بستان
الأحبار مختصر نيل الأوطار كِتَابُ الطَّهَارَةِ
أَبْوَابُ الْمِيَاهِ
بَابُ طَهُورِيَّةِ مَاءِ الْبَحْر وَغَيْرِهِ
1- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا الْقَلِيلَ مِنْ
الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ، بِمَاءِ
الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
2- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ -
فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوا فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ
يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، فَرَأَيْت الْمَاءَ
يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ
آخِرِهِمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3- وَمُتَّفَقٌ عَلَى مِثْلِ مَعْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (كِتَابُ الطَّهَارَةِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَلَمَّا كَانَتْ
مِفْتَاحَ الصَّلاةِ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ. افْتَتَحَ
الْمُؤَلِّفُونَ بِهَا مُؤَلَّفَاتِهِمْ. وَالأَبْوَابُ: جَمْعُ بَابٍ
وَهُوَ حَقِيقَةٌ لِمَا كَانَ حِسِّيًّا يُدْخَلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ
وَمَجَازٌ لِعِنْوَانِ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَسَائِلِ
(1/9)
الْمُتَنَاسِبَةِ. وَالْمِيَاهُ جَمْعُ
الْمَاءِ وَجَمْعُهُ مَعَ كَوْنِهِ جِنْسًا لِلدَّلالَةِ عَلَى اخْتِلافِ
الأَنْوَاعِ.
قَوْلُهُ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . قَالَ
الشَّارِحُ: قَالَ فِي شَرْحِ الإِلْمَامِ: فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَمْ
يُجِبْهُمْ بِنَعَمْ حِينَ قَالُوا: (أَفَنَتَوَضَّأُ بِهِ) ؟ قُلْنَا:
لأَنَّهُ
يَصِيرُ مُقَيَّدًا بِحَالِ الضَّرُورَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ الاقْتِصَارِ عَلَى الْجَوَابِ بِنَعَمْ أَنَّهُ
إنَّمَا يُتَوَضَّأُ بِهِ فَقَطْ، وَلا يُتَطَهَّرُ بِهِ لِبَقِيَّةِ
الأَحْدَاثِ وَالأَنْجَاسِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَمِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ
مَشْرُوعِيَّةُ الزِّيَادَةِ فِي الْجَوَابِ عَلَى سُؤَالِ السَّائِلِ
لِقَصْرِ الْفَائِدَةِ وَعَدَمُ لُزُومِ الاقْتِصَارِ، قَالَ ابْنُ
الْمُلَقِّنِ: إنَّهُ حَدِيثٌ عَظِيمٌ، أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الطَّهَارَةِ
مُشْتَمِلٌ عَلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ وَقَوَاعِدَ مُهِمَّةٍ.
قَوْلُهُ: فِي حَدِيثُ أَنَسٍ (فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ) . قَالَ
الشَّارِحُ: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُوَاسَاةِ
بِالْمَاءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمَنْ كَانَ فِي مَائِهِ فَضْلٌ عَنْ
وُضُوئِهِ، وَعَلَى أَنَّ اغْتِرَافَ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ الْمَاءِ
الْقَلِيلِ لا يُصَيِّرُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلاً، وَمِنْ فَوَائِدِهِ أَنَّ
الْمَاءَ الشَّرِيفَ يَجُوزُ رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ. وَلِهَذَا قَالَ
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهُ لا بَأْسَ بِرَفْعِ الْحَدَثِ مِنْ مَاءِ
زَمْزَمَ؛ لأَنَّ قُصَارَاهُ أَنَّهُ مَاءٌ شَرِيفٌ مُتَبَرَّكٌ بِهِ،
وَالْمَاءُ الَّذِي وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ يَدَهُ فِيهِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ.
4- وَقَدْ جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي حَدِيثٍ لَهُ
قَالَ فِيهِ: ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ فَدَعَا بِسَجْلٍ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ فَشَرِبَ مِنْهُ
وَتَوَضَّأَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُتَوَضَّأِ بِهِ
5- عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَعُودنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لا أَعْقِلُ
فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
6- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، مِنْ رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ
مَخْرَمَةَ، وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إلا وَقَعَتْ فِي
(1/10)
كَفّ رَجُلٍ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ
وَجِلْدَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ.
وَهُوَ بِكَمَالِهِ لأَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ.
7- وَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لَقِيَهُ وَهُوَ جُنُبٌ فَحَادَ عَنْهُ
فَاغْتَسَلَ ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ: «إنَّ
الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ
وَالتِّرْمِذِيَّ.
8- وَرَوَى الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْجُمْهُورُ بِصَبِّهِ - صلى الله
عليه وسلم - لِوَضُوئِهِ عَلَى جَابِرٍ وَتَقْرِيرِهِ لِلصَّحَابَةِ عَلَى
التَّبَرُّكِ بِوَضُوئِهِ، وَعَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ
لِلْوُضُوءِ إِلِى أَنْ قَالَ: فَإِنْ قَالَ الذَّاهِبُ إلَى نَجَاسَةِ
الْمُسْتَعْمَلِ لِلْوُضُوءِ إنَّ هَذِهِ الأَحَادِيثَ غَايَةُ مَا فِيهَا
الدَّلالَةُ عَلَى طَهَارَةِ مَا تَوَضَّأَ بِهِ - صلى الله عليه وسلم -
وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ. قُلْتُ: هَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ
نَافِقَةٍ، فَإِنَّ الأَصْلَ أَنَّ حُكْمَهُ وَحُكْمَ أُمَّتِهِ وَاحِدٌ
إلا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَقْضِي بِالاخْتِصَاصِ وَلا دَلِيلَ. وَأَيْضًا
الْحُكْمُ بِكَوْنِ الشَّيْءِ نَجِسًا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَاجُ إلَى
دَلِيلٍ يَلْتَزِمُهُ الْخَصْمُ فَمَا هُوَ؟
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ» . قَالَ
الشَّارِحُ: تَمَسَّكَ بِمَفْهُومِهِ بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَاهُ
فِي الْبَحْرِ عَنْ الْهَادِي وَالْقَاسِمِ وَالنَّاصِرِ وَمَالِكٍ
فَقَالُوا: إنَّ الْكَافِرَ نَجِسُ عَيْنٍ وَقَوَّوْا ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وَأَجَابَ عَنْ ذَلِكَ
الْجُمْهُورُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ طَاهِرُ
الأَعْضَاءِ لاعْتِيَادِهِ مُجَانَبَةِ النَّجَاسَةِ بِخِلافِ الْمُشْرِكِ
لِعَدَمِ تَحَفُّظِهِ عَنْ النَّجَاسَةِ، وَعَنْ الآيَةِ بِأَنَّ
الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَجَسٌ فِي الاعْتِقَادِ وَالاسْتِقْذَارِ،
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَنَّ اللَّهَ أَبَاحَ
نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَرَقَهُنَّ لا يَسْلَمُ
مِنْهُ مَنْ يُضَاجِعُهُنَّ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَحَدِيثُ الْبَابِ أَصْلٌ
فِي طَهَارَةِ الْمُسْلِمِ حَيًّا وَمَيِّتًا.
وَفِيه مِنْ الْفَوَائِدِ مَشْرُوعِيَّةُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ مُلابَسَةِ
الأُمُورِ الْعَظِيمَةِ، وَاحْتِرَامُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَتَوْقِيرُهُمْ،
وَمُصَاحَبَتُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ.
بَابُ بَيَانِ زَوَالِ تَطْهِيرِهِ
9- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
وَهُوَ جُنُبٌ» . فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ قَالَ:
(1/11)
يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً. رَوَاهُ
مُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.
10- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ
الدَّائِمِ، وَلا يَغْتَسِلُ فِيهِ مِنْ جَنَابَةٍ» .
11- وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ عَقِيلٍ حَدَّثَتْنِي الرُّبَيِّعِ بِنْتُ مُعَوِّذِ ابْنِ عَفْرَاءَ
- فَذَكَرَ حَدِيثَ وُضُوءِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ:
(وَمَسَحَ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ
فِي يَدِهِ مَرَّتَيْنِ، بَدَأَ بِمُؤَخِّرِهِ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَى
نَاصِيَتِهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاثًا ثَلاثًا) رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا وَلَفْظُهُ: (أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ مِنْ فَضْلِ مَاءٍ كَانَ بِيَدَيْهِ) . قَالَ
التِّرْمِذِيُّ: عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ صَدُوقٌ،
وَلَكِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ وَقَالَ
الْبُخَارِيُّ: كَانَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالْحُمَيْدِيُّ يَحْتَجُّونَ
بِحَدِيثِهِ) .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا يَغْتَسِلَنَّ أَحَدُكُمْ فِي
الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» . قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ
إلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ غَيْرُ مُطَهِّرٍ أَكْثَرُ
الْعِتْرَةِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثُ وَالأَوْزَاعِيُّ،
وَالشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُمَا وَأَبُو
حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ. ورجح الشارح عَدَمَ خُرُوجِ
الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ وبَقَاءه عَلَى الْبَرَاءَةِ
الأَصْلِيَّةِ، قَالَ: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنَّفُ رَحِمَهُ اللهُ
بِحَدِيثِ الْبَاب عَلَى عَدَم صَلاح الْمُسْتَعْمِل لِلطَّهُورِية،
فَقَالَ:
وَهَذَا النَّهْيُ عَنْ الْغُسْلِ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ
وَلا يُجْزِئ وَمَا ذَاكَ إلا لِصَيْرُورَتِهِ مُسْتَعْمَلاً بِأَوَّلِ
جُزْءٍ يُلاقِيهِ مِنْ الْمُغْتَسِلِ فِيهِ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى
الَّذِي لا يَحْمِلُ النَّجَاسَةَ، أَمَّا مَا يَحْمِلُهَا فَالْغُسْلُ
فِيهِ مُجْزِئٌ، فَالْحَدَثُ لا يَتَعَدَّى إلَيْهِ حُكْمُهُ مِنْ طَرِيقِ
الأَوْلَى.
قَوْلُهُ: (وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدِهِ) .
قَالَ الشَّارِحُ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعْمَلَ قَبْلَ
انْفِصَالِهِ عَنْ الْبَدَنِ يَجُوزُ التَّطَهُّرُ بِهِ. قِيلَ: وَقَدْ
عَارَضَهُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَقَالِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله
عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ. وَأَنْتَ
خَبِيرٌ بِأَنَّ كَوْنَهُ - صلى الله عليه وسلم - أَخَذَ لِرَأْسِهِ مَاءً
جَدِيدًا لا يُنَافِي مَا فِي حَدِيثِ الْبَابِ مِنْ أَنَّهُ - صلى الله
عليه وسلم - مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ وَضُوئِهِ فِي يَدَيْهِ؛
لأَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى شَيْءٍ بِصِيغَةٍ لا تَدُلُّ إلا عَلَى
مُجَرَّدِ الْوُقُوعِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحَصْرٍ عَلَى الْمَنْصُوصِ
عَلَيْهِ وَلا نَفْيٍ
(1/12)
لِمَا عَدَاهُ لا يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ
وُقُوعِ غَيْرِهِ. إِلِى أَنْ قَالَ: قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ مَا لَفْظُهُ:
وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ بَلَلِ يَدَيْهِ،
فَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَى طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ؛ لأَنَّ
الْمَاءَ كُلَّمَا تَنَقَّلَ فِي مَحَالِّ التَّطْهِيرِ مِنْ غَيْرِ
مُفَارَقَةٍ إلَى غَيْرِهَا فَعَمَلُهُ وَتَطْهِيرُهُ بَاقٍ، وَلِهَذَا لا
يَقْطَعُ عَمَلَهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ تَغَيُّرُهُ بِالنَّجَاسَاتِ
وَالطَّهَارَاتِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا هُوَ
الْحَقُّ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ.
بَابُ الرَّدِّ عَلَى مَنْ جَعَلَ مَا يَغْتَرِفُ مِنْهُ الْمُتَوَضِّئُ
بَعْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ مُسْتَعْمَلاً
12- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ:
تَوَضَّأْ لَنَا وُضُوءَ ... رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،
فَدَعَا بِإِنَاءٍ فَأَكْفَأَ مِنْهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا
ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ
فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ
ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ
ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا، فَغَسَلَ يَدَيْهِ إلَى
الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا
فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ، ثُمَّ غَسَلَ
رِجْلَيْهِ إلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: (هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ
لأَحْمَدَ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: (ثُمَّ أَدْخَلَ
يَدَيْهِ فَاغْتَرَفَ بِهِمَا) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (ثُمَّ
أَخَذَ غَرْفَةً فَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إلَى يَدِهِ الأُخْرَى
فَغَسَلَ بِهَا وَجْهَهُ) . قَالَ الشَّارِحُ: فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ
دَالَّةٌ عَلَى جَوَازِ الأُمُورِ الثَّلاثَةِ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ.
وَالْكَلامُ عَلَى أَطْرَافِ الْحَدِيثِ يَأْتِي فِي الْوُضُوءِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ وَإِنَّمَا سَاقَهُ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ
زَعَمَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُغْتَرَفَ مِنْهُ بَعْدَ غَسْلِ الْوَجْهِ
يَصِيرُ مُسْتَعْمَلاً لا يَصْلُحُ لِلطَّهُورِيَّةِ، وَهِيَ مَقَالَةٌ
بَاطِلَةٌ يَرُدُّهَا هَذَا الْحَدِيثُ وَغَيْرُهُ. وَقَدْ عَرَفْتَ بِمَا
سَلَفَ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ - أَعْنِي خُرُوجَ الْمُسْتَعْمَلِ عَنْ
الطَّهُورِيَّةِ - مَبْنِيَّةٌ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ. وَمِنْ فَوَائِدِ
هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُخَالَفَةِ
(1/13)
بَيْنَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ؛
لأَنَّهُ اقْتَصَرَ فِي غَسْلِ الْيَدَيْنِ عَلَى مَرَّتَيْنِ بَعْدَ
تَثْلِيثِ غَيْرِهِمَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
بَابُ مَا جَاءَ فِي فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ
13- عَنْ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ يَتَوَضَّأَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ طَهُورِ
الْمَرْأَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا أَنَّ ابْنَ مَاجَهْ وَالنَّسَائِيُّ
قَالا: وَضُوءُ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ،
وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: وَقَدْ رَوَى بَعْدَهُ حَدِيثًا آخَرَ - الصَّحِيحُ
الأَوَّلُ، يَعْنِي حَدِيثَ الْحَكَمِ.
14- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
كَانَ يَغْتَسِلُ بِفَضْلِ مَيْمُونَةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
15- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - تَوَضَّأَ بِفَضْلِ غُسْلِهَا مِنْ الْجَنَابَةِ. رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.
16- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اغْتَسَلَ بَعْضُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - فِي جَفْنَةٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه
وسلم - لِيَتَوَضَّأَ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلَ، فَقَالَتْ لَهُ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي كُنْت جُنُبًا، فَقَالَ: «إنَّ الْمَاءَ لا
يُجْنِبُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ
وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
قُلْتُ: وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى الرُّخْصَةِ لِلرَّجُلِ مِنْ
فَضْلِ طَهُورِ الْمَرْأَةِ وَالإِخْبَارُ بِذَلِكَ أَصَحُّ. وَكَرِهَهُ
أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ إذَا خَلَتْ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ... عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ سَرْجِسَ، وَحَمَلُوا حَدِيثَ مَيْمُونَةَ عَلَى أَنَّهَا لَمْ تَخْلُ
بِهِ جَمِيعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ الْحَكَمِ. فَأَمَّا غُسْلُ
الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَوُضُوءُهُمَا جَمِيعًا فَلا اخْتِلافَ فِيهِ.
17- قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنَابَةِ. مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
18- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ
(1/14)
تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ مِنْ
الْجَنَابَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
19- وَفِي لَفْظٍ لِلْبُخَارِيِّ: مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْتَرِفُ مِنْهُ
جَمِيعًا.
20- وَلِمُسْلِمٍ: مِنْ إنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ فَيُبَادِرُنِي
حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي.
21- وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ: مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ يُبَادِرُنِي
وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ: ... «دَعِي لِي» . وَأَنَا أَقُولُ: دَعْ
لِي.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ
الأَحَادِيثِ بِحَمْلِ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنْ
الأَعْضَاءِ لِكَوْنِهِ قَدْ صَارَ مُسْتَعْمَلاً، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا
بَقِيَ مِنْ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيِّ وَأَحْسَنُ مِنْهُ
مَا جَمَعَ بِهِ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ مِنْ حَمْلِ النَّهْيِ عَلَى
التَّنْزِيهِ بِقَرِينَةِ أَحَادِيثِ الْجَوَازِ.
بَابُ حُكْمِ الْمَاءِ إذَا لاقَتْهُ النَّجَاسَةُ
22- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَتَتَوَضَّأُ مِنْ ... بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ يُلْقَى فِيهَا
الْحِيَضُ وَلُحُومُ الْكِلابِ وَالنَّتْنُ؟ فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» . رَوَاهُ
أَحْمَدَ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ،
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: حَدِيثُ بِئْرِ بُضَاعَةَ صَحِيحٌ.
23- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: إنَّهُ يُسْتَقَى لَك مِنْ
بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُطْرَحُ فِيهَا مَحَايِضُ النِّسَاءِ،
وَلَحْمُ الْكِلابِ، وَعَذِرِ النَّاسِ، فَقَالَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» .
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ، قَالَ: سَأَلْت
قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا قُلْت: أَكْثَرُ مَا يَكُونُ
فِيهَا الْمَاءُ؟ قَالَ: إلَى الْعَانَةِ، قُلْت: فَإِذَا نَقَصَ، قَالَ:
دُونَ الْعَوْرَةِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: قَدَّرْت بِئْرَ بُضَاعَةَ
بِرِدَائِي فَمَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ
ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ
لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهِ هَلْ غُيِّرَ بِنَاؤُهَا
عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ لا، وَرَأَيْت فِيهَا مَاءً مُتَغَيِّرَ
اللَّوْنِ.
(1/15)
24- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بِالْفَلاةِ مِنْ الأَرْضِ وَمَا
يَنُوبُهُ مِنْ السِّبَاعِ وَالدَّوَابِّ، فَقَالَ: «إذَا كَانَ الْمَاءُ
قُلَّتَيْنِ لَمْ، يَحْمِلْ الْخَبَثَ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
25- وَفِي لَفْظِ ابْنِ مَاجَهْ وَرِوَايَةٍ لأَحْمَدَ: «لَمْ يُنَجِّسْهُ
شَيْءٌ» .
26- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا
يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ، وَهَذَا لَفْظُ
الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ: «ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» ،
وَلَفْظُ الْبَاقِينَ: «ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» .
قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمَاءُ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ
شَيْءٌ» . قال ابن المنذرُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ
الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ إذَا وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَغَيَّرَتْ لَهُ
طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا فَهُوَ نَجِسٌ. قَالَ الشَّارِحُ:
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ أَنَّ الْمَاءَ لا يَتَنَجُسُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ فِيهِ
سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلاً أَوْ كَثِيرًا وَلَوْ تَغَيَّرَتْ أَوْصَافُهُ أَوْ
بَعْضُهَا، لَكِنَّهُ قَامَ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا
تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ بِالنَّجَاسَةِ خَرَجَ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ،
فَلا يَنْجُسُ الْمَاءُ بِمَا لاقَاهُ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً إلا إذَا
تَغَيَّرَ، فَإِنْ تَغَيَّرَ ما دون القلتين بنجاسة خَرَجَ عَنْ
الطَّهَارَةِ بِالإِجْمَاعِ وَبِمَفْهُومِ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، وَإِنْ
لَمْ يَتَغَيَّرْ فَحَدِيثُ «لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ» يَدُلُّ بِعُمُومِهِ
عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهَارَةِ، وَحَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ
يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ. انْتَهَى
مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: «لا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لا
يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ» . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: نَبَّهَ بِذَلِكَ
عَلَى مَآلِ الْحَالِ، وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا
يَضْرِبَنَّ
أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ ضَرَبَ الأَمَةِ ثُمَّ يُضَاجِعُهَا» أَيْ ثُمَّ
هُوَ يُضَاجِعُهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وَمَنْ ذَهَبَ إلَى خَبَرِ الْقُلَّتَيْنِ حَمَلَ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى
مَا دُونَهُمَا، وَخَبَرَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَلَى مَا بَلَغَهُمَا جَمْعًا
بَيْنَ الْكُلِّ.
قُلْتُ: والبولُ في الماءِ ينجسه إذا كان قلِيلاً، ويقذره إذا كان كثيرًا،
فلذلك ورد النهي عن البول فيه مطلقًا.
(1/16)
بَابُ أَسْآرِ الْبَهَائِمِ
27- حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْقُلَّتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى نَجَاسَتِهَا
وَإِلا يَكُونُ التَّحْدِيدُ بِالْقُلَّتَيْنِ فِي جَوَابِ السُّؤَالِ عَنْ
وُرُودِهَا عَلَى الْمَاءِ عَبَثًا.
28- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم -: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ ثُمَّ
لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الحَدِيثِ الذي بعده: وَيُمْكِنُ
حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ
لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ
وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ. قَالَ: وحديث أبي هريرة يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ
الْغَسَلاتِ السَّبْعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ. وقَالَ: وَاسْتُدِلَّ
بِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ لأَنَّهُ إذَا كَانَ
لُعَابُهُ نَجِسًا وَهُوَ عَرَقُ فَمِهِ، فَفَمُهُ نَجِسٌ، وَيَسْتَلْزِمُ
نَجَاسَةَ سَائِرِ بَدَنِهِ، وَذَلِكَ لأَنَّ لُعَابَهُ جُزْءٌ مِنْ
فَمِهِ، فَبَقِيَّةُ بَدَنِهِ أَوْلَى، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا
الْجُمْهُورُ.
بَابُ سُؤْرِ الْهِرِّ
29- عَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ
أَبِي قَتَادَةَ - أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَسَكَبَتْ لَهُ
وَضُوءًا، فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ فَأَصْغَى لَهَا الإِنَاءَ
حَتَّى شَرِبَتْ مِنْهُ، قَالَتْ كَبْشَةُ: فَرَآنِي أَنْظُرُ، فَقَالَ:
أَتَعْجَبِينَ يَا ابْنَةَ أَخِي؟ فَقَلَتْ: نَعَمْ، فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ،
إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ» . رَوَاهُ
الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
30- وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ
كَانَ يُصْغِي إلَى الْهِرَّةِ الإِنَاءَ حَتَّى تَشْرَبَ ثُمَّ
يَتَوَضَّأُ بِفَضْلِهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلانِ
عَلَى طَهَارَةِ فَمِ الْهِرَّةِ وَطَهَارَةِ سُؤْرِهَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ
الشَّافِعِيُّ وَالْهَادِي، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلْ نَجِسٌ
كَالسَّبُعِ، لَكِنْ خَفَّفَ فِيهِ فَكَرِهَ سُؤْرَهُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
حَدِيثَ الْبَابِ مُصَرِّحٌ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسٍ فَيُخَصَّصُ بِهِ
عُمُومُ حَدِيثِ السِّبَاعِ بَعْدَ تَسْلِيمِ وُرُودِ مَا يَقْضِي
بِنَجَاسَةِ السِّبَاعِ. وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا
بِالسَّبُعِيَّةِ فَلا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهَا نَجِسٌ إذْ لا
(1/17)
مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّجَاسَةِ
وَالسَّبُعِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - عَنْ الْحِيَاضِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
فَقِيلَ: إنَّ الْكِلابَ وَالسِّبَاعَ تَرِدُ عَلَيْهَا فَقَالَ: «لَهَا
مَا أَخَذَتْ فِي بُطُونِهَا وَلَنَا مَا بَقِيَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ» .
وَأَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي
الْمَعْرِفَةِ وَقَالَ: لَهُ أَسَانِيدُ إذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ
كَانَتْ قَوِيَّةً بِلَفْظِ: أَنَتَوَضَّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْحُمُرُ؟
قَالَ: «نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السِّبَاعُ كُلُّهَا» . إِلِى أَنْ
قَالَ:
وَيُمْكِنُ حَمْلُ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى أَنَّهُ
إنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى الْمَاءِ مَظِنَّةٌ
لإِلْقَائِهَا الأَبْوَالَ وَالأَزْبَالَ عَلَيْهِ.
(1/18)
|