الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة قتال البغاة
البغاة: هم الذين لهم مَنَعة وشُبهة، فنصَّبوا رئيساً، وخرجوا على الإمام
العدل (2).
ويجب قتال البغاة حتى يرجعوا إلى الحقّ؛ لقوله- تعالى-: {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} (3).
فأوجَب الله -سبحانه- قتال الطائفة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله، ولا
فَرْق بين أن يكون البغي مِن بعض المسلمين على إمامهم، أو على طائفةٍ منهم.
ويُستفاد حُكم البغاة مِن أثر علي -رضي الله عنه- حين قاتل أهل البصرة،
وأهل الشام وأهل النّهروان (4).
__________
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيره. وانظر "المشكاة"
(3982). وتقدّم.
(2) عن "الروضة الندية" (2/ 769) بتصرف.
(3) الحجرات: 9.
(4) انظر "الروضة الندية" (2/ 769).
(7/278)
والحاصل: أنّ أصلَ دم المسلم وماله؛
العِصمَة، ولم يأذن الله -عزّ وجلّ- سوى بقتال الطائفة الباغية حتى تفيء،
فيجب الاقتصار على هذا (1).
وعن عرفجة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يُقول: "إنّه ستكون هَنات وهَنات، فمن أراد أن يُفرّق اْمر هذه
الأُمّة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً مَن كان" (2).
وفي لفظ: "مَن أتاكم وأمرُكم جميع، على رجل واحد، يُريد أن يَشُقّ عصاكم؛
أو يُفرّق جماعتكم؛ فاقتلوه" (3).
لا يُجهز على الجريح منهم ولا يُسلب القاتل ولا يُطلب المولّي
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: "شهدت صفّين فكانوا لا يجيزون على جريح
(4)، ولا يطلبون مُوَليّاً، ولا يسلِبون قتيلاً" (5).
__________
(1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-، (7/ 169)، عقب قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُم فَإنَ فِي
قَتْلِهِم أجْراً" [سيأتي تخريجه إن شاء الله]: "هَذَا تَصْرِيح بِوُجُوبِ
قِتَال الْخوَارِج وَالْبُغَاة، وَهُوَ إِجْمَاع الْعُلَمَاء، قَالَ
الْقَاضِي: أجْمَعَ الْعُلَمَاء، عَلَى أنَ الْخوَارِج، وَأشْبَاهَهُمْ
مِنْ أهل الْبِدَع وَالْبَغْي؛ مَتَى خَرَجُوا عَلَى الْإِمَام وَخَالَفُوا
رَأْي الجماعَة وَشَقُّوا الْعَصَا؛ وَجَبَ قِتَالهمْ بَعْد إِنذَارهمْ،
وَالاعْتِذَار إِلَيْهم. قَالَ الله - تَعَالَى-: {فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ... ، وَهَذَا كُلّه مَا لم
يَكْفُرُوا بِبِدْعَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ بِدْعَة مما يَكْفُرُونَ بِهِ
جَرَتْ عَلَيْهِمْ أحْكَام المرتدِّينَ".
(2) أخرجه مسلم: 1852.
(3) أخرجه مسلم: 1852.
(4) لا يجيزون على جريح: أي: مَن صُرع منهم وكُفِي قِتالُه، لا يُقْتَل؛
لأنهم مسْلِمون، والقصْد مِن قتالهِم دَفْعُ شَرِّهِم، فإذا لم يُمْكِن ذلك
إلاَّ بقَتْلهم قُتِلوا. "النّهاية".
(5) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء"
(2463).
(7/279)
وعن الزهري قال: "قد هاجَت الفتنة الأولى،
وأدركَت -يعني الفتنة- رجالاً ذوي عددٍ مِن أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ممن شهد معه بدراً، وبلَغَنا أنهم كانوا
يرون أن يُهدَر أمر الفتنة، ولا يُقام فيها على رجلِ قاتِلٍ في تأويلِ
القرآن قِصاصٌ فيمن قتل (1)، ولا حدٌّ (2) في سباءِ امرأةٍ سُبيَت (3)، ولا
يُرى عليها حدٌّ (4)، ولا بينها وبين زوجها ملاعنة (5)، ولا يُرى أن
يَقْفُوها أحدٌ إلاَّ جُلد (6)، ويُرى أنْ تُردَّ إلى زوجها الأول؛ بعد أنْ
تعتدّ فتقضى عدّتَها مِن زوجها الآخر (7)، ويُرى أنْ يَرِثَها زوجُها
الأوّل (8) " (9).
وفي لفظ: "ولا مالٌ استحلَّه بتأويلِ القرآن إلاّ أنْ يوجَدَ شيء بعينه
(10) " (11).
والزهري لم يدرك الفتنة المشار إليها، وهي وقعة صفّين.
__________
(1) أي: لا يُقتَل قِصاصاً بقتله، لأنّه مُتَأوّلٌ بالقرآن.
(2) ولا حد: تقدير الجملة: لا يُقام حدّ.
(3) أي: فمَن سباها بتأويلِ فلا يُقام عليه الحدّ.
(4) وكذلك هي لا تُنزّل منزلة الزانية، فلا حدّ عليها.
(5) يعني: لا يَرَون أن تكون ملاعنةٌ بينها وبين زوجها، وما يَتْبع ذلك مِن
أمور؛ كالتفريق مَثلاً.
(6) أي: إذا اتَّهمَها أحد أو قذَفها بالزنا؛ أُقيم عليه حدّ الجلد.
(7) وذلك عودةً إلى الأصل واستبراءً للأرحام.
(8) يعني: إذا تُوفيت وَرِثها زوجها الأول، ولا يرثها الثاني.
(9) أخرجه البيهقي وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء" (2465).
(10) يعني: مَن عَرَف شيئاً مِن ماله مع أحد فليأخذه، ولا يجوز له تملُّك
المال الذي ساقه بتأويلِ القرآن.
(11) أخرجه البيهقي بإسناد صحيح، انظر "المصدر السابق".
(7/280)
وليس مِن البغي إظهارُ كونِ الإمام سلَك في
اجتهاده في مسألة، أو مسائل؛ طريقَ مخالفةٍ لا يقتضيه الدليل؛ فإنّه ما زال
المجتهدون هكذا، ولكنه ينبغي لمن ظهَر له غلط الإمام أن يُناصحه، ولا يُظهر
الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد؛ بل كما ورَد في الحديث: "أنّه يأخذ بيده،
ويخلو به، ويَبذُل له النصيحة، ولا يُذِلّ سلطان الله (1) " (2).
ولا يجوز الخروج على الأئمّة -وإن بلَغُوا في الظلم أيَّ مبلغ- ما أقاموا
الصلاة، ولم يَظهر منهم الكفر البَوَاح، والأحاديث الواردة بهذا المعنى
متواترة، ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله، ويعصيَه في معصية
الله؛ فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق (3).
__________
(1) وقد ثبت في السنّة التعبير بسلطان الله، فعن زياد بن كُسيبٍ العدوي
قال: "كنت مع أبي بكرة تحت منبر ابن عامر وهو يخطُب، وعليه ثياب رِقاق فقال
أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفُسّاق، فقال أبو بكرة: اسكت،
سَمعْتُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن أهان
سلطان الله في الأرض أهانه الله". أخرجه الترمذي، "صحيح سنن الترمذي"
(1812)، وانظر "الصحيحة" (2296).
(2) وفي هامش "التعليقات الرضية" (3/ 504) إشارة إلى كتاب "السُّنَّة"
(1096) لابن أبي عاصم.
قلت: ولا بد مِن ذِكْر هذا الحديث لتحقيق الفائدة، فقد ساق المصنف -رحمه
الله- بإسناده إلى شريح بن عبيد قال: قال عياض بن غُنم لهشام بن حكيم: ألم
تسمع بقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن أراد أن
ينصح لذي سلطان، فلا يُبدِه علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإنْا قَبِل
منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه" وصححه شيخنا -رحمه الله- بمجموع
طُرُقه، وانظر تفصيل تخريجه في الكتاب المذكور.
(3) انظر "الروضة الندية" (3/ 774).
(7/281)
أقسام البغاة وما
جاء في تأويلهم
قال ابن حزم -رحمه الله- في "المحلى" (12/ 497) تحت مسألة (2158) -بتصرف
يسير-:
قال الله- تعالى-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (1).
فكان قتال المسلمين فيما بينهم على وجهين: قتالِ البغاة وقتالِ المحاربين،
فالبغاة قسمان لا ثالث لهما.
إمّا قِسْم خرجوا على تأويلِ في الدين، فأخطئوا فيه؛ كالخوارج وما جرى
مجراهم مِن سائر الأهواء المخالِفة للحقّ.
وإمّا قِسْم أرادوا لأنفسهم دنياً، فخرجوا على إمام حقّ، أو على مَن هو في
السيرة مثلهم، فإن تعدت هذه الطائفة إلى إخافة الطريق، أو إلى أخْذ مال مَن
لقوا أو سفْك الدماء هملاً؛ انتقل حُكمهم إلى حكم المحاربين، وهم ما لم
يفعلوا ذلك في حُكم البغاة.
فالقِسم الأول مِن أهل البغي يُبيََّن حُكمهم [ثمّ ساق بإسناده إلى أمّ
سَلَمة - رضي الله عنها-]: أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال في عمار "تقتلك الفئة الباغية" (2) قال أبو
__________
(1) الحجرات: 9.
(2) أخرجه البخاري: (447)، (2812)، بلفظ: "ويح عمّار تقتله الفئة الباغية"،
ومسلم (2916): "تقتلك الفئة الباغية".
(7/282)
محمّد -رحمه الله-: وإنما قَتَل عمّاراً
-رضي الله عنه- أصحابُ معاوية -رضي الله عنه- وكانوا متأولين تأويلهم فيه،
وإنْ أخطئوا الحقَّ مأجورون أجراً واحداً لقصْدِهم الخير.
ويكون مِن المتأولين قومٌ لا يُعذَرون ولا أجر لهم؛ كما روينا من طريق
البخاري [ثم ساق بإسناده إلى عليّ -رضي الله عنه- أنّه قال]: سمعْتُ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "سيخرُج قومٌ في آخر
الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام (1) يقولون من قول خير البرية (2)، لا
يُجاوزُ إيمانُهم حناجرَهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة
(3)، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قَتَلهم يوم
القيامة" (4) وروينا من طريق مسلم [ثم ساق بإسناده إلى] أبي سعيد الخدري
-رضي الله عنه- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكَر
قوماً يكونون في أمّته يخرجون في فِرقةٍ من النّاس سيماهم (5) التحالق هم
شرّ الخلق -أو من شرّ الخلق-، تَقْتُلهم أدنى الطائفتين إلى الحق" (6).
وذكَر الحديث.
قال أبو محمّد -رحمه الله-: "ففي هذا الحديث نصٌّ جليٌّ بما قلنا وهو أنّ
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر هؤلاء القوم؛ فذمّهم
أشدَّ الذم وأنهم مِن شر الخلق، وأنهم يخرجون
__________
(1) أحداث الأسنان سفهاء الأحلام: معناه صغار الأسنان، صغار العقول، "شرح
النّووي".
(2) معناه في ظاهر الأمر؛ بقولهم: لا حُكم إلاَّ لله، ونظائره من دعائهم
إلى كتاب الله -تعالى- والله أعلم، "شرح النّووي".
(3) الرَّمِيَّة: الصيد الذي ترميه؛ فتقصده، وينفُذُ فيه سهمك، "النّهاية".
(4) أخرجه البخاري: 3611، ومسلم: 1066 وهذا لفظه.
(5) السيما: العلامة.
(6) أخرجه مسلم: 1065.
(7/283)
في فرقة مِن النّاس، فصحّ أنّ أولئك أيضاً
مفترقون، وأنّ الطائفة المذمومة تقتلها أدنى الطائفتَين المفترِقَتَين إلى
الحقّ، فجعَل -عليه السلام- في الافتراق تفاضلاً، وجعَل إحدى الطائفتين
المفترقتين لها دنواً من الحقِّ -وإنْ كانت الأخرى أولى به- ولم يجعل
للثالثة شيئاً من الدنو إلى الحقّ.
فصحّ أنّ التأويل يختلف، فأيّ طائفةٍ تأوَّلَت في بُغيتها طمساً لشيء من
السّنة كمن قام برأي الخوارج ليُخرِجَ الأمر عن قريش، أو ليُردَّ النّاس
إلى القول بإبطال الرجم، أو تكفيرِ أهل الذنوب، أو استقراضِ المسلمين، أو
قتلِ الأطفال والنساء وإظهار القول بإبطال القدر، أو إبطال الرؤية، أو إلى
أن الله تعالى لا يعلم شيئاً إلاّ حتى يكون، أو إلى البراءة عن بعض الصحابة
أو إبطال الشفاعة، أو إلى إبطال العمل بالسنن الثابتة عن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودعا إلى الردّ إلى مَن دون رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَو إلى المنع مِن الزكاة، أو
مِن أداء حقّ مِن مسلم أو حقٍّ لله -تعالى- فهؤلاء لا يُعذَرون بالتأويل
الفاسد؛ لأنها جهالةٌ تامةٌ.
وأمّا مَن دعا إلى تأويل لا يُحِلّ به سُنّة، لكن مِثل تأويل معاوية في أن
يقتص مِن قَتَلَة عثمان قبل البيعة لعليّ، فهذا يُعذَر؛ لأنه ليس فيه إحالة
شيء مِن الدِّين، وإنّما هو خطأ خاصٌّ في قصّة بعينها لا تتعدّى.
ومَن قام لعرض دنيا فقط؛ كما فَعَل يزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وعبد
الملك بن مروان في القيام على ابن الزبير، وكما فعَل مروان بن محمّد في
القيام على يزيد بن الوليد، وكمن قام أيضاً على مروان، فهؤلاء لا يُعذَرون
لأنهم لا تأويل لهم أصلاً وهو بغي مجرد.
وأما مَن دعا إلى أمر بمعروف أو نهي عن منكر وإظهار القرآن والسنن
(7/284)
والحُكم بالعدل؛ فليس باغياً بل الباغي مَن
خالفَه وبالله -تعالى- التوفيق".
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (35/ 75):
"وكلُّ مَن كان باغياً، أو ظالماً، أو معتدياً، أو مرتكباً ما هو ذنب؛ فهو
قسمان: متأوِّل، وغير متأول.
فالمتأوّل المجتهد؛ كأهلِ العِلم والدّين؛ الذين اجتهدوا، واعتقد بعضُهم
حِلَّ أمور، واعتقَد الآخر تحريمَها، كما استحلّ بعضُهم بعضَ أنواعِ
الأشربة، وبعضُهم بعضَ المعاملات الربوية، وبعضُهم بعضَ عقودِ التحليل
والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثالُه مِن خِيار السلف، فهؤلاء
المتأوِّلون المجتهدون غايتهم أنَّهم مخُطئون، وقد قال الله -تعالى-:
{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (1)، وقد ثبت
في "الصحيح" أن الله استجابَ هذا الدعاء.
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- أيضاً (35/ 76):
"أمّا إذا كان الباغي مجتهداً متأولاً، ولم يتبين له أنّه باغ، بل اعتقَد
أنّه على الحقّ وإنْ كان مخطئاً في اعتقاده: لم تكن تسميته باغياً موجبةً
لإثمه -فضلاً عن أن توجب فِسْقه- والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين؛
يقولون مع الأمر بقتالهم: قتالنا لهم لدفع ضررِ بغيهم؛ لا عقوبةً لهم؛ بل
للمنع مِن العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة؛ لا يَفْسُقون،
ويقولون: هم كغير المكلَّف، كما يُمنَع الصبي والمجنون والناسي والمغمى
عليه والنائم من العدوان؛ أن لا يَصْدُر منهم، بل تمُنْع البهائم من
العدوان.
__________
(1) البقرة: 286.
(7/285)
ويجب على مَن قتل مؤمنا خطأً الدية بنصّ
القرآن؛ مع أنّه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا مَن رُفع إلى الإمام مِن أهل
الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحدّ، والتائب من الذنب كمن لا
ذنب له، والباغي المتأول يُجلَد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة".
وجاء في "مجموع الفتاوى" (28/ 545): "وقد اتفقَ علماءُ المسلمين؛ على أنّ
الطائفةَ الممتنعةَ إذا امتنعَت عن بعض واجبات الإسلام الظاهرة المتواترة؛
فإنه يَجِب قتالها؛ إذا تكلَّموا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلاة والزكاة،
أو صيامِ شهر رمضان أو حجّ البيت العتيق، أو عن الحُكم بينهم بالكتاب
والسنّة، أو عن تحريم الفواحش، أو الخمرِ، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن
استحلالِ النفوس والأموال بغير حقّ، أو الربا، أو الميمسر، أو الجهاد
للكُفّار، أو عن ضربِهم الجزيةَ على أهل الكتاب، ونحو ذلك من شرائع
الإسلام، فإنهم يُقاتَلون عليها حتى يكون الدينُ كلُّه لله.
ثمّ ذكر قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "والله لو منعوني عَناقاً" ثمّ قوله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يحقر أحدكم صلاته ... " ثمّ قال:
"وقد اتفق السلف والأئمة على قتال هؤلاء".
وفيه أيضاً (ص 556): "وسُئل الشيخ: عن قومٍ ذوي شوكة مقيمين بأرض، وهم لا
يُصلُّون الصلوات المكتوبات، وليس عندهم مسجد، ولا أذان، ولا إقامة، وإنْ
صلّى أحدهم صلّى الصلاة غير المشروعة. ولا يؤدّون الزكاة مع كثرةِ أموالهم
مِن المواشي والزروع. وهم يَقْتَتِلون فيَقْتُل بعضُهم بعضاً، ويَنْهَبون
مالَ بعضِهم بعضاً، ويَقْتُلون الأطفال، وقد لا يمتنعون عن سَفْك الدماء
وأخْذِ الأموال، لا في شهر رمضان ولا في الأشهر الحُرُم ولا غيرِها، وإذا
أَسَرَ بعضهم
(7/286)
بعضاً باعوا أسراهم للإفرنج. ويبيعون
رقيقهم مِن الذكور والإناث للإفرنج عَلانية، ويسوقونهم كسوق الدوابّ.
ويتزوجون المرأة في عِدَّتها. ولا يُوَرّثون النساء. ولا ينقادون لحاكِم
المسلمين. وإذا دُعِي أحدهم إلى الشرع قال: أنا الشرع. إلى غير ذلك. فهل
يجوز قتالهُم والحالة هذه؟ وكيف الطريق إلى دخولهم في الإسلام مع ما ذُكِر؟
فأجاب:
نعم يجوز؛ بل يَجب بإجماع المسلمين قتالُ هؤلاء وأمثالهِم؛ من كلّ طائفة
ممتنعَةٍ عن شريعةِ مِن شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة؛ مِثْل الطائفة
الممتنعة عن الصلوات الخمس، أو عن أداء الزكاة المفروضة إلى الأصناف
الثمانية التي سماها الله تعالى في كتابه، أو عن صيام شهر رمضان، أو الذين
لا يمتنعون عن سَفْك دماءِ المسلمين وأخْذ أموالهم، أو لا يتحاكمون بينهم
بالشرع الذي بَعَث الله به رسولَه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
كما قال أبو بكر الصديق وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- في مانعي الزكاة،
وكما قاتل عليُّ بن أبي طالب وأصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الخوارج، الذين قال فيهم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع
قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق
السهم من الرميَّة، أينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجراً عند الله
لمن قَتَلَهم يوم القيامة". وذلك بقوله -تعالى-: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى
لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} (1). وبقوله
-تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ
__________
(1) الأنفال: 39.
(7/287)
الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
(1). والربا آخر ما حرَّمه الله ورسوله، فكيف بما هو أعظم تحريماً.
ويُدْعَون قبل القتال إلى التزام شرائع الإسلام فإنِ التزموها استُوثِق
منهم، ولم يُكْتَفَ منهم بمجرّد الكلام ... ".
هل البغاة والخوارج لفظان مترادفان أم لا؟
جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 53): "وسُئل -رحمه الله- عن البغاة والخوارج:
هل هي ألفاظ مترادفة بمعنى واحد؟ أم بينهما فَرْق؟ وهل فرَّقَت الشريعة
بينهما في الأحكام الجارية عليهما أم لا؟ وإذا ادّعى مُدّعٍ أنّ الأئمّة
اجتمعَت على أن لا فرق بينهم إلاّ في الاسم؛ وخالفَه مخُالِف مستدلاً بأنّ
أمير المؤمنين علياً -رضي الله عنه- فرَّق بين أهل الشام وأهل النهروان:
فهل الحقّ مع المدّعي؟ أو مع مخالفه؟
فأجاب: الحمد لله، أمّا قول القائل: إنّ الأئمّة اجتمعَت على أن لا فرْقَ
بينهما إلاَّ في الاسم، فدعوى باطلة، ومدعيها مجُازِف فإنَّ نفيَ الفرق؛
إنما هو قول طائفة مِن أهل العلم مِن أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد
وغيرهم؛ مثل كثير من المصنّفين في قتال أهل البغي؛ فإنهم قد يجعلون قتالَ
أبي بكر لمانعي الزكاة، وقتالَ عليٍّ الخوارجَ وقتالَه لأهل الجمل وصِفّين
إلى غير ذلك من قتال المنتسبين إلى الإسلام؛ مِن باب قتال أهل البغي".
وقال -رحمه الله- أيضاً (ص 56): "وأيضاً؛ فالنبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمَر بقتال الخوارج
__________
(1) البقرة: 278 - 279.
(7/288)
قبل أن يُقاتلِوا.
وأمّا أهل البغي فإنّ الله -تعالى- قال فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ
إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فلم يأمر بقتال
الباغية ابتداءً، فالاقتتال ابتداءً ليس مأموراً به؛ ولكن إذا اقتتلوا أمرَ
بالإصلاح بينهم؛ ثم إنْ بغَت الواحدة قوتلت؛ ولهذا قال مَن قال مِن
الفقهاء: إنّ البغاة لا يُبتدَءون بقتالهم حتى يُقاتلوا، وأمّا الخوارج فقد
قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيهم: "أينما لقيتموهم
فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة" (1)، وقال:
"لئن أدركتُهم لأقتلنّهم قَتْل عاد" (2).
وكذلك مانعو الزكاة؛ فإنّ الصّدِيق والصحابة ابتدءوا قتالهم، قال الصّديق
-رضي الله عنه-: "والله لو منعوني عَناقاً (3) كانوا يؤدونها إلى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتَلْتُهم عليه" (4).
__________
(1) تقدّم.
(2) أخرجه البخاري: 3444، ومسلم: 1064.
(3) العَناق: هي الأُنثى مِن أولاد المعز؛ ما لم يتمّ له سنة، "النّهاية".
(4) أخرجه البخاري: 1400، ومسلم: 20، بلفظ "لو منعوني عقالاً ... " وقال
الإمام النّووي -رحمه الله- بحذف: "هَكَذَا فِي مُسْلِم عِقَالاً، وَكَذَا
فِي بَعْض رِوَايَات الْبُخَارِي، وَفِي بَعْضهَا عَنَاقاً -بِفَتْحِ
العَيْن وَبِالنُّونِ- وَهِيَ الأُنثَى مِنْ وَلَد المعْز، وَكِلاَهُمَا
صَحِيح، وَهُوَ مَحْمُول عَلَى أنَّهُ كَرَّرَ الْكَلَام مَرَّتَيْنِ،
فَقَالَ فِي مَرَّة: عِقَالاً وَفِي الْأُخْرَى: عَنَاقاً فَرُوِيَ عَنْهُ
اللَّفْظَانِ. فأمَّا رِوَايَة الْعَنَاق فَهِيَ مَحْمُولَة عَلَى مَا
إِذَا كَانَتْ الْغَنَم صِغَاراً كُلّهَا؛ بِأنْ مَاتَت أماتها فِي بَعْض
الحَوْل، فَإِذَا حَال حَوْل الْأُمَّات؛ زَكَّى السِّخَال بِحَوْلِ
الْأُمَّات =
(7/289)
وهم يقاتَلون إذا امتنعوا مِن أداء
الواجبات وإنْ أقرّوا بالوجوب.
ثمّ تنازع الفقهاء في كُفر مَن مَنَعهما وقاتَل الإمام عليها مع إقراره
بالوجوب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، كالروايتين عنه في تكفير
الخوارج.
وأمّا أهل البغي المجرد فلا يُكفَّرون باتفاق أئمّة الدين؛ فإنّ القرآن قد
نصَّ على إيمانهم وأخوتهم مع وجود الاقتتال والبغي. والله أعلم".
إذا بغت طائفة ولم تَقْبَل الصلح كانت بمنزلة الصائل
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- (ص 35/ 78): "ولكن إذا اقتَتَلت طائفتان مِن
المؤمنين؛ فالواجب الإصلاح بينهما؛ وإن لم تكن واحدة منهما مأمورةً
بالقتال، فإذا بغَت الواحدة بعد ذلك قوتلت؛ لأنها لم تترك القتال ولم تُجِب
إلى الصلح؛ فلم يندفع شرّها إلاَّ بالقتال، فصار قتالها بمنزلة قتال الصائل
الذي لا يندفع ظُلْمُه عن غيره إلاَّ بالقتال، كما قال النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتِل
دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتِل دون دينه فهو شهيد ... " (1)،
__________
= سَوَاء بَقِيَ مِنْ الْأُمَّات شَيء أمْ لَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيح
المشهُور ... وَأمَّا رِوَايَة عِقَالاً، فَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء
قَدِيماً وَحَدِيثاً فِيهَا؛ فَذَهَبَ جَمَاعَة مِنْهُمْ إِلَى أنَّ
المرَاد بِالْعِقَالِ؛ زَكَاة عَام ... وَذَهَبَ كَثِيرُونَ مِنْ
المحَقَّقِينَ إِلَى أنَّ المرَاد بِالْعِقَالِ؛ الحَبْل الَّذِي يُعْقَل
بِهِ الْبَعِير ... ".
وقال في النّهاية: "أراد بالعقال: الحبل الذي يُعقل به البعير الذي يُؤخذ
في الصدقة؛ لأنّ على صاحبها التسليم ... "، ثم ذكر أقوالاً أخرى.
(1) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3993)، والنسائي "صحيح سنن
النسائي" (3817)، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1148)، وغيرهم، انظر أحكام
الجنائز (ص 57)، والشطر الأوّل أخرجه البخاري 2840، ومسلم: 141.
(7/290)
قالوا: فبتقدير أنّ جميع العسكر بغاة، فلم
نُؤمَر بقتالهم ابتداءً؛ بل أُمِرنا بالإصلاح بينهم".
العدل بين الطائفتين وما يترتّب على ذلك مِن ضمان وقِصاص وحَمالة (1).
جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 79): "وسُئل -رحمه الله- عن الفتن التي تقع
مِن أهل البرّ وأمثالها؛ فيقْتُل بعضهم بعضاً ويستبيح بعضُهم حرمة بعض، فما
حُكم الله -تعالى- فيهم؟
فأجاب:
الحمد لله، هذه الفِتن وأمثالها مِن أعظم المحرَّمات، وأكبر المنكرات، قال
الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ
تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ
مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ
إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ
الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ
وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ
أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ
تَكْفُرُونَ} (2).
__________
(1) الحَمالة -بالفتح- ما يتحمّله الإنسان عن غيره مِن دَيّة أو غرامة، مثل
أن تقع حَربٌ بين فريقين تسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمّل ديات
القتلى ليُصلِح ذات البين، والتَحمُّل: أن يحملها عنهم على نفسه
"النّهاية".
(2) آل عمران: 102 - 106.
(7/291)
وهؤلاء الذين تفرَّقوا واختلفوا حتى صار
عنهم مِن الكُفر ما صار، وقد قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "لا ترجعوا بعدي كُفّاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض" (1) فهذا مِن
الكُفر؛ وإنْ كان المسلم لا يُكفَّر بالذنب، قال -تعالى-: {وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
فهذا حُكم الله بين المقتتلين من المؤمنين: أخبر أنهم إخوة، وأمر أوّلاً
بالإصلاح بينهم إذا اقتتلوا {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}
ولم يَقْبَلوا الإصلاح {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى
أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}
فأمَر بالإصلاح بينهم بالعدل بعد أن {تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} أي
ترجعَ إلى أمر الله، فمَن رجَع إلى أمر الله؛ وجَب أن يُعدَل بينه وبين
خصمه، ويُقسَط بينهما، فَقَبْل أن نُقاتِل الطائفة الباغية وبعد اقتتالهما؛
أُمِرنا بالإصلاح بينهما مطلقا؛ لأنه لم تُقهَر إحدى الطائفتين بقتال.
وإذا كان كذلك؛ فالواجب أن يُسعى بين هاتين الطائفتين بالصلح الذي أَمَر
الله به ورسوله، ويقال لهذه: ما تَنْقِم من هذه؟ ولهذه: ما تَنْقِم من هذه؟
فإنْ ثبَت على إحدى الطائفتين أنها اعتدت على الأخرى: بإتلاف شيءٍ من
الأنفس، والأموال؛ كان عليها ضمان ما أتلفته، وإنْ كان هؤلاء أتلفوا لهؤلاء
وهؤلاء أتلفوا لهؤلاء تقاصّوا بينهم، كما قال الله -تعالى-: {كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى}.
__________
(1) أخرجه البخاري: 7077، ومسلم: 66.
(7/292)
وقد ذكَرَت طائفة من السلف أنها نَزَلت في
مِثل ذلك في طائفتين اقتتلتا فأمَرَهم الله بالمقاصة، قال: {فَمَنْ عُفِيَ
لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} والعفو الفضل، فإذا فَضُل لواحدة مِن الطائفتين
شيء على الأخرى {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} والذي عليه الحقّ يؤديه
بإحسان.
وإن تعذَّر أنْ تضمن واحدة للأخرى؛ فيجوز أن يتحمَّل الرجل حَمَالةً يؤديها
لصلاح ذات البين، وله أن يأخذها بعد ذلك مِن زكاة المسلمين، ويسأل الناس في
إعانته في هذه الحالة وإنْ كان غنياً، قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقبيصة بن مخارق الهلالي: "يا قبيصةُ إنّ المسألة لا
تحلُّ إلاَّ لأحد ثلاثة: رجلٍ تحمَّل حَمالة، فحَلّت له المسألة؛ حتى
يصيبها ثم يُمسك، ورجل أصابته جائحة (1) اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى
يصيب قِواماً (2) من عيش (أو قال سِداداً (2) من عيشٍ) ورجل أصابته فاقة؛
حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا (3) من قومه: لقد أصابت فلاناً فاقةٌ؛ فحلَّت
له المسألة حتى يصيب قِواماً من عيش (أو قال سِداداً من عيشٍ) " (4).
__________
(1) الجائحة: هي الآفة التي تُهلك الثمار والأموال وتستأصلها، "النّهاية".
(2) القِوام والسِّداد -بكسر القاف والسين- وهما بمعنى واحد، وهو ما يغني
من الشيء، وما تُسدّ به الحاجة، "نووي".
(3) (حَتَى يَقُوم ثَلَاثَة مِنْ ذَوِي الحجَا مِنْ قَوْمه) قال النّووي
-رحمه الله-: "هَكَذَا هُوَ فِي جميع النُّسَخ: يَقُوم ثَلَاثَة، وَهُوَ
صَحِيح. أي يَقُومُونَ بِهَذَا الأمْر فَيقُولُونَ: لَقَدْ أصَابَتْهُ
فَاقَة. والحجا، مقصور، وَهُوَ العَقل، وَإِنمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مِنْ قَوْمه لِأَنهُمْ مِنْ أهل الخبرَة
بِبَاطِنِهِ، وَالمال مما يَخْفَى فِي العَادَة، فَلَا يَعْلَمهُ إلاَّ
مَنْ كَانَ خَبيراً بِصَاحِبِهِ، وَإنَّمَا شَرَطَ الحجَا تَنْبِيهاً عَلَى
أنَّهُ يُشتَرَط فِي الشَّاهِد التَّيَقُّظ؛ فَلَا تُقْبَل مِنْ
مُغَفَّلٍ".
(4) أخرجه مسلم: 1044، ولقد أحببت أن أذكره بلفظ مسلم، وكان شيخ الاسلام
-رحمه الله- قد ذكره بتقديم مفرداتها وتأخيرها.
(7/293)
والواجب على كل مسلم قادر أن يسعى في
الإصلاح بينهم ويأمرهم بما أمر الله به مهما أمكن".
ثواب صبر مَنْ يظُنّ أنّه مظلوم مبغيٌّ عليه
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- (35/ 82): "ومَن كان مِن الطائفتين يظنّ أنّه
مظلوم مَبْغيٌّ عليه فإذا صبَر وعفا أعزَّه الله ونصرَه؛ كما ثبت في الصحيح
عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "ما زاد الله
عبداً بعفوٍ إلاَّ عِزّاً، وما تواضَع أحدٌ لله إلاَّ رفعَه الله؛ ولا
نقَصَت صدقة مِن مال" (1).
وقال -تعالى-: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقال -تعالى-: {إِنَّمَا السَّبِيلُ
عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ
إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
فالباغي الظالم يَنْتقم الله منه في الدنيا والآخرة؛ فإن البغي مصرعُه، قال
ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ولو بغَى جبلٌ على جبلٍ لجعل الله الباغي منهما
دكاً" (2).
ومن حِكمة الشعر:
قضى الله أنّ البغي يُصرَع أهلُه ... وأنّ على الباغي تدور الدوائر
__________
(1) أخرجه مسلم: 2588.
(2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح
الأدب المفرد" برقم (457).
(7/294)
ويشهد لهذا قوله -تعالى-: {إنَمَا بَغيُكم
على أنفُسِكُم متاعَ الحياة} الآية، وفي الحديث: "ما مِن ذنب أحرى أن
يُعجَّل لصاحبه العقوبةُ في الدنيا مِن البغي، وما حَسَنَة أحرى أن يُعجَّل
لصاحبها الثواب مِن صلة الرحم" (1) فمن كان من إحدى الطائفتين باغياً
ظالماً فليتق الله وليتُب، ومَن كان مظلوماً مبغيّا عليه وصَبر كان له
البشرى مِن الله، قال -تعالى-: {وبشر الصابرين} قال عمرو بن أوس: "هُم
الذين لا يَظْلِمون إذا ظُلِموا، وقد قال -تعالى- للمؤمنين في حقّ عدوّهم:
{وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً} ".
وقال يوسف -عليه السلام- لَمّا فعَل به إخوته ما فَعَلوا، فصبر واتقى حتى
نَصَره الله، ودخلوا عليه وهو في عِزّه {قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ
يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا
إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ}.
فمَن اتقى الله مِن هؤلاء وغيرهم بصِدْق وعدل، ولم يتعدّ حدود الله، وصبَر
على أذى الآخر وظُلْمِه؛ لم يضرَّه كيد الآخر؛ بل ينصرُه الله عليه".
ما يفعله ولاة الأمور مع أقوام لم يصلّوا ولم يصوموا ...
وجاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 89): "وسُئل- رحمه الله- عن أقوامٍ لم
يُصلّوا ولم يصوموا، والذي يصوم لم يُصَلِّ، ومالهُم حرام، ويأخذون أموال
الناس، ويُكرمون الجار والضعيف، ولم يُعرَف لهم مذهب، وهم مسلمون؟
__________
(1) انظر "الصحيحة": (918، 978)، "التعليقات الحِسان": (441).
(7/295)
فأجاب:
الحمد لله، هؤلاء وإنْ كانوا تحت حُكم ولاة الأمور؛ فإنه يَجب أن يأمروهم
بإقامة الصلاة، ويعاقبوا على تركها، وكذلك الصيام، وإنْ أقروا بوجوب
الصلوات الخمس وصيام رمضان والزكاة المفروضة؛ وإلا فمَن لم يُقِرّ بذلك فهو
كافر، وإنْ أقرّوا بوجوب الصلاة وامتنعوا عن إقامتها؛ عوقبوا حتى يقيموها،
ويجب قَتْل كلِّ مَن لم يُصلِّ إذا كان بالغاً عاقلاً عند جماهير العلماء،
كمالك، والشافعي، وأحمد، وكذلك تقام عليهم الحدود، وإنْ كانوا طائفةً
ممتنعةً ذاتَ شوكة؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا أداء الواجبات الظاهرة
والمتواترة؛ كالصلاة، والصيام، والزكاة، وتَرْك المحرمات، كالزنا، والرّبا،
وقطع الطريق، ونحو ذلك. ومن لم يُقرّ بوجوب الصلاة والزكاة؛ فإنه كافر
يستتاب، فإنْ تاب وإلا قُتِل".
لا يجوز لإحدى الطائفتين أن تقول: نأخذ حقّنا بأيدينا
جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 88): "وأما إذا طَلَبت إحدى الطائفتين حُكم
اللهِ ورسولِه، فقالت الأخرى: نحن نأخذ حقنا بأيدينا في هذا الوقت؛ فهذا
مِن أعظمَ الذنوب الموجبة عقوبةَ هذا القاتل الظالم الفاجر، وإذا امتنعوا
عن حُكم الله ورسوله ولهم شوكة؛ وجَب على الأمير قتالهم، وإن لم يكن لهم
شوكة؛ عُرِف مَن امتنع مِن حُكم الله ورسوله، وألزم بالعدل".
مَن قَتَل أحداً بعد إصلاح
جاء في "مجموع الفتاوى" (35/ 88): "وأمّا مَن قتل أحداً مِن بعد الإصطلاح
أو بعد المعاهدة والمعاقدة؛ فهذا يستحِقّ القتل، حتى قالت طائفةٌ مِن
(7/296)
العلماء: إنه يُقتَل حدّاً، ولا يجوز العفو
عنه لأولياء المقتول، وقال الأكثرون: بل قَتْلُه قِصاص، والخيار فيه إلى
أولياء المقتول".
بيان طُرُق الإصلاح المذكور في قوله تعالى: {فأصلِحوا بين أخويكم}
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (35/ 85): "والإصلاح له
طُرُق؛ منها أن تُجمَع أموال الزكوات وغيرها حتى يُدفع في مِثل ذلك فإنّ
الغرم لإصلاح ذات البين؛ يبيح لصاحبه أن يأخذ من الزكاة بقَدْر ما غرم؛ كما
ذكَره الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما، كما قال النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقبيصة بن مخارق -رضي الله عنه-: "إن المسألة
لا تحلُّ إلاَّ لثلاثة: ... " (1).
ومِن طُرُق الصلح أن تعفو إحدى الطائفتين أو كلاهما عن بعض مالها عند
الأخرى من الدماء والأموال {فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب
الظالمين}.
ومِن طُرق الصلح أن يُحكَم بينهما بالعدل، فيُنظَر ما أتلفته كلّ طائفة من
الأخرى؛ من النفوس والأموال؛ فيتقاصّان {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى
بالأنثى}.
وإذا فَضُل لإحداهما على الأخرى شيء؛ {فاتباع بالمعروف وأداء إليه
بأحسانٍ}؛ فإنْ كان يُجهَل عدد القتلى، أو مقدار المال؛ جُعِل المجهول
كالمعدوم.
وإذا ادَّعَت إحداهما على الأخرى بزيادة؛ فإمّا أن تُحلّفها على نفي ذلك،
وإمّا أن تقيم البيِّنة، وإمّا تمتنع عن اليمين، فيقضى بردّ اليمين أو
النكول.
__________
(1) تقدم تخريجه ومعناه غير بعيد.
(7/297)
فإنْ كانت إحدى الطائفتين تبغي بأن تمتنع
عن العدل الواجب، ولا تُجيب إلى أمر الله ورسوله، وتُقاتِل على ذلك، أو
تَطلُب قتالَ الأخرى وإتلافَ النفوس والأموال، كما جرَت عادتهم به؛ فإذا لم
يُقدَر على كفّها إلاَّ بالقتل؛ قوتلت حتى تفيء إلى أمر الله؛ وإنْ أمكَن
أن تُلزَم بالعدل بدون القتال، مِثل أن يُعاقَب بعضُهم، أو يُحبَس؛ أو
يُقتَل مَن وجَب قَتْلُه منهم، ونحو ذلك: عُمِل ذلك، ولا حاجة إلى القتال".
محاورة الخوارج (1) والمتمرّدين على الإمام
لا بُدّ من محاورةِ الخوارج والبغاة، ومراسلتِهم، وإزالةِ شُبَهِهِم، لمنْع
الفتنة، وحقْنِ الدماء، والتوصُّل للحقّ، واجتماع الكلمة.
عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: "قَدِمت عائشةُ -رضي الله عنها-، فبينا
نحن جلوس عندها مرجعَها مِن العراق لياليَ قوتِل عليّ -رضي الله عنه- إذ
قالت: يا عبدَ الله بن شدّاد، هل أنت صادقي عمّا أسألك عنه؟ حدِّثني عن
هؤلاء القوم الذين قَتَلَهم عليّ، قلت: ومالي لا أَصْدُقُك؟ قالت: فحدّثني
عن قصتهم.
قلت: إنّ عليّاً لمّا كاتبَ معاوية وحَكم الحكَمَين؛ خرَج عليه ثمانية آلاف
مِن قُرّاء الناس، فنزلوا أرضاً مِن جانب الكوفة يُقال لها: حروراء، وإنهم
أنكروا عليه،
__________
(1) الخوارج: فرقةٌ خَرَجت لقتال عليّ بن أبي طالب بسبب التحكيم، ومذهبُهم
التبرّؤ من عثمانَ وعليّ -رضي الله عنهما-، والخروج على الإمام، وتكفير
صاحب الكبيرة، وتخليده في النّار، والخوارج فِرَقٌ كثيرة. انظر "معجم ألفاظ
العقيدة" (ص 177).
(7/298)
فقالوا: انسلخْتَ مِن قميصٍ ألبسَكَه اللهُ
وأسماك به، ثمّ انطلقْتَ فحَكمْتَ في دين الله ولا حُكم إلاَّ لله، فلمّا
أنْ بلَغَ عليّاً ما عتبوا عليه وفارقوه، أمَر فأَذّن مُؤذِّن: لا يدخُل
على أمير المؤمنين إلاَّ رجلٌ قد حَمَل القرآن.
فلمّا أن امتَلأَ مِن قُرّاء الناس الدار؛ دعا بمُصحفٍ عظيم فوضَعَه عليٌّ
-رضي الله عنه- بين يديه فطفِق يصكّه بيده، ويقول: أيّها المصحف حدِّث
الناس، فناداه الناس، فقالوا: يا أميرَ المؤمنين، ما تسأله عنه، إنما هو
وَرَقٌ ومِداد، ونحن نتكلّم بما روينا منه فماذا تريد؟
قال: أصحابكم الذين خَرَجوا بيني وبينهم كتاب الله -تعالى-، يقول الله -عزّ
وجلّ- في امرأةٍ ورجل: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله} (1)
فأمّة محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعظمُ حرمةً مِن امرأةٍ
ورجل.
ونقموا عليَّ أنّي كاتبْتُ معاويةَ وكتْبتُ عليَّ بن أبي طالب، وقد جاء
سهيل ابن عمرو ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالحديبية حين صالح قومُه قريشاً، فكتبَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: لا تكتب (بسم
الله الرحمن الرحيم)، قال: فكيف أكتب؟ قال: اكتب باسمك اللهمّ. فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكتبه، ثمّ قال: اكتب: مِن
محمّد رسول الله، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك، فكتب: هذا ما
صالَح عليه محمّدُ بنُ عبدِ الله قريشاً.
يقول الله في كتابه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (2).
__________
(1) النساء: 35.
(2) الأحزاب: 21.
(7/299)
فبعَث إليهم عليّ بن أبي طالب عبد الله بن
عباس، فخرجْت معه حتى إذا توسَّطنا عسْكَرهم، قام ابن الكواء فخطَب الناس
فقال: يا حَمَلَة القرآن إنّ هذا عبدُ الله بن عباس، فمن لم يكن يعرفه،
فأنا أعرفه مِن كتاب الله هذا، مَن نَزَل في قومه: {بل هم قومٌ خصمون (1)}
(2) فرُدوه إلى صاحبه، ولا تواضعوه كتاب الله -عز وجل-، قال: فقام خطباؤُهم
فقالوا: والله لنواضعنَّه كتاب الله، فإذا جاءنا بحقٍّ نعرفه اتبعناه، ولئن
جاءنا بالباطل لنبكتنه بباطله، ولنردنّه إلى صاحبه، فواضَعوه على كتاب الله
ثلاثة أيام.
فرجع منهم أربعة آلاف كلّهم تائب، فأقبل بهم ابن الكواء، حتى أدخَلَهم على
عليّ -رضي الله عنه- فبعثَ عليٌّ إلى بقيّتهم، فقال: قد كان مِن أمرنا
وأمْرِ الناس ما قد رأيتم، قِفوا حيث شئتم حتى تجتمعَ أمّة محمّد - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنزلوا فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن
نقيَكم رماحنا؛ ما لم تقطعوا سبيلاً، وتطلبوا دَماً، فإنكم إنْ فعلتم ذلك
فقد نبذْنا إليكم الحرب على سواء، إنّ الله لا يُحبّ الخائنين.
فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يا ابن شداد فقد قَتَلَهُم؟ فقال: والله ما
بعَث إليهم حتى قطَعُوا السبيل، وسفكُوا الدماء، وقَتلُوا ابن خباب
واستحلّوا أهلَ الذمّة فقالت: آلله؟ قلتُ: آلله الذي لا إله إلاَّ هو لقد
كان.
__________
(1) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما ضَل قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه، إلاَّ أُوتُوا
الجدَل، ثمّ تلا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه
الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}.
أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (2593)، وابن ماجه "صحيح ابن ماجه" (45)،
"السُّنَّة" لابن أبي عاصم (101).
(2) الزخرف: 58.
(7/300)
قالت: فما شيء بلغني عن أهل العراق
يتحدّثون به يقولون: ذو الثدي ذو الثدي، قلت: قد رأيتُه ووقفتُ عليه مع
عليّ -رضي الله عنه- في القتلى فدعا الناس، فقال: هل تعرفون هذا؟ فما أكثر
من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان يصلّي، ورأيته في مسجد بني فلان
يصلّي، فلم يأتوا بثَبْتٍ يعرف إلاَّ ذلك.
قالت: فما قول عليّ حين قام عليه كما يزعم أهل العراق؟ قلت: سمعْتُه يقول:
صدَق الله ورسوله، قالت: فهل سمعت أنت منه قال غير ذلك؟ قلت: اللهم لا،
قالت: أجل؛ صَدَق الله ورسوله، يَرحم الله عليّاً، إنّه مِن كلامه كان لا
يرى شيئاً يعجبه إلاّ قال: صدَق الله ورسوله" (1).
متى يُقاتَل الخوارج والمتمرّدون على الإمام
لا يجوز مبادرة الخوارج والمتمرّدين على الإمام بالقتال، لقولِ عليّ -رضي
الله عنه- في الحرورية: "لا تبدؤوهم بقتال" (2).
ويُقتَل المتمرِّدون على الإمام إذا قطَعوا السبيل، وسفَكوا الدماء،
واستحلّوا الحُرُمات؛ كما في الأثَر المتقدِّم، قال عليٌّ -رضي الله عنه-
للخوارج: "قد كان مِنْ أمرِنا وأمْرِ النّاس ما قد رأيتم قفوا حيث شئتم،
حتى تجتمعَ أمّه محمّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وتنزلوا
فيها حيث شئتم، بيننا وبينكم أن نقيَكم رماحنا؛ ما لم تقطعوا سبيلاً
وتطلبوا دماً، فإنكم إنْ فعلتم ذلك، فقد نبَذْنا إليكم الحرب على سواء، إنّ
الله لا يُحبّ الخائنين.
__________
(1) أخرجه الحاكم، وعنه البيهقي وأحمد، وصححه شيخنا -رحمه الله- في
"الإرواء" (2459).
(2) حسنه شيخنا -رحمه الله في "الإرواء" (2469).
(7/301)
فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يا ابن شداد
فقد قَتَلَهُم؟ فقال: والله ما بعَث إليهم حتى قطَعُوا السبيل، وسفكُوا
الدماء، وقتلوا ابن خباب واستحلُّوا أهل الذمّة فقالت: آلله؟ قلت: آلله
الذي لا إله إلاَّ هو، لقد كان".
فائدة: قال في "منار السبيل" (2/ 352): "وكلُّ مَن ثبَتَت إمامتُه؛ حَرُم
الخروج عليه وقتاله، سواءٌ ثبَتَت بإجماع المسلمين عليه: كإمامة أبي بكر
الصديق -رضي الله عنه-، أو بعهدِ الإمام الذي قبله إليه: كعهد أبي بكر إلى
عمر، -رضي الله عنهما-، أو باجتهاد أهل الحلّ والعقد؛ لأنّ عمرَ جعَل أمْرَ
الإمامة شورى بين ستةٍ من الصحابة، -رضي الله عنهم- فوقع الاتفاق على عثمان
أو بقهره للناس، حتى أذعنوا له، ودعوه إماماً: كعبد الملك بن مروان؛ لمّا
خرجَ علي ابن الزبير فقتَله، واستولى على البلاد وأهلِها حتى بايعوه طوعاً
وكرهاً، ودعوه إماماً، لأنّ في الخروج على مَن ثبتَت إمامته بالقهر شقَّ
عصا المسلمين، وإراقةَ دمائهم، وإذهابَ أموالهم.
قال أحمد في رواية العطار: "ومَن غَلَب عليهم بالسيف حتى صار خليفة،
وسُمِّي أمير المؤمنين؛ فلا يحلّ لأحدٍ يؤمن بالله أن يبيت، ولا يراه
إماماً بَرّاً كان أو فاجراً. وقال في "الغاية ": ويتجه؛ لا يجوز تعدّد
الإمام، وأنه لو تغلَّب كلُّ سلطان على ناحية كزماننا؛ فحُكمه كالإمام".
ما جاء مِن نصوص تبيّن بعض أمارات الخوارج ومثيري الفتن
عن أبي سعيد الخدري قال: "بَعَثَ عليٌّ -رضي الله عنه- وهو باليمن
(7/302)
بِذَهَبةٍ (1) في تُربَتِها (2) إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقَسَمَها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس الحنظلي،
وعُيينة بن بدر الفزاريّ، وعلْقَمَةُ بن عُلاثة العامريّ، ثمّ أحَد بني
كِلاب، وزيد الخير الطائي، ثمّ أحَد بني نبهان.
قال: فغَضِبَت قريش فقالوا: أتعطي صناديد (3) نجد وتَدَعُنا، فقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّي إنّما فعلْتُ ذلك
لأتألّفَهُم، فجاء رجل كثُّ اللحية (4)، مُشرف الوجنتين (5)، غائر العينين
(6)، ناتئ الجبين (7) محلوق الرأس، فقال: اتّق الله يا محمّد، قال: فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فمن يُطِع الله إنْ
عصيتُه! أيأمَنُنِي على أهلِ الأرض ولا تأمَنُوني؟
قال: ثمّ أدبَر الرجل، فاستأذَن رجلٌ من القوم في قَتْله -يرَوْن أنّه خالد
بن الوليد-، فقال: رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ
مِن ضئضئ (8) هذا قوماً؛ يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يَقْتُلون أهل
الإسلام ويَدَعُون أهل الأوثان، يمرُقون من
__________
(1) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هكذا هو في جميع نُسَخِ بلادِنا
-بفتح الذال-، وكذا نقَلَه القاضي عن جميع رواة مسلم عن الجلودي، قال: وفي
رواية ابن ماهان (بذُهَيبَة) على التصغير".
(2) أي: هي مستقِرّة فيها غير مميَّزة عنها.
(3) صناديد نجدٍ أي: ساداتها.
(4) أي: كثيرها.
(5) مُشرف الوجنتين: غليظهما، والوَجْنة: لحم الخدّ.
(6) يعني: داخلتين في الرأس، لاصقتين بقعر الحدقة. "الكرماني".
(7) مُرتفِعُه؛ مِن النّتوء.
(8) أي: الأصل والنسل. "شرح الكرماني".
(7/303)
الإسلام كما يمرُق السهم من الرَّميّة، لئن
أدركتُهم لأقتلنّهم قَتْل عاد" (1).
وفي رواية: قال أبو سعيد -رضي الله عنه-: "بينا نحن عند رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يَقسِم قَسْماً، أتاه ذو الخويصِرة -وهو
رجلٌ من بني تميم- فقال: يا رسول الله اعدِل، قال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ويلك، ومَن يَعدِل إنْ لم أعدِل؟ قد خِبتَُ
وخسرتَُ إنْ لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله
ائذن لي فيه أضرب عنقه.
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دعه فإنّ له أصحاباً
يحقِر أحدُكم صلاتَه مع صلاتهم، وصيامَه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز
تراقيَهم (2)، يمرقون من الإسلام؛ كما يمرُق السهم مِن الرميّة" (3).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "أتى رجل رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجِعْرانَة مُنْصَرَفَه (4) مِن حُنين وفي
ثوب بلالٍ فضّة، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبض
منها يُعطي الناس، فقال: يا محمّد اعدل، قال: ويلك ومَن يَعدِل إذا لم أكن
أعدِل؟ لقد خبتَُ وخسِرْتَُ إن لم أكن أعدل.
فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: دعني يا رسول الله فأقتلَ هذا
__________
(1) أخرجه البخاري: 7432، ومسلم: 1064.
(2) التراقي: جمع تَرْقُوة، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وهما
تَرقُوتان مِن الجانبين. والمعنى: أن قراءتهم لا يرفعها الله، ولا يقبلها،
فكأنها لم تتجاوز حلوقهم "النّهاية".
(3) أخرجه مسلم: (1064 - 148).
(4) أي: حين انصرافه -عليه الصلاة والسلام-.
(7/304)
المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس
أني أَقْتُل أصحابي، إنّ هذا وأصحابَه يقرأون القرآن؛ لا يُجاوِز حناجرهَم،
يمرُقون منه كما يمرق السهم مِن الرّميّة" (1).
وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - ذكَر قوماً يكونون في أمّته، يخرُجون في فرقة مِن الناس،
سيماهم التحالُق (2)، قال: هم شرّ الخلق (أو مِن أشرّ الخلق) (3)، يقتلهم
أدنى الطائفتين إلى الحقّ (4).
قال: فضرَب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم مَثَلاً أو
قال قولاً: الرجل يرمي الرميّة (أو قال الغَرَض) فينظر في النصل فلا يرى
بصيرة (5)، وينظر في النضيّ (6) فلا يرى بصيرة، وينظر في الفُوق (7) فلا
يرى بصيرة، قال: قال: أبو سعيد وأنتم قتلتموهم يا أهل
__________
(1) أخرجه البخاري: 3138، ومسلم: 1063.
(2) أي: حلْق الرؤوس، والسيما: العلامة.
(3) تأوَّله الجمهور بمعنى أشرّ المسلمين ونحوه. وانظر "شرح النّووي".
(4) قال النّووي -رحمه الله- (7/ 167): "وفي رواية: أولى الطائفتين بالحقّ،
وفي رواية: تكون أمّتي فرقتين، فتخرج مِن بينهما مارقة، تلي قَتْلهم؛
أولاهما بالحق، هذه الروايات صريحة في أنّ علياًّ -رضي الله عنه- كان هو
المصيب المُحِقّ، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية -رضي الله عنه- كانوا بغاة
متأوّلين، وفيه التصريح بأنّ الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن
الإيمان ولا يفسقون، وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا".
(5) هي الشيء من الدم، أي: لا يَرى شيئاً من الدم يستدلّ به على إصابة
الرميّة. "شرح النّووي".
(6) هو القدح.
(7) موضع الوتر من السهم، وهذا تعليقٌ بالمُحال، فإنّ ارتدادَ السهم على
الفوق محُال، فرجوعهم إلى الدين أيضاً محُال. "عون المعبود".
(7/305)
العراق" (1).
وفي رواية من حديث أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك -رضي الله عنهما- عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "سيكون في أمّتي اختلافٌ
وفُرقة، قومٌ يُحسنون القِيلَ ويسيئون الفِعل، يقرأون القرآن لا يجاوز
تراقيَهم، يَمرقون مِن الدين مروق السهم مِن الرميّة، لا يرجعون حتى يرتد
على فُوقِه، هم شرُّ الخلق والخليقة، طوبى لمن قَتَلَهم وَقَتلوه، يَدْعون
إلى كتاب الله، وليسوا منه في شيء، مَن قاتَلَهم كان أولى بالله منهم،
قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال: التّحليق" (2).
وعن سويد بن غَفَلَة قال: قال عليّ -رضي الله عنه-: "إذا حدَّثتُكم عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلأَنْ أخِرَّ مِن السماء
أحبُّ إليَّ مِن أن أقول عليه ما لم يَقُل، وإذا حدَّثتُكم فيما بيني
وبينكم فإن الحرب خَدْعة، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يقول: سيخرج في آخر الزمان قومٌ أحداثُ الأسنان سفهاءُ الأحلام
(3)، يقولون مِن خير قول البريّة (4)، يقرأون القرآن لا يُجاوز حناجرهم،
يَمرقون مِن الدين كما يَمرُق السهم من الرمية، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم،
فإنّ في قتلهم أجراً لمن قَتَلهم عند الله يوم القيامة" (5).
__________
(1) أخرجه البخاري: 3610، 6163، 6933، ومسلم: 1065.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3987).
(3) صغار الأسنان صغار العقول "شرح النّووي".
(4) أي: في ظاهر الأمر؛ كقولهم: لا حُكم إلاَّ لله، ونظائره من دعائهم إلى
كتاب الله تعالى -والله أعلم-. "شرح النّووي".
(5) أخرجه البخاري: 3611، 5057، 6930. ومسلم: 1066 وتقدّم.
(7/306)
وعن عبيد الله بن- أبي رافع: "أنّ
الحروريّة (1) لمّا خَرَجت وهم مع عليِّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- قالوا:
لا حُكم إلاَّ لله، قال عليّ: كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل، إن رسولَ الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصَفَ ناساً إني لأعرِف صِفَتَهم في
هؤلاء، يقولون الحقّ بألسنتهم، لا يجوز (2) هذا منهم، وأشار إلى حَلْقِه،
مِن أبغض خَلْق الله إليه، منهم أسود، إحدى يديه طُبْيُ (3) شاة، أو حلمة
ثدي، فلمّا قتلَهم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
قال: انظروا، فنظَروا، فلم يجدوا شيئاً، فقال: ارجعوا فوالله ما كَذَبتُ
ولا كُذِّبتُ -مرتين أو ثلاثاً-، ثمّ وجدوه في خَرِبَة، فأتَوا به حتى
وضعوه بين يديه، قال عبيد الله وأنا حاضر ذلك مِن أمرِهم وقولِ عليّ -رضي
الله عنه- فيهم" (4).
عن أبي رزين: "لما وقَع التحكيم، ورجَع عليٌّ من صِفّين رجعوا مبايِنين له،
فلمّا انتهوا إلى النهرِ؛ أقاموا به فدخَل عليُّ في الناس الكوفة، ونزلوا
بحروراء، فبعث إليهم عبدَ الله بن عباس، فرجَع ولم يصنع شيئاً، فخرَج إليهم
عليٌّ فكلَّمَهم، حتى وقع الرضا بينه وبينهم، فدخلوا الكوفة، فأتاه رجُل
فقال: إنّ الناس قد
__________
(1) الحرورية: فِرْقةٌ مِن فِرَق الخوارج، وهي نسبة إلى حروراء، وهي بقرب
الكوفة، كان أوّل اجتماع الخوارج بها، قال الهروي: تعاقدوا في هذه القرية
فنُسِبوا إليها. وانظر "شرح النّووي" (4/ 27). وجاء في الفتح (1/ 422):
"ويُقال لمن يَعْتقِد مذهب الخوارج (حروريّ) لأن أولَ فرقةٍ منهم؛ خرجوا
على عليّ -رضي الله عنه- بالبلدة المذكورة، فاشتهروا بالنسبة إليها وهم
فِرَقٌ كثيرة".
(2) لا يجوز: مِن المجاوزة.
(3) الطُّبي: حَلَمةُ الضّرع التي فيها اللبن والتي يرضع منها الرضيع.
(4) أخرجه مسلم: 1066.
(7/307)
تحدثوا أنّك رجحْتَ لهم عن كُفرك، فخطَب
الناسَ في صلاة الظهر فذكَر أمْرَهم فعابه، فوثبوا من نواحي المسجد يقولون:
لا حُكم إلاّ لله، واستقبله رجل منهم واضع أصبعيه في أذنيه فقال: {وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (1) فقال عليّ:
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ
لَا يُوقِنُونَ} (2) " (3).
ومِن أجل فهم مُراد عليٍّ -رضي الله عنه- لا بُد من معرِفة سياق الآية، قال
الله -تعالى-: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ
كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (4).
يعني: مِن شأن الكافرين إذا رأوا الآيات البيّنات والمُعجِزات الباهرات، أن
يحكُموا ببطلان مَن جاء بها؛ لأنّه قد طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهونها،
فأمرَ الله -تعالى- نبيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالصبر
على مخالفتهم وعنادهم وأذاهم، فالعاقبة له ولمن اتبعَه في الدارَيْن.
وأمَرَه -سبحانه- ألاّ يستخفنّ حِلْمه ورأيه (5) أولئك المشركين الذين لا
__________
(1) الزمر: 65.
(2) الروم: 60.
(3) أخرجه ابن جرير في "تاريخه"، وصححه شيخنا -رحمه الله- في "الإرواء"
(2468).
(4) الروم: 58 - 60.
(5) انظر تفسير الإمام الطبري -رحمه الله- لقوله -تعالى-: {وَلَا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}.
(7/308)
يوقنون بالمعَاد، ولا يؤمنون بالبعث بعد
الممات، بل عليه بالثبات على الحقّ، وعدم العدول عنه.
فذِكر ذلك الخارجي الآية: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} هو
حُكمٌ على عليّ -رضي الله عنه- بأنه مُبطل، كما هو شأن الكفّار في اتهام
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولمّا أمَرَ الله -تعالى-
نبيه بالصبر وأنّ وعده -سبحانه- حقّ، فإنّ علياً أراد أن يقول لهذا
الخارجي: إنّ الله -تعالى- يأمرني أن أصبر على مخالفتك وعنادك وأذاك، وهو
ناصري ومُعيني، وهو -سبحانه- يأمرني بالصبر والثبات؛ على ما أنا عليه مِن
الحقّ، وعدم العدول عنه.
السمع والطاعة للإمام ما لم يَأْمُر بمعصية وما جاء في عدم منازعة الأمر
أهله
قال الله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا} (1).
جاء في تفسير ابن كثير -رحمه الله-: "قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس:
{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: أهلَ الفقه والدين، وكذا قال مجاهد،
وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني:
العلماء.
والظاهر -والله أعلم- أنّ الآية عامّة في جميع أولي الأمر مِن الأمراء
والعلماء، -كما تقدّم-، وقد قال تعالى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ
الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ
__________
(1) النساء: 59.
(7/309)
وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ} (1)، وقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2).
وفي الحديث الصحيح المتفق عليه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّه قال: "مَن أطاعني فقد أطاع
الله، ومَن عصاني فقد عصى الله، ومَن أطاع أميري فقد أطاعني، ومَن عصى
أميري فقد عصاني" (3).
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال -تعالى-: {أطِيعُوا الله}
أي: اتبعوا كتابه {وَأَطِيعُوا اَلرسولَ} أي: خذوا بسنَّته {وأولي الأمر
منكم} أي: فيما أمروكم به من طاعة الله، لا في معصية الله؛ فإنّه لا طاعة
لمخلوق في معصية الله، كما تقدم في الحديث الصحيح: "إنما الطاعة في
المعروف" (4).
وعن عمرانَ بن حصين، عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"لا طاعة في معصية الله" (5).
وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} قال مجاهد وغيرُ واحدٍ مِن السلف: أي: إلى كتاب الله وسُنّة
رسوله.
وهذا أمْرٌ من الله -عزّ وجلّ-، بأنّ كلَّ شيء تنازَع الناس فيه من أصول
الدين وفروعه، أن يُرَدّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسُّنّة، كما قال
تعالى: {وَمَا
__________
(1) المائدة: 63.
(2) النحل: 43.
(3) أخرجه البخاري: 7137، ومسلم: 1835.
(4) أخرجه البخاري: 4340، 7145، ومسلم: 1840.
(5) أخرجه أحمد والطيالسي، والطبراني في "الكبير" وصححه شيخنا -رحمه الله-
في "الصحيحة" (180).
(7/310)
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (1) فما حَكَم به كتابُ الله وسُنّةُ رسولِه
وشهدا له بالصّحّة فهو الحق، وماذا بعد الحقّ إلاَّ الضلال.
ولهذا قال -تعالى-: {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ} أي:
رُدّوُا الخصومات والجهالاتِ إلى كتاب الله وسُنّة رسوله، فتحاكموا إليهما
فيما شجَر بينكم {إن كنتم تُؤمِنُونَ بِاَللهِ وَاَليومِ الآخِرِ}.
فدلَّ على أنَّ مَن لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتابِ والسنة ولا يرجع
إليهما في ذلك؛ فليس مُؤمِناً بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله: {ذلك خيرٌ} أي: التحاكُم إلى كتاب الله وسُنة رسوله. والرجوع في فصل
النزاع إليهما خير {وَأَحْسَنُ تَأوِيلاً} أي: وأحسنُ عاقبةً ومآلاً؛ كما
قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاءً. وهو قريب".
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -. قال: "السمع والطاعة حقّ؛ ما لم يُؤمَر بمعصية، فإذا أُمِرَ
بمعصية، فلا سمْعَ ولا طاعة" (2).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: من رأى مِن أميره شيئاً يكرهه؛ فليصبِر عليه؛ فإنه مَن
فارق الجماعة شبراً فمات؛ إلاّ مات ميتة جاهلية" (3).
وعن جُنادةَ بن أَبي أميّة قال: "دخَلْنا على عُبادة بنِ الصامت وهو مريض،
قُلنا أصلحَك الله، حدِّث بحديثٍ ينفعك الله به، سمعْتَه من النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: دعانا
__________
(1) الشورى: 10.
(2) أخرجه البخاري: 2955، ومسلم: 1839.
(3) أخرجه البخاري: 7054، ومسلم: 1849.
(7/311)
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فبايعناه، فقال فيما أخذَ علينا؛ أن بايَعَنا على السمع
والطاعة، في مَنْشَطنا (1) ومَكْرَهنا (2) وعُسرنا ويُسرنا، وأثَرَةٍ (3)
علينا، وأن لا نُنازع الأمرَ أهلَه (4) إلاَّ أن تروا كُفراً بَواحاً (5)؛
عندكم من الله فيه بُرهان (6) " (7).
وعن عبد الرحمن بن عبد ربِّ الكعبة، قال: "دخلتُ المسجد، فإذا عبد الله بن
عمرو بن العاص جالسٌ في ظِلِّ الكعبة، والناس مجتمِعون عليه، فأتيتُهم
__________
(1) مَنشطنا: أي في حالة نشاطنا.
(2) مَكرهنا: في الحالة التي نكون فيها عاجزين عن العمل بما نُؤمَر به.
(3) الأثَرَة -بفتح الهمزة والثاء-: الاسمُ من آثَر يُؤثرُ إيثَاراً: إذا
أعْطى، أراد أنَّه يُستأثر عليكم، فيُفضَّل غيرُكم في نَصيبه مِنَ الفَيْء.
والاسْتِئْثَار: الانْفِرَادُ بالشيء. "النّهاية". وقال الحافظ -رحمه
الله-: "والمُراد أنّ طواعيتهم لمن يتولّى عليهم؛ لا تتوقف على إيصالهم
حقوقَهم بل عليهم الطاعة ولو منعهم حقّهم".
(4) وأن لا ننازع الأمر أهله: أي الملك والحكم.
(5) بَواحاً: ظاهراً بيّناً.
(6) عندكم من الله فيه برهان: [قال الحافظ -رحمه الله- في "الفتح" (13/ 8):
"أي: نصُّ آيةٍ أو خبرٌ صحيح لا يَحْتَمل التأويل، ومُقتضاه أنّه لا يجوز
الخروج عليهم ما دام فِعْلهم يَحتمل التأويل، قال النّووي: المراد بالكفر
هنا المعصية، ومعنى الحديث: "لا تُنازِعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا
تَعترِضوا عليهم إلاّ أن تروا منهم مُنكَراً محُقَّقاً تعلمونه مِن قواعد
الإسلام؛ فإذا رأيتم ذلك فأنكِروا عليهم وقولوا بالحقّ حيثما كنتم انتهى.
وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يُعتَرض على السلطان
إلاَّ إذا وَقَع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حَمْلُ روايةِ الكُفر على ما
إذا كانت المنازعة في الولاية؛ فلا ينازِعه بما يقدَح في الولاية إلاَّ إذا
ارتكَب الكُفر، وحَمْل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا
الولاية، فإذا لم يُقدَح في الولاية؛ نازَعه في المعصية بأن يُنكِر عليه
برفقٍ ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عُنف، ومحلّ ذلك إذا كان قادراً،
والله أعلم".]
(7) أخرجه البخاري: 7056، ومسلم: 1709.
(7/312)
فجلسْتُ إليه، فقال: كنّا مع رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفَر فنزلنا منزلاً، فمنّا من
يُصلح خِباءَه ومنا من يَنتضِلُ (1) ومنّا من هو في جَشَرِه (2) إذ نادى
منادي رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصلاةَ جامعةً،
فاجتمعْنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه
لم يكن نبيٌّ قبلي، إلاَّ كان حقّاً عليه أن يدُلّ أمّته على خيرِ ما
يعلمُه لهم، ويُنذرَهم شرَّ ما يعلمه لهم، وإنَّ أمّتكم هذه جُعِل عافيتُها
في أولها، وسيصيب آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنة، فيُرقِّق (3)
بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن هذه مُهلِكتي، ثمّ تنكشف وتجيء
الفتنة، فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحَبَّ أن يُزَحزَحَ عن النار
وَيُدْخَل الجنة؛ فلتأته منيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى
الناس الذي يُحبّ أن يُؤتَى إليه (4)، ومن بايع إماماً فأعطاه صفْقَة يدِه
وثمرةَ قلبه (5) فليطعه إن استطاع، فإنْ جاء آخرُ ينازعه؛ فاضربوا عُنُق
الآخر.
فدنوت منه فقلت له: أنشدك الله آنت سمعْتَ هذا من رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
__________
(1) ينتضِل: هو من المناضلة، وهي المراماة بالنُّشَّاب. "شرح النّووي".
(2) جَشَره- بفتح الجيم والشين-: وهي الدوابُّ التي تَرعى وتَبيت مكانها.
(3) يُرقق -بضم الياء وفتحِ الراء-: قال النّووي -رحمه الله- (12/ 233):
"أي: يصير بعضها رقيقاً، أي: خفيفا لعِظَم ما بعده، فالثاني يجعل الأول
رقيقا، وقيل: معناه يشبه بعضها بعضا، وقيل: يدور بعضُها في بعض، ويذهب
ويجيء، وقيل: معناه يسوق بعضها إلى بعض بتحسينها وتسويئها". انتهى.
قلت: والأوّل أرجح، والله -تعالى- أعلم.
(4) وليأت إلى الناس الذي يحبُّ أن يُؤتى إليه: قال النّووي -رحمه الله-:
"هذا من جوامع كَلِمِه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبديع حكمه،
وهذه قاعدة مهمّة فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم ألا يفعل مع
الناس، إلاَّ ما يُحبّ أن يفعلوه معه".
(5) صفقة يده، وثمرة قلبه: أي خالص عهده. "النّهاية".
(7/313)
فأهوى إلى أذنيه وقلبِه بيديه وقال:
سَمِعَتْه أذناي ووعَاه قلبي.
فقلت له: هذا ابن عَمِّك معاوية يأمُرنا أن نأكلَ أموالَنا بيننا بالباطل،
ونقتُلَ أنفسنا، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ (1) إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} قال: فسكَت ساعة ثمّ قال: أطِعه في طاعة
الله (2)، واعصه في معصية الله" (3).
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "خِيارُ أئمّتكم الذين تحبّونهم ويُحبّونكم، ويُصلّون
عليكم (4)، وتصلّون عليهم، وشرار أئمّتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم،
وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذُهُم بالسيف؟ فقال: لا؛
ما أقاموا فيكم الصلاة (5)، وإذا رأيتم مِن ولاتكم شيئاً تكرهونه، فاكرهوا
عَمَله، ولا تنزِعوا يَداً مِن طاعة" (6).
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 170):
__________
(1) المقصود بهذا الكلام: أنّ هذا القائل لمّا سمِع كلام عبدِ الله بن عمرو
بن العاص، وذكر الحديث في تحريم منازعة الخليفة الأول، وأن الثاني يقتل،
فاعتقد هذا القائل هذا الوصف في معاوية؛ لمنازعته عليّاً -رضي الله عنه-،
وكانت قد سَبَقت بيعةُ عليّ، فرأى هذا أنّ نفقة معاوية على أجناده وأتباعه
في حرب عليِّ ومنازعته ومقاتلته إياه، مِن أكْل المالِ بالباطل، ومِنْ
قَتْلِ النفس؛ لأنه قتالٌ بغيرِ حقّ، فلا يستحقّ أحدٌ مالاً في مقاتلته".
(2) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "هذا فيه دليلٌ لوجوب طاعة المتولّين
للإمامة بالقهر، مِن غير إجماع ولا عهد".
(3) أخرجه مسلم: 1844.
(4) يُصلّون عليكم: أي يَدْعون لكم.
(5) قال النّووي -رحمه الله- (12/ 243): "فيه معنى ما سَبَق أنّه لا يجوز
الخروج على الخلفاء بمجرد الظلم أو الفسق، ما لم يُغيِّروا شيئاً مِن قواعد
الإسلام".
(6) أخرجه مسلم: 1855.
(7/314)
وأولوا الأمر أصحاب الأمر وذووه؛ وهم الذين
يأمُرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهلُ اليد والقدرة وأهلُ العلم والكلام؛
فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛ والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس
وإذا فسدوا فسَد الناس؛ كما قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- للأحمسية
لما سألته: "ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمّتكم"،
ويدخُل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان؛ وكل مَن كان متبوعاً فإنه مِن
أولي الأمر.
وعلى كل واحد من هؤلاء أن يَأْمُر بما أمرَ الله به، وينهى عمّا نهى عنه،
وعلى كل واحدٍ ممن عليه طاعته، أن يطيعه في طاعة الله؛ ولا يطيعه في معصية
الله ... ".
السلام في الإسلام
إنّ حامل هذه الرسالة هو حاملُ راية السلام، لأنه يَحْملُ إلى البشرية
الهدى، والنور، والخير، والرشاد.
وهو يُحدّث عن نفسه، فيقول: "إنما أنا رحمة مهداة" (1).
ويحدث القرآن عن رسالته، فيقول: {وما أرسلناك إلاَّ رحمةً للعالمين} (2).
يقول الله- تعالى-: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ
لَسْتَ مُؤْمِناً} (3).
قال الله -تعالى-: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (4).
__________
(1) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" وانظر "غاية المرام" برقم (1) و"الصحيحة"
(490).
(2) الأنبياء: 107.
(3) النساء: 94.
(4) الأنفال: 61.
(7/315)
أسباب النصر
والتمكين (1)
1 - التوحيد
قال -تعالى-: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا
أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} (2).
ولا يُلقى الرعب في قلوب الكُفّار؛ إلاَّ إذا كان المسلمون موحِّدين حقّاً،
ألا ترى ما كان مِن شأن الأعداء زمن الصحابة -رضي الله عنهم- فإنّه لم يكن
لهم عليهِم مِن سبيل، ولكننا نراهم الآن قد تسلّطوا على المسلمين! فلا بُدّ
من التوحيد، فإنّه حقّ الله على عباده، وهو سعادة الدارين.
وكيف ينصُر الله -تعالى- أُناساً يُؤلهّون الملائكة والأنبياء والأولياء؟!
كيف ينصُر الله أناساً اعتقدوا أنّ الله تفرّد بالخلق، ولم يتفرّد
بالاستجابة؛ إلاّ بواسطة مخلوقاته؛ مِن أحياء وأموات، يرفعون له الدعاء
والاستغاثة والتوسل؟!
قال الله -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي
ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا
يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (3).
__________
(1) وسأذكر هذه الأسباب بإجمال، غير سالك الاستقصاء -وإن كنت أتمنّاه- بما
يتفق مع المنهج الفقهي للكتاب، وهناك نقاط متفرّعة من أسباب رئيسة، قد
أفردتها وأبرزتُها للأهمية.
(2) آل عمران: 151.
(3) النور: 55.
(7/317)
قال ابن كثير -رحمه الله -بحذف-: "هذا
وَعْدٌ مِن الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ بأنه
سيجْعَل أمّته خلفاء الأرض، أي: أئمّة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلُح
البلاد، وتخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنّ بعد خوفهم من الناس أمناً وحُكماً
فيهم، وقد فعَل تبارك -وتعالى- ذلك، وله الحمد والمِنّة، فإنه لم يمت رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى فتَح الله عليه مكّة
وخيبر والبحرين، وسائرَ جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالها، وأخَذ الجزية مِن
مجوس هَجَر، ومِن بعض أطراف الشام، وهاداه هِرَقْل مَلِك الروم وصاحب مصر
والاسكندرية -وهو المقوقس- وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة، الذي تَملَّك
بعد أصْحَمة -رحمه الله وأكرمه-.
ثمّ لمّا مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واختار الله
له ما عنده مِن الكرامة، قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله
عنه-، فلمَّ شَعْث ما وَهَى عند موته - عليه الصلاة والسلام- وأطَّدَ جزيرة
العرب ومهَّدها، وبعَث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد
-رضي الله عنه-، ففتحوا طَرَفاً منها، وقتلوا خلقاً مِن أهلها، وجيشاً آخر
صحبة أبي عبيدة -رضي الله عنه-، ومَن معه مِن الأمراء إلى أرض الشام،
وثالثاً صحبة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- إلى بلاد مصر، ففتَح الله للجيش
الشاميّ في أيامه بُصرى ودمشق ومَخَاليفهما من بلاد حوران، وما والاها،
وتوفاه الله -عز وجلّ-، واختار له ما عنده مِن الكرامة.
ومَنّ على الإسلام وأهله؛ بأن أَلهْمَ الصِّديق أن استخلَف عمرَ الفاروق،
فقام في الأمر بعده قياماً تامّاً، لم يَدُر الفَلَك بعد الأنبياء -عليهم
السلام- على مثله، في قوة سيرته وكمال عَدْله، وتمّ في أيامه فتْح البلاد
الشاميّة بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكَسَّر كسرى
وأهانه غاية الهوان، وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقَصَّر قيصر، وانتزع يدَه عن
بلاد الشام فانحاز إلى القُسطنطينة،
(7/318)
وأنفَق أموالَهما في سبيل الله، كما أخبَر
بذلك ووعَد به رسول الله -عليه مِن ربّه أتمّ سلام وأزكى صلاة-.
ثمّ لمّا كانت الدولة العثمانية (1)، امتدَّت المماليك الإسلامية إلى أقصى
مشارق الأرض ومغاربها، ففُتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك: الأندلس،
وقبرص، وبلاد القيروان، وبلاد سَبْتَةَ؛ مما يلي البحر المحيط، ومِن ناحية
المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقُتِل كسرى، وباد مُلْكُه بالكُلّية، وفُتحت
مدائن العراق، وخُراسان، والأهواز، وقَتَل المسلمون مِن الترك مقتلةً
عظيمةً جداً، وخذَل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجُبي الخراج من المشارق
والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وذلك ببركة
تلاوته ودراسته وجمْعِه الأمّة على حِفظ القرآن.
ولهذا ثبَت في الصحيح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنّه قال: "إن الله زَوَى (2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وسيبلغُ
ملك أمّتي ما زُوي لي منها" (3).
فها نحن نتقلب فيما وعَدَنا الله ورسوله، وصدَق الله ورسوله، فنسأل الله
الإيمان به، وبرسوله، والقيام بشُكره على الوجه الذي يُرضيه عنّا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في "صحيحه": حدَّثنا ابن أبي عمر، حدثنا سفيان،
عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سَمُرَة قال: "سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لا يزال أمْرُ الناس ماضياً ما
وَلِيَهم اثنا عشر رجلاً ثمّ تكلَّم النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بكلمة
__________
(1) أي في عهد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
(2) أي: جمع وضمّ.
(3) أخرجه مسلم: 2889.
(7/319)
خَفِيت عني فسألْتُ أبي: ماذا قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: كُلُّهم مِن قريش" (1).
ورواه البخاري من حديث شعبة، عن عبد الملك بن عمير، به (2).
وهذا الحديث فيه دِلالة على أنّه لا بُدّ من وجود اثني عشَر خليفةً عادلاً
وليسوا هم بأئمّة الشيعة الاثني عشَر؛ فإنَّ كثيراً مِن أولئك لم يكن إليهم
مِن الأمر شيء، فأمّا هؤلاء؛ فإنهم يكونون مِن قريش، يَلُون فيَعْدِلون،
وقد وقَعَت البِشارة بهم في الكتب المتقدمة.
ثمّ لا يُشتَرط أن يكونوا متتابعين، بل يكون وجودهم في الأمّة متتابعاً
ومتفرّقاً، وقد وُجِد منهم أربعة على الولاء، وهم: أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ
عثمان، ثمّ عليّ -رضي الله عنهم-، ثمّ كانت بعدهم فترة، ثمّ وُجِد منهم ما
شاء الله، ثمّ قد يُوجَد منهم مَن بقي في وقتٍ يعلمه الله، ومنهم المهدي
الذي يطابق اسمه اسمَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وكُنيته كنيتَه، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت جوراً وظلماً.
[وعن] سعيد بن جُمْهان، عن سَفِينة -مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثمّ يكون مُلكاً (3) " (4).
__________
(1) أخرجه مسلم: 1821.
(2) أخرجه البخاري: 7222، 7223.
(3) في الأصل كلمة (عَضوضاً) وقد حذفتها لعدم ورودِها في المصادر، وقد وردت
هذه الكلمة في بعض الأحاديث الأخرى على اختلاف بين العلماء على ثبوتها،
وثبت معناها في "الصحيحة" رقم (5).
(4) أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبّان في "صحيحه" وغيرهم، وصححه شيخنا -
رحمه الله- في "الصحيحة" (459).
(7/320)
وقوله -تعالى-: {كما استخلف الذين من
قبلهم} كما قال -تعالى- عن موسى -عليه السلام-، أنّه قال لقومه: {عَسَى
رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} (1)، وقال -تعالى-: {وَنُرِيدُ أَنْ
نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ
أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا
كَانُوا يَحْذَرُونَ} (2).
وقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} (3).
ثمّ ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بعضاً مِن حديث عديِّ بن حاتم، وأرى
مِن الفائدة أن أسوقه بتمامه:
قال -رضي الله عنه-: "بَينا أنا عند النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إذ أتاه رجُلٌ فشكا إليه الفاقَةَ، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه
قَطْع السبيل، فقال: يا عديّ هل رأيت الحِيْرَة؟ قلت: لم أرها وقد أُنبِئتُ
عنها.
قال: فإنْ طالت بك حياة لتَرَّين الظّعينة (4) ترتحل من الحِيرَة حتى تطوف
بالكعبة، لا تخاف أحداً إلاَّ الله -قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دُعّار
(5) طَيئ الذين قد سَعّروا البلاد؟ - ولئنْ طالت بك حياة لتُفتَحنّ كنوزُ
كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بك حياة لتَرّين
الرجل
__________
(1) الأعراف: 129.
(2) القصص: 5 - 6.
(3) النور: 55.
(4) المرأة في الهودج.
(5) وهو الشاطر الخبيث المُفسد. "الفتح".
(7/321)
يُخرج ملءَ كفّه مِن ذهبٍ أو فِضة؟ يطلُب
مَن يقبلُه منه فلا يجد أحداً يَقْبَلُه منه.
ولَيلقَينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه تُرجمانٌ يُترجم له،
فيقولَنّ له ألم أبْعَث إليك رسولاً فيُبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم
أُعطك مالاً وأُفْضل عليك؟ فيقولُ بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلاّ جهنّم
وَينظر عن يساره فلا يرى إلاَّ جهنّم.
قال عديّ: سمعْتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
اتقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شِقّ تمرة، فبكلمة طيّبة.
قال عديّ: فرأيت الظعينة ترتحل مِن الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلاَّ
اللهَ، وكنتُ فيمن افتتَح كنوز كسرى بن هرمز، ولئنْ طالت بكم حياة لترونّ
ما قال النبيّ أبو القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُخرج
مِلءَ كفّه" (1).
ثمّ ساق الحافظ ابن كثير بإسناد الإمام أحمد -رحمهما الله- إلى أُبيّ بن
كعبٍ - رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أنّه قال: "بَشّر هذه الأُمّة بالسَّناء والرفعة، والدين والنّصر والتمكين
في الأرض، فمَن عَمِل منهم عَمَل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب"
(2).
ثمّ قال -رحمه الله-: وقوله: {يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي
شَيْئًا}.
ثمّ ذكَر حديث أنس، أنّ معاذَ بنَ جبل حدّثه قال: "بينا أنا رديف رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ليس بيني وبينه إلاّ أَخِرَة
الرَّحْل، قال: يا معاذ، قلت: لبيّك يا رسول الله
__________
(1) أخرجه البخاري: 3595.
(2) أخرجه أحمد وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم، وانظر "صحيح الترغيب
والترهيب" (23، 24).
(7/322)
وسَعْديك، قال: ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: يا
معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله وسعديك، ثمّ سار ساعة، ثمّ قال: يا
معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله وسعديك.
قال: هل تدري ما حقّ الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ
حقَّ الله على عباده أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً.
قال: ثم سار ساعة، ثمّ قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيّك يا رسول الله
وسعديك، قال: فهل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوه؟، قال: قلت: الله
ورسوله أعلم. قال: فإنّ حقّ العباد على الله أن لا يُعذّبهم" (1).
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي:
فمن خرَج عن طاعتي بعد ذلك، فقد فَسَقَ عن أمر ربّه، وكفى بذلك ذنباً
عظيما. فالصحابة - رضي الله عنهم-، لمّا كانوا أقومَ النّاس بعد النبيّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأوامر الله -عزّ وجلّ-، وأطوعَهم
لله- كان نصرُهم بحسبهم، وأظهروا كلمةَ الله في المشارق والمغارب، وأيّدهم
تأييداً عظيماً، وتحكّموا في سائر العباد والبلاد، ولما قَصَّر الناس بعدهم
في بعض الأوامر، نقَص ظهورُهم بحسبهم".
ثم ذكَر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حديث الطائفة الظاهرة المنصورة
بروايات متعددة، انتهى.
2 - اتباع منهج النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ومن أسباب النصر اتباع مَنهجِ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، قال الله -تعالى-: {وَمَاَ آتاكم
__________
(1) أخرجه البخاري: 5967، ومسلم: 30.
(7/323)
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} (1).
وفي الحديث: "نُصرت بالرعب مسيرةَ شهرٍ" (2).
وقال لنا شيخنا -رحمه الله- في بعض مجالسه- بعد أن ذكَر الحديث الشريفَ:
"وإذا تمسَّكَت الأُمّة بما كان عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -؛ فإنّها تُنصَر مسيرةَ شهرٍ".
قال شيخنا -رحمه الله- في كتاب "منزلة السنّة في الإسلام وبيان أنّه لا
يُستغنى عنها بالقرآن" (ص 6) -بحذف-: "تعلمون جميعاً أنّ الله -تبارَك
وتعالى- اصطفى محمّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنبوته،
واختصّه برسالته، فأنزل عليه كتابه القرآن الكريم، وأمَرَه فيه -في جُملة
ما أمرَه فيه- أن يُبيِّنَه للنّاس، فقال -تعالى-: {وَأَنزَلْنَاَ إِليكَ
اَلذكرَ لِتُبَين للنَّاسِ مَا نُزِلَ} (3).
والذي أراه أن هذا البيان المذكور في هذه الآية الكريمة؛ يشتمل على نوعين
من البيان:
الأول: بيان اللفظ ونَظْمه، وهو تبليغ القرآن وعدم كتمانه، وأداؤه إلى
الأمّة، كما أنزَله الله -تبارك وتعالى- على قلبه - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو المراد بقوله -تعالى-: {يا أيها الرسول بلغ ما
أنزل إليك من ربك} (4).
والآخر: بيان معنى اللفظ أو الجملة أو الآية الذي تحتاج الأمَّة إلى بيانه،
__________
(1) الحشر: 7.
(2) أخرجه البخاري: 335، ومسلم: 521.
(3) النحل: 44.
(4) المائدة: 67.
(7/324)
وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المُجْملة أو
العامّة، أو المطلقة، فتأتي السنّة فتُوضّح المُجْمَل، وتُخصّص العام،
وتُقيِّد المُطلق، وذلك يكون بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
كما يكون بفِعله وإقراره".
3 - اتباع مَنْهج السلف الصالح
ولا يتيسّر اتباع نبيّنا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلاّ بحبّ
السلف الصالح واتباع مَنهجهم السديد، وسبيلِهم الرشيد، فهم الذين نقَلُوا
كتاب الله -تعالى- وسُنّة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،
وفَهْمُهم الكتاب والسُّنة، وعملُهم بذلك؛ مرجِعٌ ومَنْهَجٌ لمن بعدهم.
قال -تعالى-: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (1).
وكان شيخنا -رحمه الله- كثيراً ما يستدل بهذه الآية؛ مُبيِّناً أهمية العمل
بمقتضى الكتاب والسُّنة؛ بفهم سلفِ الأُمّة.
ولا يغيب عن بال كلِّ عاقل؛ أنّ فَهْمَ الكتاب والسنّة على منهج أصحاب رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ سبب اجتماعٍ وائتلافٍ، ودرءٌ
للخصام والاختلاف، وهذا سبيل النصر بإذن الله -تعالى-.
وعن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال: "وعظَنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - موعظةً بليغة وَجِلت منها القلوب، وذَرَفَت
منها العيون: فقلنا: يا رسول الله! كأنّها موعظة مُودِّع فأوصِنا قال:
أوصيكم بتقوى الله والسّمع والطاعة، وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيّ، وإنه
مَن يَعِش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم
__________
(1) النساء: 115.
(7/325)
بسنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين،
عَضّوا عليها بالنواجذ (1) وإيّاكم ومحُدثات الأمور، فإنّ كُل بدعة ضلالة"
(2).
وفي رواية: "فقلنا يا رسول الله! إنّ هذه لموعظة مودعِّ، فماذا تَعْهَد
إلينا؟ قال: قد تركْتكم على البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي
إلاَّ هالك، مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتُم مِن
سُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ، وعليكم
بالطاعة، وإنْ عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجمل الأنِف (3)، حيثما قِيْدَ
انْقَاد" (4).
لقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "فعليكم بسنّتي وسُنّة
الخلفاء الراشدين المهديّين، عَضّوا عليها بالنواجذ" ولم يقل عضّوا عليهما،
إذ ليس هنا أمرٌ باتباع سُنّتين، بل هما سُنّة واحدة، ولأنّ الخلفاء
الراشدين -رضي الله عنهم- يعملون بسنة النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -.
ولقد أخَذ الصحابة عن الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم أجمعين- وكانوا أحرص
الناس على الخير.
وفي الحديث: "ألا إنّ مَن قبلكم مِن أهل الكتاب، افترقوا على ثنتين
__________
(1) أي: ألزموا السنّة، واحرِصوا عليها؛ كما يلزم العاضّ على الشيء
بنواجذه؛ مخافة ذَهابه وتفلُّته، والنواجذ: الأنياب، وقيل: الأضراس.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3851) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (2157)، وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (40) وغيرهم.
(3) الأنِف: قال في "النّهاية": وهو الذي عقَرَ الخِشَاشُ أنْفَه، فهو لا
يَمْتَنِع على قائدِه للْوَجَع الذي به. وقيل الأنِفُ الذَّلُول.
والخِشاش: ما يُدخل في عظم أنف البعير من خشب. "المحيط".
(4) "صحيح سنن ابن ماجه" (41).
(7/326)
وسبعين ملّة، وإنّ هذه الملّة، ستفترق على
ثلاث وسبعين، ثِنتان وسبعون في النّار، وواحدة في الجنة، وهي الجَماعة"
(1).
وفي رواية: "ما عليه أنا وأصحابي" (2).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لا تسبّوا أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمقام أحدهم ساعة، خيرٌ مِن عمل أحدكم عُمُرَه"
(3).
بعد أن فهِمْنا أن الصحابة أخَذُوا مِن الخلفاء الراشدين، نعلم إنّ اتباع
منهاج الصحابة -رضي الله عنهم- اتباع لمنهاج الخلفاء، واتباع للسُنّة كذلك،
واتباع السنّة؛ اتباعٌ للقرآن العظيم.
إذا عرفْنا هذا التّدرج والتسلسل؛ علمْنا إذن أنّ مَن أخَذ عن الصحابة -
رضي الله عنهم- فقد أخذَ عن الله -سبحانه- ومَن رفض منهاج الصحابة؛ فقد
رفَض كتاب الله -عزّ وجلّ-.
وهنا نفهم سرّ ضلال وزيغ من كفَّر الصحابة -عياذاً بالله- إلاّ بضعاً منهم
-على اختلاف رواياتهم-!!!
فإنك ترى الذين كفّروا الصحابة -رضي الله عنهم- هم أنفسهم الذين لم
__________
(1) أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد وغيرهم، وانظر "الصحيحة" (204).
(2) حسن بطرقه وشواهده، وتفصيله في "الصحيحة" (203، 204) (التحقيق الثاني).
(3) أخرجه ابن ماجة "صحيح سنن ابن ماجة" (133)، وابن أبي عاصم "كتاب
السنة"، ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين غير نُسير بن ذعلوق، وقد وثّقه جمع
من الأئمة، وروى عنه جمع مِن الثقات، في الكتاب الآنف الذكر، برقم (1006)
كما ذكر لي شيخنا -رحمه الله- وأودعهُ في (التحقيق الثاني)، وفي كتابه
"تيسير انتفاع الخلاّن بكتاب ثقات ابن حبّان".
(7/327)
يؤمنوا بالقرآن والسُّنّة، فلم تَعُدْ لهم
ضوابطُ صحيحة تَحْكُمُهم.
وما ضلّ الضالون وانحرف المُنحرفون، إلاّ لأنهم لم يتقيدوا بمنهاج السلف
الصالح، ذلك لأنهم أطلقوا لعقولهم العنان في فهم الكتاب والسنّة، وبذلك
تعدّدت المناهج والأفكار والدعوات والأحزاب، والكل يقول: نحن على الكتاب
والسّنّة.
وكلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى ... وليلى لا تُقرُّ لهم بذاك (1).
4 - العلم
ومن أسباب النصر والتمكين؛ العلم، والعمل بمقتضاه، قال الإمام البخاري
-رحمه الله-: "باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله -تعالى-: {فاعلم أنّه
لا إله إلاَّ الله} (2)، فبدأ بالعلِم ... " (3).
وقال الإمام البخاري -رحمه الله- أيضاً: "باب قول النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تزال طائفة مِن أمّتي ظاهرين على الحقّ
يُقاتِلون، وهم أهل العلم (4) " (5).
ثمّ ذَكر حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا
__________
(1) انظر كتابي "وصية مودع" (ص 34).
(2) محمد: 19.
(3) انظر "صحيح البخاري" (كتاب العلم) (باب - 10).
(4) انظر للمزيد من الفائدة "السلسلة الصحيحة" تحت عنوان "من هي الطائفة
المنصورة" (برقم 270).
(5) انظر "صحيح البخاري" كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (باب - 10).
(7/328)
يزال طائفة من أمّتي ظاهرين حتى يأتيهم
أمْرُ الله وهم ظاهرون" (1).
ثمّ ذكَر حديث حميد قال: سمعت معاويةً بن أبي سفيان -رضي الله عنه- يخطب
قال: سمعتُ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: "مَن يُرد
الله به خيراً يُفقّهه في الدين، وإنّما أنا قاسم ويُعطي الله، ولن يزال
أمْرُ هذه الأُمّة مستقيماً؛ حتى تقوم الساعةُ أو حتى يأتيَ أمرُ الله"
(2).
قلت: وذِكْر الإمام البخاري- رحمه الله- هذا الحديث تحت الباب المذكور،
يعني أنّ الذين وُفّقوا للتفقُّه في الدين، هم الطائفة المنصورة الظاهرة
على الحقّ والله -تعالى- أعلم.
وقال عمر -رضي الله عنه-: "تفقّهوا قبل أن تُسوَّدوا" (3).
قال أبو عبد الله -يعني الإمام البخاري -رحمه الله-" ... وبعد أن
تُسوَّدوا، وقد تعلّم أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
في كِبَر سنّهم".
5 - تزكية النفوس والائتمار بما أمر الله
-تعالى- والانتهاء عما نهى -سبحانه-.
قال -تعالى-: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ
يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} (4).
__________
(1) أخرجه البخاري: 7311، ومسلم: 1921.
(2) أخرجه البخاري: 7312، ومسلم: 1037.
(3) رواه البخاري في "صحيحه" مُعلقاً مجزوماً به في كتاب العلم (باب
الاغتباط في العلم والحكمة) ووصله أبو خثيمة في (العلم) (9) بسند صحيح وكذا
ابن أبي شيبة، وانظر "مختصر صحيح البخاري".
(4) آل عمران: 160.
(7/329)
وقال -سبحانه-: {ولينصرن الله من ينصره إن
الله لقويٌّ عزيزٌ} (1).
وقال: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} (2).
وقال -تعالى-: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (3).
فمن هم المؤمنون المنصورون؟
قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ
اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ
زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ
هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (4).
فمِن شأن المؤمنين أن تخاف قلوبُهم وتفزع عند ذكر الله -تعالى- فيسارِعون
بالطاعات وأداءِ الفرائض والسُّنن، واجتناب المحرّمات والنواهي، وإِذا
تُليت عليهم آياته -سبحانه- زادتهم تصديقاً، فخضَعت قلو بهم وجوارحهم
وألسنتهم لله، بل وأقبلوا على الله بيقين.
إنهم يتوكلون على ربِّهم -سبحانه- لا يرجون غيره، ولا يرغبون إلاّ إليه،
وهم يوقنون أنّه لن يُخيِّبهم أو يردّهم.
إنهم يقيمون الصلاة بالمحافظة على مواقيتها وما فيها من الأركان والواجبات
والسنن، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنما ينصر الله
هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم
__________
(1) الحج: 40.
(2) محمد: 7.
(3) الروم: 47.
(4) الأنفال: 2 - 4.
(7/330)
وصلاتهم وإخلاصهم" (1).
إِنهم ينفقون مما أعطاهم الله -سبحانه-: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (2).
ثمّ قال -سبحانه-: {أُولَئِكَ هُمُ المؤمُنونَ حَقّاً} (3).
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون
حقّ الإيمان".
ويتضمّن ما سَبق:
6 - ترْك الذنوب والمعاصي والأهواء
قال الله -تعالى-: {فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله} (4)، فكيف تريد أمةٌ
حَربَ المشركين والكفّار والملحدين وقد آذَنَها الله بالحرب.
فالله أكبر مِن خلقه جميعاً، والله أعزُّ مما يُخاف ويُحذَر.
فعلينا أن نزيل الخطر الذي ذكَر الله -تعالى- بكتابه، ولا ملجأ منه إليه،
بترك اجتراح الخطايا واقتراف الذنوب، ثمّ نلتفت إلى ما بعده.
وعن أبي عامر الهوزني قال: سمعت معاوية -رضي الله عنه- يقول: "يا
__________
(1) أخرجه النسائي "صحيح سنن النسائي" (2978)، وانظر "الصحيحة" (2/ 409)،
وقد ذكَرْته في باب (الانتصار بالضعفاء: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
(2) المعارج: 24 - 25.
(3) الأنفال: 4.
(4) البقرة: 279.
(7/331)
معشر العرب، والله لئن لم تقوموا بما جاء
به نبيّكم لَغَيركم مِن الناس؛ أحرى أن لا يقوم به، إن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فينا يوماً فذكَر أنّ أهل الكتاب قبلكم
افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء، ألا وإنّ هذه الأمّة ستفترق
على ثلاثٍ وسبعين فرقةً في الأهواء" (1).
وقال الله -تعالى-: {إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم} (2).
وجاء في "التفسير القيّم" (ص 545): "وهل زالت عن أحد قطّ نعمةٌ إلاّ بشؤم
معصيته، فإنّ الله إذا أنعم على عبدٍ نعمة حَفِظَها عليه، ولا يُغيّرها عنه
حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ
بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}
(3)، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا
عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (4).
ومَن تأمَّل ما قصَّ الله في كتابه مِن أحوال الأُمم الذين أزال نِعَمَه
عنهم، وجَد سبب ذلك جميعه؛ إنما هو مخالفة أمره، وعصيان رُسُله -عليهم
السلام-، وكذلك مَن نظَر في أحوال أهل عصره، وما أزال الله عنهم مِن نِعمه،
وجَد ذلك كلَّه مِن سوء عواقب الذنوب، كما قيل:
إذا كنت في نعمةٍ فارْعَها ... فإنّ المعاصي تزيل النِّعَم
__________
(1) انظر تخريج شيخنا -رحمه الله- لكتاب "السُّنَّة" لابن أبي عاصم (68،
69).
(2) الرعد: 11.
(3) الرعد: 11.
(4) الأنفال: 53.
(7/332)
فما حُفظت نعمةُ الله بشيءٍ قطّ، مِثْل
طاعتهِ، ولا حَصَلت فيها الزيادة بمثلِ شُكره.
ولا زالت عن العبد نعمة بِمثل معصيته لربّه، فإنها نار النعم التي تعمل
فيها؛ كما تعمل النار في الحطب اليابس، ومَن سافر بفكره في أحوال العالم؛
استغنى عن تعريف غيرِه له".
وقال شيخنا عقب كلام الحافظ ابن حجر -رحمهما الله تعالى- بعد وصف تردي
الأحوال: "ما أشبه الليلة بالبارحة، بل الأمر أسوأ، فإنّه لا خليفةَ اليوم
لهم، لا اسماً ولا رسماً، وقد تغلَّبت اليهود والشيوعيون والمنافقون على
كثير مِن البلاد الإسلامية.
فالله -تعالى- هو المسؤول أن يوفّق المسلمين أن يأتمروا بأمره في كل ما
شَرَع لهم، وأن يُلْهِم الحُكّام منهم أن يتحدوا في دولة واحدة تَحْكُمْ
بشريعته، حتى يُعزّهم الله في الدنيا، ويُسعِدَهم في الآخرة، وإلاّ فالأمر
كما قال -تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (1).
وتفسيرها في الحديث الصحيح: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر،
ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذُلاّ لا ينزعه
عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"، فإلى دينكم أيها المسلمون حُكّاماً ومحكومين"
(2).
وقال شيخنا -رحمه الله- تحت عنوان (الخلافة في قريش ما أطاعوا الله)
__________
(1) الرعد: 11.
(2) انظر "الصحيحة" المجلد السادس، القسم الثاني، تحت الحديث (2856)
وتقدّم.
(7/333)
وبعد ذِكر الحديث المتعلِّق به: "وهذا
الحديث عَلَمٌ مِن أعلام نبوته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد
استمرّت الخلافة في قريش عدّة قرون، ثمّ دالت دولتهم، بعصيانهم لربهم،
واتباعهم لأهوائهم، فسلّط الله عليهم مِن الأعاجم مَن أخذ الحُكم من أيديهم
وذلَّ المسلمون مِن بعدهم، إلاَّ ما شاء الله، ولذلك فعلى المسلمين إذا
كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية، أن يتوبوا إلى ربهم،
ويرجعوا إلى دينهم، ويتّبعوا أحكام شريعتهم، ومِن ذلك أنّ الخلافة في قريش
بالشروط المعروفة في كُتُب الحديث والفقه، ولا يحكِّموا آراءهم وأهواءهم،
وما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم، وإلاّ فسيظلون محكومين مِن غيرهم، وصدَق
الله إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والعاقبة للمتقين" (1).
7 - ترك التحايل (2)
ويتفرّع من تزكية النفس والائتمار بأمر الله -تعالى- واجتناب نواهيه ترْك
التحايل.
أقول: ودراسة الحديث المُشار إليه "إذا تبايَعْتُم بالعِيْنَة (3) وأخذتم
أذناب
__________
(1) انظر "الصحيحة" تحت الحديث (1552).
(2) قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (29/ 29): "ودلائل
تحريم الحِيَل من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كثيرة؛ ذكَرنا منها
نحوا من ثلاثين دليلاً؛ فيما كتبناه في ذلك".
(3) العِينة: هو أن يبيعَ رجل سلعة؛ بِثَمنٍ مَعْلوم إلى أجَلٍ مُسَمّىً،
ثمّ يَشْتَرِيها منه بأقلَّ من الثَّمن الذي باعَها به، وسُمِّيت عِينَةً
لحصُول النَّقْد لصاحب العِينَة لأنَّ العَيْن؛ هو المَال الحاضِرُ من
النَّقْد، والمُشْتَرِي إنما يَشْتريها ليَبِيعَها بعَيْن حاضِرَة؛ تَصِل
إليه مُعَجَّلَة. "النّهاية".
(7/334)
البقر، ورضيتم بالزّرع، وتركتم الجهاد في
سبيل الله؛ سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه عنكم؛ حتى ترجعوا إلى دينكم"
(1)، مِن أهم النصوص في مبحثنا هذا؛ لاستجلاب النصر ورفع الذلّة والهوان،
وكان شيخنا -رحمه الله- يُكثر مِن افتتاحه بهذا الحديث العظيم؛ ليبيّن كيف
تسعد الأمّة في الدارين.
كيف تَنْتصر أمّة؛ وفيها مَن يتحايل في بيعها وشرائها؟!
كيف تَنتصر أمّة؛ وفيها مَن همُّه الاستكثار من المال، مِن غير مبالاةٍ
أمِن حرامٍ هو أمْ مِنْ حلال؟!
لا بُدَّ مِن التجرُّد مِن أهواء النفوس وحظوظها.
لقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمة بيّنةً واضحة: "سلّط
الله عليكم ذُلاً؛ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم (2) ".
فمن قال: هذه فروع وقشور؛ فإنه مخُالِفٌ هدي النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد بيّن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ
الذّل لا يُنزع إلاّ بأمور؛ منها تَرْك التحايل.
وليس ببعيدٍ عنّا ما جرى لليهود مِن ضروبٍ مِن التحايل ورَد ذكرها في
الكتاب والسُنّة؛ كانت سبباً في عذابهم وإذلالهم.
ومن ذلك قوله -تعالى-: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ
فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود، وانظر تفصيل تخريجه في "الصحيحة" (11) وتقدّم.
(2) وما هو الدين الذي نرجع إليه؟ إنه الكتاب والسنّة بمنهج الصحابة -رضي
الله عنهم- وسلف الأمّة، وها نحن نزعم أننا متمسكون بالدين، فأين نحن مِن
نزع الذلّة والهوان؟!.
(7/335)
قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا
نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ} (1).
قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "وَلَقَدْ علمتم يا معشرَ اليهود، ما حَلّ
مِن البأس بأهل القرية التي عصَت أمر الله وخالفوا عهدَه وميثاقه؛ فيما
أخَذَه عليهم مِن تعظيم السبت والقيام بأمره، إذ كان مشروعاً لهم،
فتحيّلُوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت، بما وضعوه لها من الشصوص (2)
والحبائل والبِرَك قبل يوم السبت، فلمّا جاءت يومَ السبت على عادتها في
الكثرة؛ نَشِبَت بتلك الحبائل والحِيَل، فلم تخلُص منها يومها ذلك، فلمّا
كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلمّا فعلوا ذلك؛ مسَخَهم الله إلى
صورة القِرَدة، وهي أشبه شيء بالأناسيّ في الشكل الظاهر، وليست بإنسانٍ
حقيقة.
فكذلك أعمالُ هؤلاء وحيَلُهم لمّا كانت مشابِهةً للحقّ في الظاهر ومخالِفةً
له في الباطن، كان جزاؤهم مِن جنس عملهم.
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف، حيث يقول -تعالى-: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ
الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي
السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا
وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ} (3)، القصة بكمالها".
وذكر أهل التفسير أقوالاً في المراد بقوله -سبحانه-: {لما بين يديها وما
خلفها}.
وقد رجّح ابن كثير منها أنّ المراد مَنْ بِحَضْرَتِها من القرى التي يبلغهم
__________
(1) البقرة: 65 - 66.
(2) جمع الشِّص: وهو حديدة عقفاء، يُصاد بها السمك، "القاموس المحيط".
(3) الأعراف: 163.
(7/336)
خبرُها، وما حلّ بها، كما قال: {وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ
لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (1)، وقال -تعالى-: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ
دَارِهِمْ} (2)، وقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ
نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} (3).
فجعلهم عبرةً ونكالاً لمن في زمانهم، وعبرة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر
عنهم، ولهذا قال: {وَمَوْعِظَةً للمُتَّقِينَ} ".
وفي الحديث: "لعَن الله اليهود إن الله حرّم عليهم الشحوم؛ فباعوها وأكلوا
أثمانها وإنّ الله إذا حرّم على قوم أكْل شيء؛ حرّم عليهم ثمنَه" (4).
8 - ترْك البِدَع
ومن أسباب النصر والتمكين ترْك البِدع، ففي حديث العرباض بن سارية
المتقدّم: " ... إنّه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ... ".
ثمّ كان بيان الدواء النبوي: " ... وإيّاكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ بدعة
ضلالة".
فقد بيَّن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ البدع سببٌ
في الاختلاف الكثير، وأنّ تَرْك المحدثات طريق النجاة والائتلاف.
وإذا كانت كلّ بدعة ضلالة؛ فكيف يَنتصرُ الضالون؟!
__________
(1) الأحقاف: 27.
(2) الرعد: 31.
(3) الأنبياء: 44.
(4) أخرجه أحمد في مسنده، وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2978).
(7/337)
وإذا كانت البدعة تستجلب غضب الله؛ فكيف
ينصرنا وهو غاضب علينا؟! وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"إنّ الله حجَب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدَع بدعته" (1).
وهل ينتصر إلاّ التائبون.
ولا تنس أنّ المبتدع قد يبلغ أمره إلى حمْل السلاح ومقاتلة أهل الحقّ.
فعن الحَكَم بن المبارك عن عمر بن يحيى قال: سمعْتُ أبي يحدِّث عن أبيه
قال: "كنّا نجلس على بابِ عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرَج
مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري، فقال: أخرَج إليكم أبو عبد
الرحمن بعد؟ قلنا: لا، فجلس معنا حتى خرَج، فلمّا خرَج قمنا إليه جميعاً،
فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن! إنّى رأيت في المسجد آنفاً أمراً
أنكرْتُه، ولم أرَ والحمد لله إلاَّ خيراً، قال: فما هو؟ فقال: إن عشت
فستراه.
قال: رأيت في المسجد قوماً حلقاً جلوساً، ينتظرون الصلاة، في كلّ حلقةٍ
رجل، وفي أيديهم حصى، فيقول: كبّروا مائة، فيكبّرون مائة، فيقول: هلِّلوا
مائة، فيهلّلون مائة، ويقول: سبِّحوا مائة، فيسبّحون مائة.
قال: فماذا قلت لهم؟ قال: ما قلتُ لهم شيئاً انتظار رأيك -أو انتظار أمرك-،
قال: أفلا أمرْتَهم أن يعدّوا سيئاتهم، وضمِنْت لهم أن لا يضيع مِن حسناتهم
شيء؟
ثمّ مضى ومضينا معه، حتى أتى حلقة مِن تلك الحلق، فوقَف عليهم، فقال: ما
هذا الذي أراكم تصنعون؟ قالوا: يا أبا عبد الرحمن! حصى نعدُّ به التكبير
__________
(1) أخرجه الطبراني في "الأوسط" وغيره، وانظر "صحيح الترغيب" (54)
و"الصحيحة" (1620).
(7/338)
والتهليل والتسبيح، قال: فعدُّوا سيئاتكم
فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ مِن حسناتكم شيءٌ؛ ويْحَكم يا أمّة محمّد! ما أسرع
هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
متوافرون، وهذه ثيابه لم تَبْل، وآنيته لم تُكْسر، والذي نفسي بيده إنكم
لعلى ملّة هي أهدى من ملّة محمد، أو مفتتحو باب ضلالة؟!
قالوا والله: يا أبا عبد الرحمن! ما أردنا إلاَّ الخير، قال: وكم من مريد
للخير لن يصيبه، إنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
حدّثنا: أنّ قوماً يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، وايم الله ما أدري لعل
أكثرهم منكم! ثمّ تولى عنهم، فقال عمرو بن سلمة: فرأينا عامّة أولئك الحلق
يُطاعنونا يوم النّهروان مع الخوارج" (1).
وهكذا لمّا ذكَر القومُ ربَّهم بغير هُدى أو نور مِن الكتاب والسنّة،
واختاروا صراط البدعة؛ كانت عاقبة أمرهم أن يُطاعِنوا المسلمين ويقاتلوهم
يوم النهروان مع الخوارج.
وهكذا خَرج هؤلاء عن سبيل المؤمنين ابتداءً مِن التسبيح والتهليل والتكبير
وهم لا يريدون إلاّ الخير بزعمهم، وكذلك ما أرادوا إلاّ الخير في قتال
المسلمين يوم النهروان!
فأيّ خير هذا الذي أبلَغَهم؛ أن يُطاعنوا المسلمين، ويسفِكوا دماءهم؟! (2).
9 - الإعداد العسكري
قال الله -تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (3).
__________
(1) أخرجه الدارمي (1/ 68)، وإسناده صحيح، رجاله كلّهم ثقات وانظر "الردّ
على التعقّب الحثيث" (ص 47) لشيخنا الألباني -رحمه الله-.
(2) انظر كتابي "وصيّة مودِّع" (ص 53).
(3) الأنفال: 60.
(7/339)
عن أبي ذرٍّ -رضي الله عنه- قال: قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من فرسٍ عربيّ؛ إلاَّ
يُؤذَن له عند كل سَحَر، بكلمات يدعو بهنّ: اللهم خوّلتني (1) مِن بني آدم،
وجعلتني له، فاجعلني أحبَّ أهلهِ ومالِه، أو مِن أحبِّ أهلهِ ومالِه إليه"
(2).
هذا ولا بد من الإفادة مِن أهل العسكرية، وما يَتْبَع ذلك مِن تقنيات في
ضوء الاستطاعة والقُدرة، مِن غير تقصير، ولكن ينبغي للمسلمين أن لا تضعُف
هممهم ولا تفتر عزائمهم؛ إذا رأوا أَنهم أقلّ مِن الأعداء؛ عدداً أو عُدّةً
أو سلاحاً، فهذا الحال الذي كان عليه النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وأصحابه -رضي الله عنهم-، وعليهم استكمال الأسباب المطلوبة
الأخرى؛ مع عدم الإعجاب بالقوّة أو الكثرة.
قال الله -تعالى-: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ
عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ
وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا
وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ
يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ} (3). قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "يذكُر -تعالى- للمؤمنين
فضْله عليهم وإحسانَه لديهم في نَصْرِه إياهم في مواطنَ كثيرةٍ مِن غزواتهم
مع رسوله، وأنّ ذلك من عنده -تعالى-، وبتأييده وتقديره، لا بعَدَدِهم ولا
بعُدَدِهم ونبَّهَهم على أنّ النصر مِنْ عِنْده، سواء قلَّ الجمع أو كثُر،
فإنّ يوم حُنين أعجَبَتْهم كثرتُهم، ومع هذا ما أجدى ذَلك عنهم شيئاً
فولَّوْا مُدبرين إلاَّ
__________
(1) التخوُّل: التمليك والتّعهُد.
(2) أخرجه النسائي وصححه -شيخنا رحمه الله- في "صحيح الترغيب والترهيب"
(1251) وتقدّم.
(3) التوبة: 25 - 27.
(7/340)
القليلَ منهم مع رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ثمّ أنزَل الله نصرَه وتأييده على رسوله
وعلى المؤمنين الذين معه ... ، ليُعلِمهم أنّ النصر مِن عنده -تعالى- وحده
وبإمداده - وإنْ قلّ الجمع-، فكم مِن فئةٍ قليلةٍ غلبَت فئةً كثيرةً بإذن
الله، والله مع الصابرين".
عن صهيبٍ -رضي الله عنه- قال: "كان إذا صلّى (1) هَمس، فقال: أفطنتم لذلك؟
إني ذكَرْت نبيّاً من الأنبياء؛ أعطِيَ جنوداً مِن قومه، فقال: من يكافئ
هؤلاء أو مَن يُقاتل هؤلاء؟ أو كلمةً شبهها، فأوحى الله إليه أنِ اختر
لقومك إحدى ثلاث: أن أسَلِّط عليهم عدوَّهم أو الجوع أو الموت.
فاستشار قومه في ذلك؟ فقالوا: نَكِلُ ذلك إليك أنت نبيّ الله، فقام فصلّى
وكانوا إذا فَزِعوا، فزعوا إلى الصلاة، فقال: يا رَبّ أمّا الجوع أو العدوّ
فلا، ولكن الموتَ، فسلّط عليهم الموت ثلاثة أيام، فمات منهم سبعون ألفاً،
فهَمْسِي الذي تَرون أنّي أقول: اللهمّ بك أقاتل وبك أصاول (2) ولا حولَ
ولا قوّةَ إلاّ بك" (3).
وكأنّ الله -تعالى- قضى أنْ يتفوَّق الكُفَّار في العدد، والعُدّة، والتقدم
العلميّ؛ لتظهَر معجزة أهل الإيمان، مع الإعداد الممكن، كما في قوله
-تعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (4).
__________
(1) أي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(2) أصاول: أسطو وأقهر، والصولة: الحملة والوثبة. "النّهاية".
(3) أخرجه ابن حبان في "التعليقات الحسان" (4738)، وابن نصر في "الصلاة"
وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (1061)، وفي بعض الطرق أنّ الصلاة هي صلاة الفجر،
وأنّ الهمس كان بعدها، وفي أيام حنين كما في "المسند" وانظر المصدر
المذكور.
(4) الأنفال: 60.
(7/341)
10 - الإعداد
المعنوي (1)
وهو الاستبشار بالنصر والتمكين والغَلَبة والفوز والنّجاح، وهو كذلك شجاعة
النفس في الإقدام على الأمور بثقة واطمئنان وتفاؤُل.
ويجب أن يكون هذا المعنى عند الإمام والقائد والعسكر والجُند والشعب وعامّه
المجتمع.
وينبغي على الحاكم أن يُوظّف الأجهزة التي تخدم هذا الهدف النبيل؛ بأحسن
الوسائل وأفضلها، ويكون هذا بالفأل الصالح وعدم الطِّيرَة.
وقال الإمام البخاري -رحمه الله-: في كتاب "الأدب المفرد" (باب التبرّك
بالاسم الحسَن) (2)، ثمّ ذكَر حديثَ عبد اللهِ بن السائب -رضي الله عنه- أن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية، حين ذكَر
عثمانُ بنُ عفانَ أنّ سهيلاً قد أرسَلَه إليه قومه، فصالحوه، على أن يرجع
عنهم هذا العام، ويخلوها لهم قابلَ ثلاثة، فقال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أتى. فقيل: أتى سُهيل، "سهَّلَ الله أمرَكم" (3).
وعن أنس -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: "لا عدوى (4) ولا
__________
(1) المعنوي: خلاف الماديّ، وهي كلمة محُدَثة، والمحدَث: هو الذي استعمله
المحدَثون في العصر الحديث، وشاع في لغة الحياة العامّة، انظر "المعجم
الوسيط".
(2) انظر الكتاب المذكور (باب - 362).
(3) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 703)، وابن حبان انظر "التعليقات
الحِسان" (4852)، وأصل الحديث مُطوَّل في "صحيح البخاري" (2731، 2732).
(4) العدوى: اسم مِن الإعداء، أعداه الدّاء بأن يُصيبه مِثلَ ما بصاحب
الداء، بأن يكونَ =
(7/342)
طِيَرة (1) ويعجبني الفأل (2) الصالح:
الكلمة الحسنة" (3).
وقد نهى الإسلام عن اليأس والقنوط، قال -تعالى-: {إنه لا ييأسُ من روحِ
الله
__________
= ببعيرٍ جَرُب مثلاً؛ فيتقي مخالطته بإبِلٍ أخرى؛ حذراً أن يتعدّى ما به
من الجرَب إليها، ويظنّون أنّه بنفسه يتعدّى، فأبطَلَه الإسلام وأعلَمَهم
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن الله يُمرِض، ويُنزِل
الداء، ولذا قال: فمَن أعدى الأوّل، أي مَن صار فيه الجرَب، أي لا عدوى
بطبْعِه، ولكن بقضائه وإجراء العادة. "مجمع بحار الأنوار". وحديث "مَن أعدى
الأوّل" أخرجه البخاري: 5771، ومسلم: 2220.
(1) الطِّيرَة -بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تُسكَن-: "هي التشاؤم بالشيء،
وهي مصدر تَطَيَّر، يُقال: تطيَّر طِيرَةً، وتَخَيَّر خِيَرةً، ولم يجيء
مِن المصادر هكذا غيرهما.
وأصْلُه فيما يُقال أنّ أهل الجاهلية إذا خرجوا لحاجة أو سفر؛ فإنْ رَأَوا
الطيور أخذَت ذاتَ اليمين؛ تيَمّنوا بها واستمرّوا ومضَوا، وإنْ أخذَت ذاتَ
الشِّمال، رجَعوا عن سفرِهم وحاجتِهم وتشاءموا بها، فكانت تصدُّهم في كثيرٍ
من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرعُ ذلك وأبطلَه ونهى عنه". ملتقط من
"النّهاية" و"شرح النّووي" (14/ 219).
(2) قال الإمام النّووي -رحمه الله- في "شرحه" (14/ 219): -بحذف، في تفسير
كلمة الفأل-: "وقد فسَّره النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالكلمة الصالحة والحسنة والطيّبة، قال العلماء: يكون الفأل فيما يَسُرُّ،
وفيما يَسوء، والغالب في السرور، قال العلماء: وإنما أحبَّ الفأل؛ لأنّ
الإنسان إذا أمّل فائدة الله -تعالى- وفضله عند سبب قويٍّ أو ضعيف؛ فهو على
خيرٍ في الحال، وإنْ غلط في جهة الرجاء؛ فالرجاء له خير، وأما إذا قَطع
رجاءه وأملَه من الله -تعالى- فإنّ ذلك شرٌّ له، والطِّيَرة فيها سوء الظنّ
وتوقُّع البلاء، ومِن أمثال التفاؤل: أن يكون له مريض، فيتفاءل بما يسمعه،
فيسمع مَن يقول: يا سالم، أو يكون طالب حاجة، فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع
في قلبه رجاء البرء، أو الوجدان والله أعلم".
(3) أخرجه البخاري: 5756، ومسلم: 2224.
(7/343)
إلاَّ القومُ الكافرون} (1).
ووجْه ذِكْر هذه الآية الكريمة؛ أنّ يعقوب حينما أُخبر بفقد ولده يوسف
-عليهما السلام- حَزِن حُزناً شديداً، ثمّ أُخبر أنّ ابناً آخر له قد
سَرَق، فازداد همُّه وبثُّه، ومع ذلك فإنّ يعقوبَ -عليه السلام- قد قَوي
رجاؤُه بالله -سبحانه-؛ أن يردّ له ولديه؛ كما قال -تعالى- في حقّه: {قَالَ
بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ} (2).
وقال -سبحانه- في حقّه أيضاً: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ
يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
فتأمّل قوة رجائه بالله، وإحسانه الظنّ به -سبحانه-، مع ما قد عَلِمنا من
عِظَم المصيبة وصعوبة الأمر.
ومِن أفضل الوسائل في تحقيق المراد في القوة (المعنوية)؛ الإفادة من
النّصوص المبشّرة بالنصر، وانتشار الإِسلام، وقد ذكَرْتُ ما تيسَّر منها
تحت عنوان: (البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإِسلام) فالحمد لله تعالى
على مَنّه وكرمه وإنعامه وتوفيقه.
11 - التآلف واجتماع الكلمة، وعدم التفرق
والاختلاف
*لقد جاء الإسلام ليجمعَ القلبَ إلى القلب، ويَضمّ الصفّ إلى الصفّ،
مُستهدِفاً إقامة كيان موحَّد، ومُتّقِياً عوامل الفُرقة والضعف، وأسبابَ
الفشل
__________
(1) يوسف: 87.
(2) يوسف: 83.
(7/344)
والهزيمة، ليكون لهذا الكيان الموحَّد
القدرةُ على تحقيق الغايات السامية، والمقاصدِ النبيلة، والأهدافِ الصالحة
التي جاءت بها رسالته العظمى؛ مِن عبادة الله -تعالى-، وإعلاءِ كلمتِه،
وإقامةِ الحقّ، وفِعْلِ الخير، والجهاد، من أجل استقرارِ المبادئ التي يعيش
الناس في ظلّها آمنين.
فهو لهذا كلِّه يُكوِّن روابط وصلات بين أفراد المجتمع، لتُنشئ هذا الكيان
وتدعمه، وليست هذه كغيرها مِن الروابط المادية، التي تنتهي بانتهاء
دواعيها، وتنقضي بانقضاء الحاجة إليها.
إنّها روابطُ أقوى مِن روابط الدم، واللون، واللغة، والوطن والمصالح
المادّية، وغير ذلك مما يَربِطُ بين الناس.
وهذه الروابط مِن شأنها أن تجعل بين المسلمين تماسُكاً قويّاً، وتُقيمَ
منهم كياناً يستعصي على الفرقة وينأى عن الخَلل.
إِنّه رباط الإيمان، فهو المحور الذي تلتقي عنده الجماعة المؤمنة، فالإيمان
يجعلُ في المؤمنين إخاءً أقوى مِن إخاء النسب: {إِنَّمَا المُؤمِنُونَ
إِخوَةٌ} (1)، {والمُؤْمِنُونَ والمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أولياءُ بعضٍ}
(2).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "المسلم أخو المسلم لا يَظْلِمه، ولا يُسْلِمُه،
ومَن كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجتهِ" (3).
__________
(1) الحجرات: 10.
(2) التوبة: 71.
(3) أخرجه البخاري: 2442، ومسلم: 2580.
(7/345)
وطبيعة الإيمان تَجْمَع ولا تُفرّق،
وتُوحّد ولا تُشتّت.
عن جابر -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: المؤمن يَألَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خير فيمن لا يَأَلف ولا
يُؤلَف" (1).
والمؤمن قوّةٌ لأخيه.
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضُه بعضاً" (2).
وهو يحس بإحساسه، ويشْعُر بشعوره، فيفرح لفرحه، ويحزن لحزنه، ويرى أنّه جزء
منه.
عن النعمان بن بشير قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطُفهم كمَثلِ الجسدِ؛
إذا اشتكى عُضوٌ تداعى له سائر جسده بالسَّهَر والحُمّى" (3).
والإسلام يدعم هذا الرباط، ويقوّي هذه العلاقة، بالدعوة إلى الاندماج في
الجماعة، والانتظام في سِلْكها، وينهى عن كلّ ما مِن شأنه أن يوهن مِن
قُوّته، أو يُضعف مِن شدّته، فالجماعة دائماً في رعاية الله وتحت يده.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "يدُ الله مع الجماعة" (4).
__________
(1) رواه الدارقطني والضياء المقدسي وغيرهما، وانظر "الصحيحة" (426).
(2) أخرجه البخاري: 2446، ومسلم: 2585.
(3) أخرجه البخاري: 6011، واللفظ له، ومسلم: 2586.
(4) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1759) وغيره.
(7/346)
وهي المتنفس الطبيعي للإنسان، ومن ثمّ كانت
رحمة.
عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: "قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الجماعة رحمة، والفُرقة عذاب" (1).
فالصلاة تُسَنُّ فيها الجماعة، وهي تَفْضُل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة.
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "صلاة الجماعة تفضُل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة" (2).
والزكاةُ معاملةٌ بين الأغنياء والفقراء، والصيامُ مشاركةٌ جماعية،
ومساواةٌ في الجوع؛ في فترةٍ مُعيَّنة مِن الوقت، والحجّ ملتقى عامّ [يجتمع
فيه مَن استطاع مِن المسلمين مِن أطراف الأرض كلّ عام، وقد قال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاجتماع على قراءة القرآن وتدارُسه]:
"وما اجتمعَ قوم في بيتٍ مِن بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛
إلاَّ نَزَلَت عليهم السكينة، وغَشِيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة،
وذكَرَهم الله فيمن عنده" (3).
ولقد كان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرص على أن يجتمع
المسلمون، [ظاهراً وباطناً] إذ الارتباط بين الظاهر والباطن وثيق لا انفصام
بينهما.
قال شيخنا -رحمه الله- في "حجاب المرأة المسلمة" (ص 108): "وهذا الارتباطُ
بين الظاهر والباطن؛ ممّا قرَّره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
قوله الذي رواه النعمان بن بشير
__________
(1) أخرجه أحمد، وغيره، وانظر "الصحيحة" (667) و"السُّنّة" لابن أبي عاصم
(93).
(2) أخرجه البخاري: 645، ومسلم: 650.
(3) أخرجه مسلم: 2699.
(7/347)
قال: "كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسوّي صفوفَنا حتى كأنما يسوي بها القِداح (1)، حتى
رأى أنّا قد عَقَلْنا عنه، ثمّ خرَج يوماً فقال: عبادَ الله لتُسوُّنَّ
صفوفكم أو ليخالِفنّ اللهُ بين وجوهكم (2)، وفي رواية: قلوبكم" (3).
فأشار إلى أنّ الاختلاف في الظاهر -ولو في تسوية الصفِّ- مما يوصل إلى
اختلاف القلوب، فدلَّ على أنّ الظاهر له تأثيرٌ في الباطن، ولذلك رأيناه -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن التفرُّق حتى في جلوس
الجماعة، ويحضرني الآن في ذلك حديثان:
1 - عن جابر بن سمرة قال: "خرَج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فرآنا حِلَقاً فقال: مالي أراكم عزين؟! (4) " (5).
2 - عن أبي ثعلبة الخشني قال: "كان الناس إذا نَزَلوا منزلاً تفرّقوا في
الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
إنّ تفرّقَكم في هذه الشعاب والأودية إنّما ذلكم مِن الشيطان، فلم ينزل بعد
ذلك منزلاً، إلاَّ انضَمَّ بعضُهم إلى بعض، حتى يُقال: لو بُسط عليهم ثوب
لعمَّهم" (6).
__________
(1) القِداح -بكسر القاف- هي خَشَب السهام حين تُنحت وتُبرى، واحدها (قِدح)
-بكسر القاف- معناه: يبالغ في تسويتها حتى تصير كأنما يُقَوِّم بها السهام؛
لشدة استوائها واعتدالها. "شرح النّووي" (4/ 157).
(2) أخرجه مسلم: 436، وأصله في البخاري: 717.
(3) انظر "صحيح سنن أبي داود" (616) و"صحيح الترغيب والترهيب" (512).
(4) قال النّووي -رحمه الله- (4/ 153): "أي: مُتفرّقين جماعة جماعة -وهو
بتخفيف الزاي الواحدة- عِزَة، معناه النهيُ عن التفرّق والأمرُ بالاجتماع".
(5) أخرجه مسلم: 430.
(6) أخرجه أحمد، وأبو داود (2628)، وابن حِبّان وغيرهم، وانظر "حِجاب
المرأة المسلمة" (ص 109).
(7/348)
وقال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: "إذا
كان مثل هذا التَفرُّق الذي إنما هو في أمر عاديّ مِن عمل الشيطان، فما
بالك بالتّفرُّق في الدين، وفي أعظم أركانه العملية؛ كالصلاة مَثَلاً، حيث
نرى المسلمين يتفرقون فيها وراء أئمّة متعدّدة في مسجدٍ واحد، أفليس ذلك
مِن الشيطان؟ بلى وربي، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون. {إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ
شَهِيدٌ} (1) " انتهى.
وإذا كانت الجماعة هي القوةَ التي تحمي دين الله، وتحرُس دنيا المسلمين،
فإنّ الفرقة هي التي تقضي على الدين والدنيا معاً.
ولقد نهى الإسلام أشد النهي عن الفُرقة، إذ هي الطريق المفتوح للهزيمة، ولم
يؤتَ أهل الإسلام مِن جهةٍ كما أُتيَ مِن جهةِ الفُرقة التي ذهَبَت
بقوّتهم، والتي تخلّف عنها: الضر، والفشل، والذلّ، وسائر ما يعانون منه.
قال -تعالى-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
(2)، وقال -تعالى-: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحُكُم} (3)، وقال
-تعالى-: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (4).
قال الإمام ابن جرير -رحمه الله-: "أي تعلّقوا بأسباب الله جميعاً؛ يريد
بذلك -تعالى ذِكْره- وتمسّكوا بدين الله الذي أمَرَكم به، وعَهْدِه الذي
عَهِده
__________
(1) ق: 37.
(2) آل عمران: 105.
(3) الأنفال: 46.
(4) آل عمران: 103.
(7/349)
إليكم؛ في كتابه إليكم؛ من الألفة
والاجتماع على كلمة الحقِّ، والتَّسليم لأمر الله".
قال ابن كثير -رحمه الله-: "أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت
الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق، والأمر بالاجتماع والائتلاف، كما في
"صحيح مسلم" (1) من حديث سُهَيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ اللهَ يَرْضَى
لَكُمْ ثَلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا، يَرْضى لَكُمْ: أنْ تَعْبدُوهُ
وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا
وَلا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاّهُ اللهُ أمْرَكُمْ؛
وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا: قيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،
وإِضَاعَةَ المالِ" (2)
وهكذا يعمل الإسلام على تحقيق هذه الروابط، حتى يبنيَ مجُتمَعاً متماسِكاً،
وكياناً قوياً، يستطيع مواجهةَ الأحداث، وردَّ عدوان المعتدين، وما أحوجَ
المسلمين في هذه الآونة إلى هذا التجمّع.
إنهم بذلك يقيمون فريضةً إسلاميةً، ويحققون قُوّةً عسكريةً، تحمي وجودهم،
ووحدة اقتصاديةً توفّر لهم كلّ ما يحتاجون إليه مِن ثروات.
لقد ترَك الأعداء آثاراً سيئةً، مِن ضعفٍ في التديّن، وانحطاطٍ في الخُلُق،
وتخلُّفٍ في العِلم، ولا يمكن القضاء على هذه الآفات الاجتماعية الخطيرة،
إلاَّ إذا عادَت الأمّة مُوحّدةَ الهدف، مُتراصّة البنيان، مجُتمِعة
الكلمة؛ كالبنيان المرصوص،
__________
(1) برقم (1715).
(2) عزاه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى "صحيح مسلم" وانظره برقم (1715)،
وفيه بعض الألفاظ المختلفة، وهذه الرواية أقرب لما جاء في "الأدب المفرد"
(442).
(7/350)
يشدُّ بعضه بعضاً.* (1)
والتآلف والاعتصام؛ لا يكون إلاَّ على حبل الله، فهذا هو الاجتماع الممدوح
المشروع.
وحبل الله: هو كتاب الله- تعالى- المتضمّن سنّة نبيِّه المطهرة.
عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كتاب الله: هو حبل الله الممدود من السماء إلى
الأرض" (2).
وعن أبي شريح الخزاعي قال: "خرج علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: "أبشروا أبشروا؛ أليسَ تشهدونَ أنْ لا إله إلاَّ الله
وأني رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: فإنّ هذا القرآن سببٌ طَرَفُهُ بيد الله،
وطَرَفُهُ بأيديكم، فتمسّكوا به؛ فإنكم لنْ تَضِلّوا ولن تَهْلَكُوا بعدَهُ
أبداً" (3).
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ -عند اتفاقهم- من الخطأ، كما وردَت بذلك
الأحاديث المتعددة أيضاً، وخِيفَ عليهم الافتراق، والاختلاف، وقد وقَع ذلك
في هذه الأمّة؛ فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة
ومُسَلّمة من عذاب النار، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه.
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "لا تختلفوا، فإنّ
__________
(1) ما بين نجمتين عن "فقه السُّنَّة" (3/ 378) بتصرف وحذف وزيادة.
(2) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما وانظر "الصحيحة" (2024).
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" وعنه ابن حبان والطبراني في "المعجم
الكبير" وغيرهم وانظر "الصحيحة" (713).
(7/351)
مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا" (1).
ولن تصلَ الجماعة إلى تماسُكها؛ إلاَّ إذا بذَلَ لها كلّ فردٍ مِن ذات
نفسه، وذاتِ يده، وكان عَوْناً لها في كلّ أمرٍ من الأمور التي تهمّها؛
سواءٌ أكانت هذه المعاونة معاونةً ماديةً أو أدبيةً، وسواءٌ أكانت معاونةً
بالمال، أم العلم، أم الرأي، أم المشورة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "خير الناس أنفعهم للناس" (2).
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "اشفعوا فَلْتُؤْجَروا" (3)
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن، يكفُّ عليه
ضيعتَه (4)، ويَحُوطُه (5) مِن ورائه" (6).
قال الله- تعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي
سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} (7).
__________
(1) أخرجه البخاري: 2410.
(2) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"، وانظر "الصحيحة" (426).
(3) أخرجه البخاري: 7476، ومسلم: 2627.
(4) ما يكون معاشاً كالصنعة والتجارة والزراعة وغير ذلك، فالمعنى هنا: أي
يمنع عن أخيه تَلَف ذلك وخسرانه، وكل ما يُحتَمل ضياعُه. انظر "عون
المعبود" (13/ 178) و"بذل المجهود" (19/ 159) وكتابي "شرح صحيح الأدب
المفرد" (178/ 239).
(5) قال في "النّهاية": "أحاطه يحوطه حوطاً وحياطةً: إذا حَفِظه وصانه وذبّ
عنه، وتَوفّر على مصالحه".
(6) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (4110) والبخاري في "الأدب المفرد"
"صحيح الأدب المفرد" (178)، وانظر "الصحيحة" (926).
(7) الصف: 4.
(7/352)
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "فهذا
إِخبارٌ مِن الله -تعالى- بمحبته عبادَه المؤمنين إذا اصطفُّوا مُواجِهين
لأعداء الله في حومة الوَغى، يُقاتِلون في سبيل الله مَن كفَر بالله،
لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، ودينُه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.
وقال ابن عباس: {كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} مُثبَت لا يزول، مُلصَقٌ بعضُه
ببعض. وقال قتادة: {كأنهم بنيانٌ مرصُوصٌ} ألم تَرَ إلى صاحِب البنيان، كيف
لا يُحبُّ أن يَخْتَلف بنيانه؟. فكذلك الله -عزَّ وجلَّ- لا يُحبُّ أن
يختلفَ أمرُه، وإنّ الله صفَّ المؤمنين في قتالهم، وصفَّهم في صلاتهم،
فعليكم بأمر الله، فإنه عِصمةٌ لمَن أخَذ به ... " (1)
لماذا هُزِم المسلمون؟
لقد كثُرت على المسلمين النكبات والمصائب بعد القرون الخيرية، وطمع فينا
الأعداء، وتداعَوا على أمّتنا؛ كما تتداعى الأكَلَةُ على قصعتها.
لقد احتلَّ المشركون والكُفَّار كثيراً من بلاد المسلمين وتسلَّطوا على
أهلها، وعاثوا فساداً فيها؛ تقتيلاً وتذبيحاً وإهانةً وإذلالاً.
لقد مضى فينا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوشِك الأممُ
أن تَدَاعى عليكم كما تَدَاعى الأكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، فقال قائل: ومنْ
قلةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ؛ ولكنَّكم غثاءٌ كغثاء
السَّيْلِ، ولَيَنْزعنَّ اللهُ مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم،
وَلَيقْذِفنَّ الله في قلوبكم الوَهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسول الله! وما
الوَهْنُ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية
__________
(1) مُلتقط من "تفسير ابن كثير".
(7/353)
الموت" (1).
وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: "يُوشِكُ أهل العراق أنْ لا
يُجْبَى إليهم قَفِيزٌ ولا دِرهم. قلنا: مِنْ أين ذاك؟ قال: من قِبَلِ
العَجَم. يمنعون ذاك. ثم قال: يُوشِك أهل الشَّأْم أن لا يُجْبَى إليهم
دينار ولا مُدْيٌ.
قلنا: مِن أين ذاك؟ قال مِن قِبَلِ الرُّوم ثمّ أسْكَتَ (2) هُنَيَّةً (3).
ثمّ قال: قال رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يكون في آخر
أمَّتي خليفةٌ؛ يَحثي المال حَثْياً لا يَعُدُّه عدداً" (4).
قال: قلتُ لأبي نضرةَ وأبي العلاء: أتريان أنّه عمرُ بن عبد العزيز؟ فقالا:
لا.
وقد قال الله- تعالى-: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} (5).
وقال -سبحانه-: {وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين} (6).
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (7).
__________
(1) أخرجه أبو داود وغيره، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (958).
(2) سكَتَ وأسْكَت: لغتان بمعنى صمت، وقيل: أسكت بمعنى أطرق وقيل بمعنى
أعرض، "شرح النّووي". وانظر للمزيد من الفائدة ما قاله ابن الأثير -رحمه
الله- في "النّهاية".
(3) هُنَيَّةً: أي قليلاً من الزمان، وهو تصغير هَنَة. "النّهاية".
(4) أخرجه مسلم: 2913.
(5) النساء: 141.
(6) الروم: 47.
(7) محمد: 7.
(7/354)
وقال -سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ
رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ} (1).
والنُّصوص التي تبشّر بالنَّصر في هذا الباب كثيرة معلومة قد ذَكَرْتُها
تحت عنوان مستقلّ.
تأمّلات في الآيات المتقدّمة:
إنّ المتأمِّل في الآيات الكريمة يجد أنّ الله- تعالى- قد وعَد المؤمنين
بالنَّصر، واشترط على الناس أن ينصروه حتى ينصرهم، وفي الآية الأخيرة قال
ربُّنا - سبحانه-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ
الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}.
فظهور الأمَّة على سائر الأمم؛ لا يكون إلاَّ بالعمل بمقتضى الرسالة: وهو
الهدى ودين الحقِّ.
ولا بدَّ لنا أن نتعرَّف على صفات المؤمنين الذين لن يجعل الله للكافرين
عليهم سبيلاً، والذين أخذ الله الحقَّ على نفسه؛ أن ينصُرهم ويجعلَهم سادة
الأمم.
وهذه نماذجُ من صفات المؤمنين:
قال -تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} (2).
قلوبهم وجلة بذكره -سبحانه-، وإيمانهم يزداد بتلاوة آياته.
__________
(1) التوبة: 33.
(2) الأنفال: 2 - 4.
(7/355)
فكيف بمن هجَر الآيات؟!
وكيف بمن يفرح بالمعازف والأغاني؟!
وهل المعازف والأغاني هي مادَّة النّصر وسلاح المنتصرين؟!.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، ولم يَفْهَم معنى التوكُّل إلاَّ
القليل، وإذا ذكَّرْتهم بالتوكُّل على الله -تعالى- في الطعام والشراب
قالوا: " ... فإنّ السماء لا تمُطِر ذَهَباً ولا فِضّةً" لا بدَّ من أخْذ
الأسباب.
أوَليس النصر يا قوم يتطلَّب الأسباب!
وهل السماءُ تمُطِر نصراً!!!.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، بالمحافظة على مواقيتها وإسباغ
الطَّهور فيها وإتمام ركوعها وسجودها ... فكيف بمن لا يُصلَّي!.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، إنها الزكاة والصدقة التي تطهرهم،
قال -تعالى-: {خُذْ من أموالهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكّيهم بها}
....
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، أي: المتصِّفون بهذه الصفات هم
المؤمنون حقَّ الإيمان -كما قال المفسِّرون-، لا بالدعوى ولا بالزعم؛ أنّ
القلوب نقيَّة والأفئدة تقيّة ولو لم تُقَم الصلاة وتُؤْتَ الزكاة! وكم من
قائلٍ هذه المقولة مِمَّن يحلمون بالنّصر!.
وقال- تعالى-: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ
فَأُولَئِكَ هُمُ
(7/356)
الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ
لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى
صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ
يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (1).
ومن نماذج المجاهدين الخاشعين المنتصرين ما رواه جابر -رضي الله عنه- قال:
"خرَجْنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني في غزوة
ذات الرِّقاع - فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين، فحَلَف: أن لا أنتهيَ
حتى أهريق دماً في أصحاب محمد، فخرَج يتبع أثرَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلَ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
منزلاً، فقال: مَنْ رجلٌ يكْلَأُنا (2)؟ فانتُدِب رجلٌ من المهاجرين، ورجلٌ
من الأنصار، فقال: كُونا بفَمِ الشِّعْبِ. قال: فلمّا خرَج الرجلان، إلى فم
الشعب اضطجع المهاجريُّ، وقام الأنصاريُّ يُصلّي، وأتى الرجل، فلمّا رأى
شخصه؛ عَرَف أنّه ربيئةٌ (3) للقوم، فرماه بسهمٍ فوضَعَه فيه، فنزعَه حتى
رماه بثلاثة أسهم، ثمّ ركَع وسجَد، ثمّ انتبهَ صاحبه، فلمّا عَرَف أنهم
نَذِروا (4) به هَرَب، ولمّا رأى المهاجريُّ ما بالأنصاريِّ مِن الدماء
قال: سبحان الله! ألا أنبهتني أوّلَ ما رمى، قال: كنتُ في سورةٍ من القرآن
فلم أُحِبَّ أن أقطعَها" (5).
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}، معرضون عن الباطل
المتضمِّن الشركَ والمعاصي وما لا فائدة فيه مِن الأقوال -كما قال بعض
المفسِّرين-.
__________
(1) المؤمنون: 1 - 11.
(2) أي: يحفظنا ويحرسنا.
(3) هو العين والطليعة الذي ينظر للقوم؛ لئلاَّ يدهمَهم عدوٌّ، ولا يكون
إلاَّ على جبلٍ أو شَرَفٍ ينظُر منه. "النّهاية".
(4) أحسُّوا بمكانه.
(5) أخرجه أبو داود وغيره، وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح سنن أبي
داود" (182).
(7/357)
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ}، إلاَّ ما استثناه ربُّنا -سبحانه-، فكيف بمن يشتري بماله
الأجهزة الفاسدة التي تملأ سمْعَه لغواً وتَعْرِض له العورات من أقصى
البلاد؟
وكيف بمن يدفع بنفسه ليكون من العادين؟! وهل ينتصر العادون.
{وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}.
عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "القَتْل في سبيل الله يُكفِّر الذنوبَ
كلَّها إلاَّ الأمانة".
قال: يؤتى بالعبد يوم القيامة -وإنْ قُتِلَ في سبيل الله-، فيقال: أدِّ
أمانَتَك، فيقول: أيْ ربِّ! كيف وقد ذهَبَتِ الدنيا؟ فيُقال: انطلقوا به
إلى الهاوية، فيُنْطَلَقُ به إلى الهاوية، وتمُثَّل له أمانتُه؛ كهيئتها
يوم دُفِعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على
مَنْكِبَيْه، حتى إذا ظنَّ أنّه خارجٌ؛ زلَّت عن مَنْكِبَيْه، فهو يهوي في
أثرها أبد الآبدين.
ثمّ قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة،
-وأشياءَ عدَّدَها-، وأشدُّ ذلك الودائع" (1).
وناشدتكم الله؛ هل ينتصر خائنُ أمانةٍ وناقضُ عهدٍ!.
وقال- تعالى-: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ
فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ
اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ
__________
(1) أخرجه أحمد والبيهقي موقوفاً، وحسَّنه شيخنا -رحمه الله- في "صحيح
الترغيب والترهيب" (2995)، ولهذا حكم الرفع؛ لأنه لا يُقال في الغيبيات من
قبيل الرأي.
(7/358)
الْمَصِيرُ} (1).
فأين موالاة المؤمنين؟ وأين معاداة الكافرين؟ وهل تأملون نصراً ممَّن وصفه
الله بقوله {فليس من الله في شيءٍ}؟
وأين نحن من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ترى المؤمنين في
تراحُمهم وتوادِّهم وتعاطُفهم؛ كَمَثَلِ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ؛ تداعى
له سائر جسده، بالسهر والحمى" (2)؟
وأين نحن من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "المؤمن للمؤمن
كالْبُنيان يشدُّ بعضه بعضاً" (3)؟
وقال- سبحانه-: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (4)،
فكيف بمن يأمر بالمنكَر وينهى عن المعروف.
وقد قال- تعالى-: {إِلاَّ تَفعَلُوهُ} أي: أن يكون بعضكم أولياء بعض؛ كما
هو شأن الكُفَّار في هذه المسألة. {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (5)، ألسنا نعاين هذه الفتنة ونشهد هذا الفساد!.
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} (6)، فأين طاعة الله في توحيده واتِّباع نبيِّه
واجتناب البدع!.
__________
(1) آل عمر ان: 28.
(2) أخرجه البخاري: 6011 - واللفظ له-، ومسلم: 2586.
(3) أخرجه البخاري: 6026، ومسلم: 2585.
(4) التوبة: 71.
(5) الأنفال: 73.
(6) النساء: 59.
(7/359)
أين طاعة الله في الائتمار بما أمَر
والانتهاء عمّا نهى وزجَر.
وقال -سبحانه-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1)، فأَمارة الإيمان بالله واليوم
الآخر هو الردُّ إلى الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عند التنازع.
فكيف بمن يدرس القانون البشري ليردَّ إلى الأحكام الوضعيَّة.
وهل يجلب النصرَ من يردُّ أموره وشؤونه إلى غير الله ورسوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! وقد قال -سبحانه-: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ
لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2)، فمن كانت له الخِيَرة فيما يقضيه
الله ورسوله من أمر؛ فليس له الخِيَرَة أن يطلب النَّصر أو المجد أو
العزَّة.
وقال -سبحانه-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (3)، وكيف ينتصر مَن كثُر حرجُه
ممّا قضى لهم الشرع، وكانوا بمنأى عن التسليم له.
وقال -سبحانه-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} (4)، وكم
مِن هذه الأمّة ممّن قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، فكيف بمن نأى عن السماع
وفرَّ من الاستماع؟!
__________
(1) النساء: 59.
(2) الأحزاب: 36.
(3) النساء: 65.
(4) الأنفال: 20 - 21.
(7/360)
وهل هذه سمات المنتصرين!!.
وإليك - سدّدني الله وإياك:
عوامل الهزيمة وأسباب الدَّمار (1):
1 - ضعف الاهتمام بترسيخ الاعتقاد والإيمان وتحقيق التوحيد.
وسنَّةُ الله -تعالى- ماضيةٌ في نصر الدعاة إلى التوحيد؛ مِن الأنبياء
والرُّسل - عليهم السلام- والصحابة -رضي الله عنهم-.
2 - ضعف الاهتمام بترسيخ التأسي والاقتداء بالنبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والصحابة الكرام -رضي الله عنهم- ومنهج سلف الأمّة.
3 - وكذلك الخَلَل في التوكل على الله -سبحانه-، قال -تعالى-: {قُلْ لَنْ
يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى
اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2).
4 - التنازع والاختلاف، وضعف الائتلاف. قال الله -تعالى-: {وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ
مَعَ الصَّابِرِينَ} (3).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنّ النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لا تختلفوا فإنّ مَنْ كان قبلكم اختلفوا
فهلكوا" (4).
__________
(1) وسأذكرها بإجمالٍ دون تفصيل مخافة التطويل؛ بما يتناسب مع موضوع كتابنا
-نفَع الله به- علماً بأنَّ لي كتاباً مستقلاً بعنوان: لماذا هُزم
المسلمون؟ يسَّر الله -تعالى- إخراجه.
(2) التوبة: 51.
(3) الأنفال: 46.
(4) أخرجه البخاري: 2410.
(7/361)
عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جدِّه أنَّ
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعَث معاذاً وأبا موسى إلى
اليمن قال يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشّرا ولا تُنَفِّرا، وتطاوَعا ولا
تختلفا" (1).
5 - التحايل على الدين، ولاسيّما في أمور التجارة والبيع والشراء وتقدّم
غير بعيد حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إذا تبايعتم بالعِينَة، ... ".
6 - إدخال المظهريات الجوفاء والشكليات الخاوية في أمور الدين. "إذا
زوَّقتم مساجدكم وحلَّيْتُم مصاحفكم فالدمار عليكم" (2).
وأقول: وفي الحديث: "أيُّما أهلُ بيتٍ مِن العرَب والعجَم، أراد الله بهم
خيراً، أدخَل عليهم الإسلام، ثمّ تقع الفتن كأنها الظُّلل (3) " (4).
"وخرَج عمر بن الخطاب إلى الشام، ومعه أبو عبيدة بن الجراح، فأتَوا على
مخاضةٍ (5) وعمرُ على ناقة، فنزَل عنها، وخلَع خفَّيه، فوضعَهما على عاتقه،
وأخَذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة.
__________
(1) أخرجه البخاري: 3038، ومسلم: 1733، وتقدّم.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنَّف" وهناك خلاف بين رفْعه ووقْفه على أبي
الدرداء -رضي الله عنه- وانظر تخريجه في "الصحيحة" (1351)، وفيه رجَّح
شيخنا رفْعه.
قلت: ذكر شيخنا -رحمه الله- أن ابن أبي شيبة رواه مرفوعاً، وعزاه إلى
مخطوطة الظاهرية.
أقول: هي في المطبوعة برقم (3148) موقوفة على أبي سعيد: فالإسناد هكذا ...
عن سعيد بن أبي سعيد قال: قال أبي: وذكَره.
(3) الظُّلل: واحدتها ظُلَّة، كل ما أظلَّك؛ أراد كأنَّها الجبال
والسُّحُب. "النّهاية".
(4) أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما، وصحَّحه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة"
(51).
(5) الخوض: المشي في الماء، والموضع مخاضة: وهو ما جاز الناس فيها مشاة
وركباناً. "لسان العرب".
(7/362)
فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أأنت
تفعل هذا؟! تخلع خُفَّيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها
المخاضة؟! ما يسرُّني أنَّ أهل البلد استشرفوك!
فقال عمر: أَوْهِ (1)! لو يقل ذا غيرك يا أبا عبيدة؛ جعلته نَكالاً (2)
لأمَّة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنَّا كنَّا أذلَّ
قوم، فأعزَّنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به،
أذلَّنا الله" (3).
وفي رواية: "يا أمير المؤمنين! تلقاك الجنود وبطارقة الشام؛ وأنت على حالك
هذه؟! فقال عمر: إنَّا قوم أعزَّنا الله بالإسلام، فلن نبتغي العزَّ بغيره"
(4).
7 - القتال تحت الرايات العُمِّيَّة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "مَنْ خَرج من الطاعة،
وفارق الجماعة، فمات مات مِيتَةً جاهليِّةً. ومَنْ قاتل تحت رايةٍ
عُمِّيَّةٍ، يغضب لِعَصَبَةٍ، أو يدعو إلى عَصَبَةٍ، أو يَنْصُر عَصَبةً،
فقُتِل، فقِتْلَةٌ جاهليَّةٌ، ومَنْ خرَج على أمّتي، يضرب بَرَّها
وفاجرَها، ولا يتحاشَ (5) مِن
__________
(1) كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع، وبعضهم يفتح الواو مع
التشديد فيقول: "أوَّه". "النّهاية".
(2) أي: عِبرة.
(3) رواه الحاكم (1/ 61 - 62) من طريق طارق ابن شهاب وقال: صحيح على شرط
الشيخين، وأقره الذهبي، قال شيخنا -رحمه الله- وهو كما قالا، وانظر
"السلسلة الصحيحة" تحت الحديث (51).
(4) انظر المصدر السابق.
(5) في بعض النسخ والروايات يتحاشى أي: لا يكترث بما يفعله فيها، ويخاف
وبالَه وعقوبَته، وانظر "شرح النّووي".
(7/363)
مؤمنها، ولا يفي لذي عهْدٍ عَهْدَه، فليس
منّي ولست منه" (1).
فعجباً كيف يقود الأعمى المبصرين إلى ساحة الوغى!
وعن أبي العَجْلان المُحارِبي قال: "كنت في جيش ابن الزبير، فتوفي ابن عمٍّ
لي، وأوصى بجَمَلٍ له في سبيل الله، فقلت لابنه: ادفع إليَّ الجمل؛ فإنّي
في جيش ابن الزبير، فقال: اذهب بنا إلى ابن عمر حتى نسألَه.
فأتينا ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن! إنّ والدي تُوُفِّيَ، وأوصى بجملٍ
في سبيل الله، وهذا ابن عمي، وهو في جيشِ ابن الزبير، أفأدفع إليه الجمل؟
قال ابن عمر: يا بُنيّ! إنّ سبيل الله كلُّ عملٍ صالح، فإنْ كان والدك
إنّما أوصى بجمله في سبيل الله -عزَّ وجلَّ-، فإذا رأيت قوماً مسلمين يغزون
قوماً مِن المشركين، فادفع إليهم الجمل؛ فإنّ هذا وأصحابَه في سبيل غلمانِ
قومٍ أيُّهم يضع الطابَع" (2).
8 - عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن حذيفة -رضي الله عنه- عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "والذي نفسي بيده،
لتأْمُرُنَّ بالمعروف، ولتنْهونَّ عن المنكر، ولَيوشكنَّ الله أن يبعثَ
عليكم عِقاباً منه، ثمّ تدعونه فلا يستجيب لكم" (3).
9 - استيلاء الغفلة والشهوة والذنوب، قال -تعالى-: {إنَّ الله لا يُغَيِّرُ
مَا
__________
(1) أخرجه مسلم: 1848.
(2) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وانظر "صحيح الأدب المفرد" (284).
(3) أخرجه الترمذي "صحيح سنن الترمذي" (1762)، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (2313).
(7/364)
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأنفُسِهِمْ} (1).
10 - عدم تحمُّل المسؤولية، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته: الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته،
والرجل راعٍ في أهله، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها،
ومسؤولةٌ عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده وهو مسؤولٌ عن رعيَّته"
(2).
11 - البحث عن العزة بغير الدَّين، قال الله -تعالى-: {أَيَبْتَغُونَ
عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (3)، وقال
-تعالى-: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (4)،
وفيه قول عمر -رضي الله عنه- المتقدِّم: "إنَّا كنَّا أذلَّ قومٍ، فأعزَّنا
الله بالإسلام، فمهما طلبنا العزَّ بغير ما أعزَّنا الله به، أذلَّنا
الله".
12 - عدم معرفة قدْر العلماء الرَّبانيين، قال الله -تعالى-: {إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (5).
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "من سلك طريقاً يلتمس فيهِ
علماً سهَّل الله له طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب
العلم رضاً بما يصنع، وإنّ العالِم لَيسْتَغْفِرُ له مَن في السموات ومن في
الأرض، حتى الحيتان في الماء، وفَضْل العالم على العابد كفَضْل القمر على
سائر الكواكب، وإنّ العلماء وَرَثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يُورِّثوا
__________
(1) الرعد: 11.
(2) أخرجه البخاري: 893، واللفظ له، ومسلم: 1829.
(3) النساء: 139.
(4) المنافقون: 8.
(5) فاطر: 28.
(7/365)
ديناراً ولا درهماً إنما ورَّثوا العلم فمن
أخذَه أخذَ بحظٍّ وافر" (1).
وإنّ العلماء وَرَثة الأنبياء، فيجب تحكيم ورثته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعد وفاته.
وإنّك لتسمع في المصائب والملمّات والنّكبات: أين العلماء؟!.
فأقول: إن قوّة العلماء باستجابة الأمّة والمجتمعات. وهل أنتم مستجيبون
لتوجيهات العلماء؟!
أين استجابتكم في تحقيق التّوحيد تفقُّهاً وعَمَلاً بمقتضاه؟!
أين استجابتكم في تحقيق اتباع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- واجتناب البدعِ والضَّلالات؟!
أين استجابتكم في الاقتداء بالصحابة -رضي الله عنهم-؟!
أين استجابتكم في ترْك الربا والغيبة والنميمة؟!
أين استجابتكم في الائتمار بأوامِر الله واجتناب نواهيه؟!
فأين أنتم؟! أين أنتم؟! أين أنتم؟!.
13 - الخلاف بين الراعي والرعيَّة.
عن عوف بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "خِيارُ أئِمَّتكم الذين تحبُّونهم ويحبُّونكم،
ويُصلُّون عليكم وتُصلُّون عليهم، وشرارُ أئمّتكم الذين تُبغِضونهم
ويُبغِضونكم وتَلْعنونهم ويَلْعنونكم.
قيل: يا رسول الله! أفلا نُنَابذُهم بالسّيف؟ فقال: لا؛ ما أقاموا فيكم
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم، وحسَّنه لغيره شيخنا -رحمه
الله- في "صحيح الترغيب والترهيب" (70).
(7/366)
الصلاة، وإذا رأيتم مِن وُلاتِكم شيئاً
تكرهونه فاكرهوا عمَله ولا تَنْزِعوا يداً مِن طاعةٍ" (1)
واعلم -رحمني الله وإياك- أنّ المجتمع يتكوَّن من الراعي والرعيّة
والعلماء، فإذا لم يكن الحبُّ والتآلف والطاعة؛ كان الدَّمار والهزيمة،
وتعطيل الجهاد في سبيل الله -تعالى-.
فيجب السعي لتحصيل التوافق المذكور؛ إذ هو من السُّنَنِ الكونية التي لا
يمكن تجاهلها والتغافل عنها.
فالواجب على الحُكَّام أن يعلموا دورهم ومسؤوليتهم العظيمة؛ بالحكم بما
أنزَل الله -تعالى-، والعمل بمقتضى الكتاب والسنَّة؛ والرجوع إلى العلماء
الرَّبانيين؛ للإفادة منهم في ذلك. وعلى الأُمَّه طاعة الحُكّام والسلاطين
والأمراء.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 170): "وأولو الأمر:
أصحابُ الأمر وذووه؛ وهم الذينَ يَأْمُرون الناس؛ وذلك يشترك فيه أهلُ اليد
والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولوا الأمر صنفين: العلماء؛
والأمراء. فإذا صلَحوا صَلَح الناس، وإذا فَسَدوا فَسَد الناس".
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (28/ 394): "فإذا كان
المقصودُ بالسلطان والمالِ؛ هو التقربَ إلى الله وإنفاقَ ذلك في سبيله، كان
ذلك صلاحَ الدين والدنيا. وإنِ انفردَ السلطان عن الدين، أو الدين عن
السلطان؛ فسَدَت أحوالُ الناس، وإنّما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته
بالنية
__________
(1) أخرجه مسلم: 1855.
(7/367)
والعمل الصالح؛ كما في "الصحيحين" (1) عن
النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله لا ينظر إلى صوركم
ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم".".
وكذا ينبغي على العلماء أن يكونوا ربانيين، عاملين بمقتضى عِلْمهم، حتى
يظلّوا في مقام الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة.
14 - ترك الجهاد في سبيل الله -تعالى- عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن
النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إذا تبايعتم
بالعِينَة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتُم بالزَّرع، وتركتم الجهاد، سلَّط
الله عليكم ذُلاًّ لا يَنْزِعُه حتى ترجعوا إلى دينكم" (2).
وعن أبي بكرٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "ما ترَك قوم الجهاد؛ إلاَّ عمَّهم الله بالعذاب" (3).
قال شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة" (تحت الحديث 2663): "والحديث مِن أعلام
نبوّته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يشهَد بذلك واقع
المسلمين في كثيرٍ مِن البلاد، وما حادِثةُ مهاجمةِ اليهود للمسلمين، وهم
سجود صُبْح الجمعة مِن رمضان، هذه السنة (1414) في مسجد الخليل في فلسطين
ببعيد. وصدَق الله: {ومَا أصَابَكُمْ مِن
__________
(1) انظر "صحيح مسلم" (2564)، ولم أجده في "صحيح البخاري".
(2) أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني في "الكبير"، وخرَّجَه شيخنا -رحمه
الله- في "الصحيحة" برقم (11)، وتقدّم.
(3) أخرجه الطبراني في "الأوسط"، وخرجه شيخنا -رحمه الله- في "الصحيحة"
(2663)، وتقدّم.
(7/368)
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1). أسال الله -تعالى- أن يُلهم المسلمين الرجوع
إلى فَهْم دينهم فَهْماً صحيحاً، والعمل به ليُعزَّهم وينصرهم على
عدوِّهم".
عجباً من التخبُّط والعشوائية في طلب النَّصر
بعد هذا أقول: لا يكاد ينتهي عجبي مِن الموازين المقلوبة، التي يَزِن بها
أكثر الناس اليوم في شأن النَّصر والغَلَبة.
إنّهم يريدون النصر، ولكن لا أعلم بأيِّ ميزان -وإن كنت أعلم-!!
فلا هم بميزان الكُفَّار يَزِنون، فيقارنون القوة بالقوة والسلاح بالسلاح،
والإعداد بالإعداد والأعداد بالأعداد. ولا هم بميزان المؤمنين يَزِنون، من
الإعداد العقدي والروحي والمعنوي والمادي الممكن!
إنّها الدعوة إلى الجهاد مِن غير إعداد.
إنها الدعوة إلى الإغراق في حروب دون معرفة ما يُعَدُّ للحروب.
إنّها الدعوة إلى ميدان العسكرية؛ مع تجاهُل ما تتطلّبه العسكرية.
وإذا لم يأخذ المسلمون بأسباب النصر؛ وحصَلَت الهزيمة -لا قدر الله،
فلْيَحْذروا من اتهام الله- تبارك وتعالى- بما قضاه لهم به. عن عبادة بن
الصامت - رضي الله عنه- قال: "إن رجلاً أتى النبيّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا نبى الله! أيُّ العمل أفضل؟ قال: الإيمان
بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله.
__________
(1) الشورى: 30.
(7/369)
قال: أريد أهونَ مِن ذلك يا رسول الله!
قال: السَّماحة والصبر.
قال: أريد أهون مِن ذلك يا رسول الله! قال: لا تتَّهم الله -تبارك وتعالى-
في شيءٍ قضَى لك به" (1).
وقد قال الله -تعالى-: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (2).
البشرى بانتصار المسلمين وانتشار الإسلام
لقد ورَدَت نصوص عديدة؛ تُبشّر بانتصار المسلمين وظهور الإسلام على الأديان
كلِّها، والذي أَرمي إليه من هذا المبحث؛ ألاّ ييأس المسلم إذا رأَى ما
عليه المسلمون الآن؛ مِن ضعف وهوان وشتات وضياع، ولتنبعثَ الِهمَم وتنشط،
ويقوى الرجاء في القلوب ويعظُم، وليكون الإعداد للجهاد، كما أمَرَ الله
-تعالى- والنصر آت بإذن الله، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
*قال الله -عزّ وجلّ-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى
وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ} (3).
تُبشّرنا هذه الآية الكريمة بأنّ المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحُكمه
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني، وانظر "صحيح الترغيب والترهيب" (1307)،
و"الصحيحة" (3334).
(2) الشورى: 30.
(3) التوبة: 33.
(7/370)
على الأديان كلِّها، وقد يَظنُّ بعض الناس
أنّ ذلك قد تحقَّق في عهده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعهد
الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين، وليس كذلك، فالذي تحقَّق إنما هو جزءٌ
مِن هذا الوعد الصادق؛ كما أشار إلى ذلك النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بقوله:
"لا يذهبُ الليل والنهار حتى تعبد اللاّت والعُزّى، فقالت عائشة: يا رسول
الله إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ
كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنّ ذلك تامّاً، قال: إنّهُ سيكونُ من ذلك ما شاء
الله" (1) الحديث.
وقد وَرَدت أحاديثُ أخرى؛ توضح مبلغ ظهورِ الإسلام ومدى انتشاره؛ بحيث لا
يَدَعُ مجالاً للشكِّ في أن المستقبل للإسلام -بإذن الله وتوفيقه-.
قال شيخنا -رحمه الله-: "وها أنا أسوق ما تيسَّر من هذه الأحاديث؛ عسى أن
تكون سبباً لشحذِ هِمَم العاملين للإسلام، وحُجةً على اليائسين المتواكلين:
"إنّ الله زَوَى (2) لي الأرض، فرأيتُ مشارقها ومغاربها، وإنّ أمّتي سيبلغ
مُلكُها ما زُوي لي منها" (3). الحديث.
وأوضح منه وأعمّ الحديث التالي:
"ليَبْلُغَنَّ هذا الأمرُ ما بلَغ الليلُ والنّهار، ولا يَتركُ الله بيت
مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ
__________
(1) أخرجه مسلم: 2907.
(2) أي: جَمَعَ وضَمَّ.
(3) أخرجه مسلم: 2889.
(7/371)
أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ، أو
بذُلِّ ذليلٍ، عزّاً يُعزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يُذِلُّ به الكُفرَ"
(1).
ومما لا شكّ فيه؛ أن تحقيق هذا الانتشار، يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء؛
في معنوياتهم وماديّاتهم وسلاحهم، حتى يستطيعوا أن يتغلّبوا على قوى الكفر
والطغيان، وهذا ما يُبشِّرنا به الحديث [الآتي]:
"عن أبي قَبيلٍ قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص وسُئل: أيُّ
المدينتين تُفتَحُ أولاً: القسطنطينيةُ أو رُومية؟ فدعا عبد الله بصندوق له
حِلَق، قال: فأخرَج منه كتاباً (2)، قال: فقال عبد الله: بينما نحنُ حول
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نكتبُ؛ إذ سُئلَ رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أيّ المدينتين تُفتَح أولاً
أقسطنطينية أو رومية؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: مدينةُ هِرَقْل تُفْتَح أوّلاً. يعني قُسْطَنطينيَّة" (3).
و (رومية): هي روما، كما في "معجم البُلدان" وهي عاصمة إيطاليا اليوم. وقد
تحقَّق الفتح الأول على يدِ محمّد الفاتح العثماني؛ -كما هو معروف-، وذلك
بعد أكثر من ثمانمائة سنة مِن إخبار النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالفتح، وسيتحقّق الفتح الثاني بإذن الله -تعالى- ولا بد،
ولتعلمنَّ نبأه بعد حين.
__________
(1) أخرجه أحمد والطبراني في "المعجم الكبير" وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم،
وانظر "تحذير الساجد" (ص 118) و"الصحيحة" برقم 3.
(2) قال شيخنا -رحمه الله- في التعليق: قول عبد الله هذا رواه أبو زرعة
أيضاً في "تاريخ دمشق" (96/ 1) وفيه دليلٌ على أنّ الحديث كُتِب في عهده -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(3) أخرجه أحمد، والدارمي، وابن أبي شيبة في "المصنف" وغيرهم، وصححه الحاكم
ووافقه الذهبي، وقال شيخنا -رحمه الله-: هو كما قالا، وانظر "الصحيحة" برقم
(4).
(7/372)
ولا شك أيضاً أنّ تحقيق الفتح الثاني؛
يستدعي أن تعود الخلافة الراشدة إلى الأمّة المسلمة، وهذا ممّا يُبشّرنا به
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله في الحديث:
"تكون النُّبوَّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها الله إذا شاء أن
يرفعَها، ثمّ تكون خلافة على مِنهاج النُّبوَّة، فتكون ما شاء الله أن
تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ تكون مُلكاً عاضّاً (1) فيكون ما
شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء الله أن يرفعَها، ثمّ تكون مُلكاً
جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمّ يرفعها إذا شاء أن يرفعَها، ثمّ
تكون خلافة على منهاج النُّبوَّة، ثمّ سكَت" (2).* (3) انتهى.
ولمّا اشتدت العداوة مع اليهود؛ فلا بدّ من ذِكْر البُشرى بالانتصار عليهم.
فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "تقاتلون اليهود حتى يختبيَ أحدهم وراء الحجر،
فيقول: يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله" (4).
والنصوص في انتصار المسلمين وفتوحاتهم القادمة كثيرة والحمد لله، وأكتفي
بما تقدّم.
-تم بحمد الله تعالى-
__________
(1) أي: يُصِيبُ الرَّعيَّة فيه عسْفٌ وظُلْم؛ كأنَّهم يُعَضُّون فيه
عَضّاً. وانظر "النّهاية".
(2) أخرجه أحمد وغيره وانظر "الصحيحة" برقم (5).
(3) ما بين نجمتين من "السلسلة الصحيحة" بتصرّف يسير، تحت عنوان (المستقبل
للإسلام) انظر الأحاديث (1 - 5).
(4) أخرجه البخاري: 2925، ومسلم: 2921.
(7/373)
|