الموسوعة
الفقهية الميسرة في فقه الكتاب والسنة المطهرة عقد الأمان
إذا طلَب الأمانَ أيُّ فردٍ مِن الأعداء المحاربين، قُبِل منه، وصار بذلك
آمناً؛ لا يجوز الاعتداء عليه؛ بأيّ وجهٍ مِن الوجوه، يقول الله- سبحانه
وتعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ} (2). (3).
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "يقول تعالى لنبيِّه -صلوات الله وسلامه
عليه-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الذين أمَرْتُكَ بقتالهم،
وأحلَلْتُ لك استباحة
__________
(1) ما بين نجمتين من "مجموع الفتاوى" (28/ 564).
(2) التوبة: 6.
(3) انظر "فقه السُّنَّة" (3/ 48).
(7/258)
نفوسهم وأموالهم، {اسْتَجَارَكَ} أي:
استأمَنك، فأجِبْه إلى طِلْبته {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} أي:
القرآن تقرؤه عليه وتذكُر له شيئاً من أمر الدين تُقيم عليه به حُجَّة
الله، {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي: وهو آمِنٌ مُستمرّ الأمان حتى
يرجع إلى بلاده وداره ومأمنِه، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَعْلَمُونَ} أي: إنما شَرَعْنا أمانَ مِثْلِ هؤلاء ليعلموا دين الله،
وتنتشر دعوة الله في عباده.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في تفسير هذه الآية، قال: "إنسانٌ يأتيك
ليسمع ما تقول، وما أُنزِل عليك، فهو آمِنٌ حتى يأتيَك فيسمعَ كلام الله،
وحتى يبلغَ مأمنَه حيث جاء".
ومِن هذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعطي
الأمان لمن جاءه، مُسترشداً أو في رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعةٌ مِن
الرسُل مِن قريش، منهم: عروة بن مسعود، ومِكْرَز بن حفص، وسهيل بن عمرو،
وغيرهم؛ واحداً بعد واحد، يتردّدون في القضية بينه وبين المشركين، فرأَوا
مِن إعظام المسلمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما
بَهَرهم وما لم يشاهدوه عند مَلِكٍ ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم فأخبَروهم
بذلك، وكان ذلك وأمثالُه مِن أكبر أسباب هداية أكثرِهم (1).
__________
(1) قلت: يُشير الحافظ ابن كثير -رحمه الله- إلى قصة الحديبية وفيها" ...
ثمّ إنّ عروةَ جَعَل يرمُق أصحاب النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بعينيه، قال فوالله ما تنخَّم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخامةً إلاَّ وقعَت في كفِّ رجلٍ منهم، فدَلَكَ بها
وجهَه وجِلده وإذا أمَرَهم ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يَقْتتِلون
على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفضوا أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النَّظَر
تعظيماً له، فرجَع عروة إلى أصحابه، فقال: أيْ قومِ، والله لقد وَفَدْت على
الملوك، ووفدْتُ على قيصر وكسرى والنجاشيّ، والله إنْ رأيت مَلِكاً قطُّ
يُعظِّمه أصحابه ما يُعظِّم أصحابُ محمّد =
(7/259)
ولهذا أيضاً لمّا قَدِم رسولُ مسيلمةَ
الكذّاب على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال له:
"أتشهدُ أنَّ مسيلمة رسول الله؟ قال: نعم، فقال رسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لولا أن الرسلَ لا تُقتَل لضَربْتُ عُنُقَك" (1).
وقد قيّض الله له ضَرْب العُنُق في إمارة ابن مسعود على الكوفة، وكان يقال
له: ابن النواحة، ظَهَر عنه في زمانِ ابن مسعودٍ أنّه يشهد لمسيلمةَ
بالرسالة، فأرسَل إليه ابن مسعودٍ فقال له: إنك الآن لستَ في رسالة، وأمَرَ
به فضُرِبت عنقُه، لا رَحِمَه الله ولَعَنه (2).
والغرض أنّ مَن قَدِمَ من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو
تجارة، أو طَلَبِ صُلحٍ أو مهادنة أو حَمْلِ جِزية، أو نحو ذلك من الأسباب،
فطلَب من الإمام أو نائبه أمانًا -أُعطي أماناً ما دام مُتردّدًا في دار
الإسلام، وحتى يرجع
__________
= - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محمداً، والله إنْ يتنخم نخامة
إلاَّ وقَعَت في كفِّ رجلٍ منهم؛ فدلَك بها وجهه وجِلْده وإذا أمَرهم
ابتدروا أمْرَه وإذا توضَّأ كادوا يقتتلون على وَضوئه، وإذا تكلَّم خَفَضوا
أصواتَهم عنده، وما يُحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنه قد عَرَض عليكم
خُطَةَ رُشْدِ فاقبلوها" أخرجه أحمد، والبخاري (2731، 2732).
يرمُق: اْي يَلحظ، قال الحافظ -رحمه الله-: وذكَر الثلاثة [قيصر، وكسرى،
والنّجاشي] لكونهم أعظمَ ذلك الزَّمان.
(1) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيرهما.
(2) عن حارثةَ بنِ مُضرب أنّه أتى عبد الله فقال: "ما بيني وبين أحدٍ من
العرب حِنَةٌ وإني مرَرْتُ بمسجدٍ لبني حنيفة، فإذا هم يؤمنون بمسيلمة،
فأرسل إليهم عبد الله، فجيء بهم فاستتابَهم، غير ابن النواحة قال له: سمعْت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: لولا أنك رسولٌ
لضربتُ عنقَك. فأنت اليوم لست برسول، فأمَر قَرظَة بن كعب، فضَرَب عُنُقَه
في السوق، ثمّ قال: مَن أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق".
أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2400) وغيره.
(7/260)
إلى مأمِنه ووطنه.
لكن قال العلماء: لا يجوز أن يمكَّن مِن الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز
أن يمكَّن مِن إقامة أربعة أشهر، وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعةِ أشهر
ونقَص عن سنة قولان؛ عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله".
انتهى.
قلت: والذي يبدو أن الأمر يرجع إلى الحاكم، فهو الذي يرجّح المُدّة ما بين
الأربعة أشهر والسنة، مع تحرّي المصلحة، والله -تعالى- أعلم.
مَن أَمّنه أحد المسلمين صارَ آمناً
عنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عنْ أَبيه قَالَ: "خَطَبَنَا عَلِيٌّ -
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ (1)، وَعَلَيْهِ سَيْفٌ
فِيهِ صَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَقَالَ: وَالله مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ
يُقْرَأُ إِلَّا كِتَابُ اللهِ وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَةِ، فَنَشَرَهَا
فَإِذَا فِيهَا أَسَنَانُ الْإِبِلِ (2)، وإذَا فِيهَا: المدِينَةُ حَرَمٌ
مِن عَيْرٍ إِلَى كَذَا، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا؛ فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ الله وَالملَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ
مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً (3)، وَإِذَا فِيهِ: ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ
وَاحِدَةٌ (4)،
__________
(1) آجُرٍّ: هو الطوب المشويّ.
(2) أسنان الإبل: أي إبِل الدّيات؛ لاختلافها في العمد وشبهه والخطأ، وانظر
"شرح الكرماني" (25/ 46).
(3) لا يقبل الله صرفاً ولا عدلاً: قال الكرماني -رحمه الله- (25/ 46):
"الصرف: الفريضة، والعدل: النافلة، وقيل بالعكس".
(4) ذمّة المسلمين واحدة: قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "المراد
بالذِّمّة هنا الأمان، معناه أنّ أمان المسلمين للكافر صحيح"، وقال الحافظ
-رحمه الله- في الفتح (4/ 86): "أي أمانهم صحيح فإذا أمّن الكافرَ واحدٌ
منهم؛ حَرُم على غيره التعرّض له".
(7/261)
يَسْعَى بِهَا أدْنَاهُمْ (1)، فَمَنْ
أَخْفَرَ (2) مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالملَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً،
وَإِذَا فِيهَا: مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَاليهِ فَعَلَيْهِ
لَعْنَةُ الله وَالمُلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ
مِنْهُ صَرْفاً وَلَا عَدْلاً" (3).
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمّتهم أدناهم، ويجير
عليهم أقصاهم (4)، وهم يدٌ على مَن سواهم ... " (5).
جاء في "الروضة النديّة" (2/ 759): "وقد أجمَعَ أهل العِلم على أنّ مَن
أمّنه أحدُ المسلمين؛ صار آمناً.
وأمّا العبد، فأجاز أمانَه الجمهور، وأمّا الصبيّ، فقال ابن المنذر: أجمَعَ
أهل العِلم على أنّ أمانَ الصبيّ غيرُ جائز. انتهى. وأمّا المجنون فلا يصحّ
أمانُه بلا خلاف.
قلت: [أي: صاحب الروضة]: إنّما يصحّ الأمان مِن آحاد المسلمين، إذا أَمَّن
واحداً أو اثنين، فأمّا عَقْد الأمان لأهل ناحيةٍ على العموم؛ فلا يَصحّ
إلاّ مِن
__________
(1) يسعى بها أدناهم: أي: يتولّاها ويذهب ويجيء، والمعنى أنّ ذمّة المسلمين
سواءٌ صدَرَت مِن واحد، أو أكثر، شريفٍ أو وضيع؛ فإذا أمّن أحدٌ من
المسلمين كافراً وأعطاه ذمّة؛ لم يكن لأحدٍ نَقْضُه، فيستوي في ذلك الرجل
والمرأة والحرّ والعبد، لأن المسلمين كنفسٍ واحدة. "الفتح" (4/ 86).
(2) أخفرَ مسلماً: أي نقض العهد، وقال الإمام النّووي -رحمه الله-: "قال
أهل اللغة: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضْت عهده وخفرْته: إذا أمنته".
(3) أخرجه البخاري: 7300، وهذا لفْظُه، ومسلم: 1370.
(4) أي: أبعدهم.
(5) أخرجه أحمد وأبو داود (2751) "صحيح سنن أبي داود" (2390).
(7/262)
الإمام على سبيل الاجتهاد وتحرّي المصلحة
كَعَقْد الذّمّة؛ ولو جُعِل ذلك لآحاد النّاس؛ صار ذريعةً إلى إبطال
الجهاد". انتهى.
قلت: أمّا جواز أمانِ المرأة؛ فلعموم النصوص الواردة المتقدّمة؛ فهي تمضي
على الرجل والمرأة، وقد قال النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"النساء شقائق الرجال" (1).
ولا دليل على تخصيص ذلك بالرجال.
بل إنه قدر وَرد حديث صريحٌ يدلّ على صحة أمان المرأة.
فعن أمّ هانئ (بنت أبي طالب) قالت، قلت: "يا رسول الله زَعَم ابن أمّي (2)
أنّه قاتِلٌ رجلاً قد أجرْتُه، فلانَُ بنُ هُبَيرَة فقال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قد أجَرْنا مَن أجرْتِ يا أمّ هانئ"
(3).
قال الإمام النّووي -رحمه الله- (5/ 232): "واستدلَّ بعضُ أصحابنا وجمهور
العلماء بهذا الحديث؛ على صحّة أمان المرأة".
وجاء في "الروضة الندية" (2/ 759): "قال ابن المنذر: أجمَع أهل العِلم
__________
(1) أخرجه أبو داود، والترمذي "صحيح سنن الترمذي" (98) وانظر "المشكاة"
(441) وتقدّم في "كتاب الآذان".
(2) قال الإمام النّووي -رحمه الله-: "وإنما قالت: ابن أمّي مع أنّه ابن
أمّها وأبيها؛ لتأكيد الحرمة والقرابة والمشاركة في بطن واحد، وكثرة ملازمة
الأمّ، وهو موافق لقول هارون - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
{يَبنَؤُمَّ لَا تَأخُذ بِلِحيتِي}. انتهى.
قلت: وهو عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- كما في روايةٍ عند البخاري:
(3171)، ومسلم: (1/ 489) (كتاب صلاة المسافرين وقِصَرها) "باب استحباب صلاة
الضحى" (336 - 82).
(3) أخرجه البخاري: 357، ومسلم: 336.
(7/263)
على جواز أمان المرأة" (1).
وأمّا عدم قَبولِ أمانِ الصبيّ والمجنون؛ فلقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لي: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبيّ،
حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يَعْقِل" (2).
تحريم قتل المؤمَّن
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: لكل غادر لواء يوم القيامة يُعرَف به" (3).
وعن رفاعة بن شداد القِتباني قال: "قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: من أمَّنَ رَجُلاً على دَمِهِ فَقَتَلَهُ؛ فأَنا بريءٌ مِن
القاتل، وإنْ كان المقتول كافِراً" (4).
وفي رواية: "من أَمَّن رجلاً على دمه فقتَله، فإنّه يحمل لواء غدرٍ يوم
القيامة" (5).
حُكم الرسول كالمؤَمّن
وحُكم الرسول كحُكم المؤَمّن.
__________
(1) انظر "الإجماع" لابن المنذر (ص 61) (رقم 247).
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (3703) والترمذي "صحيح سنن
الترمذي" (1150) وابن ماجه "صحيح سنن ابن ماجه" (1661)، وانظر "الإرواء"
(297).
(3) أخرجه البخاري: 3186، 3187، ومسلم: 1737.
(4) أخرجه البخاري في "التاريخ"، والطحاوي في "المشكل"، والطبراني في
"الصغير" وغيرهم، وحسّنه شيخنا -رحمه الله- إسناده في "الصحيحة" تحت (440).
(5) أخرجه البخاري في "التاريخ"، وابن ماجه وغيرهما وانظر "الصحيحة" (440).
(7/264)
عن نُعَيم بن مسعود الأشجعي قال: "سمعْتُ
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول لهما (1) حين قَرَأ
كتاب مسيلمة: ما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال، قال: أمَا والله لولا
أنّ الرسل لا تُقتَل لضربْتُ أعناقَكما" (2).
وعن أبي رافع -رضي الله عنه- قال: "بَعَثَتْني قريش إلى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلمّا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله إني
والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إني لا أخِيسُ (3) بالعهد ولا أحبِس البُرُد (4)، ولكن
ارجِعْ، فإنْ كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع (5)، قال: فذهبت، ثمّ
أتيت النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمْتُ" (6).
قال في "سُبل الإسلام" (4/ 120): "وفي الحديثِ دليلٌ على حِفظ العهد
__________
(1) أي: لرسولي مسيلمة الكَذّاب.
(2) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2399) وغيره وانظر "المشكاة"
(3982). وتقدّم.
(3) أي: لا أغدر.
(4) البُرُد: جمع بريد؛ وهو الرسول.
(5) أي: لا تُقِم بين ظَهرانَينا وتُظهرَ الإسلام، ولكن ارجع إليهم، فإن
ثبَتّ على ما أنت عليه الآن، فارجِع مِن الكُفّار إِلينا، ثمّ أسْلِم لأنّي
لو قَبِلْتُ منك الإسلام الآن، وما أرُدُّك عليهم؛ لغَدرت، قاله ابن الملك،
وفيه أنّ قَبولَ الإسلام منه لا يكون غدراً، ولا يُتصوّر أن يكون عدمُ
حَبْسه له غدراً، بل المراد منه أنّه لا يُظهر الإسلام، ويرجع إليهم حيث
يتعذر حبْسه، فإنّه أرفق، ثمّ بعد ذلك يرجع إلى الحقّ على الطريق الأحقّ.
"المرقاة" (7/ 537).
(6) أخرجه أحمد وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2396) وغيرهما، وانظر
"الصحيحة" (702).
(7/265)
والوفاء به ولو لكافر، وعلى أنّه لا يُحبَس
الرسول، بل يُرَدُّ جوابه فكأنّ وصولَه أمانٌ له؛ فلا يجوز أن يُحبَس بل
يُردّ".
وجاء في "السيل الجرار" (4/ 560) -في تأمين الرُّسُل-: " ... وجْهُه أنّ
تَأمينَ الرُّسلِ ثابت في الشريعة الإسلامية ثبوتاً معلوماً، فقد كان رسولُ
الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يَصِل إليه الرّسلُ من الكفار، فلا يتعرّض
لهم أحد مِن أصحابه، وكان ذلك طريقةً مستمرة وسُنّةً ظاهرة، وهكذا كان
الأمر عند غيرِ أهل الإسلام مِن ملوك الكفر، فإن النبيّ -صلى الله عليه
وآله وسلم- كان يُرَاسلهم من غير تَقدُّم أمانٍ منهم لرُسُلِه، فلا يتعرض
لهم مُتعرّض.
والحاصل أنّه لو قال قائل: إنّ تأمين الرسل قد اتفقت عليه الشرائع، لم يكن
ذلك بعيداً، وقد كان أيضاً معلوماً ذلك عند المشركين أهل الجاهلية عَبَدة
الأوثان، ولهذا إنّ النبيّ -صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لَوْلا أنَّ
الرُّسلَ لا تُقْتلُ لضربتُ أعْناقَهُما" قاله لرسولي مسيلمة أخرجه أحمد
وأبو داود فقوله: "لولا أنَّ الرُّسَلَ لا تُقْتلُ" فيه التصريح بأنَّ شأنَ
الرُّسل أنهم لا يُقتلون في الإسلام وقبلَه".
المستأمَن
*المستأمَن: هو الحربيّ الذي دخَل دار الإسلام بأمان، دون نيةِ الاستيطان
بها، والإقامةِ فيها بصفةٍ مستمرّةٍ، بل يكون قصْدُه إقامةَ مدّةٍ معلومةٍ،
لا تزيد على سَنةٍ، فإن تجاوَزَها (1)، وقصَد الإقامة بصفةٍ دائمةٍ، فإنه
يتحوّل إلى ذميّ، ويكون له
__________
(1) هذا كلام الفقهاء؛ وتقدم قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "لكن قال
العلماء: لا يجوز أن يُمكَّن مِن الإقامة في دار الإسلام سَنَة، ويجوز أن
يمكَّن مِن إقامة أربعة أشهر، وفيما =
(7/266)
حُكم الذّمّي في تبعيَّته للدولة
الإسلامية، ويتبعُ المستأمنَ في الأمان، ويلحقُ به زوجتُه وأبناؤُه الذكور
القاصرون، والبناتُ جميعاً، والأمّ، والجدات، والخدَم، ما داموا عائشين مع
الحربي الذي أُعطي الأمان.
وأصْل هذا قول الله- سبحانه وتعالى-: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ
مَأْمَنَهُ} (1).
وجاء في "المغني" (10/ 605): "وليس لأهلِ الحرب دخولُ دارِ الإسلام بغير
أمان؛ لأنه لا يُؤمَن أن يَدْخُل جاسوساً، أو مُتلصّصاً، فيُضِرّ
بالمسلمين، فإنْ دخَل بغيرِ أمانٍ، سُئل، فإنْ قال: جئت رسولاً، فالقول
قوله؛ لأنه تتعذر إقامة البينة على ذلك، ولم تزل الرُسل تأتي من غير
تَقَدُّمِ أمان.
وإنْ قال: جئتُ تاجراً، نظرنا؛ فإنْ كان معه متاع يبيعه، قُبِل قوله أيضاً،
وحُقن دمُه؛ لأنَّ العادةَ جارية بدخول تُجارهم إلينا، وتُجّارنا إليهم،
وإنْ لم يكن معه ما يُتّجَر به، لم يُقبل قوله؛ لأن التجارة لا تحصُل بغير
مال، وكذلك مُدّعي الرسالة، إذا لم يكن معه رسالة يؤديها، أو كان ممن لا
يكون مثله رسولاً.
وإنْ قال: أمَّنَني مُسلم، فهل يُقبَل منه؟ على وجهين؛ أحدهما، يُقبَل،
تغليباً لحقْن دَمهِ، كما يُقبَل من الرسول والتاجر.
والثاني: لا يُقبَل؛ لأن إقامَة البيّنة عليه ممكنة، فإنْ قال مسلم: أنا
أمَّنتُه قُبلَ
__________
= بين ذلك؛ فيما زاد على أربعةِ أشهر ونقَص عن سنة قولان؛ عن الإمام
الشافعي وغيره من العلماء، رحمهم الله".
(1) التوبة: 6.
(7/267)
قوله؛ لأنه يملك أن يُؤمِّنه، فقُبِل قوله
فيه؛ كالحاكم إذا قال: حَكَمْت لفلان على فلان بحقّ.
وإنْ كان جاسوساً، خُيّر الإمام فيه بين أربعة أشياء؛ كالأسير".
حقوقه
وإذا دخَل الحربيُّ دار الإسلام بأمان؛ كان له حقُّ المحافظةِ على نفسه
وماله وسائِر حقوقه ومصالحه؛ مادام مُستمسِّكا بعقد الأمان ولم ينحرف عنه.
ولا يحل تقييد حُريتِه، ولا القبض عليه مُطلَقاً، سواء قُصِدَ به الأسر، أو
قُصِد به الاعتقال -لمجرَّد أنهم رعايا الأعداء، أو لمجرّد قيامِ حالِة
الحرب بيننا وبينهم.
الواجب عليه
وعليه المحافظة على الأمن والنظام العامّ، وعدم الخروج عليهما، بأن يكون
عيناً، أو جاسوساً، فإن تجسَّسَ على المسلمين لحساب الأعداء، حلَّ قَتْلُه
إذ ذاك.
تطبيق حكم الإسلام عليه
تُطبَّق على المستأمَنِ القوانين الإسلامية بالنسبة للمعاملات المالية،
فيَعقِد عَقْد البيع وغيره مِن العقود؛ حسب النظام الإسلامي، ويُمنَع ِمن
التعامل بالربا، لأن ذلك محُرَّم في الإسلام.
وأمّا بالنسبة للعقوبات، فإنّه يعاقَب بمقتضى الشريعة الإسلامية إذا اعتدى
على حقّ مسلم.
(7/268)
وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمّي، أو
مستأمَن مِثلِه؛ لأنّ إنصافَ المظلوم مِن الظالم وإقامةَ العدل مِن
الواجبات التي لا يَحلّ التساهلُ فيها.
وإذا كان الاعتداء على حقٍّ مِن حُقوق الله؛ مثل اقتراف جريمة الزنا؛ فإنّه
يُعاقَب كما يُعاقَب المسلم؛ لأنّ هذه جريمةٌ مِن الجرائم التي تُفسد
المجتمع الإسلامي (1).
مُصادرة ماله
ومال المستأمَن لا يُصادَر إلاَّ إذا حارَب المسلمين، فأُسِر واستُرِقّ،
وصار عبداً، فإنه في هذه الحال؛ تزول عنهُ مُلكيّة مالِه، لأنه صار غيرَ
أهلٍ للملكية.
ولا يستحق الوَرَثة، -ولو كانوا في دار الإسلام- شيئاً، لأنَّ استحقاقهم
يكون بالخلافة عنه، وهي لا تكون إلاَّ بعد موته، وهو لم يمت، وماله في هذه
الحال يؤول إلى بيت مال المسلمين، على أنّه من الغنائم [والله -تعالى-
أعلم].
ميراثه
إذا ماتَ المستأمَن في دار الإسلام، أو في دار الحرب، فإنَّ ملكيته لماله
لا تَذهب عنه، وتَنْتقل إلى وَرَثَتِه عند الجمهور، خلافاً للشافعي.
وعلى الدولة الإسلامية؛ أن تَنْقُل مالَه إلى وَرَثَتِه، وتُرسلَه إليهم،
فإنْ لم يكن له ورثة، كان ذلك المال فيئاً للمسلمين.* (2) [والله -تعالى-
أعلم].
__________
(1) وانظر الجزء السادس من هذا الكتاب "الموسوعة" (باب وجوب الحدّ على
الكافر والذمّي).
(2) ما بين نجمتين من "فقه السنة" (3/ 485، 486) بحذف، وإضافة ما جاء في
"المُغني" (10/ 605).
(7/269)
العهود والمواثيق
*احترامُ العهود:
إنَّ احترامَ العهودِ والمواثيق واجبٌ إسلاميّ؛ لما له مِن أثرٍ طيِّب،
ودورٍ كبير في المحافظة على السلام، وأهميةٍ كبرى في فضِّ المشكلات، وحَلِّ
المنازعات، وتسوية العلاقات.
والله -سبحانه- يأمُر بالوفاء بالعهود، سواءٌ أكانت مع الله، أم مع النّاس،
فيقول: {يا أيُّهُا الذين آمَنُوَا أَوفُوا بالعُقُودِ} (1).
وأيّ تقصيرٍ في الوفاء بهذا الأمر يُعَدُّ إثماً كبيراً؛ يستوجِب المقت
والغضَب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا
تَفْعَلُونَ} (2).
وكل ما يقطعه الإنسان على نفسه مِن عهدٍ، فهو مسؤول عنه، ومحاسَبٌ عليه:
{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (3).
[وحقُّ العهد مُقدَّم على حقِّ نَصْرِ مَن استنصَر في الدين لقوله -تعالى-:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ
مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4)].
__________
(1) المائدة: 1.
(2) الصف: 2 - 3.
(3) الإسراء: 34.
(4) الأنفال: 72.
(7/270)
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله:
{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا
عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يقول -تعالى-: وإن استنصروكم هؤلاء الأعراب، الذين لم
يُهاجروا في قتالٍ دينيّ، على عدوٍّ لهم فانصُروهم، فإنّه واجبٌ عليكم
نَصْرهم؛ لأنهم إخوانكم في الدّين، إلاَّ أن يستنصروكم على قومٍ مِن
الكُفَّار {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي: مُهادنة إلى مُدّة، فلا
تخفِروا ذمَّتكم، ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم. وهذا مرويٌّ عن ابن
عباس -رضي الله عنهما-" انتهى.
والوفاء جُزءٌ من الإيمان، عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ النبيّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنّ حُسنَ العهد مِن الإيمان" (1).
وليس للوفاء جزاءٌ إلاَّ الجنَّة: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ
يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ
الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (2).
ولقد كان الوفاء خُلُقَ الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام-:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ
وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} (3).
وقد عاهدَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد الهجرة
اليهود عهداً، [أَمَّنَهم على دمائهم، وأموالهم]، بشرط ألا يُعينوا عليه
المشركين، فنقَضُوا العهد، ثمّ اعتذروا، ثمّ
__________
(1) أخرجه الحاكم وغيره وانظر "صحيح الجامع" (2052) و"الصحيحة" -لزاماً-
تحت رقم (216).
(2) المؤمنون: 8 - 11.
(3) مريم: 54.
(7/271)
رجَعوا فنقضوه مرّةً أخرى، فأنزَل الله-
عزّ وجلّ-: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ
عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ * فَإِمَّا
تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (1)} (2).
وفي التشنيع على الناقضين للعهود، يقول الله -عزّ وجلّ-: {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا
مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا
بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا
يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا
كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (3).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: "آيةُ المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَب، وإذا وعَد أخلَف،
وإذا أؤتمُن خان" (4).
وعن أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: "مَن قَتَل
__________
(1) قال ابن كثير -رحمه الله-: "أخبَر -تعالى- أنّ شرَّ ما دبّ على وجه
الأرض؛ همُ الذين كفَروا فهم لا يؤمنون، الذين كلّما عاهدوا عهداً نَقضوه،
وكلّما أكّدوه بالأيمان نَكثوه، {وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ} أي: لا يخافون مِن
الله في شيءٍ ارتكبوه مِن الآثام.
{فإما تثقفنهم في الحرب} أي: تَغْلبهم وتظفر بهم في حرب، {فَشَرِّدْ بِهِم
مَنْ خلفَهُم} أي: نكِّل بهم، [قاله: ابن عباس -رضي الله عنهما- وغيره]
ومعناه: غَلِّظ عقوبَتَهم، وأثخِنْهم قَتْلاً، ليخاف مَن سواهم مِن الأعداء
-مِن العرب وغيرهم- ويصيروا لهم عِبرة".
(2) الأنفال: 55 - 57.
(3) النحل: 91 - 92.
(4) أخرجه البخاري: 33، ومسلم: 59.
(7/272)
مُعاهَداً (1) في غير كُنهِهِ (2) حرّم
الله عليه الجنّة" (3).
شروط العهود:
ويشترط في العهود التي يجب احترامها والوفاء بها، الشروط الآتية:
1 - ألا تخالف حُكْماً مِن الأحكام الشرعية المتَّفق عليها.
عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: ما كان مِن شرط ليس في كتاب الله فهو باطل؛ وإنْ كان مائةَ
شرط" (4).
2 - أن تكون عن رضا واختيار، فإنَّ الإكراه يَسْلُب الإرادة، ولا احترامَ
لعقْدٍ لم تتوفر فيه حريتُها.
3 - أن تكون بيّنةً واضحةً، لا لُبْس فيها ولا غموض؛ حتى لا تؤوّلَ تأويلاً
يكون مثاراً للاختلاف عند التطبيق.
نقض العهود:
ولا تُنقَضُ العهود إلاّ في إحدى الحالات الآتية:
1 - إذا كانت مؤقتةً أو مُحدَّدةً بظرف، وانتهت مدّتُها أو ظرفُها.
__________
(1) المعاهَد: مَن كان بينك وبينه عهد، وأكثر ما يُطلَق في الحديث على أهل
الذمّة، وقد يُطلَق على غيرهم من الكُفار؛ إذا صولحوا على تَرْك الحرب
مُدّة ما. "النّهاية".
(2) كُنه الأمر: حقيقته وقيل: وقْتُه وقَدره، وقيل: غايته، يعنيَ من
قَتَلَه في غير وَقْتِه أو غاية أمرِه الذي يجوز فيه قَتْلُه. "النّهاية".
(3) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2398)، وغيرهما.
(4) أخرجه البخاري: 2729، ومسلم: 1504.
(7/273)
عن سُلَيم بن عامر -رجلٍ مِن حِمْيَر- قال:
"كان بين معاويةَ وبينَ الروم عهدٌ، وكان يسيرُ نحو بلادِهم؛ حتى إذا انقضى
العهد غزاهم، فجاء رجلٌ على فرَس أو بِرذَون (1)، وهو يقول: الله أكبر،
الله أكبر، وفاء لا غَدر، فنظروا فإذا عمرو بن عَبَسَة، فأرسل إليه معاوية
فسأله فقال: سمعْتُ رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: مَن
كان بينه وبين قوم عهد؛ فلا يشدَّ عقدةً ولا يحُلّها (2) حتى ينقضيَ أمدُها
أو يَنْبِذَ (3) إليهم (4) على سواء (5)، فرجع معاوية (6) " (7).
قال الله- تعالى-: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} (8).
__________
(1) قال في "المرقاة" (7/ 535): "المراد بالفرس هنا العربيّ، والبِرذَون
التركي من الخيل".
(2) يَحُلُّها مِن الحلّ، بمعنى نقْض العهد، والشدّ ضدّه، والظاهر أنّ
المجموع كناية عن حِفظ العهد، وعدم التعرض له، ولفظ الترمذي "فلا يحلّن
عهداً ولا يشدنّه" قال في "المرقاة" (7/ 536): "أراد به المبالغة عن عدم
التغيير، وإلا فلا مانع من الزيادة في العهد والتأكيد، والمعنى: لا
يُغيّرنّ عهداً ولا ينقضنّه بوجه ... قال الطيبي: هكذا بجملته عبارة عن عدم
التغيير في العهد، فلا يذهب على اعتبار معاني مفرداتها".
(3) أي يرمي عهدَهم.
(4) بأن يُخبرهم أنّ نقض العهد على تقدير خوفِ الخيانة منهم "المرقاة" (7/
536).
(5) قال الطيبي: "قوله: (على سواء): حال. قال المظهر: أي يُعلمهم أنّه يريد
أن يغزوَهم، وأنّ الصلح قد ارتفَع، فيكون الفريقان في عِلم ذلك سواء".
انظر"المصدر السابق".
(6) أي بالناس، وهي بعض الروايات الثابتة. وانظر "صحيح سنن الترمذي"
(1285).
(7) أخرجه أبو داود "صحيح سنن أبي داود" (2397) والترمذي، "صحيح سنن
الترمذي" (1285)، وانظر "المشكاة" (3980).
(8) التوبة: 4.
(7/274)
2 - إذا أخلّ العدو بالعهد: {فَمَا
اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُتَّقِينَ} (1). {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ
عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ
إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا
تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ
الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (2).
3 - إذا ظهرت بوادر الغدر، ودلائل الخيانة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا
يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} (3).
قلت: قال ابن كثير -رحمه الله-: "يقول -تعالى- لنبيّه صلوات الله وسلامه
عليه {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} قد عاهدْتهم {خِيَانَةً}
أي: نَقْضًا لما بينك وبينهم؛ مِن المواثيق والعهود، {فَانْبِذْ
إِلَيْهِمْ} أي: عَهْدَهم {عَلَى سَوَاءٍ} أي: أعْلِمْهم بأنك قد نقضْتَ
عهدَهم؛ حتى يبقى عِلمُك وعِلْمَهم بأنك حرْبٌ لهم، وهم حَرْبٌ لك، وأنه لا
عهدَ بينك وبينهم على السواء، أي: تستوي أنت وهم في ذلك، قال الراجز:
فَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدّر الأعْداء ... حتى يجيبوك إلى السواء
وعن الوليد بن مسلم أنّه قال في قوله: {فانبِذْ عَلَى سَوَاءٍ} أي: على
مهل، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} أي: حتى ولو في حقّ
الكافرين، لا يحبّها أيضاً.
__________
(1) التوبة: 7.
(2) التوبة: 12 - 13.
(3) سورة الأنفال: 58.
(7/275)
الإعلام بالنقض تحرُّزاً عن الغدر
إذا عَلِم الحاكم الخيانة ممّن كان بينهم وبين المسلمين عَهْد؛ فإنّه لا
تَحِلّ محاربتُهم إلاَّ بعد إعلامهم بنبذ العهد، وبلوغِ خَبرِهِ إلى القريب
والبعيد، حتى لا يُؤخَذوا على غِرّة.
يقول الله- سبحانه- في سورة الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ
خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْخَائِنِينَ} (1).
قال محمّد بن الحسن في كتاب "السير الكبير": لو بَعث أمير المسلمين إلى
مَلِك الأعداء، مَن يُخبره بنبذ العهد عند تحقّق سبَبه، فلا ينبغي للمسلمين
أن يُغيروا عليهم وعلى أطراف مملكتهم؛ إلاَّ بعد مُضيّ الوقت الكافي، لأن
يبعثَ الملِك إلى تلك الأطراف؛ خَبَر النبْذ حتى لا نأخذَهم على غِزة.
ومع ذلك إذا عَلِم المسلمون يقيناً أن القوم لم يأتهم خبرٌ مِن قِبَل
مَلِكِهم؛ فالمستَحبّ لهم أن لا يُغيروا عليهم حتى يعلموهم بالنبذ؛ لأن هذا
شبيه الخديعة.
وكما على المسلمين أن يتحرزوا مِن الخديعة، عليهم أن يتحرزوا من شبه
الخديعة.
وحدث أنّ أهل قبرص أحدثوا حَدَثاً عظيماً في ولاية عبد الملك بن مروان،
فأراد نَبْذ عهدِهم ونقْض صُلحهم، فاستشار الفقهاءَ في عصره، منهم الليث بن
سعد ومالك وأنس، فكتَبَ الليث بن سعد: إن أهل قبرص لا يزالون متّهمين
__________
(1) سورة الأنفال: 58.
(7/276)
بغش أهل الإسلام ومناصحة أهل الأعداء
-الروم- وقد قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً
فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} وإنّي أرى أن تنبِذَ إليهم، وأنْ
تنظرَهم سنة.
أمّا مالك بنُ أنس فكتب في الفتيا يقول: إنَّ أمان أهلِ قبرص وعهدهم؛ كان
قديماً متظاهراً مِن الولاة لهم، ولم أجِدْ أحداً مِن الولاة نقَضَ
صُلحَهم، ولا أخرَجَهم من ديارهم، وأنا أرى أن لا تعجلَ بمنابذتهم؛ حتى
تتجه الحُجَّة عليهم؛ فإن الله يقول: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ
إِلَى مُدَّتِهِمْ} (1).
فإن لم يستقيموا بعد ذلك، ويدَعَوا غشَّهم ورأيت الغدر ثابتاً فيهم؛
أوقعْتَ بهم بعد النبذ والإعذار، فرُزِقْتَ النصر، فرُزقْتَ النصر* (2).
قلت: والمتأمّل فيما سَبَق من أقوال الفقهاء؛ يرى اتفاقهم؛ لكن موطن
الخلاف: هل التخوّف كائنٌ؛ من خيانة أهل قبرص العهد أم لا، وعليه؛ فإنّ
الأمر يرجع إلى تقدير الإمام والله -تعالى- أعلم.
إقرار القوانين الدّولية في تحريم قتل الرسل
عن نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِي قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لهما (3) حِينَ قَرَأَ
كِتَابَ مُسَيْلِمَةَ: مَا تَقُولانِ أَنْتما؟ قَالَا: نَقُولُ كَمَا
قَالَ، قَاَلَ: أمَا وَاللهِ لَوْلَا
__________
(1) التوبة: 4.
(2) ما بين نجمتين من فقه السُّنَّة (3/ 487 - 491) بحذف وإضافة بعض النصوص
وتفسير ابن كثير -رحمه الله-.
(3) أي: لرسولي مسيلمة الكَذّاب.
(7/277)
أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا" (1).
قلت: فالمصلحة تقتضي عدم قَتْل الرُّسل؛ الذين يُبتعثون للتفاوض والتفاهم
والحوار، مهما بلغ فسادُ اعتقادهم، إذ لو مضى القتل في هؤلاء الرُّسل؛ لما
كان هناك مجالٌ لتبليغ الدعوة، أو تحقيق المصالح، أو دفْع المفاسد. |