بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

أَبْوَابُ الدَّفْنِ وَأَحْكَامُ الْقُبُورِ
بَابُ تَعْمِيقِ الْقَبْرِ وَاخْتِيَارِ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ

1889- عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَ: خَرَجْنَا فِي جِنَازَةٍ فَجَلَسَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى حَفِيرَةِ الْقَبْرِ فَجَعَلَ يُوصِي الْحَافِرَ وَيَقُولُ: «أَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ الرَّأْسِ، وَأَوْسِعْ مِنْ قِبَلِ الرِّجْلَيْنِ رُبَّ عِزْقٍ لَهُ فِي الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

1890- وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَفْرُ عَلَيْنَا لِكُلِّ إنْسَانٍ شَدِيدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَعْمِقُوا واحْفِرُوا وَأَحْسِنُوا وَادْفِنُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» . فَقَالُوا: فَمَنْ نُقَدِّمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «قَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا، وَكَانَ أَبِي ثَالِثَ ثَلَاثَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ بِنَحْوِهِ وَصَحَّحَهُ.

1891- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ سَعْدُ: الْحَدُوا لِي لَحْدًا، وَانْصِبُوا عَلَيَّ اللَّبِنَ نَصْبًا كَمَا صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

1892- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ رَجُلٌ يَلْحَدُ، وَآخَرُ يَضْرَحُ، فَقَالُوا: نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إلَيْهِمَا، فَأَيُّهُمَا سَبَقَ تَرَكْنَاهُ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ فَلَحَدُوا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

1893- وَلِابْنِ مَاجَهْ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِيهِ: إنَّ أَبَا

(1/512)


عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ كَانَ يَضْرَحُ، وَإِنَّ أَبَا طَلْحَةَ كَانَ يَلْحَدُ.

1894- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اللَّحْدُ لَنَا، وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى مَشْرُوعِيَّة إعْمَاقِ الْقَبْرِ وَإِحْسَانِهِ. وَجَوَازُ الْجَمْعِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ إذَا دَعَتْ إلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ فِي اللَّحْدِ مَنْ كَانَ أَكْثَرَهُمْ أَخَذًا لِلْقُرْآنِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ سَائِرُ الْمَزَايَا الدِّينِيَّةِ. وَفِيهِ اسْتِحْبَابُ نَصْبِ اللَّبِنِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي صُنِعَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ. وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِحْبَابِ اللَّحْدِ وَأَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الضَّريحِ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ الْأَكْثَرُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ. وَحُكِيَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ اللَّحْدِ وَالشَّقِّ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ
وَمَا يُقَالُ: عِنْدَ ذَلِكَ وَالْحَثْيُ فِي الْقَبْرِ

1895- عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أَوْصَى الْحَارِثُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْقَبْرَ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ وَقَالَ: هَذَا مِنْ السُّنَّةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

1896- وَسَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ وَزَادَ ثُمَّ قَالَ: أَنْشِطُوا الثَّوْبَ فَإِنَّمَا يُصْنَعُ هَذَا بِالنِّسَاءِ.

1897- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ إذَا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي الْقَبْرِ قَالَ: «بِسْمِ اللَّهِ، وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» .

1898- وَفِي لَفْظِ: «وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ.

1899- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ ثُمَّ أَتَى قَبْرَ الْمَيِّتِ: فَحَثَى عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ ثَلَاثًا. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

(1/513)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنَّ يَدْخُلَ الْمَيِّتُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْقَبْرِ: أَيْ مَوْضِعِ رِجْلَيْ الْمَيِّتِ مِنْهُ عِنْدَ وَضْعِهِ، وفِيهِ اسْتِحْبَابُ هَذَا الذِّكْرِ عِنْدَ وَضَعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَشْرُوعَ أَنْ يُحْثَى عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ جِهَةِ رَأْسِهِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ذَلِكَ: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} . انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ تَسْنِيمِ الْقَبْرِ وَرَشِّهِ بِالْمَاءِ وَتَعْلِيمِهِ
لِيُعْرَفَ وَكَرَاهَةِ الْبِنَاءِ وَالْكِتَابَةِ عَلَيْهِ

1900- عَنْ سُفْيَانَ التَّمَّارِ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسَنَّمًا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.

1901- وَعَنْ الْقَاسِمِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: يَا أُمَّهْ بِاَللَّهِ اكْشِفِي لِي عَنْ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ، فَكَشَفَتْ لِي عَنْ ثَلَاثَةِ قُبُورٍ لَا مُشْرِفَةٍ، وَلَا لَاطِئَةٍ مَبْطُوحَةٍ بِبَطْحَاءِ الْعَرْصَةِ الْحَمْرَاءِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
1902- وَعَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ. رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَابْنَ مَاجَهْ.

1903- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إبْرَاهِيمَ وَوَضَعَ عَلَيْهِ حَصْبَاءَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

1904- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - علم قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بِصَخْرَةٍ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

1905- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد.
1906- وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَلَفْظُهُ: نَهَى أَنْ تُجَصَّصَ الْقُبُورُ، وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهَا، وَأَنْ تُوطَأَ.

1907- وَفِي لَفْظِ النَّسَائِيّ: نَهَى أَنْ يُبْنَى عَلَى الْقَبْرِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ أَوْ يُجَصَّصَ أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ.

(1/514)


قَوْلُهُ: (إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْلَمَ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ بِصَخْرَةٍ) . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ جَعْلِ عَلَامَةٍ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ كَنَصْبِ حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: (أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ) فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (عَنْ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ) . قَالَ الشَّارِحُ: وَفِيهِ تَحْرِيمُ تَجْصِيصِ الْقُبُورِ.
قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْقُعُودِ عَلَى الْقَبْرِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ. وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَأَيْت الْأَئِمَّةَ بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يُبْنَى.

قَوْلُهُ: (وَأَنْ يُكْتَبَ عَلَيْهَا) فِيهِ تَحْرِيمُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْقُبُورِ.
قَوْلَهُ: (أَوْ يُزَادُ عَلَيْهِ) بَوَّبَ عَلَى هَذِهِ الزِّيَادَةِ الْبَيْهَقِيُّ: بَابُ (لَا يُزَادُ عَلَى الْقَبْرِ أَكْثَرُ مِنْ تُرَابِهِ لِئَلَّا يَرْتَفِعَ) .

قَوْلُهُ: (لَا تَدَعْ تِمْثَالًا إلَّا طَمَسْتَهُ) فِيهِ الْأَمْرُ بِتَغْيِيرِ صُوَرِ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ.

قَوْلُهُ: (وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إلَّا سَوَّيْتَهُ) فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَنَّ الْقَبْرَ لَا يُرْفَعُ رَفْعًا كَثِيرًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ مَنْ كَانَ فَاضِلًا وَمَنْ كَانَ غَيْرَ فَاضِلٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَفْعَ الْقُبُورِ زِيَادَةً عَلَى الْقَدْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ مُحَرَّمٌ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَصْحَابُ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْظُورٍ لِوُقُوعِهِ مِنْ
السَّلَفِ وَالْخَلَفِ بِلَا نَكِيرٍ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ يَحْيَى وَالْمَهْدِيُّ فِي الْغَيْثِ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا فِيهِ أَنَّهُمْ سَكَتُوا عَنْ ذَلِكَ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا كَانَ فِي الْأُمُورِ الظَّنِّيَّةِ، وَتَحْرِيمُ رَفْعِ الْقُبُورِ ظَنِّيٌّ، وَمِنْ رَفْعِ الْقُبُورِ الدَّاخِلِ تَحْتَ الْحَدِيثِ دُخُولًا أَوَّلِيَّا الْقُبَبُ وَالْمَشَاهِدُ الْمَعْمُورَةُ عَلَى الْقُبُورِ، وَأَيْضًا هُوَ مِنْ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ، وَقَدْ لَعَنَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاعِلَ ذَلِكَ، وَكَمْ قَدْ سَرَى عَنْ تَشْيِيدِ أَبْنِيَةِ الْقُبُورِ وَتَحْسِينِهَا مِنْ مَفَاسِدَ يَبْكِي لَهَا الْإِسْلَامُ، مِنْهَا اعْتِقَادُ الْجَهَلَةِ لَهَا كَاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ لِلْأَصْنَامِ: وَعَظُمَ ذَلِكَ فَظَنُّوا أَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى جَلْبِ النَّفْعِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ فَجَعَلُوهَا مَقْصِدًا لِطَلَبِ قَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَمَلْجَأً لِنَجَاحِ الْمَطَالِبِ وَسَأَلُوا

(1/515)


مِنْهَا مَا يَسْأَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ رَبِّهِمْ، وَشَدُّوا إلَيْهَا الرِّحَالَ وَتَمَسَّحُوا بِهَا وَاسْتَغَاثُوا. وَبِالْجُمْلَةِ إنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا شَيْئًا مِمَّا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ بِالْأَصْنَامِ إلَّا فَعَلُوهُ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَمَعَ هَذَا الْمُنْكَرِ الشَّنِيعِ وَالْكُفْرِ الْفَظِيعِ لَا تَجِدُ مَنْ يَغْضَبُ لِلَّهِ وَيَغَارُ حَمِيَّةً لِلدِّينِ الْحَنِيفِ لَا عَالِمًا وَلَا مُتَعَلِّمًا وَلَا أَمِيرًا وَلَا وَزِيرًا وَلَا مَلِكًا، وَقَدْ تَوَارَدَ إلَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَقْبُورِينَ أَوْ أَكْثَرِهِمْ إذَا تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ يَمِينٌ مِنْ جِهَةِ خَصْمِهِ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَاجِرًا، فَإِذَا قِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: احْلِفْ بِشَيْخِك وَمُعْتَقَدِكَ الْوَلِيِّ الْفُلَانِيِّ تَلَعْثَمَ وَتَلَكَّأَ وَأَبَى وَاعْتَرَفَ بِالْحَقِّ. وَهَذَا مِنْ أَبْيَنِ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ قَدْ بَلَغَ فَوْقَ شِرْكِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ تَعَالَى ثَانِيَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ وَيَا مُلُوكَ الْمُسْلِمِينَ، أَيُّ رُزْءٍ لِلْإِسْلَامِ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ، وَأَيُّ بَلَاءٍ لِهَذَا الدِّينِ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ؟ وَأَيُّ مُصِيبَةٍ يُصَابُ بِهَا الْمُسْلِمُونَ تَعْدِلُ هَذِهِ الْمُصِيبَةَ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ يَجِبُ إنْكَارُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ إنْكَارُ هَذَا الشِّرْكِ الْبَيِّنِ وَاجِبًا:
لَقَدْ أَسْمَعْت لَوْ نَادَيْتَ حَيًّا ... وَلَكِنْ لَا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي
وَلَوْ نَارًا نَفَخْت بِهَا أَضَاءَتْ ... وَلَكِنْ أَنْتَ تَنْفُخُ فِي رَمَادِ
انْتَهَى.

قُلْتُ: وَقَدْ مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِ نَجْدٍ بِآلِ سُعُودٍ وَمُجَدِّدِ الْقَرْن الثَّانِي عَشَر مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الْوَهَابِ وَذُرِّيَتِهِ وَأَعْوَانِهِمْ فَهَدَمُوا الْقُبُورَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى وَدَعوا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَإِتِبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم -.

بَابُ مَنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفِنَ الْمَرْأَةَ

1908- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: شَهِدْتُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تُدْفَنُ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ، فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: «هَلْ فِيكُمْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يُقَارِفْ اللَّيْلَةَ» ؟ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: أَنَا، قَالَ: «فَأنَزَلَ فِي قَبْرِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

1909- وَلِأَحْمَدَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رُقَيَّةَ لَمَّا مَاتَتْ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا يَدْخُلْ الْقَبْرَ رَجُلٌ قَارَفَ اللَّيْلَةَ أَهْلَهُ» . فَلَمْ يَدْخُلْ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْقَبْرَ.

(1/516)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُدْخِلَ الْمَرْأَةَ فِي قَبْرِهَا الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَأَنَّهُ يُقَدَّمُ الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ الَّذِينَ بَعُدَ عَهْدُهُمْ بِالْمَلَاذِ فِي الْمُوَارَاةِ عَلَى الْأَقَارِبِ الَّذِينَ قَرُبَ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ كَالْأَبِ وَالزَّوْجِ. وَفِيهِ جَوَازُ الْجُلُوسِ عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، وَجَوَازُ الْبُكَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.

بَابُ آدَابِ الْجُلُوسِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَالْمَشْيِ فِيهَا

1910- عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إلَى الْقَبْرِ وَلَمْ يُلْحَدْ بَعْدُ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَجَلَسْنَا مَعَهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
1911- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَحْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إلَّا الْبُخَارِيَّ وَالتِّرْمِذِيَّ.
1912- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا عَلَى قَبْرٍ فَقَالَ: «لَا تُؤْذِ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ» . أَوْ: «لَا تُؤْذِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

1913- وَعَنْ بَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلًا يَمْشِي فِي نَعْلَيْنِ بَيْنَ الْقُبُورِ فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَلْقِهِمَا. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا التِّرْمِذِيَّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الْجُلُوسِ لِمَنْ كَانَ مُنْتَظِرًا دَفْنَ الْجِنَازَةِ.

قَوْلُهُ: (لَأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَلَى الْقَبْرِ.

قَوْلُهُ: (يَا صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ) قَالَ الشَّارِحُ: ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَشْيُ بَيْنَ الْقُبُورِ بِالنَّعْلَيْنِ.

(1/517)


بَاب الدَّفْنِ لَيْلاً

1914- عَنِ الشّعبيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَ إنْسَانٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ، فَمَاتَ بِاللَّيْلِ فَدَفَنُوهُ لَيْلًا؛ فَلَمَّا أَصْبَحَ أَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: «مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تُعْلِمُونِي» ؟ قَالُوا: كَانَ اللَّيْلُ فَكَرِهْنَا، - وَكَانَ ظُلْمَةٌ - أَنْ نَشُقَّ عَلَيْكَ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَدُفِنَ أَبُو بَكْرٍ لَيْلًا.
1915- وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا عَلِمْنَا بِدَفْنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى سَمِعْنَا صَوْتَ الْمَسَاحِي مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَالْمَسَاحِي: الْمُرُورُ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

1916- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: رَأَى نَاسٌ نَارًا فِي الْمَقْبَرَةِ فَأَتَوْهَا، فَإِذَا ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْقَبْرِ يَقُولُ: «نَاوِلُونِي صَاحِبَكُمْ» . فَإِذَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا هُوَ الَّذِي كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالذِّكْرِ) . فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ قَبْرًا لَيْلًا فَأَسْرَجَ لَهُ سِرَاج فَأَخَذَهُ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ: «رَحِمَكَ اللَّهُ إنْ كُنْتَ لَأَوَّاهًا تَلَّاءً لِلْقُرْآنِ» .

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَفِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - زَجَرَ أَنْ يُقْبَرَ الرَّجُلُ لَيْلًا حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ أَنَّ الزَّجْرَ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - إنَّمَا كَانَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا لِلدَّفْنِ بِاللَّيْلِ، أَوْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْفِنُونَ بِاللَّيْلِ لِرَدَاءَةِ الْكَفَنِ. فَإِذَا لَمْ يَقَعْ تَقْصِيرٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ فَلَا بَأْسَ بِالدَّفْنِ لَيْلًا.

بَابُ الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ

1917- عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

(1/518)


1918- وَعَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ وَضَمْرَةَ بْنِ حَبِيبٍ وَحَكِيمِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالُوا: إذَا سُوِّيَ عَلَى الْمَيِّتِ قَبْرُهُ وَانْصَرَفَ النَّاسُ عَنْهُ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُقَالَ لِلْمَيِّتِ
عِنْدَ قَبْرِهِ: يَا فُلَانُ قُلْ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَا فُلَانُ قُلْ: رَبِّي اللَّهُ، وَدِينِي الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ يَنْصَرِفُ رَوَاهُ سَعِيدٌ فِي سُنَنِهِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (إذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ مَشْرُوعِيَّة الِاسْتِغْفَارِ لِلْمَيِّتِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ وَسُؤَالِ التَّثْبِيتِ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يُسْأَلُ فِي تِلْكَ الْحَالِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ حَيَاةِ الْقَبْرِ. وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ، وَفِيهِ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ بِهِ أَيْضًا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا.

قَوْلُهُ: (كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ) ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُسْتَحِبَّ لِذَلِكَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ أَدْرَكُوهُمْ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ.

بَابُ النَّهْيِ عَنْ اتِّخَاذِ الْمَسَاجِدِ وَالسُّرُجِ فِي الْمَقْبَرَةِ

1919- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1920- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَائِرَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا ابْنَ مَاجَهْ.

قَوْلُهُ: «اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ظَاهِرُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا مَسَاجِدَ يُصَلُّونَ فِيهَا، وَقِيلَ: هُوَ أَعَمُّ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهَا وَفِيهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إلَيْهَا أَوْ عَلَيْهَا» . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ ذَلِكَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ مِنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسٍ، وَزَادَ فِيهِ: «فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ الْقُبُورِ مَسَاجِدَ.
قَوْلُهُ: «لَعَنَ اللَّهُ زَائِرَاتِ الْقُبُورِ» . فِيهِ تَحْرِيمُ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ.

(1/519)


قَوْلُهُ: (وَالسُّرُجَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ اتِّخَاذِ السُّرُجِ عَلَى الْمَقَابِرِ لِمَا يُفْضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ.

بَابُ وُصُولِ ثَوَابِ الْقُرَبِ الْمُهْدَاةِ إلَى الْمَوْتَى

1921- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ نَذَرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يَنْحَرَ مِائَةَ بَدَنَةٍ، وَأَنَّ هِشَامَ بْنَ الْعَاصِ نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ، وَأَنَّ عَمْرًا سَأَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «أَمَّا أَبُوكَ فَلَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ فَصُمْتَ وَتَصَدَّقْتَ عَنْهُ نَفَعَهُ ذَلِكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

1922- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يُوصِ، أَفَيَنْفَعُهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

1923- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي اُفْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأُرَاهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهَا؟ قَالَ «نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

1924- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ، أَيَنْفَعُهَا إنْ تَصَدَّقْت عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: فَإِنَّ لِي مَخْرَفًا، فَأَنَا أُشْهِدُك أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
1925- وَعَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ أَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . قال: فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «سَقْيُ الْمَاءِ» . قَالَ الْحَسَنُ: فَتِلْكَ سِقَايَةُ آلِ سَعْدٍ بِالْمَدِينَةِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (نَحَرَ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ) إنَّمَا كَانَتْ حِصَّتَهُ خَمْسِينَ؛ لِأَنَّ الْعَاصِ بْنَ وَائِلٍ خَلَفَ ابْنَيْنِ هِشَامًا وَعَمْرًا، فَأَرَادَ هِشَامٌ أَنْ يَفِيَ بِنَذْرِ أَبِيهِ فَنَحَرَ حِصَّتَهُ مِنْ الْمِائَةِ الَّتِي نَذَرَهَا وَحِصَّتُهُ خَمْسُونَ، وَأَرَادَ عَمْرٌو أَنْ يَفْعَلَ كَفِعْلِ أَخِيهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْتَ أَبِيهِ عَلَى الْكُفْرِ مَانِعٌ مِنْ وُصُولِ نَفْعِ ذَلِكَ إلَيْهِ، وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالتَّوْحِيدِ لَأَجْزَأَ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَحِقَهُ

(1/520)


ثَوَابُهُ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَذْرَ الْكَافِرِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ لَا يَلْزَمُ إذَا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ. وَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ وَقَعَ مِنْهُ نَذْرٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ لِمَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ لَيْلَةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» .

قَوْلُهُ: (نَفَعَهُ ذَلِكَ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا فَعَلَهُ الْوَلَدُ لِأَبِيهِ الْمُسْلِمِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّدَقَةِ يَلْحَقُهُ ثَوَابُهُ.

قَوْلُهُ: (سَقْيُ الْمَاءِ) . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سَقْيَ الْمَاءِ أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ. وَلَفْظُ أَبِي دَاوُد: (فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْمَاءُ» . فَحَفَرَ بِئْرًا وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ) . وَأَحَادِيثُ الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْ الْوَلَدِ تَلْحَقُ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا بِدُونِ وَصِيَّةٍ مِنْهُمَا وَيَصِلُ إلَيْهِمَا ثَوَابُهَا. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيّ وَجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ لا يَصِلُ إِلَى الْمَيِّتِ ثَوَابَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَذَهَبَ أَحْمَدُ بن حَنْبَل وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِلُ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ حَكَى النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ الإِجْمَاعَ عَلَى وُصُولِ الدُّعَاءِ إِلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ عَنِ الْمَيِّتِ وَيَصِلَهُ ثَوَابَهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِالْوَلَدِ.
بَابُ تَعْزِيَةِ الْمُصَابِ
وَثَوَابِ صَبْرِهِ وَأَمْرِهِ بِهِ وَمَا يَقُولُ لِذَلِكَ

1926- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إلَّا كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ.

1927- وَعَنْ الْأَسْوَدِ بنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ.

1928- وَعَنْ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلَمٍ وَلَا مُسْلِمَةٍ يُصَابُ بِمُصِيبَةٍ فَيَذْكُرُهَا وَإِنْ قَدُمَ عَهْدُهَا فَيُحْدِثُ لِذَلِكَ اسْتِرْجَاعًا

(1/521)


إلَّا جَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَأَعْطَاهُ مِثْلَ أَجْرِهَا يَوْمَ أُصِيبَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

1929- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

1930- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ ... رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَاءَتْ التَّعْزِيَةُ سَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ: إنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرَكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاَللَّهِ فَثِقُوا وَإِيَّاهُ فَارْجُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ.

1931- وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ مِن مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قَالَتْ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،
قَالَتْ: ثُمَّ عَزَمَ اللَّهُ لِي فَقُلْتُهَا، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (اللَّهُمَّ أْجُرْنِي) قَالَ الْقَاضِي: يُقَالُ: أْجُرْنِي بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الْأَفْعَالِ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ: قَالُوا: هُوَ مَقْصُورٌ لَا يُمَدُّ، وَمَعْنَى أَجَرَهُ اللَّهُ: أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاهُ صَبْرَهُ وَهَمَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ.

قَوْلُهُ: (وَأَخْلِفْ لِي) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَطْعِ الْهَمْزَة وَكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أَوْ وَلَدٌ أَوْ قَرِيبٌ أَوْ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْك: أَيْ رَدَّ عَلَيْك مِثْلَهُ، فَإِنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ مِثْلُهُ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدٌ أَوْ عَمٌّ قِيلَ لَهُ: خَلَفَ اللَّهُ عَلَيْك بِغَيْرِ أَلِفٍ: أَيْ كَانَ اللَّهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْك.
قَوْلُهُ: (إلَّا أَجَرَهُ اللَّهُ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هُوَ بِقَصْرِ الْهَمْزَةِ وَمَدِّهَا، وَالْقَصْرُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ.

(1/522)


بَابُ صُنْعِ الطَّعَامِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ وَكَرَاهَتِهِ مِنْهُمْ لِلنَّاسِ

1932- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلَّا النَّسَائِيّ.

1933- وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنْ النِّيَاحَةِ رَوَاهُ أَحْمَدُ.

1934- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كَانُوا يَعْقِرُونَ عِنْدَ الْقَبْرِ بَقَرَةً أَوْ شَاةً.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ) فِي مَشْرُوعِيَّة الْقِيَامِ بِمُؤْنَةِ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ لِاشْتِغَالِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَا دَهَمَهُمْ مِنْ الْمُصِيبَةِ.

قَوْلُهُ: (كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ) إلَى آخِرِهِ. يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَ الِاجْتِمَاعَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَيِّتِ بَعْدَ دَفْنِهِ، وَأَكْلَ الطَّعَامِ عَنْدَهُمْ نَوْعًا مِنْ النِّيَاحَةِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّثْقِيلِ عَلَيْهِمْ وَشَغْلِهِمْ مَعَ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ شُغْلَةِ الْخَاطِرِ بِمَوْتِ الْمَيِّتِ وَمَا فِيهِ مِنْ مُخَالِفَةِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَصْنَعُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا فَخَالَفُوا ذَلِكَ وَكَلَّفُوهُمْ صَنْعَةَ الطَّعَامِ لِغَيْرِهِمْ.

قَوْلُهُ: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» . فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَقْرِ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْقِرُونَ الْإِبِلَ عَلَى قَبْرِ الرَّجُلِ الْجَوَادِ يَقُولُونَ: نُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْقِرُهَا فِي حَيَاتِهِ فَيُطْعِمُهَا الْأَضْيَافَ، فَنَحْنُ نَعْقِرُهَا عِنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى تَأْكُلَهَا السِّبَاعُ وَالطَّيْرُ فَيَكُونُ مُطْعِمًا بَعْدَ مَمَاتِهِ كَمَا كَانَ مُطْعِمًا فِي حَيَاتِهِ قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَذْهَبُ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ إذَا عُقِرَتْ رَاحِلَتُهُ عِنْدَ قَبْرِهِ حُشِرَ فِي الْقِيَامَةِ رَاكِبًا، وَمَنْ لَمْ يُعْقَرْ عِنْدَهُ حُشِرَ رَاجِلًا انْتَهَى.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ وَبَيَانِ الْمَكْرُوهِ مِنْهُ

1935- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أُصِيبَ أَبِي يَوْمَ أُحُدٍ فَجَعَلْتُ أَبْكِي، فَجَعَلُوا

(1/523)


يَنْهَوْنِي وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَنْهَانِي فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «تَبْكِينَ أَوْ لَا تَبْكِينَ مَا زَالَتْ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
1936- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَاتَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَكَتْ النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ وَقَالَ: مَهْلًا يَا عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: «إيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ» . ثُمَّ قَالَ: «إنَّهُ مَهْمَا كَانَ مِنْ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنْ الرَّحْمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ الْيَدِ وَاللِّسَانِ فَمِنْ الشَّيْطَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
1937- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اشْتَكَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ شَكْوَى لَهُ، فَأَتَاهُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ فِي غَاشِيَّةٍ، فَقَالَ: «قَدْ قَضَى» . فَقَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمُ بُكَاءَهُ بَكَوْا؛ فقَالَ: «أَلَا تَسْمَعُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا، وَأَشَارَ إلَى لِسَانِهِ أَوْ يَرْحَمُ» .

1938- وَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ تَدْعُوهُ وَتُخْبِرُهُ أَنَّ صَبِيًّا لَهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: لِلرَّسُول «ارْجِعْ إلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» . فَعَادَ الرَّسُولُ فَقَالَ: إنَّهَا أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، قَالَ: فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمْ، فَرُفِعَ إلَيْهِ الصَّبِيُّ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنَّةٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ سَعْدٌ: مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

1939- وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ لَمَّا مَاتَ حَضَرَهُ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَتْ: فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
1940- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ مِنْ أُحُدٍ سَمِعَ

(1/524)


نِسَاءً مِنْ عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَبْكِينَ عَلَى هَلْكَاهِنَّ، فَقَالَ: «ولَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ» . فَجِئْنَ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ فَبَكَيْنَ عَلَى حَمْزَةَ عِنْدَهُ، فَاسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «وَيْحَكُنَّ أَنْتُنَّ هَا هُنَا تَبْكِينَ حَتَّى الْآنَ، مُرُوهُنَّ فَلْيَرْجِعْنَ وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ.

1941- وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: «غُلِبْنَا عَلَيْك يَا أَبَا الرَّبِيعِ» . فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّنُهُنَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» . قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الْمَوْتُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَلَكِنْ حَمْزَةُ لَا بَوَاكِيَ لَهُ) . هَذِهِ الْمَقَالَةُ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ عَدَمِ إنْكَارِهِ لِلْبُكَاءِ الْوَاقِعِ مِنْ نِسَاءِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ هَلْكَاهُنَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ مُجَرَّدِ الْبُكَاءِ. وَقَوْلُهُ: «وَلَا يَبْكِينَ عَلَى هَالِكٍ بَعْدَ الْيَوْمِ» . ظَاهِرُهُ الْمَنْعُ مِنْ مُطْلَقِ الْبُكَاءِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ: «فَإِذَا وَجَبَ فَلَا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ» . وَذَلِكَ يُعَارِضُ مَا فِي الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْبَابِ مِنْ الْإِذْنِ بِمُطْلَقِ الْبُكَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ. إِلِى أَنْ قَالَ: فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَنْ الْبُكَاءِ مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا بِبُعْدِ الْمَوْتِ عَلَى الْبُكَاءِ الْمُفْضِي إلَى مَا لَا يَجُوزُ مِنْ النَّوْحِ وَالصُّرَاخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْإِذْنُ بِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الْبُكَاءِ الَّذِي هُوَ دَمْعُ الْعَيْنِ وَمَا لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ مِنْ الصَّوْتِ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى هَذَا الْجَمْعِ قَوْلُهُ: «وَلَكِنْ نَهَيْت عَنْ صَوْتَيْنِ أحمقين فاجرين: صوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان» . الحديث. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
بَابُ النَّهْيِ عَنْ النِّيَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَخَمْشِ الْوُجُوهِ
وَنَشْرِ الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ الرُّخْصَةُ فِي يَسِيرِ الْكَلَامِ مِنْ صِفَةِ الْمَيِّتِ

1942- عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ» .

1943- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسَى وَجَعًا فَغُشِيَ عَلَيْهِ

(1/525)


وَرَأْسُهُ فِي حِجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ، فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا شَيْئًا، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ بَرِيءَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَإِنَّ ... رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيءَ مِنْ الصَّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ.

1944- وَعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إنَّهُ مَنْ ينحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» .

1945- وَعَنْ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ.

1946- وَفِي رِوَايَةٍ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ.

1947- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .

1948- وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ.
1949- وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» .

1950- وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ
وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ» . وَقَالَ: «النَّائِحَةُ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

1951- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْمَيِّتُ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ إذَا قَالَتْ النَّائِحَةُ: وَاعَضُدَاهَ وَانَاصِرَاهُ وَاكَسِبَاهُ، جُبِذَ الْمَيِّتُ وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ عَضُدُهَا أَنْتَ نَاصِرُهَا أَنْتَ كَاسِبُهَا» ؟ . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

1952- وَفِي لَفْظِ «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ بَاكِيهِم فَيَقُولُ: وَاجَبَلاهُ وَامسَنَدَاهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ إلَّا وُكِّلَ بِهِ مَلَكَانِ يَلْهَزَانِهِ أَهَكَذَا كُنْتَ» ؟ . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.

1953- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ

(1/526)


فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ عَمْرَةُ تَبْكِي: وَاجَبَلَاهُ وَاكَذَا وَاكَذَا تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَالَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْت شَيْئًا إلَّا قِيلَ لِي أَنْتَ كَذَلِكَ؛ فَلَمَّا مَاتَ لَمْ تَبْكِ عَلَيْهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1954- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ الْكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ: وَاكَرْبَ أَبَتَاهُ، فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» . فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ يَا أَبَتَاهُ إلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ: أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - التُّرَابَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

1955- وَعَنْ أَنَسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ وَفَاتِهِ فَوَضَعَ فَمَه بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَوَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ وَقَالَ: وَانَبِيَّاهُ وَاخَلِيلَاهُ وَاصَفِيَّاهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (لَيْسَ مِنَّا) أَيْ مِنْ أَهْلِ سُنَّتِنَا وَطَرِيقَتنَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إخْرَاجَهُ مِنْ الدِّينِ، وَفَائِدَةُ إيرَادِ هَذَا اللَّفْظِ الْمُبَالَغَةُ
فِي الرَّدْعِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: وَالْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى تَحْرِيمِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ؛ لِأَنَّهَا مُشْعِرَةٌ بِعَدَمِ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ.

قَوْلُهُ: «مَنْ نِيحَ عَلَيْهِ يُعَذَّبُ بِمَا نِيحَ عَلَيْهِ» . ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى الْأَخْذِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى تَأْوِيلِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِمَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُبْكَى عَلَيْهِ. وَقالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَادُ أَنَّ بِدْءِ عَذَابِ الْمَيِّتِ يَقَعُ عِنْدَ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ يَقَعُ لِمَنْ أَهْمَلَ نَهْيَ أَهْلِهِ عَنْ ذَلِكَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى التَّعْذِيبِ تَوْبِيخُ الْمَلَائِكَةِ لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ فَيَنْزِلَ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ؛ بِأَنْ يُقَالَ مَثَلًا: مَنْ كَانَ طَرِيقَتُهُ النَّوْحَ فَمَشَى أَهْلُهُ عَلَى طَرِيقَتِهِ أَوْ بَالَغَ فَأَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ عُذِّبَ بِصَنِيعِهِ، وَمَنْ كَانَ ظَالِمًا فَنُدِبَ بِأَفْعَالِهِ الْجَائِرَةِ عُذِّبَ بِمَا نُدِبَ بِهِ، وَمَنْ كَانَ يَعْرِفُ مِنْ أَهْلِهِ النِّيَاحَةَ وَأَهْمَلَ نَهْيَهُمْ

(1/527)


عَنْهَا فَإِنْ كَانَ رَاضِيًا بِذَلِكَ الْتَحَقَ بِالْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ رَاضٍ عُذِّبَ بِالتَّوْبِيخِ كَيْفَ أَهْمَلَ النَّهْيَ، وَمَنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاحْتَاطَ فَنَهَى أَهْلَهُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ خَالَفُوهُ وَفَعَلُوا ذَلِكَ كَانَ تَعْذِيبُهُ تَأَلُّمَهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْهُ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ وَإِقْدَامِهِمْ عَلَى مَعْصِيَةِ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.

قَالَ الشَّارِحُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ فَاطِمَةَ جَوَازُ ذِكْرِ الْمَيِّتِ بِمَا هُوَ مُتَّصِفٌ بِهِ إنْ كَانَ مَعْلُومًا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: لَيْسَ هَذَا مِنْ نَوْحِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْكَذِبِ وَرَفْعِ الصَّوْتِ وَغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ نُدْبَةٌ مُبَاحَةٌ.
بَابُ الْكَفِّ عَنْ ذِكْرِ مَسَاوِئِ الْأَمْوَاتِ

1956- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إلَى مَا قَدَّمُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
1957- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَا تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ» ظَاهِرُهُ النَّهْيُ عَنْ سَبِّ الْأَمْوَاتِ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَدْ خُصِّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ثَنَائِهِمْ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ: «وَجَبَتْ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ» . وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ رَشِيدٍ: إنَّ السَّبَّ يَكُونُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ وَفِي حَقِّ الْمُسْلِمِ أَمَّا فِي حَقِّ الْكَافِرِ فَيَمْتَنِعُ إذَا تَأَذَّى بِهِ الْحَيُّ الْمُسْلِمُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَحَيْثُ تَدْعُو الضَّرُورَةُ إلَى ذَلِكَ كَأَنْ يَصِيرَ مِنْ قَبِيلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ يَجِبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَقَدْ تَكُونُ مَصْلَحَةً لِلْمَيِّتِ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالْوَجْهُ تَبْقِيَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عُمُومِهِ إلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ كَالثَّنَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالشَّرِّ وَجَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنْ الرُّوَاةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ وَذِكْرِ مَسَاوِئِ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ. إِلِى أَنْ قَالَ: وَالْمُتَحَرِّي لِدِينِهِ فِي اشْتِغَالِهِ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ نَشْرِ مَثَالِبِ الْأَمْوَاتِ، وَسَبِّ مَنْ لَا يَدْرِي كَيْفَ حَالُهُ عِنْدَ بَارِئِ الْبَرِّيَّاتِ.

(1/528)


بَابُ اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ
دُونَ النِّسَاءِ وَمَا يُقَالُ عِنْدَ دُخُولِهَا

1958- عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «قَدْ كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَقَدْ أُذِنَ لَمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ، فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ ... الْآخِرَةَ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
1959 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْت رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأُذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

1960- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

1961- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ عَائِشَةَ أَقْبَلَتْ ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ الْمَقَابِرِ فَقُلْت لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت؟ قَالَتْ: مِنْ قَبْرِ أَخِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقُلْت لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ كَانَ نَهَى عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا. رَوَاهُ الْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ.

1962- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبَرَةَ فَقَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

1963- وَلِأَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةِ مِثْلُهُ وَزَادَ: «اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ» .

1964 - وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ إذَا خَرَجُوا إلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ فِيهَا مَشْرُوعِيَّة زِيَارَةِ

(1/529)


الْقُبُورِ وَنَسْخُ النَّهْيِ عَنْ الزِّيَارَةِ. وَقَدْ حَكَى وَالنَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ زِيَارَةَ الْقُبُورِ لِلرِّجَالِ جَائِزَةٌ. قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ ذَهَبَ إلَى كَرَاهَةِ الزِّيَارَةِ لِلنِّسَاءِ
جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَرَاهَةِ هَلْ هِيَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى الْجَوَازِ إذَا أُمِنَتْ الْفِتْنَةُ وَاسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا دُخُولُهُنَّ تَحْتَ الْإِذْنِ الْعَامِّ بِالزِّيَارَةِ. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ الْعَامَّ مُخَصَّصٌ بِهَذَا النَّهْيِ الْخَاصِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ اللَّعْنِ.

قََالَ الْقُرْطُبِيُّ: اللَّعْنُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ إنَّمَا هُوَ لِلْمُكْثِرَاتِ مِنْ الزِّيَارَةِ لِمَا تَقْتَضِيهِ الصِّيغَةُ مِنْ الْمُبَالَغَةِ، وَلَعَلَّ السَّبَبَ مَا يَقْتَضِي إلَيْهِ ذَلِكَ مِنْ تَضْيِيعِ حَقِّ الزَّوْجِ وَالتَّبَرُّجِ، وَمَا يَنْشَأُ مِنْ الصِّيَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ إذَا أَمِنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَلَا مَانِعَ مِنْ، الْإِذْنِ لَهُنَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَ الْمَوْتِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ.

بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمَيِّتِ يُنْقَلُ أَوْ يُنْبَشُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ

1965- عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّه بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَمَا دُفِنَ فَأَخْرَجَهُ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ.

1966- وَفِي رِوَايَةٍ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَنَفَثَ فِيهِ مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ. فَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا قَالَ سُفْيَانُ: فَيَرَوْنَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَلْبَسَ عَبْدَ اللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً بِمَا صَنَعَ. رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ.

1967- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إلَى مَصَارِعِهِمْ وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: دُفِنَ مَعَ أَبِي رَجُلٌ، فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَخْرَجْتُهُ فَجَعَلْتُهُ فِي قَبْرٍ عَلَى حِدَةٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.
وَلِمَالِكٍ فِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهُ سَمِعَ غَيْرَ وَاحِدٍ يَقُولُ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدَ بْنَ زَيْدٍ مَاتَا بِالْعَقِيقِ فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ وَدُفِنَا بِهَا.
وَلِسَعِيدٍ فِي سُنَنِهِ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّ رِجَالًا قَبَرُوا صَاحِبًا

(1/530)


لَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهُ وَلَمْ يَجِدُوا لَهُ كَفَنًا ثُمَّ لَقُوا مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَأَخْبَرُوهُ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ، فَأَخْرَجُوهُ مِنْ قَبْرِهِ ثُمَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَحُنِّطَ، ثُمَّ صُلِّيَ عَلَيْهِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (بَعْدَ مَا دُفِنَ) . وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنْ قَبْرِهِ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْبَرَكَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوِهَا.

قَوْلُهُ: (وَكَانُوا نُقِلُوا إلَى الْمَدِينَةِ) . فِيهِ جَوَازُ إرْجَاعِ الشَّهِيدِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أُصِيبَ فِيهِ بَعْدَ نَقْلِهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي هَذَا أَنَّهُمْ كَانُوا دُفِنُوا فِي الْمَدِينَةِ ثُمَّ أُخْرِجُوا مِنْ الْقُبُورِ وَنُقِلُوا.

قَوْلُهُ: (فَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْمَيِّتِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالْحَيِّ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَيِّتِ فِي دَفْنِ مَيِّتٍ آخَرَ مَعَهُ.
قَوْلُهُ: (فَحُمِلَا إلَى الْمَدِينَةِ) فِيهِ جَوَازُ نَقْلِ الْمَيِّتِ مِنْ الْمَوْطِنِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ إلَى مَوْطِنٍ آخَرَ يُدْفَنُ فِيهِ، وَالْأَصْلُ الْجَوَازُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا لِدَلِيلٍ.

قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ) إلَى آخِرِهِ. فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ نَبْشُ الْمَيِّتِ لِغُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا. والله أعلم.

(1/531)