الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة الخِطبة (1)
الخِطبة: فِعْلة، كقِعدة وجِلسة، يقال: خَطب المرأة يَخْطُبها، خَطْباً
وخِطْبَةً، أي: طلبها للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، ورجل خطّاب:
كثير التصرّف في الخطبة، والخطيب،
والخاطب، والخطب؛ الذي يخطب المرأة، وهي خطبة، وخطبته، وخطب يخطب: قال
كلاماً يعظ به، أو يمدح غيره، ونحو ذلك.
والخِطبة من مقدمات الزواج، وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية؛
ليتعرّف كلّ من الزوجين صاحبه، ويكون الإِقدام على الزواج على هدى وبصيرة.
ماذا يقول إِذا دُعي ليزوِّج؟
عن أبي بكر بن حفص قال: "كان ابن عمر إِذا دعي إِلى تزويج قال: لا تفضِّضوا
(وفي نسخة: تعضضوا) علينا الناس، الحمد لله، وصلّى الله على محمد، إِن
فلاناً خطب إِليكم فلانة، إِنْ أَنكحتموه فالحمد لله، وإنْ رددتموه فسبحان
الله" (2).
خِطبة معتدَّة الغير (3):
تحرُم خِطبة المعتدَّة؛ سواء أكانت عدتها عدة وفاة، أم عدة طلاق، وسواء
أكان الطلاق طلاقاً رجعياً أم بائناً، فإِن كانت معتدة من طلاق رجعي، حرمت
__________
(1) عن كتاب "فقه السّنة" (2/ 343).
(2) أخرجه البيهقي، وصحّح شيخنا -رحمه الله- إِسناده في "الإِرواء" (1822).
(3) عن "فقه السّنة" (2/ 344) بتصرّف.
(5/28)
خطبتها؛ لأنها لم تخرج عن عصمة زوجها، وله
مراجعتها في أي وقت شاء.
وإِن كانت معتدة من طلاق بائن، حرُمت خطبتها بطريق التصريح، إِذ حقّ الزوج
لا يزال متعلّقاً بها، وله حقّ إِعادتها بعقد جديد، ففي تقدُّم رجل آخر
لخطبتها اعتداء عليه.
واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه.
وإن كانت معتدة من وفاة، فإِنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون
التصريح (1)؛ قال الله -تعالى-: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خِطبة
النّساء أو أكننتم في أنفسكم عَلِم الله أنَّكم ستذكُرُونهنّ ولكن لا
تُواعدوهنّ سرّاً إِلاّ أن تقولوا قولاً معروفاً ولا تعزِمُوا عُقْدة
النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أَجَلَه واعلموا أنّ الله يَعْلَم ما في أنفسكُم
فاحذَروه} (2).
والمراد بالنساء المعتدات لوفاة أزواجهن؛ لأن الكلام في هذا السياق، ومعنى
التعريض؛ أن يذكر المتكلم شيئاً؛ يدل به على شيء لم يذكره، مِثل أن يقول:
إِني أريد التزوج، أو: لَودِدْتُ أن يُيسّر الله لي امرأة صالحة، أو يقول:
إِن
__________
(1) سألت شيخنا عن قول الشيخ السيد سابق -رحمهما الله تعالى-: وإن كانت
معتدة من وفاة فإِنه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح؛ لأن
صلة الزوجية قد انقطعت بالوفاة، فلم يبق للزوج حق يتعلق بزوجته التي مات
عنها.
وإنما حرمت خطبتها بطريق التصريح؛ رعاية لحزن الزوجة وإحدادها من جانب،
ومحافظة على شعور أهل الميت وورثته من جانب آخر؟
فقال -رحمه الله-: لا أرى صحّة هذا التعليل!
(2) البقرة: 235.
(5/29)
الله لسائق لكِ خيراً.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " {فيما عرّضتم به من خِطبة النساء} يقول:
إِني أريد التزويج، ولوددت أنه ييسر لي امرأة صالحة. وقال القاسم: يقول:
إِنك عليّ كريمة، وإني فيك لراغب، وإنّ الله لسائق إِليك خيراً، أو نحو
هذا. وقال عطاء: يُعرّض ولا يبوح، يقول: إِنّ لي حاجة، وأبشري، وأنتِ بحمد
الله نافقة" (1).
وخلاصة الآراء: أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح
للبائن، وللمعتدة من الوفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي.
وإذا صرَّح بالخِطبة في العدة، ولكن لم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء عدتها،
فقد اختلف العلماء في ذلك؛ قال مالك: يفارقها؛ دخَل بها أم لم يدخل. وقال
الشافعي: صح العقد، وإن ارتكب النهي الصريح المذكور؛ لاختلاف الجهة.
واتفقوا على أنه يُفرّق بينهما لو وقع العقد في العدة، ودخل بها.
وهل تحل له بعد، أم لا؟ قال مالك والليث والأوزاعي: لا يحل له زواجها بعد.
وقال جمهور العلماء: بل يحلّ له إِذا انقضت العدة أن يتزوجها، إِذا شاء.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: "إِذا صرّح بالخِطبة في العدّة، ولكن لم يعقد
عليها إِلا بعد انقضاء عدّتها، فهل أنتم مع من قال بصحّة العقد، وإن ارتكب
النهي الصريح؟
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (5124).
(5/30)
فأجاب: نعم، أرى صحّة العقد، مع القول
بارتكاب النهي".
ثمّ رأيت قول عطاء: ولا يواعِد وليّها بغير علمها، وإن واعَدَت رجُلاً في
عدّتها ثمّ نكحها بعد، لم يفرّق بينهما (1).
تحريم خِطبة الرجل على خِطبة أخيه:
عن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن أخو المؤمن؛ فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على
بيع أخيه، ولا يخطُب على خِطبة أخيه حتى يَذَرَ" (2).
وإنْ أذِن الأول للثاني جاز.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "نهى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطُب الرجل على
خِطبة أخيه، حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب" (3).
قال أبو عيسى الترمذي: "قال مالك بن أنس: إِنما معنى كراهيهّ أن يخطب الرجل
على خِطبة أخيه: إِذا خطبَ الرجلُ المرأة فرضيت به، فليس لأحدٍ أن يخطب على
خِطبته.
وقال الشافعي معنى هذا الحديث: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه، هذا عندنا
إِذا خطب الرجل المرأة، فرضيت به وركنَت إِليه، فليس لأحد أن يخطب
__________
(1) "صحيح البخاري" (5124).
(2) أخرجه مسلم: 1414.
(3) أخرجه البخاري: 5142، ومسلم: 1412.
(5/31)
على خطبته. فأمّا قبل أن يعلم رضاها أو
ركونها إِليه، فلا بأس أن يخطبها، والحُجّة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس، حيث
جاءت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكَرت له أنّ أبا
جهم بن حذيفة، ومعاوية بن أبي سفيان خطباها. فقال: "أمّا أبو جهم، فلا يضع
عصاه عن عاتقه، وأمّا معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد" (1).
فمعنى هذا الحديث عندنا -والله أعلم-: أن فاطمة لم تخبره برضاها بواحد
منهما، فلو أخبرته، لم يشر عليها بغير الذي ذكرت" (2).
تفسير ترْك الخِطبة (3):
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة قال عمر:
لَقيت أبا بكر فقلت: إِن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فلبثت لياليَ، ثمّ خطبها
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلقيني أبو بكر فقال:
إِنه لم يمنعني أن أرجع إِليك فيما عرضت؛ إِلا أني قد علمتُ أنّ رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ذكَرها، فلم أكن لأُفْشِيَ سِرَّ
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولو ترَكها لَقَبِلتُها"
(4).
قال ابن بَطّال ما ملخصه: "تقدّم في الباب الذي قبله تفسير ترك الخِطبة
__________
(1) أخرجه مسلم: 1480.
(2) انظر "سنن الترمذي" (كتاب النكاح) "باب أن لا يخطب الرجل على خطبة
أخيه".
(3) هذا من تبويب الإِمام البخاري -رحمه الله- (كتاب النكاح) "باب - 46".
(4) أخرجه البخاري: 5145، وتقدّم.
(5/32)
صريحاً في قوله: حتى ينكح أو يترك، وحديث
عمر في قصة حفصة لا يظهر منه تفسير ترك الخِطبة؛ لأن عمر لم يكن عَلِمَ أنّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب حفصة، قال: ولكنه قصد
معنى دقيقاً يدلّ على ثقوب ذهنه ورسوخه في الاستنباط، وذلك أن أبا بكر علم
أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذا خطب إِلى عمر أنه
لا يردُّه، بل يرغب فيه ويشكر الله على ما أنعم عليه به من ذلك، فقام عِلْم
أبي بكر بهذا الحال مقام الركون والتراضي، فكأنه يقول: كلّ من عُلِمَ أنه
لا يُصرَف إِذا خطب؛ لا ينبغي لأحد أن يخطب على خِطبته" (1).
والحاصل: أنّ تفسير ترْك الخِطبة في الحديث السابق أن تُذكَر المرأة مِن
قِبَل شخص لأخيه، ويعلم رغبته في النكاح منها، ويُرجّح قبول الوليّ، فهذا
كلّه يدعو إِلى ترْك الخِطبة، والله أعلم.
إِذا استشارت المرأة رجلاً فيمن يخطبها؛ هل يخبرها بما يعلم (2)؟
عن فاطمة بنت قيس: أنّ أبا عمرو بنَ حفصٍ طلّقها البتة ... فذكرت الحديث
إِلى أن قالت: فلمّا حللتُ؛ ذكرت له أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم
خطباني، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أمّا أبو
جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه (3)، وأمّا معاوية فصعلوك (4) لا مال له، انكحي
أسامة بن زيد. فكرهته،
__________
(1) انظر "الفتح" (9/ 201).
(2) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 684).
(3) لا يضع العصا عن عاتقه؛ العاتق: ما بين العنق والمنكب، والمراد أنه
كثير الضرب للنساء.
(4) الصعلوك: قليل المال جداً. "نووي".
(5/33)
ثمّ قال: انكحي أسامة، فنكحته. فجعل الله
فيه خيراً واغتبطتُ" (1).
إِذا استشار رجلٌ رجلاً في المرأة هل يخبره بما يعلم (2)؟
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كنت عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوّج (3) امرأة من الأنصار،
فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنظرْتَ إِليها؟
قال: لا. قال: فاذهب فانظر إِليها، فإِن في أعين الأنصار شيئاً" (4).
النظر إِلى المخطوبة:
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه-: "أنّ امرأة جاءت إِلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! جئت لأهبَ لك نفسي،
فنَظر إِليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصعَّد
النظر إِليها وصوّبه ... " (5).
وعن المغيرة بن شعبة: أنّه خطب امرأة، فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "انظر إِليها؛ فإِنه أحرى أن يُؤْدَمَ (6) بينكما"
(7).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1480، وتقدّم.
(2) هذا العنوان من سنن النسائي "صحيح سنن النسائي" (2/ 685).
(3) وفي "صحيح سنن النسائي" (3046): "أراد أنْ يتزوّجها".
(4) أخرجه مسلم: 1424، وتقدّم.
(5) أخرجه البخاري: 5126، ومسلم: 1425.
(6) يُؤدم؛ أي: تكون بينكما المحبّة والاتفاق، يقال: أدَمَ الله بينهما
يأدِم أدْماً -بالسكون-؛ أي: ألّف ووفّق. "النهاية".
(7) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (868)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1511)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3034)، وانظر "الصحيحة" (96).
(5/34)
قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن. وقد ذهب بعض
أهل العلم إِلى هذا الحديث، وقالوا: لا بأس أن ينظر إِليها ما لم ير منها
محرّماً، وهو قول أحمد وإسحاق. ومعنى قوله: "أحرى أن يؤدم بينكما"؛ قال:
أحرى أن تدوم المودة بينكما".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنت عند النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال
له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أنظرتَ إِليها؟ قال:
لا، قال: فاذهب فانظر إِليها، فإِنّ في أعيُن الأنصار شيئاً" (1)، يعني:
الصغر.
ويجوز النظر إِليها، ولو لم تعلم أو تشعر به (2)، لقوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا خطب أحدكم امرأة؛ فلا جناح عليه أن ينظر
إِليها، إِذا كان إِنَّما ينظر إِليها لِخطبتهِ، وإِن كانت لا تعلم" (3).
قال شيخنا -رحمه الله-: "وقد عمل بهذا الحديث بعض الصحابة، وهو محمد بن
مسلمة الأنصاري، فقال سهل بن أبي حثمة: رأيت محمد بن مسلمة يطارد
بُثَيْنَةَ بنت الضَّحَّاك -فوق إِجّار (4) لها- ببصره طرداً شديداً،
__________
(1) أخرجه مسلم: 1424، وتقدّم.
(2) قاله شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (96)، ثمّ ذكر الدليل
في الحديث الذي يليه.
(3) أخرجه الطحاوي، وأحمد، والطبراني وغيرهم، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الصحيحة" (97).
(4) الإِجّار -بالكسر والتشديد-: السطح الذي ليس حواليه ما يردّ الساقط
عنه. "النهاية".
(5/35)
فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! فقال: إِني سمعت رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "إِذا أُلْقي في قلب امرئٍ خِطبةُ
امرأة فلا بأس أن ينظر إِليها" (1).
روى عبد الرزاق في "الأمالي" (2/ 46/1) بسند صحيح عن ابن طاوس قال: أردت أن
أتزوج امرأة، فقال لي أبي: اذهب فانظر إِليها. فذهبت، فغسلت رأسي وترجَّلت،
ولبِسْتُ من صالح ثيابي، فلمّا رآني في تلك الهيئة؛ قال: لا تذهب!
إِلامَ ينظُر؟
ويجوز له أن ينظر منها إِلى أكثر من الوجه والكفّين؛ لإِطلاق الأحاديث
المتقدّمة (2)، ولحديث جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا خطب أحدكم المرأة؛ فإِن استطاع أن
ينظر إِلى ما يدعوه إِلى نكاحها فليفعل، قال جابر: فخطبْتُ جارية، فكنت
أتخبأ لها، حتى رأيتُ منها ما دعاني إِلى نكاحها، وتزوجتُها" (3).
وقد صنَع مثله محمد بن مسلمة، كما تقدّم، وكفى بهما حُجّة (4).
__________
(1) رواه سعيد بن منصور في "سننه"، وعبد الرزاق في "المصنف"، وابن ماجه
والطحاوي وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (98).
(2) هذا كلام شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (98).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1832)، وانظر "الإِرواء" (1791)،
و"الصحيحة" (99).
(4) انظر "الصحيحة" تحت الحديث (99).
(5/36)
وجاء في "الصحيحة" تحت الحديث (99): "قال
ابن القيم في "تهذيب السنن" (3/ 25 - 26): "وقال داود: ينظر إِلى سائر
جسدها، وعن أحمد ثلاث روايات:
إِحداهن: ينظر إِلى وجهها ويديها.
والثانية: ينظر ما يظهر غالباً كالرقبة والساقين ونحوهما.
والثالثة: ينظر إِليها كلها عورةً وغيرَها؛ فإِنه نص على أنه يجوز أن ينظر
إِليها متجردة! ".
قلت: والرواية الثانية هي الأقرب إِلى ظاهر الحديث، وتطبيق الصحابة له،
والله أعلم.
وقال ابن قدامة في "المغني" (7/ 454): "ووجه جواز النظر [إِلى] ما يظهر
غالباً: أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أَذِنَ في
النظر إِليها من غير عِلمها؛ عُلِمَ أنه أذن في النظر إِلى جميع ما يظهر
عادة، إِذ لا يمكن إِفراد الوجه بالنظر مع مشاركة غيره له في الظهور،
ولأنّه يظهر غالباً، فأبيح النظر إِليه كالوجه، ولأنها امرأة أبيح له النظر
إِليها بأمر الشارع، فأبيح النظر منها إِلى ذلك كذوات المحارم". انتهى.
قلت: وخلاصة القول جواز النظر من غير اتفاق إِلى ما يظهر غالباً بما يزيد
عن الوجه والكفين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المتقدّم:
"ما يدعوه إِلى نكاحها"، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"وإن كانت لا تعلم" وعَمَلِ بعض الصحابة بذلك.
أمّا بالاتفاق؛ فلا يكون إِلا للوجه والكفّين. والله -تعالى- أعلم.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: ما هو آخر ما تقولونه في المواضع التي ينظر
(5/37)
إِليها الخاطب؛ أهي الوجه والكفّان فحسب؟
فأجاب -رحمه الله-: نعم.
قلتُ: ومِن غير اتفاق؛ ألَهُ أن يحاول رؤية ما يدعوه إِلى نكاحها؟
فأجاب -رحمه الله-: نعم.
قال شيخنا -رحمه الله- بعد أن ذكَر عدداً من الأحاديث في النظر إِلى
الخطوبة: "هذا؛ ومع صحة الأحاديث في هذه المسألة، وقول جماهير العلماء بها
... فقد أعرض كثير من المسلمين في العصور المتأخرة عن العمل بها؛ فإِنهم لا
يسمحون للخاطب بالنظر إِلى فتاتهم -ولو في حدود القول الضيق! - تورُّعاً
منهم -زعموا-! ومن عجائب الورع البارد أن بعضهم يأذن لابنته بالخروج إِلى
الشارع سافرة بغير حجاب شرعي! ثمّ يأبى أنْ يراها الخاطب في دارها وبين
أهلها بثياب الشارع!
وفي مقابل هؤلاء بعض الآباء المستهترين الذين لا يغارون على بناتهم
-تقليداً منهم لأسيادهم الأوروبين-، فيسمحون للمصوِّر أن يصوّرهنّ وهنّ
سافرات سفوراً غيرَ مشروع، والمصور رجل أجنبيّ عنهم، وقد يكون كافراً، ثمّ
يُقدِّمْنَ صورَهن إِلى بعض الشُّبَّان؛ بزعم أنهم يريدون خِطبتهن، ثمّ
ينتهي الأمر على غير خطبة، وتظل صور بناتهم معهم ليتغزلوا بها، وليطفئوا
حرارة الشباب بالنظر إِليها! ألا فتعساً للآباء الذين لا يغارون، وإنا لله
وإنا إِليه راجعون".
نظر المرأة إِلى الرجل:
وما مضى من القول في أهمية النظر في الوفاق والتآلف؛ فإِنه ينسحب على
(5/38)
المرأة كذلك، فلها الحقّ أن تنظر إِلى من
جاء يخطبها.
محادثة الرجل المرأة:
تشرع المحادثة بينهما دون خلوة فيما لا بُدّ منه. أمّا المبالغة في ذلك
فلا.
تحريم الخلوة بالمخطوبة:
ولا يجوز الخلوة بالمخطوبة قبل العقد، وغاية ما في الأمر جواز النظر؛
ليقرِّرا هذا الزواج أو يرفضاه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا يخلونّ رجل بامرأة إِلا مع ذي محرم" (1).
وعن عقبة بن عامر أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "لا يخلون رجل بامرأة إِلا كان ثالثهما الشيطان" (2).
العدولُ عن الخِطْبة وأثره (3):
الخِطبة مقدمة تسبق عقد الزواج، وكثيراً ما يعقبها تقديم المهر كلّه أو
بعضه، وتقديم هدايا وهِبات؛ تقويةً للصلات، وتأكيداً للعلاقة الجديدة.
وقد يحدُث أن يعدل الخاطب أو المخطوبة -أو هما معاً- عن إِتمام العقد، فهل
يجوز ذلك، وهل يُرَدُّ ما أُعطِي للمخطوبة؟
__________
(1) أخرجه البخاري: 5233، ومسلم: 1341.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (934)، وصحح شيخنا -رحمه الله-
إِسناده في "المشكاة" (3118).
(3) عن "فقه السنّة" بتصرّف (1/ 350).
(5/39)
إِن الخطبة مجرد وَعْدٍ بالزواج، وليست
عقداً ملزماً، والعدول عن إِنجازه حقّ من الحقوق التي يملكها كل من
المتواعِدَين، ولم يجعل الشارع لإِخلاف الوعد عقوبة مادية، يجازي بمقتضاها
المُخْلِف، وإنْ عَدَّ ذلك خُلقاً ذميماً، ووصَفه بأنه من صفات المنافقين،
إِلا إِذا كانت هناك ضرورة ملزمة، تقتضي عدم الوفاء.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "آية المنافق ثلاث: إِذا حدّث كذب، وإِذا وعد أخلف، وإذا
ائتُمِن خان" (1).
وأمّا الهدايا إذا تمّت الموافقة على الزوج، وحصَل الزواج بشروطه؛ فحُكمها
حُكم الهبة، والصحيح أنّ الهبة لا يجوز الرجوع فيها إِذا كانت تبرعاً
محضاً، لا لأجل العِوَض؛ *لأنّ الموهوب له -حين قَبَضَ العينَ الموهوبة-
دخلت في ملكه، وجاز له التصرف فيها؛ فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه
بغير رضاه، وهذا باطل شرعاً وعقلاً * (2) [والله -تعالى- أعلم].
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لأحد أن يعطي عطية فيرجع فيها، إِلا الوالد فيما
يعطي ولده" (3).
__________
(1) أخرجه البخاري: 33، ومسلم: 59.
(2) ما بين نجمتين نقَله المؤلف -رحمه الله- عن "إِعلام الموقعين" (2/
314).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1044)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1924)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3451)، وانظر "الإِرواء" (3/
63).
(5/40)
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "العائد في هبته؛ كالكَلب
يقيء ثمّ يعودُ في قيئه" (1).
أركان عقد النكاح:
وعقْد النكاح له رُكنان: الإِيجاب والقَبول -وهو رضا الطرفين وتوافُقُهما-.
ويُشترط لصحّته:
1 - موافقة الولي (2) -الذي يلي أمر الزوجة- أو إِذْنه.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أيُّما (3) امرأةٍ نُكِحَت بغير إِذن مواليها، فنكاحها باطلٌ
-ثلاث مرات-، فإِن دخَل بها؛ فالمهر لها بما أصاب منها، فإِن تشاجروا (4)،
فالسلطان وليُّ من لا وليّ له (5) " (6).
والأولياء: هم قرابة المرأة الأدنى فالأدنى؛ الذين يلحقهم الغضاضة إِذا
__________
(1) أخرجه البخاري: 2589، ومسلم: 1622.
(2) وانظر مبحث "الولاية على الزواج".
(3) أيُّما: كلمة استيفاء واستيعاب؛ فيشمل البِكر والثيب والشريفة
والوضيعة. "فيض القدير".
(4) أي: تنازع الأولياء وتخاصموا.
(5) أي: من ليس له وليٌّ خاصّ. "فيض القدير".
(6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524)، وغيرهم، وانظر
"الإِرواء" (1840).
(5/41)
تزوّجت بغير كُفْءٍ وكان المزوِّجُ لها
غيرَهم (1).
2 - حضور شاهِدَيْ عدل.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا نكاح إِلا بولي وشاهِدَيْ عدل" (2).
"قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ -صلّى الله
عليه وآله وسلّم- ومن بعدهم من التابعين وغيرهم قالوا: "لا نكاح إِلا
بشهود" لم يختلفوا في ذلك عندنا من مضى منهم إِلا قوماً من المتأخرين من
أهل العلم، وإِنما اختلف أهل العلم في هذا إِذا شَهِدَ واحدٌ بعد واحد،
فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم: لا يجوز النكاح حتى يشهد الشاهدان
معاً عند عُقْدَةِ النكاح، وقد رأى بعض أهل المدينة إِذا شَهِدَ واحد بعد
واحد أنه جائز إِذا أعلنوا ذلك، وهو قول مالك بن أنس وغيره. وقال بعض أهل
العلم: يجوز شهادة رجل وامرأتين في النكاح. وهو قول أحمد وإِسحاق ... "
(3).
ما يُشترط في الشهود:
1 - الإِسلام: ويُشترط الإِسلام ولا بُدّ في الشاهِدَين، ولفظ: "شاهِدَي
__________
(1) انظر "الروضة الندية" (2/ 27).
(2) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (879)، وأبو داود "صحيح سنن
أبي داود" (1836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526)، وغيرهم، وكلمة:
"شاهدين" من رواية البيهقي، وانظر "صحيح الجامع" (7433)، و"الإِرواء"
(1858) لزاماً.
(3) "النيل" (6/ 260).
(5/42)
عدل" يدّل على ذلك.
2 - العدالة: للحديث المتقدّم المشار إِليه: "لا نكاح إِلا بوليّ وشاهدي
عدل".
3 - العقل والبلوغ: لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رُفع
القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي
حتى يكبر" (1).
*وبهذا فشهادة الصبي أو المجنون أو الأصم أو السكران لا تصح؛ فإِنّ وجود
هؤلاء كعدمه* (2).
شهادة النساء:
اختلف الفقهاء في جواز شهادة المرأتين بدل الرجل (3)، فمنهم من لم يُجِزها
أخْذاً بالحديث المتقدّم: "لا نكاح إِلا بوليّ وشاهِدَي عدل"، ومنهم من
أجازها لقول الله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهيدَينِ مِنْ رِجَالكُم
فَإِنْ لَمْ يَكونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشَّهَدَاء} (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1150)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1660)، وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "الإِرواء" (297).
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (2/ 378) بتصرّف.
(3) واستدل المانعون بما رُوي عن الزهري أنه قال: "جَرت السُّنة من عهد
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تُقبل شهادة النساء
في الحدود". أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"، وضعّفه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (2682).
(4) البقرة: 282.
(5/43)
وبشهادة رجل وامرأتين يقول ابن حزم -رحمه
الله-؛ بل ويقول بشهادة أربع نسوة كما في "المحلّى" تحت (المسألة 1832)؛
فانظر تفصيله -إِن شئت-.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون انعقاد الزواج بشهادة: رجل وامرأتين؟
فقال: نعم.
ألفاظ الإِيجاب والقَبول:
يقع عقْد الزواج بالألفاظ التي يفهمها المتعاقدان بما يدلّ على إِرادة
النكاح مع فَهْم الشاهِدَين لذلك، كأن يقول في الموافقة: وافقت، قبلت،
رضيت، أو يقول في الإِيجاب: أَنكحتك، أو زوّجتك ...
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله-: "وينعقد النكاح بما عدّه الناس نكاحاً بأي
لغة ولفظ وفِعْل كان، ومثله كل عقْد" (1).
وسألتُ شيخنا -رحمه الله- هل ترون صحة النكاح إِذا وقَع الإِيجاب والقبول
وفهمه الشهود، هل ترونه يكفي مهما كانت اللغة التي أُدّي بها؟
فأجاب -رحمه الله-: نعم.
*وينعقد بألفاظ الهِبة أو البيع أو التمليك؛ إِذا كان المخاطب يعقله؛ لأنّه
عقْد لا يُشترط في صحته لفْظ مخصوص، بل أي لفظٍ إِذا اتفق فهم المعنى
الشرعي منه؛ أي: إِذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة* (2).
__________
(1) "الاختيارات"، ونقَله السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنّة" (2/
355).
(2) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنّة" (2/ 355) بتصرُّف.
(5/44)
عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّج رجلاً امرأة فقال: "اذهب، فقد
أنكحتُكها بما معك من القرآن" (1).
وجاء في تبويب سنن النسائي: (باب الكلام الذي ينعقد به النكاح)، بمعنى
انعقاد النكاح بكلمة: "أنكحتُكَها".
الخُطبة قبل الزواج
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "كل خُطبة ليس فيها تشهّد؛ فهي كاليد الجذماء (2) " (3).
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: علَّمنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطبة الحاجة (4): "إِنّ الحمْدَ لله، [نحمَدُهُ و]
نستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أَنْفسِنا، وسيِّئاتِ أعمالِنا،
من يَهدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ، ومَن يُضْلل فلا هاديَ لهُ.
وأَشهَدُ أنْ لا إِله إلاَّ الله، وحدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ
مُحمَّداً عَبدهُ ورَسولهُ.
{يا أَيّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِنْ نَّفْسٍ
وَاحدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنهُمَا رِجَالاً كثِيراً
ونِساءً واتَّقُوا الله الَّذِي تساءَلُونَ بِهِ
__________
(1) أخرجه البخاري: 5149، ومسلم: 1425.
(2) أي: المقطوعة ... يعني: أن كل خطبة لم يؤتَ فيها بالحمد والثناء على
الله؛ فهي كاليد المقطوعة التي لا فائدة بها لصاحبها". "فيض القدير".
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4052)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (883)، وانظر "المشكاة" (3150)، و"الصحيحة" (168).
(4) جاء في "سُبل السلام" (3/ 217): "وقوله: (في الحاجة) عام لكل حاجة،
ومنها النكاح".
(5/45)
والأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُم
رَقِيباً} (1).
{يا أيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حقَّ تُقَاتِهِ ولاَ تَمُوتُنَّ
إِلاَّ وَأَنتُم مُسْلِموُن} (2).
{يا أيّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سدِيداً
يُصْلحْ لَكُم أَعْمَالكُمْ ويَغْفِرْ لَكُم ذُنُوبكُمْ وَمَنْ يُطِع الله
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (3) " (4).
نيّة الطلاق عند العقد:
إِذا عقَد الرجل على المرأة وفي نيّته الطلاق منها حين العقد، فإِنّ الزواج
يكون صحيحاً، ولكنّه غاشٌّ مخادِع.
وسألت شيخنا -رحمه الله-: مَن تزوّج ونوى الطلاق؛ دون إِظهار ذلك؛ هل ترون
صحّة نكاحه، ولكنّه غاشٌّ مخادِع؟
فقال: نعم، يصح الزواج.
وأراد شيخنا -رحمه الله- الاطمئنان فسأل: هل هو نكاح متعة؟
فقلت: لا. فقال: نيّة الطلاق غير مستقرّة. ثمّ ضرَب مثالاً لشخصٍ كنت قد
سألته عن حاله، وكان قد طلّق قبل الدخول، ولم يكن ذلك في نيّته عند
__________
(1) النساء: 1.
(2) آل عمران: 102.
(3) الأحزاب: 70 - 71.
(4) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1860)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (882)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1535)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (3070)، وصحّحه شيخنا -رحمه الله- في "الكلم الطيب" (برقم 205).
(5/46)
العقد، ثمّ حاول إِرجاعها.
مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 106): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل
"ركَّاض" يسير في البلاد في كل مدينة شهراً أو شهرين ويعزل عنها، ويخاف أن
يقع في المعصية: فهل له أن يتزوج في مدة إِقامته في تلك البلدة؛ وإِذا سافر
طلقها وأعطاها حقها؛ أو لا؟ وهل يصح النكاح أم لا؟
فأجاب: له أن يتزوّج، لكن ينكح نكاحاً مُطلقاً؛ لا يشترط فيه توقيتاً؛ بحيث
يكون إِنْ شاء مسكها، وإِن شاء طلّقها، وإن نوى طلاقها حتماً عند انقضاء
سفره كُرِه في مثل ذلك، وفي صحة النكاح نزاع.
ولو نوى أنه إِذا سافر وأعجبته أمسكها وإِلا طلّقها؛ جاز ذلك. فأمّا أن
يشترط التوقيت فهذا "نكاح المتعة" الذي اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على
تحريمه، وإنْ كان طائفة يرخِّصون فيه، إِما مطلقاً، وإمّا للمضطر، كما قد
كان ذلك في صدر الإِسلام، فالصواب أنّ ذلك منسوخ، كما ثبت في "الصحيح" أن
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن رخص لهم في المتعة
عام الفتح قال: "إِنّ الله قد حرَّم المتعة إِلى يوم القيامة" (1) والقرآن
قد حرّم أن يطأ الرجل إِلا زوجة أو مملوكة بقوله: {والذين هم لفروجهم
حافظون إِلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإِنهم غير ملومين * فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون} (2). وهذه المستمتَعُ بها ليست من الأزواج،
ولا ما ملكت اليمين؛ فإِنّ الله قد جعل للأزواج أحكاماً: من الميراث،
والاعتداد بعد الوفاة بأربعة أشهر وعشر، وعدَّة
__________
(1) أخرجه مسلم: 1406، وتقدّم.
(2) المؤمنون: 5 - 7، المعارج: 29 - 31.
(5/47)
الطلاق ثلاثة قروء، ونحو ذلك من الأحكام
التي لا تثبت في حق المستمتَع بها، فلو كانت زوجة لثبت في حقها هذه
الأحكام؛ ولهذا قال مَن قال من السلف: إِنّ هذه الأحكام نَسخَت المتعة.
وبسْط هذا طويل، وليس هذا موضعه".
زواج الأخرس (1):
يصح زواج الأخرس بإِشارته إِن فُهمت، كما يصح بيعه؛ لأنّ الإِشارة معنى
مُفهم. وإِن لم تفهم إِشارته، لا يصح منه؛ لأنّ العقد بين شخصين، ولا بد من
فهْمِ كل واحد منهما ما يصدر من صاحبه.
قال لي شيخنا -رحمه الله-: "اللفظ المحدّد في الزواج لا يُشترط، ولكن يجب
أن نفهم ذلك اللفظ، ويقع دون لفظٍ إِذا فُهم".
جاء في "السيل الجرّار" (2/ 266): "وأمّا صحة العقد بالرسالة والكتابة ومن
المُصْمِت (2) والأخرس بالإِشارة؛ فلا نزاع في مِثله، ولم يَرِدْ ما يدل
على أنه لا بدّ أن يكون لفظاً".
تزويج الصغير:
عن سليمان بن يسار: "أنّ ابن عمر -رضي الله عنهما- زوّج ابناً له ابنة
أخيه، وابنه صغيرٌ يومئذ" (3).
توثيق الزواج بالكتابة:
يمضي الزواج بلا كتابة بشروطه؛ كما هو معلومٌ من حال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
__________
(1) عن "فقه السّنة" (2/ 357).
(2) أي: الساكت. "القاموس المحيط".
(3) أخرجه البيهقي، وإسناده صحيح كما في "الإرواء" (1827).
(5/48)
وأصحابه -رضي الله عنهم-! غير أنّ رقّة
الدّين التي أصابت كثيراً من الناس؛ تدعو إِلى هذه الكتابة؛ كما هو شأن
المحاكم الآن.
وليس يخفى ما يتبع هذا من تحقيق المصالح؛ التي لا تتمّ في عصرنا الحاضر
إِلا بالتدوين؛ كالحصول على وثائق السفر وشهادات الميلاد وغير ذلك.
ومن فوائد الكتابة؛ حِفظ حقوق المرأة إِذا ساء دين زوجها، فقد يأكل حقوقها
ويطلّقها، فالكتابة تضمن الحقوق.
الأنكحة المحرّمة
1 - نكاح المتعة: هو النكاح إِلى أجل مُعيَّن، وهو من التمتُّع بالشيء:
الانتفاع به (1).
وقد كان رخّص فيها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أيّاماً، ثمّ نهى
عنها.
عن سَبْرة الجُهني: أنه غزا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فتح مكة قال: فأقمنا بها خمس عشرة -ثلاثين بين ليلة ويوم-،
فأَذِن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة
النساء ... فلم أخرج حتى حرّمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - (2).
وفي رواية: "يا أيها الناس! إِنّي قد كنت أذِنْت لكم في الاستمتاع من
النساء، وإِنّ الله قد حرَّم ذلك إِلى يوم القيامة" (3).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن مُتعة
__________
(1) "النهاية".
(2) أخرجه مسلم: 1406.
(3) أخرجه مسلم: 1406.
(5/49)
النساء يوم خيبر، وعن أكْل لحوم الحُمُرِ
الإِنسية" (1).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لما وَلي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
خطب الناس فقال: إِنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَذِن لنا في المتعة ثلاثاً ثمّ حرّمها. والله لا أعلم أحداً يتمتع وهو
مُحصَن إلاَّ رجمته بالحجارة، إِلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحلّها بعد إِذ حرَّمها" (2).
وعن عروة بن الزبير: "أنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال: إِنّ ناساً
أعمى الله قُلُوبهم، كما أعمى أبصارهم، يُفتون بالمتعة -يُعرِّض برَجُل-،
فناداهُ فقال: إِنَك لَجِلْفٌ جاف (3)! فَلَعَمْري! لقد كانت المتعة تُفعلُ
على عهد إِمام المتقين (يريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -)، فقال له ابن الزبير: فجرِّب بنفسك؛ فوالله! لئن فعلتَها
لأرجمنَك بأحجارك.
قال ابن أبي شهاب: فأخبرني خالد بن المهاجر بن سيف الله؛ أنه بيْنا هو جالس
عند رجل؛ جاءه رجلٌ فاستفتاه في المُتعة، فأمره بها، فقال له ابن أبي عمرة
الأنصاري: مهلاً! قال: ما هي؟ والله لقد فُعلت في عهد إِمام المتقين!
قال ابن أبي عمرة: إِنها كانت رُخصةً في أول الإِسلام لمن اضطُرَّ إِليها،
كالميتة والدّم ولحم الخنزير، ثمّ أحكَم الله الدّين ونهى عنها" (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 4216، ومسلم: 1407.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1598).
(3) قال ابن السكّيت وغيره: الجلف هو الجافي. وعلى هذا قيل: إِنما جمَع
بينهما توكيداً لاختلاف اللفظ. والجافي. هو الغليظ الطبع القليل الفهم
والعلم والأدب لبُعده عن أهل ذلك. "شرح النووي".
(4) أخرجه مسلم: 1406.
(5/50)
وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 268): "ثمّ قد
أجمع المسلمون على التحريم، ولم يبق على الجواز إِلا الرافضة، وليسوا ممن
يُحتاج إِلى دفع أقوالهم، ولا هم ممّن يقدح في الإِجماع، فإِنهم في غالب ما
هم عليه مخالفون للكتاب والسنة ولجميع المسلمين. قال ابن المنذر: جاء عن
الأوائل الرخصة فيها -يعني المتعة-، ولا أعلم اليوم أحداً يجيزها إِلا بعض
الرافضة. وقال القاضي عياض: أجمع العلماء على تحريمها إِلا الروافض ... ".
2 - نكاح التحليل: وهو أن يتزوج المطلّقة ثلاثاً بعد انقضاء عدَّتها، أو
يدخل بها، ثمّ يطلقها؛ ليُحلّها للزوج الأول، وهذا النوع من الزواج كبيرة
من كبائر الإِثم والفواحش، حرّمه الله، ولعَن فاعله (1).
عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لَعَن الله المحلِّلَ والمحلَّلَ له" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لعَن رسولا الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلِّل والمحلَّل له" (3).
وعن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ألا أُخبِركم
__________
(1) "فقه السنة" (2/ 364).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1827)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (894)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1571)، وانظر "الإِرواء"
(1897).
(3) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1570)، والترمذي وغيرهما، وانظر
"الإرواء" (1897).
(5/51)
بالتيس المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله!
قال: هو المحلّل والمحلّل له" (1). وعن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: "جاء
رجل إِلى ابن عمر -رضي الله عنهما-، فسأله عن رجل طلّق امرأته ثلاثاً،
فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليُحلّها لأخيه، هل تحلّ للأول؟ قال: لا،
إِلا نكاح رغبة، كنا نعدّ هذا سِفاحاً (2) على عهد رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
جاء في "الروضة الندية" (2/ 38): "وصحّ عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلّل
ومحلّل له إِلا رجمتهما.
رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، في "مصنّفيهما"، وابن المنذر في "الأوسط".
وروى ابن أبي شيبة، عن ابن عمر: أنه سئل عن ذلك؟ فقال: كلاهما زانٍ.
والكلام في ذلك عن الصحابة والتابعين طويل، قد أطال شيخ الإِسلام تقي الدين
ابن تيمية الكلام عليه، وأفرده مصنفاً سماه: (بيان الدليل على إِبطال
التحليل) ". انتهى.
وجاء فيه أيضاً (ص 38 - 39): "أقول [أي: صاحب الروضة]: حديث
__________
(1) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1572)، والبيهقي وغيرهم،
وانظر "الإرواء" (6/ 309).
(2) سفاحاً؛ أي: زنىً.
(3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، والحاكم، والبيهقي ... وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "الإرواء" (1898).
(5/52)
لعْن المحلّل: مرويٌّ من طريق جماعة من
الصحابة بأسانيد بعضها صحيح، وبعضها حسن، واللعن لا يكون إِلا على أمر غير
جائز في الشريعة المطهرة، بل على ذنب هو من أشد الذنوب. فالتحليل غير جائز
في الشرع، ولو كان جائزاً لم يلعن فاعله والراضي به. وإذا كان لعْن الفاعل
لا يدل على تحريم فِعْله؛ لم تبق صيغة تدل على التحريم قطّ، وإذا كان هذا
الفعل حراماً غير جائز في الشريعة؛ فليس هو النكاح الذي ذكَره الله في
قوله: {حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره} (1)، كما أنه لو قال: لعَن الله بائع
الخمر، لم يلزم من لفظ: (بائع) أنه قد جاز بيعه، وصار من البيع الذي أَذِن
فيه بقوله: {وأحلَّ اللهُ البيعَ} (2). والأمر ظاهر.
قال ابن القيم: ونكاح المحلّل لم يُبَح في مِلّة من المِلَل قطّ، ولم يفعله
أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم. ثمّ سَلْ من له أدنى اطلاع على
أحوال الناس: كم من حُرَّة مصونة، أنشب فيها المحلل مخالب إِرادته؛ فصارت
له بعد الطلاق من الأخدان. وكان بعلها منفرداً بوطئها، فإِذا هو والمحلل
ببركة التحليل شريكان! فلعمر الله كم أخرج التحليل مخَدَّرةً من سترها إِلى
البغاء، ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون
التدرع بجمالها، وعناق القنا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ
بساقها. وأمّا هذه الأزمان التي شَكَتِ الفروجُ فيها إِلى ربها من مفسدة
التحليل، وقُبح ما يرتكبه المحلِّلون، مما هو رمد -بل عمَى- في عين الدين،
وَشَجاً في حلوق المؤمنين، من
__________
(1) البقرة: 230.
(2) البقرة: 275.
(5/53)
قبائحَ تُشْمِت أعداء الدين به، وتمنع
كثيراً ممن يريد الدخول فيه بسببه؛ بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا
يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم
الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضَمَّخَ التيس المستعار
فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وزعم أنه قد طيَّبها للتحليل، فيالله العجب
أيَّ طيبٍ أعارها هذا التيس الملعون؟ وأيُّ مصلحة حصلت لها ولمطلِّقها بهذا
الفعل الدون؟ .. إِلى غير ذلك".
قال صاحب "الروضة": "وقد أطال -رحمه الله تعالى- في تخريج أحاديث التحليل
في "إعلام الموقعين" إِطالة حسنة، فليراجع".
الزواج الذي تحلُّ به المطلقة للزوج الأول (1):
إِذا طلَّق الرجل زوجته ثلاث تطليقات، فلا تحلّ له مراجعتها، حتى تتزوج بعد
انقضاء عدتها زوجاً آخر زواجاً صحيحاً، لا بقصد التحليل.
فإِذا تزوجها الثاني زواج رغبة، ودخل بها دخولاً حقيقياً، حتى ذاق كل منهما
عُسَيْلَةَ الآخر، ثمّ فارقها بطلاق أو موت، حلّ للأول أن يتزوجها بعد
انقضاء عدتها.
عن عائشة -رضي الله عنها-: أن امرأة رِفاعة القُرَظيِّ جاءت إلى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: يا رسول الله! إِن رِفاعة
طلقني فَبَتَّ طلاقي، وإني نكحتُ بعدهُ عبد الرحمن بن الزبير القُرظي،
وإنما معهُ مثل الهدبة (2)؟! قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لعلك تريدين أن ترجعي إِلى رِفاعة؟ لا حتى يذوق عُسَيلتك
وتذوقي
__________
(1) عن "فقه السنة" (2/ 368) -بتصرّف يسير-.
(2) أرادت متاعه، وأنه رِخْوٌ مثل طرَف الثوب، لا يُغني عنها شيئاً.
"النهاية".
(5/54)
عُسَيلته" (1).
وذوق العُسَيلة كناية عن الجماع، ويكفي في ذلك التقاء الختانين، الذي يوجب
الحد والغسل. ونزل في ذلك قول الله -تعالى-: {فإنْ طلقها فلا تحلّ له من
بعْدُ حتى تنكح زوجاً غيره فإِن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إِن
ظنَّا أن يقيما حدودَ الله} (2).
وعلى هذا، فإِن المرأة لا تحل للأول، إِلا بهذه الشروط:
أولاً: أن يكون زواجها بالزوج الثاني صحيحاً.
ثانياً: أن يكون زواج رغبة؛ لا بقصد تحليلها للأول.
ثالثاً: أن يدخُل بها دخولاً حقيقياً بعد العقد، ويذوق عُسَيلتها، وتذوق
عُسَيلته.
3 - نكاح الشِّغار: وهو نِكاح معروف في الجاهلية، كان يقول الرجل للرّجل:
شاغرني؛ أي: زوّجني أختك أو بنتك أو من تَلِي أمرها، حتى أزوّجك أختي أو
بنتي أو من أَلِي أمرها، ولا يكون بينهما مهر، ويكون بُضْعُ كل واحدةٍ
منهما في مقابلة بُضع (3) الأخرى (4).
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا شغار في
__________
(1) أخرجه البخاري: 5260، ومسلم: 1433.
(2) البقرة: 230.
(3) البُضع: يطلق على عقد النكاح والجماع معاً، وعلى الفرج. "النهاية".
(4) "النهاية" وجاء في تتمَّته: "وقيل له: شغار لارتفاع [أي: لسقوط] المهر
بينهما، من شَغَر الكلب: إِذا رفع إحدى رجليه ليبول. وقيل الشغر: البعد.
وقيل: الاتّساع".
(5/55)
الإِسلام" (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشغار. والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك
وأُزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأُزوجك أختي" (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار. والشّغار أن يُزوِّج الرجل ابنته على أن يزوّجه
الآخر ابنته، وليس بينهما صَداق" (3).
وهناك بعض الآثار الدالّة على بُطلان هذا النكاح وإن كان هناك صَداق.
فعن الأعرج: "أنّ العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم
ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وكانا جعلا صَداقاً، فكتب معاوية إِلى
مروان يأمره أن يُفرِّق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (4)
وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 267): "ولا يختص الشغار بالبنات والأخوات، بل
حُكْم غيرهن من القرائب حُكْمهن، وقد حكى النووي الإِجماع على ذلك".
__________
(1) أخرجه مسلم: 1415.
(2) أخرجه مسلم: 1416.
(3) أخرجه البخاري: 5112، ومسلم: 1415.
(4) أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن حبان، وحسّن إِسناده شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (1896).
(5/56)
قال ابن عبد البر: "أجمع العلماء على أن
نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته: فالجمهور على البطلان. وفي
رواية عن مالك يُفْسَخُ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي.
وذهب الحنفية إِلى صحته ووجوب مهر المِثْل ... " (1).
وجاء في "الفتح" (9/ 163): "قال القرطبي: ... تفسير الشغار صحيح مُوافِق
لما ذكَره أهل اللغة؛ فإِن كان مرفوعاً فهو المقصود، وإن كان من قول
الصحابي فمقبول أيضاً؛ لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال. وقد اختلف الفقهاء
هل يُعتبر في الشغار الممنوع ظاهر الحديث في تفسيره، فإِن فيه وصفين:
أحدهما: تزويج كل من الوليين وليّته للآخر بشرط أن يزوجه وليّته، والثاني:
خلو بضع كل منهما من الصَّداق.
فمنهم من اعتبرهما معاً؛ حتى لا يمنع مثلاً إِذا زوَّج كل منهما الآخر بغير
شرط؛ وإن لم يذكر الصَّداق، أو زوَّج كل منهما الآخر بالشرط وذكر الصَّداق.
وذهب أكثر الشافعية إِلى أن علة النهي الاشتراك في البضع؛ لأن بُضع كل
منهما يصير مورد العقد، وجعْلُ البُضع صَداقاً مخالف لإِيراد عقد النكاح،
وليس المقتضي للبطلان ترك ذِكر الصَّداق؛ لأن النكاح يصح بدون تسمية
الصَّداق ... ".
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 131) تحت المسألة (1856): "ولا
يحل نكاح الشغار: وهو أن يتزوج هذا وليَّة هذا على أن يزوجه الآخر وليَّته
أيضاً، سواء ذكَرا في كل ذلك صَداقاً لكل واحدة منهما أو
__________
(1) انظر "الفتح" (9/ 163).
(5/57)
لإِحداهما دون الأخرى، أو لم يذكرا في شيء
من ذلك صداقاً، كل ذلك سواء يفسخ أبداً، ولا نققة فيه؛ ولا ميراث، ولا
صَداق، ولا شيء من أحكام الزوجية، ولا عدة".
وجاء في "السيل الجرّار" (2/ 267): "والنهي حقيقة في التحريم المقتضي
للفساد المرادف للبُطلان".
وسألت شيخنا -رحمه الله- قائلاً: "يرى جمهور العلماء أن عقد الشغار باطل،
وأنه لا ينعقد أصلاً، وخالف في ذلك أبو حنيفة -رحمه الله- فهو يرى أنه يقع
صحيحاً؛ ويجب لكل واحدةٍ من البنتين مهر مِثلها على زوجها. فماذا تقولون؟
فقال -رحمه الله-: "الصحيح هو القول الأول، لورود النّهي عن الشغار، والنهي
يقتضي البُطلان".
فائدة:
قال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (11/ 136): "فإِن خطب أحدهما
إِلى الآخر فزوجه، ثمّ خطب الآخر إِليه فزوّجه، فذلك جائز -ما لم يشترط أن
يزوّج أحدهما الآخر- فهذا هو الحرام الباطل".
4 - نكاح السِّرِّ:
وجاء في "الفتاوى" (32/ 102): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل تزوّج امرأة
"مصافحةً" (1) على صَداق خمسة دنانير كل سنة نصف دينار، وقد
__________
(1) المصافحة: نكاح السر.
(5/58)
دخل عليها وأصابها: فهل يصح النكاح أم لا؟
وهل إِذا رُزق بينهما ولد يرث أم لا؟ وهل عليهما الحدّ أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. إِذا تزوجها بلا ولي ولا شهود، وكتما النكاح: فهذا نكاح
باطل باتفاق الأئمة؛ بل الذي عليه العلماء أنه: "لا نكاح إِلا بولي" (1)
و"أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها؛ فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها
باطل" (2). وكلا هذين اللفظين مأثور في "السنن" عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وقال غير وأحد من السلف: لا نكاح إِلا بشاهدين، وهذا مذهب أبي حنيفة
والشافعي وأحمد. ومالك يوجب إِعلان النكاح.
"ونكاح السرّ" هو من جنس نكاح البغايا؛ وقد قال الله -تعالى-: {مُحْصَنات
غير مُسَافِحَاتٍ ولا مُتَّخذَات أَخْدَان} (3). فنكاح السرّ من جنس ذوات
الأخدان؛ وقال -تعالى-: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامى مِنْكُم} (4)، وقال
-تعالى-: {ولا تُنْكِحُوا المُشركين حتى يُؤمنوا} (5)، فخاطَب الرجال
بتزويج النساء؛ ولهذا قال من قال من السلف: إِن المرأة لا تُنْكِحُ نفسَها،
وإنَّ
__________
(1) أخرجه أحمد، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (879)، وأبو داود "صحيح سنن
أبي داود" (1836)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526) وغيرهم، وتقدّم.
(2) أخرجه أحمد، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524) وغيرهم، وانظر
"الإرواء" (1840)، وتقدّم.
(3) النساء: 25.
(4) النور: 32.
(5) البقرة: 221.
(5/59)
البَغِيَّ هي التي تُنْكِحُ نفسَها.
لكن إِن اعتقد هذا نكاحاً جائزاً؛ كان الوَطْءُ فيه وَطْءَ شبهة، يلحق
الولد فيه، ويرث أباه، وأما العقوبة فإِنهما يستحقان العقوبة على مثل هذا
العقد".
الشروط في النكاح (1)
1 - ما يجب الوفاء به، وهو ما أمَر الله به من إِمساك بمعروف أو تسريحٍ
بإِحسان، وما كان من مُقتضَيات العقد ومقاصده، ولم يتضمّن تغييراً لحُكم
الله -تعالى- ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ كاشتراط
العشرة بالمعروف، والإِنفاق عليها، وكسوتها، وألا يقصّر في شيء من حقوقها،
وأنها لا تخرج من بيته إِلا بإِذنه، ولا تصوم تطوُّعاً بغير إِذنه ...
وعليه حمَل بعضهم حديث عقبة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "أحقّ ما أوفيتم من الشروط (2)؛ أن توفوا به ما
استحلَلتُم به الفروج" (3).
__________
(1) ملتقطٌ من "المغني" و"مجموع الفتاوى" و"فقه السّنة" وغيرها بتصرّف
وزيادة.
(2) قال في "فيض القدير" (2/ 418): "يعني الوفاء بالشروط حق، وأحق الشروط
بالوفاء الذي استحللتم به الفروج، وهو المهر والنفقة ونحوهما، فإِن الزوج
التزمها بالعقد، فكأنها شرطت. هذا ما جرى عليه القاضي في تقريره. ولا يخفى
حُسنه. قال الرافعي -رحمه الله-: وحمَله الأكثر على شرط لا ينافي مقتضى
العقد؛ كشرط المعاشرة بالمعروف، ونحو ذلك مما هو من مقاصد العقد ومقتضياته،
بخلاف ما يخالف مقتضاه؛ كشرط أن لا يتزوج أو يتسرى عليها، فلا يجب الوفاء
به. وأخذ أحمد -رضي الله عنه- بالعموم، وأوجب الوفاء بكل شرط".
(3) أخرجه البخاري: 5151، ومسلم: 1418.
(5/60)
جاء في "سبل السلام" (3/ 242): "والحديث
دليل على أن الشروط المذكورة في عقد النكاح يتعين الوفاء بها، سواء كان
الشرط عرضاً (1) أو مالاً، حيث كان الشرط للمرأة، لأنّ استحلال البضع إِنما
يكون فيما يتعلق بها أو ترضاه لغيرها".
2 - ما لا يُوفّى به، وهو ما لا يجب الوفاء به مع صحّة العقد، وهو ما كان
منافياً لمقتضى العقد؛ كاشتراط ترْك الإِنفاق، والوطء، أو اشتراط عدم
إِعطائها المهر، أو اشتراط إِنفاقها عليه، أو لا يكون عندها في الأسبوع
إِلا ليلة، أو أن يكون لها النهار دون الليل.
فهذه الشروط كلّها باطلة في نفسها؛ لأنّها تُنافي العقد، ولأنّها تتضمّن
إِسقاط حقوقٍ تجب بالعقد قبل انعقاده".
قلت: لكن هذا إِنْ كان بلا سبب. أمّا إِنْ كان هناك ما يدعو إِليه، فلا
بأس.
وسألتُ شيخنا -رحمه الله- قائلاً: هناك من يقول: لا يجب الوفاء في اشتراط
ترْك الإِنفاق.
فسأل شيخنا -رحمه الله-: قبل الزواج؟
قلت: نعم.
قال -رحمه الله-: وقَبِل وليّ الأمر والزوجة؟
قلت: نعم.
قال -رحمه الله-: فهل الفقر الذي حمَل على عدم الإِنفاق مثلاً؟
__________
(1) العَرْض: كلّ شيء سوى الدَّراهم والدَّنانير.
(5/61)
قلت: هل أفهم منكم -شيخنا- إِن كان ثمّة
مسوّغ جاز؛ وإلا فلا.
قال -رحمه الله-: نعم.
وسألته -رحمه الله- عن اشتراط ترْك الوطء، أو عدم تقديم المهر، فقال -رحمه
الله-: نفس الجواب.
وسألته عمن يشترط ألا يكون عندها في الأسبوع إِلا ليلة؟
فقال -رحمه الله-: إِنْ كان لعجز أو سبب جاز. انتهى.
وسألته -رحمه الله- في موضع آخر عمّن يرى من العلماء فسْخ نكاح من تزوّج
بغير ذِكر المهر، أو من اشترط أن لا مهر عليه؟
فأجاب -رحمه الله-: هذا زنى، أمّا إِذا كان هناك مهْر لم يسمَّ ولم يُحدّد؛
فلا بأس.
وممّا لا يُوفّى به كذلك؛ ما كان ممّا نهى الشرع عنه؛ كاشتراط المرأة عند
الزواج طلاق ضرّتها.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا يحل لامرأة تسأل طلاق أختها؛ لتستفرغ صحفتها (1)،
فإِنما لها ما قُدّر لها" (2).
3 - ما اختُلف فيه؛ كاشتراط أن لا يتزوّج عليها، أو ألا يتسرّى، أو لا
ينقلها من منزلها إِلى منزله، أو لا يسافر بها ونحو ذلك.
__________
(1) الصحفة: إِناءٌ كالقصعة المبسوطة ونحوها. وهذا مثل يريد به الاستئثار
عليها بحظّها، فتكون كمن استفرغ صحفة غيره، وقلب ما في إِنائه إِلى إِناء
نفسه. "النهاية".
(2) أخرجه البخاري: 5152، ومسلم: 1413.
(5/62)
واستدلّ الأحناف والشافعية وكثير من أهل
العلم بما يأتي:
أ- إِن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلمون
على شروطهم؛ إِلا شرطاً حرّم حلالاً، أو أحل حراماً" (1).
ب- قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما كان من شرطٍ ليس في
كتاب الله فهو باطل، وإنْ كان مائةَ شرط" (2).
ولا بُد من بيان بعض الأمور دفْعاً للالتباس، فأقول -وبالله التوفيق-:
المراد بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس كتاب الله"؛ أي:
ليس فيه جوازُه أو وجوبه، فالمراد في الحديث: الشروط الجائزة؛ لا المنهيّ
عنها، كما بيّن ذلك العلماء.
وقال القرطبي -رحمه الله-: "قوله: "ليس في كتاب الله"؛ أي: ليس مشروعاً فيه
تأصيلاً ولا تفصيلاً، فإِنّ من الأحكام ما لا يوجد تفصيله في الكتاب
-كالوضوء-، ومنها ما يوجد تأصيله دون تفصيله -كالصلاة-، ومنها ما أُصّل
أصْله -كدلالة الكتاب على أصلية السنّة والإِجماع والقياس-" (3).
ويجب أن نعلم أن الشرط الذي يحل الحرام أو يحرّم الحلال ليس في كتاب الله
-تعالى- وليس المراد من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس
في كتاب الله" أنّ كتاب الله -تعالى- قد نطَق به لفظاً ونصّاً؛ فإِن كثيراً
من الشروط على هذا النحو غير منطوقٍ بها، ومع ذلك فهي مشروعة؛ لأنها لا
تخالف الكتاب ولا السُّنهّ.
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1089) وغيره، والجملة الأولى رواها
البخاري معلّقة بصيغة الجزم، وانظر "الفتح" (4/ 451) و"الإرواء" (5/ 144).
(2) أخرجه البخاري: 2729، ومسلم: 1504.
(3) انظر "فيض القدير" (5/ 22).
(5/63)
وجاء في "المغني" (7/ 448): "وإذا تزوَّجها
وشرّط لها أن لا يخرجها من دارها وبلدها؛ فلها شرطها؛ لما روي عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "أحق ما أوفيتم به من الشروط
ما استحللتم به الفروج". وإن تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها؛ فلها
فراقه إِذا تزوج عليها، وجملة ذلك أن الشروط في النكاح تنقسم أقساماً ثلاثة
... ".
ثمّ فصّل القول في ذلك.
وجاء في "الفتاوى" (32/ 164): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوَّج بامرأةٍ؛
فشُرِط عليه عند النَّكاح أنه لا يتزوج عليها، ولا ينقُلُها من منزلها.
وكانت لها ابنةٌ، فشرط عليه أن تكون عند أمّها، وعنده ما تزال، فدخل على
ذلك كله، فهل يلزمه الوفاء؟ وإذا أخلف هذا الشرط، فهل للزوجة الفسخ، أم لا؟
فأجاب: الحمد لله. نعم تصحّ هذه الشروط وما في معناها في مذهب الإِمام
أحمد، وغيره من الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ كعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص
-رضي الله عنهما-، وشريح القاضي، والأوزاعي، وإسحاق، ولهذا يوجد في هذا
الوقت صَداقات أَهل المغرب القديمة -لمَّا كانوا على مذهب الأوزاعي- فيها
هذه الشروط. ومذهب مالك: إِذا شرط أنه إِذا تزوج عليها أو تسرّى أن يكون
أمرها بيدها ونحو ذلك: صح هذا الشرط أيضاً، وملكت الفُرقة به. وهو في
المعنى نحو مذهب أحمد في ذلك؛ لما أخرجاه في "الصحيحين" عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "إِنّ أحق الشروط أن توفوا
به ما استحللتم به الفروج" (1).
وقال عمر بن الخطاب: "مقاطع الحقوق عند الشروط" (1).
__________
(1) تقدّم.
(5/64)
فجعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ما يستحل به الفروج من الشروط أحق بالوفاء من غيره، وهذا نص في
مِثل هذه الشروط؛ إِذ ليس هناك شرط يُوفّى به بالإِجماع غير الصَّداق
والكلام. فتعيَّن أن تكون هي هذه الشروط.
وأمّا شرط مُقامِ ولدِها عندها، ونفقته عليه؛ فهذا مِثل الزيادة في
الصَّداق، والصّداق يحتمل من الجهالة فيه -في المنصوص عن أحمد وهو مذهب أبي
حنيفة ومالك- ما لا يحتمل في الثمن والأجرة. وكل جهالة تنقص على جهالة مهر
المثل تكون أحق بالجواز؛ لا سيما مثل هذا يجوز في الإِجارة ونحوها في مذهب
أحمد وغيره: إِن استأجر الأجير بطعامه وكسوته، ويُرْجَعُ في ذلك إِلى
العرف، فكذلك اشتراط النفقة على ولدها يُرْجَعُ فيه إِلى العرف بطريق
الأولى.
ومتى لم يُوفِ لها بهذه الشروط فتزوج، وتسرّى، فلها فسْخ النكاح، لكن في
توقُّف ذلك على الحاكم نزاع؛ لكونه خياراً مجتهداً فيه، كخيار العنّة
والعيوب؛ إِذ فيه خلاف ... " (1).
وجاء (ص 167) منه: "وسئل شيخ الإِسلام -رحمه الله- عن رجل تزوج بنتاً عمرها
عشر سنين، واشترط عليه أهلها أنه يسكن عندهم، ولا ينقلها عنهم، ولا يدخل
عليها إِلا بعد سنة، فأخذها إِليه، واختلف ذلك، ودخل عليها، وذكر الدايات:
أنه نقلها، ثمّ سكن بها في مكان يضربها فيه الضَّرْبَ المُبرِّح، ثمّ بعد
ذلك سافر بها، ثمّ حضر بها، ومنع أن يدخل أهلها عليها مع مداومته على
ضرْبها: فهل يحل أن تدوم معه على هذا الحال؟
__________
(1) وانظر للمزيد -إن شئت- فيما يتعلق بالشروط في "الفتاوى" (29/ 175 -
176) و (29/ 350 - 354) و (32/ 169 - 170).
(5/65)
فأجاب: إِذا كان الأمر على ما ذكَر؛ فلا
يحل إِقرارها معه على هذه الحالة؛ بل إِذا تعذر أن يعاشرها بالمعروف فُرّق
بينهما؛ وليس له أن يطأها وطأ يضرُّ بها؛ بل إِذا لم يمتنع من العدوان
عليها فُرّق بينهما، والله أعلم".
وجاء (ص 168) منه: "وسئل -رحمه الله- عن رجل شرط على امرأته بالشهود أن لا
يُسكنها في منزل أبيه، فكانت مدة السكنى منفردة، وهو عاجز عن ذلك: فهل يجب
عليه ذلك؟ وهل لها أن تفسخ النكاح إِذا أراد إِبطال الشرط؟ وهل يجب عليه أن
يمكّن أمها أو أختها من الدخول عليها والمبيت عندها، أو لا؟
فأجاب: لا يجب عليه ما هو عاجز عنه؛ لا سيما إِذا شرطت الرضا بذلك؛ بل
[إِذا] كان قادراً على مسكن آخر؛ لم يكن لها عند كثير من أهل العلم -كمالك
وأحد القولين في مذهب أحمد وغيرهما- غير ما شرط لها، فكيف إِذا كان عاجزاً؟
وليس لها أن تفسخ النكاح عند هؤلاء وإنْ كان قادراً. فأمّا إِذا كان ذلك
للسكن، ويصلح لسكنى الفقير، وهو عاجز عن غيره؛ فليس لها أن تفسخ بلا نزاع
بين الفقهاء، وليس عليه أن يمكِّن من الدخول إِلى منزله: لا أمّها ولا
أختها، إِذا كان معاشراً لها بالمعروف، والله أعلم".
وجاء في تعليق شيخنا على "الروضة الندية" (2/ 175) بعد نقْل كلام شيخ
الإِسلام -رحمهما الله-: "وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن
واجباً بدونه، فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجباً ولا حراماً، وعدم
الإِيجاب ليس نفياً للإِيجاب، حتى يكون المشترط مناقضاً للشرع، وكل شرط
صحيح فلا بد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجباً، ويباح أيضاً لكل منهما ما
(5/66)
لم يكن مباحاً، ويحرم على كل منهما ما لم
يكن حراماً، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إِذا اشترط صفة في
المبيع أو رهناً، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مِثلها؛ فإِنه يجب ويحرُم
ويباح بهذا الشرط؛ ما لم يكن كذلك؛ كذا في "الفتاوى" (3/ 333) ".
وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلّى" (11/ 139) بعد حديث: "إِنّ
أحق الشروط أن توفّوا ... ": "فقد صحّ أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يُرِدْ قط في هذا الخبر شرطاً فيه تحريم حلال، أو
تحليل حرام، أو إِسقاط فرض، أو إِيجاب غير فرض، لأنّ كل ذلك خلاف لأوامر
الله -تعالى- ولأوامره -عليه الصلاة والسلام-.
واشتراط المرأة أن لا يتزوج، أو أن لا يتسرى، أو أن لا يغيب عنها، أو أن لا
يرحِّلها عن دارها؛ كل ذلك تحريم حلال، وهو وتحليل الخنزير والميتة سواء في
أنّ كلّ ذلك خلاف لحكم الله -عزّ وجلّ-".
وخلاصة القول التي بدت لي:
إِنّ الأعمال إِمّا أن تكون واجبة، وإِمّا أن تكون حراماً، وإمّا أن تكون
جائزة.
فاشتراط المرأة ترْك الواجب باطل، واشتراطها فِعْل الحرام باطل كذلك، فيبقى
البحث في الأمور الجائزة؛ فيجوز ذلك. والله -تعالى- أعلم.
مسألة: جاء في "الفتاوى" (32/ 42): "وسئل -رحمه الله- عن بنت زالت بكارتها
بمكروه، ولم يُعْقَدْ عليها عَقْدٌ قطّ، وطلبها من يتزوّجها؛ فذكر له ذلك
فرضي: فهل يصح العقد بما ذكر إِذا شهد المعروفون أنها بنت؛ لتسهيل الأمر في
ذلك؟
فأجاب: إِذا شهدوا أنها ما زُوجت؛ كانوا صادقين، ولم يكن في ذلك
(5/67)
تلبيس على الزّوج؛ لعلِمه بالحال.
وينبغي استنطاقها بالأدب؛ فإِنّ العلماء متنازعون: هل إِذنها -إِذا زالت
بكارتها بالزنى- الصمت، أو بالنطق؟ والأول مذهب الشافعي وأحمد كصاحبي أبي
حنيفة. وعند أبي حنيفة ومالك: إِذنها الصمات، كالتي لم تزَلْ عذرتها".
هل يحقّ فسْخُ العقد إِذا ثبَتَ العيب؟
* اختلف الفقهاء في ذلك، فقال داود، وابن حزم، ومن وافَقَهما: لا يُفْسَخ
النكاح بعيب ألبتة.
وقال أبو حنيقة: لا يفسخ إِلا بالجَبِّ والعُنّة (1) خاصة.
وقال الشافعي ومالك: يُفْسَخ بالجنون والبرص، والجُذام والقَرَن (2)،
والجَبِّ والعُنّة خاصة. وزاد الإِمام أحمد عليهما: أن تكون المرأة فتقاء
منخرقة ما بين السبيلين. ولأصحابه في نَتَن الفرج والفم، وانخراق مخرجي
البول والمني في الفرج، والقروح السيالة فيه، والبواسير، والنّاصور،
والاستحاضة، واستطلاق البول، والنجو (3)، والخصي -وهو قطع البيضتين-
والسَّل -وهو سَلُّ البيضتين-، والوَجء -وهو رضُّهما-، وكون أحدهما خُنثى
مشكلاً، والعيب الذي بصاحبه
__________
(1) العُنّة: العجز عن وطء النّساء.
(2) القرناء من النساء: التي في فرجها مانع يمنع من سلوك الذكر فيه، إِمّا
غدّة غليظة، أو لحمة مُرْتَتِقة أو عظم، يقال لذلك كله: القرَن. "لسان
العرب".
(3) النجو: ما يخرج من البطن من ريحٍ وغائط. "القاموس المحيط".
(5/68)
مثله من العيوب السبعة، والعيب الحادث بعد
العقد: وجهان.
وذهب بعض أصحاب الشافعي إِلى ردّ المرأة بكُلِّ عيبٍ تُردُّ به الجارية في
البيع، وأكثرهم لا يَعرف هذا الوجه ولا مظنّته، ولا مَن قاله. وممن حكاه:
أبو عاصم العباداني في كتاب "طبقات أصحاب الشافعي"، وهذا القول هو القياس،
أو قول ابن حزم ومن وافقه.
وأما الاقتصار على عيبين أو ستة أو سبعة أو ثمانية، دون ما هو أولى منها أو
مساوٍ لها، فلا وجه له ... * (1).
أقول: يحقّ فسْخ العقد إِذا ثبَت -عيب عند الرجل أو المرأة- في الفرج؛ يمنع
الوطء والاستمتاع، أو كان به مرض مُنفّر، كالجنون أو البرص أو الجذام ...
وهناك آثار عن عمر وعثمان وابن مسعود والمغيرة بن شعبة -رضي الله عنهم- أن
العِنّين (2) يؤجّل سَنة (3).
وجاء في "الإِرواء" (6/ 324): " ... وأمّا أثر ابن مسعود، فيرويه سفيان عن
الركين عن أبيه وحصين بن قبيصة عن عبد الله أنه قال: "يؤجل العنّين سنة،
فإِنْ جامع، وإِلا فرّق بينهما" (4).
__________
(1) ما بين نجمتين من "زاد المعاد" (5/ 182).
(2) هو الذي لا يأتي النساء ولا يريدهنّ. "اللسان".
(3) انظر "الإِرواء" (1911).
(4) قال شيخنا -رحمه الله- في الكتاب المذكور: "أخرجه ابن أبي شيبة: وكيع
عن سفيان به. وتابعه شعبة: حدثني الركين عن حصين به؛ لم يذكر عن أبيه. =
(5/69)
وجاء في "سُبُل السلام" (3/ 263): "قال ابن
المنذر: اختلفوا في المرأة تطالب الرجل بالجماع، فقال الأكثرون: إِنْ
وطِئها بعد أنْ دخَل بها مرة واحدة؛ لم يؤجل أجل العِنِّين، وهو قول
الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة ومالك والشافعي وإسحاق. وقال أبو ثور: إِنْ
ترَك جماعها لعِلّة؛ أُجِّلَ لها سنة، وإنْ كان لغير عِلّة فلا تأجيل. وقال
عياض: اتفق كافة العلماء على أنّ للمرأة حقّاً في الجماع، فيثبت الخيار لها
إِذا تزوجت المجبوب والممسوح جاهلة بهما، ويضرب للعِنِّين أجل سنة؛ لاختبار
زوال ما به". انتهى.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (28/ 383): "ومن الحقوق
الأبضاع، فالواجب الحُكم بين الزوجين بما أمَر الله -تعالى- به، من إِمساكٍ
بمعروف أو تسريحٍ بإِحسان، فيجب على كلٍّ من الزوجين أن يؤدي إِلى الآخر
حقوقه، بطيب نفس وانشراح صدر؛ فإِنّ للمرأة على الرجل حقّاً في ماله؛ وهو
الصَّداق والنفقة بالمعروف، وحقّاً في بدنه؛ وهو العشرة والمتعة؛ بحيث لو
آلى منها استحقت الفرقة بإِجماع المسلمين، وكذلك لو كان مجبوباً أو عنّيناً
لا يمكنه جماعها فلها الفرقة؛ ووطؤها واجب عليه عند أكثر العلماء".
وقال -رحمه الله- (29/ 175): "وكذلك يوجب العقدُ المُطْلَق: سلامةَ الزوج
من الجَبِّ والعُنَّةِ عند عامة الفقهاء، وكذلك يوجب عند الجمهور: سلامتها
من موانع الوطء كالرتق (1)، وسلامتها من الجنون، والجذام، والبرص،
__________
= قلت: وهذا إِسناد صحيح على شرط مسلم، فإِن رجاله كلهم ثقات من رجاله سوى
حصين بن قبيصة، لكن روايته متابعة، ثم هو ثقة".
(1) المرأة الرتقاء: هي المرأة المنضمّة الفرج، التي لا يكاد الذّكر يجوز
فرجها؛ لشدّة انضمامه. "لسان العرب".
(5/70)
وكذلك سلامتهما من العيوب التي تمنع كماله،
كخروج النجاسات منه أو منها، ونحو ذلك في أحد الوجهين في مذهب أحمد وغيره".
وجاء فيه (32/ 173): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوج امرأة على أنها بِكر،
فبانت ثيباً؛ فهل له فسخ النكاح ويرجع على مَن غرَّه أم لا؟
فأجاب: له فسْخ النكاح، وله أن يطالب بأرش (1) الصَّداق -وهو تفاوُتُ ما
بين مهر البِكر والثيب؛ فينقص بنسبته من المسمّى-، وإذا فسخ قبل الدخول سقط
المهر، والله أعلم".
وجاء فيه (32/ 171): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة تزوجت برجل، فلما دخل رأت
بجسمه برصاً: فهل لها أن تفسخ عليه النكاح؟
فأجاب: إِذا ظهر بأحد الزوجين جنون، أو جذام، أو برص: فللآخر فسْخ النكاح؛
لكن إِذا رضي بعد ظهور العيب فلا فسْخ له. وإذا فسخت فليس لها أن تأخذ
شيئاً من جهازها، وإنْ فسخت قبل الدخول سقط مهرها. وإنْ فسخت بعده لم
يسقط".
وجاء (ص 171) منه: "وسئل -رحمه الله- عن رجل متزوج بامرأة فظهر مجذوماً:
فهل لها فسْخ النكاح؟
فأجاب: الحمد لله. إِذا ظهر أن الزوج مجذوم، فللمرأة فسْخ النكاح بغير
اختيار الزوج. والله أعلم".
__________
(1) الأرش: هو اسم للمال الواجب على ما دون النفس، كما في "التعريفات". هذا
في القصاص. وهو ما يستردّ من ثمن المبيع إذا ظهر فيه عيب. وهذا في البيوع.
والمراد هنا: ما يسترد من المهر بعد ظهور العيب.
(5/71)
وقال ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد
المعاد" (5/ 184): " ... وأمّا إِذا اشترط السلامة، أو شرَط الجمال، فبانت
شوهاء، أو شرَطها شابة حديثة السن، فبانت عجوزاً شمطاء، أو شرَطها بيضاء،
فبانت سوداء، أو بِكراً فبانت ثيِّباً، فله الفسْخُ في ذلك كلّه.
فإِنْ كان قبل الدخول، فلا مهر لها. وإنْ كان بعده، فلها المهر، وهو غُرْمٌ
على وليها إِنْ كان غرّه، وإنْ كانت هي الغارّهّ، سقط مهرها، أو رجع عليها
به إِن كانت قبضته. ونص على هذا أحمد في إِحدى الروايتين عنه، وهو أقيسهما
وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط".
وقال -رحمه الله- (ص 183): " [إِنّ] كُلّ عيب يُنفّر الزوج الآخر منه، ولا
يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار، وهو أولى من البيع،
كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع، وما ألزم
الله ورسوله مغروراً قطُّ، ولا مغبوناً بما غُرَّ به وغُبن به، ومن تدبّر
مقاصد الشرع في مصادره وموارده وعدْله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح؛
لم يَخْفَ عليه رجحان هذا القول، وقُربه من قواعد الشريعة".
وقال -رحمه الله- (ص 185): "وإذا كان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - حرّم على البائع كِتمان عيب سلعته، وحرّم على مَن علمه أن
يكتمه من المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح، وقد قال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية،
أو أبي الجهم: "أمّا معاوية، فصعلوك لا مال له، وأمّا أبو جهم، فلا يضع
عصاه عن عاتقه" (1)، فعُلم أنّ بيان العيب في النكاح أولى وأوجب،
__________
(1) أخرجه مسلم: 1480.
(5/72)
فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغشُّ الحرام
به سبباً للزومه، وجعل ذا العيب غُلاًّ لازماً في عُنق صاحبه، مع شدّة
نُفرته عنه، ولا سيّما مع شرط السلامة منه، وشرط خلافه؟! وهذا مما يُعلم
يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه. والله أعلم".
وقال -رحمه الله- (ص 186): "وقد ذهب أبو محمد ابن حزم إِلى أن الزوج إِذا
شرط السلامة من العيوب، فوجد أيّ عيب كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد،
ولا خيار له فيه، ولا إجازة ولا نفقة، ولا ميراث، قال: لأن التي أدخلت عليه
غير التي تزوج، إِذ السالمة غير المعيبة بلا شك، فإِذا لم يتزوجها فلا
زوجية بينهما".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون انفساخ العقد إِذا غرّر الرجل بالمرأة أو
العكس؟
قال: ما نوع الغرر؟
قلت: يريد شيخنا -رحمه الله- أنّ هناك غرراً يَسوغ فيه انفساخ العقد،
وغرراً لا يسوغ فيه، وذلك على النحو الذي فصّله العلماء.
فائدة:
سألت شيخنا -رحمه الله-: ماذا إِذا كان الرجل عنّيناً، ووافقت المرأة على
الزواج منه؟
فأجاب -رحمه الله-: مقصود الزواج الإِحصان، فإِن كانت مُطلّقة أو أرملة
وذاقت العسيلة، وليس عندها شَبَقٌ فلا مانع، وإلا فلا. انتهى.
(5/73)
المحرّمات من النّساء (1)
ليس كلُّ امرأةٍ صالحةً للعقد عليها، بل يُشترط في المرأة التي يراد العقد
عليها، أن تكون غير محرّمة على من يريد التزوج بها؛ سواء أكان هذا التحريم
مؤبداً، أم مؤقتاً.
والتحريم المؤبد يمنع المرأة أن تكون زوجةً للرجل؛ في جميع الأوقات.
والتحريم المؤقت يمنع من التزوج بها، ما دامت على حالة خاصة قائمة بها،
فإِنْ تغير الحال، وزال التحريم الوقتي، صارت حلالاً.
المُحَرَّمات مُؤبَّداً
وأسباب التحريم المؤبد هي:
1 - النسب.
2 - المصاهرة.
3 - الرضاع.
وهي المذكورة في قول الله -تعالى-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ
الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ
وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ} (2).
__________
(1) عن "فقه السنّة" بتصرّف وزيادة.
(2) النساء: 23.
(5/74)
أولاً: المحرمات من النسب هنّ:
1 - الأمّهات.
2 - البنات.
3 - الأخوات.
4 - العمات.
5 - الخالات.
6 - بنات الأخ.
7 - بنات الأخت.
والأم: اسم لكل أنثى لها عليك ولادة؛ فيدخل في ذلك الأمّ، وأمّهاتها،
وجدّاتها، وأمّ الأب. وجدّاته، وإن عَلَوْن.
والبنت: اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، أو كل أنثى يرجع نسَبُها إِليك
بالولادة بدرجة أو درجات. فيدخل في ذلك بنت الصُّلب، وبناتها.
والأخت: اسم لكل أنثى جاورتك في أَصْلَيْكَ، أو في أحدهما.
والعمّة: اسم لكل أنثى شاركَت أباك أو جدَّك في أصليه، أو في أحدهما.
وقد تكون العمّة من جهة الأمّ، وهي أخت أبي أمّك.
والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها، أو في أحدهما.
وقد تكون من جهة الأب، وهي أخت أمّ أبيك.
وبنت الأخ: اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة، بواسطة أو مباشرة،
(5/75)
وكذلك بنت الأخت.
ثانياً: المحرّمات بسبب المصاهرة:
وهي القرابة الناشئة بسبب الزواج.
1 - أمّ زوجته، وأم أمّها، وأمّ أبيها وإن علَت؛ لقول الله -تعالى-:
{وأُمّهات نسائكم}، ولا يُشترط في تحريمها الدخول بابنتها، بل مجرّد العقد
على ابنتها يحرّمها.
وجاء في "الفتاوى" (32/ 77): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوج بامرأة من مدة
سنة ولم يدخل بها، وطلّقها قبل الإِصابة: فهل يجوز له أن يدخل بالأمّ بعد
طلاق البنت؟
فأجاب: لا يجوز تزويج أمّ امرأته؛ وإن لم يدخل بها. والله أعلم".
2 - وابنة زوجته التي دخَل بها، ويدخل في ذلك بنات بناتها، وبنات أبنائها،
وإنْ نزلن؛ لأنهنّ مِن بناتها؛ لقول الله -تعالى-: {وربائبكم اللاّتي في
حُجُورِكُم من نسائكم اللاَّتي دَخَلتم بِهِنّ فإِن لم تكونوا دَخَلْتُم
بِهِنَّ فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم}.
والربائب جمع ربيبة، وربيب الرجل: ولَدُ امرأته من غيره؛ سُمّي ربيباً له؛
لأنه يَرُبّه، كما يَرُبّ ولده؛ أي: يَسُوسُه.
وقوله: {اللاّتي في حُجُورِكُم}: وصْف لبيان الشأن الغالب في الربيبة، وهو
أن تكون في حجر زوج أمّها، وليس قيداً. وذَكر ابن كثير -رحمه الله- أنّ هذا
قول جمهور الأئمة.
وعند الظاهرية: أنه قيد، وأنّ الرجل لا تحرُم عليه ربيبته -أي: ابنة
امرأته- إِذا لم تكن في حجره.
(5/76)
عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: "كانت عندي
امرأة، فتوُفّيت، وقد ولَدت لي، فوَجَدْتُ عليها، فلقيني علي بن أبي طالب
فقال: ما لك؟ فقلت: تُوفِّيت المرأة، فقال عليّ: لها ابنة؟ قلت: نعم، وهي
بالطائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا، قال: فانْكِحْها، قلت: فأين قول
الله: {وربائِبُكم اللاتي في حُجُورِكُم}؟! قال: إِنها لم تكن في حجرك،
إِنما ذلك إِذا كانت في حجرك" (1).
وجاء في "الإِرواء" (6/ 287)؛ "وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (2/ 394):
"هذا إِسناد قوي ثابت إِلى علي بن أبي طالب، على شرط مسلم، وهو قول غريب
جداً.
وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه، وحكاه أبو القاسم الرافعي عن
مالك -رحمه الله-، واختاره ابن حزم، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله
الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإِمام تقي الدين ابن تيمية -رحمه الله-؟
فاستشكله، وتوقف في ذلك".
وكذلك صحح إِسناده السيوطي في "الدر" (2/ 136)، ومن قبله الحافظ في
"الفتح".
وأمّا عن عمر، فلم أقف عليه الآن (2) ".
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"، وابن أبي حاتم في "التفسير"، وصححه
شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1880).
(2) وفي التحقيق الثانى "للإِرواء" تفصيلاتٌ طيبة لشيخنا -رحمه الله-، ذكَر
فيها أنه رآه في "مصنّف عبد الرزاق" برقم (10835)، وقال: "وإسناده جيّد".
(5/77)
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره":
"أمّا أمّ المرأة؛ فإِنها تحرُم بمجرد العقد على ابنتها، سواءٌ دخل بها أو
لم يدخل. وأمّا الربيبة -وهي بنت المرأة- فلا تحرم بمجرد العقد على أمّها
حتى يدخل بها، فإِنْ طلق الأم قبل الدخول بها؛ جاز له أن يتزوّج بنتها".
قال أبو عيسى (1): "والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إِذا تزوّج
الرجل امرأة ثمّ طلّقها قبل أن يدخل بها، حَلَّ له أن ينكح ابنتها، وإِذا
تزوّج الرجل الابنة فطلّقها قبل أن يدخل بها؛ لم يحلَّ له نكاح أمها؛ لقول
الله -تعالى-: {وأمّهاتُ نسائكم}، وهو قول الشافعي، وأحمد، وإسحاق".
وجاء في "المحلّى" (11/ 155) تحت المسألة (1864): "وأمّا من تزوّج امرأة
ولها ابنة، أو ملَكَها ولها ابنة، فإِن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع
ذلك -وطئ أو لم يطأ، لكن خلا بها بالتلذذ-: لم تحل له ابنتها أبداً، فإِنْ
دخل بالأمّ، ولم تكن الابنة في حجره، أو كانت الابنة في حجره ولم يدخل
بالأمّ، فزواج الابنة له حلال.
وأمّا من تزوّج امرأة لها أمّ، أو ملَك أمة تحلَّ له ولها أمّ؛ فالأمّ حرام
عليه بذلك أبد الأبد -وطئ في كل ذلك الابنة أو لم يطأها-.
برهان ذلك: قول الله -تعالى-: {وربائِبُكُم اللاتي في حُجُورِكُم من
نسائِكُم
__________
(1) قاله -رحمه الله- بعد حديث ضعيف: "أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا
يحل له نكاح ابنتها، فإِن لم يكن دخل بها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح
امرأة فدخل بها، أو لم يدخل بها؛ فلا يحلّ له نكاح أمّها". أخرجه الترمذي
"ضعيف سنن الترمذي" (191) وغيره، وانظر "الإِرواء" (1879).
(5/78)
اللاتي دَخَلْتُم بِهِنَّ فإِن لم تكونوا
دَخَلْتُم بِهِنَّ فلا جُنَاحَ عَلَيْكُم} (1)، فلم يُحرِّم الله -عزّ
وجلّ- الربيبة بنت الزوجة أو الأمَة إِلا بالدخول بها، وأن تكون هي في
حجره، فلا تحرم إِلا بالأمرين معاً، لقوله -تعالى- بعد أن ذكَر ما حرم من
النّساء-: {وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم} (2)، {وما كان ربك نَسِيّاً} (3).
وكونها في حجره ينقسم قسمين:
أحدهما: سكناها معه في منزله، وكونه كافلاً لها.
والثاني: نظره إِلى أمورها نحو الولاية لا بمعنى الوكالة، فكل واحد من هذين
الوجهين يقع به عليها كونها في حجره.
وأمّا أمّها؛ فيحرِّمها عليه بالعقد جملةً: قولُ الله -تعالى-: {وأمّهات
نسائكم}، فأجملها -عزّ وجلّ- فلا يجوز تخصيصها، وفي كلّ ذلك اختلاف قديم
وحديث ... ".
ثمّ ذكر -رحمه الله- هذا الاختلاف وناقشه مع بيان الأدلّة.
3 - زوجة الابن، وابن ابنه، وابن بنته، وإِنْ نزل؛ لقول الله -تعالى-:
{وحلائِلُ أبنائِكُم الذين من أَصْلابِكُم}.
والحلائل جمع حليلة، وحليلة الرجل: امرأته، والرجل حليلها؛ لأنها تحُلّ معه
ويحل معها. وقيل: لأنّ كلّ واحد منهما يحل للآخر (4).
__________
(1) النساء: 23.
(2) النساء:24.
(3) مريم: 64.
(4) "النهاية".
(5/79)
4 - زوجة الأب: لقول الله -تعالى-: {ولا
تنكحوا ما نكَحَ آباؤُكم من النساء} (1).
ويحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه، بمجرد عقْد الأب عليها، ولو لم يدخل
بها.
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "مرّ بي عمّي الحارث بن عمرو، ومعه
لواء قد عقَده له النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقُلت له:
أي عمّ! أين بعثك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
قال: بعثني إِلى رجل تزوّج امرأة أبيه، فأمَرني أن أضرب عنقه" (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: {ولا تنكحوا ما نكَحَ
آباؤُكم من النّساء}: "وقد أجمع العلماء على تحريم من وَطِئَها الأب بتزويج
أو ملك أو بشبهة أيضاً. واختلفوا فيمن باشرَها بشهوة دون الجماع، أو نظر ما
لا يحلّ له النظر إِليه منها، لو كانت أجنبيية". ثمّ ذَكر أثراً في ذلك.
ويرى بعض الفقهاء أنّ مَن زنى بامرأة، أو لمسها، أو قبَّلها، أو نظر إِلى
فرجها بشهوة، حرُم عليه أصولها وفروعها، وتحرُم هي على أصوله وفروعه؛ إِذ
إِنّ حرمة المصاهرة تثبت عندهم بالزنى، ومِثله مقدماته ودواعيه؛ قالوا: ولو
زنى الرجل بأمّ زوجته أو بنتها، حرمت عليه حرمة مؤبّدة.
ويرى [المخالفون] أنّ الزنى لا تثبت به حرمة المصاهرة، وممّا استدلّوا به:
__________
(1) النساء: 22.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1098)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (2111) وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (2351).
(5/80)
1 - قول الله -تعالى-: {وأُحلَّ لكم ما
وَرَاءَ ذلكم} (1). فهذا بيان عما يحلّ من النساء بعد بيان ما حُرّم منهن،
ولم يذكر أن الزنى من أسباب التحريم.
2 - أن ما ذكروه من الأحكام في ذلك: هو مما تمس إِليه الحاجة، وتعمُّ به
البلوى أحياناً، وما كان الشارع ليسكت عنه، فلا ينزل به قرآن، ولا تمضي به
سنة، ولا يصح فيه خبر، ولا أثر عن الصحابة، وقد كانوا قريبى عهد بالجاهلية
التي كان الزنى فيها فاشياً بينهم، فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركاً في
الشرع، أو تدل عليه عِلّهَ وحكمة لسألوا عن ذلك، وتوفّرت الدواعي على نقل
ما يفتنون به (2).
واستدلوا بحديث لا يثبت ولا يصح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سُئِل
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يتبع المرأة
حراماً؛ أينكح ابنتها؟ أو يتبع الابنة حراماً؛ أينكَح أمّها؟ قالت: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يُحَرِّمُ الحرام؛
إِنما يُحرم ما كان بنكاحٍ حلال".
قال شيخنا -رحمه الله- في "الضعيفة" (388): "باطل"؛ وأفاض في تخريجه، ثمّ
قال -رحمه الله-: "وقد استدل بالحديث الشافعية وغيرهم على أنه يجوز للرجل
أن يتزوج ابنته من الزنى، وقد علمتَ أنه ضعيف؛ فلا حُجّة فيه.
__________
(1) النساء: 24.
(2) انظر "المنار" (4/ 479).
(5/81)
والمسألة اختلف فيها السلف، وليس فيها نصٌّ
مع أحد الفريقين، وإنْ كان النظر والاعتبار يقتضي تحريم ذلك عليه، وهو مذهب
أحمد وغيره، ورجّحه شيخ الإِسلام ابن تيمية، فانظر "الاختيارات" له (123 -
124)، وتعليقنا على الصفحة (36 - 39) من كتابنا "تحذير الساجد من اتخاذ
القبور مساجد".
ثالثاً: المحرّمات بسبب الرضاع:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والذي يحرم من النسب -كما تقدّم-: الأمّ،
والبنت، والأخت، والعمّة، والخالة، وبنات الأخ، وبنات الأخت.
كما في الآية المتقدّمة: {حُرِّمت عليكم أمّهاتُكُم وبناتُكُم وأَخَواتُكُم
وعمّاتُكُم وخَالاتُكُم وبَنَاتُ الأخِ وبَنَاتُ الأخْت وأمّهاتُكُم
الَّلاتي أَرْضَعْنَكُم وأخَوَاتُكُم من الرَّضَاعَة} (1).
وعلى هذا، فَتُنَزَّلُ المرضعة منزلة الأمّ، وتحرم على الرضيع؛ هي وكلّ من
يحرم على الابن من قبل أمّ النسب؛ فتحرم:
1 - المرأة المرضعة؛ لأنها لإِرضاعها تُعَدُّ أمّاً للرضيع.
2 - أمّ المرضعة؛ لأنها جدّة له.
3 - أم زوج المرضعة -صاحب اللبن- لأنها جدّة كذلك.
4 - أخت الأمّ؛ لأنها خالة الرضيع.
5 - أخت زوجها -صاحب اللبن- لأنها عمّته.
6 - بنات بنيها وبناتها؛ لأنهن بنات إِخوته، وأخواته.
__________
(1) النساء: 23.
(5/82)
7 - الأخت؛ سواء أكانت أختاً لأب وأمّ، أو
أختاً لأمّ، أو أختاً لأب.
الرِّضاع الذي يثبُت به التحريم:
يثبت التحريم بخمس رضعات معلومات.
عن عائشة أنها قالت: "كان فيما أُنزل من القرآن: (عشر رضعات معلومات
يُحرِّمن)، ثمّ نُسخْن بخمس معلومات، فتوُفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهنّ فيما يُقرأ من القرآن (1) " (2).
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "لا رضاع إِلا ما شدّ العظم وأنبت اللحم"
(3).
عن أمّ سلمة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"لا يحرم من الرضاعة إِلا ما فتق (4) الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام"
(5).
__________
(1) قال النووي (10/ 29) في "شرحه": "معناه: أنّ النسخ بخمس رضعات تأخّر
إِنزاله جداً؛ حتى إِنّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توفّي،
وبعض الناس يقرأ: "خمس رضعات" ويجعلهما قرآناً متلواً؛ لكونه لم يبلغه
النسخ لقرب عهده؛ فلمّا بلغهم النسخ بعد ذلك؛ رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على
أنّ هذا لا يُتلى".
(2) أخرجه مسلم: 1452.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1814)، وانظر "الإِرواء" (2153).
(4) أصل الفَتق: الشقّ والفتح. وجاء في "الوسيط": "يُقال: فتِق فَتَقاً:
تفتّح جسمه سِمَناً، فهو فَتِق".
(5) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (921)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1582)، وانظر "الإِرواء" (2150).
(5/83)
وأمّا قول من قال: إِنّ قليل الرضاع وكثيره
سواء في التحريم؛ أخْذاً بإِطلاق الإِرضاع في الآية، فجوابه أنّ السنّة
المطهرّة مُفصِّلة مُبيِّنة للقرآن الكريم.
وأمّا استدلالهم بحديث عقبة بن الحارث قال: "تزوجتُ امرأة، فجاءتنا امرأة
سوداء فقالت: أرضعتكما! فأتيت النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فقلت: تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إِني قد
أرضعتكما! وهي كاذبة؟! فأعرض عني، فأتيته من قِبَل وجهه؛ قلت: إِنها كاذبة!
قال: كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟! دعها عنك" (1).
وقولهم: إنّ ترْك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السؤالَ
عن عدد الرضعات دليل على عدم اعتبار العدد!
فجوابه؛ أنّه ينبغي حمْله على الجمع مع النصوص الأُخرى.
وأمّا قول من قال: إنّ التحريم يثبثُ بثلاث رضعات فأكثر؛ لقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا تحرِّمُ المصَّةُ والمصّتَان" (2).
وقولهم: هذا الحديث يثبت التحريم فيما زاد على ثلاث رضعات.
فجوابه أنّ ذِكْر هذا؛ على سبيل البيان وتفسير حديث الخَمْس، وهو أقوى عند
أهل اللغة من قوله: "لا تُحرّم المصّة، ولا المصّتان، ولا الثلاث، ولا
الأربع"؟!
قال في "فيض القدير" -بحذف-: " ... وإِلا فالتحريم بالثلاث إِنما يُؤخَذ
منه بالمفهوم. ومفهوم العدد ضعيف؛ على أنه قد عارضه مفهوم حديث الخَمْس
فيرجع إِلى الترجيح بين المفهومين" انتهى. ولك أن تقول: إِنّ مفهوم
__________
(1) أخرجه البخاري: 5104.
(2) أخرجه مسلم: 1450.
(5/84)
الثلاث عارض منطوق الخَمْس والله -تعالى-
أعلم.
وسألتُ شيخنا -رحمه الله- عن ذلك؟ فقال: خَمْسُ رضعات مُشبعات تجعل النّسب
محرماً.
اللبن المختلط بغيره:
إِذا اختلط لبن المرأة بطعام أو شراب أو دواء أو لبن شاة أو غيره، وتناوله
الرضيع؛ فإِنْ كان الغالب لبنَ المرأة؛ حرم. وإن لم يكن غالباً؛ فلا يثبت
به التحريم.
وبه يقول شَيخنا -رحمه الله- في إِجابة أجابنيها.
ويشترط أن يكون الرّضاع في الحولين، وهي المدّة التي بيّنها الله -تعالى-
في قوله: {والوالداتُ يُرْضعْنَ أولادَهنَّ حَوْلَين كامِلَين لِمن أراد أن
يتِمَّ الرَّضاعة} (1).
وفي حديث أُمّ سلمة المتقدّم: "لا يحرم من الرضاعة إِلا ما فتق الأمعاء في
الثدي، وكان قبل الطعام".
ولو فُطم الرضيع قبل الحولين؛ واستغنى بالغذاء عن اللبن، ثمّ أرضعته امرأة؛
فإِنّ ذلك الرضاع لا تثبت به الحُرمة.
وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دخل عليها وعندها رجل، فكأنه تغيّر وجهه -كأنه كره ذلك-،
فقالت: إِنه أخي! فقال: انظرن ما إِخوانكنّ؟ فإِنما الرضاعة من المجاعة"
(2).
__________
(1) البقرة: 233.
(2) أخرجه البخاري: 5102، ومسلم: 1455.
(5/85)
رضاع الكبير:
وبما تقدّم من الأدلّة؛ يتبيّن لنا أن رضاع الكبير لا يُحرِّم؛ بيْد أنّ
بعض النصوص تدلّ على جوازه لحاجة.
عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس
-وكان ممّن شهد بدراً مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ --
تبنّى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة -وهو
مولى لامرأة من الأنصار-، كما تبنّى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - زيداً، وكان من تبنّى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إِليه،
وورث من ميراثه، حتى أنزل الله {ادْعُوهُم لآبَائِهِم} إِلى قوله:
{وَمَوَالِيْكُم}، فرُدُّوا إلى آبائهم، فمن لم يُعلم له أب، كان مولى
وأخاً في الدّين، فجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشي ثمّ العامري -وهي
امرأة أبي حذيفة بن عتبة- النّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقالت: يا رسول الله! إِنّا كنّا نرى سالماً ولداً، وقد أنزل الله فيه ما
قد علِمتَ ... " (1) فذكر الحديث.
وساق الحديثَ بتمامه أبو داود بلفظ: " ... فكيف ترى فيه؟ فقال لها النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه. فأرضعته خَمْس رضعات، فكان
بمنزلة ولدها من الرضاعة" (2).
وفي رواية عن عائشة: "أنّ سالماً مولى أبي حذيفة كان مع أبي حذيفة وأهله في
بيتهم، فأتت (تعني ابنة سهيل) النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، فقالت: إِنّ سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل
علينا، وإني أظنّ أنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً؟! فقال لها النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرضعيه تحرمي عليه، ويذهب
__________
(1) أخرجه البخاري: 5088.
(2) "صحيح سنن أبي داود" (1815).
(5/86)
الذي في نفس أبي حذيفة. فرجعت فقالت: إِنّي
قد أرضعته، فذهب الذي في نفس أبي حذيفة" (1).
وعن أمّ سلمة -رضي الله عنها- قالت لعائشة -رضي الله عنها-: إِنه يدخل عليك
الغلام الأيْفع (2) الذي ما أحب أن يدخل عليّ! فقالت عائشة: أما لك في رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة؟ قالت: إِنّ امرأة أبي
حذيفة قالت: يا رسول الله! إِنّ سالماً يدخل عليّ وهو رجل، وفي نفس أبي
حذيفة منه شيء؟! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"أرضعيه حتى يدخل عليك" (3).
وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 149): " ... وقال عبد الرزاق عن ابن جريج: قال
رجل لعطاء: إِنّ امرأة سقتني من لبنها بعدما كبِرْتُ؛ أَفَأَنْكِحُهَا؟
قال: لا. قال ابن جريج: فقلت له: هذا رأيك؟ قال: نعم. كانت عائشة تأمر بذلك
بنات أخيها. وهو قول الليث بن سعد. وقال ابن عبد البر: لم يختلف عنه في
ذلك. قلت: وذكر الطبري في "تهذيب الآثار" في "مسند عليٍّ" هذه المسألة،
وساق بإِسناده الصحيح عن حفصة مثل قول عائشة ... ".
جاء في "الروضة الندية" (2/ 179): "ويجوز إِرضاع الكبير -ولو كان ذا لحية-،
لتجويز النظر، ثمّ حديث أم سلمة المتقدّم؛ وفيه: "أرضعيه حتى يدخل عليك".
قال: "وقد أخرج نحوه البخاري من حديث عائشة أيضاً -وقد تقدّم كذلك-".
__________
(1) انظر "صحيح مسلم" (1453).
(2) هو الذي قارب البُلوغ ولم يبلُغ. "شرح النووي".
(3) أخرجه مسلم: 1453.
(5/87)
ثمّ قال: "وقد روى هذا الحديث من الصحابة
أمّهات المؤمنين، وسهلة بنت سهيل، وزينب بنت أم سلمة. ورواه من التابعين
جماعة كثيرة، ثمّ رواه عنهم الجمع الجمّ. وقد ذهب إِلى ذلك علي وعائشة
وعروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وابن عُلَيَّةَ وداود
الظاهري وابن حزم. وهو الحقّ. وذهب الجمهور إِلي خلاف ذلك. قال ابن القيّم:
"أخذ طائفة من السلف بهذه الفتوى، منهم عائشة. ولم يأخذ به أكثر أهل العلم،
وقدَّموا عليها أحاديث توقيت الرّضاع المحرِّم بما قبل الفطام وبالصغر
وبالحولين؛ لوجوه:
أحدها: كثرتها، وانفراد حديث سالم.
الثاني: أن جميع أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -سوى
عائشة- في شِقِّ المنع.
الثالث: أنه أحوط.
الرابع: أنّ رضاع الكبير لا يُنبِت لحماً ولا يُنشِز عظماً؛ فلا يحصل به
البعضية التي هي سبب التحريم.
الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصاً بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إِلا في
قصته.
السادس: "أن وسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على
عائشة وعندها رجل قاعد، فاشتدَّ ذلك عليه وغضب، فقالت: إِنه أخي من
الرّضاعة! فقال: انظرن مَن إِخوانكن من الرّضاعة؟ فإِنما الرّضاعة من
المجاعة". متفق عليه واللفظ لمسلم.
وفي قصة سالم مسلك، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإِنّ سالماً كان قد تبنّاه
أبو حذيفة وربّاه، ولم يكن له منه ومن الدخول على أهلهِ بدٌّ، فإِذا دعَت
الحاجة إِلي مِثل ذلك؛ فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد. ولعل هذا المسلك
(5/88)
أقوى المسالك، وإِليه كان شيخنا يجنح.
والله -تعالى- أعلم"، انتهى.
أقول [أي: صاحب الروضة]: الحاصل: أن الحديث المتقدّم صحيح، وقد رواه الجمّ
الغفير عن الجمّ الغفير سلفاً عن خلف، ولم يقدح فيه مِن رجال هذا الشأن
أحد، وغاية ما قاله من يخالفه أنه ربما كان منسوخاً! ويجاب بأنه لو كان
منسوخاً لوقع الاحتجاج على عائشة بذلك، ولم ينقل أنه قال قائل به؛ مع
اشتهار الخلاف بين الصحابة.
وأما الأحاديث الواردة بأنه لا رضاع إِلا في الحولين وقبل الفطام -فمع
كونها فيها مقال (1) - لا معارضة بينها وبين رضاع سالم؛ لأنها عامّة، وهذا
خاصّ، والخاصّ مُقدَّم على العامّ، ولكنه يختصُّ بمن عرض له من الحاجة إِلى
إِرضاع الكبير ما عرض لأبي حذيفة وزوجته سهلة، فإِنّ سالماً لمّا كان لهما
كالابن، وكان في البيت الذي هما فيه، وفي الاحتجاب مشقّة عليهما؛ رخص -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرضاع على تلك الصفة، فيكون رخصة
لمن كان كذلك. وهذا لا محيص عنه".
قلت: وبه يقول شيخنا -رحمه الله-، كما في بعض مجالسه؛ مقيِّداً ذلك
بالحاجة؛ كما في الحديث المتقدّم.
قَبول قول المرضعة:
عن عقبة بن الحارث قال: "تزوجت امرأة، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت:
أرضعتكما! فأتيتُ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ:
تزوجت فلانة بنت فلان، فجاءتنا امرأة سوداء فقالت لي: إِني قد أرضعتكما!
وهي كاذبة؟! فأعرض عني، فأتيته من
__________
(1) وقد تقدّم تخريجها مختصراً غير بعيد. والمقال الذى فيها لا يؤثِّر!!
(5/89)
قِبَل وجهه قلت: إِنها كاذبة! قال: كيف بها
وقد زعمت أنها قد أرضعتكما؟! دعها عنك" (1).
قال البخاري -رحمه الله-: "باب شهادة المرضعة".
وقال الحافظ في "الفتح": "أي: وحدها".
جاء في "الروضة الندية" (2/ 179) -بعد ذِكْر الحديث السابق-: "وقد ذهب إِلى
ذلك عثمان، وابن عباس، والزهري، والحسن، وإسحاق، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل،
وأبو عبيد، ورُوي عن مالك ... ".
لبن الفحل:
والمراد بالفحل: الرجل (2) تكون له امرأة، ولَدت منه ولداً، ولها لبن،
فكُلّ من أرضعَتْه من الأطفال بهذا اللبن؛ فهو مُحرّم على الزوج وإِخوته،
فيكونون أعمامه وأولاده (3).
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: استأذن عليّ أفْلَحُ [أخو أبي القُعيس]
(4)، فلم آذَنْ له، فقال: أتحتجبين منّي وأنا عمّك؟! فقلت: وكيف ذلك؟ فقال:
أرضعتكِ امرأة أخي بلبن أخي. فقالت: سألت عن ذلك رسول الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 5104، وتقدّم.
(2) ونسبة اللبن إِليه؛ لكونه سبباً فيه.
(3) "النهاية" بتصرّف.
(4) هذه الزيادة من "صحيح البخاري" (4796)، وفي رواية "لمسلم" (1445): وكان
أبو القُعيس أبا عائشة من الرضاعة.
(5/90)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟
فقال: "صدق أفْلَح، ائذني له" (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه سئل عن رجل له جاريتان (2)، أرضعت
إِحداهما جارية، والأخرى غلاماً: أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ فقال: لا،
اللقاح واحد" (3).
المحرمات مؤقَّتاً
1 - الجمع بين الأُختين:
قال الله -تعالى-: {وأنْ تَجمَعوا بين الأُخْتَين إِلا ما قد سَلَفَ} (4).
وعن فيروز قال: قلت: يا رسول الله! إِني أسلمتُ وتحتي أُختان، قال: "طلق
أيتهما شئت" (5).
2 - الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا يُجمع بين المرأة
__________
(1) أخرجه البخاري: 2644، ومسلم: 1445.
(2) أي: أمَتان.
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (918).
(4) النساء: 23.
(5) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1962)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1587)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (902)، وانظر "الإِرواء" (6/
334).
(5/91)
وعمّتها، ولا بين المرأة وخالتها" (1).
3 - زوجة الغير ومعتدّته -رجعيّاً-؛ إِلا المسبيّة، فإِنّها تحلّ لسابيها
بعد الاستبراء، وإِنْ كانت متزوّجة.
فعن أبي سعيد الخدري. "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يوم حنين بعث جيشاً إِلى أوطاس، فلَقُوا عدُوّاً، فقاتلوهم فظهروا عليهم،
وأصابوا لهم سبايا، فكأنّ ناساً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحرّجوا من غشيانهنّ من أجل أزواجهنّ من المشركين!
فأنزل الله -عزّ وجلّ- في ذلك: {والمحصنات من النّساء إلاَّ ما ملكَت
أيمانكم}؛ أي: فهنّ لكم حلال إذا انقضت عدّتهن" (2).
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي: وحُرّم عليكم
الأجنبيّات المحصنات؛ وهنّ المزوّجات {إِلا ما ملكت أيمانكم} يعني: إِلا ما
ملكتموهنّ بالسبي؛ فإِنه يحلّ لكم وطؤُهنّ إذا استبرأتموهنّ، فإِنّ الآية
نزلت في ذلك".
4 - المطلّقة ثلاثاً:
لا تحلّ المطلّقة ثلاثاً لزوجها الأوّل؛ حتى تنكح زوجاً غيره. قال الله
-تعالى-: {فإِنْ طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (3).
نكاح الكفار (4):
قال الله -تعالى-: {وامرأته حمّالةَ الحطب}، {وامرأة فرعون}
__________
(1) أخرجه البخاري: 5109، ومسلم: 1458.
(2) أخرجه مسلم: 1456.
(3) البقرة: 230.
(4) عن "منار السبيل في شرح الدليل" (2/ 166) بحذف.
(5/92)
فأضاف النّساء إِليهم، وحقيقة الإِضافة
تقتضي زوجيّة صحيحة.
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وُلدْتُ من نكاح لا سفاح"
(1).
[قلت: فميّز النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين النكاح
والسفاح في أنكحة الكُفّار، وأثبت النكاح].
وإذا ثبتت الصحّة؛ ثبتت أحكامها *ولأنهْ أسلم خلْقٌ كثير في عصر رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرّهم على أنكحتهم، ولم يكشف عن
كيفيّتها* (2).
وإنْ أسلم الزوجان معاً، أو أسلم زوج الكتابية، فهما على نكاحهما، ولم
تتعرض لكيفية عقده، لما تقدّم. قال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أنّ
الزوجين إِذا أسلما معاً في حال واحدة؛ أنِّ لهما المُقَامَ على نكاحهما؛
ما لم يكن بينهما نسب أو رضاع.
__________
(1) حديث حسن، خرّجه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1914).
(2) قال شيخنا -رحمه الله- عن الكلام الذى بين نجمتين: "صحيح المعنى، وليس
له ذِكر بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث التي وقفْتُ عليها، وإنما استنبط
المصنف معناه من جملة أحاديث، منها قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لغيلان: "أمسِك أربعاً وفارِق سائرهن". أخرجه الترمذي "صحيح
سنن الترمذي" (901)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1589)، وصححه شيخنا
-رحمه الله- في "الإرواء" (1883) ".
ومنها حديث الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! إني أسلمتُ
وتحتي أُختان، قال: طلِّق أيتهما شئت، وفى لفظ: اختر أيتهما شئت". أخرجه
أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1962)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه"
(1587)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (902)، وانظر "الإرواء" (6/ 334).
(5/93)
" ... فإِن أنكحة الكفار لم يتعرض لها
النّبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كيف وقعت؟ وهل صادفت الشروط المعتبرة
في الإِسلام فتصحّ؛ أو لم تصادفها فتبطل؟ وإنما اعتبر حالها وقت إِسلام
الزوج؛ فإِن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرّهما، ولو كان في
الجاهلية؛ وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك. وإِن لم يكن
الآن ممن يجوز له الاستمرار؛ لم يقرّ عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم
محرم، أو أختان، أو أكثر من أربع، فهذا هو الأصل الذي أصّلَتْه سُنّة رسول
الله -صلّى الله تعالى عليه وآله وسلم-. وما خالفه فلا يُلتفت إِليه، والله
الموفق" (1).
نكاح الزانية:
لا يحلّ للرجل التزوّج بزانية. وكذا المرأة لا يحل لها التزوّج بزانٍ، إِلا
إِذا أحدثا توبةً نصوحاً.
والله -سبحانه وتعالى- جعَل العفاف شرطاً ينبغي وجوده في كلٍّ من الزوجين
قبل النكاح، قال الله -سبحانه-: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}
(2).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": " {مُحْصِنِينَ غيْرَ مُسَافِحِينَ
ولا مُتَّخِذِي أَخْدَان}: فكما شرَط الإِحصان في النساء -وهي العِفّة عن
الزنى-
__________
(1) "التعليقات الرضية" (2/ 205 - 206).
(2) المائدة: 5.
(5/94)
كذلك شرَطَها في الرجال وهو أن يكون الرجل
-أيضاً- محصناً عفيفاً؛ ولهذا قال: {غير مُسافحين} وهم: الزناة الذين لا
يرتدعون عن معصية، ولا يردُّون أنفسهم عَمَّن جاءهم، {ولا متخذي أخدان}؛
أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إِلا معهنّ".
وقال -سبحانه-: {الزَّاني لا يَنْكِح إِلا زانيةً أو مُشْرِكةً والزَّانية
لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍ أو مُشْرِكٌ وحُرِّم ذلك على المؤمنين} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره" -بحذف-: "هذا خبرٌ من الله -تعالى-
بأنّ الزاني لا يطأ إِلا زانيةً أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من
الزنى إِلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حُرمةَ ذلك، وكذلك: {الزانية لا
ينكحها إِلا زان}؛ أي: عاص بزناه، {أو مُشْرِك}: لا يعتقد تحريمه.
قال سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي
الله عنهما-: {الزَّاني لا يَنْكِحُ إِلا زانيةً أو مُشْرِكةً} قال: ليس
هذا بالنكاح، إِنما هو الجماع، لا يزني بها إِلا زانٍ أو مشرك. وهذا إِسناد
صحيح عنه. وقد روي عنه من غير وجه -أيضاً-.
وقوله -تعالى-: {وحُرِّم ذلك على المؤمنين}؛ أي: تعاطيه والتزويج بالبغايا،
أو تزويج العفائف بالفُجّار من الرجال.
وقال قتادة، ومقاتل بن حيان: حَرَّم الله على المؤمنين نكاح البغايا،
وتقدّم في ذلك فقال: {وحُرِّم ذلك على المؤمنين}.
وهذه الآية كقوله -تعالى-: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ولا
مُتَّخِذَاتِ
__________
(1) النور: 3.
(5/95)
أخْدَان} (1)، وقوله: {مُحصنين غير
مُسافحين ولا مُتَخِذي أخْدَان} (2).
ومن ها هنا ذهب الإِمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- إِلى أنه لا يصح العقد من
الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإِن تابت صحّ
العقد عليها؛ وإِلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحُرّة العفيفة بالرجل
الفاجر المسافح، حتى يتوب توبة صحيحة، لقوله -تعالى-: {وحُرّم ذلك على
المؤمنين} ... " ثمّ ذكر الحديث الآتي:
عن عبد الله بن عمرو: "أن مرثد بن أبي مرثد الغَنَوِيِّ كان يحمل الأسارى
بمكة، وكان بمكة بغيٌّ يقال لها: عَنَاقُ، وكانت صديقَتَه، قال: جئت النبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقاً؟
قال: فسكت عني، فنزلت: {والزَّانية لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍِ أو
مُشْرِكٍ}، فدعاني فقرأها عليّ، وقال: لا تنكحها" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا ينكح الزاني المجلود إِلا مثله" (4).
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (5/ 572): "قوله: "المجلود"؛
__________
(1) النساء: 25.
(2) المائدة: 5.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1806)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي) (3027) وغيرهما، وانظر "الإرواء" (1886).
(4) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1807)، والحاكم وغيرهم،
وانظر "الصحيحة" (2444).
(5/96)
قال الشوكاني (6/ 124): هذا الوصف خرج مخرج
الغالب، باعتبار من ظهر منه الزنى. وفيه دليل على أنه لا يحل للمرأة أن
تتزوج من ظهر منه الزنى، وكذلك لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنى،
ويدل على ذلك قوله -تعالى-: {والزَّانية لا يَنْكِحُهَا إِلا زانٍ أو
مُشْرِك} ". انتهى (1).
قال شيخنا -رحمه الله- في "التعليقات الرضية" (2/ 176): "ومعنى الآية: أن
الزاني المعروف بالزنى لا ترتضيه زوجاً لها إِلا زانية أو مشركة في نظر
الشرع، وكذلك القول في الزانية، وبيان ذلك في "إِغاثة اللهفان" (1/ 66):
أنّ المتزوّج أُمِرَ أن يتزوّج المحصنة العفيفة، وإنما أبيح له نكاح المرأة
بهذا الشرط، والحكم المعلَّق على الشرط ينتفي عند انتفائه؛ والإِباحة قد
علقت على شرط الإِحصان، فإِذا انتفى الإِحصان؛ انتفت الإِباحة المشروطة،
فالمتزوّج إِما أن يلتزم حُكم الله وشَرعه، أو لا يلتزم، فإِن لم يلتزِمه؛
فهو مشرك لا يرضى بنكاحه إِلا من هو مشرك مثله، وإن التزمه وخالفه ونكح ما
حرم عليه؛ لم يصح النكاح؛ فيكون زانياً".
فائدة:
وقال لي شيخنا -رحمه الله- حول نكاح الزانية في معرض التوضيح لسؤالٍ سابق:
إِذا كان يعلم أنها زانية ولا يعلم أنها تائبة؛ فلا يجوز أن يتزّوجها،
ولكنه إِذا تزوّجها وهو لا يعلم أنّها زانية؛ فزواجه صحيح.
وسأَل شيخَنا -رحمه الله- أحدُ الإِخوة عن رجل زنى بامرأة؛ هل يحقّ له
الزواج منها؟
__________
(1) انظر للمزيد من المسائل والفوائد -إِن شئت- "الفتاوى" (32/ 112 - 125).
(5/97)
فأجاب الشيخ -رحمه الله- بعدم الجواز. ثمّ
قال السائل: وإنْ تابا؟
فأجاب: لا يجوز. وقد لمسْتُ من شيخنا -رحمه الله- أنه يشكُّ في صحّة
التوبة. فقلتُ له: إِذا عُلِم صدق توبتهما من خلال بعض القرائن؟ فقال:
يجوز.
وسُئل شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه: رجل فعَل الفاحشة بامرأة، ثمّ
حملت، هل يستطيع أن يتزوجها؟
فأجاب: لا أرى هذا؛ لأنّه بالتالي تخطيط لإِلحاق الولد بهما.
عقد المُحرم
*يحرُم على المُحْرِمِ أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره؛ بولاية أو وكالة،
ويقع العقد باطلاً* (1).
عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يَنكِح المحرم ولا يُنْكَح ولا يخطُب" (2).
وما ورد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم" (3)؛ فهو معارض بحديث ميمونة
-رضي الله عنها- نفسها: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال" (4).
__________
(1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 412).
(2) أخرجه مسلم: 1409.
(3) أخرجه البخاري: 1837، ومسلم: 1410.
(4) أخرجه مسلم: 1411.
(5/98)
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (4/
237): "تنبيه: أخرج الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-:
"أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو
محرم".
قال الحافظ في "الفتح" (4/ 45): "وصحّ نحوه عن عائشة وأبي هريرة وجاء عن
ميمونة نفسها أنه كان حلالاً. وعن أبي رافع مثله، وأنه كان الرسول إِليها
(1). واختلف العلماء في هذه المسألة، فالجمهور على المنع لحديث عثمان
(يعني: هذا)، وأجابوا عن حديث ميمونة بأنه اختلف في الواقعة كيف كانت، فلا
تقوم بها الحجة، ولأنها تحتمل الخصوصية، فكان الحديث في النهي عن ذلك أولى
بأن يؤخَذ به. وقال عطاء وعكرمة وأهل الكوفة: يجوز للمحرم أن يتزوج، كما
يجوز له أن يشتري الجارية للوطْءِ؛ فتعقب بالتصريح فيه بقوله: (ولا يُنكح)
بضم أوله. وبقوله فيه (ولا يخطُب) ".
وقال الحافظ ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (2/ 104/1) -وقد ذكر حديث
ابن عباس-:
"وقد عُدَّ هذا من الغلطات التي وقعت في "الصحيح"، وميمونة أخبرت أن هذا ما
وقع، والإِنسان أعرف بحال نفسه، قالت: "تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا حلال بعدما رجعنا من مكة". رواه أبو داود عن
موسى بن إِسماعيل نحوه: "تزوجني النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ونحن حلال بِسَرِفَ".
__________
(1) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "في إِسناد حديث أبي رافع: مطر
الوراق، وهو ضعيف، وقد خالفه مالك فأرسله، كما يأتي بيانه في "النكاح"، في
أول الفصل الذي يلي "باب النكاح وشروطه". رقم (1849) ".
(5/99)
قلت [أي: شيخنا -رحمه الله-]: وسند أبي
داود صحيح على شرط مسلم، وقد أخرجه في "صحيحه" (4/ 137 - 138) دون ذكر
سَرِفَ، وأخرجه أحمد (6/ 332، 335) باللفظ الأول الذي في "التنقيح"، وهو
على شرط مسلم أيضاً".
وأضاف -رحمه الله- في التحقيق الثاني على "الإِرواء" (4/ 228): "وذكر ابن
القيّم في "الزاد" (5/ 112 - 113) سبعة أوجه لترجيح حديث ميمونة -رضي الله
عنها-؛ منها: أن الصحابة -رضي الله عنهم- غلّطوا ابن عباس، ولم يغلّطوا أبا
رافع، كذا قال. وانظر "الفتح" (9/ 165) ".
وجاء في "الإِرواء" تحت الحديث (1038): "وعن أبي غطفان عن أبيه: أنّ عمر
-رضي الله عنه- فرّق بينهما؛ يعني: رجلاً تزوّج وهو مُحْرِم".
وقال شيخنا -رحمه الله-: "صحيح، أخرجه مالك وعنه البيهقي والدارقطني. ...
وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
ثمّ روى مالك عن نافع أنّ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يقول: "لا
ينكح المُحْرِم، ولا يخطب على نفسه، ولا على غيره". وسنده صحيح. وروى
البيهقي عن علي قال: "لا ينكح المحرم؛ فإِن نكح رُدّ نكاحه"، وسنده صحيح
أيضاً".
ثمّ قال شيخنا -رحمه الله-: "واتفاق هؤلاء الصحابة على العمل بحديث عثمان
-رضي الله عنه- مما يؤيد صحته. وثبوت العمل به عند الخلفاء الراشدين يدفع
احتمال خطأ الحديث أو نسْخه، فذلك يدلّ على خطأ حديث ابن عباس -رضي الله
عنه-، وإليه ذهَب الإِمام الطحاوي في كتابه "الناسخ والمنسوخ"؛ خلافاً
لصنيعه في "شرح المعاني". انظر "نصب الراية" (3/ 174). انتهى.
(5/100)
جاء في "سبل السلام" (3/ 240): "قال ابن
عبد البر: اختلفت الآثار في هذا الحكم، لكن الرواية أنه تزوّجها وهو حلال
جاءت من طرق شتى، وحديث ابن عباس صحيح الإِسناد، لكن الوهم إِلى الواحد
أقرب من الوهم إِلى الجماعة؛ فأقل أحوال الخبرين أن يتعارضا؛ فتطلب الحجة
من غيرهما، وحديث عثمان صحيح في منع نكاح المحرم، فهو معتمد. انتهى.
وقال الأثرم: قلت لأحمد: إِن أبا ثور يقول: بأي شيء يدفع حديث ابن عباس
-أي: مع صحته-؟ قال: الله المستعان! ابن المسيب يقول: وهم ابن عباس،
وميمونة تقول: تزوجني وهو حلال".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: يَحْرُمُ على المُحْرِم أن ينكح، فإِذا فَعَل هل
يكون العقد باطلاً؟
قال: هو كذلك.
نكاح الملاعِنَة:
اللِّعانُ والمُلاعَنَةُ والتَّلاعُنُ: ملاعنة الرجل امرأته، يُقال:
تلاعنَا والْتَعَنَا ولاعَن القاضي بينهما، وسمّي لِعاناً؛ لقول الزوج:
"عليّ لعنة الله إِن كنتُ من الكاذبين" (1).
قال الله -تعالى-: {والذين يَرمُون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إِلا
أنفُسُهُم فشهادة أحدِهم أربعُ شهادات بالله إِنَّه لمن الصَّادقين *
والخامِسَةَ أنَّ لعنةَ الله عليه إِن كان من الكاذبين * ويدرأُ عنها
العذابَ أن تشهد أربع شهادات بالله إِنّه لَمِنَ الكاذبين * والخامِسَةَ
أنَّ غَضَبَ الله عليها إِن كان من
__________
(1) "شرح النووي" (10/ 119).
(5/101)
الصَّادقين * ولولا فَضْل الله عليكم
ورحمته وأنّ الله توَّابٌ حكيم} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذه الآية الكريمة فيها فرَج
للأزواج، وزيادة مَخرج، إِذا قذَف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البيّنة،
أن يلاعنها، كما أمر الله -عزّ وجلّ-، وهو أن يُحضِرها إِلى الإِمام،
فيدّعي عليها بما رماها به، فيحلّفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة
أربعة شهداء: {إِنه لمن الصادقين}، أي: فيما رماها به من الزنى،
{والخامِسَةَ أنّ لعنةَ الله عليه إنْ كان من الكاذبين}، فإِذا قال ذلك،
بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء، وحَرُمت
عليه أبداً، ويعطيها مهرَها، ويتوجه عليها حدّ الزنى، ولا يدرأ عنها إِلا
أن تُلاعِن، فتشهد أربع شهادات بالله إِنه لمن الكاذبين، أي: فيما رماها
به، {والخامِسَةَ أنّ غَضَبَ الله عليها إِنْ كان من الصادقين}، ولهذا قال:
{ويدرأ عنها العذاب} يعني: الحد {أنْ تشهد أربع شهادات بالله إِنه لمن
الكاذبين * والخامِسَةَ أنّ غَضَبَ الله عليها إِنْ كان من الصادقين}.
فخصّها بالغضب، كما أنّ الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورمْيها
بالزنى؛ إِلا وهو صادق معذور، وهي تعلم صِدقه فيما رماها به. ولهذا كانت
الخامسة في حقّها أنّ غضب الله عليها؛ والمغضوب عليه: هو الذي يعلم الحقّ
ثمّ يحيد عنه".
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضاً قال: "لاعَنَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين رجلٍ وامرأة من الأنصار، وفرّق بينهما" (2).
__________
(1) النور: 6 - 10.
(2) أخرجه البخاري: 5314.
(5/102)
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضاً: "أنّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعَنَ بين رجل وامرأتِه،
فانتفى من ولدها، ففرّق بينهما، وألحق الولَد بالمرأة" (1).
عن ابن جريج قال: أخبرني ابن شهاب عن المتلاعِنَين وعن السُّنَّة فيهما عن
حديث سهل بن سعد أخي بني ساعِدَة: أنّ رجُلاً من الأنصار جاء إِلى النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله! أرأيت رجلاً
وجد مع امرأته رجلاً ... وذكر الحديث بقصّته (2).
وزاد فيه: فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد. وقال في الحديث: فطلقها ثلاثاً قبل
أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ففارقها عند
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاكم التّفريق بين كلّ مُتلاعِنَين" (3).
وجاء في "الصحيحة" -بحذف- برقم (2465): "المتلاعنان إِذا تفرّقا، لا
يجتمعان أبداً" ... وفيه:
"وأمّا حديث سهل -رضي الله عنه- في حديث المتلاعِنَين قال: " ...
فمضت السُّنَّة بعد في المتلاعِنَين أن يفرق بينهما، ثمّ لا يجتمعان أبداً"
أخرجه أبو داود، والبيهقي ...
... وعن عاصم عن زر عن علي قالا: "مضت السُّنَّة في المتلاعِنَين أن لا
يجتمعا أبداً".
__________
(1) أخرجه البخاري: 5315، ومسلم: 1494.
(2) انظر الرواية التي قبل هذه في "صحيح مسلم"، وهي في أول كتاب اللعان.
(3) أخرجه مسلم: 1492.
(5/103)
أخرجه عبد الرزاق، والبيهقي؛ وإسناده حسن
في المتابعات". ثمّ قال شيخنا -رحمه الله-: " ... إِذا علمت ما تقدّم؛
فالحديث صالح للاحتجاج به على أنّ فُرْقَة اللّعان إِنما هي فَسخ، وهو مذهب
الشافعي، وأحمد وغيرهما، وذهب أبو حنيفة إِلى أنه طلاق بائن، والحديث يردُّ
عليه، وبه أخذ مالك أيضاً والثوري وأبو عبيدة وأبو يوسف، وهو الحق الذي
يقتضيه النظر السليم في الحكمة من التفريق بينهما، على ما شرحه ابن القيّم
-رحمه الله تعالى- في "زاد المعاد"؛ فراجعه (4/ 151 و153 - 154)، وإِليه
مال الصنعاني في "سبل السلام" (3/ 241) ".
قال النووي -رحمه الله- في "شرحه" (10/ 123): " ... وأمّا قوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ذاكم التفريق بين كل متلاعِنَين"؛ فمعناه
عند مالك والشافعي والجمهور: بيان أن الفرقة تحصل بنفس اللعان بين كل
متلاعِنَين. وقيل: معناه تحريمها على التأبيد، كما قال جمهور العلماء".
نكاح المشرِكة:
لا يحل للمسلم أن يتزوج من غير الكتابيّات -على ما سيأتي تفصيله إِن شاء
الله تعالى-؛ كالوثنية أو الشيوعيّة أو الملحدة أو المرتدَّة عن الإِسلام
أو عابدة النّار أو الفرج ... ونحو ذلك.
قال الله -تعالى-: {ولا تُمسِكُوا بعِصَم الكَوَافِر} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله -تعالى-: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ
الكَوَافِر} تحريمٌ من الله -عزّ وجلّ- على عباده المؤمنين نكاحَ المشركات
والاستمرارَ معهنّ.
__________
(1) الممتحنة: 10.
(5/104)
وفي "الصحيح" عن الزهري، عن عروة، عن
المسور، ومروان بن الحكم: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لمّا عاهد كفار قريش يوم الحديبية، جاءه نساء من المؤمنات،
فأنزل الله -عزّ وجلّ-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءَكم المؤمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ} إِلى قوله: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَم الكَوَافِر}، فطلّق عمر
بن الخطاب يومئذ امرأتين، فتزوّج إِحداهما معاوية بن أبي سفيان، والأخرى
صفوان بن أمية (1) " (2).
وقال -سبحانه-: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ
وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا
تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (3).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "هذا تحريم من الله -عزّ وجلّ- على
المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبَدة الأوثان. ثمّ إِنْ كان عمومها
مراداً، وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل
الكتاب بقوله: {والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم إِذا آتيتموهنّ أجورهنّ مُحْصنينَ غير مُسَافحينَ ولا مُتَّخِذِي
أخْدَان} (4).
__________
(1) وكانا كافرين يومئذ.
(2) بعض حديث أخرجه البخاري: 2731، 2732.
(3) البقرة: 221.
(4) المائدة: 5.
(5/105)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله:
{ولا تَنكحوا المشركات حتّى يؤمِنّ}: استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب.
وهكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومكحول، والحسن، والضحاك، وزيد بن
أسلم، والربيع بن أنس، وغيرهم.
وقيل: بل المراد بذلك (1) المشركون من عبَدة الأوثان، ولم يُردْ أهل الكتاب
بالكلية، والمعنى قريب من الأول، والله أعلم.
ثمّ قال -رحمه الله-: "قال أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- بعد حكايته
الإِجماع على إِباحة تزويج الكتابيات: وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس
في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما حدثنا أبو كريب، حدثنا ابن
إِدريس، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق؛ قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب
إِليه عمر: خلِّ سبيلها، فكتب إِليه: أتزعم أنها حرام؛ فأُخلّيَ سبيلها؟
فقال: لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تَعَاطَوُا المومسات منهن.
وهذا إِسناد صحيح. وروى الخلال عن محمد بن إِسماعيل، عن وكيع، عن الصلت.
نحوه.
ثمّ ساق ابن جرير بإِسناده إِلى زيد بن وهب؛ قال: قال لي عمر بن الخطاب:
المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة (2).
قال: وهذا أصح إِسناداً من الأول".
__________
(1) أي: في عدم النكاح.
(2) أخرجه الطبراني، والبيهقي، قال أحمد شاكر: "هذا إِسناد صحيح متصل إلى
عمر". قاله محقق "ابن كثير" - ط الفتح.
(5/106)
وهناك آثار عديدة عن السلف في نكاح نساء
أهل الكتاب (1)؛ منها: أن حذيفة -رضي الله عنه- نكَح يهودية، وعنده
عربيّتان.
عن أبي وائل قال: "تزوج حذيفة يهودية، فكتب إِليه عمر أن: خلِّ سبيلها،
فكتب إِليه: إِنْ كان حراماً خليتُ سبيلها، فكتب إِليه: إِني لا أزعم أنها
حرام، ولكني أخاف أن تَعَاطَوُا المومساتِ منهن" (2).
ومنها: عن أبي عياض قال: لا بأس بنكاح اليهوديات والنصرانيات إِلا أهل
الحرب (3).
ومع القول بجواز نكاح الكتابيات أصلاً؛ ولكن لا بُدّ من أمْن الفتنة،
والنظر إِلى عاقبة الأمور وخواتيمها، فإِنّ من تزَوّج من السلف منهنّ كانت
لديهم القُدرة على هدايتهنّ للإِسلام بتوفيق الله -سبحانه-، وكذلك إِحسان
تربية الأبناء.
ونحن نرى الآن أن الزّواج من المسلمة العاصية له أثره السَّيِّئُ في الزوج،
وانتكاسه ونقْص إِيمانه، فكيف إِذا تزوّج من كتابيّة!
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن الزواج من الكتابيات؟ فقال: أرى عدم الزواج من
الكتابيات؛ من باب سدّ الذرائع، وإنْ وقَع لا نُبطِله.
__________
(1) انظرها -إِن شئت- في "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 463).
(2) قال شيخنا -رحمه الله-: "وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البيهقي وقال: "وهذا
من عمر -رضي الله عنه- على طريق التنزيه والكراهة ... ". وانظر "الإِرواء"
(1889).
(3) المصدر نفسه.
(5/107)
وقال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في
"الفتاوى" (32/ 182): "إِن نكاح المجوسيات لا يجوز، كما لا يجوز نكاح
الوثنيات، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، وذكره الإِمام أحمد عن خمسة من
الصحابة في ذبائحهم ونسائهم، وجعل الخلاف في ذلك من جنس خلاف أهل البدع ...
".
وسألت شيخنا -رحمه الله- عن زواج المجوس؟ فقال: يحرُم ذلك.
وسألته -رحمه الله- عن قول بعضهم في جواز الزواج ممّن لهم كتاب غير اليهود
والنّصارى؟ فقال -رحمه الله-: لا نعلم أهل الكتاب إِلا اليهود والنصارى.
وجاء في "الإِرواء" (5/ 90): "وروى البيهقي (9/ 192) عن الحسن بن محمد بن
علي قال:
كتَب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلى مجوس هجَر
يَعرِض عليهم الإِسلام، فمن أسلَم قُبِل منه، ومن أبى ضُربت عليه الجزية،
على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تُنكَح لهم امرأة. وقال:
هذا مرسل، وإِجماع أكثر المسلمين عليه يؤكده، ولا يصح ما روي عن حذيفة في
نكاح مجوسية".
قال شيخنا -رحمه الله-: "ورجال إِسناده ثقات" انتهى.
نكاح المسلمة بغير المسلم:
قال الله -تعالى-: {يا أيها الذين آمنوا إِذا جاءَكُمُ المؤمناتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بإِيمانِهِنّ فإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فلا تَرْجِعُوهنّ إِلى
(5/108)
الكُفّار لا هُنّ حِلٌّ لهم ولا هم
يَحِلّونَ لهُنَّ} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- في "تفسيره": "وقوله -تعالى-: {فإن
عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤمِنَاتٍ فَلا تَوْجِعُوهُنَّ إِلى الكُفَّار}؛ فيه
دلالة على أن الإِيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً.
وقوله -تعالى-: {لا هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}: هذه
الآية هي التي حَرّمت المسلماتِ على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء
الإِسلام أن يتزوج المشركُ المؤمنةَ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوجَ
ابنة النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زينب -رضي الله عنها-،
قد كانت مسلمة، وهو على دين قومه، فلمّا وقع في الأسارى يوم بدر؛ بَعثت
امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمّها خديجة، فلمّا رآها رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ رقّ لها رقّة شديدة، وقال
للمسلمين: "إِنْ رأيتم إِن تُطْلقوا لها أسيرها فافعلوا ... " (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ردّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأوّل، ولم
يُحدِث نكاحاً" (3).
وجاء في "الإِرواء" (6/ 340): " ... قال قتادة: ثمّ أُنزلت سورة {براءة}
بعد ذلك، فإِذا أسلمت المرأة قبل زوجها؛ فلا سبيل له عليها إِلا
__________
(1) الممتحنة: 10.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2341)، والحاكم وغيرهم،
وانظر "الإِرواء" (1921).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1957)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (913).
(5/109)
بخطبة، وإسلامها تطليقة بائنة. وإسناده
صحيح مرسل". انتهى.
وقال الله -تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (1).
فما كان للكافرِ من سلطانٍ على مسلمة، ونكاحه منها أعظم سلطان عليها؛
عياذاً بالله -تعالى-.
وقد جاء إِليّ من خارج البلاد سؤالٌ مِن أحد الإِخوة وهذا نصُّه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فقد هداني الله -سبحانه وتعالى- وعن طريق
أحد الإِخوة المؤمنين. ... وحصلتُ على عنوانكم طالباً منكم المساعدة في
سبيل مرضاة الله، والسير على طريق الشرع الإِسلامي الحنيف. والأمرُ كالآتي:
لقد تزوجتُ من امرأة مسلمة بعد طلب يدها للزواج من ذويها، وبعد استئذانها،
ثمّ بعد سنتين من الزواج سافرنا إِلى بريطانيا للدراسة، وفي تلك البلاد
انشقّت زوجتي عني، وحصل بيننا شِقاق في أمور يسيرة، إِلا أنها أخذت الأمر
حُجة لطلب الطلاق من المحكمة البريطانية التي لا تدين بدين الإِسلام،
ورفضَت كل طلبٍ للوساطة والصلح؛ من طريق أهل الخير من المسلمين الذين
يعرفوننا هناك .. وحتى إِنّها رفضت أن تتحدث -ولو بشكل وُدِّي غير ملزِم-
إِلى المركز الإِسلامي (بلندن)، ولمّا كنت أرفض التحاكم إِلى القضاء غير
المسلم، ورغم عدم ثبوت أي صحة تُبيح تطليقها منّي بحكم القانون البريطاني؛
مِثل ثبوت سوء المعاملة، أو الضرب، أو الخيانة الزوجية، أو فقدان العقل ..
لذلك حكموا بالفراق ومن ثمّ بالطلاق، وفي كل مرة كنّا نتواجه بها في
المحكمة أو عن طريق محاميها؛ كانت ترفض دعوتي لها بإِرجاع
__________
(1) النساء: 141.
(5/110)
الأمر إِلى قضاءٍ مسلم، وهددتني برفع الأمر
إِلى الشرطة البريطانية إِذا حاولتُ الاتصال بها، أو محادثتَها، فأوكلت
أمري إِلى الله الواحد الأحد! وعلمتُ فيما بعد أنها تزوّجت من رجل غيرِ
مسلم في تلك البلاد دون إِذن مني، إِني أرجوكم أن تساعدوني بتقديم البيان
لي في شرع الله -سبحانه وتعالى-، وسنة نبيّه الكريم محمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ولحاجتي الماسّة إِلى البيان أرجو منكم استعجالَ الجواب.
أولاً: هل يجوز لقاضٍ غير مسلم تطليق امرأة مسلمة من زوجها المسلم؟
ثانياً: هل يقع الطلاق برغم تمسُّك الزوج وطلبه من زوجته الرجوع في الأمر
إِلى قضاء مسلم، وكان ذلك ميسّراً؟
ثالثاً: هل يحِلّ للمرأة في هذه الحالة أن تعدّ نفسها مطلقة من زوجها الأول
المسلم؟ وهل يحقُّ لها الزواج من غيره؛ مع العلم أنها مبلّغة بالحذر من
اعتبار طلاقها من القضاء البريطاني، وأنّ الأَولى أن يصلح بينهما، أو
يطلقها قاضٍ مسلم؟ وطوال هذا الوقت تعلم تلك المرأة عِلم اليقين مكان
وعنوان الاتصال المباشر مع زوجها الأول المسلم، ولكنها آثَرت البلاد غير
المسلمة، ورفضت العودة إِلى بلادها أو الاتصال به.
أرجو منكم استعجال الجواب، وبإِذن الله، وعسى أن يَرِدَني منكم الجوابُ
بفتوى خطية، وعسى أن تبحثوا الأمر مع صاحب العِلم الجليل فضيلة الشيخ محمد
ناصر الدين الألباني -حفظه الله وأبقاه-.
وإِني سوف أسعى لإِبلاغها ونُصحها بالعودة إِلى الصراط المستقيم؛ قبل أن
تلقى ربّها وهي مذنبة غير تائبة.
(5/111)
هذا .. ووفقّكم الله لكل خير. انتهى.
وعرضتُ السؤال على شيخنا -رحمه الله-؛ فأجاب.
الحمد لله: الجواب عن الأسئلة الثلاثة: لا يجوز، لا يقع، لا يحلّ.
وأنصح السائل أن يَنْفُضَ يده من هذه المرأة، ولا يسأل عنها، ولا يذهب نفسه
حسراتٍ عليها، وأن لا يفكِّر أن يعيدها إِلى عصمته ولو رغبت، بعد أن ارتكبت
ذينك الذنبين الكبيرين:
1 - تحاكَمت إِلى الطاغوت، ورَضِيت بحكمه، وهذا خُلُق من يزعمون أنهم
آمنوا، وقد قال الله فيهم. {يُريدون أن يَتَحَاكمُوا إِلي الطَّاغُوت وقد
أُمِروا أن يكفروا به ويُرِيُد الشَّيطانُ أن يُضِلّهم ضلالاً بعيداً} (1).
2 - رضيت أن يعلوها زوج كافر، والله -تعالى- يقول: {ولن يجعل الله للكافرين
على المؤمنين سبيلاً} (2).
وكتب: محمد ناصر الدين الألباني.
فائدة:
جاء في "الفتاوى" (32/ 61): "وسئل عن "الرافضة" هل تزوّج؟
فأجاب: الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال، ولا ينبغي للمسلم أن يزوّج
موليته من رافضي، وإِنْ تزوج هو رافضية صح النكاح، إِنْ كان يرجو أن تتوب؛
وإلا فترْك نكاحها أفضل؛ لئلا تُفسد عليه ولده، والله أعلم".
__________
(1) النساء: 60.
(2) النساء: 141.
(5/112)
تحريم الزيادة على
الأربع:
لا يحلّ للرجل أن يجمع في نكاحه أكثر من أربع زوجات في وقت واحد؛ لقوله
-تعالى-: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكم مِنَ النِّسَاءِ مثنَى وثلاثَ
ورُبَاعَ} (1). وهذا عدا ما ملكَت يمينه من الإِماء.
عن ابن عمر -رضي الله عنه-: "أن غَيلان بن سلمة الثقفي أسلم، وله عشر نسوة
في الجاهلية، فأسلَمْن معه، فأمَره النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن يتخير منهنّ أربعاً" (2).
وعن قيس بن الحارث قال: "أسلمتُ وعندي ثمانِ نسوة، فذكرتُ ذلك للنّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اختر منهن أربعاً" (3).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال الشافعي: وقد دلّت سُنّة رسول الله -صلّى
الله عليه وآله وسلّم- المبيّنة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة. وهذا
الذي قاله الشافعي -رحمه الله- مُجمَع عليه بين العلماء؛ إِلا ما حُكي عن
الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إِلى تسع ... ".
تعدُّد الزوجات:
أباح ديننا الحنيف تعدّد الزوجات، على ألا يزيد على أربع؛ خلا ملك
__________
(1) النساء: 3.
(2) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (901)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1589)، وانظر "الإرواء" (1883).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1960)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1588)، وانظر "الإِرواء" (1885).
(5/113)
اليمين من الإِماء؛ كما تقدّم.
وأوجب العَدْل بينهنّ في الطعام والكسوة والسكن والمبيت.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "من كانت له امرأتان فمال إِلى إِحداهما، جاء يوم القيامة
وشِقّه مائل" (1).
ومن خاف ألا يعدل فعليه أن يقتصر على واحدة؛ لقول الله: {فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُم مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فإِنْ خفْتُم ألا
تَعْدلُوا فَوَاحدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُم ذلك أدْنَى ألا
تَعُولُوا} (2).
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أي: فإِنْ خشيتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا
بينهن؛ كما قال -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حَرَصتم}،
فمن خاف من ذلك؛ فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري؛ فإِنه لا يجب
قسم بينهن، ولكن يستحبّ، فمن فعَل فحسَن، ومن لا فلا حرج". انتهى.
وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- في قوله -تعالى-: {ذلك أدنى أن لا تعولوا} قال: "أن لا تجوروا" (3).
والمراد من قوله -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1867)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (912)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1603)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (3682)، وانظر "الإرواء" (2017).
(2) النساء: 3.
(3) أخرجه ابن حبّان في "صحيحه" وغيره، وانظر "الصحيحة" (3222).
(5/114)
حَرَصْتُم} (1) - كما قال ابن كثير -بحذف-:
"أي: لن تستطيعوا أيها الناس! أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإِنه
وإن حصَل القسم الصوري: ليلة وليله، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة
والجماع؛ كما قاله ابن عباس، وعبَيِدة السلماني، ومجاهد، والحسن البصري،
والضحاك بن مزاحم".
ثمّ ساق بإِسناد ابن أبي حاتم إِلى ابن أبي مليكة قال: "نزلت هذه الآية:
{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرَصتم} في عائشة. يعني: أنّ
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحبها أكثر من غيرها
(2) ".
ثمّ قال -رحمه الله-: "وقوله: {فلا تميلوا كلّ الميل}؛ أي: فإِذا مِلتم إلى
واحدة منهنّ، فلا تُبالِغوا في الميل بالكلِّية {فتذروها كالمعلّقة}؛ أي:
فتبقى الأخرى مُعلّقة.
قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، والضحاك، والربيع بن أنس،
والسُّدِّيُّ، ومقاتل بن حيان: معناه: لا ذات زوج ولا مطلقة".
ثمّ ذكر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من كانت له امرأتان فمال إِلى إِحداهما،
جاء يوم القيامة وأحد شقّيه ساقط" (3).
ثمّ قال -رحمه الله-: " {وإِنْ تُصلحوا وتتقوا فإِنّ الله كان غفوراً
__________
(1) النساء: 129.
(2) وقد سأل عمرو بن العاص -رضي الله عنه- رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: "أيّ الناس أحبّ إِليك؟ قال: عائشة". أخرجه
البخاري: 3662، ومسلم: 2384.
(3) تقدّم.
(5/115)
رحيماً}؛ أي: وإنْ أصلحتم في أموركم،
وقسَمتم بالعدل فيما تملكون، واتقيتم الله في جميع الأحوال، غفَر الله لكم
ما كان من مَيْل إِلى بعض النساء دون بعض". انتهى.
والحاصل: أن المرء لا يستطيع المساواة بين النساء مِن جميع الوجوه، فلا
بُدّ من التفاوت في المحبّة والشهوة والجماع، وقد تقدّم أن عائشة -رضي الله
عنها- كانت أحبَّ النساء إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
وجاء التوجيه الرّباني بالإِصلاح والتقوى في الأمور؛ لتكون المغفرة على ما
كان من ميل إِلى بعض النساء دون بعض.
وهذا يعني مراعاة الضعف البشري، وليس معنى قوله -تعالى-: {ولن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء ولو حَرَصْتُم} تحريم التعدّد! وهذا الفَهْم السقيم فيه
اتهام لربّ العالمين؛ أنه يعلم عدم استطاعة العدل بين النساء؛ ثمّ يأمر
-سبحانه- بالتعدُّد!! تعالى الله عن هذا علوّاً كبيراً.
فلا بدّ ابتداءً أن ينوي المرء العدل ويتحرّاه -كما ينوي عدم الوقوع في أي
ذنبٍ آخر؛ ولكنه يُذنب، وأينا لا يظلم نفسه؟! - فإِذا وقعَ منه الميل أو
عدم العدل؛ استغفر وأناب، واتقى وأصلح.
ماذا يُشترط على من يريد التعدّد؟
1 - القدرة عليه مالياً وبدنياً.
2 - القدرة على العدل الممكن؛ في ضوء التفصيل السابق، والله -تعالى- يقول:
{فإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَة}.
(5/116)
فمن لم يخف عدم العدل فقد حلّ له ذلك، وإلا
حرُم عليه، فلا بُدّ من الإِيمان والتقوى وقوة الشخصيّة؛ لضبط الأمور بين
النّساء.
فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لا يُفضّل بعضنا على بعض في القسم" (1).
من محاسن التعدّد:
ومحاسن التعدّد كثيرة، منها:
1 - أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكاثر بأُمّته
الأمم يوم القيامة، والتعدّد من الأبواب الموصلة إِلى ذلك.
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "تزوّجوا؛ فإِنّي مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة" (2).
2 - أنّ خير الناس أكثرهم نساءً، عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس:
"هل تزوجتَ؟ قلت: لا. قال: فتزوَّجْ؛ فإِنّ خير هذه الأمّة أكثرها نساءً"
(3).
3 - أنّ الأمّة المجاهدة تفتقر إِلى عدد كبير؛ يقوم بهذا الأمر العظيم.
4 - إِنّ الأعداد الكثيرة في أيّ دولة -حين يلي أمورها أمراء متقون وولاةٌ
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وانظر "الإِرواء" (2020).
(2) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى". وله شواهدُ يتقوى بها؛ ذَكرها شيخنا
-رحمه الله- في "الصحيحة" (1782).
(3) أخرجه البخاري: 5068. وبوّب الإمام البخاري -رحمه الله- بقوله: (باب
كثرة النساء).
(5/117)
عادلون- لهي الأولى بالرفعة والسمّو
والعزّ.
5 - أنّ في ذلك علاجاً ناجعاً للنّساء في حالات عديدة؛ فهناك الكثير من
النسوة لا تُرْتَضَى زوجة أولى؛ لِكبرها أو لنقصٍ في جمالها، أو لكونها
مطلّقة، أو مريضة، أو لا تلِد.
6 - أنّ قدرة الرجل على الوطء والجماع؛ لا كالمرأة، والله -تعالى- بحكمته
وعلِمه خلَقه كذلك.
ولا يخفى ما يصيب المرأة من حيض ونفاس، تؤثّر في حالتها النفسية والبدنية،
فماذا يكون من شأن الرجل خلال هذه المُدّة؟! وكيف إِذا كان لدى بعض الرجال
رغبة جنسيّة قويّة؟!
7 - أنّ الفُجّار والفُسّاق ينفّسون عن شهواتهم -على اختلاف درجاتها-
بالزنى والفجور والمحرّمات، أمّا المتّقون الذين يحوصون على غضّ البصر
وحِفظ الفرج؛ فإِنّ ملاذَهم -بفضل الله- هو التعدّد.
وكلّ ما نقوله في محاسن التعدّد؛ لا يعني أن لا تكون معاناةٌ عند المرأة،
أو أن لا ترى ما تكره.
ولكن؛ هل في عدم التعدّد قد ارتاحت من المعاناة، ولم تَرَ إِلا ما تحبّ؟!
وليس يخفى أن الأمور بمجموعها؛ لا بأفرادها، وماذا إِذا زنى زوجها -عياذاً
بالله-؟! فلا بُدّ أن تعلم أنّ ما يكون من ضررٍ للرجل أو المرأة من إِباحة
التعدد؛ لهو أخفّ من منْعه.
وللعلماء في الأضرار والمنافع كلام طيّب، فقد بيّنوا -مثلاً- أنه يحصل في
(5/118)
الجهاد نقصٌ في الأموال والأنفس والثمرات
... ولكن لا يخفى ما يكون من حال الأُمّة التي لا تجاهد؛ ممّا يركبها من
ذِلّةٍ وهوانٍ وطمع الأعداء، فالأموال والأنفس والثمرات كلها تحت تصرف
الأعداء إِلا ما شاء الله.
هذا؛ وفي حوارٍ بين زوجين، قال الزوج:
لماذا تحاربين هذا الأمر؟! أتريدين أن أزني؟!
فقالت: ازْنِ؛ ولا تتزوّج!!!
توجيهات وكلمات مضيئة في التعدّد
1 - إِن كثيراً من النّاس يضربون الأمثلة على فشل زيد وعمرو في التعدّد!
فأقول:
إِنّ ضرْب الأمثلة على فشل زيد وعمرو في التعدّد: لهو الفشل في الفقه
والعلم! فالأمثلة لا تُلغي الأحكام الشرعيّة، لأنه قد يقول جاهل: لقد أسلم
ملحد ذات يوم، وبعد إِسلامه ابتُلي بالفقر والمرض النفسي؛ ثمّ قام بسرقة
ألوف الدنانير من بعض المسلمين! فهذا المثال -على ما فيه من فساد- أشبه ما
يكون بظلمات بعضها فوق بعض؛ فهل نتوقّف عن الدعوة إِلى الإِسلام.
بل إنّ المرأة قد تتمنّى الوطء الحلال، ولو لمرَّةٍ واحدة، حتى لو طُلّقت،
وكم من الرجال والنساء من يشتهي هذا الوطء، ولكن لم ييسّر لهم ذلك، وعدمُه
يُفضي إِلى الحرام؛ عياذاً بالله -تعالى-!
ولو أنّ تلك المرأة -بعد ذلك الوطء الحلال- قد أنجبت ولداً صالحاً ينفعها؛
فهو خير لها من أن تموت من غير نكاح.
(5/119)
2 - ولا بُدّ أن يعلم هؤلاء المعترضون أنهم
بآيات الله يجحدون، وأنّهم يُعارضون الدّين، فليحذروا من هذا كلّه.
وأقول: هل اعتراضهم على الحُكم الشرعي في أمر التعدّد؛ أم على سوء تطبيق
بعض الناس؟!
فهل سوء استخدام السيارة يحرّمها؟!
وهل سوء استخدام الهاتف يحرّمه؟!
وهل سوء استخدام المال يحرمه؟!
وكذلك الأمر في التعدّد.
3 - إِنّ كثيراً من النّساء؛ لا يمنعهن الموافقة على هذا الأمر إِلا
النّاس!
فالمرأة تخشى القيل والقال، وألسنة النّاس! ولو أنها أمِنَت ذلك، ورأت من
المجتمع إِقراراً؛ لما عارضَت هذا الأمر.
ولو جئتَ تستحلفها بالله -سبحانه-: ألَيس الأتقى لربك -عزّ وجلّ- أن يعدّد
زوجك؛ لقالت: نعم؛ لأنها تعلم أنها لا تستطيع إِشباع غريزته الجنسية مثلاً
-ولو ادعت ذلك-، ولأنها تعلم أنه لا يلبّي حاجات زوجها الكثيرة إلاَّ
الزّواج.
فإِلى كلّ من خشي النّاس -من ذَكَر وأنثى- أقول:
اخشَ رب النّاس، ملك النّاس، إِله النّاس -سبحانه وتعالى-.
4 - وأمّا بعض الرجال -وهم أشباه النّساء مع الأسف- الذين شنّوا الحرب على
التعدّد؛ فإِنّك لو استحلفتهم بالله -سبحانه-: ألا تتمنّون التعدّد في
أفئدتكم؟ وتشتهونه في قلوبكم؟! لما سمعت منهم إِلا الإِقرار.
(5/120)
5 - ولا بُدّ للمرأة المسلمة أن تثق بربّها
-سبحانه- ودينها الحنيف، وألا تخضع للموازين الفاسدة، فلا بُدّ لها أن
تُوازِن بين عدم زواجها إِرضاءً للناس، وبين زواجها بما فيه من إِعفاف
وإحصان، ومنافع في الدارَين.
6 - ومع الأسف أن تكون الحرب الشعواء من نساءٍ مسلمات سُمّين بـ
(الملتزمات)!! فإِذا سمعن بشيء من هذا؛ غلَت صدورهنّ، وبدأن بإِشعال
النيران، وإطالة ألسنتهن طعناً وافتراءً على العروسين؛ دون تقوى أو مراقبة
لله -تعالى-! وبينهنّ حبل التواصي بالباطل ممدود، حتى إِنّ إِحداهنّ (من
الداعيات)! سمعت أن فلاناً خطب فلانة، فقالت: أنا التى سأقف ضدّه.
وليست هذه القضيّة -والله- حرباً ومعركة بين فريقين؛ ليحشد كلٌّ منهما ما
عنده من الأسلحة الفتّاكة ليحرق الآخر! ولا هي بالمنافسة الشريفة والمسابقة
المشروعة؛ ليسارع كلٌّ للانتصار لما عنده! بل إِن الأمر يحتاج إِلى
الاحتكام إِلى العلماء وَرَثة الأنبياء -عليهم السلام-؛ وقد قال -سبحانه-:
{فاسألوا أهل الذِّكر إِن كنتم لا تعلمون} (1).
وقال -سبحانه-: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُون حتَّى يُحَكِّموكَ فيما
شَجَرَ بينهم ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهم حَرَجاً ممّا قَضَيْتَ
ويُسَلِّموا تَسْلِيماً} (2).
وبهذا يكون معنى الآية: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموا ورثتك فيما شجرَ
بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قَضَوْا ويسلّموا تسليماً".
أما أن ترى المرأة نفسها فقيهة مجتهدة في هذا الأمر، فتُفتي من عندها بما
__________
(1) النحل: 43، الأنبياء: 7.
(2) النساء: 65.
(5/121)
تهوى؛ فهذا هو العجَب.
وأنا أعجب من هؤلاء النّسوة اللاتي يُطِلن ألسنتهنّ خوضاً وطعناً في
النّاس، وكأنّ الله -تعالى- قد أحلّ لهنّ هذا الخوض، أو كأنّ الإِجماع في
تحريم الغيبة قد صار إِلى سراب؛ فأصبحت غِيبةُ المعدّدين من أفضل القُربات
إِلى الله -تعالى-.
وأنا أستحلف هؤلاء النسوة بالله ربّ العالمين: هل استغفرن من هذه الذنوب؟!
وهل طلبن التحلُّل ممّن طَعَنَّ فيهم أو فيهنّ؟! هل دعون لهم أو لهنّ في
ظهر الغيب؟! هل تُبْن توبةً نصوحاً؟!
هل استحضَرن قول النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِني
لأرى لحمه بين أنيابكما"؟!
هل استشعرن في أنفسهنّ عذاب النّار، والمُثُولَ بين يدي العزيز الجبّار؟!
هل تدبّرْن قوله -تعالى-: {يومئذٍ تُعرضون لا تَخفى منكم خافية} (1).
وهل خَشِينَ على أنفسهنّ أن تُعرض فضائحهن أمام الخلق؟!
وهل تدبّرن قوله -تعالى-: {يوم تجد كلّ نفسٍ ما عملت من خيرٍ مُحضراً وما
عملت من سوء تودُّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً} (2)؟!
وهل خِفْن على أنفسهنّ أن يجدن ما عملن من سوء وطعنٍ في النّاس مُحضَراً؟!
كم أُشْفق على هؤلاء النسوة، وعلى ما فيهنّ من حالٍ؛ في محاربة الله ورسوله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -شعرْنَ أو لم يشعرن-!
__________
(1) الحاقة: 18.
(2) آل عمران: 30.
(5/122)
كم أرثي لحالهنّ وهنّ يَعِثن في الأرض
فساداً!
كم يتفطّر القلب عليهنّ؛ وهن يُمسِكْن معاول الهدم للإِسهام في هدم المجتمع
-وإن زَعمنَ غير ذلك-!
كم يتلوَّع الفؤاد عليهنّ في الجزم بالعِلم والمعرفة والخبرة والمصلحة؛
وهنّ أبعد النّاس من هذا كلّه!
كم أرقُّ لهؤلاء المفلسات اللائي يضيّعن الثواب يوم القيامة؛ وقد اغْتَبْنَ
هذا، وطَعَنَّ في هذا، وشَتَمْنَ هذا ... والثمن كله من الحسنات: يوم لا
درهم ولا دينار!
فهلمّ إِلى التوبة والإِنابة والاستغفار والندم {من قبل أن يأتي يوم لا
مردّ له من الله} (1).
فائدة:
إِنّ ما جرى عند أُمّهات المؤمنين -رضي الله عنهنّ- من غَيرةٍ -والنصوص في
ذلك كثيرة-: إِنّما هو توجيه وإرشاد للنّساء -ولا سيّما في زماننا- أن هذا
حال البشر، وأنّ أمْر التعدّد لا يخلو ممّا تكرهه المرأة، ولا يعنى أنها
إِذا لقيت أدنى ما تكره قذِرت التعدّد وجَحدته -عياذاً بالله تعالى-.
وكأنّ ما جرى بين أزواج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يقول: هذا هو التعدّد، وهذه هي بشريّة الإِنسان غير المعصوم، فَلَكُنّ في
أزواج النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونساء السلف أسوة
وقدوة في قَبوله وتحمُّله، مع ورود ما ذكَرْت.
وهناك أمْرٌ هامّ؛ وهو أنّ ما جاء في مِثل هذه الأمور لا يعدو أن يكون بين
__________
(1) الشورى: 47.
(5/123)
أزواج النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، لا كحال أكثر النساء اليوم -مع الأسف- مِن تعدّي هذا؛ إِلى
المجتمع: غيبةً ونميمةً وقدحاً وطعناً، وركوباً للهوى، بل إِنّك قد ترى من
الكلام حول التعدُّد ما قد تحكمُ بِكفر بعضهنّ؛ عياذاً بالله -سبحانه-!
7 - وندائي إِلى كلّ من يسعى إِلى مرضاة الله -تعالى-، ومن يرغب في التعدّد
ويسعى إِليه؛ أن يتقي الله -تعالى-؛ ليمحو كثيراً من الصور المظلمة عن
المعدّدين، فالقدوة العملية لها أثرها الكبير.
مسائل في التعدّد:
1 - مَن أَوْلَمَ على بعض نسائه أكثر من بعض (1):
عن ثابت قال: "ذُكر تزويج زينب بنت جحش عند أنس، فقال: ما رأيت النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَمَ على أحد من نسائه ما أولم
عليها، أولم بشاة" (2).
قال الحافظ -رحمه الله-: " ... وأشار ابن بطال إِلى أن ذلك لم يقع قصداً
لتفضيل بعض النساء على بعض، بل باعتبار ما اتفق، وأنه لو وجد الشاة في كل
منهن لأولم بها، لأنه كان أجود الناس، ولكن كان لا يبالغ فيما يتعلّق بأمور
الدنيا في التأنق. وجوَّز غيره أن يكون فعل ذلك لبيان الجواز".
2 - إِذا تزوّج البكر على الثيّب، والثيب على البكر:
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "من السّنّةَ إِذا تزوّج الرجلُ البكرَ على
__________
(1) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 69".
(2) أخرجه البخاري: 5171، ومسلم: 1428.
(5/124)
الثيب، أقام عندها سبعاً وقَسَم، وإذا
تزوّج الثيّب على البكر؛ أقام عندها ثلاثاً ثمّ قَسَم. قال أبو قِلابة: ولو
شئت لقلت. إِن أَنَسَاً رفعه إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -" (1).
3 - القُرْعة بين النّساء إِذا أراد سفراً (2):
عن عائشة -رضي الله عنها- " أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان إِذا أراد سفراً أقرع بين نسائه" (3).
4 - النهي عن افتخار الضَّرَّة (4):
عن أسماء: "أن امرأة قالت: يا رسول الله! إِن لي ضَرَّة، فهل عليَّ جُناحٌ
إِن تَشبّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المتشبّع (5) بما لم
يُعطَ كلابس ثَوبيْ زور" (6).
5 - استئذانُ الرجلِ نساءَهُ في أن يُمرَّض في بيت بعضهنّ:
عن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كان يسأل في مرضه الذي
مات فيه: أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ يريد يوم عائشة، فأذِنَ له أزواجه
يكون
__________
(1) أخرجه البخاري: 5214، ومسلم: 1461.
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (باب - 97).
(3) أخرجه البخاري: 5211، ومسلم: 2445.
(4) من تبويب الإمام البخاري -رحمه الله - في "كتاب النكاح" (باب - 106).
(5) المتشبّع؛ أي: المتزين بما ليس عنده، يتكثر بذلك، ويتزين بالباطل،
كالمرأة تكون عند الرجل ولها ضرّة، فتدّعي من الحظوة عند زوجها أكثر مما
عنده، تريد غيظ ضَرّتها. "الفتح".
(6) أخرجه البخاري: 5219، ومسلم: 2130.
(5/125)
حيث شاء، فكان في بيت عائشة، حتى مات
عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور عليّ فيه في بيتي، فقبضه
الله؛ وإنّ رأسه لبَين نحري (1) وسَحري (2)، وخالط ريقه ريقي" (3).
فائدة:
جاء في "الفتاوى" (32/ 269) -بحذف-: "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل متزوّج
بامرأتين، وإحداهما يحبُّها، ويكسوها، ويعطيها، ويجتمع بها أكثر من
صاحبتها؟
فأجاب: الحمد لله، يجب عليه العدل بين الزوجتين باتفاق المسلمين"، وأشار
إِلى الحديث: "من كانت له امرأتان ... "، ثمّ قال:
"فعليه أن يعدل في القَسم، فإِذا بات عندها ليلة أو ليلتين أو ثلاثاً بات
عند الأخرى بقدر ذلك، ولا يُفضّل إِحداهما في القَسم. لكن إِنْ كان يحبها
أكثر، ويطأها أكثر فهذا لا حرج عليه فيه؛ وفيه أنزل الله -تعالى-: {ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (4)، أي: في الحب والجماع ...
وأمّا العدل في النفقة والكسوة، فهو السنة أيضاً، اقتداءً بالنّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإِنه كان يعدل بين أزواجه في
النفقة؛ كما كان يعدل في القسمة".
__________
(1) النحر: هو أعلى الصدر.
(2) السَّحر: الرئة؛ أي: أنه مات وهو مُستند إِلى صدرها وما يحاذي سَحرها
منه.
وقيل: السَّحْر: ما لصق بالحلقوم من أعلى البطن ... أي: أنه مات وقد ضمته
بيديها إِلى نحرها وصدرها. "النهاية".
(3) أخرجه البخاري: 5217، ومسلم: 2443.
(4) النساء: 129.
(5/126)
الولاية على الزّواج
معنى الولاية (1):
الولاية: حقٌّ شرعي، يُنفّذ بمقتضاه الأمر على الغير، جبراً عنه. وهي ولاية
عامّة، وولاية خاصّة. والولاية الخاصّة؛ ولاية على النفس، وولاية على
المال.
والولاية على النفس هي المقصودة هنا، أي: ولاية على النفس في الزواج.
من هو الوليّ؟
الوليّ: هو قرابة المرأة؛ الأدنى فالأدنى الذين يلحقهم الغضاضة إِذا تزوّجت
بغير كفء؛ وكان المزوّج لها غيرهم ... (2).
وأدلّة اشتراط الولي كثيرة؛ منها (3): قوله -تعالى-: {فلا تعضلوهنّ أن
ينكحن أزواجهنّ} (4).
قالى الإِمام الشافعي -رحمه الله-: "هي أصرح آية في اعتبار الولي، وإلا لما
كان لعضله معنى" (5).
__________
(1) عن "فقه السنة" (2/ 447).
(2) انظر "الروضة الندية" (2/ 28) بتصرّف يسير.
(3) وقد تقدّم بعضها في (أركان عقد النكاح).
(4) البقرة: 232.
(5) انظر "سبل السلام" (3/ 233)، وسيأتي الكلام قريباً -إن شاء الله- حول
هذه الآية الكريمة.
(5/127)
وجاء في "سبل السلام" (3/ 233): "ويدلّ
لاشتراط الولي ما أخرجه البخاري، وأبو داود، من حديث عروة، عن عائشة: أنها
أخبرته أنّ النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاحٌ منها نكاح
النّاس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فَيُصْدِقها، ثمّ
ينكحها ... ثمّ قالت في آخره: فلمّا بُعث محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالحق هدَم نكَاح الجاهلية كله إِلا نكاح النّاس اليوم (1).
فهذا دالٌّ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرَّر ذلك النكاح
المعتبر فيه الولي، وزاده تأكيداً بما قد سمعت من الأحاديث، ويدلّ له نكاحه
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة، وقولها: إِنه ليس أحد من
أوليائها حاضراً، ولم يقل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنكحي
أنت نفسك، مع أنه مقام البيان. ويدل له قوله -تعالى-: {ولا تُنْكِحُوا
المشركين} (2) فإِنه خطاب للأولياء بأن لا يَنْكحوا المسلماتِ المشركين ...
".
وجاء في "الروضة الندية" (2/ 29): " ... ولا شكّ أن بعض القرابة أَدْخَلُ
في هذا الأمر من بعض، فالآباء والأبناء أولى من غيرهم، ثمّ الإِخوة لأبوين،
ثمّ الإِخوة لأب أو لأمّ، ثمّ أولاد البنين وأولاد البنات، ثمّ أولاد
الإِخوة وأولاد الأخوات، ثمّ الأعمام والأخوال، ثمّ هكذا من بعد هؤلاء. ومن
زعَم الاختصاص بالبعض دون البعض؛ فليأتنا بحُجّة، وإن لم يكن بيده إِلا
مجرد أقوال من تقدمه؛ فلسنا ممن يُعَوِّل على ذلك، وبالله التوفيق".
وقال الإِمام ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (11/ 35): "وأمّا قولنا: إنه
لا يجوز إِنكاح الأبعد من الأولياء مع وجود الأقرب، فلأن الناس كلّهم
يلتقون
__________
(1) أخرجه البخاري: 5127.
(2) البقرة: 221.
(5/128)
في أب بعد أب إِلى آدم -عليه السلام- بلا
شكّ، فلو جاز إِنكاح الأبعد مع وجود الأقرب؛ لجاز إِنكاح كلّ من على وجه
الأرض؛ لأنه يلقاها بلا شك في بعض آبائها! فإِنْ حَدُّوا في ذلك حدّاً
كُلّفوا البرهان عليه -ولا سبيل إِليه-. فصحّ يقيناً أنه لا حقّ مع الأقرب
للأبعد. ثمّ إِنْ عُدِمَ فَمَنْ فَوْقَهُ بِأَبٍ .. هكذا أبداً؛ ما دام
يُعْلَمُ لها وليّ عاصب؛ كالميراث ولا فرق".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: "هل ينعقد نكاح المرأة بوليّ؛ مع وجود من هو أولى
منه؟ ".
فأجاب: "إِذا كان بإِذنه جاز؛ وإلا فلا".
*شروط الوليّ:
ويشترط في الولي: الحرية، والعقل، والبلوغ؛ سواء كان المُولَّى عليه مسلماً
أو غير مسلم، فلا ولاية لعبد، ولا مجنون، ولا صبي؛ لأنه لا ولاية لواحد من
هؤلاء على نفسه، فأولى ألا تكون له ولاية على غيره.
ويزاد على هذه الشروط شرط رابع، وهو الإِسلام، إِذا كان المُولَّى عليه
مسلماً؛ فإِنه لا يجوز أن يكون لغير المسلم ولاية على السلم؛ لقول الله
-تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (1).
عدم اشتراط العدالة:
ولا تشترط العدالة في الولي؛ إِذ الفسق لا يسلب أهلية التزويج، إِلا إِذا
خرج به الفسق إِلى حد التهتُّك؛ فإِنّ الولي في هذه الحالة لا يؤتمن على ما
تحت
__________
(1) النساء: 141.
(5/129)
يده، فَيُسْلَبُ حقّه في الولاية؛
[وللسلطان في ذلك شأن وتدبير] * (1).
جاء في "الفتاوى" (32/ 101): "وسئل -رحمه الله- عن رجل تزوّج بامرأة، وليها
فاسق يأكل الحرام ويشرب الخمر؛ والشهود أيضاً كذلك، وقد وقع به الطلاق
الثلاث: فهل له بذلك الرخصة في رجعتها؟
فأجاب: إِذا طلقها ثلاثاً وقع به الطلاق. ومن أخذ ينظر بعد الطلاق في صفة
العقد، ولم ينظر في صفته قبل ذلك: فهو من المتعدين لحدود الله، فإِنه يريد
أن يستحل محارم الله قبل الطلاق، وبعده. والطلاق في النكاح الفاسد المختلف
فيه عند مالك وأحمد وغيرهما من الأئمة، والنكاح بولاية الفاسق: يصح عند
جماهير الأئمة، والله أعلم".
المرأة لا تزوّج نفسها:
ليس للمرأة أن تزوّج نفسها؛ لأنّ الولاية شرط في صحّة العقد. ومن الأدلّة
على ذلك:
قوله -سبحانه-: {وأنْكحُوا الأيَامَى منكم والصَّالحين مِن عبَادكُم
وإِمَائِكم} (2).
فكان الخطاب هنا للأولياء.
وكذلك قوله -سبحانه-: {وإِذا طلَّقتم النّساء فَبَلَغْنَ أجلهُنَّ فلا
تَعضُلوهنّ أن يَنْكِحْنَ أزواجَهنَّ إِذا تَراضَوا بينهم بالمعروف ذلك
يُوعَظُ به
__________
(1) ما بين نجمتين عن "فقه السّنّة" (2/ 447).
(2) النور: 32.
(5/130)
من كان مِنْكُم يُؤمن بالله واليوم الآخر
ذلكُم أزكى لكُم وأطْهَر والله يَعْلم وأنتم لا تعلمون} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله- بحذف: " ... عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في
الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثمّ يبدو له أن يتزوجها
وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن
يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه. وكذا قال مسروق، وإِبراهيم النخعي، والزهري
والضحاك أنها نزلت في ذلك. وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية. وفيها دلالة على
أن المرأة لا تملك أن تُزوِّج نفسها، وأنه لا بدّ في تزويجها مِن وليّ؛ كما
قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: "لا تزوج المرأة
المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها ... " (2).
ثمّ أشار إِلى ما ورد عن الحسن قال: {فلا تَعْضُلُوْهُنّ} قال: حدثني معقل
بن يسار أنها نزلت فيه، قال: "زوجتُ أختاً لي من رجل فطلَّقها، حتى إِذا
انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وأفرشْتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثمّ
جئتَ تخطبها! لا والله لا تعود إِليك أبداً، وكان رجلاً لا بأس به، وكانت
المرأة تريد أن ترجع إِليه، فأنزل الله هذه الآية: {فلا تَعْضُلُوْهُنّ}؛
فقلتُ: الآن أفعل يا رسول الله! قال: فزَوجها إِيّاه" (3).
__________
(1) البقرة: 232.
(2) أخرجه ابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1527) وغيره، وصححه شيخنا -رحمه
الله- في "الإِرواء" (1841).
(3) أخرجه البخاري: 5130.
(5/131)
وعن أبى موسى أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا نكاح إِلا بوليّ" (1).
وفي رواية: "لا نكاح إلاَّ بِوَلِيٍّ وشاهِدَيْ عدل" (2).
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أيّما امرأة نُكحت بغير إِذن مواليها؛ فنكاحها باطل -ثلاث
مرات-. فإِنْ دخَل بها؛ فالمهر لها بما أصاب منها، فإِنْ تشاجروا فالسلطان
وليُّ من لا وليّ له" (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كُنّا نعدُّ التي تنكح نفسها هي
الزانية" (4).
وأمّا استدلال بعض الفقهاء بقول الله -تعالى-: {فإنْ طَلّقَهَا فلا تَحِلُّ
له من بَعْد حتَّى تًنْكِح زوجاً غَيْرَه} (5).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1836)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (879)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1526)، وانظر "الإرواء"
(1858)، و"المشكاة" (3130).
(2) أخرجه أحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (1858، 1860)،
وتقدّم.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1835)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (880)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1524)، وانظر "الإروإء"
(1840)، وتقدّم.
(4) أخرجه الدارقطني، والبيهقي، وقال شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (6/
249): إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(5) البقرة: 230.
(5/132)
وقوله -سبحانه-: {وإِذا طَلَّقتُم النِّساء
فبلَغْن أجَلَهُنّ فلا تَعْضُلُوهُنَّ أن يَنْكِحْنَ أزواجَهُنّ} (1).
وقولهم: في هاتين الآيتين إِسناد الزواج إِلى المرأة؛ فهو دليل على أنها
تلي أمر نفسها في الزواج!!
فالردّ عليه من وجوه كثيرة، أبرزها ما تقدّم من أدلّة، ثمّ إِن المعنى: حتى
تنكح زوجاً غيره في ضوء الشروط المنصوص عليها؛ لا بمعزلٍ عنها، فلا ينبغي
أن نضرب بعض النصوص ببعض.
وفي الآية الأخرى في قوله: فـ {لا تَعْضُلُوُهنَّ} ما يدلّ على أن الخطاب
للأولياء كما تقدّم.
وجاء في "الفتاوى" (32/ 31 - 32): "وسئل -رحمه الله- عن امرأة خلاها أخوها
في مكان لتوفي عدة زوجها، فلمّا انقضت العدة هربت إِلى بلد مَسيرةَ يوم،
وتزوّجت بغير إِذن أخيها، ولم يكن لها ولي غيره: فهل يصح العقد أم لا؟
فأجاب: إِذال يكن أخوها عاضلاً لها، وكان أهلاً للولاية: لم يصح نكاحها
بدون إِذنه، والحال هذه، والله أعلم".
إِذا كان الوليّ هو الخاطب (2):
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "وخطب المغيرة بن شعبة امرأة هو أوْلى
__________
(1) البقرة: 232.
(2) هذا العنوان من "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) "باب - 37".
(5/133)
النّاس بها، فأمَر رجلاً فزوّجه (1). وقال
عبد الرحمن بن عوف لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إِليّ؟ قالت: نعم،
فقال: قد تزوجتك (2). وقال عطاء: ليُشهد أني قد نكحتكِ، أو ليأمر رجلاً من
عشيرتها (3) ".
قال شيخنا -رحمه الله- في "مختصر البخاري" (3/ 366): "المفهوم من كلام
الشارح أنّ عطاء بن أبي رباح قاله في امرأة خطبها ابن عمّ لها؛ لا رجل لها
غيره، قال حين سألوه عنها: "فلتشهد أنّ فلاناً خطبها، وإني أشهدكم أني قد
نكحته"، أو تفوض الأمر إِلى الوليّ الأبعد، وهو معنى قوله بعد هذا: "أو
ليأمر رجلاً من عشيرتها"، والكلام جرى على التذكير في ضبط الشارح، ونحن
أتينا البيوت من أبوابها".
قال الحافظ في "الفتح" بعد تبويب الإِمام البخاري -رحمهما الله تعالى-:
"الذي يظهر من صنيعه أنه يرى الجواز، فإِنّ الآثار التي فيها أمر الولي
غيره أن يزوجه ليس فيها التصريح بالمنع من تزويجه نفسه، وقد أورد في
الترجمة أثر عطاء الدالّ على الجواز، وإنْ كان الأولى عنده أن لا يتولى أحد
طرفَي العقد.
وقد اختلف السلف في ذلك، فقال الأوزاعي وربيعة والثوري ومالك وأبو حنيفة
وأكثر أصحابه والليث: يزوج الولي نفسه، ووافقهم أبو ثور: وعن
__________
(1) رواه البخاري معلّقاً، ووصله وكيع في "مصنفه"، وعنه البيهقي وسعيد بن
منصور، وانظر "الفتح"، و"مختصر البخاري" (3/ 366).
(2) رواه البخاري معلقاً، ووصله ابن سعد.
(3) رواه البخاري معلقاً، ووصله عبد الرزاق بسند صحيح عنه، وانظر "مختصر
البخاري" (3/ 366).
(5/134)
مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوِّجني بمن
رأيت، فزوَّجها من نفسه أو ممن اختار؛ لَزِمها ذلك، ولو لم تعلم عين الزوج.
وقال الشافعي: يزوجهما السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه. ووافقه زفر
وداود. وحُجّتهم أنّ الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح مُنكحاً كما لا
يبيع من نفسه". انتهى.
وقال ابن حزم -رحمه الله-: "وأمّا قولهم: إِنه لا يجوز أن يكون الناكح هو
المُنْكِح! ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المُنْكِح، فدعوى
كدعوى.
وأمّا قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه! فهي جملة لا تصحّ كما ذكروا، بل
جائز إِن وُكِّل ببيع شيء أن يبتاعه لنفسه، إن لم يُحابها بشيء". ثمّ ساق
البرهان على صحة ما رجّحه (1)، من أن البخاري روى عن أنس: أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها، وجعل عتقها
صداقها، وأولم عليها بِحيس (2).
قال: "فهذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوَّج مولاته
من نفسه، وهو الحُجّة على من سواه". ثمّ قال: "قال الله -تعالى-:
{وأنْكحُوا الأيَامَىَ منكم والصَّالحين من
عِبَادِكُم وإِمَائِكُم إِن يَكُونوا فُقَرَاء يُغْنهم الله من فضله والله
واسعٌ عليم} (3).
فمن أنكح أيّمة من نفسه برضاها، فقد فعل ما أمره الله -تعالى- به، ولم يمنع
__________
(1) هذا كلام السيد سابق -رحمه الله- في "فقه السنة" (2/ 457).
(2) أخرجه البخاري: 5169، ومسلم: 1365.
و (الحَيْسُ): "هو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسّمْن. وقد يجعل عوض
الأقط: الدقيق أو الفتيت". "النهاية".
(3) النور: 32.
(5/135)
الله -عزّ وجلّ- من أن يكون المنكح لأيمة
هو الناكح لها، فصح أنه الواجب" (1).
غَيْبَةُ الوليّ:
لا ولاية للبعيد مع وجود الوليّ الأقرب؛ فبحضور الأب لا ولاية للأخ أو
العمّ؛ فضلاً عن غيرهما، وعقد هؤلاء موقوف على صاحب الولاية: الأب.
وفي حالة غياب الأقرب يأتي من يليه؛ لعموم قوله -تعالى-: {فاتقوا الله ما
استطعتم} (2). ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (3).
فلا يمكن تعطيل الزواج لغيابه وصعوبة الاتصال به وأخْذِ رأيه، وذلك حين لا
يترجّح أوان عودته، ولا يخفى ما يترتّب على ذلك من تفويت مصالح النكاح
العامّة والخاصّة، وليس لهذا الوليّ الغائب أن يعترض على ما كان.
ولاية غير الآباء على الصغار:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أنه حين هلَك عثمان بن مظعون ترك ابنة له.
قال ابن عمر: فزوّجنيها خالي قُدامة -وهو عمها- ولم يشاورها، وذلك بعدما
هلك أبوها، فكرهت نكاحه، وأحبت الجارية أن يزوجها المغيرة بن شعبة، فزوجها
إِياه" (4).
__________
(1) انظر "المحلّى" (11/ 63)، وذكره الشيخ السيد سابق -رحمه الله- في "فقه
السنة" (2/ 457).
(2) التغابن: 16.
(3) أخرجه البخاري: 7288، ومسلم: 1337.
(4) أخرجه أحمد، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1523) وغيرهما، وحسّنه
شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1835).
(5/136)
وجاء في تبويب "سنن ابن ماجه": (باب نكاح
الصغار يزوّجهن غير الآباء).
وجاء في "الفتاوى" (32/ 19): "وسئل -رحمه الله- عن وجل له بنت، وهي دون
البلوغ، فزوَّجوها في غَيبة أبيها، ولم يكن لها ولي؛ وجعلوا أن أباها توفي
-وهو حي- وشهدوا أن خالها أخوها؛ فهل يصح العقد أم لا؟
فأجاب: إِذا شهد وا أن خالها أخوها؛ فهذه شهادة زور، ولا يصير الخال ولياً
بذلك؛ بل هذه قد تزوّجت بغير ولي، فيكون نكاحها باطلاً عند أكثر العلماء
والفقهاء، كالشافعي وأحمد وغيرهما، وللأب أن يجدده، ومن شهد أن خالها أخوها
وأن أباها مات؛ فهو شاهد زور، يجب تعزيره، ويعزر الخال، وإِن كان دخل بها
فلها المهر، ويجوز أن يزوجها الأب في عدة النكاح الفاسد عند أكثر العلماء،
كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه، والله أعلم".
السلطانُ وليُّ من لا ولي له:
إذا لم يكن للمرأة وليّ؛ فوليّها السلطان.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "أيّما امرأة نُكحت بغير إِذن مواليها؛ فنكاحها باطل -ثلاث
مرات-، فإِنْ دخَل بها، فالمهر لها بما أصاب منها، فإِنْ تشاجروا فالسلطانُ
وليُّ من لا وليّ له" (1).
وقال الإِمام البخاري -رحمه الله-: (باب السلطان وليّ؛ لقول النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - "زوّجناكها بما معك من القرآن") (2).
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) انظر كتاب النّكاح (باب - 40).
(5/137)
قال القرطبي -رحمه الله-: "وإذا كانت
المرأة بموضع لا سلطان فيه، ولا وليّ لها، فإِنها تُصيِّرُ أمرها إِلى من
يوثَق به من جيرانها، فيزوجها ويكون هو وليّها في هذه الحال؛ لأن الناس لا
بد لهم من التزويج، وإِنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن.
وعلى هذا، قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إِنه يزوجها مَن تُسند أمرها
إِليه؛ لأنها ممن تضعُف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في
الجملة إِلى أن المسلمين أولياؤها" (1).
وجاء في "المحلّى" (11/ 30): "وصح عن ابن سيرين في امرأة لا ولي لها، فولت
رجلاً أمرها، فزوّجها، قال ابن سيرين: لا بأس بذلك، المؤمنون بعضهم أولياء
بعض".
عضْل الوليّ:
عضْل المرأة: هو منْعها من التزوّج ظُلماً.
وليس للولي أن يعضل من يلي أمرها دون مسوّغ، أو سبب شرعي، فتقدُّم من يُرضى
عن دينه وخُلُقه -حين يدفع مهر المِثل- لا يجوز ردّه، ومن حقّها أن تشكو
وليّها إِلى القاضي.
قال الله -تعالى-: {وإِذا طلَّقْتُم النَّسَاء فَبَلَغْن أجلهُنّ فلا
تَعْضُلُوهُنّ أنْ يَنْكِحْنَ أزواجَهنّ إِذا تراضَوا بينهم بالمعروف} (2).
__________
(1) "الجامع لأحكام القرآن" (3/ 76)، وذَكَرْهُ الشيخ السيد سابق -رحمه
الله- في "فقه السنة" (2/ 459).
(2) البقرة: 232.
(5/138)
وقد نزلت هذه الآية في معقل بن يسار -كما
تقدّم-.
فعن الحسن قال: {فلا تَعْضُلُوهُنّ} قال: حدثني معقل بن يسار أنها نزَلَت
فيه قال: "زوجْتُ أختاً لي من رجل فطلَّقها، حتى إِذا انقضت عدّتها جاء
يخطُبُها، فقلت له: زوجْتُك وأفرشتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثمّ جئت تخطبها!
لا والله لا تعود إِليك أبداً! وكان رجلاً لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن
ترجع إِليه، فأنزل الله هذه الآية: {فلا تَعْضُلُوهُنّ}، فقلت: الآن أفعل
يا رسول الله! قال: فزوجها إِيّاه" (1).
جاء في "المحلّى" (11/ 61) تحت المسألة (1841): "ولا يكون الكافر وليّاً
للمسلمة، ولا المسلم وليّاً للكافرة، الأب وغيره سواء، والكافر ولي للكافرة
التي هي وليّته، يُنكحها من المسلم والكافر.
برهان ذلك قول الله -عزّ وجلّ- {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}
(2)، وقال -تعالى-: {والذين كفروا بعضهم أولياء بعض} (3)، وهو قول من
حفِظْنا قوله، إِلا ابن وهب صاحب مالك قال: إِن المسلم يكون ولياً لابنته
الكافرة في إِنكاحها من المسلم أو من الكافر! وهذا خطأ لما ذكرنا. وبالله
-تعالى- التوفيق".
وجاء فيه أيضاً (43 - 44) تحت المسألة (1828): "وإذا أسلمت البكر ولم يسلم
أبوها، أو كان مجنوناً؛ فهي في حُكم التي لا أب لها؛ لأن الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 5130، وتقدّم.
(2) التوبة: 71.
(3) الأنفال: 73.
(5/139)
-تعالي- قطع الولاية بين الكفار والمؤمنين،
قال -تعالى-: {يا أيّها الذين آمنوا لا تَتَولَّوا قوماً غَضِبَ الله
عليهم} (1).
وقال -تعالى-: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} (2).
وصح في المجنون قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "رفع
القلم عن ثلاثة"؛ فذكر منهم: "المجنون حتى يفيق" (3).
وقد صحّ أنه غير مخاطب باستئمارها ولا بإِنكاحها، وإنما خاطب -عزّ وجلّ-
أولي الألباب، فلها أن تنكح من شاءت بإِذن غيره من أوليائها، أو السلطان".
جاء في "الفتاوى" (32/ 35): "وسئل -رحمه الله تعالى- عن رجل أسلم: هل يبقى
له ولاية على أولاده الكتابيِّين؟
فأجاب: لا ولاية له عليهم في النكاح، كما لا ولاية له عليهم في الميراث،
فلا يزوج المسلم الكافرة، سواء كانت بنته أو غيرها، ولا يرث كافر مسلماً
ولا مسلم كافراً، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وأصحابهم من السلف والخلف ...
(4) ".
__________
(1) الممتحنة:13.
(2) التوبة: 71.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3698)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1660) واللفظ له وغيرهما، وانظر "الإرواء" (297)، وتقدّم.
(4) انظر تتمّة الإِجابة للمزيد من الفائدة -إن شئت-.
(5/140)
اليتيمة تُستأمر في نفسها:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "تُسْتأمر (1) اليتيمة في نفسها، فإِنْ سكتت فهو إِذنها، وإن
أبت فلا جواز عليها (2) " (3).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "توفي عثمان بن مظعون، وترك
ابنة له من خويلة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص، قال: وأوصى إِلى
أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي، قال: فخطبت إِلى قدامة بن
مظعون ابنة عثمان بن مظعون، فزوَّجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة، يعني: إِلى
أمّها، فأرغبها في المال، فحطَّتْ إِليه (4)، وحطَّتْ الجارية إِلى هوى
أمّها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إِلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله! ابنة أخي أوصى بها إِليّ،
فزوجتها ابنَ عمتها عبدَ الله بن عمر، فلم أقصِّرْ بها في الصلاح، ولا في
الكفاءة، ولكنها امرأة، وإِنما حطَّتْ إِلى هوى أمها! قال: فقال رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هي يتيمة، ولا تنكح إِلا بإِذنها.
قال: فانتُزعت -والله- مني، بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة" (5).
جاء في "زاد المعاد" (5/ 100): "وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أن اليتيمة
__________
(1) أي: تُسْتأذن.
(2) أي: لا تعدّي عليها ولا إِجبار. "المرقاة" (6/ 298).
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1843)، والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (886)، والنسائي "صحيح سنن النسائي" (3067)، وانظر "الإرواء"
(1834)، وانظر -إِن شئت المزيد من الفائدة- ما جاء في "الفتاوى" (32/ 43 -
53).
(4) "أي: مالت إليه، ونزلت بقلبها نحوه". "النهاية".
(5) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء"
(1835).
(5/141)
تُستأمر في نفسها، و"لا يُتْمَ بعد احتلام
(1) "، فدلّ ذلك على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ، وهذا مذهب عائشة- رضى
الله عنها-، وعليه يدلُّ القرآن والسّنّة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة
وغيرهما.
قال -تعالى-: {ويَستفتُونك في النّساء قُل الله يُفِتيكُم فيهنَّ وما
يُتْلَى عليكم في الكتاب في يَتَامَى النِّساء اللاتي لا تُؤتُونَهُنَّ ما
كُتِبَ لَهُنّ وتَرغَبون أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} (2).
قالت عائشة -رضي الله عنها-: هي اليتيمة تكون في حَجر وليها، فيرغب في
نكاحها، ولا يُقْسِط لها سُنة صَداقها، فنهوا عن نكاحهنّ إِلا أن يُقسطوا
لهنّ سُنّة صَداقهنّ (3) ".
استئذان المرأة قبل النكاح:
عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الأيّم (4) أحقّ بنفسها مِن وليّها، والبِكر تستأذن في
نفسها، وإذنها صُمَاتها" (5).
__________
(1) أخرجه عدد من الأئمة، وصححّه شيخنا -رحمه الله - في "الإِرواء" (1244)
بعددٍ من الطُّرق والشواهد.
(2) النساء: 127.
(3) انظر "صحيح مسلم" (3018).
(4) الأيّم في الأصل: التي لا زوج لها؛ بكراً كانت أو ثيباً، مطلَّقة كانت
أو متوفّى عنها، ويريد بالأيّم في هذا الحديث الثيّب خاصة، يُقال: تأيمت
المرأة وآمت: إِذا أقامت لا تتزوّج. "النهاية".
(5) أخرجه مسلم: 1421.
(5/142)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تُنكَح الأيّم حتى
تُستأمَر، ولا تُنكَح البكر حتى تُستأذَن، قالوا: يا رسول الله! وكيف
إِذنها؟ قال: أن تسكت" (1).
قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح": "أصل الاستئمار: طلبُ الأمر؛ فالمعنى:
لا يعقد عليها حتى يطلب الأمر منها. ويؤخذ من قوله: لا تستأمر؛ أنّه لا
يعقد إِلا بعد أن تأمر بذلك".
وعن خنساءَ بنت خذامٍ الأنصارية: "أنّ أباها زوّجها وهي ثيّب، فكرهَت ذلك،
فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فردّ نكاحها" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنّ جارية بكراً أتت النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيرها
النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (3).
وثبت عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه: "كان إِذا
أراد أن يُزوّج بنتاً من بناته جلس إِلى خدرها، فقال: إِنّ فلاناً يذكرُ
فلانة -يسمّيها، ويسمّي الرجل الذي يذكُرها-! فإِنْ هي سكتت؛ زوَّجها، أو
إِن كرهت نقرت الستر، فإِذا نقرته لم يزوجها" (4).
وقال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "باب إِذا زَوّج الرجل ابنته وهي كارهة،
__________
(1) أخرجه البخاري: 5136، ومسلم: 1419.
(2) أخرجه البخاري: 5138.
(3) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1845)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1520)، وانظر "المشكاة" (3136).
(4) انظر "الصحيحة" (2973)، وانظر للمزيد ما جاء في "الفتاوى" (32/ 30).
(5/143)
فنكاحه مردود" (1).
ثمّ ذكر حديث خنساء بنت خدام.
جاء في "السيل الجرّار" (2/ 272) بعد أن ذكَر عدداً من الأدلّة المتقدّمة
وقال: "والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وهي تفيد أنه لا يصح نكاح من لم
ترْضَ؛ بِكْراً كانت أو ثيّباً".
وقد فصل العلامة ابن القيّم -رحمه الله- في "زاد المعاد" (5/ 95) فأجاد
وأفاد.
الوكالة في الزواج:
*الوكالة من العقود الجائزة في الجملة؛ لحاجة الناس إِليها في كثير من
معاملاتهم.
وقد اتفق الفقهاء على أنّ كلّ عقد جاز أن يعقده الإِنسان بنفسه، جاز أن
يُوكِّل به غيره، كالبيع، والشراء، والإِجارة، واقتضاء الحقوق، والخصومة في
المطالبة بها، والتزويج، والطلاق، وغير ذلك من العقود التي تقبل النيابة.
وقد كان النّبيّ -صلوات الله وسلامه عليه- يقوم بدور الوكيل في عقد الزواج،
بالنسبة لبعض أصحابه؛ روى أبو داود عن عقبة بن عامر: أنّ النّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: "أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم!
وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟ قالت: نعم! فزوَّج أحدهما صاحبه،
فدخَل بها الرجل، ولم يفرض لها صَداقاً، ولم يعطها شيئاً.
وكان ممّن شهد الحديبية وكان مَن شهد الحديبية له سهم بخيبر، فلمّا
__________
(1) انظر "صحيح البخاري" (كتاب النكاح) (باب - 42).
(5/144)
حضرته الوفاة، قال: إِنّ رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوّجني فلانة، ولم أفرِض لها صَداقاً،
ولم أُعطها شيئاً، وإنّي أشهدكم: أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذَت
سهماً، فباعته بمائة ألف" (1).
وفي هذا الحديث دليل على أنه يصحّ أن يكون الرّجل وكيلاً عم الطرفين.
عن أمّ حبيبة: "أنها كانت عند ابن جحش، فهلَك عنها، وكان فيمن هاجر إِلى
أرض الحبشة، فزوّجها النجاشيُّ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وهي عندهم" (2).
ويصح التوكيل من الرجل العاقل البالغ الحر؛ لأنه كامل الأهلية، وكلّ من كان
كامل الأهلية، فإِنه يملك تزويج نفسه بنفسه، وكل من كان كذلك، فإِنه يصح أن
يُوكِّل عنه غيره.
أمّا إِذا كان الشخص فاقد الأهلية أو ناقصها، فإِنه ليس له الحق في توكيل
غيره؛ كالمجنون، والصبي، والمعتوه، فإِنه ليس لواحد منهم الاستقلال في
تزويج نفسه بنفسه.
والتوكيل يجوز مطلقاً ومقيداً:
فالمطلق: أن يُوكِّل شخص آخر في تزويجه، دون أن يقيده بامرأة معينة، أو
بمهر، أو بمقدارٍ مُعين من المهر.
والمقيّد: أن يوكّله في التزويج، ويقيده بامرأة معيّنة، أو امرأة من أسرة
معينة، أو بقدر معين من المهر* (3).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1859)، وانظر "الإِرواء" (1924).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1837)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (3142).
(3) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنّة" (3/ 463).
(5/145)
جاء في "الروضة الندية" (2/ 32): "ويجوز
لكل واحد من الزوجين أن يوكّل لعقد النكاح، ولو واحداً؛ لحديث عقبة بن عامر
عند أبي داود أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل:
أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم، وقال للمرأة: أترضين أن أزوجك فلاناً؟
قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه ... الحديث. وقد ذهب إِلى ذلك جماعة من أهل
العلم: الأوزاعي، وربيعة، والثوري، ومالك، وأبو حنيفة، وأكثر أصحابه،
والليث، وأبو ثور. وحكى في "البحر" عن الشافعي، وزُفَر: أنه لا يجوز. وقال
في "الفتح": وعن مالك: لو قالت المرأة لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوّجها من
نفسه أو ممن اختار؛ لزمها ذلك؛ ولو لم تعلم عين الزوج ... ".
وسألت شيخنا -رحمه الله-: هل ترون صحّة عقد الزواج للغائب إِذا وُثّق؟
فقال: نعم؛ بالشرط المذكور.
هل الكفاءة (1) في الزواج معتبرة؟
هذه من المسائل التي اختلف فيها العلماء؛ فمنهم من قال باعتبارها، ومنهم من
لم يقُل بذلك. ومن الأحاديث التي ذكَرها القسم الأوّل في ذلك:
1 - ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "ثلاث لا يؤخَّرن: الصلاة إِذا أتت، والجنازة إِذا حضرت،
والأيّم إِذا وجدت لها كفُؤاً" (2)، وهو ضعيف.
2 - ما رُوي عن ابن عمر -رضي الله عنهما- "أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: العرب
__________
(1) الكفء: المِثل والنظير.
(2) أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب حسن، قال شيخنا -رحمه الله-: "وفيه سعيد
ابن عبد الله الجهني؛ قال أبو حاتم: مجهول ... ". وانظر "المشكاة" (605)،
و"ضعيف الترمذي" (25).
(5/146)
أكفاءٌ بعضهم لبعض، قبيلة لقبيلة، وحيٌّ
لحي، ورجلٌ لرجل؛ إِلا حائك أو حجّام" (1). وهو موضوع.
وعن بريدة -رضي الله عنه- قال: "جاءت فتاة إِلى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إِنّ أبي زوَّجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته!
قال: فجعل الأمر إِليها، فقالت: قد أجزْتُ ما صنَع أبي، ولكن أردتُ أن تعلم
النساء أَنْ ليس إِلى الآباء من الأمر شيء"، وهو ضعيف (2).
وعلى افتراض ثبوته أقول بما جاء في "الروضة" (2/ 17): "ومحلّ الحُجّة منه
قولها: ليرفع بي خسيسته، فإِنّ ذلك مُشعِر بأنه غير كفؤ لها، ولا يخفى أن
هذا إِنما هو من كلامها، وإنما جعل النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الأمر إِليها؛ لكون رضاها مُعتَبراً. فإِذا لم ترض، لم يصح
النكاح، سواء كان المعقود له كفؤاً، أو غير كفؤ. وأيضاً هو زوَّجها بابن
أخيه؛ وابن عمّ المرأة كفؤ لها"، ثُمَّ ذكَّرني أحد الإِخوة بتراجع شيخنا
-رحمه الله- في "الصحيحة" تحت الحديث (3337) عن إِعلاله بالانقطاع فثبت
وصْلُه.
3 - وذكروا أثر عمر -رضي الله عنه-: "لأمنعنّ تزوُّج ذوات الأحساب إِلا من
الأكفاء". وقد أخرجه الدارقطني، وفيه انقطاع؛ فإِن إِبراهيم بن محمد بن
طلحة لم يد رك عمر -رضي الله عنه-. وانظر "الإِرواء" (1867).
وهناك من استدلّ بأحاديث ثابتة، لكنها لا تدلّ على المطلوب. ومِن ذلك
__________
(1) أخرجه الحاكم، وجاء في "الروضة الندية": "وفي إِسناده رجل مجهول، وقال
أبو حاتم: إِنه كذب لا أصل له، وذكر الحُفّاظ أنه موضوع". وانظر "الإرواء"
(1869).
(2) انظر "نقد نصوص حديثية" (ص 44) و"التعليقات الرضية" (2/ 141).
(5/147)
حديث: "خيارهم في الجاهلية خيارهم في
الإِسلام إِذا فقهوا" (1).
فهو كما جاء في "الروضة الندية" (2/ 143) -بتصرّف-: "ليس فيه دلالة على
المطلوب؛ لأن إِثبات كون البعض خيراً من بعض؛ لا يستلزم أنّ الأدنى غير كفؤ
للأعلى.
وهكذا حديث: "إِنّ الله اصطفى كنانة من ولد إِسماعيل، واصطفى قريشاً من
كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (2).
وكذلك حديث سمرة -رضي الله عنه- عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "الحسب: المال، والكرم: التقوى" (3).
وأيضاً حديث بريدة -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "إِنّ أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إِليه: المال" (4).
فهذا ليس فيه إِقرار على ما ذهب إِليه أهل الدنيا، وإنما هو إِيضاحٌ
للمعاني، وحكاية عن صنيعهم، قال صاحب "الروضة" (2/ 18): " ... فيكون في
حُكم التوبيخ لهم والتقريع".
والخلاصة؛ أنّ أحاديث هذا الباب -كما قال بعض العلماء في غير هذا
__________
(1) أخرجه البخاري: 3493، ومسلم: 2638.
(2) أخرجه مسلم: 2276.
(3) أخرحه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2609)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (3399)، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1870).
(4) أخرجه أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- في
"الإِرواء" (6/ 272).
(5/148)
الموضوع- صحيحها غير صريح، وصريحها غير
صحيح، وسيأتي ما أستطيعه -إِن شاء الله- من البيان.
قال شيخ الإِسلام -رحمه الله- في "الفتاوى" (19/ 29): "وليس عن النّبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نصٌّ صحيح صريح في هذه الأمور [عدم
اعتبار الكفاءة] ".
وجاء في "الفتح" (9/ 133): "ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب حديث".
ومنهم من قال بعدم اعتبار الكفاءة في النكاح؛ وأنها لا تكون إِلا في الدين
والخُلُق.
قال الله -تعالى-: {إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ الله أتْقَاكُم} (1).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "النّاسُ وَلدُ آدم، وآدم من تراب" (2).
قال الإِمام البخاري -رحمه الله-: "وقوله: {وهو الذي خلَق من الماء بَشَراً
فَجَعَلَهُ نَسَباً وصِهْراً وكان ربّك قديراً} (3) ".
وهذا يُشعِر من الإِمام البخاري -رحمه الله- أنه يرى اعتبار الكفاءة في
الدين فحسب؛ إِذ البشر من الماء، فلا بغي ولا تفاخر، ولا ترفُّع في النكاح.
ومما ذكَره الإِمام البخاري -رحمه الله-: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-
__________
(1) الحجرات: 13.
(2) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" وغيره، وانظر "الصحيحة" (1009).
(3) الفرقان: 54.
(5/149)
عن النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها،
فاظفر بذات الدين تربت يداك" (1).
فالذي ينبغي أن يصار إِليه؛ الظَّفَرُ بذات الدين.
ثمّ ذكر -رحمه الله- حديث سهل -رضي الله عنه- قال: "مرّ رجل على رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا:
حريٌّ إِنْ خطب أن يُنْكَحَ، وإِن شَفِعَ أن يُشفّع، وإن قال أن يُستمَع!
قال: ثمّ سكت. فمرّ رجلٌ من فُقراء المسلمين؛ فقال: ما تقولون في هذا؟
قالوا: حريٌّ إِن خطب أن لا يُنْكَح، وإن شفع أن لا يشفَّع، وإن قال أن لا
يُستمع! فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا خيرٌ
من ملء الأرض مِثل هذا" (2).
والحديث في غاية التصريح إِلى ما يذهب إِليه من يقول باعتبار الكفاءة في
الدين والخُلُق.
وفي رواية: "مرّ رجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
فقال لرجلٍ عنده جالس: ما رأيك في هذا؟ فقال: رجل من أشراف الناس ... "
(3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-: "أنّ أبا هند حَجَمَ النَّبيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ (4)، فقال النَّبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يا بني بياضة! أنكحوا أبا هند، وانكحوا
إِليه" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 5090، ومسلم: 1466.
(2) أخرجه البخاري: 5091.
(3) أخرجه البخاري: 6447.
(4) أي: وسط رأسه.
(5) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (1850)، =
(5/150)
وجاء في "سُبل السلام" (3/ 250) عقب هذا
الحديث: " ... فنبه على الوجه المقتضي لمساواتهم [أي: المسلمين]، وهو
الاتفاق في وصف الإِسلام.
وللناس في هذه المسألة عجائب، لا تدور على دليل غير الكبرياء والترفع، ولا
إِله إِلا الله! كم حُرِمت المؤمناتُ النكاحَ لكبرياء الأولياء واستعظامهم
أنفسهم، اللهم إِنّا نبرأ إِليك من شَرْطٍ ولّده الهوى، وربّاه الكبرياء
... ".
وعن عائشة -رضي الله عنها-: "أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس
-وكان ممن شهد بدراً مع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تبنّى سالماً وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى
لامرأة من الأنصار" (1).
وعن فاطمة بنت قيس -رضي الله تعالى عنها- أنّ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: "انكحي أُسامة" (2).
جاء في "سُبل السلام" (3/ 250): "وفاطمة قرشية فِهْرِيَّة، أخت الضحاك بن
قيس، وهي من المهاجرات الأُوَل، كانت ذات جمال وفضل وكمال، جاءت إِلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد أن طلّقها أبو عمرو بن حفص
بن المغيرة بعد انقضاء عدتها منه، فأخبرته أنّ معاوية بن أبي سفيان وأبا
جهم خطَباها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أما
أبو جهم؛ فلا يضع عصاه عن عاتقه. وأمّا معاوية؛ فصعلوك لا مال له. انكحي
أسامة بن زيد ... " الحديث، فأمرَها بنكاح أسامة مولاه ابن مولاه، وهي
قرشية، وقدّمه على أكفائها ممن ذَكَر، ولا أعلم أنه طلب
__________
= وابن حبّان وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (2446).
(1) أخرجه البخاري: 5088.
(2) أخرجه مسلم: 1480، وتقدّم.
(5/151)
من أحد من أوليائها إِسقاط حَقّه".
وعن أبي حاتم المُزَنِيِّ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "إِذا جاءكم من ترضون دينه. وخُلُقه فأنكحوه، إِلا تفعلوا تكن
فتنة في الأرض وفساد، قالوا: يا رسول الله! وإن كان فيه؟ قال: إِذا جاءكم
من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه. ثلاث مرات" (1).
وجاء في "الروضهَ الندية" (2/ 20 - 21): "وأعلى الصنائع المعتبرة في
الكفاءة في النّكاح على الإِطلاق: العلمُ؛ لحديث: "العلماء ورثة الأنبياء"
(2).
والقرآن الكريم شاهد صدق على ما ذكرناه، فمن ذلك قوله -تعالى-: {قُل هل
يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لا يعلمون}، وقوله -تعالى-: {يرفعِ
الله الذيق آمنو امِنْكُم والذين أُوتُوا العلم درجات}، وقوله -تعالى-:
{شهد الله أنّه لا إِله إلاَّ هُوَ والملائِكَة وأولو العلم}، وغير ذلك من
الآيات والأحاديث المتكاثرة، منها حديث: "خياركم في الجاهلية خياركم في
الإِسلام إِذا فقهوا"، وقد تقدّم.
وبالجملة؛ إِذا تقرر لك هذا، عرفتَ أن المعتبر هو الكفاءة فى الدين
والخلُق، لا في النسب (3) ". انتهى.
__________
(1) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (865، 866)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن
ماجه" (1601)، وحسنه شيخنا -رحمه الله- في "الإِرواء" (1868)، و"الصحيحة"
(1022).
(2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وحسنه لغيره شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" برقم (70).
(3) وانظر للمزيد من الفائدة -إِن شئت- ما قاله ابن القيم -رحمه الله- من
كَلامٍ قَيِّمٍ =
(5/152)
وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "تخيّروا لنُطفِكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إِليهم" (1).
وقال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (3/ 57) عقب الحديث: "ولكن يجب أن
يُعلم أنّ الكفاءَة إِنّما هي في الدين والخُلُق فقط". |