بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

أَبْوَابُ تَطْهِيرِ النَّجَاسَةِ

وَذِكْرِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْهَا
بَابُ اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فِي الْوُلُوغِ

31- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ،

32- وَلأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ: «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ» .

33- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلِ الْكِلابِ ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلابِ» ؟ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ وَقَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ وَالْبُخَارِيَّ.

34- وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ، وَرَخَّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصَّيْدِ وَالزَّرْعِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثَانِ يَدُلانِ عَلَى أَنَّهُ يُغْسَلُ الإِنَاءُ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ سَبْعَ مَرَّاتٍ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَقَدْ وَقَعَ الْخِلافُ هَلْ يَكُونُ التَّتْرِيبُ فِي الْغَسَلاتِ السَّبْعِ أَوْ خَارِجًا عَنْهَا. وَظَاهِرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنْهَا وَهُوَ أَرْجَحُ مِنْ غَيْرِهِ. انْتَهَى. قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَرِوَايَةُ أُولاهُنَّ أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ الأَكْثَرِيَّةِ وَالأَحْفَظِيَّةِ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَيْضًا؛ لأَنَّ تَتْرِيبَ الْأخِرَةِ يَقْتَضِي الاحْتِيَاجَ إلَى غَسْلَةٍ آخِرَةٍ لِتَنْظِيفِهِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الأُولَى أَوْلَى.

(1/19)


بَابُ الْحَتِّ وَالْقَرْصِ وَالْعَفْوِ عَنْ الأَثَرِ بَعْدَهُمَا

35- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: إحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ فَقَالَ: «تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ تَنْضَحُهُ ثُمَّ تُصَلِّي فِيهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

36- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ يَسَارٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَيْسَ لِي إلا ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَأَنَا أَحِيضُ فِيهِ قَالَ: «فَإِذَا طَهُرْت فَاغْسِلِي مَوْضِعَ الدَّمِ ثُمَّ صَلِّي فِيهِ» . قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ يَخْرُجْ أَثَرُهُ؟ قَالَ: «يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

37- وَعَنْ مُعَاذَةَ قَالَتْ: سَأَلْت عَائِشَةَ عَنْ الْحَائِضِ يُصِيبُ ثَوْبَهَا الدَّمُ، فَقَالَتْ: تَغْسِلُهُ فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ فَلْتُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ مِنْ صُفْرَةٍ. قَالَتْ: وَلَقَدْ كُنْت أَحِيضُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ حَيْضٍ جَمِيعًا لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ تَقْرُصُهُ» قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ تُدَلِّكُ مَوْضِعَ الدَّمِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهَا لِيَتَحَلَّلَ بِذَلِكَ وَيَخْرُجَ مَا يَشْرَبُهُ الثَّوْبُ مِنْهُ. قال المُصنِّفُ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دَمَ الْحَيْضِ لا يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهِ، وَإِنْ قَلَّ لِعُمُومِهِ، وَأَنَّ طَهَارَةَ السُّتْرَةِ شَرْطٌ لِلصَّلاةِ، وَأَنَّ هَذِهِ النَّجَاسَةَ وَأَمْثَالَهَا لا يُعْتَبَرُ فِيهَا تُرَابٌ وَلا عَدَدٌ وَأَنَّ الْمَاءَ مُتَعَيَّنٌ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.

قَوْلُهُ: «يَكْفِيك الْمَاءُ وَلا يَضُرُّك أَثَرُهُ» . قَالَ الشَّارِحُ: اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْحَوَادِّ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِعْمَالُ الْحَادِّ الْمُعْتَادِ، لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أُمِّ قَيْسٍ: «حُكِّيهِ بِضَلْعٍ وَاغْسِلِيهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ» ،
وَقِيلَ: يَكُونُ اسْتِعْمَالُ الْحَوَادِّ مَنْدُوبًا جَمْعًا بَيْنَ الأَدِلَّةِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: «لا يَضُرُّك أَثَرُهُ» أَنَّ بَقَاءَ أَثَرِ النَّجَاسَةِ الَّذِي عَسُرَتْ إزَالَتُهُ لا يَضُرُّ، لَكِنْ بَعْدَ التَّغَيِيرِ بِزَعْفَرَانٍ أَوْ صُفْرَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا حَتَّى يَذْهَبَ لَوْنُ الدَّمِ؛ لأَنَّهُ مُسْتَقْذَرٌ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَوْلُهَا: (لا أَغْسِلُ لِي ثَوْبًا) . قَالَ الشَّارِحُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ

(1/20)


الأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ حَتَّى تَظْهَرَ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُهَا.
بَابُ تَعَيُّنِ الْمَاءِ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ

38- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ أَبَا ثَعْلَبَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي آنِيَةِ الْمَجُوسِ إذَا اُضْطُرِرْنَا إلَيْهَا قَالَ: «إذَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهَا فَاغْسِلُوهَا بِالْمَاءِ وَاطْبُخُوا فِيهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

39- وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا بِأَرْضِ قَوْمٍ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالرَّحْضُ: الْغَسْلُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ لإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ غَيْرُهُ، وَلا يَخْفَاك أَنَّ مُجَرَّدَ الأَمْرِ بِهِ لإِزَالَةِ خُصُوصِ هَذِهِ النَّجَاسَةِ لا يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ لِكُلِّ نَجَاسَةٍ. وَقَالَ فِي البَابِ الذي قبله: وَالْحَقُّ أَنَّ الْمَاءَ أَصْلٌ فِي التَّطْهِيرِ لِوَصْفِهِ بِذَلِكَ كِتَابًا وَسُنَّةً وَصْفًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ، لَكِنَّ الْقَوْلَ بِتَعَيُّنِهِ وَعَدَمِ إجْزَاءِ غَيْرِهِ يَرُدُّهُ حَدِيثُ مَسْحِ النَّعْلِ وَفَرْكِ الْمَنِيِّ وَحَتِّهِ وَإِمَاطَتِهِ بِإِذْخَرَةٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
بَابُ تَطْهِيرِ الأَرْضِ النَّجِسَةِ بِالْمُكَاثَرَةِ

40- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ النَّاسُ لِيَقَعُوا بِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعُوهُ وَأَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ - أَوْ ذُنُوبًا مِنْ مَاءٍ - فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا مُسْلِمًا.
41- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: مَهْ مَهْ! قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزْرِمُوهُ دَعُوهُ» . فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَاهُ، ثُمَّ قَالَ: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلا الْقَذَرِ، إنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالصَّلاةِ

(1/21)


وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» . أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. قَالَ: فَأَمَرَ رَجُلاً مِنْ الْقَوْمِ فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

لَكِنْ لَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ فِيهِ: «إنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ» إلَى تَمَامِ الأَمْرِ بِتَنْزِيهِهَا. وَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَزْرِمُوهُ» . أَيْ لا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّبَّ مُطَهِّرٌ لِلأَرْضِ وَلا يَجِبُ الْحَفْرُ. قَالَ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ أَنَّ الأَرْضَ تَطْهُرُ بِالْمُكَاثَرَةِ. وَعَلَى الرِّفْقِ بِالْجَاهِلِ فِي التَّعْلِيمِ. وَعَلَى التَّرْغِيبِ فِي التَّيْسِيرِ وَالتَّنْفِيرِ عَنْ التَّعْسِيرِ. وَعَلَى احْتِرَامِ الْمَسَاجِدِ وَتَنْزِيهِهَا؛ لأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَّرَهُمْ عَلَى الإِنْكَارِ وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالرِّفْقِ.
قَوْلُهُ: (مَهْ مَهْ) . قَالَ الشَّارِحُ: اسْمُ فِعْلٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ مَعْنَاهُ اُكْفُفْ. قَالَ صَاحِبُ الْمَطَالِعِ: هِيَ كَلِمَةُ زَجْرٍ أَصْلُهَا (مَا هَذَا) ، ثُمَّ حُذِفَ تَخْفِيفًا، وَتُقَالُ مُكَرَّرَةً وَمُفْرَدَةً.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَ بِدَلْوٍ فَشَنَّهُ عَلَيْهِ) . أَيْ: صبّه. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّجَاسَةَ عَلَى الأَرْضِ إذَا اُسْتُهْلِكَتْ بِالْمَاءِ، فَالأَرْضُ وَالْمَاءُ طَاهِرَانِ، وَلا يَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِتَكْثِيرِ النَّجَاسَةِ فِي الْمَسْجِدِ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي أَسْفَلِ النَّعْلِ تُصِيبُهُ النَّجَاسَةُ

42- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَطِئَ أَحَدكُمْ بِنَعْلِهِ الأَذَى فَإِنَّ التُّرَابَ لَهُ طَهُورٌ» .

43- وَفِي لَفْظٍ: «إذَا وَطِئَ الأَذَى بِخُفَّيْهِ فَطَهُورُهُمَا التُّرَابُ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.

44- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا جَاءَ أَحَدكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَيْهِ وَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا فَإِنْ رَأَى خَبَثًا. فَلْيَمْسَحْهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ ... فِيهِمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَوَرَدَ فِي معنى حديثِ أبي سعيدٍ أَحَادِيث

(1/22)


يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَنْهِضُ لِلاحْتِجَاجِ بِهَا عَلَى أَنَّ النَّعْلَ يَطْهُرُ بِدَلْكِهِ فِي الأَرْضِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ بَلْ كُلُّ مَا عَلِقَ بِالنَّعْلِ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الأَذَى فَطَهُورُهُ مَسْحُهُ بِالتُّرَابِ. وَيُلْحَقُ بِالنّعلِ والخُفِ كُلُّ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا لِعَدَمِ الْفَارِقِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
بَابُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلامِ إذَا لَمْ يُطْعَمْ

45- عَنْ أُمِّ قَيْسِ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

46- وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَوْلُ الْغُلامِ الرَّضِيعِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . قَالَ قَتَادَةَ: وَهَذَا مَا لَمْ يُطْعَمَا فَإِذَا طَعِمَا غُسِلا جَمِيعًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
47- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِصَبِيٍّ يُحَنِّكُهُ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَتْبَعهُ الْمَاءَ) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

48- وَكَذَلِكَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: وَلَمْ يَغْسِلْهُ.

49- وَلِمُسْلِمٍ: كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنِّكُهُمْ فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ فَبَال عَلَيْهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعهُ بَوْلَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ.

50- وَعَنْ أَبِي السَّمْحِ خَادِمِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ وَيُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلامِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

51- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ الْخُزَاعِيَّةِ قَالَتْ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِغُلامٍ فَبَالَ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَنُضِحَ، وَأُتِيَ بِجَارِيَةٍ فَبَالَتْ عَلَيْهِ فَأَمَرَ بِهِ فَغُسِلَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

52- وَعَنْ أُمِّ كُرْزٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «بَوْلُ الْغُلامِ يُنْضَحُ وَبَوْلُ الْجَارِيَةِ يُغْسَلُ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

53- وَعَنْ أُمِّ الْفَضْلِ - لُبَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ - قَالَتْ: بَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي حِجْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي ثَوْبَكَ وَالْبَسْ ثَوْبًا غَيْرَهُ حَتَّى

(1/23)


أَغْسِلَهُ. فَقَالَ: «إنَّمَا يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأُنْثَى» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

قَوْلُهُ: (لَمْ يَأْكُلْ الطَّعَامَ) قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْمُرَادُ بِالطَّعَامِ مَا عَدَا اللَّبَنَ الَّذِي يَرْضَعُهُ وَالتَّمْرَ الَّذِي يُحَنَّكُ بِهِ، وَالْعَسَلَ الَّذِي يَلْعَقُهُ لِلْمُدَاوَاةِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ بَوْلَ الصَّبِيِّ يُخَالِفُ بَوْلَ الصَّبِيَّةِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ، وَأَنَّ مُجَرَّدَ النَّضْحِ يَكْفِي فِي تَطْهِيرِ بَوْلِ الْغُلامِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ الرُّخْصَةِ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ

54- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ - أَوْ قَالَ عُرَيْنَةَ - قَدِمُوا فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلِقَاحٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. اجْتَوَوْهَا: أَيْ اسْتَوْخَمُوهَا.

55- وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» .

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهَذَا مَنْ قَالَ بِطَهَارَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، أَمَّا فِي الإِبِلِ فَبِالنَّصِّ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَبِالْقِيَاسِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ هَذَا خَاصٌّ بِأُولَئِكَ الأَقْوَامِ فَلَمْ يُصِبْ إذْ الْخَصَائِصُ لا تَثْبُتُ إلا بِدَلِيلٍ.

وَقَالَ المُصنِّفُ رحمه الله:
فَإِذَا أُطْلِقَ الإِذْنُ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَائِلاً بَقِيَ مِنْ الأَبْوَالِ وَأُطْلِقَ الإِذْنُ فِي الشُّرْبِ لِقَوْمٍ حَدِيثِي الْعَهْدِ فِي الإِسْلامِ جَاهِلِينَ بِأَحْكَامِهِ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ
بِغَسْلِ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا يُصِيبُهُمْ مِنْهَا لأَجْلِ صَلاةٍ وَلا غَيْرِهَا مَعَ اعْتِيَادِهِمْ شُرْبَهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِالطَّهَارَةِ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَذْيِ

56- عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ شِدَّةً وَعَنَاءً وَكُنْت أُكْثِرُ مِنْهُ الاغْتِسَالَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «إنَّمَا يَجْزِيك

(1/24)


مِنْ ذَلِكَ الْوُضُوءُ» . فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ بِمَا يُصِيبُ ثَوْبِي مِنْهُ؟ قَالَ: «يَكْفِيك أَنْ تَأْخُذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَتَنْضَحَ بِهِ ثَوْبَك حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ ... مِنْهُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ. وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

57- وَرَوَاهُ الأَثْرَمُ وَلَفْظُهُ قَالَ: كُنْت أَلْقَى مِنْ الْمَذْيِ عَنَاءً فَأَتَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «يَجْزِيك أَنْ تَأْخُذَ حَفْنَةً مِنْ مَاءٍ فَتَرُشَّ عَلَيْهِ» .

58- وَعَنْ عَلَيَّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: كُنْت رَجُلاً مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَرت الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «فِيهِ الْوُضُوءُ» . أَخْرَجَاهُ.

59- وَلِمُسْلِمٍ: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» .

60- وَلأَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَأُنْثَيَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ» .

61- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَاءِ، فَقَالَ: «ذَلِكَ مِنْ الْمَذْيِ، وَكُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي. فَتَغْسِلُ مِنْ ذَلِكَ فَرْجَك وَأُنْثَيَيْك وَتَوَضَّأْ وُضُوءَك لِلصَّلاةِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى أَنَّ الْغُسْلَ لا يَجِبُ لِخُرُوجِ الْمَذْيِ، قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَهُوَ إجْمَاعٌ. وَعَلَى أَنَّ الأَمْرَ
بِالْوُضُوءِ مِنْهُ كَالأَمْرِ بِالْوُضُوءِ مِنْ الْبَوْلِ وَعَلَى أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِي تَطْهِيرِهِ لِقَوْلِهِ: «كَفًّا مِنْ مَاءٍ» .
بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَنِيِّ

62- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَذْهَبُ فَيُصَلِّي فِيهِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا الْبُخَارِيَّ.

63- وَلأَحْمَدَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْلُتُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقٍ الإِذْخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِسًا ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ.

64- وَفِي لَفْظٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ: كُنْت أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّلاةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ.

(1/25)


65- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا: (كُنْت أَفْرُكُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا كَانَ يَابِسًا وَأَغْسِلُهُ إذَا كَانَ رَطْبًا) .

قُلْت: فَقَدْ بَانَ مِنْ مَجْمُوعِ النُّصُوصِ جَوَازُ الأَمْرَيْنِ.

66- وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَطَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ، فَقَالَ: «إنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَإِنَّمَا يَكْفِيك أَنْ تَمْسَحَهُ بِخِرْقَةٍ أَوْ بِإِذْخِرَةٍ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُ إِسْحَاقَ الأَزْرَقِ عَنْ شَرِيكٍ: قُلْت: وَهَذَا لا يَضُرُّ؛ لأَنَّ إِسْحَاقَ إمَامٌ مُخَرَّجٌ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ فَيُقْبَل رَفْعُهُ وَزِيَادَتُهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِمَا فِي الْبَابِ عَلَى أَنَّهُ يُكْتَفَى فِي إزَالَةِ الْمَنِيِّ مِنْ الثَّوْبِ بِالْغَسْلِ أَوْ الْفَرْكِ أَوْ الْحَتِّ.
بَابُ فِي أَنَّ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَمْ يَنْجُسْ بِالْمَوْتِ

67- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ ثُمَّ لِيَطْرَحَهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ شِفَاءً وَفِي الآخَرِ ... دَاءً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ.

68- وَلأَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوُهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَاسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ لا يَنْجُسُ بِمَوْتِ مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةَ فِيهِ، إذْ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ الذُّبَابِ وَالْخُنْفُسَاءِ اللَّذَيْنِ وَجَدَهُمَا - صلى الله عليه وسلم - مَيِّتَيْنِ فِي الطَّعَامِ، فَأَمَرَ بِإِلْقَائِهِمَا وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَالأَكْلِ مِنْهُ، وَالْفَائِدَةُ فِي الأَمْرِ بِغَمْسِهِ كُلِّهِ هِيَ أَنْ يَتَّصِلَ مَا فِيهِ مِنْ الدَّوَاءِ بِالطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ، كَمَا اتَّصَلَ بِهِ الدَّاءُ، فَيَتَعَادَلُ الضَّارُّ وَالنَّافِعُ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرَ.

بَابٌ فِي أَنَّ الآدَمِيَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُسُ بِالْمَوْتِ
وَلا شَعَرُهُ وَأَجْزَاؤُهُ بِالانْفِصَالِ

قَدْ أَسْلَفْنَا قَوْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ» وَهُوَ عَامٌّ فِي الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ.

(1/26)


69- قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُسْلِمُ لا يَنْجُسُ حَيًّا وَلا مَيِّتًا.

70- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَمَى الْجَمْرَةَ، وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ، فَقَالَ: «احْلِقْهُ» . فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ وَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
71- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَحْلِقَ الْحَجَّامُ رَأْسَهُ أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِشَعْرِ أَحَدِ شِقَّيْ رَأْسِهِ بِيَدِهِ - فَأَخَذَ شَعْرَهُ - فَجَاءَ بِهِ إلَى أُمِّ سُلَيْمٍ قَالَ: وَكَانَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ تَدُوفُهُ فِي طِيبِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

72- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - نِطْعًا فَيَقِيلُ عِنْدهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطْعِ، فَإِذَا قَامَ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعْرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ جَعَلَتْهُ فِي سُكٍّ، قَالَ: فَلَمَّا حَضَرَتْ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ الْوَفَاةُ أَوْصَى أَنْ يُجْعَلَ فِي حَنُوطِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

73- وَفِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ رِوَايَةِ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ قَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَلا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلا ابْتَدَرُوهُ، وَلا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلا أَخَذُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
74- وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: أَرْسَلَنِي أَهْلِي إلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَجَاءَتْ بِجُلْجُلٍ مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ شَعْرٌ مِنْ شَعْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ إذَا أَصَابَ الإِنْسَانَ عَيْنٌ أَوْ شَيْءٌ بَعَثَ إلَيْهَا بِإِنَاءٍ فَخَضْخَضَتْ لَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، فَاطَّلَعْت فِي الْجُلْجُلِ فَرَأَيْت شَعَرَاتٍ حُمْرًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

75- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ - وَهُوَ صَاحِبُ الأَذَانِ - أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْدَ الْمَنْحَرِ وَرَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ يَقْسِمُ أَضَاحِي فَلَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ وَلا صَاحِبَهُ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ مِنْهُ، وَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى

(1/27)


رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ، قَالَ: وَإِنَّهُ شَعْرُهُ عِنْدَنَا لَمَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتْمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
قَوْلُهُ: (نَاوَلَ الْحَلاقَ شِقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ) . الحديث، قَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهَا اسْتِحْبَابُ الْبُدَاءَةِ بِالشِّقِّ الأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَفِيهِ طَهَارَةُ شَعْرِ الآدَمِيِّ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِشَعْرِهِ - صلى الله عليه وسلم -. وَفِيهِ الْمُوَاسَاةُ بَيْنَ الأَصْحَابِ بِالْعَطِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ. قَالَ الْحَافِظُ: وَفِيهِ أَنَّ الْمُوَاسَاةَ لا تَسْتَلْزِمُ الْمُسَاوَاةَ. وَفِيهِ تَنْفِيلُ مَنْ يَتَوَلَّى التَّفْرِقَةَ عَلَى غَيْرِهِ.

بَابُ النَّهْيِ عَنْ الانْتِفَاعِ بِجِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ

76- عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

77- وَالتِّرْمِذِيُّ وَزَادَ: أَنْ يَفْتَرِشَ.

78- وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ لِنَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ جُلُودِ النُّمُورِ أَنْ يُرْكَبَ عَلَيْهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

79- وَلأَحْمَدَ: أُنْشِدُكُمْ اللَّهَ أَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رُكُوبِ صُفَفِ النُّمُورِ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ.

80- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أُنْشِدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُبْسِ جُلُودِ السِّبَاعِ وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

81- وَعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكرِبَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَمَيَاثِرِ النُّمُورِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
82- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا تَصْحَبُ الْمَلائِكَةُ رُفْقَةً فِيهَا جِلْدُ نَمِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/28)


قَوْلُهُ: (صُفَفِ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: كَصُرَدٍ جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ مَا يُجْعَلُ عَلَى السَّرْجِ.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

وَهَذِهِ النُّصُوصُ تَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ جِلْدِ مَا لا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي الْيَابِسَاتِ، وَتَمْنَعُ بِعُمُومِهَا طَهَارَتَهُ بِذَكَاةٍ أَوْ دِبَاغٍ.
واختار الشارح طهارتها بالدباغ، وأنه لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النهي عن استعْمالِهَا وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ كَمَا لا مُلازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا. وَقَوْلُ المُصَنِّفِ أحوط.

بَابُ مَا جَاءَ فِي تَطْهِيرِ الدَّبَّاغِ

83- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُصُدِّقَ عَلَى مُولاةٍ لِمَيْمُونَةَ بِشَاةٍ فَمَاتَتْ فَمَرَّ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «هَلا أَخَذْتُمْ إهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ فَانْتَفَعْتُمْ بِهِ» ؟ فَقَالُوا: إنَّهَا مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «إنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلا ابْنَ مَاجَهْ قَالَ فِيهِ: عَنْ مَيْمُونَةَ، جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهَا.
وَلَيْسَ فِيهِ لِلْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيُّ ذِكْرُ الدِّبَاغِ بِحَالٍ.

84- وَفِي لَفْظٍ لأَحْمَدَ: إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ» .
وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ.
85- وَفِي رِوَايَةٍ لأَحْمَدَ وَالدَّارَقُطْنِيّ: «يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ أَسَانِيدُ صِحَاحٌ.

86- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: قَالَ إِسْحَاقُ عَنْ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ إنَّمَا يُقَالُ الإِهَابُ لِجِلْدِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ.

87- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ (سَوْدَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ قَالَتْ: مَاتَتْ لَنَا شَاةٌ فَدَبَغْنَا مَسْكَهَا، ثُمَّ مَازِلْنَا نَنْتَبِذُ فِيهِ حَتَّى صَارَ شَنًّا) . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ

(1/29)


وَالْبُخَارِيُّ وَقَالَ: (أنَّ) سَوْدَةَ مَكَانُ (عَنْ) .

88- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - (أَمَرَ أَنْ يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ إذَا دُبِغَتْ) . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.

89- وَلِلنَّسَائِيِّ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَقَالَ: «دِبَاغُهَا ذَكَاتُهَا» .

90- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «طَهُورُ كُلِّ أَدِيمٍ دِبَاغُهُ» . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إسْنَادُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
قَوْلُهُ: إنَّ دَاجِنًا لِمَيْمُونَةَ مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا أَلا دَبَغْتُمُوهُ فَإِنَّهُ ذَكَاتُهُ» . قال الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ: أَرَادَ أَنَّ الدِّبَاغَ فِي التَّطْهِيرِ بِمَنْزِلَةِ الذَّكَاةِ فِي إحْلالِ الشَّاةِ وَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابن عباس (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ مِنْ سِقَاءٍ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ مَيْتَةٌ فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُزِيلُ خَبَثَهُ أَوْ نَجَسَهُ أَوْ رِجْسَهُ» وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ.
بَابُ تَحْرِيمِ أَكْلِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ وَإِنْ دُبِغَ

91- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمَعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاتَتْ فُلانَةُ تَعْنِي الشَّاةَ، فَقَالَ: «فَلَوْلا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا» . قَالُوا: أَنَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: آية 145] وَأَنْتُمْ لا تَطْعَمُونَهُ أَنْ تَدْبُغُوهُ فَتَنْتَفِعُوا بِهِ» . فَأَرْسَلَتْ إلَيْهَا فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا فَدَبَغَتْهُ فَاتَّخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ وَأَنَّ الدِّبَاغَ وَإِنْ أَوْجَبَ طَهَارَتَهَا لا يُحَلِّلُ أَكْلَهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الأَكْلِ أَيْضًا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ: «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» . وَهَذَا مِمَّا لا أَعْلَمُ فِيهِ خِلافًا.

(1/30)


بَابُ مَا جَاءَ فِي نَسْخِ تَطْهِيرِ الدِّبَاغِ

92- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِشَهْرٍ «أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ الْمُدَّةَ غَيْرُ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُد قَالَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.

93- وَلِلدَّارَقُطْنِيِّ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَى جُهَيْنَةَ: «إنِّي كُنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ فِي جُلُودِ الْمَيْتَةِ فَإِذَا جَاءَكُمْ كِتَابِي هَذَا فَلا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلا عَصَبٍ» .
94- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَشْيَخَةٌ لَنَا مِنْ جُهَيْنَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ إلَيْهِمْ: «أَنْ لا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ» .

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَالَ الْحَازِمِيُّ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ: وَطَرِيقُ الإِنْصَافِ فِيهِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُكَيْمٍ ظَاهِرُ الدَّلالَةِ فِي النَّسْخِ لَوْ صَحَّ، وَلَكِنَّهُ كَثِيرُ الاضْطِرَابِ لا يُقَاوِمُ حَدِيثَ مَيْمُونَةَ فِي الصِّحَّةِ. فَالْمَصِيرُ إلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْلَى لِوُجُوهٍ مِنْ التَّرْجِيحِ وَيُحْمَلُ حَدِيثُ ابْنِ عُكَيْمٍ عَلَى مَنْعِ الانْتِفَاعِ بِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ، وَحِينَئِذٍ يُسَمَّى إهَابًا، وَبَعْدَ الدِّبَاغِ يُسَمَّى جِلْدًا وَلا يُسَمَّى إهَابًا، هَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَهَذَا هُوَ الطَّرِيقُ فِي نَفْيِ التَّضَادِّ. انْتَهَى.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الدِّبَاغَ مُطَهّرٌ فِي الْجُمْلَةِ لِصِحَّةِ النُّصُوصِ بِهِ، وَخَبَرُ ابْنِ عُكَيْمٍ لا يُقَارِبُهَا فِي الصِّحَّةِ وَالْقُوَّةِ لِيَنْسَخَهَا. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَذْهَبُ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ لِمَا ذُكِرَ فِيهِ قَبْل وَفَاتِهِ بِشَهْرَيْنِ، وَكَانَ يَقُولُ: هَذَا آخِرُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ تَرَكَ أَحْمَدُ هَذَا الْحَدِيثَ لَمَّا اضْطَرَبُوا فِي إسْنَادِهِ حَيْثُ رَوَى بَعْضُهُمْ فَقَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْمٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ جُهَيْنَةَ.

(1/31)


بَابُ نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ إذَا ذُبِحَ

95- عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَّا أَمْسَى الْيَوْمُ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ خَيْبَرُ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا هَذِهِ النَّارُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ» ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمٍ، قَالَ: «عَلَى أَيِّ لَحْمٍ» ؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ
الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا» . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نُهْرِيقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ فَقَالَ: «أَوْ ذَاكَ» . وَفِي لَفْظٍ: فَقَالَ: «اغْسِلُوا» .

96- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَصَبْنَا مِنْ لَحْمِ الْحُمُرِ - يَعْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ - فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثَانِ اسْتَدَلَّ بِهِمَا عَلَى تَحْرِيمِ الْحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجَمَاهِيرِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَقَدْ أَوْرَدَهُمَا الْمُصَنِّفُ هُنَا لِلاسْتِدْلالِ بِهِمَا عَلَى نَجَاسَةِ لَحْمِ الْحَيَوَانِ الَّذِي لا يُؤْكَلُ لأَنَّ الأَمْرَ بِكَسْرِ الآنِيَةِ أَوَّلاً، ثُمَّ الْغَسْلِ ثَانِيًا، ثُمَّ قَوْلِهِ: «فَإِنَّهَا رِجْسٌ أَوْ نَجِسٌ» ثَالِثًا يَدُلُّ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَلَكِنَّهُ نَصٌّ فِي الْحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ وَقِيَاسٌ فِي غَيْرِهَا مِمَّا لا يُؤْكَلُ بِجَامِعِ عَدَمِ الأَكْلِ وَلا يَجِبُ التَّسْبِيعَ إذْ أَطْلَقَ الْغَسْلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِمِثْلِ مَا قَيَّدَهُ فِي وُلُوغِ الْكَلْبِ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إنَّهُ يَجِبُ التَّسْبِيعُ وَلا أَدْرِي مَا دَلِيلُهُ فَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى لُعَابِ الْكَلْبِ فَلا يَخْفَى مَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ فَمَا هُوَ؟ انْتَهَى. قُلْتُ: الذي استدل به في بعض أصحاب أحمد حديث ذكره في المبدع ولفظه «أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا» .
وهو حديث لا تقوم به حجة.

(1/32)