ به السيل فيترك فيه الرمل والحصى
الصغار". "الوسيط".
(5) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (2419)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (2789) وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (2437) وتقدّم دون ذِكر
المناسبة.
(4/375)
ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثمّ نزل إِلى
المروة .. حتى أتى المروة، ففعل على المروة كما فعل على الصّفا" (1).
ما يقوله الساعي بين الصفا والمروة:
يسنّ للساعي بين الصفا والمروة أن يدعو الله -سبحانه وتعالى- ويذكره
ويستغفره، ويقرأ القرآن الكريم.
ويحرص في سعيه -كما يحرص في طوافه- على جوامع الدعاء، والمأثور عن النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسلف الأُمّة.
كما يحرص على التفقّه في آداب الدعاء؛ حتى لا يقع في المخالفات الشرعية.
ولا بأس أن يدعو بما ثبت عن جمع من السلف، فيقول: "ربّ اغفر وارحم، إِنّك
أنت الأعز الأكرم" (2).
الموالاة في السعي:
لا بُدّ من الموالاة في السعي؛ إِلا لعُذر أو استراحة ونحو ذلك.
وما قيل في الموالاة في الطواف عند البيت؛ يقال في الطواف بين الصفا
والمروة، والله -تعالى- أعلم.
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن ذلك!
__________
(1) أخرجه مسلم: 1218.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وابن عمر -رضي الله عنهم- بإِسنادين
صحيحين، وانظر "مناسك الحج والعمرة" (ص 27) وتقدّم.
(4/376)
فقال: "تجب الموالاة إلاَّ لعذر" (1).
فإِذا دنا من الصفا؟ قرأ قوله تعالى: {إِنّ الصفا والمروة من شعائر الله
فمن حج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما ومن تطوع خيراً فإِنّ
الله شاكر عليم} ويقول: نبدأ بما بدأ الله به".
ثمّ يبدأ بالصفا فيرتقي عليه حتى يرى الكعبة (2)، فيستقبل الكعبة، فيوحد
الله ويكبره فيقول: الله أكبر؛ الله أكبر؛ الله أكبر، (ثلاثاً).
لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو
على كلّ شيء قدير.
لا إِله إلاَّ الله وحده لا شريك له، أنجَز وعدَه، ونصر عبده، وهزم الأحزاب
وحده، يقول ذلك ثلاث مرات.
ويدعو بين ذلك.
ثمّ ينزل ليسعى بين الصفا والمروة، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اسعوا؛ فإِن الله كتَب عليكم السعي" (3). فيمشي
إِلى العلم (الموضوع) عن اليمين واليسار،
__________
(1) وما قاله شيخنا يشبه ما قاله شيخ الإِسلام -رحمهما الله تعالى- في وجوب
الموالاة في الوضوء؛ فإِنه -رحمه الله- أوجبها إِلا من عُذر، وتقدّم في
"كتاب الوضوء".
(2) ليس من السهل الآن رؤية البيت إِلا في بعض الأماكن من الصفا؛ فإِنه
يراه من خلال الأعمدة التي بني عليها الطابق الثاني من المسجد، فمن تيسر له
ذلك فقد أصاب السنّة؛ وإلا فليجتهد ولا حرج.
(3) وهو حديث صحيح، مخرّج في "الإِرواء" (1072).
(4/377)
وهو المعروف بالميل الأخضر، ثمّ يسعى منه
سعياً شديداً (1) إِلى العلم الآخر الذي بعده، وكان في عهده - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وادياً أبطح فيه دِقاق الحصا". وتقدّم الحديث
في ذلك.
ثمّ يمشي صُعُداً حتى يأتي المروة فيرتقي عليها، ويصنع فيها ما صَنع على
__________
(1) فائدة: جاء في "المغني" لابن قدامة المقدسي (3/ 394) ما نصه: "وطواف
النساء وسعيهن مشي كلّه، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل
على النساء حول البيت، ولا بين الصفا والمروة، وليس عليهن اضطباع، وذلك لأن
الأصل فيه إِظهار الجلد، ولا يقصد ذلك في حقّ النّساء؛ لأن النساء يقصد
فيهن الستر، وفي الرمل والاضطباع تعرُّضٌ للكشف".
وفي "المجموع" للنووي (8/ 75) ما يدل على أنّ المسألة خلافية عند الشافعية؛
فقد قال: "إِنّ فيها وجهين:
الأول -وهو الصحيح، وبه قطع الجمهور-: أنها لا تسعى؛ بل تمشي جميع السافة
ليلاً ونهاراً.
والوجه الئاني: أنها إِن سعت في الليل حال خلو المسعى؛ استحب لها السعي في
موضع السعي كالرجل".
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله تعالى-]: ولعل هذا هو الأقرب؛ فإِن أصل مشروعية
السعي إِنما هو سعي هاجر أم إِسماعيل تستغيث لابنها العطشان، كما في حديث
ابن عباس: "فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه، ثم استقبلت
الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إِذا بلغت
الوادي؛ رفعت درعها ثمّ سعت سعي الإِنسان المجهود، حتى إِذا جاوزت الوادي،
ثمّ أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً، ففعلت ذلك
سبع مرات، قال ابن عباس: قال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: "فذلك سعي الناس بينهما". أخرجه البخاري في (كتاب الأنبياء).
(4/378)
الصفا؛ من استقبال القبلة، والتكبير، والتوحيد، والدعاء، وهذا شوط.
ثمّ يعود حتى يرقى على الصفا، يمشي موضع مشْيه، ويسعى موضع سعْيه، وهذا شوط
ثانٍ.
ثمّ يعود إِلى المروة، وهكذا حتى يتم له سبعة أشواط نهاية آخرها على
المروة.
ويجوز أن يطوف بينهما راكباً، والمشي أعجب إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1).
فإِذا انتهى من الشوط السابع على المروة؛ قصّ شعر رأسه (2)؛ وبذلك تنتهي
العمرة، ويحلُّ له ما حرُم عليه بالإِحرام، ويمكث هكذا حلالاً إِلى يوم
التروية.
ومن كان أحرم بغير عمرة الحج، ولم يكن ساق الهدي من الحل؛ فعليه أن يتحلل؛
اتباعاً لأمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واتقاءً
لغضبه.
وأمّا من ساق الهدي؛ فيظلّ في إِحرامه، ولا يتحلّل إِلا بعد الرمي يوم
النحر. |