بستان
الأحبار مختصر نيل الأوطار كِتَابُ التَّيَمُّمِ
بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لِلصَّلَاةِ إذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً
451- عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ، فَإِذَا هُوَ
بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ فَقَالَ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ» ؟ قَالَ:
أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ، قَالَ: «عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ
فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب
والسنة والإجماع، وهي خصيصة خصص الله تعالى بها هذه الأمة. قال:
وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ
عِنْدَ عَدَمَ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ الْجُنُبِ وَغَيْرِهِ.
بَابُ تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَلْجَرْحِ
452- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا
حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ هَلْ
تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ؟ فَقَالُوا: مَا نَجِدُ لَك
رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَلَمَّا
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَ
بِذَلِكَ، فَقَالَ: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَا سَأَلُوا إذْ
لَمْ يَعْلَمُوا؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ، إنَّمَا كَانَ
يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَنْ جَرْحِهِ
خرقة ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهِ وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيِّ.
(1/120)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعُدُولِ إلَى
التَّيَمُّمِ لِخَشْيَةِ الضَّرَرِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْمَسْحِ عَلَى
الْجَبَائِرِ. وَقال: حَدِيثَ جَابِرٍ قَدْ دَلَّ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ
الْغُسْلِ وَالْمَسْحِ وَالتَّيَمُّمِ. انْتَهَى. قال الموفق في المغني:
ويفارق مسح الجبيرة مسح الخف من خمسة أوجه: أحدهما: أنه لا
يجوز المسح عليها إلا عند الضرر بنزعها. الثاني: أنه يجب استيعابها بالمسح،
وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها في غيره مسح ما حاذى محل الفرض. الثالث:
أنه يمسح على الجبيرة من غير توقيت. الرابع: أنه يمسح عليها في الطهارة
الكبرى. الخامس: أنه لا يشترط تقدم الطهارة على شدها في إحدى الروايتين،
اختاره الخلال وقال: قد روى حرب وإسحاق والمروذي في ذلك سهولة عن أحمد
واحتج بأن عمرو كأنه ترك قوله الأول وهو أشبه لأن هذا مما لا ينضبط ويغلظ
على الناس جدًا فلا بأس به ويقوي هذا حديث جابر في الذي أصابته الشجة فإنه
قال: «إنما كان يجزئه أن يعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها» . ولم يذكر
الطهارة وكذلك أمر على أن يمسح على الجبائر ولم يشترط طهارة ولأن المسح
عليها جاز دفعًا لمشقة نزعها ونزعها يشق إذا لبسها على غير طهارة كمشقته
إذا لبسها على طهارة. والرواية الثانية: لا يمسح عليها إلا أن يشدها على
طهارة فعلى هذا لبسها على غير طهارة ثم خاف من نزعها تميم لها. انتهى
ملخصًا. قال في الاختيارات: والجريح ... إذا كان محدثًا حدثًا أصغر فلا
يلزمه مراعاة الترتيب، وهو الصحيح من مذهب أحمد وغيره، فيصح أن يتمم بعد
كمال الوضوء، بل هذا هو السنة والفصل بين أبعاض الوضوء بتميم بدعة. انتهى.
بَابُ الْجُنُبِ يَتَيَمَّمُ لَخَوْفِ الْبَرْدِ
453- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ لَمَّا بُعِثَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ
السَّلَاسِلِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةٍ
الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ
صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:
«يَا عَمْرُو صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» ؟ فَقُلْتُ:
ذَكَرْتُ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} فَتَيَمَّمْتُ
ثُمَّ
(1/121)
صَلَّيْتُ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّه - صلى
الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَضَحِكَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا) . فِيهِ دَلِيلَانِ
عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ عِنْدَ شِدَّةِ الْبَرْدِ وَمَخَافَةِ
الْهَلَاكِ: الْأَوَّلُ: التَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ. وَالثَّانِي:
عَدَمُ الْإِنْكَارِ. لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَا
يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ، وَالتَّبَسُّمُ وَالِاسْتِبْشَارُ أَقْوَى
دَلَالَةً مِنْ السُّكُوتِ عَلَى الْجَوَازِ، فَإِنَّ الِاسْتِبْشَارَ
دَلَالَتُهُ عَلَى الْجَوَازِ بِطَرِيقِ الْأُولَى. وَقَدْ اسْتَدَلَّ
بِهَذَا الْحَدِيثِ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ
الْمُنْذِرِ أَنَّ مَنْ تَيَمَّمَ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ وَصَلَّى لَا تَجِبُ
عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ
يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَمَرَهُ بِهَا،
وَلِأَنَّهُ أَتَى بِمَا أُمِرَ بِهِ وَقَدِرَ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ
سَائِرَ مَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: لَا
يَتَيَمَّمُ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ مَنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يُسَخِّنَ الْمَاءَ
أَوْ يَسْتَعْمِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الضَّرَر مِثْلَ أَنْ يَغْسِلَ
عُضْوًا وَيَسْتُرهُ، وَكُلَّمَا غَسَلَ عُضْوًا سَتَرَهُ وَدَفَّاهُ مِنْ
الْبَرْدِ لَزِمَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى فِي
قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. انْتَهَى. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وتصلي
المرأة بالتيمم عن الجنابة إذا كان يشق عليها تكرار النزول إلى الحمام، ولا
تقدر على الاغتسال في البيت. وكل من صلى في الوقت كما أمر بحسب الإمكان فلا
إعادة عليه، سواء كان العذر نادرًا أو معتادًا، قاله أكثر العلماء.
انْتَهَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ إثْبَاتُ التَّيَمُّمِ لِخَوْفِ الْبَرْدِ وَسُقُوطِ
الْفَرْضِ بِهِ، وَصِحَّةُ اقْتِدَاءِ الْمُتَوَضِّئِ بِالْمُتَيَمِّمِ،
وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَأَنَّ التَّمَسُّكَ
بِالْعُمُومَاتِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَقَوْلُهُ: (وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ
الْحَدَثَ) . لَعَلَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم -:
«صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ» .
بَابُ الرُّخْصَةِ فِي الْجِمَاعِ لِعَادِمِ الْمَاءِ
454- عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اجْتَوَيْتُ الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ لِي
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِبِلٍ فَكُنْتُ فِيهَا،
فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: هَلَكَ أَبُو
ذَرٍّ، قَالَ: «مَا حَالُكَ» ؟
(1/122)
قَالَ: كُنْتُ أَتَعَرَّضُ لِلْجَنَابَةِ
وَلَيْسَ قُرْبِي مَاءٌ، فَقَالَ: «إنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ لِمَنْ لَمْ
يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد
وَالْأَثْرَمُ، وَهَذَا لَفْظُهُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ التَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ، وَعَلَى أَنَّ الصَّعِيدَ طَهُورٌ يَجُوز
لِمَنْ تَطَهَّرَ بِهِ أَنْ يَفْعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُتَطَهِّرُ
بِالْمَاءِ مِنْ صَلَاةٍ وَقِرَاءَةٍ وَدُخُولُ مَسْجِدٍ وَمَسِّ مُصْحَفٍ
وَجِمَاعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِالتَّيَمُّمِ لَيْسَ
بِمُقَدَّرٍ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ، بَلْ يَجُوزُ وَإِنْ تَطَاوَلَ الْعَهْدُ
بِالْمَاءِ.
بَابُ اشْتِرَاطِ دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ
455- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ
مَسْجِدًا وَطَهُورًا أَيْنَمَا أَدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَمَسَّحَتْ ...
وَصَلَّيْتُ» .
456- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي مَسْجِدًا
وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي الصَّلَاةُ
فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ
الْمُصَنِّف بِالْحَدِيثِ عَلَى اشْتِرَاط دُخُولِ الْوَقْتِ لِلتَّيَمُّمِ
لِتَقْيِيدِ الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ بِإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ،
وَإِدْرَاكُهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ قَطْعًا.
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الِاشْتِرَاطِ الْعِتْرَةُ وَالشَّافِعِيُّ
وَمَالِكٌ
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَدَاوُد، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} وَلَا قِيَامَ قَبْلَهُ
وَالْوُضُوءُ خَصَّهُ الْإِجْمَاعُ وَالسُّنَّةُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَأَصْحَابُهُ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ قَبْلَ الْوَقْتِ كَالْوُضُوءِ،
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَلَمْ يَرِدْ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ
الْإِجْزَاءِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {إذَا قُمْتُمْ} إذَا أَرَدْتُمْ
الْقِيَامَ، وَإِرَادَةُ الْقِيَامِ تَكُونُ فِي الْوَقْتِ وَتَكُونُ
قَبْلَهُ، فَلَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ الْوَقْتِ حَتَّى
يُقَالَ خَصَّصَ الْوُضُوءَ الْإِجْمَاعُ. انْتَهَى. قلتُ: والأحوط التيمم
بعد دخول الوقت، وليس في ذلك حرج ولا مشقة. قَالَ فِي الاخْتِيَارَات:
والتيمم يرفع الحدث وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وفي الفتاوى
المصرية: التيمم لوقت كل صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، كمذهب مالك
وأحمد في المشهور عنه وهو أعدل الأقوال. انْتَهَى. والله أعلم.
(1/123)
بَابُ مَنْ وَجَدَ مَا يَكْفِي بَعْضَ
طَهَارَتِهِ يَسْتَعْمِلُهُ
457- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ مِنْ
الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ وَقَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ
النَّافِعَةِ، وَقَدْ شَهِدَ لَهُ صَرِيحُ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَلَكَ الِاسْتِدْلَال
بِالْحَدِيثِ عَلَى الْعَفْوِ عَنْ كُلِّ مَا خَرَجَ عَنْ الطَّاقَةِ،
وَعَلَى وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِمَا دَخَلَ تَحْتَ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ
الْمَأْمُورِ بِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ مُجَرَّدُ خُرُوجِ بَعْضِهِ عَنْ
الِاسْتِطَاعَةِ مُوجِبًا لَلْعَفْوِ عَنْ جَمِيعِهِ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ
بِهِ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الَّذِي يَكْفِي
لِبَعْضِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ.
بَابُ تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّيَمُّمِ دُون بَقِيَّةِ الْجَامِدَاتِ
458- عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم -: «أُعْطِيتُ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْأَرْضِ،
وَسُمِّيتُ أَحْمَدَ، وَجُعِلَ لِي التُّرَابُ طَهُورًا، وَجُعِلَتْ
أُمَّتِي خَيْرَ الْأُمَمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
459- وَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم
-: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ
الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا،
وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ» .
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ سَاقَهُ
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَلِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى
تَعَيُّنِ التُّرَابِ لِلتَّصْرِيحِ فِي الْحَدِيثِ بِذِكْرِ التُّرَابِ.
وقالَ في شرح قوله: «جُعِلَتْ الْأَرْضُ كُلُّهَا لِي وَلِأُمَّتِي
مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيْنَمَا أَدْرَكَتْ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي
الصَّلَاةُ فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَعِنْدَهُ طَهُورُهُ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ التُّرَابَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ كَالْمَاءِ لِاشْتِرَاكِهِمَا
فِي الطَّهُورِيَّةِ. وَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ جَائِزٌ بِجَمِيعِ
أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِعُمُومِ لَفْظِ الْأَرْضِ لِجَمِيعِهِ، وَقَدْ
أَكَّدَهُ بِقَوْلِهِ: «كُلّهَا» . وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُ بِتَخْصِيصِ
التُّرَابِ بقوله: «وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا» وَهَذَا خَاصٌّ
فَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الْعَامُّ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ تُرْبَةَ
كُلِّ مَكَان مَا فِيهِ مِنْ
(1/124)
تُرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلا يَتِمُّ
الاسْتِدْلال. إِلِى أَنْ قَالَ: وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى
أَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ التُّرَابِ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ مِنْ ذِكْرِ الصَّعِيدِ وَالْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ مِنْهُ،
وَهُوَ التُّرَابُ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: وَالصَّعِيدُ:
التُّرَابُ أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَفِي الْمِصْبَاحِ: الصَّعِيدُ: وَجْهُ
الْأَرْضِ تُرَابًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَيُؤَيِّدُ حَمْلَ الصَّعِيدِ
عَلَى الْعُمُومِ تَيَمُّمُهُ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْحَائِط،
وَقَدْ ذَهَبَ إلَى تَخْصِيصِ التَّيَمُّمِ بِالتُّرَابِ الْعِتْرَةُ
وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد؛ وَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَعَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ إلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ
بِالْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَات: وَيَجُوزُ التَّيَمُّم بِغَيْرِ التُّرَابِ مِنْ
أَجْزَاءِ الأَرْضِ إِذَا لَمْ يَجِدْ تُرَابًا وَهُوَ رُوَايَة. قَالَ
ابْنُ الْقَيِّمِ: وَكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يَتَيَمَّم بِالأَرْضِ
الَّتِّي يُصَلِّي عَلَيْهَا تُرَابًا كَانَتْ أَوْ سَبِخَة أَوْ رَمْلاً.
وَلَمَّا سَافَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكٍ قَطَعُوا تِلْكَ
الرِّمَالَ فِي طَرِيقِهِمْ، وَمَاؤُهُمْ فَي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَلَمْ
يَرِدْ عَنْهُ أَنَّهُ حَمَلَ مَعَهُ التُّرَابَ. وَلا أَمَرَ بِهِ ولا
فَعَلَهً أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَلا
يُسْتَحَبُّ حَمْلَهُ التُّرَابَ مَعَهُ لِلّتَيَمُّمِ وَقَالَهُ طَائِفَة
مِنَ الْعُلَمَاءِ خِلافًا لِمَا نَقَلَ عَنٍ أَحْمَدٍ.
بَابُ صِفَةِ التَّيَمُّمِ
460- عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «فِي التَّيَمُّمِ: ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.
461- وَفِي لَفْظ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ
بِالتَّيَمُّمِ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
462- وَعَنْ عَمَّارٍ قَالَ: أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ،
فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا» ،
وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ
وَنَفَخَ فِيهِمَا ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. مُتَّفَقٌ
عَلَيْهِ.
463- وَفِي لَفْظٍ: «إنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِكَفَّيْكَ
فِي التُّرَابِ، ثُمَّ تَنْفُخُ فِيهِمَا، ثُمَّ تَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَكَ
وَكَفَّيْكَ إلَى الرُّسْغَيْنِ» . رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ التَّيَمُّمَ ضَرْبَةٌ
(1/125)
وَاحِدَةٌ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. قال
في الفتح: وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ
وَاخْتَارَهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (إلَى الرُّصْغَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ: وَهُمَا مَفْصِلُ
الْكَفَّيْنِ. قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
التَّرْتِيبَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ لَا يَجِبُ.
بَابُ مَنْ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَصَلَّى
ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ
464- عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:
خَرَجَ رَجُلَانِ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمَا
مَاءٌ - فَتَيَمَّمَا صَعِيدًا طَيِّبًا فَصَلَّيَا، ثُمَّ وَجَدَا
الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ،
وَلَمْ يُعِدْ الْآخَرُ، ثُمَّ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه
وسلم - فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ
السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ» . وَقَالَ لِلَّذِي تَوَضَّأَ
وَأَعَادَ: «لَكَ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو
دَاوُد وَهَذَا لَفْظُهُ.
465- وَقَدْ رَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ النَّبِيِّ
- صلى الله عليه وسلم - مُرْسَلًا.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ مَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ بَعْدَ الْفَرَاغِ
مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ.
بَابُ بُطْلَانِ التَّيَمُّمِ بِوِجْدَانِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ
وَغَيْرِهَا
466- عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «إنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ
يَجِدْ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ
بَشَرَتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ
اللَّهُ قَدْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ... «فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ
فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ» . عَلَى وُجُوبِ الْإِعَادَةِ عَلَى مَنْ وَجَدَ
الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ صَحِيحٌ؛
لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مُطْلَقٌ فِيمَنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْوَقْتِ،
وَمَنْ وَجَدَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ وَحَالَ الصَّلَاةِ وَبَعْدَهَا.
وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ السَّابِقِ مُقَيَّدٌ بِمَنْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي
الْوَقْتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ،
(1/126)
فَتَخْرُجُ هَذِهِ الصُّورَةُ بِحَدِيثِ
أَبِي سَعِيدٍ وَتَبْقَى صُورَةُ وُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي
الصَّلَاةِ بَعْدَ فِعْلِ التَّيَمُّمِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ
قَبْل الْفَرَاغِ مِنْهَا دَاخِلَتَيْنِ تَحْتَ إطْلَاقِ الْحَدِيثِ.
بَابُ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ مَاءٍ وَلَا تُرَابٍ عِنْدَ الضَّرُورَةِ
467- عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً
فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِجَالًا فِي
طَلَبِهَا فَوَجَدُوهَا فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ - وَلَيْسَ مَعَهُمْ
مَاءٌ - فَصَلَّوْا بِغَيْرِ وُضُوءٍ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ -
صلى الله عليه وسلم - شَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ آيَةَ التَّيَمُّمِ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَصَلَّوْا
بِغَيْرِ وُضُوءٍ) اسْتَدَلَّ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ
مِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْد عَدَمِ
الْمُطَهِّرَيْنِ: الْمَاءِ، وَالتُّرَابِ، وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ
أَنَّهُمْ فَقَدُوا التُّرَابَ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُمْ فَقَدُوا
الْمَاءَ فَقَطْ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَعَدَمِ
الْمَاءِ وَالتُّرَابِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُطَهِّرَ سِوَاهُ وَوَجْهُ
الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا مُعْتَقِدِينَ وُجُوبَ ذَلِكَ،
وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعَةً لَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ
النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
(1/127)
|