بستان الأحبار مختصر نيل الأوطار

كِتَابُ الأقْضِيَةِ وَالأحْكَامِ

بَابُ وُجُوبِ نَصْبِ وِلايَةِ الْقَضَاءِ وَالإِمَارَةِ وَغَيْرِهِمَا

4936- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحِلُّ لِثَلاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلاةٍ مِنْ الأرْضِ إِلا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4937- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا خَرَجَ ثَلاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

4938- وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُشْرَعُ لِكُلِّ عَدَدٍ بَلَغَ ثَلاثَةً فَصَاعِدًا أَنْ يُؤَمِّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ لأنَّ فِي ذَلِكَ السَّلامَةَ مِنْ الْخِلافِ، إلَى أن قَالَ: فَشَرْعِيَّتُهُ لِعَدَدٍ أَكْثَرَ يَسْكُنُونَ الْقُرَى وَالأمْصَارَ وَيَحْتَاجُونَ لِدَفْعِ التَّظَالُمِ وَفَصْلِ التَّخَاصُمِ أَوْلَى وَأَحْرَى.

بَابُ كَرَاهِيَةِ الْحِرْصِ عَلَى الْوِلايَةِ وَطَلَبِهَا

4939- عَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ بَنِي عَمِّي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِّرْنَا عَلَى بَعْضِ مَا وَلاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: «إنَّا وَاَللَّهِ لا نُوَلِّي هَذَا الْعَمَلَ أَحَدًا يَسْأَلُهُ أَوْ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» .

4940- وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:

(2/609)


«يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ لا تَسْأَلْ الإِمَارَةَ، فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.
4941- وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِلَ إلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ جُبِرَ عَلَيْهِ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ.

4942- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِمَارَةِ وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَت الْفَاطِمَةُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

4943- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ طَلَبَ قَضَاءَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ فَلَهُ النَّارُ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَدْ حُمِلَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَوْ أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ» بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَالرَّاءِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّهُ لا يُوَلِّي مَنْ يَسْأَلُ الْوِلايَةَ أَنَّهُ يُوَكَّلُ إلَيْهَا وَلا يَكُونُ مَعَهُ إعَانَةٌ لأنَّ فِيهِ تُهْمَةً.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ غَلَبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ» أَيْ كَانَ عَدْلُهُ فِي حُكْمِهِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ. إلى أن قال: ولا معارضة َبَيْنَ حَدِيث أَنَسٍ وعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ لأن حَدِيث عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِيهِ أَنَّ مَنْ أُعْطِيَ الإِمَارَةَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِينَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ فِيهِ نُزُولُ الْمَلَكِ لِلتَّسْدِيدِ. وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِيهِ أَنَّ مَنْ أُجْبِرَ نَزَلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ. انْتَهَى ملخصًا.

بَابٌ التَّشْدِيدُ فِي الْوِلايَةِ وَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ لَمْ يَقُمْ
بِحَقِّهَا دُونَ الْقَائِمِ بِهِ

4944 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ جُعِلَ قَاضِيًا بَيْنَ النَّاسِ فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ.
4945 - وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ حَكَمٍ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ إِلا حُبِسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ حَتَّى يَقِفَهُ عَلَى جَهَنَّمَ، ثُمَّ يَرْفَعُ

(2/610)


رَأْسَهُ إلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ قَالَ: أَلْقِهِ، أَلْقَاهُ فِي مَهْوًى فَهَوَى أَرْبَعِينَ خَرِيفًا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ بِمَعْنَاهُ.

4946- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلأمَرَاءِ، وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ وَيْلٌ لِلأمَنَاءِ، لَيَتَمَنَّيَنَّ أَقْوَامٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّ ذَوَائِبَهُمْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِالثُّرَيَّا يَتَذَبْذَبُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَكُونُوا عَمِلُوا عَلَى شَيْءٍ» .

4947 - وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لَتَأْتِيَنَّ عَلَى الْقَاضِي الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي تَمْرَةٍ قَطُّ» .

4948- وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِيَ أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلا أَتَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلامَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .

4949- وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلا جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ، حَتَّى يُطْلِقَهُ الْحَقُّ أَوْ يُوبِقَهُ، وَمَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ أَجْذَمُ» . رَوَاهُنَّ أَحْمَدُ.

4950 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ اللهَ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ فَإِذَا جَارَ وَكِلَهُ اللهُ إلَى نَفْسِهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.

4951- وَفِي لَفْظٍ: «إِنَّ اللهُ مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يَجُرْ، فَإِذَا جَارَ تَخَلَّى عَنْهُ وَلَزِمَهُ الشَّيْطَانُ» . رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
4952- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ - وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ - الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وُلُّوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «فَقَدْ ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ» قَالَ ابْنُ الصَّلاحِ: الْمُرَادُ ذُبِحَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لأنَّهُ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا إنْ رَشَدَ وَبَيْنَ عَذَابِ الآخِرَةِ إنْ فَسَدَ. قال الشارح: والحديث وارد في ترهيب القضاة،

(2/611)


وقد ورد في ترغيب القضاء: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ، وَإِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ» إلى أن قال: وَلَكِنَّ هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ الْقَاضِي الْعَادِلِ الَّذِي لَمْ يَسْأَل الْقَضَاءَ وَلا اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِالشُّفَعَاءِ، وَكَانَ لَدَيْهِ مِنْ الْعِلْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْحَقَّ مِنْ الْبَاطِلِ. إلى أن قَالَ: وَقَدْ كَثُرَ التَّتَابُعُ مِنْ الْجَهَلَةِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ الشَّرِيفِ وَاشْتَرَوْهُ بِالأمْوَالِ مِمَّنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْهُمْ حَتَّى عَمَّتْ الْبَلْوَى.

قَوْلُهُ: «وَيْلٌ لِلْعُرَفَاءِ» جَمْعُ عَرِيفٍ. قَالَ فِي النِّهَايَةِ: وَهُوَ الْقَيِّمُ بِأُمُورِ الْقَبِيلَةِ وَالْجَمَاعَةِ مِنْ النَّاسِ، يَلِيَ أُمُورَهُمْ وَيَتَعَرَّفُ الأمِيرُ مِنْهُ أَحْوَالَهُمْ. وَسَبَبُ الْوَعِيدِ لَهَذِهِ الطَّوَائِفِ الثَّلاثِ - وَهُمْ الأمَرَاءُ وَالْعُرَفَاءُ وَالأمَنَاءُ - أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ وَيُطَاعُونَ فِيمَا يَأْتُونَ بِهِ فَإِذَا جَارُوا عَلَى الرَّعَايَا جَارُوا وَهُمْ قَادِرُونَ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِتَشْدِيدِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِمْ؛ لأنَّ حَقَّ شُكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي امْتَازُوا بِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَعْدِلُوا وَيَسْتَعْمِلُوا الشَّفَقَةَ وَالرَّأْفَةَ. انْتَهَى مُلَخْصًا.
بَابُ الْمَنْعِ مِنْ وِلايَةِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ وَمَنْ لا يُحْسِنُ الْقَضَاءَ
أَوْ يَضْعُفُ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهِ

4953- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

4954- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4955- وَعَنْ بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ: وَاحِدٌ فِي ... الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، فَأَمَّا الَّذِي فِي الْجَنَّةِ فَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَجَارَ فِي حُكْمِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَأَبُو دَاوُد.

وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْقَاضِي رَجُلاً.

4956- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبْتٍ

(2/612)


فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.

4957- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَفْتَى بِفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ إثْمُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي أَفْتَاهُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

4958- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ إلَيْكَ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» .

4959- وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنَّك ضَعِيفٌ وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

4960- وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ الأحْمَسِيَّةِ أَنَّهَا سَمِعْتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ... «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا الْبُخَارِيَّ وَأَبَا دَاوُد.

4961 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اُسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ وِلايَةِ الْحُكْمِ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ عَبْدًا.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْوِلايَاتِ وَلا يَحِلُّ لِقَوْمٍ تَوْلِيَتُهَا لأنَّ تَجَنُّبَ الأمْرِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْفَلاحِ وَاجِبٌ.

قَوْلُهُ: «وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ قَاضِيًا، قَالَ فِي الْبَحْرِ: إجْمَاعًا وَأَمَرَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِالتَّعَوُّذِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ لَعَلَّهُ لِمَا ظَهَرَ فِيهَا مِنْ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ، مِنْهَا قَتْلُ الْحُسَيْنِ - رضي الله عنه - وَوَقْعَةُ الْحَرَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ فِي عَشْرِ السَّبْعِينَ.

قَوْلُهُ: «الْقُضَاةُ ثَلاثَةٌ» إلَى آخِرُه فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَعْظَمُ وَازِعٍ لِلْجَهَلَةِ

(2/613)


عَنْ الدُّخُولِ فِي هَذَا الْمَنْصِبِ الَّذِي يَنْتَهِي بِالْجَاهِلِ وَالْجَائِرِ إلَى النَّارِ.

قَوْلُهُ: «أَرَاك ضَعِيفًا» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ ضَعِيفًا لا يَصْلُحُ لِتَوَلِّي الْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.

قَوْلُهُ: «لا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ» إلَى آخِرُهُ فِيهِ إرْشَادٌ لِلْعِبَادِ إلَى تَرْكِ تَحَمُّلِ أَعْبَاءِ الإِمَارَةِ مَعَ الضَّعْفِ عَنْ الْقِيَامِ بِحَقِّهَا مِنْ أَيِّ جِهَةٍ مِنْ الْجِهَاتِ.
بَابُ تَعْلِيقِ الْوِلايَةِ بِالشَّرْطِ

4962- عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَقَالَ: «إنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

4963- وَلأحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ نَحْوُهُ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بِالْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ تَعْلِيقِ الْوِلايَاتِ بِالشَّرْطِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلا أَعْرِفُ الآنَ دَلِيلاً يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ تَعْلِيقِ الْوِلايَةِ بِالشَّرْطِ، فَلَعَلَّ خِلافَ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مُسْتَنِدٌ إلَى قَاعِدَةٍ فِقْهِيَّةٍ كَمَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ.

بَابُ نَهْيِ الْحَاكِمِ عَنْ الرِّشْوَةِ

وَاِتِّخَاذِ حَاجِبٍ لِبَابِهِ فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ

4964- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

4965- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي» . رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا النَّسَائِيّ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

4966- وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ، يَعْنِي الَّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

4967- وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ

(2/614)


إمَامٍ أَوْ وَالٍ يَغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَيَدْخُلُ فِي إطْلاقِ الرِّشْوَةِ، الرِّشْوَةِ لِلْحَاكِمِ وَالْعَامِلِ عَلَى أَخْذِ الصَّدَقَاتِ وَهِيَ حَرَامٌ بِالإِجْمَاعِ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ: الْقَاضِي إذَا أَخَذَ الْهَدِيَّةَ فَقَدْ أَكَلَ السُّحْتَ، وَإِذَا أَخَذَ الرِّشْوَةَ بَلَغَتْ بِهِ الْكُفْرَ. قَالَ الشَّارِحُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْهَدَايَا الَّتِي تُهْدَى لِلْقُضَاةِ وَنَحْوِهِمْ هِيَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ؛ لأنَّ الْمُهْدِيَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا لِلإِهْدَاءِ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ وِلايَتِهِ لا يُهْدِي إلَيْهِ إِلا لِغَرَضٍ، وَهُوَ إمَّا التَّقَوِّي بِهِ عَلَى بَاطِلِهِ، أَوْ التَّوَصُّلُ لِهَدِيَّتِهِ لَهُ إلَى حَقِّهِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ وَأَقَلُّ الأحْوَالِ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِقُرْبِهِ مِنْ الْحَاكِمِ وَتَعْظِيمِهِ وَنُفُوذِ كَلامِهِ، وَلا غَرَضَ لَهُ بِذَلِكَ إِلا الاسْتِطَالَةَ عَلَى خُصُومِهِ أَوْ الأمْنَ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ لَهُ فَيَحْتَشِمُهُ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْهِ وَيَخَافُهُ مَنْ لا يَخَافُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الأغْرَاضُ كُلُّهَا تَئُولُ إلَى مَا آلَتْ إلَيْهِ الرِّشْوَةُ. فَلْيَحْذَرْ الْحَاكِمُ الْمُتَحَفِّظُ لِدِينِهِ الْمُسْتَعِدُّ لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مِنْ قَبُولِ هَدَايَا مَنْ أَهْدَى إلَيْهِ بَعْدَ تَوَلِّيهِ لِلْقَضَاءِ، فَإِنَّ لِلإِحْسَانِ تَأْثِيرًا فِي طَبْعِ الإِنْسَانِ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا، فَرُبَّمَا مَالَتْ نَفْسُهُ وهو لا يَشْعُرُ بِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

قَوْلُهُ: «وَالْخَلَّةُ» فِي النِّهَايَةِ: الْخَلَّةُ بِالْفَتْحِ: الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ فَيَكُونُ الْعَطْفُ عَلَى مَا قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَحِلُّ احْتِجَابُ أُولِي الأمْرِ عَنْ أَهْلِ الْحَاجَاتِ، إلَى أن قال: وَمِنْ الْعَدْلِ وَالتَّثَبُّتِ فِي الْحُكْمِ أَنْ لا يُدْخِلَ الْحَاكِمُ جَمِيعَ مَنْ كَانَ بِبَابِهِ مِنْ الْمُتَخَاصِمِينَ إلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً إذَا كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا، بَلْ يَجْعَلُ بِبَابِهِ مَنْ يُرَقِّمُ الْوَاصِلِينَ مِنْ الْخُصُومِ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، ثُمَّ يَدْعُوهُمْ إلَى مَجْلِسِ حُكْمِهِ كُلَّ خَصْمَيْنِ عَلَى حِدَةٍ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَالَ فِي الْفَتْحِ: وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الأسْبَقِ فَالأسْبَقِ وَالْمُسَافِرِ عَلَى الْمُقِيمِ، وَلاسِيَّمَا إنْ خَشِيَ
فَوَاتَ الرُّفْقَةِ، وَأَنَّ مَنْ اتَّخَذَ بَوَّابًا أَوْ حَاجِبًا أَنْ يَتَّخِذَهُ أَمِينًا ثِقَةً عَفِيفًا عَارِفًا حَسَنَ الأخْلاقِ عَارِفًا بِمَقَادِيرِ النَّاسِ. انْتَهَى والله الْمُوَفِق.

(2/615)


بَابُ مَا يَلْزَمُ اعْتِمَادُهُ فِي أَمَانَةِ الْوُكَلاءِ وَالأعْوَانِ

4968- عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ - وَهُوَ يَعْلَمُ - لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ» .

4969- وَفِي لَفْظٍ: «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللهِ» . رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد.

4970 - وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرُطِ مِنْ الأمِيرِ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ» هَذَا ذَمٌّ شَدِيدٌ لَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ الْمُخَاصَمَةُ فِي بَاطِلٍ. وَالثَّانِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ بَاطِلٌ، فَإِنْ اخْتَلَّ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ فَلا وَعِيدَ، وَإِنْ كَانَ الأوْلَى تَرْكَ الْمُخَاصَمَةِ مَا وَجَدَ إلَيْهِ سَبِيلاً. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ إذَا رَأَى مُخَاصِمًا أَوْ مُعِينًا عَلَى خُصُومَةٍ بِتِلْكَ الصِّفَةِ أَنْ يَزْجُرَهُ وَيَرْدَعَهُ لِيَنْتَهِيَ عَنْ غَيِّهِ.

قَوْلُهُ: (بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرُطِ) زَادَ التِّرْمِذِيُّ (لِمَا يَلِي مِنْ أُمُورِهِ) وَقَدْ تَرْجَمَ ابْنُ حِبَّانَ لِهَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: احْتِرَازُ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - مِنْ الْمُشْرِكِينَ فِي مَجْلِسِهِ إذَا دَخَلُوا. وَالشُّرُطُ بِضَمِّ الْمُعْجَمَةِ وَالرَّاءِ وَالنِّسْبَةُ إلَيْهَا شُرُطِيٌّ بِضَمَّتَيْنِ، وَقَدْ يُفْتَحُ الرَّاءُ فِيهِمَا: أعَوَانُ الأمِيرِ، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِ الشُّرُطِ كَبِيرُهُمْ. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ اتِّخَاذِ الأعْوَانِ لِدَفْعِ مَا يَرِدُ عَلَى الإِمَامِ وَالْحَاكِمِ انْتَهَى مُلَخْصًا.
بَابُ النَّهْيِ عَنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ الْغَضَبِ
إِلا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا لا يُشْغِلُ

4971- عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا يَقْضِيَنَّ حَاكِمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانٌ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

4972- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ عِنْدَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْلَ، فَقَالَ

(2/616)


الأنْصَارِيُّ: سَرِّحْ الْمَاءَ يَمُرُّ، فَأَبَى عَلَيْهِ، فَاخْتَصَمَا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلزُّبَيْرِ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى جَاركِ» . فَغَضِبَ الأنْصَارِيُّ ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ؟ فَتَلَوَّنَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ لِلزُّبَيْرِ: ... «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ» . فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاَللَّهِ إنِّي لا أَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} . الآيَةَ رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ.

4973- لَكِنَّهُ لِلْخَمْسَةِ إِلا النَّسَائِيّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ أَبِيهِ.

4974- وَلِلْبُخَارِيِّ فِي رِوَايَةٍ قَالَ: خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً وَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَزَادَ: فَاسْتَوْعَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَئِذٍ لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ أَشَارَ عَلَى الزُّبَيْرِ بِرَأْيٍ فِيهِ سَعَةٌ لَهُ وَلَلأنْصَارِيِّ، فَلَمَّا أَحْفَظَ الأنْصَارِيُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَوْعَى لِلزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الْحُكْمِ. قَالَ عُرْوَةُ: قَالَ الزُّبَيْرُ: فَوَاَللَّهِ مَا أَحْسَبُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ إِلا فِي ذَلِكَ {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} .
4975- رَوَاهُ أَحْمَدُ كَذَلِكَ لَكِنْ قَالَ: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الزُّبَيْرَ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّهُ خَاصَمَ رَجُلاً - وَذَكَرَهُ. جَعَلَهُ مِنْ مُسْنَدِهِ.

4976- وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي رِوَايَةٍ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَقَدَّرَتْ الأنْصَارُ وَالنَّاسُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسْ الْمَاءَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الْجَدْرِ» . فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ.

وَفِي الْخَبَرِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ لِلْخَصْمِ وَالْعَفْوِ عَنْ التَّعْزِيرِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا يَقْضِيَنَّ» إلَى آخِرِه قَالَ الْمُهَلِّبُ: سَبَبُ هَذَا النَّهْيِ أَنَّ الْحُكْمَ حَالَةَ الْغَضَبِ قَدْ يَتَجَاوَزُ بِالْحَاكِمِ إلَى غَيْرِ الْحَقِّ فَمَنَعَ، وَبِذَلِكَ قَالَ فُقَهَاءُ الأمْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَعَدَاهُ الْفُقَهَاءُ إلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ تَغَيُّرُ الْفِكْرِ كَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ الْمُفْرِطَيْنِ، وَغَلَبَةِ النُّعَاسِ وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَلْبُ تَعَلُّقًا يَشْغَلُهُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فَلَوْ خَالَفَ الْحَاكِمُ فَحَكَمَ فِي حَالِ الْغَضَبِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ يَصِحُّ إنْ صَادَفَ الْحَقَّ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

(2/617)


قَوْلُهُ: (فِي شِرَاجٍ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ مَسَايِلُ النَّخْلِ، وَالشَّجَرُ وَاحِدَتُهَا شَرْجَةٌ.

قَوْلُهُ: (سَرِّحْ الْمَاءَ) أَيْ أَرْسِلْهُ.

قَوْلُهُ: «ثُمَّ أَرْسِلْ إِلَى جَارِكَ» كَانَ هَذَا عَلَى سَبِيل الصُّلْح.

قَوْلُهُ: «حَتَّى يَرْجِعَ الْمَاءُ إلَى الْجَدْرِ» بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْجِدَارُ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَصْلُ الْحَائِطِ، وَفِي بَعْضِ طُرُقِ الْحَدِيثِ «حَتَّى يَبْلُغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

قَوْلُهُ: (فَاسْتَوْعَى) أَيْ اسْتَوْفَى.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَيْنِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْا أَنَّ الْجَدْرَ يَخْتَلِفُ بِالطُّولِ وَالْقِصَرِ قَاسُوا مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْقِصَّةُ فَوَجَدُوهُ يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ مِعْيَارَ الِاسْتِحْقَاقِ الأوَّلَ فَالأوَّلَ، وَالْمُرَادُ بِالأوَّلِ هُنَا مَنْ يَكُونُ مَبْدَأُ الْمَاءِ مِنْ نَاحِيَتِهِ.

بَابُ جُلُوسِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا

4977- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

4978- وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «يَا عَلِيُّ إذَا جَلَسَ إلَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلا تَقْضِ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنْ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنْ الأوَّلِ، فَإِنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ تَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «أَنَّ الْخَصْمَيْنِ يَقْعُدَانِ» إلى آخِرِه هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ قُعُودِ الْخَصْمَيْنِ بَيْنَ يَدَيْ الْحَاكِمِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ أَيْضًا مَشْرُوعِيَّةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ. وَرَوَى أَبُو يَعْلَى وَالدَّارَقُطْنِيّ والطبراني مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ «مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَلْيَعْدِلْ بَيْنَهُمْ فِي لَحْظِهِ

(2/618)


وَإِشَارَتِهِ وَمَقْعَدِهِ وَمَجْلِسِهِ. وَلا يَرْفَعْ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا لا يَرْفَعُ عَلَى الآخَرِ» . وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ جَلَسَ بِجَنْبِ شُرَيْحٍ فِي خُصُومَةٍ لَهُ مَعَ يَهُودِيٍّ فَقَالَ: لَوْ كَانَ خَصْمِي مُسْلِمًا جَلَسْتُ مَعَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تُسَاوُوهُمْ فِي الْمَجَالِسِ» . أَخْرَجَهُ الْحَاكِمِ. انْتَهَى مُلَخْصًا.
بَابُ مُلازَمَةِ الْغَرِيمِ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْحَقُّ

وَإِعْدَاءِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ

4979 - عَنْ هِرْمَاسِ بْنِ حَبِيبٍ - رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ - عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِغَرِيمٍ لِي، فَقَالَ لِي: «الْزَمْهُ» . ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ مَا تُرِيدُ أَنْ تَفْعَلَ بِأَسِيرِكَ» ؟ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

4980- وَابْنُ مَاجَةْ وَقَالَ فِيهِ: ثُمَّ مَرَّ بِي آخِرَ النَّهَارِ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ يَا أَخَا بَنِي تَمِيمٍ» ؟ وَقَالَ فِي سَنَدِهِ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.

4981- وَعَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الأسْلَمِيِّ أَنَّهُ كَانَ لِيَهُودِيٍّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا، فَقَالَ: «أَعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا. قَالَ: «أَعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا، قَدْ أَخْبَرْتُهُ أَنَّكَ تَبْعَثُنَا إلَى خَيْبَرَ، فَأَرْجُو أَنْ يُغَنِّمنَا الله شَيْئًا فَأَرْجِعُ فَأَقْضِيَهُ، قَالَ: «أُعْطِهِ حَقَّهُ» . قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذَا قَالَ ثَلاثًا لَمْ يُرَاجَعْ، فَخَرَجَ بِهِ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ إلَى السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ وَهُوَ مُتَّزِرٌ بِبُرْدَةٍ، فَنَزَعَ الْعِمَامَةَ عَنْ رَأْسِهِ فَاتَّزَرَ بِهَا، وَنَزَعَ الْبُرْدَةَ ثُمَّ قَالَ: اشْتَرِ مِنِّي هَذِهِ الْبُرْدَةَ، فَبَاعَهَا مِنْهُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ، فَمَرَّتْ عَجُوزٌ فَقَالَتْ: مَا لَكَ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ: هَا دُونَكَ هَذَا الْبُرْدَ عَلَيْهَا طَرَحَتْهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

وَفِيهِ أَنَّ الْحَاكِمَ يُكَرِّرُ عَلَى النَّاكِلِ وَغَيْرِهِ ثَلاثًا.

4982- وَمِثْلُهُ مَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثًا، وَإِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاثًا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

(2/619)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «الْزَمْهُ» بِفَتْحِ الزَّايِ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُلازَمَةِ مَنْ لَهُ الدَّيْنُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ، إلَى أنْ قَالَ: وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُلازَمَةِ بَلْ فِيهِ التَّشْدِيدُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ وَعَدَمِ قَبُولِ دَعْوَاهُ الإِعْسَارَ لِمُجَرَّدِهَا مِنْ دُونِ بَيِّنَةٍ وَعَدَمِ الاعْتِدَادِ بِيَمِينِهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْمَالِ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا.

بَابُ الْحَاكِمِ يَشْفَعُ لِلْخَصْمِ وَيَسْتَوْضِعُ لَهُ

4983- عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى: «يَا كَعْبُ» . قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا» . وَأَوْمَأَ إلَيْهِ: أَيْ الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «قُمْ فَاقْضِهِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ.

وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ الْحُكْمِ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَّ مَنْ قِيلَ: لَهُ: بِعْ، أَوْ: هَبْ، أَوْ: أَبِرَّ، فَقَالَ: قَدْ فَعَلْتُ، صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَنَّ الإِيمَاءَ الْمَفْهُومَ يَقُومُ مَقَامَ النُّطْقِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْمُرَادُ بِهَذَا الأمْرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - الإِرْشَادُ إلَى الصُّلْحِ وَالشَّفَاعَةِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الدَّيْنِ، وَفِيهِ فَضِيلَةُ الصُّلْحِ وَحُسْنُ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ.

قَوْلُهُ: «قُمْ فَاقْضِهِ» قِيلَ: هَذَا أَمْرٌ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ لأنَّ رَبَّ الدَّيْنِ لَمَّا طَاوَعَ بِوَضْعِ الشَّطْرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمَدْيُونِ أَنْ يُعَجِّلَ إلَيْهِ دَيْنَهُ لِئَلا يَجْمَعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بَيْنَ الْوَضِيعَةِ وَالْمُطُلِ.
بَابُ إنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا لا بَاطِنًا

4984 - وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي بِنَحْوٍ

(2/620)


مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ. وَقَدْ احْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِعِلْمِهِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ» الْبَشَرُ يُطْلَقُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِمَعْنَى أَنَّهُ مِنْهُمْ، أَتَى بِهِ رَدًّا عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ كَانَ رَسُولاً فَإِنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ غَيْبٍ حَتَّى لا يَخْفَى عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ مِنْ الظَّالِمِ.
قَوْلُهُ: «أَلْحَنَ» : أَيْ أَبْلَغُ.
قَوْلُهُ: «فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» أَيْ لِلَّذِي قَضَيْت لَهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إلَى أَهْلِ النَّارِ. وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إثْمِ مَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَأَنَّ مَنْ احْتَالَ لأمْرٍ بَاطِلٍ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْحِيَلِ حَتَّى يَصِيرَ حَقًّا فِي الظَّاهِرِ وَيُحْكَمُ لَهُ بِهِ أَنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ وَلا يَرْتَفِعُ عَنْهُ الإِثْمُ. وَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لا يُحَلِّلُ الْحَرَامَ. وَفِيهِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا أَخْطَأَ لا يَلْحَقُهُ إثْمٌ بَلْ يُؤْجَرُ أَنَّه - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقْضِي بِالاجْتِهَادِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ. وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ لا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ. وَسَيَأْتِي الْكَلامُ عَلَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. انْتَهَى مُلَخْصًا.

بَابُ مَا يُذْكَرُ فِي تَرْجَمَةِ الْوَاحِدِ
4985 - فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَهُ فَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ وَقَالَ: حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إذَا كَتَبُوا إلَيْهِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ، فَقُلْتُ: نُخْبِرُكَ بِاَلَّذِي صَنَعَ بِهَا قَالَ: وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ تَرْجَمَةِ وَاحِدٍ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: أَجَازَ الأكْثَرُ تَرْجَمَةَ وَاحِدٍ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ كَالْبَيِّنَةِ. وَقَالَ

(2/621)


الْكَرْمَانِيُّ: لا نِزَاعَ لأحَدٍ أَنَّهُ يَكْفِي تُرْجُمَانٌ وَاحِدٌ عِنْدَ الإِخْبَارِ، وَأَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ التِّينِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لا يُتَرْجِمُ إِلا حُرٌّ عَدْلٌ. وَإِذَا أَقَرَّ الْمُتَرْجِمُ بِشَيْءٍ وَجَبَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ شَاهِدَانِ وَيَرْفَعَانِ ذَلِكَ إلَى الْحَاكِمِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَيُقْبَلُ فِي التَّرْجَمَةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالتَّعْرِيفِ وَالرِّسَالَةِ قَوْلُ عَدْلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ رُوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدٍ.

بَابُ الْحُكْمِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ

4986- عَنْ ابْنِ عَبَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِيَمِينٍ وَشَاهِدٍ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

4987- وَفِي رِوَايَةٍ لأحْمَدَ: إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الأمْوَالِ.

4988- وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ.

4989، 4990- وَلأحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عُمَارَةَ بْنِ حَزْمٍ وَحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مِثْلُهُ.
4991- وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ، وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ، وَقَضَى بِهِ عَلِيٌّ - رضي الله عنه - بِالْعِرَاقِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ.

4992- وَعَنْ رَبِيعَةَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَزَادَ: قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسُهَيْلٍ فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَبِيعَةُ - وَهُوَ عِنْدِي ثِقَةٌ - أَنِّي حَدَّثْتُهُ إيَّاهُ وَلا أَحْفَظُهُ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَدْ كَانَ أَصَابَ سُهَيْلاً عِلَّةٌ أَذْهَبَتْ بَعْضَ عَقْلِهِ وَنَسِيَ بَعْضَ حَدِيثِهِ فَكَانَ سُهَيْلٌ بَعْدُ يُحَدِّثُهُ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ.

4993- وَعَنْ سَرَّقْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجَازَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ، وَيَمِينَ الطَّالِبِ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.

(2/622)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ مَرْفُوعًا «قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ فِي الْحَقِّ بِشَاهِدَيْنِ، فَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ أَخَذَ حَقَّهُ وَإِنْ جَاءَ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ حَلَفَ مَعَ شَاهِدِهِ» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ لا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لأنَّهُ لا يَمْنَعُ أَنْ يَجُوزَ أَقَلُّ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

بَابُ مَا جَاءَ فِي امْتِنَاعِ الْحَاكِمِ مِنْ الْحُكْمِ بِعِلْمِهِ

4994- عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا، فَلاحَهُ رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: الْقَوَدَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «لَكُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ:
«لَكُمْ كَذَا وَكَذَا» . فَرَضُوا، فَقَالَ: «إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ» قَالُوا: نَعَمْ. فَخَطَبَ فَقَالَ: «إنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَتَوْنِي يُرِيدُونَ الْقَوَدَ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِمْ كَذَا وَكَذَا فَرَضُوا أَفَرَضِيتُمْ» ؟ قَالُوا: لا، فَهَمَّ الْمُهَاجِرُونَ بِهِمْ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَكُفُّوا عَنْهُمْ فَكَفُّوا، ثُمَّ دَعَاهُمْ فَزَادَهُمْ، فَقَالَ: «أَفَرَضِيتُمْ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «إنِّي خَاطِبٌ عَلَى النَّاسِ وَمُخْبِرُهُمْ بِرِضَاكُمْ» ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَخَطَبَ فَقَالَ: «أَرَضِيتُمْ» ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِيَّ.

4995 - وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ بِالْجِعْرَانَةِ مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٌ وَفِي ثَوْبِ بِلالٍ فِضَّةٌ، وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» . فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللهِ أَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: «مَعَاذَ اللهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ مَا أَخَذْتُهُ وَلا دَعَوْتُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِي غَيْرِي. حَكَاهُ أَحْمَدُ.

(2/623)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ الْقَضَاءِ مِنْ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْلا قُضَاةُ السُّوءِ لَقُلْت: إنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: حَدِيثَ عَائِشَةَ لَيْسَ فِيهِ إِلا مُجَرَّدُ وُقُوعِ الإِخْبَارِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - بِمَا وَقَعَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الطَّالِبِينَ لِلْقَوَدِ وَإِنْ كَانَ الاحْتِجَاجُ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمْ بِمَا رَضُوا بِهِ الْمَرَّةَ الأولَى فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُطَالِبٌ لَهُ بِالْحُكْمِ عَلَيْهِمْ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ لا يَدُلُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ. إلَى أنْ قَالَ: وَلا رَيْبَ أَنَّهُ
يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ لأنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ لا تَبْلُغُ إلَى مَرْتَبَةِ الْعِلْمِ الْحَاصِلِ عَنْ الْمُشَاهَدَةِ. انْتَهَى مُلَخْصًا. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: بَابِ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ في أمر الناسِ إذا لم يخف الظنون والتهمة كما قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِهند «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . وذلك إذا كان أمر مشهور. قَالَ الْحَافِظُ: أشار إلى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ بأن للقاضي أن يحكم بعلمه في حقوق الناس، وليس له أن يقضي بعلمه في حقوق الله كالحدود، لأنها مبنية على المسامحة، إلى أن قال: وَقَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: الذي عندي أن شرط جواز الحكم بالعلم أن يكون الحاكم مشهورًا بالصلاح والعفاف والصدق، ولم يعرف بكبير زلة ولم يؤخذ عليه خربة، بحيث تكون أسباب التقى فيه موجودة وأسباب التهم فيه مفقودة.

بَابُ مَنْ لا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِشَهَادَتِهِ

4996- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ وَلا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ، وَلا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأهْلِ الْبَيْتِ» . وَالْقَانِعُ الَّذِي يُنْفِقُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَيْتِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَقَالَ: «شَهَادَةُ الْخَائِنِ وَالْخَائِنَةِ» . إلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ الْقَانِعِ.

4997- وَلأبِي دَاوُد فِي رِوَايَةٍ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ، وَلا زَانٍ وَلا زَانِيَةٍ، وَلا ذِي غِمْرٍ عَلَى أَخِيهِ» .

4998 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ بِدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

(2/624)


قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلا خَائِنَةٍ» . صرح أبو عبيدة بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس.

قَوْلُهُ: «وَلا ذِي غِمْرٍ» قَالَ أَبُو دَاوُد: الْغِمْرُ: الْحِنَةُ وَالشَّحْنَاءُ، وَالْحِنَةُ: الْحِقْدُ وَالشَّحْنَاءُ: الْعَدَاوَةُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَدَاوَةَ تَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ لأنَّهَا تُوَرِّثُ التُّهْمَةَ. قَالَ فِي الْبَحْرِ: الْعَدَاوَةُ لأجْلِ الدِّينَ لا تَمْنَعُ.

قَوْلُهُ: «وَلا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَانِعِ لأهْلِ الْبَيْتِ» هُوَ الْخَادِمُ الْمُنْقَطِعُ إلَى الْخِدْمَةِ فَلا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ بِجَلْبِ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ.

قَوْلُهُ: «وَلا زَانٍ وَلا زَانِيَةٍ» الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا الْفِسْقُ الصَّرِيحُ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ، وَشَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَلآخَرِ، وَلا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةٌ لَلتُّهْمَةِ لأنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا الْمُحَابَاةُ وَحَدِيثُ «وَلا ظَنِينٍ» يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ، فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ الْقَرَابَةِ وَنَحْوِهِمْ بِمَتَانَةِ الدِّينِ الْبَالِغَةِ إلَى حَدٍّ لا يُؤَثِّرُ مَعَهَا مَحَبَّةُ الْقَرَابَةِ فَقَدْ زَالَتْ حِينَئِذٍ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، فَالْوَاجِبُ عَدَمُ الْقَبُولِ لِشَهَادَتِهِ لأنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلتُّهْمَةِ. انْتَهَى مُلَخْصًا.

قَوْلُهُ: «لا تَجُوزُ شَهَادَةُ بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا كَرِهَ شَهَادَةَ الْبَدَوِيِّ لَمَا فِيهِ مِنْ الْجَفَاءِ فِي الدِّينِ وَالْجَهَالَةِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَلأنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ لا يَضْبِطُونَ الشَّهَادَةَ عَلَى وَجْهِهَا وَذَهَبَ إلَى الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ جَمَاعَةٌ وَذَهَبَ الأكْثَرُ إلَى الْقَبُولِ. قَالَ ابْنُ رَسْلانَ: وَحَمَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ لَمْ تُعْرَفْ عَدَالَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْبَدْوِ. انْتَهَى مُلَخْصًا.
بَابُ مَا جَاءَ فِي شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ

4999- عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ بِدَقُوقَا هَذِهِ وَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُشْهِدُهُ عَلَى وَصِيَّتِهِ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَدِمَا الْكُوفَةَ فَأَتَيَا الأشْعَرِيَّ -يَعْنِي أَبَا مُوسَى- فَأَخْبَرَاهُ وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ. فَقَالَ الأشْعَرِيُّ: هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَحْلِفْهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ مَا خَانَا وَلا كَذَبَا وَلا بَدَّلا وَلا

(2/625)


كَتَمَا وَلا غَيَّرَا، وَإِنَّهَا لَوَصِيَّةُ الرَّجُلِ وَتَرِكَتُهُ فَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ بِمَعْنَاهُ.

وَعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: دَخَلْت عَلَى عَائِشَةِ فَقَالَتْ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قُلْت: نَعَمْ، قَالَتْ: فَإِنَّهَا آخِرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلالٍ فَأُحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ. رَوَاهُ أَحْمَدُ.

5000- وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمُوا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: ابْتَعْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَقَامَ رَجُلانِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ فَحَلَفَا: لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأنَّ الْجَامَ لَصَاحِبِهِمْ، قَالَ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُد.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَدُوا جَامًا) بِالْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ: أَيْ إنَاءً وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي، وَاسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ وَخَصَّ جَمَاعَةٌ الْقَبُولَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَبِالْوَصِيَّةِ وَبِفَقْدِ الْمُسْلِمِ حِينَئِذٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الأئِمَّةِ إلَى أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ
مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَاحْتَجُّوا بِالإِجْمَاعِ عَلَى رَدِّ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ، وَالْكَافِرُ شَرٌّ مِنْ الْفَاسِقِ وَأَجَابَ الأوَّلُونَ أَنَّ النَّسْخَ لا يَثْبُتُ بِالاحْتِمَالِ وَأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إلْغَاءِ أَحَدِهِمَا وَبِأَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَأَنَّهَا مُحْكَمَةٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَنْ مَاتَ مُسَافِرًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَذَهَبَ الْكَرَابِيسِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَآخَرُونَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ فِي الآيَةِ الْيَمِينُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرْ عَلَى الْمُسْلِمْ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُه، وَهُوَ مَذْهَبْ أَحْمَد، وَلا تَعْتَبِرْ عَدَالَتَهُم، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحْلِفَهُمْ بِسَبَب حَقّ اللهِ، وَلَوْ حَكَمَ حَاكِمْ بِخِلافِ آيَةِ الْوِصَايَةُ لَنَقَضَ حُكْمُه فَإِنَّهُ خَالَفَ نَصُّ الْكِتَاب بِتَأْوِيلات سَمِجَةْ. وَقَوْلُ أَحْمَد: أَقْبَلُ شِهَادَةَ أَهْل

(2/626)


الذِّمَّة إِذَا كَانُوا فِي سَفَر لَيْسَ فِيهِ غَيْرِهِمْ هَذِهِ ضَرُورَة يَقْتَضِي هَذَا التَّحْمِيل قُبُولَهَا فِي كُلِّ ضَرُورة حَضَرًا وَسَفَرًا وَصِيَّةً وَغَيْرَهَا وَهُوَ مُتَّجَهٌ كَمَا تُقْبَلُ شِهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ إِذَا اجْتَمَعْنَ فِي الْعُرْسِ وَالْحمام وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْر بن مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أَحْمَدُ فِي شَهَادَةِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ضَرُورَة غَيْرَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ رِوَايَتَانِ لَكِنْ التَّحْلِيف هُنَا لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لا تَحْلِيفَ لأنَّهُمْ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ حَيْثُ يَكُونُ شِهَادَتَهُمْ بَدَلاً فِي التَّحْمِيلِ، بِخِلاف مَا إِذَا كَانُوا أُصُولاً قَدْ عَمَلُوا مِنْ غَيْرِ تَحْمِيلِ. وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس فِي مَوْضِع آخر: وَلَوْ قِيلَ: تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ مَعْ إِيمَانِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ عدم فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لَكَانَ وَجْهًا وَنُكُونُ شِهَادَتَهُمْ بَدَلاً مُطَلَّقًا وَإِذَا قَبِلْنَا شِهَادَةَ الْكُفَّارِ فِي الْوَصِيَّةِ فِي السَّفَرِ فَلا يَعْتَبِرْ كَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرُ
الْقُرْآن وَتُقْبَلْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضْ، وَهُوَ رِوَايَةُ عن أَحْمَد اخْتَارَهَا أَبُو الْخَطَّابَ فِي انْتِصَارُهُ وَمَذْهَبْ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةَ مِن الْعُلَمَاء وَلَوْ قِيلَ إِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ مَعَ شَهَادَتِهِمْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض كَمَا يَحْلِفُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي وَصِيَّةِ السَّفَرِ كَانَ مُتَوَجِّهًا.

بَابُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ أَعْلَمَ صَاحِبَ الْحَقِّ بِشَهَادَةٍ لَهُ عِنْدَهُ
وَذَمِّ مَنْ أَدَّى شَهَادَةً مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ

5001- عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ، الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

5002- وَفِي لَفْظِ: «الَّذِينَ يَبْدَءُونَ بِشَهَادَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْأَلُوا عَنْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

5003 - وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . قَالَ عِمْرَانُ: فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً: «ثُمَّ إنَّ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلا يَسْتَشْهِدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيُنْذِرُونَ وَلا يُوفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ» . مُتَّفِقٌ عَلَيْهِ.

(2/627)


5004- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِي بُعِثْت فِيهِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَذَكَرَ الثَّالِثَ أَمْ لا؟ قَالَ: «ثُمَّ يَخْلُفُ بِقَوْمٍ يَشْهَدُونَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدُوا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَالْمُرَاد بِقَرْنِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيث هُمْ الصَّحَابَة، وَالْمُرَاد بِالَّذِينَ يَلُونَهُمْ التَّابِعُونَ والَّذِينَ يَلُونَهُمْ تَابِعُو التَّابِعِين.
قَوْلُهُ: «وَيَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ» يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ بِدُونِ تَحْمِيلٍ، أَوْ الأدَاءُ بِدُونِ طَلَبٍ. قَالَ الْحَافِظُ: وَالثَّانِي أَقْرَبُ. وأحاديث الْبَابِ مُتَعَارِضَةٌ. قَالَ الْحَافِظُ: وَأَحْسَنُ الأجْوِبَةِ أنَّ الْمُرَادَ بِحَدِيثِ زَيْدٍ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لإِنْسَانٍ بِحَقٍّ لا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُهَا، فَيَأْتِي إلَيْهِ فَيُخْبِرُهُ بِهَا أَوْ يَمُوتُ صَاحِبُهَا الْعَالِمُ بِهَا وَيَخْلُفُ وَرَثَةً فَيَأْتِي الشَّاهِدُ إلَى وَرَثَتِهِ فَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَخَبَر «يَشْهَدُ وَلا يَسْتَشْهِدُ» مَحْمُولٌ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ وَإِذَا أَدَّى الآدَمِيُّ شِهَادَة قَبْلَ الطَّلَبِ قَامَ بالْوَاجِبِ وَكَانَ أَفْضَلُ كَمَنْ عِنْدَهُ أَمَانَة أَدَّهَا قَبْلَ الْحَاجَةِ وَالْمَسْأَلَةُ.

بَابُ التَّشْدِيدِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ

5005- عَنْ أَنَسٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَبَائِرَ - أَوْ سُئِلَ عَنْ الْكَبَائِرِ - فَقَالَ: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . وَقَالَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَوْلُ الزُّورِ» أَوْ قَالَ: «شَهَادَةُ الزُّورِ» .

5006- وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: «أَلا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ» . فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا.

5007- وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «لَنْ تَزُولَ قَدَمُ شَاهِدِ الزُّورِ حَتَّى يُوجِبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ) هَذَا يُشْعِرُ

(2/628)


بِاهْتِمَامِهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ وَيُفِيدُ ذَلِكَ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ وَعَظِيمَ قُبْحِهِ، وَسَبَبُ الاهْتِمَامِ
بِشَهَادَةِ الزُّورِ كَوْنُهَا أَسْهَلَ وُقُوعًا عَلَى النَّاسِ وَالتَّهَاوُنُ بِهَا أَكْثَرُ، فَإِنَّ الإِشْرَاكَ يَنْبُو عَنْهُ قَلْبُ الْمُسْلِمِ، وَالْعُقُوقُ يَصْرِفُ عَنْهُ الطَّبْعَ، وَأَمَّا الزُّورُ فَالْحَوَامِلُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ كَالْعَدَاوَةِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِهِمَا فَاحْتِيجَ إلَى الاهْتِمَامِ وَقَوْلُ الزُّورِ أَعَمُّ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ لأنَّهُ يَشْمَلُ كُلَّ زُورٍ مِنْ شَهَادَةٍ أَوْ غَيْبَةٍ أَوْ بُهْتٍ أَوْ كَذِبٍ.

قَوْلُهُ: (حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) أَيْ شَفَقَةً عَلَيْهِ وَكَرَاهِيَةً لَمَا يُزْعِجُهُ.

قَوْلُهُ: «حَتَّى يُوجِبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» فِي هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِشَاهِدِ الزُّورِ حَيْثُ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْ مَكَانِهِ.

بَابُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَالدَّعْوَتَيْنِ

5008- عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بَعِيرًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَعَثَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَاهِدَيْنِ، فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

5009- وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ فَجَعَلَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. رَوَاهُ الْخَمْسَةُ إِلا التِّرْمِذِيُّ.

5010- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَرَضَ عَلَى قَوْمٍ الْيَمِينَ، فَأَسْرَعُوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بَيْنَهُمْ فِي الْيَمِينِ أَيُّهُمْ يَحْلِفُ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

5011- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَارَءَا فِي دَابَّةٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ، فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ أَحَبَّا أَوْ كَرِهَا. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَةْ.

5012- وَفِي رِوَايَةٍ: تَدَارَءَا فِي بَيْعٍ.
5013- وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «إذَا كَرِهَ الاثَنَانِ الْيَمِينَ أَوْ اسْتَحَبَّاهَا فَلَيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: (فَقَسَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) فِيهِ أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ رَجُلانِ فِي عَيْنِ دَابَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا مِلْكُهُ دُونَ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ وَكَانَتْ الْعَيْنُ فِي يَدَيْهِمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مُدَّعٍ فِي

(2/629)


نِصْفٍ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى دَعْوَاهُ تَسَاقَطَتَا وَصَارَتَا كَالْعَدَمِ وَحَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا لاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً كَمَا فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ، وَكَذَا إذَا حَلَفَا أَوْ نَكَلا. وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ ادَّعَيَا دَابَّةً وَجَدَاهَا عِنْدَ رَجُلٍ، فَأَقَامَ كُلٌّ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ.

قَوْلُهُ: «فَلْيَسْتَهِمَا عَلَيْهَا» وَجْهُ الْقُرْعَةِ أَنَّهُ إذَا تَسَاوَى الْخَصْمَانِ فَتَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِدُونِ مُرَجِّحٍ لا يَسُوغُ فَلَمْ يَبْقَ إِلا الْمَصِيرُ إلَى مَا فِيهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ وَهُوَ الْقُرْعَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مهنا فِي الرَّجُل يُقِيمُ الشُّهُود أَيَسْتَقِم لِلْحَاكِمْ أَنْ يَقُولَ أحْلِف؟ فَقَالَ: قَد فَعَلَ ذَلِكَ عَليَّ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: لِلْحَاكِمِ أَنْ يَفَعَلْ ذَلِكَ إِذَا أَرَادَ مَصْلَحَة لِظُهُور رِيبة فِي الشُّهُود. وَقَالَ أَيْضًا: وَمَنْ بِيَدِهِ عقار فادَّعَى رجُلٌ بِثَبْوَتِهِ عِنْدَ الْحَاكِمْ أَنَّهُ كَانَ لِجِدِّهِ إلَى مَوته ثُمَّ وَرَثَتْهُ وَلَمْ يَثْبَتْ أَنَّهُ مُخَلَّفْ عَنْ مَوْرُثِهِ لا ينزع مِنْهُ بِذَلِكَ لأن أَصْلَيْنِ تَعَارَضَا وَأَسْبَابُ انْتِقَالِهِ أَكْثَرُ مِن الإِرْثِ وَلَمْ تَجُرَّ الْعَادَةِ بِسُكُوتِهِمْ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةِ، وَلَوْ فَتَحَ هَذَا الْبَابَ لانْتزعَ كَثِير مِنْ عِقَارِ النَّاسِ بِهَذَا الطَّرِيقِ.
بَابُ اسْتِحْلافِ الْمُنْكِرِ إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ وَأَنَّهُ لَيْسَ لَلْمُدَّعِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا

5014- عَنْ الأشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ، فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: «شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ» . فَقُلْت: إنَّهُ إذَنْ يَحْلِفُ وَلا يُبَالِي، فَقَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَاحْتَجَّ بِهِ مَنْ لَمْ يَرَ الشَّاهِدَ وَالْيَمِينَ، وَمَنْ رَأَى الْعَهْدَ يَمِينًا.

5015- وَفِي لَفْظٍ: خَاصَمْتُ ابْنَ عَمٍّ لِي إلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بِئْرٍ كَانَتْ لِي فِي يَدِهِ فَجَحَدَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «بَيِّنَتُكَ أَنَّهَا بِئْرُكَ وَإِلَّا فَيَمِينُهُ» . قُلْت: مَا لِي بَيِّنَةٌ وَأَنْ يَجْعَلَهَا يَمِينَهُ تَذْهَبُ بِئْرِي إنَّ خَصْمِي امْرُؤٌ فَاجِرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ.

5016- وَعَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ

(2/630)


مِنْ كِنْدَةَ إلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأبِي. فقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ» ؟ قَالَ: لا، قَالَ: «فَلَكَ يَمِينُهُ» . فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ الرَّجُلُ فَاجِرٌ لا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: «لَيْسَ لَك مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» . فَانْطَلَقَ لَيَحْلِفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا أَدْبَرَ الرَّجُلُ: «أَمَّا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى عَدَمِ الْمُلازَمَةِ وَالتَّكْفِيلِ وَعَدَمِ رَدِّ الْيَمِينِ.
قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لا يَجِبُ لِلْغَرِيمِ عَلَى غَرِيمِهِ الْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ، وَلا يَلْزَمُهُ التَّكْفِيلُ وَلا يَحِلُّ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْمُلازَمَةِ وَلا بِالْحَبْسِ وَلَكِنَّهُ قَدْ وَرَدَ مَا يُخَصِّصُ هَذِهِ الأمُورَ مِنْ عُمُومِ هَذَا النَّفْيِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُ ذَلِكَ وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ يَوْمًا وَلَيْلَةً اسْتِظْهَارًا وَطَلَبًا لاِظْهَارِ الْحَقِّ بِالاعْتِرَافِ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ عَبْدًا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ، فَحَبَسَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَاعَ غُنَيْمَةً لَهُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَالَ فِي الاخْتِيَارَاتِ: وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعِي بِهِ مِمَّا يعلمُ الْمُدَّعِي عَلَيْهِ فَقَطْ - مِثْلَ أَن يَدَّعِي الْوَرَثَةُ أَوْ الْوَصِي عَلَى غَريم لِلْمَيِّتِ - قَضَى عَلَيْهِ بالنَّكُول وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْمُدعِي كالدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ حَقًّا عَلَيْه يَتَعَلَّق بِتِرْكَتِهِ وَطَلَبَ مِنْ الْمُدَّعِي الْيَمِن عَلى الْبَتاَت فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ لَمْ يَأَخْذْ، وَإِنْ كَانَ كُلّ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعِلْمَ أَوْ طَلَبُ مِن الْمَطْلُوبِ الْيَمِين عَلَى نَفي الْعِلْمِ فَهَا هُنَا يَتَوَجَّهُ الْقَوْلانُ والْقَوْل بِالرَّدِ أَرْجَحَ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الْيَمِنَ تُرَدَّ عَلَى جِهَةٍ أَقْوَى الْمُتَداعِيين الْمتَجَاحِدِين.

بَابُ اسْتِحْلافِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الأمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَغَيْرِهِمَا

5017 - عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

(2/631)


5018- وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنْ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَاسْتُدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ الْجُمْهُورُ وَحَمَلُوهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ اخْتِلاطٌ أَمْ لا.

قَوْلُهُ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ» إلَى آخره. هَذَا هُوَ وَجْهُ الْحِكْمَةِ فِي جَعْلِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ بِلَفْظِ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَظَاهِرُ أَحَادِيثِ الْبَابِ أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَمَنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَلَكِنَّهُ وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الأشْعَثِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: «إذَا اخْتَلَفَ الْبَيِّعَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَيِّنَةٌ فَهُوَ مَا يَقُولُ رَبُّ السِّلْعَةِ أَوْ يَتَتَارَكَانِ» . وَظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ لا بَيِّنَةَ عَلَيْهِ بَلْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ فَقَطْ سَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِيًا أَوْ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِاسْتِحْلافِ الْبَائِعِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةٍ فِي الْبَيْعِ، فَمَادَّةُ التَّعَارُضِ حَيْثُ كَانَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا، وَالْوَاجِبُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الرُّجُوعُ إلَى التَّرْجِيحِ، وأحاديث الْبَابِ أَرْجَحُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ مَا لَمْ يَكُنْ مُدَّعِيًا. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ التَّشْدِيدِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ

5019- عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْحَارِثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» . فَقَالَ رَجُلٌ:
وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا؟ قَالَ: «وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَابْنُ مَاجَةْ وَالنَّسَائِيُّ.

5020- وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ.

(2/632)


5021 - وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٌ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينَ الْغَمُوسَ، وَمَا حَلَفَ حَالِفٌ بِاَللَّهِ يَمِينَ صَبْرٍ، فَأَدْخَلَ فِيهَا مِثْلَ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلا جَعَلَهُ اللهُ نُكْتَةً فِي قَلْبِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «يَمِينُ صَبْرٍ» . أَيْ أُلْزِمَ بِهَا وَحُبِسَ عَلَيْهَا وَكَانَتْ لازِمَةً لِصَاحِبِهَا مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ.

بَابُ الِاكْتِفَاءِ فِي الْيَمِينِ بِالْحَلِفِ بِاَللَّهِ
وَجَوَازِ تَغْلِيظِهَا بِاللَّفْظِ وَالْمَكَانِ وَالزَّمَانِ

5022 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ فَلْيَصْدُقْ، وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنْ اللهِ» . رَوَاهُ ابْنُ مَاجَةْ.

5023 - وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِرَجُلٍ حَلَّفَهُ: «احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إِلا هُوَ مَا لَهُ عِنْدِي شَيْءٌ يَعْنِي الْمُدَّعِيَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

5024 - وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ يَعْنِي ابْنَ صُورِيَّا: «أُذَكِّرُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي نَجَّاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأَقْطَعَكُمْ الْبَحْرَ، وَظَلَّلَ عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَتَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمْ
الرَّجْمَ» ؟ قَالَ: ذَكَّرْتَنِي بِعَظِيمٍ وَلا يَسَعُنِي أَنْ أَكْذِبَكَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.

5025- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْلِفُ عِنْدَ هَذَا الْمِنْبَرِ عَبْدٌ وَلا أَمَةٌ عَلَى يَمِينٍ آثِمَةٍ - وَلَوْ عَلَى سِوَاكٍ رَطْبٍ - إِلا أَوْجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ» .

5026 - وَعَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «لا يَحْلِفُ أَحَدٌ عَلَى مِنْبَرِي كَاذِبًا إِلا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . رَوَاهُمَا أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةْ.

5027 - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ

(2/633)


مَاءٍ بِالْفَلاةِ يَمْنَعُهُ مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ الإِمَامَ لا يُبَايِعُهُ إِلا لِلدُّنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ سِلْعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ لأخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ» . رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلا التِّرْمِذِيُّ.

5028- وَفِي رِوَايَةٍ: «ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أُعْطِيَ وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ.

قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَوْلُهُ: «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ» فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي مُجَرَّدُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ وَصْفٌ مِنْ أَوْصَافِهِ، وَمِنْ دُونِ تَغْلِيظٍ بِزَمَانٍ أَوْ مَكَان.
قَوْلُهُ: «وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى» أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمَنَّ هُوَ التَّرَنْجَبِينُ وَهُوَ شَيْءٌ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَالسَّلْوَى: طَيْرٌ يُقَالُ لَهُ السَّمَّانِيّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَغْلِيظِ الْيَمِينِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ.

قَوْلُهُ: «بَعْدَ الْعَصْرِ» خَصَّهُ لِشَرَفِهِ وَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِأَحَادِيثِ الْبَابِ عَلَى جَوَازِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْحَالِفِ بِمَكَانٍ مُعَيَّنٍ كَالْحَرَمِ وَالْمَسْجِدِ وَمِنْبَرِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَبِالزَّمَانِ كَبَعْدَ الْعَصْرِ وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْجُمْهُورُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

بَابُ ذَمِّ مَنْ حَلَفَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ

5029 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ - رضي الله عنه - بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَقِيَامِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِينَا، قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلا يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ أَلا لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ

(2/634)


فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ.

قَوْلُهُ: «أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبَ» . قَالَ الشَّارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: رَتَّبَ - صلى الله عليه وسلم - فُشُوَّ الْكَذِبِ عَلَى انْقِرَاضِ الثَّالِثِ. فَالْقَرْنُ الَّذِي بَعْدَهُ ثُمَّ مَنْ بَعْدَهُ إلَى الْقِيَامَةِ قَدْ فَشَا فِيهِمْ الْكَذِبُ بِهَذَا النَّصِّ فَعَلَى الْمُتَيَقِّظِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ عَالِمٍ أَنْ يُبَالِغَ فِي تَعَرُّفِ أَحْوَالِ الشَّهَادَةِ وَالْمُخْبِرِينَ، وَمِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَمْ يُقْبَلْ الْمَجْهُولُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَنْقُولِ. وَفِي
الْحَدِيثِ التَّوْصِيَةُ بِخَيْرِ الْقُرُونِ وَهُمْ الصَّحَابَةُ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: «لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» سَبَبُ ذَلِكَ ما جبلا عَلَيْهِ مِنْ شَهْوَةِ النِّكَاحِ، فَيَجِدُ الشَّيْطَانُ السَّبِيلَ فَتَقَعُ الْمَعْصِيَةُ. انْتَهَى مُلَخَّصًا.

قَوْلُهُ: «بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ» قَالَ فِي النِّهَايَةِ: بُحْبُوحَةُ الدَّارِ وَسَطُهَا، يُقَالُ بَحْبَحَ: إذَا تَمَكَّنَ وَتَوَسَّطَ الْمَنْزِلَ وَالْمَقَامَ وَالْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الْجَمَاعَةِ سَبَبُ الْكَوْنِ فِي بُحْبُوحَةِ الْجَنَّةِ لأنَّ يَدَ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَمَنْ شَذَّ شَذَّ إلَى النَّارِ كَمَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ.

قَوْلُهُ: «مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ» إلَى آخره فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السُّرُورَ لأجْلِ الْحَسَنَةِ وَالْحُزْنَ لأجْلِ السَّيِّئَةِ مِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ؛ لأنَّ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الإِيمَانِ لا يُبَالِي أَحْسَنَ أَمْ أَسَاءَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ صَحِيحَ الإِيمَانِ خَالِصَ الدِّينِ فَإِنَّهُ لا يَزَالُ مِنْ سَيِّئَتِهِ فِي غَمٍّ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِهَا مُحَاسَبٌ عَلَيْهَا، وَلا يَزَالُ مِنْ حَسَنَتِهِ فِي سُرُورٍ لأنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا مُدَّخَرَةٌ لَهُ فِي صَحَائِفِهِ فَلا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُوَفِّقَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ. انْتَهَى وَاللهُ أَعْلَمُ.

وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالى أَنْ يَجْعَل أَحْسَنَ أَعْمَالِنَا خَواتِيمَهَا وأَبْرَكَ أَيَامِنَا يَوْمَ لِقَائِهِ.

(2/635)