حجة الله البالغة

(المبحث الثَّانِي)
(مَبْحَث كَيْفيَّة المجازاة فِي الْحَيَاة وَبعد الْمَمَات)
(بَاب الْجَزَاء على الْأَعْمَال فِي الدُّنْيَا)
قَالَ الله تَعَالَى:
{وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} .
وَقَالَ:
{وَلَو أَنهم أَقَامُوا التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَمَا أنزل إِلَيْهِم من رَبهم لأكلوا من فَوْقهم وَمن تَحت أَرجُلهم} .
وَقَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة أَصْحَاب الْجنَّة حِين منعُوا الصَّدَقَة مَا قَالَ.
قَالَ رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَإِن تبدوا مَا فِي أَنفسكُم أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبكُمْ بِهِ الله} .
وَقَوله تَعَالَى:
{من يعْمل سوءا يجز بِهِ} .
" هَذِه معاقبة الله العَبْد بِمَا يُصِيبهُ من الْحمى والنكبة حَتَّى البضاعة يَضَعهَا فِي يَد قَمِيصه، فيعقدها، فَيفزع لَهَا حَتَّى أَن العَبْد ليخرج من ذنُوبه كَمَا يخرج التبر الْأَحْمَر من الْكِير ".
اعْلَم أَن للملكية بروزا بعد كمونها فِي البهيمية، وانفكاكا بعد اشتباكها بهَا فَتَارَة بِالْمَوْتِ الطبيعي فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَأْتِي مددها من الْغذَاء، وتتحلل موادها لَا إِلَى بدل، وَلَا تهيج النَّفس أَحْوَال طارئة كجوع وشبع وَغَضب، فيرتشح لون عَالم الْقُدس عَلَيْهَا،

(1/72)


وَتارَة بِالْمَوْتِ الِاخْتِيَارِيّ، فَلَا يزَال يكسر بهيميته برياضة واستدامة توجه إِلَى عَالم الْقُدس، فيبرق عَلَيْهِ بعض بوارق الملكية، وَإِن لكل شَيْء انشراحا وانبساطا بِمَا يلائمه من الْأَعْمَال والهيئات، وانقباضا وتقلصا بِمَا يُخَالِفهُ مِنْهَا، وَإِن لكل ألم وَلَذَّة شبحا يتشبح بِهِ، فشبح الْخَلْط اللذاع النخس، وشبح التأذي من حرارة الصَّفْرَاء الكرب والضجر، وَأَن يرى فِي مَنَامه النيرَان والشعل، وشبح التأذي من البلغم مقاساة الْبرد، وَأَن يرى فِي الْمَنَام الْمِيَاه والثلج، فَإِذا برزت الملكية ظهر فِي الْيَقَظَة أَو الْمَنَام أشباح الْأنس وَالسُّرُور إِن كَانَ اكْتسب النَّظَافَة والخشوع وَسَائِر مَا يُنَاسب الملكية، ويتشبح أضدادها فِي صُورَة كيفيات مضادة للاعتدال، وواقعات تشْتَمل على إهانة وتهديد، وَيظْهر الْغَضَب فِي صُورَة سبع ينهر وَالْبخل فِي صُورَة حَيَّة تلدغ.
وَالضَّابِط فِي المجازاة الخارجية أَنَّهَا تكون فِي تضاعيف أَسبَاب، فَمن أحَاط بِتِلْكَ الْأَسْبَاب، وتمثل عِنْده النظام المنبعث مِنْهَا علم قطعا أَن الْحق لَا يدع عَاصِيا إِلَّا يجازيه فِي الدُّنْيَا مَعَ رِعَايَة ذَلِك النظام، فَيكون إِذا هدأت الْأَسْبَاب عَن تنعيمه وتعذيبه. نعم بِسَبَب الْأَعْمَال الصَّالِحَة، أَو عذب بِسَبَب الْأَعْمَال الْفَاجِرَة، وَيكون إِذا أَجمعت الْأَسْبَاب على إيلامه وَكَانَ صَالحا، وَكَانَ قبضهَا لمعارضة صَلَاحه غير قَبِيح صرفت أَعماله إِلَى رفع الْبلَاء
أَو تخفيفه أَو على إنعامه، وَكَانَ فَاسِقًا صرفت إِلَى إِزَالَة نعْمَته، وَكَانَ كالمعارض لأسبابها، أَو أَجمعت على مُنَاسبَة أَعماله أمد فِي ذَلِك إمدادا بَينا.
وَرُبمَا كَانَ حكم النظام أوجب من حكم الْأَعْمَال، فيستدرج بالفاجر ويضيق على الصَّالح فِي الظَّاهِر، وَيصرف التَّضْيِيق إِلَى كسر بهيميته، وَيفهم ذَلِك، فيرضى كَالَّذي يشرب الدَّوَاء المر رَاغِبًا فِيهِ وَهَذَا معنى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل الْمُؤمن كَمثل الخامة من الزَّرْع تفيئها الرِّيَاح تصرعها مرّة، وتعدلها أُخْرَى حَتَّى يَأْتِيهِ أَجله، وَمثل الْمُنَافِق كَمثل الأرزة المجدبة الَّتِي

(1/73)


لَا يُصِيبهَا شَيْء حَتَّى يكون انجعافها مرّة وَاحِدَة " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " مَا من مُسلم يُصِيبهُ أَذَى من مرض، فَمَا سواهُ إِلَّا حط الله بِهِ سيئاته كَمَا تحط الشَّجَرَة وَرقهَا ".
وَرب إقليم غلبت عَلَيْهِ طَاعَة الشَّيْطَان، وَصَارَ أَهله كَمثل النُّفُوس البهيمية فتتقلص عَنهُ بعض المجازاة إِلَى أجل، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى.
{وَمَا أرسلنَا فِي قَرْيَة من نَبِي إِلَّا أَخذنَا أَهلهَا بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يضرعون ثمَّ بدلنا مَكَان السَّيئَة الْحَسَنَة حَتَّى عفوا وَقَالُوا قد مس آبَاءَنَا الضراء والسراء فأخذناهم بَغْتَة وهم لَا يَشْعُرُونَ وَلَو أَن أهل الْقرى آمنُوا وَاتَّقوا لفتحنا عَلَيْهِم بَرَكَات من السَّمَاء وَالْأَرْض وَلَكِن كذبُوا فأخذناهم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْأَمْر هَهُنَا يشبه بِحَال سيد لَا يتفرغ للجزاء، فَإِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة صَار كَأَنَّهُ تفرغ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى.
{سنفرغ لكم أَيهَا الثَّقَلَان} .
ثمَّ المجازاة تَارَة تكون فِي نفس العَبْد بإفاضته الْبسط والطمأنينة أوالقبض والفزع، وَتارَة فِي بدنه بِمَنْزِلَة الْأَمْرَاض الطارئة من هجوم غم أَو خوف، وَمِنْه وُقُوع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيا عَلَيْهِ قبل نبوته حِين كشف عَوْرَته، وَتارَة فِي مَاله وَأَهله وَرُبمَا ألهم النَّاس وَالْمَلَائِكَة والبهائم أَن يحسنوا إِلَيْهِ؛ أَو يسيئوا، وَرُبمَا قرب إِلَى خير أَو شَرّ بالهامات أَو إحالات، وَمن فهم مَا ذكرنَا وَوضع كل شَيْء فِي مَوْضِعه استراح من إشكالات كَثِيرَة كمعارضة الْأَحَادِيث الدَّالَّة على أَن الْبر سَبَب زِيَادَة الرزق، والفجور سَبَب نقصانه وَالْأَحَادِيث الدَّالَّة على أَن الْفجار يعجل لَهُم الْحَسَنَات فِي الدُّنْيَا وَأَن أَكثر النَّاس بلَاء الأمثل فالأمثل وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم.
(بَاب ذكر حَقِيقَة الْمَوْت)
اعْلَم أَن لكل صُورَة من المعدنية والناموية والحيوانية والإنسانية مَطِيَّة غير مَطِيَّة الْأُخْرَى، وَلها كمالا أوليا غير كَمَال الْأُخْرَى، وَإِن اشْتبهَ الْأَمر فِي الظَّاهِر،

(1/74)


فالأركان إِذا تصغرت، وامتزجت بأوضاع مُخْتَلفَة كَثْرَة وَقلة حدثت ثنائيات كالبخار وَالْغُبَار وَالدُّخَان وَالثَّرَى
وَالْأَرْض المثارة والجمرة والسفعة والشعلة، وثلاثيات كالطين المخمر والطحلب، ورباعيات نَظَائِر مَا ذكرنَا.
وَتلك الْأَشْيَاء لَهَا خَواص مركبة من خَواص أَجْزَائِهَا، لَيْسَ فِيهَا شَيْء غير ذَلِك، وَتسَمى بكائنات الجو، فتأتي المعدنية، فتقتعد، غارب ذَلِك المزاج، وتتخذه مَطِيَّة، وَتصير ذَات خَواص نوعية، وَتحفظ المزاج، ثمَّ تَأتي الناموية، فتتخذ الْجِسْم الْمَحْفُوظ المزاج مَطِيَّة، وَتصير قُوَّة محولة لأجزاء الْأَركان والكائنات الجوية إِلَى مزاج نَفسه؛ لتخرج إِلَى الْكَمَال المتوقع لَهَا بِالْفِعْلِ، ثمَّ تَأتي الحيوانية، فتتخذ الرّوح الهوائية الحاملة لقوى التغذية والتنمية مَطِيَّة، وتنفذ التَّصَرُّف فِي أطرافها بالحس والإرادة انبعاثا للمطلوب، وانخناسا عَن المهروب، ثمَّ تَأتي الإنسانية، فتتخذ النَّسمَة المتصرفة فِي الْبدن مَطِيَّة، وتقصد إِلَى الْأَخْلَاق الَّتِي هِيَ أُمَّهَات الانبعاثات والانخناسات، فتقينها، وتحسن سياستها، وتأخذها منصة لما تتلقاه من فَوْقهَا، فَالْأَمْر وَإِن كَانَ مشتبها بادئ الرَّأْي لَكِن النّظر الممعن يلْحق كل آثَار بمنبعها، ويفرز كل صُورَة بمطيتها.
وكل صُورَة لَا بُد لَهَا من مَادَّة تقوم بهَا، وَإِنَّمَا تكون الْمَادَّة مَا يُنَاسِبهَا وَإِنَّمَا مثل الصُّورَة كَمثل خلقَة الْإِنْسَان الْقَائِمَة بالشمعة فِي التمثال، وَلَا يُمكن أَن تُوجد الْخلقَة إِلَّا بالشمعة، فَمن قَالَ لِأَن النَّفس النطقية الْمَخْصُوصَة بالإنسان عِنْد الْمَوْت ترفض الْمَادَّة مُطلقًا، فقد خرص نعم لَهَا مَادَّة بِالذَّاتِ، وَهِي النَّسمَة، ومادة بِالْعرضِ، وَهُوَ الْجِسْم الأرضي، فَإِذا مَاتَ الْإِنْسَان لم يضر نَفسه زَوَال الْمَادَّة الأرضية، وَبقيت حَالَة بمادة النسمية، وَيكون كالكاتب الْمجِيد المشغوف بكتابته إِذا قطعت يَدَاهُ، وملكة
الْكِتَابَة بِحَالِهَا، والمستهتر بالمثي إِذا قطعت رِجْلَاهُ، والسميع والبصير إِذا جعل أَصمّ وأعمى.
وَاعْلَم أَن من الْأَعْمَال والهيآت مَا يُبَاشِرهَا الْإِنْسَان بداعية من قلبه، فَلَو خلى وَنَفسه لانساق إِلَى ذَلِك، ولامتنع من مخالفه. وَمِنْهَا مَا يباشره لموافقة الإخوان، أَو لعَارض خارجي من جوع وعطش وَنَحْوهمَا إِذا لم يصر عَادَة لَا يَسْتَطِيع الإقلاع عَنْهَا، فَإِذا انفقأ الْعَارِض انْحَلَّت الداعية، فَرب مستهتر بعشق إِنْسَان أَو بالشعر أَو بِشَيْء آخر يضْطَر

(1/75)


إِلَى مُوَافقَة قومه فِي اللبَاس والزي، فَلَو خلى وَنَفسه، وتبدل زيه لم يجد فِي قلبه بَأْسا، وَرب إِنْسَان يحب الزي بِالذَّاتِ، فَلَو خلى وَنَفسه لما سمح بِتَرْكِهِ.
وَإِن من الْإِنْسَان الْيَقظَان بالطبع يتفطن بِالْأَمر الْجَامِع بَين الكثرات، ويمسك قلبه بِالْعِلَّةِ دون المعلولات والملكة دون الأفاعيل، وَمِنْه الْوَسْنَان بالطبع يبْقى مَشْغُولًا بِالْكَثْرَةِ عَن الْوحدَة، وبالافاعيل عَن الملكات، وبالاشباح عَن الْأَرْوَاح.
وَاعْلَم أَن الْإِنْسَان إِذا مَاتَ انْفَسَخ جسده الأرضي، وَبقيت نَفسه النطقية مُتَعَلقَة بالنسمة متفرغة إِلَى مَا عِنْدهَا، وطرحت عَنْهَا مَا كَانَ لضَرُورَة الْحَيَاة الدُّنْيَا من غير دَاعِيَة قلبية، وَبَقِي فِيهَا مَا كَانَت تمسكه فِي جدر جوهرها، وَحِينَئِذٍ تبرز الملكية، وتضعف البهيمية، ويترشح عَلَيْهَا من فَوْقهَا يَقِين بحظيرة الْقُدس وَبِمَا أحصى عَلَيْهَا هُنَالك، وَحِينَئِذٍ تتألم الملكية، أَو تتنعم.
وَاعْلَم أَن الملكية عِنْد غوصها فِي البهيمية وامتزاجها بهَا لَا بُد أَن تذعن لَهَا إذعانا مَا، وتتأثر مِنْهَا أثرا مَا، لَكِن الضار كل الضَّرَر أَن تتشبح فِيهَا هيئات منافرة فِي الْغَايَة، والنافع كل النَّفْع أَن تتشبح فِيهَا هيآت مُنَاسبَة فِي الْغَايَة؛ فَمن المنافرات أَن يكون قوى التَّعَلُّق بِالْمَالِ والأهل لَا يستيقن أَن
وراءهما مَطْلُوبا، قوى الْإِمْسَاك للهيئات الدنية فِي جذر جوهرها، وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يجمعه أَنه على الطّرف الْمُقَابل للسماحة، وَأَن يكون متلبسا بالنجاسات متكبرا على الله لم يعرفهُ وَلم يخضع لَهُ يَوْمًا وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يجمعه أَنه على الطّرف الْمُقَابل للإحسان، وَأَن يكون نَاقض توجه حَظِيرَة الْقُدس فِي نصر الْحق، وتنويه أمره، وبعثة الْأَنْبِيَاء، وَإِقَامَة النظام المرضى، فأصيب مِنْهُم بالبغضاء واللعن، وَمن المناسبات مُبَاشرَة أَعمال تحاكي الطَّهَارَة والخضوع للبارئ، وتذكر حَال الْمَلَائِكَة وعقائد تنزعها من الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَن يكون سَمحا سهلا، وَأَن يعْطف عَلَيْهِ أدعيه الْمَلأ الْأَعْلَى وتوجهاتهم للنظام المرضى وَالله أعلم.

(1/76)


(بَاب اخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِي البرزخ)
اعْلَم أَن النَّاس فِي هَذَا الْعَالم على طَبَقَات شَتَّى لَا يُرْجَى إحصاؤها، لَكِن رُءُوس الْأَصْنَاف أَرْبَعَة.
صنف هم أهل الْيَقَظَة، وَأُولَئِكَ يُعَذبُونَ، وينعمون بأنفس تِلْكَ المتافرات والمناسبات، وَإِلَى حَال هَذَا الصِّنْف وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{أَن تَقول نفس يَا حسرتا على مَا فرطت فِي جنب الله وَإِن كنت لمن الساخرين} .
وَرَأَيْت طَائِفَة من أهل الله صَارَت نُفُوسهم بِمَنْزِلَة الجوابي الممتلئة مَاء راكدا: لَا تهيجه الرِّيَاح، فضربها ضوء الشَّمْس فِي الهاجرة، فَصَارَت بِمَنْزِلَة قِطْعَة من النُّور، وَذَلِكَ النُّور إِمَّا نور الْأَعْمَال المرضية، أَو نور الياد داشت، أَو نور الرَّحْمَة.
وصنف قريب المأخذ مِنْهُم، لَكِن هم أهل النُّور الطبيعي، فَأُولَئِك تصيبهم رُؤْيا، والرؤيا فِينَا حُضُور عُلُوم مخزونة فِي الْحس الْمُشْتَرك كَانَت مسكة الْيَقَظَة تمنع عَن الِاسْتِغْرَاق فِيهَا والذهول عَن كَونهَا خيالات، فَلَمَّا نَام لم يشك أَنَّهَا عين مَا هِيَ صورها، وَرُبمَا يرى الصفراوي أَنه فِي غيضة يابسة فِي يَوْم صَائِف وسموم، فَبينا هُوَ كَذَلِك إِذْ فاجاءته النَّار من كل جَانب، فَجعل يهرب، وَلَا يجد مهربا، ثمَّ أَنه لفحته فقاسى ألما شَدِيدا، وَيرى البلغمى أَنه فِي لَيْلَة شَاتِيَة ونهر بَارِد وريح زمهريرية، فهاجت بسفينته الأمواج، فَصَارَ يهرب، وَلَا يجد مهربا، ثمَّ إِنَّه غرق، فقاسى ألما شَدِيدا، وَإِن أَنْت استقريت النَّاس لم تَجِد أحدا إِلَّا وَقد جرب من نَفسه تشبح الْحَوَادِث المجمعة بتنعمات وتوجعات مُنَاسبَة لَهَا وللنفس الرائية، فَهَذَا الْمُبْتَلى فِي الرُّؤْيَا غير أَنَّهَا رُؤْيا لَا يقظة مِنْهَا إِلَّا يَوْم الْقِيَامَة، وَصَاحب الرُّؤْيَا لَا يعرف فِي رُؤْيَاهُ أَنَّهَا لم تكن أَسمَاء خارجية، وَأَن التوجع والتنعم لم يكن فِي الْعَالم الْخَارِجِي، وَلَوْلَا يقظة لم يتَنَبَّه لهَذَا السِّرّ فَعَسَى أَن يكون تَسْمِيَة هَذَا الْعَالم عَالما خارجيا أَحَق وأفصح من تَسْمِيَته بالرؤيا، فَرُبمَا يرى صَاحب السبعية أَنه يخدشه سبع، وَصَاحب الْبُخْل تنهشه حيات وعقارب، ويتشبح زَوَال الْعُلُوم الفوقانية بملكين يسألانه من رَبك، وَمَا دينك، وَمَا قَوْلك فِي النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ .

(1/77)


وصنف بهيميتهم وملكيتهم ضعيفتان يلحقون بِالْمَلَائِكَةِ السافلة لأسباب جبلية بِأَن كَانَت ملكيتهم قَليلَة الانغماس فِي البهيمية غير مذعنة لَهَا، وَلَا متأثرة مِنْهَا، وكسبية بِأَن لابست الطهارات بداعية قلبية، ومكنت من نَفسهَا الإلهامات وبوارق ملكية، فَكَمَا أَن الْإِنْسَان رُبمَا يخلق فِي صُورَة الذكران وَفِي مزاجه خنوثة، وميل إِلَى هيآت الْإِنَاث، لكنه لَا يتَمَيَّز شهوات الْأُنُوثَة
من شهوات الذُّكُورَة فِي الصِّبَا، وَإِنَّمَا المهم حِينَئِذٍ شَهْوَة الطَّعَام وَالشرَاب وَحب اللّعب، فَيجْرِي حسب مَا يَأْمر بِهِ من التوسم بسمة الرِّجَال، وَيمْتَنع عَنهُ من اخْتَار زِيّ النِّسَاء حَتَّى إِذا شب، وَرجع إِلَى طَبِيعَته الماجنة استبد بِاخْتِيَار زيهن والتعود بعاداتهن، وغلبت عَلَيْهِ شَهْوَة الأبنة وَفعل مَا يَفْعَله النِّسَاء، وَتكلم بكلامهن، وسمى نَفسه تَسْمِيَة الْأُنْثَى، فَعِنْدَ ذَلِك خرج من حيّز الرِّجَال بِالْكُلِّيَّةِ، فَكَذَلِك الْإِنْسَان قد يكون فِي حَيَاته الدُّنْيَا مَشْغُولًا بِشَهْوَة الطَّعَام وَالشرَاب والغلمة وَغَيرهَا من مقتضيات الطبيعة والرسم، لكنه قريب المأخذ من الْمَلأ السافل قوى الانجذاب إِلَيْهِم، فَإِذا مَاتَ انْقَطَعت العلاقات، وَرجع إِلَى مزاجه، فلحق بِالْمَلَائِكَةِ، وَصَارَ مِنْهُم، وألهم كالهامهم، وسعى فِيمَا يسعون فِيهِ.
وَفِي الحَدِيث " رَأَيْت جَعْفَر بن أبي طَالب ملكا يطير فِي الْجنَّة مَعَ الْمَلَائِكَة بجناحين.
وَرُبمَا اشْتغل هَؤُلَاءِ بإعلاء كلمة الله وَنصر حزب الله، وَرُبمَا كَانَ لَهُم لمة خير بِابْن آدم، وَرُبمَا اشتاق بَعضهم إِلَى صُورَة جسدية اشتياقا شَدِيدا ناشئا من أصل جبلته، فقرع ذَلِك بَاب من الْمِثَال واختلطت قُوَّة مِنْهُ بالنسمة الهوائية، وَصَارَ كالجسد النوراني، وَرُبمَا اشتاق بَعضهم إِلَى مطعوم وَنَحْوه، فأمد فِيمَا اشْتهى قَضَاء لشوقه، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تحسبن الَّذين قتلوا فِي سَبِيل الله أَمْوَاتًا بل أَحيَاء عِنْد رَبهم يرْزقُونَ فرحين بِمَا آتَاهُم الله من فَضله} الْآيَة.
وبإزاء هَؤُلَاءِ قوم قريبو المأخذ من الشَّيَاطِين جبلة، بِأَن كَانَ مزاجهم فَاسِدا يسْتَوْجب آراء مناقضة للحق، منافرة للرأي الْكُلِّي على
طرف شاسع من محَاسِن الْأَخْلَاق، وكسبابان لابست هيئات خسيسة وأفكار فَاسِدَة وانقادت لوسوسة الشَّيَاطِين، وأحاط بهم اللَّعْن، فَإِذا مَاتُوا ألْحقُوا بالشياطين، وألبسوا لباسا ظلمانيا، وصور لَهُم مَا يقضون بِهِ بعض وطرهم من الملاذ الخسيسة، وَالْأول ينعم بحدوث ابتهاج فِي نَفسه، وَالثَّانِي يعذب بِضيق وغم، كالمخنث يعلم أَن الخنوثة أَسْوَأ حالات الْإِنْسَان، وَلَكِن لَا يَسْتَطِيع الإقلاع عَنْهَا.

(1/78)


وصنف هم أهل اصْطِلَاح. قَوِيَّة بهيميتهم. ضَعِيفَة ملكيتهم، وهم أَكثر النَّاس وجودا، يكون غَالب أُمُورهم تَابعا للصورة الحيوانية المجبولة على التَّصَرُّف فِي الْبدن والانغماس فِيهِ فَلَا يكون الْمَوْت انفكاكا لنفوسهم عَن الْبدن بِالْكُلِّيَّةِ، بل تنفك تدبيرا وَلَا تنفك وهما، فتعلم علما من كَذَا بِحَيْثُ لَا يخْطر عِنْدهَا إِمْكَان مُخَالفَة أَنَّهَا عين الْجَسَد، حَتَّى لَو وطئ الْجَسَد، أَو قطع لأيقنت أَنه فعل ذَلِك بهَا، وعلامتهم أَنهم يَقُولُونَ من جذر قُلُوبهم إِن أَرْوَاحهم عين أَجْسَادهم، أَو عرض طَارِئ عَلَيْهَا وَإِن نطقت ألسنتهم لتقليد أَو رسم خلاف ذَلِك فَأُولَئِك إِذا مَاتُوا برق عَلَيْهِم بارق ضَعِيف، وتراءى لَهُم خيال ضفيف مثل مَا يكون هُنَا للمرتاضين، وتتشبح الْأُمُور فِي صور خيالية ومثالية أُخْرَى كَمَا قد تتشبح للمرتاضين، فَإِن كَانَ لابس أعمالا ملكية دس علم الملايمة فِي أشباح مَلَائِكَة حسان الْوُجُوه بِأَيْدِيهِم الْحَرِير ومخاطبات وهيئآت لَطِيفَة وَفتح بَاب إِلَى الْجنَّة تَأتي مِنْهُ روائحها، وَإِن كَانَ لابس أعمالا منافرة للملكية أَو جالية للعن دس علم ذَلِك فِي أشباح مَلَائِكَة سود الْوُجُوه ومخاطبات وهيآت عنفية، كَمَا قد يدس الْغَضَب فِي صُورَة السبَاع، والجبن فِي صُورَة الأرنب.
وهنالك نفوس ملكية اسْتوْجبَ استعدادهم أَن يوكلوا بِمثل هَذِه
المواطن، وَيُؤمر بالتعذيب أَو التَّنْعِيم، فيراهم الْمُبْتَلى عيَانًا. وَأَن كَانَ أهل الدُّنْيَا لَا يرونهم عيَانًا.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ عَالم الْقَبْر إِلَّا من بقايا هَذَا الْعَالم، وَإِنَّمَا تترشح هُنَالك الْعُلُوم من وَرَاء حجاب، وَإِنَّمَا تظهر أَحْكَام النُّفُوس المختصة بفرد دون فَرد بِخِلَاف الْحَوَادِث الحشرية فَإِنَّهَا تظهر عَلَيْهَا وَهِي فانية وَعَن أَحْكَامهَا الْخَاصَّة بفرد فَرد بَاقِيَة بِأَحْكَام الصُّورَة الإنسانية وَالله أعلم.
(بَاب ذكر شَيْء من أسرار الوقائع الحشرية)
اعْلَم أَن للأرواح حَضْرَة تنجذب إِلَيْهَا انجذاب الْحَدِيد إِلَى المغناطيس وَتلك الحضرة هِيَ حَظِيرَة الْقُدس مَحل اجْتِمَاع النُّفُوس المتجردة عَن جلابيب الْأَبدَان بِالروحِ الْأَعْظَم الَّذِي وضفه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَثْرَة الْوُجُوه والألسن واللغات، وَإِنَّمَا هُوَ تشبح لصورة نوع الْإِنْسَان فِي عَالم الْمِثَال، أَو فِي الذّكر أيا مَا شِئْت فَقل، وَمحل فنائها عَن المتأكد من أَحْكَامهَا الناشئة من الخصوصية الفردية، وبقائها بأحكامها الناشئة من النَّوْع أَو الْغَالِب عَلَيْهَا جَانب النَّوْع.

(1/79)


وتفصيله أَن أَفْرَاد الْإِنْسَان لَهَا أَحْكَام يمتاز بهَا بَعْضهَا من بعض، وَلها أَحْكَام تشترك فِيهَا جُمْلَتهَا، وتتوارد عَلَيْهَا جَمِيعهَا، وَلَا جرم أَنَّهَا من النَّوْع وَإِلَيْهِ فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة " الحَدِيث.
وكل نوع يخْتَص بِهِ نَوْعَانِ من الْأَحْكَام: أَحدهمَا الظَّاهِر كالخلقة أَي اللَّوْن والشكل والمقدار، وكالصوت أَي فَرد وجد مِنْهُ على هَيْئَة يُعْطِيهَا لنَوْع وَلم يكن مخدجا من قبل عصيان الْمَادَّة، فَإِنَّهُ لَا بُد يتَحَقَّق بهَا، ويتوارد عَلَيْهَا فالإنسان مستوي الْقَامَة نَاطِق بَادِي الْبشرَة، وَالْفرس معوج الْقَامَة صاهل
أشعر إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا يَنْفَكّ عَن الْأَفْرَاد عِنْد سَلامَة مزاجها. وَثَانِيهمَا الْأَحْكَام الْبَاطِنَة كالإدراك والاهتداء للمعاش والاستعداد لما يهجم عَلَيْهَا من الوقائع، فَلِكُل نوع شَرِيعَة، أَلا ترى النَّحْل كَيفَ أوحى الله تَعَالَى إِلَيْهَا أَن تتبع الْأَشْجَار، فتأكل من ثمراتها، ثمَّ كَيفَ تتَّخذ بَيْتا يجْتَمع فِيهِ بَنو نوعها، ثمَّ كَيفَ تجمع الْعَسَل هُنَالك، وَأوحى إِلَى العصفور أَن يرغب الذّكر فِي الْأُنْثَى، ثمَّ يتَّخذ عشا، ثمَّ يحضنا الْبيض، ثمَّ يزقا الْفِرَاخ، ثمَّ إِذا نهضت الْفِرَاخ علمهَا أَيْن المَاء وَأَيْنَ الْحُبُوب، وَعلمهَا ناصحها من عدوها، وَعلمهَا كَيفَ تَفِر من السنور والصياد، وَكَيف تنَازع بني نوعها عِنْد جلب نفع أَو دفع ضرّ، وَهل تظن الطبيعة السليمة بِتِلْكَ الْأَحْكَام أَنَّهَا لَا ترجع إِلَى اقْتِضَاء الصُّورَة النوعية.
وَاعْلَم أَن سَعَادَة الْأَفْرَاد أَن تمكن مِنْهَا أَحْكَام النَّوْع وافرة كَامِلَة وَألا تعصى مادتها عَلَيْهَا، وَلذَلِك يخْتَلف أَفْرَاد الْأَنْوَاع، فِيمَا يعد لَهَا من سعادتها أَو شقاوتها، وَمهما بقيت على مَا يُعْطِيهِ النَّوْع لم يكن لَهَا ألم لَكِنَّهَا قد تغير فطرتها بِأَسْبَاب طارئة بِمَنْزِلَة الورم، وَإِلَيْهِ وَقعت الْإِشَارَة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثمَّ أَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَو ينصرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ ".
وَاعْلَم أَن الْأَرْوَاح البشرية تنجذب إِلَى هَذِه الحضرة تَارَة من جِهَة البصيرة والهمة، وَتارَة من جِهَة تشبح آثارها فِيهَا إيلاما وانعاما، أما الانجذاب بالبصيرة، فَلَيْسَ أحد يتخفف عَن ألواث البهيمية إِلَّا وتلحق نَفسه بهَا، وينكشف عَلَيْهَا شَيْء مِنْهَا وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجْتمع آدم ومُوسَى عِنْد ربهما " وروى عَنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق شَتَّى أَن أَرْوَاح الصَّالِحين تَجْتَمِع عِنْد الرّوح الْأَعْظَم، أما الانجذاب الآخر فَاعْلَم أَن حشر الأجساد وإعادة الْأَرْوَاح إِلَيْهَا لَيست حَيَاة مستأنفة إِنَّمَا هِيَ تَتِمَّة النشأة الْمُتَقَدّمَة بِمَنْزِلَة التُّخمَة لِكَثْرَة الْأكل. كَيفَ وَلَوْلَا ذَلِك لكانوا غير الْأَوَّلين، وَلما أخذُوا بِمَا فعلوا.

(1/80)


وَاعْلَم أَن كثيرا من الْأَشْيَاء المتحققة فِي الْخَارِج تكون بِمَنْزِلَة الرُّؤْيَا فِي تشبح الْمعَانِي بأجسام مُنَاسبَة لَهَا كَمَا ظَهرت الْمَلَائِكَة لداود عَلَيْهِ السَّلَام فِي صُورَة خصمين وَرفعت إِلَيْهِ الْقَضِيَّة، فَعرف أَنه تشبح لما فرط مِنْهُ فِي امْرَأَة أوريا فَاسْتَغْفر وأناب. وكما كَانَ عرض قدمي الْخمر وَاللَّبن عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختياره اللَّبن تشبحا لعرض الْفطْرَة والشهوات على أمته وَاخْتِيَار الرَّاشِدين مِنْهُم الْفطْرَة، وكما كَانَ جُلُوس النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأبي بكر وَعمر مُجْتَمعين على قف الْبِئْر، وجلوس عُثْمَان مُنْفَردا مِنْهُم تشبحا لما قدر الله تَعَالَى من حَال قُبُورهم ومدافنهم على مَا أَوله سعيد بن الْمسيب وناهيك بِهِ ... ، وَأكْثر الوقائع الحشرية من هَذَا الْقَبِيل.
وَاعْلَم أَن تعلق النَّفس الناطقة بالنسمة أكيد شَدِيد فِي حق أَكثر النَّاس وَإِنَّمَا مثلهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعُلُوم الْبَعِيدَة من مألوفها كَمثل الأكمة لَا يتخيل الألوان والأضواء أصلا وَلَا مطمع لَهَا فِي حُصُول ذَلِك إِلَّا بعد أحقاب كَثِيرَة ومدد متطاولة فِي ضمن تشبحات وتمثلات.
والنفوس أول مَا تبْعَث تجازى بِالْحِسَابِ الْيَسِير أَو العسير أَو بالمرور على الصِّرَاط ناجيا ومخدوشا أَو بِأَن يتبع كل أحد متبوعه فينجو، أَو يهْلك أَو تنطق الْأَيْدِي والأرجل وَقِرَاءَة الصُّحُف أَو بِظُهُور مَا يخل بِهِ، وَحمله على ظَهره أَو الكي بِهِ؛ وَبِالْجُمْلَةِ فتشبحات وتمثلات لما عِنْدهَا بِمَا تعطيه أَحْكَام
الصُّورَة النوعية، وَأَيّمَا رجل كَانَ أوثق نفسا، وأوسع نسمَة، فالتشبحات الحشرية فِي حَقه أتم وأوفر، وَلذَلِك أخبر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن أَكثر عَذَاب أمته فِي قُبُورهم، وهنالك أُمُور متمثلة تتساوى النُّفُوس فِي مشاهدتها كالهداية المبسوطة ببعثة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(1/81)


تتشبح حوضا، وتتشبح أَعْمَالهم المحصا عَلَيْهَا وزنا إِلَى غير ذَلِك، وتتشبح النِّعْمَة بمطعم هنئ، ومشرب مريء، ومنكح شهي، وملبس رَضِي، ومسكن بهي،
وللخروج من ظلمات التَّخْلِيط إِلَى النِّعْمَة تدريجات عَجِيبَة كَمَا بَينه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث الرجل الَّذِي هُوَ آخر أهل النَّار خُرُوجًا مِنْهَا، وَأَن للنفوس شهوات تتوارد عَلَيْهَا من تِلْقَاء نوعها تتمثل بهَا النِّعْمَة، وشهوات دون ذَلِك يتَمَيَّز بهَا بَعْضهَا من بعض، وَهُوَ قَول النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دخلت الْجنَّة فَإِذا جَارِيَة أدماء لعساء، فَقلت مَا هَذِه يَا جِبْرِيل؟ فَقَالَ: أَن الله تَعَالَى عرف شَهْوَة جَعْفَر بن أبي طَالب للادم اللعس،
فخلق لَهُ هَذِه "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَن الله أدْخلك الْجنَّة، فَلَا تشَاء أَن تحمل فِيهَا على فرس من ياقوته حَمْرَاء تطير بك فِي الْجنَّة حَيْثُ شِئْت إِلَّا فعلت " وَقَوله: " إِن رجلا من أهل الْجنَّة اسْتَأْذن ربه فِي الزَّرْع، فَقَالَ لَهُ أَلَسْت فِيمَا شِئْت قَالَ بلَى، وَلَكِنِّي أحب أَن أزرع، فبذر، فبادر الطّرف نَبَاته واستواؤه واستحصاده، فَكَانَ أَمْثَال الْجبَال، فَيَقُول الله تَعَالَى دُونك يَا ابْن آدم، فَإِنَّهُ لَا يشبعك شَيْء "، ثمَّ آخر ذَلِك رُؤْيَة رب الْعَالمين، وَظُهُور سُلْطَان التجليات فِي جنَّة الْكَثِيب، ثمَّ كَائِن بعد ذَلِك مَا أسكت عَنهُ، وَلَا أذكرهُ اقْتِدَاء بالشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.