تطهير
الجنان والقواعد الأربع ومنهج السالكين [تطهير الجنان
والأركان عن أدران الشرك والكفران]
[خطبة الكتاب]
تطهير الجنان والأركان
عن أدران الشرك والكفران أحمد بن حجر آل بو طامي آل ابن علي قاضي المحكمة
الشرعية بقطر
(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
(1/5)
خطبة الكتاب الحمد لله الذي أمرنا
بالعبادة: بطاعته وطاعة رسوله، ووعدنا بالحسنى مع الزيادة. والصلاة والسلام
على سيدنا محمد، البالغ منتهى الشرف والسيادة، وعلى آله وأصحابه الذين
منحهم الله العزة والسعادة.
أما بعد:
فقد حورب الإسلام منذ أن بزغ فجره بمختلف الأسلحة. ومن أشدها فتكاً،
وأخبثها مكراً، وأكثرها رواجاً: دعاية المُخرفين والقبوريين والصوفية
المبطلين الذين لم يدخروا وسعاً في نشر البدع والضلالات باسم الدين، والدين
منها بريء. كما دعوا إلى عبادة القبور وحسَّنوها للجماهير بشتى الأساليب،
من بناء القباب والأضرحة عليها وتزويقها، ووضع الستور النفيسة عليها،
وجعلوا السدنة حولها ليطوفوا بالزائرين حول الضرائح، ويعلموهم كيف يدعون
الأولياء، وينزلون بهم حاجاتهم، بدلًا من اللجوء إلى
(1/7)
الحي الذي لا يموت، ومَن بيده ملكوت كل
شيء. واخترعوا حكايات وكرامات مختلفة لا تمتّ إلى الصحة بسبب، وأنشدوا
قصائد تطفح بالاستغاثات والنداءات التي لا تصلح إلا لخالق الأرض والسماوات.
وألفوا كتبا تدعو إلى عبادة الأنبياء والصالحين، سبكت في قالب حب الأنبياء
والأولياء، وأنهم هم الشفعاء لنا عند الله، والواسطة بيننا وبينه تعالى.
وعززوا أباطيلهم بأحاديث موضوعة، وبأقيسة فاسدة، وبما لا يدل على مطلبهم من
آية أو حديث صحيح كما سترى في هذه الرسالة إِن شاء الله تعالى.
وعم هذا الداء الوبيل سائر الأقطار الإسلامية، ولم يسلم منه إلّا القليل من
عباد الله الصالحين والعلماء العاملين الذين عرفوا التوحيد الذي جاء به
الأنبياء والمرسلون. وصانوه من كل شبهة وبدعة، وقد حفظ الله تعالى الأقطار
الإسلامية في جزيرة العرب من أوثان الأضرحة والمقامات والمشاهد والمزارات
لتكون قدوة للمسلمين. وانتشرت دعاية الشيطان للوثنية الجديدة، ونشط لها
المبشرون بالضلال وعبادة غير ذي الجلال؛ فانخدع بها أكثر المسلمين كما
انخدع بها مَنْ قبلهم، وانصرفوا عن توحيد الإله
(1/8)
العظيم خالق الأنام ومدبر أمورهم، وأخذوا
يتقربون إلى قبور الأنبياء والصالحين، وإلى الأشجار والغيران المنسوبة
إليهم بأنواع النذور والدعوات لكشف ضر نزل بهم، أو طلب حاجة لهم، مما ليس
في قدرة أحد إلا رب العالمين، وطافوا بالأوثان الجديدة والقديمة كما يطاف
بالكعبة المعظمة، وشدّوا الرحال من الأماكن الشاسعة بقصد الحج لتلك
المزارات البدعية، وأوقفوا الأموال الطائلة على تلك العتبات المقدسة عندهم
حتى لتجتمع في خزائن بعض المقبورين أموال طائلة يتقاسمها القائمون عليها،
ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم؛ لقد قال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم ... وبألف ألفٍ ترزق الأموات
مَنْ لي بحظ النائمين بحفرة ... قامت على أعتابها الصلوات
يسعى الأنام لها ويجري حولها ... بحر النذور وتُقرأ الآيات
ويقال هذا الباب باب المصطفى ... ووسيلة تقضى بها الحاجات
(1/9)
وإنك لتجد الزحام حول تلك القبور واختلاط
الرجال بالنساء، وبكاء الكثيرين وصراخهم وعويلهم ودوي أدعيتهم.
كما تجد كثيراً من مدعي العلم ومروجي الضلال يحسنون لهم تلك الأعمال
ويحضونهم على تلك المنكرات يبتغون بذلك عرض الحياة الدنيا. وقد أتى العوام
هذه الشركيات والبدع والضلالات، باعتقاد أنها من صميم الدين، وأنها تقربهم
إلى رب العالمين، لكونهم مخدوعين بدعايات أدعياء العلم ورؤساء الضلال،
وسدنة الضرائح. والويل كل الويل لمن أنكر عليهم وبين لهم أن هذه الأعمال
ليست من الدين بشيء، بل تنافيه، والدين منها بريء، وأن الواجب عليهم أن
يُفردوا ربّهم بهذه العبادات التي يتقربون بها إلى هؤلاء الأموات، الذين لا
يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا حياةً ولا موتاً ولا نشوراً فضلًا عن أن
يملكوا ذلك لغيرهم.
فالعلماء إزاء هذه البدع والشركيات أصناف ثلاثة:
صنف يؤيد تلك البدع والخزعبلات ويدعو إليها، وقد يكتب وينشر في تأييد
مذهبه، جهلاً أو طلبا لمصلحة دنيوية.
(1/10)
وصنف يعرف الحق، وأن ما عليه جمهور الناس
باطل وضلال، لكنه يساير العامة وأشباههم، خوفاً أو طمعاً.
وصنف ينكر ذلك ويدعو الناس إلى ترك تلك المحدثات ويرشدهم إلى التوحيد
والتمسك بالسنة المطهرة، وقليل ما هم.
وبالرغم من كثرة المؤلفات في هذا العصر، وانتشار التعليم والثقافة وكثرة
المتعلمين والدعاة، فإن أكثرهم لم يهتموا بعلم التوحيد، لا سيما توحيد
الألوهية. لأن مقاومة النفس والشيطان لمنهج الحق أعظم منها لما دونه.
لهذا رأيت أن الحاجة ماسة إلى وضع رسالة في بيان أقسام التوحيد، وبسط
الكلام على توحيد الألوهية معززاً بالأدلة من القرآن الكريم وأحاديث الرسول
العظيم صلى الله عليه وسلم الصحيحة أو الحسنة ودفع شبه المبتدعة، لعل الله
ينفع بها عباده، وهذه هي دعوة الرسل سواء كثر المستجيبون أو قلّوا.
ولكن كثرة الشواغل لم تقو العزم حتى زارنا الشيخ عبد الحميد البكري
السيلاني، الداعي لتوحيد الله وإفراده بالعبادة، والتمسك بسنة الرسول صلى
الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والمحارب للبدع
(1/11)
والمحدثات، والزيادة في دين الإسلام.
وقد ذكر لنا الأخ المذكور أنه يلاقي كثيراً من العناء في "سيلان" من الذين
يدعوهم إلى نبذ الخرافات والبدع، وعبادة غير الله، وطلب مني أن أمضي فيما
عزمت عليه من تأليف هذه الرسالة ففعلت، وقد ترجمها إلى اللغة المليبارية
أخونا الفاضل محمد سليم ميران المليباري.
أسأل الله العظيم أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، وموجباً للفوز
بجنات النعيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أحمد بن حجر
(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين. أما بعد:
فقد قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي لآمرهم أن يفردوني بالعبادة. وهذا هو
التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من عهد نوح إلى عهد نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم.
[أقسام التوحيد]
أقسام التوحيد ينقسم التوحيد إلى ثلاثة
أقسام: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
1 - توحيد الربوبية: وهو اعتقاد أن الله سبحانه وتعالى خالق العباد
ورازقهم، محييهم ومميتهم، مدبّر أمورهم والمتصرف في أحوالهم. فهو
(1/13)
إفراد الله بأفعاله كلها.
وهذا قد أقر به المشركون السالفون، وجميع أهل الملل من اليهود والنصارى
والصابئين والمجوس.
ولم ينكر هذا التوحيد إلا الدهرية فيما سلف، وبعض الملاحدة في زماننا.
الدليل على وحدانية الله في ربوبيته: إذا رأيت إبرة، أيقنت أن لها صانعا،
فكيف بهذا الكون العظيم الذي يبهر العقول، ويحير الألباب؟ هل وجد بلا موجد،
ونظم بلا منظم، وكان كل ما فيه من نجوم وغيوم، وبروق ورعود، وقفار وبحار،
وليل ونهار، وظلمات وأنوار، وأشجار وأزهار، وجن وإنس، ومَلك وحيوان، إلى
أنواع لا يحصيها العد، ولا يأتي عليها الحصر، هل كان كل ذلك بلا خالق؟
اللهم لا يقول هذا من كان عنده مسكة من عقل، أو ذرة من فهم.
وبالجملة: فالبراهين على ربوبيته لا يأتي عليها العدّ، وصدق الله، إذ قال:
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]
(1/14)
وقال: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62]
الدليل على إقرار المشركين بوحدانية الله في الربوبية: وقال الله تعالى:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا
يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ
وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا
تَتَّقُونَ - فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 31 - 32] وقال
تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] على أن الشرك
يعني اتخاذ الشريك، فمع إفرادهم الله بالربوبية إلا أنهم يجعلون معه شريكاً
في العبادة، مع أنهم ما كانوا يساوون آلهتهم بالله في كل شيء، بل في المحبة
والتعظيم والخضوع والدعاء، لا في الخلق والإيجاد والنفع والضر.
(1/15)
توحيد الربوبية لا يدخل الإنسان في دين
الإسلام: من هذا تعلم أيها القارئ الكريم، أن هذا التوحيد لا يدخل الإنسان
في دين الإسلام، ولا يعصم دمه وماله، ولا ينجيه في الآخرة من النار، إلا
إذا أتى معه بتوحيد الألوهية.
2 - توحيد الألوهية: وهو توحيد العبودية، أي إفراد الله بالعبادة، لأنه
المستحق لأن يعبد لا سواه مهما سمت درجته وعلت منزلته.
وهو التوحيد الذي بُعثت به الرسل إلى أممهم، لأن الرسل - عليهم السلام-
جاءوا مستدلين بتوحيد الربوبية الذي كانت أممهم تعتقده، داعين إلى توحيد
الألوهية، كما أخبر الله عنهم في كتابه المجيد.
قال الله مخبراً عن نوح: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25 - 26]
وقال الله مخبراً عن إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ
وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]
(1/16)
وقال عن هود: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ
هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ
غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود: 50]
وقال عن صالح: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ
اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود: 61]
وقال الله مخبراً عن موسى: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا
وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 140]
وقال عن عيسى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا
صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 64]
وأمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل الكتاب: {قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا
وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل
عمران: 64]
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:
21]
وبالجملة: فالرسل كلهم بعثوا بتوحيد الألوهية ودعوة القوم إلى إفراد الله
بالعبادة، واجتناب عبادة الطواغيت والأصنام.
كما قال الله. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]
(1/17)
وستمر بنا آيات أخر من كتاب الله تنهى عن
اتخاذ الوسطاء والشفعاء من الملائكة والنبيين والصالحين أولياء ومعبودين من
دون الله.
تفسير العبادة العبادة في اللغة معناها: التذلل والخضوع، يقال: طريق معبد
أي مذلل.
وفي الشرع، معنى العبادة- كما قال شيخ الإسلام- هي: طاعة الله، بامتثال ما
أمر الله به على ألسنة الرسل.
وقال أيضاً: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال
والأفعال الظاهرة والباطنة. اهـ.
فعلى المسلم أن يفرد ربه بجميع أنواع العبادات، مخلصاً لله فيها، وأن يأتي
بها على الوجه الذي سنه رسول الله قولاً أو عملاً. ليس له اختيار في
زيادتها ولا نقصها.
(1/18)
شمول العبادة للأنواع الآتية واعلم أن
العبادة تشمل الصلاة، والطواف، والحج، والصوم، والنذر، والاعتكاف، والذبح،
والسجود، والركوع، والخوف والرهبة، والرغبة، والدعاء، والتوكل، والاستغاثة،
والرجاء. . إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي شرعها الله في قرآنه
المجيد، أو شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة الصحيحة القولية أو
العملية.
فمن صرف شيئاً منها لغير الله يكون مشركاً، لقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]
وقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَدًا} [الجن: 18]
"فأحد" جاءت نكرة في سياق النهي، تعم كل مخلوق، رسولاً كان أو ملكاً أو
صالحاً.
أوّل حدوث الشرك: إذا ثبت هذا، فاعلم أن أول ما حدث الشرك في قوم نوح،
(1/19)
ولما أرسل الله إليهم نوحاً يدعوهم إلى
عبادة الله وحده، وترك عبادة تلك الأصنام، عاندوا وأصروا على شركهم،
وقابلوا نوحاً بالكفر والتكذيب. وقالوا- كما في القرآن الكريم: {لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا
يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23]
في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- في هذه الآية، قال: هذه
أسماء رجال صالحين من قوم نوح، لمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن
انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، أي صوروهم على صور أولئك
الصالحين وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم
عبدت.
قال الحافظ ابن القيم - رحمه الله-: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا
عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
سبب الشرك الغلو في الصالحين ومن هنا نعلم أن الشرك إنما حدث في بني آدم
بسبب الغلو في الصالحين.
(1/20)
ومعنى الغلو: زيادة التعظيم بالقول
والاعتقاد، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي
دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا
الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء:
171]
أي لا تفرطوا في تعظيمه حتى ترفعوه عن منزلته التي أنزله الله، فتنزلوه
المنزلة التي لا تنبغىِ إلّا لله.
والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيرا لهم أن
يفعلوا بنبيهم، مثلما فعلت النصارى بعيسى واليهود بعزير.
ولهذا ورد في الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب، أن رسول الله كل قال: «لا
تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبدُ الله
ورسوله» .
أي لا تتجاوزوا الحد في مدحي، فتنزلوني فوق منزلتي التي أنزلني الله بها،
كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الألوهية. وإنما أنا عبد اللهّ ورسوله،
فصفوني كما وصفني ربىِ.
ولكن أبَى الجاهلون والمخرفون إلا مخالفة أمر رسول الله، وارتكاب نهيه،
فناقضوه أعظم مناقضة، وضاهئوا النصارى في
(1/21)
غلوهم وشركهم، وبنوا القباب والمساجد على
أضرحة الأولياء والصالحين، وصلوا فيها- وإن كان لله لكن بقصد التعظيم
للمقبورين، وطافوا بقبورهم، واستغاثوا ربهم في كشف الملمات وقضاء الحاجات،
ورأوا أن الصلاة في أضرحة الأولياء أفضل من الصلاة في المساجد.
وقد ورد في الحديث الشريف عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
«لما نُزِل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه،
فإذا اغتم بها كشفها، فقال- وهو كذلك. "لعنة الله على اليهود والنصارى
اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يُحذّر ما صنعوا: ولولا ذلك أبرز قبره، غير
أنه خشي أن يتخذ مسجداً» أخرجه الشيخان.
وجرى منهم الغلو في الشِّعر والنثر ما يطول عَدُّه، حتى جوزوا الاستغاثة
بالرسول وسائر الصالحين، في كل ما يستغاث فيه بالله، ونسبوا إليه علم
الغيب!! حتى قال بعض الغلاة: لم يفارق الرسول الدنيا حتى علم ما كان وما
يكون!! ، وخالفوا صريح القرآن: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا
يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي
الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34]
(1/22)
وقال تعالى مخبراً عن رسوله: {وَلَوْ
كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ
السُّوءُ} [الأعراف: 188] وقال: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]
وإذ علمتم أن الشرك حدث بسبب الغلو في الصالحين، وأنه إنما جاءت الرسل من
أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله بالعبادة، لا إلى إثبات أنه
خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك كما قررناه وكررناه. [وإن كان ذلك أيضاً
جزءا من التوحيد] .
ولذا قالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] أي لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون
أوليائنا.
[أنواع العبادة وأدلتها]
أنواع العبادة وأدلتها ونعلم أن من
أنواع العبادة- كما سبق- الركوع والسجود، والطواف والنذر، والذبح
والاستغاثة والاستعانة، والحلف والتوكل إلى غير ذلك مما مر. فدليل الركوع
والسجود قوله تعالى:
(1/23)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]
ودليل الصلاة والذبح قوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ
أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162 - 163]
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ - إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}
[الكوثر: 2 - 3] والحديث الصحيح: «لعن الله من ذبح لغير الله» .
ودليل النذر والطواف قوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29]
ودليل الحلف، الحديث الوارد عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله
عليه وسلم-: «من حلف بغير الله فقد أشرك» . وفي لفظ "فقد كفر".
ودليل الاستغاثة، قوله تعالى. {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ
لَكُمْ} [الأنفال: 9] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه لا يُستغاث بي
وإنّما يُستغاث بالله» رواه الطبراني بإسناده.
ودليل الاستعانة، قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
[الفاتحة: 5]
(1/24)
والحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» .
ودليل الخوف، قوله تعالى: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل
عمران: 175]
ودليل التوكل، قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
ودليل الرهبة، قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40]
ودليل الدعاء، قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا
يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ
الظَّالِمِينَ} [يونس: 106]
وهذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم - كما ترى- أي لا تدع يا محمد من دون
معبودك وخالقك شيئاً لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين
ولا دنيا فإن فعلت: فدعوتها من دون الله، فإنك إذاً من الظالمين أي
المشركين بالله. والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك وكلّ كبائر
الذنوب، وإنما هذا تعليم للأمة.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا
يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ
غَافِلُونَ - وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5 - 6]
(1/25)
والمستغيث بالمخلوق إنما ينادي ويدعو غير
الله، كأن يستغيث قائلاً: يا رسول الله أنقذني من هذه الشدة، أو يا عبد
القادر، أو يا دسوقي، أو يا رفاعي، أو يا بدوي. . . إلخ. ولا ريب أن
المستغيث بغير الله داخل في عداد الظالمين المشركين.
وكيف يستغيث العاقل المؤمن بغير الله، وهو يقرأ هذه الآيات أو يسمعها؟!
ومنها قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ
السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62] بين الله في هذه الآية، أن
المشركين من العرب ونحوهم، كانوا يعلمون أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء
إلّا الله وحده، فذكر ذلك محتجاً عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا
قال: "أإله مع اللهّ" بالاستفهام الإنكاري، أي ليس إله مع الله يجيب المضطر
ويكشف السوء.
(1/26)
الركوع والسجود والنذر لغير الله فالذي
يركع أو يسجد لِحَيٍّ أو لميت، أو ينذر لغير الله، كأن ينذر لقبور الأولياء
أو الصالحين، أو يذبح لهم، أو للأشجار أو للعيون أو للكهوف أو للمقامات
والأضرحة، أو يطوف بقبر نبي أو ولي، كأن يطوف بقبر الرسول، أو بقبر علي بن
أبي طالب، أو بقبر الحسن أو الحسين، أو علي بن موسى الرضا، أو عبد القادر
الجيلاني، أو البدوي، أو الرفاعي أو زينب أو رقيّة أو يستغيث بهم في
الشدائد، كأن يقول: "يا رسول الله أنقذني، يا سول الله فرج عني هذا الكرب،
المدد يا عبد القادر يا جيلاني. أو يطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا
الله، كأن يطلب من المخلوق شفاعة عند الله، أو مغفرة للذنوب، أو تحصيلًا
للجنة أو نجاةٍ من النار، أو أن يرزقه ولداً، أو أن يطلعه على الغيب، أو
نحو ذلك من الأمور التي ليست في قدرة المخلوق أن يفعلها. فإنه يكون بكل فعل
من هذه الأفعال مشركاً بالله العظيم شركاً أكبر، لا يغفر الله له إلّا أن
يتوب. لقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا
عَظِيمًا} [النساء: 48]
(1/27)
أمّا ما كان في إمكان المخلوق الحي، فلا
بأس بأن يستعين به، مثل أن يطلب منه أن يعينه في قضاء حاجة، أو إنقاذٍ من
غرق أو حريق أو ما سوى ذلك.
الأمر لله وحده والمخلوق عاجز هذا وقد أكثر الله في كتابه المجيد من الآيات
الآمرة بعبادته وحده ودعائه وحده. كما قال الله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]
وقال الله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]
وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23]
وقال مبيناً عجز تلك الآلهة التي عبدها المشركون من أن تجلب لهم نفعاً، أو
تدفع عنهم ضراً، بل ولا تدفع عن نفسها فضلا عن غيرها:
(1/28)
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ
يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ
الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]
وقال مبيناً أن النفع والضر بيده لا بيد غيره: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ
بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا
رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]
وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه يبكَت النصارى ويوبخهم على عبادتهم للمسيح:
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ
سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ
كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا
أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ - مَا
قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116 - 117] فانظروا كيف يتبرأ المسيح من عبّاده
النصارى ويقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 117] !! .
والله يعلم أن المسيح لم يأمر بعبادته، ولا يرضى بذلك،
(1/29)
ولكن يريد الله من هذه الآيات أن يبين
للناس أن عبادة المسيح الذي هو من الأنبياء المرسلين لا تجوز، بل ويكون
شِرْكاً، فكيف بعبادة غيره من الأولياء، ومن الأشجار، ومن الأحجار والكهوف،
والمقامات؟
ألم يسمع دعاة غير الله قول الله مخاطباً لسيد العالمين: {وَإِنْ
يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17]
فإذا كان الضر النازل بالرسول لا يستطيع أن يدفعه، فكيف يستطيع الرسول بل
ومن هو دونه أن يدفع ضراً نزل بغيره؟!!
ألم يسمع هؤلاء قول الله العظيم: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا
الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ
بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80]
ألم يشرك اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله،
كما قال تعالى:
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:
31]
(1/30)
[الفرق بين
توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وجهل الكثيرين به]
الفرق بين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية وجهل الكثيرين به الواجب على كل
مسلم أن يميز الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، لأنه يخطئ فيه بعض
المتعلمين، فضلاً عن العوام.
وذلك أن أولئك المخطئين فسروا كلمة (الإله) بالقادر على الاختراع، أو
الخالق، أو المالك.
والحال أن الأمر ليس كذلك، بل الإله يطلق على كل معبود بحق أو باطل، ولهذا
لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش. «قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا، وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم» .
قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ
عُجَابٌ - وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى
آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 5 - 7]
وأما لفظ الجلالة، فلا يطلق إلَا على الله العظيم، فمشركو العرب كانوا أعرف
بمعنى الإله من مشركي زماننا.
والبلية كل البلية، والجهل كل الجهل، أن الكثيرين ممن
(1/31)
ينطقون بشهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله، لا يعرفون معنى هاتين الكلمتين!!
معنى لا إله إلّا الله فلو عرفوا أن معنى "لا إله إلّا الله ": أن لا معبود
بحق في الوجود إلّا الله.
"فلا إله ": نفي لجميع المعبودات الباطلة.
"وإلا الله ": إثبات للمعبود الحق جل جلاله.
لو عرفوا هذا المعنى، وعرفوا أن ما يأتون به لأوليائهم وسادتهم وقبور
صالحيهم، من الذبح أو النذر لهم، أو التبرك بتراب قبورهم، أو الصلاة إليهم،
أو الطواف بأضرحتهم، أو طلب المدد والعون منهم، تأليه لأولئك الصالحين،
والإلهية لا تصلح إلا لله.
لعلموا أن هذا شرك أكبر، وقد قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ
بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]
(1/32)
معنى محمد رسول الله ولو عرفوا أن معنى "
أشهد أن محمداً رسول الله ": طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب
ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبدوا الله إلا بما شرع، لا بالأهواء والباَع،
وتدبروا قول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]
وقوله: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]
وقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» متفق
عليه.
وقوله في الحديث الشريف: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من
بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل
بدعة ضلالة» رواه أبو داود والترمذي، وقال حديث حسن صحيح (1) .
_________
(1) رواه مسلم من حديث عائشة- رضي الله عنها- والمتفق علبه "من أحدث في
أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أي مردود على صاحبه.
(1/33)
بيان بعض البدع لعلموا أن كثيراً من
صلواتهم وأدعيتهم وأذكارهم وأحزابهم، (مما ابتدعه بعض المقلدين المتعصبين،
أو المتصوفة الجاهلين) أنها من البدع والضلالات التي ما أنزل الله بها من
سلطان، مثل الذكر بالاسم المفرد: (الله الله، أو: هو هو) .
ومثل حلق المريدين (اجتماعهم في حلقات) على غير سنة النبي صلى الله عليه
وسلم يتمايلون فيها ويرقصون ويرددون مثل هذه الأذكار.
وكصلاة الرغائب ومثل حزب البحر وأمثاله. وابتهالات وصلوات ومناجاة وإنشاد
قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم فوق المنائر قبل الفجر وفي ليلة
الجمعة ويومها، وبعض صيغ صلوات على الرسول لم ترد السنة بها، بل واستغاثات
به صلى الله عليه وسلم تشركه مع الله، مثل قولهم: "اللهم صل على محمد طبِّ
القلوب ودوائها، وعافية الأبدان وشفائها ".
وكقولهم: اللهم صل على محمد الذي تنحل به العقد وتنفرج به الكرب وتنال به
الرغائب وتقضى به الحوائج. . . وغير ذلك مما لا يصلح إلا لله بنص الكتاب
والسنة.
(1/34)
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام:
{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] وقال لنبينا صلى الله
عليه وسلم: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف:
188] وقال صلى الله عليه وسلم: «إلا شفاء إلا شفاؤك» . وقال لفاطمة: «إلا
أملك لكِ من الله شيئًا» .
والصيغ الواردة في الصلاة على الرسول مدوّنة في كتب السنة، لا حاجة إلى
الاختراع والابتداع في صيغها.
لأنْ الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عبادة، والعبادة مبنية على التوقيف.
والشفاء والعافية بيد الله وحده، وبه وحده تنحلّ العقد وتنفرج الكرب وتنال
الرغائب وتقضى الحوائج، سبحانه وبحمده لا إله غيره ولا رب سواه.
ومن الصيغ الواردة للصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ما رواه مسلم عن ابن
نمير، عن روح بن عبادة، وعبد الله بن نافع الصائغ، أنهم «قالوا: يا رسول
الله: كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قولوا: " اللهم
صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد
وأزواجه وذريته، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد".»
(1/35)
وما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري، قال:
«قلنا: يا رسول الله: هذا السلام عليك عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ " قال: "
قولوا: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على
محمد وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم ".»
شبهة للقبوريين وردها وإنما قلنا: يجب على المسلم أن يميز الفرق بين توحيد
الألوهية وتوحيد الربوبية، لأن الموحد إذا أنكر عليهم ما يأتون من أفانين
العبادات، وأنواع التضرعات لتلك القبور، وقال لهم: إن عملكم هذا شرك، غضبوا
وقالوا: كيف تصفنا بالشرك ونحن نشهد أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً رسول
الله، وأن الله هو الخالق الرازق المحي المميت، وبيده النفع والضر، وإليه
المرجع والمصير؟ وغاية الأمر أننا نجعل هؤلاء الأنبياء أو الصلحاء شفعاء
يشفعون لنا عند الله، لأننا ملطخون بأنجاس الذنوب، ليس لنا قدر حتى نطلب من
الله أن يغفر ذنوبنا، أو يقضي حاجتنا، أو يدفع ضرنا، فنستشفع بهؤلاء
ونجعلهم وسطاء بيننا وبين الله، لما
(1/36)
نعلمه لهم من الجاه والمنزلة بمثابة الوزير
عند الملك، فإن أفراد الرعية لا يستطيعون أن يصلوا إلى الملك إذا حل بهم
ظلم أو كارثة، فيتوسلون بالوزير أو المقرب، ليشفع لهم عند الملك أو
السلطان، أو الوزير ليقضي لهم حوائجهم أو يدفع عنهم الظلم.
فنقول في الجواب:
أولاً:
إن عقيدتكم هذه هي عقيدة المشركين بذاتها.
قال الله إخباراً عن المشركين السالفين: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا
يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]
وقال الله في آية أخرى إخباراً عنهم: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
فاعتقاد أولئك المشركين بأن الله خالقهم ورازقهم. . . إلخ لم ينفعهم، ولم
يحقن دماءهم لأنهم عبدوا الأصنام ليقربوهم إلى الله، وليشفعوا لهم، ولم
يعبدوها لأنها خالقة ورازقة أو مدبرة للأمور.
(1/37)
وما الأصنام والأوثان إلا صور الصالحين
وأضرحتهم ومقاماتهم كما تقدم من تفسير ابن عباس لآلهة قوم نوح.
تشبيه الخالق بالمخلوق إنكم بمقالتكم هذه تشبهون ملك يوم الذين الحكيم
الخبير العليم المحيط بكل شيء ببعض الملوك من مخلوقاته المربوبة، لا حول
لهم ولا قوة إلّا به.
الملك من البشر مهما بلغ من العلم والقوة فهو قاصر في علمه وقوته وعدله
وحكمه، فهو محتاج إلى الوزير والمعين، فأين هو ممن {يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] من: {يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفَى} [طه: 7] من: {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62]
بلا واسطة، لأنه قريب مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]
لا واسطة بين الخالق والمخلوق إلّا في تبليغ الشرائع وأي حاجة إلى واسطة
والله يقول: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]
(1/38)
والواسطة للتبليغ هم الرسل عليهم الصلاة
والسلام.
أما الواسطة في رفع ضر أو جلب نفع، فتلك عقيدة المشركين. كيف تكون واسطة
بين العبد وربه، وقد قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
دَاخِرِينَ} [غافر: 60] لم يقل الله: ادعوا أوليائي، أو ادعرا أنبيائي، أو
استغيثوا بأحبائي والصالحين من عبادي [أو تقربوا إلي بهم] .
بل قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}
[البقرة: 186]
وفي الحديث الشريف: «من لم يسأل الله يغضب عليه» .
لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: ادعوا الأنبياء حتى يطلبوا من الله لكم،
أو توسلوا بالأنبياء والصالحين، بل قال عن الله: «ما تقرب إلي عبدي بأفضل
مما افترضت عليه» رواه البخاري.
(1/39)
[عدم ثبوت التوسل عن النبي وأصحابه]
عدم ثبوت التوسل عن النبي وأصحابه ولذا
لم يثبت التوسل عن الأنبياء بعضهم ببعض، كما لم يثبت التوسل عن الصحابة
بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عن التابعين، ولا عن الأئمة الأربعة
ولا غيرهم ممن يعتدً بهم، ولم يتوسلوا إلا بما يلي:
التوسل المشروع: التوسل المشروع ثلاثة أنواع: الأول: التوسل بأسماء الله
وصفاته. الثاني: التوسل بالإيمان وبالأعمال الصالحة. ولم يقع في هذين خلاف
بين العلماء، سواء كان في حياة الرسول أو بعد موته.
الثالث: التوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم في حياته [ومثله التوسل بدعاء أي
مسلم صالح له في حياته] ، كما طلب الأعرابي من الرسول أن يستسقي لهم، وكما
طلب الأعمى من الرسول أن يدعو له برد
(1/40)
بصره- إن صح حديث الأعمى.
وكما طلبت الجارية السوداء من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله أن
يعافيها من الصرع، فخيرها الرسول بين الصبر وبين أن يدعو لها، فاختارت
الصبر، وسألته أن يدعو الله لها ألّا تتكشف، فدعا لها.
وهذا التوسل بطلب دعاء النبي أو أحد الصالحين ينقطع بموته.
فلا يجوز لمسلم أن يأتي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قبر أحد
المسلمين الصالحين فيسأله المدد أو قضاء حاجة، أو غفران ذنب، أو كشف ضر أو
شفاعة أو وساطة إلى الله.
والدليل على ذلك: أن في خلافة عمر بن الخطاب انقطع المطر وأراد عمر أن
يستسقي، وطلب من العباس رضي الله عنه أن يدعو الله لهم، فقال: "اللهم إنّا
كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك نبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا" ثم
قال: "قم يا عباس فادع الله" رواه البخاري.
فلو كان طلب دعاء الرسول بعد موته جائزاً، لما عدلت الصحابة عن الرسول إلى
العباس بن عبد المطلب، وهذا من
(1/41)
الوضوح بمكان لا يخفى إلا على من أعماه
التعصب والعناد، وسلك سبيل أهل والضلال والفساد.
ولزيادة الإيضاح والبيان، نورد لكم بعض أدعية الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام وهم وحدهم المعصومون من الخطأ: فهذا أبونا آدم، لما اقترف الخطيئة
قال:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا
لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] وأمّا ما رواه الحاكم عن
توسل آدم بحق محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال عنه الذهبي إنه موضوع. . فلا
حجة في موضوع.
كما أخبر الله عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ
بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]
وقال الله مخبراً عن أيوب: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]
وعن يونس، لما التقمه الحوت: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ -
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87 - 88]
(1/42)
وعن زكريا: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى
رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ -
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ
زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89 - 90] وعن يوسف - عليه السلام-: {رَبِّ قَدْ
آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ
فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:
101]
وأدعية الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة مبثوثة في كتب السنة، وفي كتب
الأذكار. فهل يستطيع أحد أن يأتي بحرف من القرآن، أو من السنة الصحيحة على
مشروعية التوسل بالأنبياء أو بالصالحين، فضلاً عن الاستغاثة بأحد منهم على
غير الوجه المشروع؟
وهنا فرق؛ فإن الاستغاثة بغير الله شرك لا ريب فيه. وأما التوسل فهو بدعة
أدنى من الشرك.
ومن الأدلة على أن التوسل يكون بالأعمال الصالحة، ما جاء في الحديث عن
الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسل أحدهم ببر والديه، والثاني توسل
بتعففه عن الزنى بعد أن جلس من المرأة مجلس الرجال من النساء، والثالث توسل
تنمية أجر
(1/43)
الأجير بعد أن ذهب وترك أجرته، ثم رجع بعد
مدة طويلة وطلب أجرته فردها عليه فإذا هي مال كثير.
وأما احتجاجهم بآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] فالجواب عنه:
أن الوسيلة هنا معناها: التقرب إلى الله بأسمائه وصفاته، أو بعمل المتوسل
أو بدعاء له من غيره لا كما يقول المبتدعون، أن نجعل الأنبياء والصالحين
شفعاء ووسطاء، فلتراجع التفاسير.
إثبات الشفاعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأما احتجاجهم بثبوت الشفاعة
لنبينا صلى الله عليه وسلم، فالجواب:
لا ريب أن للرسول صلى الله عليه وسلم شفاعات متعددة أعظمها: الشفاعة العظمى
يوم القيامة لإراحة الناس من عناء الموقف العظيم، وهذه الشفاعة مخصوصة
برسول الله صلى الله عليه وسلم، وله شفاعة أخرى في إخراج بعض من دخل النار
من الموحدين، وأخرى رفع درجات المؤمنين في الجنة، كلها في الآخرة.
ولكن اعتقادنا بثبوت الشفاعة له؛ لا يسوغ للمسلم اتكالًا على هذه الشفاعة
أن يسأل رسول الله بعد موته شفاعته أو غفران
(1/44)
ذنوبه كأن يقول: يا محمد اشفع لي، يا محمد
اغفر لي ذنبي، أدركني، أستجير بك ممن ظلمني، أو أسألك يا محمد الشفاعة، فإن
هذا كله لا يجوز، لقوله تعالى:
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}
[الجن: 18] وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44]
بل يقول: اللهم ارزقني شفاعة نبيك محمد، اللهم شفع في محمداً. أو يقول:
اللهم لا تحرمني من شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإذا لم يجز للإنسان أن يقول مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: اشفع لي،
أو أغثني، أو أستجير بك. فأولى أن لا يجوز لغيره من الأولياء والصالحين.
ولا يغتر بقول بعض الشعراء:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فإن هذا الكلام شرك وضلال، ولكن الله أعلم بقائله، هل مات على هذا أو تاب؟
(1/45)
يقول: ما لي من ألوذ به، ونقول له:
لذ بالإله ولا تلذ بسواه ... من لاذ بالملك الجليل كفاه
ويقول ما معناه: إن من نعمة النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا والآخرة، وإن
من علومه علم اللوح المحفوظ وعلم القلم مما كان ويكون.
ونقول له: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] و
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ} [النمل: 65]
الرد على حجج المبتدعين ليعلم القارئ أنه ليس في التوسل بالأموات حديث صحيح
أو حسن، وكل ما يوردونه إما ضعيف أو موضوع:
1 - حديث الاحتجاج بتوسل آدم، فقد سبق الجواب عنه بأنه موضوع.
2 - حديث: «اللهم إني أسألك بحق السائلين» ، فإنه ضعيف قال الحافظ الهيثمي
في مجمع الزوائد، هذا إسناد مسلسل بالضعفاء، عطية وهو العوفي والفضيل بن
مرزوق،
(1/46)
والفضل بن الموفق، كلهم ضعفاء.
ومع أنهم اختلفوا في الفضيل بن مرزوق فضعفه ابن حبان والنسائي وأبو حاتم،
ووثقه ابن معين، فإن الجرح مقدم على التعديل. على أننا لو سلمنا بصحة
الحديث، فإن حق السائلين (بفضل الله ووعده) إجابتهم، فهو توسل صحيح شرعي
بالعمل الصالح المشروع، وهو الدعاء والإجابة عليه من الله: {ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]
3 - حديث فاطمة بنت أسد ضعيف أيضاً، فإن فيه روح بن صالح المصري وهو ضعيف.
4 - الاستغاثة في قوله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ
شِيعَتِهِ} [القصص: 15] استغاثة حي بحي فيما يقدر عليه، وليس في هذا خلاف.
على أن فعل الرجل الإسرائيلي ليس بحجة، وإجابة موسى له وتقريره عليه ليس
بحجة، لأن ذلك قبل أن يوحى إليه.
وسكوت الأنبياء قبل بعثتهم لا يدل على جواز المسكوت عنه. وبعد ذلك كله ليس
هو في شريعتنا.
5 - قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} [النساء: 64] الآية.
(1/47)
نزلت في واقعة معينة لا تفيد العموم
بمعناها ولا لفظها، وقعت في حياته صلى الله عليه وسلم، فمن أين أخذوا
التعميم في الحياة والممات؟
ولو دلت على العموم في الحياة والممات لكانت مخصصة ومقصورة على الحياة،
ودليل التخصيص الأخبار الشرعية الدالة على أن الأموات لا يسمعون ولا
يجيبون، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]
وفي الحديث الذي رواه مسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة
جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به» .
ولأن الصحابة ومَن بعدهم ما فهموا شمولها للموت، ولذا لم يأت إلينا أنهم
دعوه صلى الله عليه وسلم بعد الموت، كما قد أتى إلينا أنهم سألوه الدعاء في
حياته صلى الله عليه وسلم وسألوا غيره الدعاء بعد موته.
6 - أما قولهم: "لا فرق بين الأحياء والأموات في جواز التوسل والاستغاثة،
وما ثبت لأحد المثلين ثبت للآخر، وقد ثبتت حياة الأنبياء في قبورهم، لأنهم
أعلى مقاماً من الشهداء، فجازت الاستغاثة والتوسل بهم وبالشهداء،
والأولياء.
(1/48)
فالجواب: أن هذه المقالة مصادمة للقرآن
صراحةً، لأن القرآن يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا
الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ
مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]
7 - وقولهم: إن الأرواح تتصرف بعد مفارقة الأجسام لأنها حية. فكلام باطل لا
دليل عليه من الوحي.
وأي تصرف لها؟ وهل يلزم من حياتها أن تكون قادرة مجيبة للمستغيثين
والسائلين؟
ولو جاز لنا أن نستغيث بهؤلاء لأنهم أحياء، جاز لنا أن نستغيث بالملائكة
الذين لا خلاف في حياتهم، وبالحور والولدان، لأنهم أحياء. سبحانك هذا بهتان
عظيم! اللهم اهدنا واهدهم إلى صراط الحق والطريق المستقيم.
8 - حديث: "إذا أعيتكم الأمور. . . " فإنه مكذوب ومن وضع الزنادقة الذين
قصدوا إفساد الدين.
9 - حديث: "توسلوا بجاهي " موضوع، لم يختلف في وضعه اثنان، ولذلك لم يعمل
به مَن هو خير منا في القرون الثلاثة المفضلة.
(1/49)
ولا ريب عند المسلمين جميعهم، أن لرسول
اللُه صلى الله عليه وسلم جاهاً عظيماً ومقاماً محموداً، وأنه أفضل الورى
وخاتم الأنبياء والمرسلين.
ولكن هذا لا يسوغ لنا التوسل والاستغاثة به، وإن كان الأنبياء أحياءً في
قبورهم حياة برزخية كاملة لا يعلمها إلا الله، لأن الحياة البرزخية لا تقاس
بالحياة الدنيا، ولا تعطى أحكامها، فإذا جاز أن نسأله صلى الله عليه وسلم
في حياته الدعاء، بأن يطلب لنا من الله قضاء حاجة أو غفران ذنب، فلا يجوز
بعد مماته أن نسأله قياساً على حياته الدنيوية، لأن الله أمرنا بالأولى ولم
يأمرنا بالثانية.
وأين هؤلاء من الآيات القرآنية التي تنادي بأن ليس لغير الله أمر أو تصرف،
أو قدرة في دفع ضر، أو جلب نفع، سواء أكان نبياً أم غيره، كقوله تعالى:
{قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا - قُلْ إِنِّي لَنْ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا}
[الجن: 21 - 22] وقوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ
لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا
إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]
(1/50)
إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الخطاب
للرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً أن الذي بيده النفع والضر هو الله وحده
لا غير، وأن المعبودات من دون الله لا تغني شيئاً، وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم مع أنه سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين لا يملك
لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن غيره.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنه قال لما نزلت
آية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]
"يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني مناف، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار.
يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار.
فإني لا أملك لكم من الله شيئاً» .
وفي رواية: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، فإني لا أغني عنكم من
الله شيئاً، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن
عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك
من الله شيئاً،
(1/51)
يا فاطمة بنت رسول الله سليني من مالي ما
شئت، لا أغني عنك من الله شيئاً» .
وقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] أي
نخصك بالعبادة ولا نعبد سواك، ونستعين بك في أمور الدنيا والدين، ولا
نستعين بأحد غيرك.
وحديث: «إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله» (1) رواه الترمذي
وقال: حديث حسن صحيح.
لو تدبر هؤلاء المبتدعون تلك الآيات والأحاديث، وراجعوا تفاسير الأئمة
المحققين لتلك الآيات، وشروح تلك الأحاديث؟ لعلموا أن توسلاتهم بالرسول، أو
بالأنبياء والصالحين ليس لها أصل في الدين، [بل هي بدعة ضلالة] .
وأن الاستغاثة والاستعانة بهم من الشرك والكفر المبين.
_________
(1) رواه الترمذي من حديث ابن عباس، الذي أوله: "قال كنت خلف النبي يوماً،
فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك. إلخ ".
(1/52)
3 - توحيد الأسماء والصفات: وهو أن يعتقد
العبد اعتقاداً جازماً أن ما أخبر الله به في كتابه، من أوصافه العلى
وأسمائه الحسنى، وكذا ما جاءت به الأحاديث الصحيحة من أسمائه وصفاته، هي حق
كما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه. فمن تلك الصفات صفة الحي القيوم له
جل جلاله، فيثبت الصفة على حقيقتها وأنها لا تماثل صفة المخلوق كما قال:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وصفة
العلم، كما قال الله تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ}
[البقرة: 255]
وصفة اللطيف والخبير. قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]
وصفة الإرادة، لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
والقدرة، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
[البقرة: 20]
(1/53)
والسمع والبصر، لقوله تعالى: {وَكَانَ
اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]
والكلام، لقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:
164]
والرحمة، لقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:
1]
وصفة الحب، لقوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]
واليدين، لقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]
والوجه، لقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}
[الرحمن: 27]
والاستواء على العرش، لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
[طه: 5] والنزول، للحديث الصحيح: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا،
فينادي: هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأترب عليه»
.
إلى غير ذلك من الصفات التي لا نستطيع حصرها في عشرين صفة، وحصرها في عشرين
أو أقل أو أكثر من مبتدعات الخلف. وإنما الواجب الأيمان بكل ما ورد في
الكتاب والسنة الصحيحة من صفات اللُه وأسمائه، إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً
بلا تعطيل.
(1/54)
والقول الشامل في هذا الباب، أن يوصف الله
بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمذهب السلف حق بين باطلين، بين باطل التمثيل وباطل التعطيل.
فالمشبه يعبد صنماً، والمعطل يعبد عدما، والموحد يعبد إله الأرض والسماء.
والآية الجامعة لذلك قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
فصدر الآية تنزيه لله عن مماثلة المخلوقات، وهي رد على المشبهة.
وآخر الآية إثبات صفتي السمع والبصر في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وهي رد على المعطلة.
فالسلف الصالح لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه. كما لا يمثلون ذاته بذات
خلقه، ولا يعطلونها.
فالكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، فكما أن ذاته المقدسة لا تشبه
ذوات المخلوقين، فصفاته لا تشبه صفات المخلوقين.
(1/55)
وإذا قلنا لله علم وللمخلوق علم، فلأن الله
قال عن نفسه: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وقال في حق
المخلوق: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]
ولا شك أن علم الله ليس كعلم إسحاق عليه السلام.
ووصف نفسه بالرأفة والرحمة، فقال: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[التوبة: 117] وقال في حق الرسول صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ
رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] فليست رحمة
الله كرحمة المخلوق، ولا رأفته كرأفة المخلوق.
ووصف نفسه بالسمع والبصر، في غير ما آية من كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75] وقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقال في حق المخلوق: {إِنَّا
خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ
سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] ونحن لا نشك أن كل ما في القرآن حق، فلله
سمع وبصر.
(1/56)
حقيقتان لائقتان بجلاله وكماله، كما أن
للمخلوق سمعاً وبصراً حقيقتين مناسبتين لحاله من فقره وفنائه.
وبين سمع وبصر الخالق وسمع وبصر المخلوق كمثل ما بين ذات الخالق وذات
المخلوق.
ووصف نفسه بالحياة، فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ووصف بعض المخلوقين بالحياة. فقال:
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]
فليست حياة الخالق كحياة المخلوق.
وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال في حق المخلوق:
{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود: 44] فليس استواؤه كاستواء السفينة
على الجودي تعالى الله وتنزه.
والحاصل، أننا لا نتعدى القرآن والحديث، ولا نؤول صفات الله الواردة في
الوحيين بتأويلات الجهمية والمعتزلة القائلين: إن اليد بمعنى النعمة،
والاستواء بمعنى الاستيلاء. والوجه بمعنى الذات، والرحمة بمعنى التفضل،
ونزوله بمعنى نزول أمره أو رحمته، أو ملائكته، وما أشبه ذلك من التأويلات
الفاسدة، النابعة من منابع الفلسفة والهوى.
(1/57)
تلك التأويلات التي تؤول بالإنسان إلى
الكفر، وتجعل الشريعة ألعوبة بأيدي المبطلين والهدامين، بحيث أنه لا يريد
مبطل أن يهدم عقيدة أو حكماً شرعياً، إلا وأتى من باب التأويل.
[والوحي يقين، والرأي محتمل للخطأ، والعقول متفاوتة] .
وعلى اعتقاد ما وصف الله به نفسه، أو وصفه رسوله، بما أتى في القرآن
والأحاديث الصحيحة من غير تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل، مضى عصر الرسول
والصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المعتبرين، كالإمام أبي حنيفة،
والإمام الشافعي، والإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، ومسلم،
والترمذي، والنسائي، وأبي داود، والثوري، وابن عيينة، وغيرهم من المحدثين
والفقهاء المعتبرين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، نسأل الله أن ينفعنا وينفع إخواننا
المسلمين بهذه الرسالة، إنه سميع قريب مجيب الدعاء، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين.
(1/58)
|