بستان
الأحبار مختصر نيل الأوطار كِتَابُ الْهِبَةِ وَالْهَدِيَّةِ
بَابُ افْتِقَارِهَا إلَى الْقَبُولِ وَالْقَبْضِ وَأَنَّهُ عَلَى مَا
يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ
3192- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ أَوْ ذِرَاعٍ لَأَجَبْت،
وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت» . رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ.
3193- وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم -: «لَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْت، وَلَوْ دُعِيت
عَلَيْهِ لَأَجَبْت» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
3194- وَعَنْ خَالِدِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم
- قَالَ: «مَنْ جَاءَهُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ إشْرَافٍ وَلا
مَسْأَلَةٍ فَلْيَقْبَلْهُ وَلا يَرُدَّهُ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ
اللَّهُ إلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3195- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ: كَانَتْ أُخْتِي رُبَّمَا
تَبْعَثُنِي بِالشَّيْءِ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -
تُطْرِفُهُ إيَّاهُ فَيَقْبَلُهُ مِنِّي.
3196- وَفِي لَفْظٍ كَانَتْ تَبْعَثُنِي إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه
وسلم - بِالْهَدِيَّةِ فَيَقْبَلُهَا. رَوَاهُمَا أَحْمَدُ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِرِسَالَةِ الصَّبِيِّ؛ لأَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ كَانَ كَذَلِكَ مُدَّةَ حَيَاةِ رَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -.
3197- وَعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَتْ: لَمَّا
تَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أُمَّ
(2/143)
سَلَمَةَ قَالَ لَهَا: «إنِّي قَدْ
أَهْدَيْت إلَى النَّجَاشِيِّ حُلَّةً وَأَوَاقِيَّ مِنْ مِسْكٍ، وَلا
أَرَى النَّجَاشِيَّ إلا قَدْ مَاتَ، وَلا أَرَى هَدِيَّتِي إلا
مَرْدُودَةً، فَإِنْ رُدَّتْ عَلَيَّ فَهِيَ لَكِ» . قَالَتْ: وَكَانَ
كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرُدَّتْ عَلَيْهِ
هَدِيَّتُهُ فَأَعْطَى كُلَّ
امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ أُوقِيَّةَ مِسْكٍ، وَأَعْطَى أُمَّ سَلَمَةَ
بَقِيَّةَ الْمِسْكِ وَالْحُلَّةَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3198- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: «انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ» .
وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ
جَاءَهُ الْعَبَّاسُ - رضي الله عنه - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
أَعْطِنِي فَإِنِّي فَادَيْت نَفْسِي وَعَقِيلًا، قَالَ: «خُذْ» . فَحَثَا
فِي ثَوْبِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: مُرْ
بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إلَيَّ؟ قَالَ «لا» . قَالَ: ارْفَعْهُ أَنْتَ
عَلَيَّ؟ قَالَ: «لا» . فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ
يَرْفَعْهُ، قَالَ: مُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: «لا» .
قَالَ: ارْفَعْهُ عَلَيَّ أَنْتَ، قَالَ: «لا» . فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ
احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم - يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا عَجَبًا
مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَثَمَّ
مِنْهَا دِرْهَمٌ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّفْضِيلِ فِي ذَوِي الْقُرْبَى
وَغَيْرِهِمْ وَتَرْكِ تَخْمِيسِ الْفَيْءِ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي
الْغَنِيمَةِ ذُو رَحِمٍ لِبَعْضِ الْغَانِمِينَ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ.
3199- وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه -
كَانَ نَحَلَهَا جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ،
فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا بُنَيَّةُ إنِّي كُنْتُ
نَحَلْتُكِ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا، وَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِهِ
وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ لَكِ، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمَ مَالُ وَارِثٍ
فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَلْيَقْبَلْهُ»
فِيهِ الأَمْرُ بِقَبُولِ الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ
الأَخِ فِي الدِّينِ لأَخِيهِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الرَّدِّ لِمَا فِي ذَلِكَ
مِنْ جَلْبِ الْوَحْشَةِ وَتَنَافُرِ الْخَوَاطِرِ، فَإِنَّ التَّهَادِيَ
مِنْ الأَسْبَابِ الْمُورِثَةِ لِلْمَحَبَّةِ لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه
وسلم -: «تَهَادَوْا تَحَابُّوا» .
قَوْلُهُ: «فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِ» فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الأَشْيَاءَ الْوَاصِلَةَ إلَى الْعِبَادِ عَلَى أَيْدِي
بَعْضِهِمْ هِيَ مِنْ الأَرْزَاقِ الإِلَهِيَّةِ لِمَنْ وَصَلَتْ إلَيْهِ،
وَإِنَّمَا
(2/144)
جَعَلَهَا اللَّهُ جَارِيَةً عَلَى أَيْدِي
الْعِبَادِ لإِثَابَةِ مَنْ جَعَلَهَا عَلَى يَدِهِ فَالْمَحْمُودُ عَلَى
جَمِيعِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَوْلُهُ: (فَيَقْبَلُهَا) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ
وَلأَجْلِ ذَلِكَ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ
كُلْثُومٍ فِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الْقَبُولِ؛ لأَنَّ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَبَضَ الْهَدِيَّةَ الَّتِي
بَعَثَ بِهَا إلَى النَّجَاشِيِّ بَعْدَ رُجُوعِهَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى
أَنَّ الْهَدِيَّةَ لا تُمْلَكُ بِمُجَرَّدِ الإِهْدَاءِ، بَلْ لا بُدَّ
مِنْ الْقَبُولِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا) بِجِيمٍ وَبَعْدَ الأَلِفِ دَالٌ
مُهْمَلَةٌ مُشَدَّدَةٌ، أَيْ: أَعْطَاهَا مَالًا يُجِدُّ عِشْرِينَ
وَسْقًا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ ثَمَرَتِهِ ذَلِكَ،
وَالْجَدُّ: صِرَامُ النَّخْلِ وَهَذَا الأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْهِبَةَ إنَّمَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِقَوْلِهِ: (لَوْ كُنْتِ
جَدَدْتِهِ وَاحْتَرَثْتِهِ كَانَ لَكِ) وَذَلِكَ لأَنَّ قَبْضَ
الثَّمَرَةِ يَكُونُ بِالْجِذَاذِ وَقَبْضَ الإِرْثِ بِالْحَرْثِ.
انْتَهَى.
تَنْبِيه: لَفْظُ الْمُوَطَّأِ: لَوْ كُنْت جددتيه واحتزتيه بالزاي.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَصِحُّ هِبَة الْمَعْدُومِ كَالثَّمَرِ
وَاللبَنِ بِالسُّنَّةِ، وَاشْتِرَاطِ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ
هُنَا فِيهِ نَظَرٌ، بِخِلافِ الْبَيْعِ. وَتَصِحُّ هِبَةُ الْمَجْهُولُ
كَقَوْلِهِ: (مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِي فَهُوَ لَكَ) أَو: (مَنْ وَجَدَ
شَيْئًا مِنْ مَالِي فَهُوَ لَهُ) . وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ
يَحْصُلُُ الْمُلْكُ بِالْقَبْضِ وَنَحْوُهُ، وَلِلْمُبِيحِ أَنْ يَرْجِعَ
فِيمَا قَالَ قَبْل التَّمَلُّكِ، وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْهِبَةِ
يَتَأَخَّرُ الْقُبُولِ فِيهِ عَنْ الإِيجَابِ كَثِيرًا وَلَيْسَ
بِإَبَاحَةٍ. انْتَهَى.
بَابُ مَا جَاءَ فِي قَبُولِ هَدَايَا الْكُفَّارِ وَالإِهْدَاءِ لَهُمْ
3200- عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَهْدَى كِسْرَى لِرَسُولِ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبِلَ مِنْهُ وَأَهْدَى لَهُ قَيْصَرُ
فَقَبِلَ، وَأَهْدَتْ لَهُ الْمُلُوكُ فَقَبِلَ مِنْهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَالتِّرْمِذِيُّ.
3201- وَفِي حَدِيثٍ عَنْ بِلالٍ الْمُؤَذِّنِ قَالَ: انْطَلَقْت حَتَّى
أَتَيْته - يَعْنِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَإِذَا أَرْبَعُ
رَكَائِبَ مُنَاخَاتٍ عَلَيْهِنَّ أَحْمَالُهُنَّ فَاسْتَأْذَنْت، فَقَالَ
لِي: «أَبْشِرْ فَقَدْ جَاءَك اللَّهُ بِقَضَائِك» . ثُمَّ قَالَ: «أَلَمْ
تَرَ الرَّكَائِبَ الْمُنَاخَاتِ الأَرْبَعَ» ؟
(2/145)
فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ: «إنَّ لَك
رِقَابَهُنَّ وَمَا عَلَيْهِنَّ فَإِنَّ عَلَيْهِنَّ كِسْوَةً وَطَعَامًا
أَهْدَاهُنَّ إلَيَّ عَظِيمُ فَدَكَ فَاقْبِضْهُنَّ وَاقْضِ دَيْنَك» .
فَفَعَلْت. مُخْتَصَرٌ لأَبِي دَاوُد.
3202- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي
رَاغِبَةً فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَسَأَلْت النَّبِيَّ -
صلى الله عليه وسلم - أَصِلُهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3203- زَادَ الْبُخَارِيُّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ
فِيهَا: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ} وَمَعْنَى رَاغِبَةً: أَيْ طَامِعَةً تَسْأَلُنِي شَيْئًا.
3204- وَعَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:
قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ سَعْدٍ عَلَى
ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ بِهَدَايَا ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ - وَهِيَ
مُشْرِكَةٌ - فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا
بَيْتَهَا، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلَى آخِرِ الآيَةِ، فَأَمَرَهَا أَنْ
تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3205- وَعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: أَنَّهُ أَهْدَى لِلنَّبِيِّ - صلى
الله عليه وسلم - هَدِيَّةً أَوْ نَاقَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم -: «أَسْلَمْتَ» ؟ قَالَ: لا. قَالَ: «إنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ
الْمُشْرِكِينَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالأَحَادِيثُ الْمَذْكُورَةُ
فِي الْبَابِ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ مِنْ الْكَافِرِ،
وَيُعَارِضُهَا حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الآتِي، وَسَيَأْتِي
الْجَمْعُ بَيْنهَا وَبَيْنَهُ وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى
جَوَازِ الْهَدِيَّةِ لِلْكَافِرِ مُطْلَقًا مِنْ الْقَرِيبِ وَغَيْرِهِ
وَلا مُنَافَاةَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا بَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {لَا
تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ
مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآيَةُ، فَإِنَّهَا عَامَّةٌ فِي حَقِّ
مَنْ قَاتَلَ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَالآيَةُ الْمَذْكُورَةُ خَاصَّةٌ
بِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَأَيْضًا الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالإِحْسَانُ لا
تَسْتَلْزِمُ التَّحَابَّ وَالتَّوَادَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَمِنْ
الأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِالْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن جَاهَدَاكَ
عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} وَمِنْهَا أَيْضًا: حَدِيثُ
ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - كَسَا عُمَرَ حُلَّةً فَأَرْسَلَ بِهَا إلَى أَخٍ لَهُ
مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
قَوْلُهُ: (فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا) إلَى آخره فِيهِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ هَدِيَّةِ الْمُشْرِكِ وَعَلَى جَوَازِ
إنْزَالِهِ مَنَازِلَ الْمُسْلِمِينَ.
(2/146)
قَوْلُهُ: «زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ»
بِفَتْحِ الزَّايِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا دَالٌ. قَالَ فِي
الْفَتْحِ: هُوَ الرِّفْدِ قَالَ الْخَطَّابِيِّ: يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ
هَذَا الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا لأَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ قَبِلَ
هَدِيَّةَ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَقِيلَ: إنَّمَا رَدَّهَا
لِيَغِيظَهُ فَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى الإِسْلامِ وَقِيلَ: رَدَّهَا
لأَنَّ لِلْهَدِيَّةِ مَوْضِعًا مِنْ الْقَلْبِ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَمِيلَ
إلَيْهِ بِقَلْبِهِ، فَرَدَّهَا قَطْعًا لِسَبَبِ الْمِيلِ.
بَابُ الثَّوَابُ عَلَى الْهَدِيَّةِ وَالْهِبَةِ
3206- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -
صلى الله عليه وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا. رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.
3207- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَهَبَ لِلنَّبِيِّ -
صلى الله عليه وسلم - هِبَةً فَأَثَابَهُ عَلَيْهَا، قَالَ: «رَضِيتَ» ؟
قَالَ: لا، فَزَادَهُ قَالَ: «أَرَضِيتَ» ؟ قَالَ: لا، فَزَادَهُ، قَالَ:
«أَرَضِيتَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:
«لَقَدْ هَمَمْت أَنْ لا أَتَّهِبَ هِبَةً إلا مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ
أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَيُثِيبُ
عَلَيْهَا) أَيْ يُعْطِي الْمُهْدِي بَدَلَهَا، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ
الْمُجَازَاةُ، وَأَقَلُّهُ مَا يُسَاوِي قِيمَةَ الْهَدِيَّةِ.
بَابُ التَّعْدِيلِ بَيْنَ الأَوْلادِ فِي الْعَطِيَّةِ وَالنَّهْيِ أَنْ
يَرْجِعَ
أَحَدٌ فِي عَطِيَّتِهِ إلا الْوَالِدُ
3208- عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله
عليه وسلم -: «اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ
أَبْنَائِكُمْ، اعْدِلُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
3209- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَتْ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلْ ابْنِي
غُلامًا وَأَشْهِدْ لِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَتَى
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ ابْنَةَ فُلانٍ
سَأَلَتْنِي أَنْ أَنْحَلَ ابْنَهَا غُلامِي، فَقَالَ: «لَهُ إخْوَةٌ» ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْت مِثْلَ مَا أَعْطَيْته» ؟
قَالَ: لا. قَالَ: «فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا وَإِنِّي لا أَشْهَدُ إلا
عَلَى حَقٍّ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
(2/147)
3210- وَقَالَ فِيهِ: «لا تُشْهِدْنِي
عَلَى جَوْرٍ، إنَّ لِبَنِيك عَلَيْك مِنْ الْحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ
بَيْنَهُمْ» .
3211- وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ رَسُولَ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي نَحَلْت ابْنِي هَذَا
غُلامًا كَانَ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -:
«أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْتَهُ مِثْلَ هَذَا» ؟ فَقَالَ: لا. فَقَالَ:
«فَأَرْجِعْهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3212- وَلَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ: تَصَدَّقَ عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ،
فَقَالَتْ أُمِّي عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَيْهِ
يُشْهِدُهُ عَلَى صَدَقَتِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «أَفَعَلْت هَذَا
بِوَلَدِك كُلِّهِمْ» ؟ قَالَ: لا. فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا
فِي أَوْلادِكُمْ» . فَرَجَعَ أَبِي فِي تِلْكَ الصَّدَقَةِ.
3213- وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ لَكِنْ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْعَطِيَّةِ لا
بِلَفْظِ: الصَّدَقَةِ.
3214- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3215- وَزَادَ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ» .
وَلأَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ قَتَادَةُ: وَلا أَعْلَمُ الْقَيْءَ إلا
حَرَامًا.
3216- وَعَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ - رَفَعَاهُ
إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ
أَنْ يُعْطِيَ الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعَ فِيهَا إلا الْوَالِدُ فِيمَا
يُعْطِي وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الرَّجُلِ يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ
فِيهَا كَمَثَلِ الْكَلْبِ أَكَلَ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ رَجَعَ
فِي قَيْئِهِ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «اعْدِلُوا بَيْنَ
أَوْلادِكُمْ» تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ
الأَوْلادِ فِي الْعَطِيَّةِ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبُخَارِيُّ.
قَوْلُهُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ» إلى آخره قَالَ فِي الْفَتْحِ:
وَإِلَى الْقَوْلِ بِتَحْرِيمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ أَنْ
تُقْبَضَ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلا هِبَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ
قَالَ الطَّبَرِيُّ: يُخَصُّ مِنْ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ وَهَبَ
بِشَرْطِ الثَّوَابِ، وَمَنْ كَانَ وَالِدًا وَالْمَوْهُوبُ لَهُ وَلَدَهُ،
وَالْهِبَةُ لَمْ تُقْبَضْ وَاَلَّتِي رَدَّهَا الْمِيرَاثُ إلَى
الْوَاهِبِ لِثُبُوتِ الأخْبَارِ بِاسْتِثْنَاءِ كُلِّ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا
عَدَا ذَلِكَ كَالْغَنِيِّ يُثِيبُ الْفَقِيرَ
(2/148)
وَنَحْوِ
مَنْ يَصِلُ رَحِمَهُ فَلا رُجُوعَ قَالَ: وَمِمَّا لا رُجُوعَ فِيهِ
مُطْلَقًا الصَّدَقَةُ يُرَادُ بِهَا ثَوَابُ الآخِرَةِ.
قَالَ الشَّارِحُ: وَاخْتُلِفَ فِي الأُمِّ: هَلْ حُكْمُهَا حُكْمُ الأَبِ
فِي الرُّجُوعِ أَمْ لا؟ فَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إلَى الأَوَّلِ،
لأَنَّ لَفْظَ الْوَالِدِ يَشْمَلُهَا. انتهى.
وَقَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا سَوَّى بَيْنَ أَوْلادِهِ فِي
الْعَطَاءِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي عَطِيَّةِ بَعْضِهِمْ، وَلَوْ
كَانَ أَحَدُهُمَا مُحْتَاجًا دُونَ الآخَرِ أَنْفَقَ عَلَيْهِ قَدْرَ
كِفَايَتِهِ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ فَمْنِ النِّحَلِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُ
الأَوْلادِ فَاسِقًا فَقَالَ وَالِدُهُ: لا أُعْطِيكَ نَظِيرَ إِخْوَتِكَ
حَتَّى تَتُوبَ فَهَذَا حَسَنٌ يَتَعَيَّنُ اسْتِثْنَاؤهُ. إِلَى أَنْ
قَالَ: قَالَ أَحْمَدٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْحَاكِمِ: وَإِذَا مَاتَ
الَّذِي فَضَّلَ لَمْ أُطَيِّبْهُ لَهُ وَلَمْ أَجْبِرْهُ عَلَى رَدِّهِ،
وَلِلأَبِّ الرُّجُوعُ فِيَمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهَ مَا لَمْ يَتَعَلَّقَ
بِهِ حَقٌّ أَوْ رَغْبَة فَلا يَرْجِعُ بِقَدْرِ الّدَّيْنِ وَقَدْرِ
الرَّغْبَةِ وَيَرْجِعُ فِيمَا زَادَ، وَيَرْجِعُ الأَبُ فِيمَا أَبْرَأَ
مِنْهُ ابْنَهُ مِنْ الدِّيُونِ عَلَى قِيَاسِ الْمَذْهَبِ، كَمَا
لِلْمَرْأَةِ عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الرُّجُوع عَلَى زَوْجِهَا
فِيَمَا أَبْرَأَتْهُ مِنَ الصِّدَاقِ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.
بَابُ مَا جَاءَ فِي أَخْذِ الْوَالِدِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
3217- عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم
-: «إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلادَكُمْ
مِنْ كَسْبِكُمْ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
3218- وَفِي لَفْظٍ: «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِهِ، فَكُلُوا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَنِيئًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3219- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لِي
مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ:
«أَنْتَ وَمَالُك لأَبِيك» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.
3220- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ
أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ
أَبِي يُرِيدُ أَنْ يَجْتَاحَ مَالِي، فَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُك
لِوَالِدِك، إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ
أَوْلادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ فَكُلُوهُ هَنِيئًا» .
3221- وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: إنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله
عليه وسلم - فَقَالَ: إنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ وَالِدِي.
الْحَدِيثَ.
(2/149)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
وَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُقِ يَنْتَهِضُ لِلِاحْتِجَاجِ فَيَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الرَّجُلَ مُشَارِكٌ لِوَلَدِهِ فِي مَالِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ
الأَكْلُ سَوَاءٌ أَذِنَ الْوَلَدُ أَوْ لَمْ يَأْذَنْ، وَيَجُوزُ لَهُ
أَيْضًا أَنْ يَتَصَرَّفَ بِهِ كَمَا يَتَصَرَّفُ بِمَالِهِ، مَا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ السَّرَفِ وَالسَّفَهِ. انتهى.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا أَخَذَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ شَيْئًا
ثُمَّ انْفَسَخَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ بِحِيث وَجَبَ رَدَّهُ إِلَى
الَّذِي كَانَ مَالِكُهُ مَثْلَ أَنْ يَأْخُذَ صِدَاقِهَا فَتُطْلَقُ أَوْ
يَأْخُذَ الثَّمَنُ ثُمَّ تُرَدُّ السِّلْعَةَ بِعَيْبٍ، أَوْ يَأْخُذَ
الْمَبِيع ثُمَّ يُفْلِسُ الْوَلَدَ بِالثَّمَنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ،
فَالأَقْوَى فِي جِمِيعِ الصُّوَرِ أَنَّ لِلْمِالِكِ الأَوَّلِ الرُّجُوعُ
عَلَى الأَبِّ، وَلِلأَبِّ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ
مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقّ كَالرَّهْنِ وَالْفَلَسِ، إِلَى أَنْ
قَالَ: وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلام: «أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ» .
يَقْتَضِي إِبَاحَةَ نَفْسِهِ كَإِبَاحَةِ مَالِهِ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ: {لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} ، وَهُوَ
يَقْتَضِي جَوَازُ اسْتِخْدَامِهِ، وَأَنَّهُ يِجِبُ عَلَى الْوَلَدِ
خِدْمَةِ أَبِيهِ، وَيُقَوِّيه جَوَاز مَنْعِهِ مِنَ الْجِهَادِ
وَالسَّفَرِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيمَا يَفُوتُ انْتِفَاعَهُ بِهِ، لَكِن
هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الأَبَوَانِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقالُ: خُصَّ
الأَبُّ بِالْمَالِ وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْبَدَنِ فَيَشْتَرِكَانِ فِيهَا،
وَقِياسُ الْمَذْهَبِ جَوَازُ أَنْ يُؤَجِّرَ وَلَدَهُ لِنَفْسِهِ مَعَ
فَائِدَةِ الْوَلَدِ مِثْل أَنْ يَتَعَلَّمَ صَنْعَةَ أَوْ حَاجَة الأَبِّ
وَإِلا فَلا. انْتَهَى.
بَابٌ مَا جَاء فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى
3222- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله
عليه وسلم - قَالَ: «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لأَهْلِهَا» . أَوْ قَالَ:
«جَائِزَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3223- وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِمُعَمِّرِهِ مَحْيَاهُ
وَمَمَاتُهُ، لا تَرْقُبُوا، مَنْ أَرْقَبَ شَيْئًا فَهُوَ سَبِيلُ
الْمِيرَاثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ.
3224- وَفِي لَفْظٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:
«الرُّقْبَى جَائِزَةٌ» . رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
3225- وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ الرُّقْبَى لِلَّذِي أَرْقَبَهَا» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3226- وَفِي لَفْظٍ: «جَعَلَ الرُّقْبَى لِلْوَارِثِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
(2/150)
3227- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لِمَنْ
أُعْمِرَهَا، وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِمَنْ أُرْقِبَهَا» . رَوَاهُ
أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3228- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْمُهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُعْمِرُوا وَلا تُرْقِبُوا، فَمَنْ
أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ فَهُوَ لَهُ حَيَاتَهُ وَمَمَاتَهُ» .
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ.
3229- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
بِالْعُمْرَى لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3230- وَفِي لَفْظٍ قَالَ: «أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَلا
تُفْسِدُوهَا، فَمَنْ أُعْمِرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلَّذِي أُعْمِرَ حَيًّا
وَمَيِّتًا وَلِعَقِبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.
3231- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «الْعُمْرَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا،
وَالرُّقْبَى جَائِزَةٌ لأَهْلِهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ.
3232- وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ
فَقَدْ قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ فِيهَا، وَهِيَ لِمَنْ أُعْمِرَ
وَعَقِبِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَةْ.
3233- وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ
وَلِعَقِبِهِ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي
أَعْطَاهَا، لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
3234- وَفِي لَفْظٍ عَنْ جَابِرٍ: إنَّمَا الْعُمْرَى الَّتِي أَجَازَهَا
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك
وَلِعَقِبِك فَأَمَّا إذَا قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَإِنَّهَا تَرْجِعُ
إلَى صَاحِبِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد.
3235- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى
بِالْعُمْرَى أَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ وَلِعَقِبِهِ الْهِبَةَ
وَيَسْتَثْنِيَ إنْ حَدَثَ بِكَ حَدَثٌ وَلِعَقِبِك فَهِيَ إلَيَّ وَإِلَى
عَقِبِي، إنَّهَا لِمَنْ أُعْطِيَهَا وَلِعَقِبِهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيّ.
3236- وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَنْصَارِ أَعْطَى
أُمَّهُ حَدِيقَةً مِنْ نَخِيلٍ حَيَاتَهَا فَمَاتَتْ، فَجَاءَ إخْوَتُهُ
فَقَالُوا: نَحْنُ فِيهِ شَرَعٌ سَوَاءٌ، قَالَ: فَأَبَى، فَاخْتَصَمُوا
إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ
مِيرَاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
(2/151)
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
قَوْلُهُ: «الْعُمْرَى» مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعُمْرِ وَهُوَ الْحَيَاةُ،
سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعْطِي
الرَّجُلُ الرَّجُلَ الدَّارَ وَيَقُولُ لَهُ: أَعْمَرْتُك إيَّاهَا. أَيْ
أَبَحْتُهَا لَك مُدَّةَ عُمْرِكَ وَحَيَاتِكَ، فَقِيلَ لَهَا: (عُمْرَى)
لِذَلِكَ، وَ (الرُّقْبَى) مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُرَاقَبَةِ، لأَنَّ كُلًّا
مِنْهُمَا يَرْقُبُ الآخَرَ مَتَى يَمُوتُ لِتَرْجِعَ إلَيْهِ، وَكَذَا
وَرَثَتُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ هَذَا أَصْلُهَا لُغَةً قَالَ فِي
الْفَتْحِ: ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّ الْعُمْرَى إذَا وَقَعَتْ
كَانَتْ مِلْكًا لِلآخَرِ وَلا تَرْجِعُ إلَى الأَوَّلِ إلا إذَا صَرَّحَ
بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَإِلَى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ. وَقَدْ
حَصَلَ مِنْ مَجْمُوعِ الرِّوَايَاتِ ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ: الأَوَّلُ أَنْ
يَقُولَ: أَعْمَرْتُكَهَا وَيُطْلِقُ، فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهَا
لِلْمَوْهُوبِ لَهُ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُؤَبَّدَةِ لا تَرْجِعُ إلَى
الْوَاهِبِ، وَهُوَ قَوْل الْجُمْهُورِ. الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك
مَا عِشْتَ فَإِذَا مِتَّ رَجَعَتْ إلَيَّ، فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ
مُؤَقَّتَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْمُعِيرِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُعْمَرِ، وَبِهِ
قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ: هِيَ لَك
وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك. أَوْ يَأْتِي بِلَفْظٍ يُشْعِرُ بِالتَّأْبِيدِ،
فَهَذِهِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْهِبَةِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. انتهى
مُلَخَّصًا.
قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتَصِحُّ الْعُمْرَى وَتَكُونُ لِلْمُعَمِّرُ
وَلِوَرَثَتِهِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُعَمِّرُ عَوْدهَا إِلَيْهِ
فَيَصِحُّ الشَّرْطَ وَهُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ، وَلا يَدْخُلُ الزَّوْجَانِ فِي قَوْلِهِ
وَلِعَقِبِكَ. انْتَهَى.
بَابُ مَا جَاءَ فِي تصرف الْمَرْأَةِ فِي مَالِهَا وَمَالِ زَوْجِهَا
3237- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ
زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ،
وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا
يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَجْرِ بَعْضٍ شَيْئًا» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.
3238- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ كَسْبِ زَوْجِهَا عَنْ
غَيْرِ أَمْرِهِ فَلَهُ نِصْفُ أَجْرِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد.
3239- وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - مَوْقُوفًا - فِي
الْمَرْأَةِ تَصَدَّقُ مِنْ
(2/152)
بَيْتِ زَوْجِهَا قَالَ: «لا، إلا مِنْ
قُوتِهَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا وَلا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَصَدَّقَ مِنْ
مَالِ زَوْجِهَا إلا بِإِذْنِهِ» .
3240- وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إلا مَا أَدْخَلَ عَلَيَّ الزُّبَيْرُ، فَهَلْ
عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أُرْضِخَ مِمَّا يُدْخِلُ عَلَيَّ؟ فَقَالَ:
«ارْضِخِي مَا اسْتَطَعْتِ وَلا تُوعِي فَيُوعِي اللَّهُ عَلَيْكِ» .
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3241- وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا: أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه
وسلم -: إنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ شَدِيدٌ وَيَأْتِينِي الْمِسْكِينُ
فَأَتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ... «ارْضِخِي وَلا تُوعِي فَيُوعِي
اللَّهُ عَلَيْكِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3242- وَعَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه
وسلم - النِّسَاءَ قَالَتْ امْرَأَةٌ جَلِيلَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نِسَاءِ
مُضَرَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إنَّا كَلٌّ عَلَى آبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا -
قَالَ أَبُو دَاوُد: وَأَرَى فِيهِ: وَأَزْوَاجِنَا - فَمَا يَحِلُّ لَنَا
مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ قَالَ: «الرَّطْبُ تَأْكُلْنَهُ وَتُهْدِينَهُ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَقَالَ: الرَّطْبُ: الْخُبْزُ وَالْبَقْلُ
وَالرُّطَبُ.
3243- وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم -، فَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِلا أَذَانٍ
وَلا إقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى
اللَّهِ، وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ، ثُمَّ
مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَقَالَ:
«تَصَدَّقْنَ فَإِنَّ أَكْثَرَكُنَّ حَطَبُ جَهَنَّمَ» . فَقَامَتْ
امْرَأَةٌ مِنْ سَطَةِ النِّسَاءِ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ فَقَالَتْ: لِمَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشَّكَاةَ،
وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ» . قَالَتْ: فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ
حُلِيِّهِنَّ يُلْقِينَ فِي ثَوْبِ بِلالٍ مِنْ أَقْرَاطِهِنَّ
وَخَوَاتِيمِهِنَّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
3244- وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَجُوزُ لِامْرَأَةٍ
عَطِيَّةٌ إلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ
وَأَبُو دَاوُد.
3245- وَفِي لَفْظٍ: «لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا
مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إلا التِّرْمِذِيَّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إذَا أَنْفَقَتْ
الْمَرْأَةُ» إلى آَخْره قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ
فِيمَا إذَا تَصَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، فَمِنْهُمْ
(2/153)
مَنْ أَجَازَهُ لَكِنْ فِي الشَّيْءِ
الْيَسِيرِ الَّذِي لا يُأْبَهُ لَهُ وَلا يَظْهَرُ بِهِ النُّقْصَانُ،
وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى مَا إذَا أَذِنَ الزَّوْجُ وَلَوْ
بِطَرِيقِ الإِجْمَالِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْبُخَارِيِّ، وَأَمَّا
التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الإِفْسَادِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ: الْمُرَادُ بِنَفَقَةِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ وَالْخَازِنِ:
وَالنَّفَقَةُ عَلَى عِيَالِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَصَالِحِهِ.
وَقَوْلُهُا: (إنَّا كَلٌّ) قَالَ الشَّارِحُ: بِفَتْحِ الْكَافِ
وَتَشْدِيدِ اللامِ أَيْ نَحْنُ عِيَالٌ عَلَيْهِمْ لَيْسَ لَنَا مِنْ
الأَمْوَالِ مَا نَنْتَفِعُ بِهِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ مَالِ ابْنِهَا وَأَبِيهَا
وَزَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ وَتُهَادِي، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ
بِالأُمُورِ الْمَأْكُولَةِ الَّتِي لا تُدَّخَرُ فَلا يَجُوزُ لَهَا أَنْ
تُهَادِيَ بِالثِّيَابِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْحُبُوبِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (فَجَعَلْنَ يَتَصَدَّقْنَ مِنْ حُلِيِّهِنَّ) قَالَ الشَّارِحُ:
وَالْحَدِيثُ فِيهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَا
هُنَا لأَجْلِهِ، وَهُوَ جَوَازُ صَدَقَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ مَالِهَا مِنْ
غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إذْنِ زَوْجِهَا أَوْ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ
مِنْ مَالِهَا كَالثُّلُثِ.
وَقَوْلُهُ: «لا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَمْرٌ فِي مَالِهَا» الْحَدِيث.
قَالَ الشَّارِحُ: وَقَدْ اسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ، عَلَى أَنَّهُ لا
يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُعْطِيَ عَطِيَّةً مِنْ مَالِهَا بِغَيْرِ
إذْنِ زَوْجِهَا وَلَوْ كَانَتْ رَشِيدَةً. وَقَدْ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ،
فَقَالَ اللَّيْثُ: لا يَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ مُطْلَقًا لا فِي الثُّلُثِ
وَلا فِيمَا دُونَهُ إلا فِي الشَّيْءِ التَّافِهِ. وَقَالَ طَاوُسٌ:
إنَّهُ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُعْطِيَ مَالَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي
الثُّلُثِ لا فِيمَا فَوْقَهُ فَلا يَجُوزُ إلا بِإِذْنِهِ وَذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ
الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَكُنْ
سَفِيهَةً، فَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً لَمْ يَجُزْ. قَالَ فِي الْفَتْحِ:
وَأَدِلَّةُ الْجُمْهُورِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ.
بَابُ مَا جَاءَ فِي تَبَرُّعِ الْعَبْدِ
3246- عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا
فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ
مَوْلايَ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ
مُسْلِمٌ.
3247- وَعَنْهُ قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلايَ أَنْ أَقْدِرَ لَحْمًا،
فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ
(2/154)
فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ فَضَرَبَنِي،
فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ،
فَدَعَاهُ فَقَالَ: «لِمَ ضَرَبْته» ؟ قَالَ: يُعْطِي طَعَامِي مِنْ غَيْرِ
أَنْ آمُرَهُ، فَقَالَ: «الأَجْرُ بَيْنَكُمَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ
وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.
2348- وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: أَتَيْت النَّبِيَّ - صلى
الله عليه وسلم - بِطَعَامٍ وَأَنَا مَمْلُوكٌ، فَقُلْت: هَذِهِ صَدَقَةٌ،
فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ
بِطَعَامٍ، فَقُلْت: هَذِهِ هَدِيَّةٌ أَهْدَيْتُهَا لَك أُكْرِمْك بِهَا
فَإِنِّي رَأَيْتُك لا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
فَأَكَلُوا وَأَكَلَ مَعَهُمْ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
3249- وَعَنْ سَلْمَانَ قَالَ: كُنْتُ اسْتَأْذَنْت مَوْلايَ فِي ذَلِكَ
فَطَيَّبَ لِي، فَاحْتَطَبْت حَطَبًا فَبِعْتُهُ فَاشْتَرَيْت ذَلِكَ
الطَّعَامَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: قَالَ: «نَعَمْ
وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَبْدِ
أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ مَوْلاهُ وَأَنَّهُ يَكُونُ شَرِيك الْمَوْلَى
فِي الأَجْرِ وَقَدْ بَوَّبَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ لِذَلِكَ
فَقَالَ: (بَابُ مَنْ أَمَرَ خَادِمَهُ بِالصَّدَقَةِ وَلَمْ يُنَاوِلْ
نَفْسَهُ) وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -:
هُوَ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ ثُمَّ أَوْرَدَ حَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ
مِنْ طَعَامِ
بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ،
وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ، وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ لا
يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ» .
(2/155)
|