حجة الله البالغة

(المبحث الثَّالِث)
(مَبْحَث الارتفاقات)
(بَاب كَيْفيَّة استنباط الارتفاقات)
اعْلَم أَن الْإِنْسَان يُوَافق أَبنَاء جنسه فِي الْحَاجة إِلَى الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع والاستظلال من الشَّمْس والمطر والاستدفاء فِي الشتَاء وَغَيرهَا، وَكَانَ من عناية الله تَعَالَى بِهِ أَن ألهمه كَيفَ يرتفق بأَدَاء هَذِه الْحَاجَات إلهاما طبيعيا من مُقْتَضى صورته النوعية، فَلَا جرم يتساوى الْأَفْرَاد فِي ذَلِك الْأكل مُخْدج عَصَتْ مادته، كَمَا ألهم النَّحْل كَيفَ تَأْكُل الثمرات، ثمَّ كَيفَ تتَّخذ بَيْتا يجْتَمع فِيهِ أشخاص من بني نوعها، ثمَّ كَيفَ

(1/82)


تنقاد ليعسوبها، ثمَّ كَيفَ تعسل، وكما ألهم العصفور كَيفَ يَبْتَغِي الْحُبُوب الغاذية، وَكَيف يرد المَاء، وَكَيف يفر عَن السنور والصياد، وَكَيف يُقَاتل من صده عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ، وَكَيف يسافد ذكره الْأُنْثَى عِنْد الشبق، ثمَّ يتخذان عشا عِنْد الْجَبَل، ثمَّ كَيفَ يتعاونان فِي حضَانَة الْبيض، ثمَّ كَيفَ يزقان الْفِرَاخ، وَكَذَلِكَ لكل نوع شَرِيعَة تنفث فِي صُدُور أَفْرَاده من طَرِيق الصُّورَة النوعية.
وَكَذَلِكَ ألهم الْإِنْسَان كَيفَ يرتفق من هَذِه الضرورات غير أَنه انظم لَهُ مَعَ هَذَا ثَلَاثَة أَشْيَاء لمقْتَضى صورته النوعية الرابية على كل نوع.
أَحدهَا الانبعاث إِلَى شَيْء من رَأْي كلي فالبهيمة إِنَّمَا تنبعث إِلَى غَرَض محسوس أَو متوهم من دَاعِيَة ناشئة من طبيعتها كالجوع والعطش والشبق، وَالْإِنْسَان رُبمَا ينبعث إِلَى نفع مَعْقُول لَيْسَ لَهُ دَاعِيَة من طَبِيعَته فيقصد أَن
يحصل نظاما صَالحا فِي الْمَدِينَة أَو بكمل خلقه، ويهذب نَفسه، أَو يتفصى من عَذَاب الْآخِرَة، أَو يُمكن جاهه فِي صُدُور النَّاس.
الثَّانِي أَنه يضم مَعَ الارتفاق الظرافة، فالبهيمة إِنَّمَا تبتغي مَا تسد بِهِ خلتها، وتدفع حَاجَتهَا فَقَط، وَالْإِنْسَان رُبمَا يُرِيد أَن تقر عينه، وتلذ نَفسه زِيَادَة على الْحَاجة، فيطلب زَوْجَة جميلَة، وَطَعَامًا لذيذا، وملبسا فاخرا ومسكنا شامخا.
وَالثَّالِث أَنه يُوجد مِنْهُم أهل عقل ودارية يستنبطون الارتفاقات الصَّالِحَة، وَيُوجد مِنْهُم من يختلج فِي صَدره مَا اختلج فِي صُدُور أُولَئِكَ، وَلَكِن لَا يَسْتَطِيع الاستنباط، فَإِذا رأى من الْحُكَمَاء، وَسمع مَا استنبطوه تَلقاهُ بقلبة، وعض عَلَيْهِ بنواجذه لما وجده مُوَافقا لعلمه الإجمالي، فَرب إِنْسَان يجوع، ويظمأ فَلَا يجد الطَّعَام وَالشرَاب، فيقاسي ألما شَدِيدا حَتَّى يجدهما، فيحاول ارتفاقا بِإِزَاءِ هَذِه الْحَاجة، وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا، ثمَّ يتَّفق أَن يلقى حكيما أَصَابَهُ مَا أصَاب ذَلِك، فتعرف الْحُبُوب الغاذية، واستنبط بذرها وسقيها وحصادها ودياسها وتذريتها، وحفظها إِلَى وَقت الْحَاجة، واستنبط حفر الْآبَار للبعيد من الْعُيُون والأنهار واصطناع القلال والقرب والقصاع، فيتخذ ذَلِك بَابا من الارتفاق، ثمَّ أَنه يقضم الْحُبُوب كَمَا هِيَ، فَلَا تنهضم فِي معدته، ويرتع الْفَوَاكِه نيئة، فَلَا تنهضم، فيحاول شَيْئا بِإِزَاءِ هَذِه، فَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا، فَيلقى حكيما استنبط الطَّبْخ والقلي والطحن وَالْخبْز، فيتخذ ذَلِك بَابا آخر، وَقس على ذَلِك حاجاته كلهَا.

(1/83)


والمستبصر يشْهد عِنْده لما ذكرنَا حُدُوث كثير من الْمرَافِق فِي الْبلدَانِ بعد مَا لم تكن، فَمضى على ذَلِك قُرُون، وَلم يزَالُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك حَتَّى اجْتمعت
جملَة صَالِحَة من الْعُلُوم الإلهامية المؤيدة بالمكتسبة، ونشبت عَلَيْهَا نُفُوسهم، وَعَلَيْهَا كَانَ محياهم ومماتهم، وَبِالْجُمْلَةِ فحال الإلهامات الضرورية مَعَ هَذِه الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة كَمثل النَّفس أَصله ضَرُورِيّ بِمَنْزِلَة حَرَكَة النبض، وَقد انظم مَعَه الِاخْتِيَار فِي صغر الأنفاس وكبرها.
وَلما كَانَت هَذِه الثَّلَاثَة لَا تُوجد فِي جَمِيع النَّاس سَوَاء لاخْتِلَاف أمزجة النَّاس وعقولهم الْمُوجبَة للانبعاث، من رَأْي كلي، ولحب الظرافة، ولاستنباط الارتفاقات، والاقتداء فِيهَا، ولاختلافهم فِي التفرغ للنَّظَر وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب كَانَ للارتفاقات حدان.
الأول هُوَ الَّذِي لَا يُمكن أَن يَنْفَكّ عَنهُ أهل الاجتماعات القاصرة كَأَهل البدو وسكان شَوَاهِق الْجبَال والنواحي الْبَعِيدَة من الأقاليم الصَّالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الأول.
وَالثَّانِي مَا عَلَيْهِ أهل الْحَضَر والقرى العامرة من الأقاليم الصَّالِحَة المستوجبة أَن ينشأ فِيهَا أهل الْأَخْلَاق الفاضلة والحكماء، فَإِنَّهُ كثر هُنَالك الاجتماعات وزدحمت الْحَاجَات، وَكَثُرت التجارب، فاستنبطت سنَن جزيلة، وعضوا عَلَيْهَا بالنواجذ.
والطرف الْأَعْلَى من هَذَا الْحَد مَا يتعامله الْمُلُوك أهل الرَّفَاهِيَة الْكَامِلَة الَّذين يرد عَلَيْهِم حكماء الْأُمَم، فينتحلون مِنْهُم سننا صَالِحَة، وَهُوَ الَّذِي نُسَمِّيه بالارتفاق الثَّانِي، وَلما كمل الارتفاق الثَّانِي أوجب ارتفاقا ثَالِثا، وَذَلِكَ أَنهم لما دارت بَينهم الْمُعَامَلَات وداخلها الشُّح والحسد والمطل والتجاحد، نشأت بَينهم اختلافات ومنازعات وَأَنَّهُمْ نَشأ فيهم من تغلب عَلَيْهِ الشَّهَوَات الرَّديئَة، أَو يجبل على الجراءة فِي الْقَتْل والنهب، وَأَنَّهُمْ
كَانَت لَهُم ارتفاقات مُشْتَركَة النَّفْع لَا يُطيق وَاحِد مِنْهُم إِقَامَتهَا، أَو لَا تسهل عَلَيْهِ، أَو لَا تسمح نَفسه بهَا، فاضطروا إِلَى إِقَامَة ملك يقْضِي بَينهم بِالْعَدْلِ، ويزجر عاصيهم، ويقاوم جريئهم، ويجبي مِنْهُم الْخراج، ويصرفه فِي مصرفه، وَأوجب الارتفاق الثَّالِث ارتفاقا رَابِعا، وَذَلِكَ

(1/84)


أَنه لما انفرز كل ملك بمدينته، وجبى إِلَيْهِ الْأَمْوَال، وانظم إِلَيْهِ الْأَبْطَال، وداخلهم الشُّح والحرص والحقد، تشاجروا فِيمَا بَينهم، وتقاتلوا، فاضطروا إِلَى إِقَامَة الْخَلِيفَة، أَو الانقياد لمن تسلط عَلَيْهِم تسلط الْخلَافَة الْكُبْرَى، وأعني بالخليفة من يحصل لَهُ من الشَّوْكَة مَا يرى مَعَه، كالممتنع أَن يسلبه رجل آخر ملكه، اللَّهُمَّ إِلَّا بعد اجتماعات كَثِيرَة، وبذل أَمْوَال خطيرة لَا يتَمَكَّن مِنْهَا إِلَّا وَاحِد فِي الْقُرُون المتطاولة، وَيخْتَلف الْخَلِيفَة باخْتلَاف الْأَشْخَاص والعادات، وَأي أمة طبائعها أَشد وَأحد، فَهِيَ أحْوج إِلَى الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء مِمَّن هِيَ دونهمَا فِي الشُّح والشحناء، وَنحن نُرِيد أَن ننبهك على أصُول هَذِه الارتفاقات وفهارس أَبْوَابهَا، كَمَا أوجبه عقول الْأُمَم الصَّالِحَة ذَوي الْأَخْلَاق الفاضلة، واتخذوه سنة مسلمة لَا يخْتَلف فِيهَا أقاصيهم، وَلَا أذانيهم، فاستمع لما يُتْلَى عَلَيْك.
(بَاب الارتفاق الأول)
مِنْهُ اللُّغَة المعبرة عَمَّا فِي ضمير الْإِنْسَان، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَفعَال وهيآت وأجسام تلابس صَوتا مَا بالمجاورة أَو التَّسَبُّب أَو غَيرهمَا، فيحكى ذَلِك الصَّوْت كَمَا هُوَ، ثمَّ يتَصَرَّف فِيهِ باشتقاق الصِّيَغ بِإِزَاءِ اخْتِلَاف الْمعَانِي، وَيُشبه أُمُور مُؤثرَة فِي الْأَبْصَار، أَو محدثة لهيآت وجدانية فِي النَّفس، بالقسم الأول، ويتكلف لَهُ صَوت كمثله، ثمَّ اتسعت اللُّغَات بالتجوز لمشابهة أَو مجاورة وَالنَّقْل لعلاقة مَا
وهنالك أصُول أُخْرَى ستجدها فِي بعض كلامنا، وَمِنْه الزَّرْع وَالْغَرْس وحفر الْآبَار وَكَيْفِيَّة الطَّبْخ والائتدام، وَمِنْه اصطناع الْأَوَانِي والقرب، وَمِنْه تسخير الْبَهَائِم واقتناؤها ليستعان بظهورها ولحومها وجلودها وَأَشْعَارهَا وأوبارها وَأَلْبَانهَا وَأَوْلَادهَا، وَمِنْه مسكن يؤويه من الْحر وَالْبرد من الغيران والعشوش وَنَحْوهَا، وَمِنْه لِبَاس يقوم مقَام الريش من جُلُود الْبَهَائِم أَو أوراق الْأَشْجَار، أَو مِمَّا عملت أَيْديهم، وَمِنْه أَن اهْتَدَى لتعيين منكوحه لَا يزاحمه فِيهَا أحد، يدْفع بهَا شبقه، ويذرأ بهَا نَسْله، ويستعين بهَا فِي حَوَائِجه

(1/85)


المنزلية وَفِي حضَانَة الْأَوْلَاد وتربيتها، وَغير الْإِنْسَان لَا يعينها إِلَّا بِنَحْوِ من الِاتِّفَاق أَو بكونهما توأمين أدْركَا على المرافقة وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْه أَن اهْتَدَى لصناعات لَا يتم الزَّرْع وَالْغَرْس والحفر وتسخير الْبَهَائِم وَغير ذَلِك إِلَّا بهَا كالمعول والدلو وَالسِّكَّة والحبال وَنَحْوهَا، وَمِنْه أَن اهْتَدَى لمبادلات ومعاونات فِي بعض الْأَمر، وَمِنْه أَن يقوم أسدهم رَأيا وأشدهم بطشا، فيسخر الآخرين، ويرأس ويربع وَلَو بِوَجْه من الْوُجُوه، وَمِنْه أَن تكون فِيهَا سنة مسلمة لفصل خصوماتهم، وكبح ظالمهم، وَدفع من يُرِيد أَن يغزوهم، وَلَا بُد أَن يكون فِي كل قوم من يستنبط طرق الارتفاق فِيمَا يهمهم شَأْنه، فيقتدى بِهِ سَائِر النَّاس، وَأَن يكون فيهم من يحب الْجمال والرفاهية والدعة، وَلَو بِوَجْه من الْوُجُوه، وَمن يباهي بأخلاقه من الشجَاعَة والسماحة والفصاحة والكيس وَغَيرهَا، وَمن يحب أَن يطير صيته، ويرتفع جاهه، وَقد من الله تَعَالَى فِي كِتَابه الْعَظِيم على عباده بإلهام شعب هَذَا الارتفاق لعلمه بِأَن التَّكْلِيف بِالْقُرْآنِ يعم أَصْنَاف النَّاس وَأَنه لَا يشملهم جَمِيعًا إِلَّا هَذَا النَّوْع من الارتفاق وَالله أعلم.
(بَاب فن أداب المعاش)
وَهِي الْحِكْمَة الباحثة عَن كَيْفيَّة الارتفاق من الْحَاجَات المبينة من قبل على الْحَد الثَّانِي، وَالْأَصْل فِيهِ أَن يعرض الارتفاق الأول على التجربة الصَّحِيحَة فِي كل بَاب، فيختار الهيآت الْبَعِيدَة من الضَّرَر، الْقَرِيبَة من النَّفْع، وَيتْرك مَا سوى ذَلِك، وعَلى الْأَخْلَاق الفاضلة الَّتِي يجبل عَلَيْهَا أهل الأمزجة الْكَامِلَة، فيختار مَا توجبه، وتقتضيه، وَيتْرك مَا سوى ذَلِك، وعَلى حسن الصُّحْبَة بَين النَّاس، وَحسن الْمُشَاركَة مَعَهم، وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد الناشئة من الرَّأْي الْكُلِّي.
ومعظم مسَائِله آدَاب الْأكل وَالشرب وَالْمَشْي وَالْقعُود وَالنَّوْم وَالسّفر والخلاء وَالْجِمَاع واللباس والمسكن والنظافة والزينة ومراجعة الْكَلَام والتمسك بالأدوية والرقى فِي العاهات، وتقدمة الْمعرفَة فِي الْحَوَادِث المجمعة، والولائم عِنْد عرُوض فَرح من ولادَة وَنِكَاح وَعِيد وقدوم مُسَافر وَغَيرهَا، والمآتم عِنْد المصائب وعيادة المرضى وَدفن الْمَوْتَى، فَإِنَّهُ أجمع من يعْتد بِهِ من أهل الأمزجة الصَّحِيحَة سكان الْبلدَانِ

(1/86)


المعمورة على أَلا يُؤْكَل الطَّعَام الْخَبيث كالميت حتف أَنفه والمتعفن وَالْحَيَوَان الْبعيد من اعْتِدَال المزاج وانتظام الْأَخْلَاق، ويستحبون أَن يوضع الطَّعَام فِي الْأَوَانِي، وتوضع هِيَ على السّفر وَنَحْوهَا، وَأَن ينظف الْوَجْه وَالْيَدَانِ عِنْد إِرَادَة الْأكل، ويحترز عَن هيآت الطيش والشره وَالَّتِي تورث الضغائن فِي قُلُوب المشاركين وَألا يشرب المَاء الآجن، وَأَن يحْتَرز من الكرع والعب، وَأَجْمعُوا على اسْتِحْبَاب النَّظَافَة نظافة الْبدن وَالثَّوْب وَالْمَكَان عَن شَيْئَيْنِ من النَّجَاسَات
المنتنة المتقذرة، وَعَن الأوساخ النابتة على نهج طبيعي كالبخر يزَال بِالسِّوَاكِ وكشعر الابط والعانة وكتوسخ الثِّيَاب واعشيشاب الْبَيْت، وعَلى اسْتِحْبَاب أَن يكون الرجل شامة بَين النَّاس قد سوى لِبَاسه وسرح رَأسه ولحيته، وَالْمَرْأَة إِذا كَانَت تَحت رجل تتزين بخضاب وحلي وَنَحْو ذَلِك وعَلى أَن العري شين واللباس زين وَظُهُور السوأتين عَار، وَأَن أتم اللبَاس مَا ستر عَامَّة الْبدن وَكَانَ سَاتِر الْعَوْرَة غير سَاتِر الْبدن، وعَلى تقدمة الْمعرفَة بِشَيْء من الْأَشْيَاء إِمَّا بالرؤيا أَو بالنجوم أَو الطَّيرَة أوالعيافة وَالْكهَانَة والرمل وَنَحْو ذَلِك.
وكل من خلق على مزاج صَحِيح وذوق سليم يخْتَار لَا محَالة فِي كَلَامه من الْأَلْفَاظ كل لفظ غير وَحشِي، وَلَا ثقيل على اللِّسَان، وَمن التراكيب كل تركيب، متين جيد، وَمن الأساليب كل أسلوب يمِيل إِلَيْهِ السّمع، ويركن إِلَيْهِ الْقلب وَهَذَا الرجل هُوَ ميزَان الفصاحة.
وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي كل بَاب مسَائِل إجماعية مسلمة بَين أهل الْبلدَانِ وَإِن تَبَاعَدت، وَالنَّاس بعْدهَا فِي تمهيد قَوَاعِد الْآدَاب مُخْتَلفُونَ، فالطبيعي يمهدها على أستحسانات الطِّبّ والمنجم على خَواص النُّجُوم، والإلهي على الْإِحْسَان كَمَا تجدها فِي كتبهمْ مفصلة، وَلكُل قوم زِيّ وآداب يتميزون بهَا، يُوجِبهَا اخْتِلَاف الأمزجة والعادات وَنَحْو ذَلِك.

(1/87)


(بَاب تَدْبِير الْمنزل)
وَهُوَ الْحِكْمَة الباحثة عَن كَيْفيَّة حفظ الرَّبْط الْوَاقِع بَين أهل الْمنزل على الْحَد الثَّانِي من الارتفاق وَفِيه أَربع جمل: الزواج، والولاد، والملكة، والصحبة.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن حَاجَة الْجِمَاع أوجبت ارتباط واصطحاباً بَين الرجل وَالْمَرْأَة، ثمَّ الشَّفَقَة على الْمَوْلُود أوجبت تعاونا مِنْهُمَا فِي حضانته، وَكَانَت الْمَرْأَة أهداهما للحضانة بالطبع، وأخفهما عقلا، وأكثرهما انحجاما من المشاق، وأتمهما حَيَاء ولزوما للبيت، وأحذقهما سعيا فِي محقرات الْأُمُور وأوفرهما انقيادا، وَكَانَ الرجل أسدهما عقلا، وأشدهما ذباعن الذمار، وأجزأهما على الاقتحام فِي المشاق، وأتمهما تيها وتسلطا ومناقشة وغيرة، فَكَانَ معاش هَذِه لَا تتمّ إِلَّا بِذَاكَ، وَذَاكَ يحْتَاج إِلَى هَذِه.
وأوجبت مزاحمات الرِّجَال على النِّسَاء وغيرتهم عَلَيْهِنَّ أَلا يصلح أَمرهم إِلَّا بتصحيح اخْتِصَاص الرجل بِزَوْجَتِهِ على رُءُوس الأشهاد، وأوجبت رَغْبَة الرجل فِي الْمَرْأَة، وكرامتها على وَليهَا، وذبه عَنْهَا أَن يكون مهر وخطبة

(1/88)


وتصد من الْوَلِيّ، وَكَانَ لَو فتح رَغْبَة الْأَوْلِيَاء فِي الْمَحَارِم أفْضى ذَلِك إِلَى ضَرَر عَظِيم عَلَيْهَا من عضلها عَمَّن ترغب فِيهِ، وَألا يكون لَهَا من يُطَالب عَنْهَا بِحُقُوق الزَّوْجِيَّة مَعَ شدَّة احتياجها إِلَى ذَلِك وتكدير الرَّحِم بمنازعات الضرات وَنَحْوهَا مَعَ مَا تَقْتَضِيه سَلامَة المزاج من قلَّة الرَّغْبَة فِي الَّتِي نَشأ مِنْهَا، أَو نشأت مِنْهُ، أَو كَانَ كعصى دوحة.
وَأوجب الْحيَاء عَن ذكر الْحَاجة إِلَى الْجِمَاع أَن تجْعَل مدسوسة فِي ضمن عروج يتَوَقَّع لَهما كَأَنَّهُ الْغَايَة الَّتِي وجدا لَهَا.
وَأوجب التلطف فِي التشهير، وَجعل الْملاك المنزلي عروجا أَن تجْعَل وَلِيمَة يدعى النَّاس إِلَيْهَا ودف وطرب.
وَبِالْجُمْلَةِ فلوجوه جمة مِمَّا ذكرنَا، وَمِمَّا حذفنا - اعْتِمَادًا على ذهن الأذكياء - كَانَ النِّكَاح بالهيئة الْمُعْتَادَة أَعنِي نِكَاح غير الْمَحَارِم بِمحضر من النَّاس مَعَ تَقْدِيم مهر وخطبة وملاحظة كفاءة وتصد من الْأَوْلِيَاء ووليمة، وَكَون الرِّجَال قوامين على النِّسَاء متكفلين معاشهن، وكونهن خادمات حاضنات مطيعات سنة لَازِمَة، وأمرا مُسلما عِنْد الكافة، وفطرة فطر الله النَّاس عَلَيْهَا لَا يخْتَلف فِي ذَلِك عربهم وَلَا عجمهم.
وَلما لم يكن بذل الْجهد مِنْهُمَا فِي التعاون بِحَيْثُ يَجْعَل كل وَاحِد ضَرَر الآخر، ونفعه كالراجع إِلَى نَفسه إِلَّا بِأَن يوطنا أَنفسهمَا على إدامة النِّكَاح، وَلَا بُد من إبْقَاء طَرِيق للخلاص إِذا لم يطاوعا، وَلم يتراضيا وَإِن كَانَ من أبْغض الْمُبَاحَات وَجب فِي الطَّلَاق مُلَاحظَة قيود وعدة، وَكَذَا فِي وَفَاته عَنْهَا تَعْظِيمًا لأمر النِّكَاح فِي النُّفُوس وَأَدَاء لبَعض حق الإدامة ووفاء لعهد الصُّحْبَة، وَلِئَلَّا تشتبه الْأَنْسَاب.
وأوجبت حَاجَة الْأَوْلَاد إِلَى الأباء، وحدبهم عَلَيْهِم بالطبع أَن يكون تمرين الْأَوْلَاد على مَا يَنْفَعهُمْ فطْرَة، وَأوجب تقدم الأباء عَلَيْهِم، فَلم يكبروا إِلَّا والأباء أَكثر عقلا وتجربة مَعَ مَا يُوجِبهُ صِحَة الْأَخْلَاق من مُقَابلَة الْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ، وَقد قاسوا فِي تربيتهم مَالا حَاجَة إِلَى شَرحه أَن يكون بر الْوَالِدين سنة لَازِمَة.
وَأوجب اخْتِلَاف استعداد بني آدم أَن يكون فيهم السَّيِّد بالطبع، وَهُوَ الأكيس المستقل بمعيشته ذُو سياسة ورفاهية جبليتين، وَالْعَبْد بالطبع وَهُوَ الأخرق التَّابِع ينقاد كَمَا يُقَاد، وَكَانَ معاش كل وَاحِد لَا يتم إِلَّا بِالْآخرِ، وَلَا يُمكن التعاون فِي المنشط وَالْمكْره إِلَّا بِأَن يوطنا أَنفسهمَا على إدامة هَذَا الرَّبْط، ثمَّ أوجبت اتفاقات أخر أَن يأسر بَعضهم بَعْضًا، فَوَقع ذَلِك مِنْهُم بموقع، وانتظمت الملكة، وَلَا بُد من سنة يُؤَاخذ كل وَاحِد نَفسه عَلَيْهَا، ويلام على تَركهَا، وَلَا بُد من إبْقَاء طَرِيق الْخَلَاص فِي الْجُمْلَة بِمَال أَو بِدُونِهِ، وَكَانَ يتَّفق كثيرا أَن تقع على الْإِنْسَان حاجات وعاهات من مرض وزمانة وَتوجه حق عَلَيْهِ وحوائج يضعف عَن إصْلَاح أمره مَعهَا إِلَّا بمعاونة بني جنسه، وَكَانَ النَّاس فِيهَا سواسية، فاحتاجوا إِلَى إِقَامَة ألفة بَينهم وإدامتها، وَإِن تكون لإغاثة المستغيث وإعانة الملهوف سنة بَينهم يطالبون بهَا ويلامون عَلَيْهَا.
وَلما كَانَت الْحَاجَات على حَدَّيْنِ: حد لَا يتم إِلَّا بِأَن يعد كل وَاحِد ضَرَر الآخر ونفعه رَاجعا إِلَى نَفسه، وَلَا يتم إِلَّا ببذل

(1/89)


كل وَاحِد الطَّاقَة فِي مُوالَاة الآخر وَوُجُوب الْإِنْفَاق عَلَيْهِ والتوارث، وَبِالْجُمْلَةِ فبأمور تلزمهم من الْجَانِبَيْنِ ليَكُون الْغنم بالغرم، وَكَانَ أليق النَّاس بِهَذَا الْحَد الْأَقَارِب لِأَن تحاببهم واصطحابهم كالأمر الطبيعي، وحد يَتَأَتَّى بِأَقَلّ من ذَلِك فَوَجَبَ أَن تكون مواساة أهل العاهات سنة مسلمة بَين النَّاس، وَأَن تكون صلَة الرَّحِم أوكد، وَأَشد من ذَلِك كُله.
ومعظم مسَائِل هَذَا الْفَنّ معرفَة الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للزواج وَتَركه وَسنة الزواج وَصفَة الزَّوْج وَالزَّوْجَة، وَمَا على الزَّوْج من حسن المعاشرة وصيانة الْحرم عَن الْفَوَاحِش والعار، وَمَا على الْمَرْأَة من التعفف وَطَاعَة الزَّوْج
وبذل الطَّاقَة فِي مصَالح الْمنزل وَكَيْفِيَّة صلح المتناشزين وَسنة الطَّلَاق وإحداد المتوفي عَنْهَا زَوجهَا وحضانة الْأَوْلَاد وبر الولداين وسياسة المماليك وَالْإِحْسَان إِلَيْهِم وَقيام المماليك بِخِدْمَة الموَالِي وَسنة الْإِعْتَاق وصلَة الْأَرْحَام وَالْجِيرَان وَالْقِيَام بمواساة فُقَرَاء الْبَلَد والتعاون فِي دفع عاهات طارئة عَلَيْهِم، وأدب نقيب الْقَبِيلَة وتعهده حَالهم، وَقِسْمَة التركات بَين الْوَرَثَة والمحافظة على الْأَنْسَاب والأحساب، فَلَنْ تَجِد أمة من النَّاس إِلَّا وهم يَعْتَقِدُونَ أصُول هَذِه الْأَبْوَاب ويجتهدون فِي إِقَامَتهَا على اخْتِلَاف أديانهم وتباعد بلدانهم وَالله أعلم.
(بَاب فن الْمُعَامَلَات)
وَهُوَ الْحِكْمَة الباحثة عَن كَيْفيَّة إِقَامَة المبادلات والمعاونات والإكساب على الارتفاق الثَّانِي.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَنه لما ازدحمت الْحَاجَات، وَطلب الإتقان فِيهَا، وَأَن تكون على وَجه تقر بِهِ الْأَعْين، وتلذ بِهِ الْأَنْفس تعذر إِقَامَتهَا من كل وَاحِد وَكَانَ بَعضهم وجد طَعَاما فَاضلا عَن حَاجته، وَلم يجد مَاء وَبَعْضهمْ مَاء فَاضلا وَلم يجد طَعَاما فَرغب كل وَاحِد فِيمَا عِنْد الآخر، فَلم يَجدوا سَبِيلا إِلَّا الْمُبَادلَة، فَوَقَعت تِلْكَ الْمُبَادلَة بموقع من حَاجتهم فَاصْطَلَحُوا بِالضَّرُورَةِ على أَن يقبل كل وَاحِد على إِقَامَة حَاجَة وَاحِدَة وإتقانها وَالسَّعْي فِي جَمِيع أدواتها ويجعلها ذَرِيعَة إِلَى سَائِر الْحَوَائِج بِوَاسِطَة المبادلات، وَصَارَت تِلْكَ سنة مسلمة عِنْدهم، وَلما كَانَ كثير من النَّاس يرغب فِي شَيْء وَعَن شَيْء، فَلَا يجد من يعامله فِي تِلْكَ الْحَالة، اضطروا إِلَى تقدمة وتهيئة، واندفعوا إِلَى الِاصْطِلَاح على جَوَاهِر معدنية تبقى زَمَانا طَويلا أَن تكون الْمُعَامَلَة بهَا أمرا مُسلما عِنْدهم، وَكَانَ الْأَلْيَق من بَينهَا، الذَّهَب

(1/90)


وَالْفِضَّة لصِغَر حجمهما، وتماثل أفرادهما، وَعظم نفعهما فِي بدن الْإِنْسَان ولتأتي التجمل بهما، فَكَانَا نقدين بالطبع، وَكَانَ غَيرهمَا نَقْدا بالاصطلاح.
وأصول المكاسب الزَّرْع والرعي والتقاط الْأَمْوَال الْمُبَاحَة من الْبر وَالْبَحْر من الْمَعْدن والنبات وَالْحَيَوَان والصناعات من نجارة وحدادة وحياكة
وَغَيرهَا مِمَّا هُوَ من جعل الْجَوَاهِر الطبيعية بِحَيْثُ يَتَأَتَّى مِنْهَا الارتفاق الْمَطْلُوب ثمَّ صَارَت التِّجَارَة كسبا، ثمَّ صَار الإقبال على كل مَا يحْتَاج النَّاس إِلَيْهِ كسبا.
وَكلما رقت النُّفُوس وأمعنت فِي حب اللَّذَّة والرفاهية، تفرعت حَوَاشِي المكاسب، واختص كل رجل بكسب لأحد شَيْئَيْنِ مُنَاسبَة الْقوي فالرجل الشجاع يُنَاسب الْغَزْو، والكيس الْحَافِظ يُنَاسب الْحساب، وَقَوي الْبَطْش يُنَاسب حمل الأثقال وشاق الْأَعْمَال، واتفاقات تُوجد فولد الْحداد وجاره يَتَيَسَّر لَهُ من صناعَة الحدادة مَا لَا يَتَيَسَّر لَهُ من غَيرهَا وَلَا لغيره مِنْهَا، وقاطن سَاحل الْبَحْر يَتَأَتَّى مِنْهُ صيد الْحيتَان دون غَيره وَدون غَيرهَا، وَبقيت نفوس أعيت بهَا الْمذَاهب الصَّالِحَة، فانحدروا إِلَى أكساب ضاره بِالْمَدِينَةِ كالسرقة والقمار والتكدى.
والمبادلة إِمَّا عين بِعَين، وَهُوَ البيع، أَو عين بِمَنْفَعَة، وَهِي الْإِجَارَة، وَلما كَانَ انتظام الْمَدِينَة لَا يتم إِلَّا بإنشاء ألفة ومحبة بَينهم، وَكَانَت الألفة كثيرا مَا تُفْضِي إِلَى بذل الْمُحْتَاج إِلَيْهِ بِلَا بدل أَو تتَوَقَّف عَلَيْهِ انشعبت الْهِبَة وَالْعَارِية، وَلَا تتمّ أَيْضا إِلَّا بمواساة الْفُقَرَاء انشعبت الصَّدَقَة وأوجبت المعدات أَن يكون مِنْهُم الأخرق وَالْكَافِي والمملق والمثري والمستنكف من الْأَعْمَال الخسيسة وَغير المستنكف وَالَّذِي ازدحمت عَلَيْهِ الْحَاجَات والمتفرغ، فَكَانَ معاش كل وَاحِد لَا يتم إِلَّا بمعاونة آخر، وَلَا معاونة إِلَّا بِعقد وشروط واصطلاح على سنة، فانشعبت الْمُزَارعَة وَالْمُضَاربَة وَالْإِجَارَة وَالشَّرِكَة وَالتَّوْكِيل، وَوَقعت حاجات تَسوق إِلَى مداينة ووديعة، وجربوا الْخِيَانَة والجحود والمطل فاضطروا إِلَى إِشْهَاد وَكِتَابَة وثائق وَرهن وكفالة وحوالة، وَكلما ترفهت النُّفُوس انشعبت أنوع المعاونات، وَلنْ تَجِد أمة من النَّاس إِلَّا ويباشرون هَذِه الْمُعَامَلَات ويعرفون الْعدْل من الظُّلم وَالله أعلم.

(1/91)


(بَاب سياسة الْمَدِينَة)
وَهِي الْحِكْمَة الباحثة عَن كَيْفيَّة حفظ الرَّبْط الْوَاقِع بَين أهل الْمَدِينَة - وأعني بِالْمَدِينَةِ جمَاعَة مُتَقَارِبَة تجْرِي بَينهم الْمُعَامَلَات وَيَكُونُونَ أهل منَازِل شَتَّى.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَن الْمَدِينَة شخص وَاحِد من جِهَة ذَلِك الرَّبْط مركب من أَجزَاء وهيئة اجتماعية، وكل مركب يُمكن أَن يلْحقهُ خلل فِي مادته أَو صورته ويلحقه مرض أَعنِي حَالَة غَيرهَا أليق بِهِ بِاعْتِبَار نَوعه، وَصِحَّة أَي حَالَة تُحسنهُ وتجمله.
وَلما كَانَت الْمَدِينَة ذَات اجْتِمَاع عَظِيم لَا يُمكن أَن يتَّفق رَأْيهمْ جَمِيعًا على حفظ السّنة العادلة، وَلَا أَن يُنكر بَعضهم على بعض من غير أَن يمتاز بِمنْصب إِذا يُفْضِي ذَلِك إِلَى مقاتلات عريضة لم يَنْتَظِم أمرهَا إِلَّا بِرَجُل أصطلح على طَاعَته جُمْهُور أهل الْحل وَالْعقد لَهُ أعوان وشوكة، وكل من كَانَ أشح وَأحد وَأَجرا على الْقَتْل وَالْغَضَب، فَهُوَ أَشد حَاجَة إِلَى السياسة
وَمن الْخلَل أَن تَجْتَمِع أنفس شريرة لَهُم مَنْعَة وشوكة على اتِّبَاع الْهوى ورفض السّنة العادلة، إِمَّا طَمَعا فِي أَمْوَال النَّاس، وهم قطاع الطّرق، أَو إِضْرَارًا لَهُم بغضب أَو حقد أَو رَغْبَة فِي الْملك، فَيحْتَاج فِي ذَلِك إِلَى جمع رجال وَنصب قتال.
وَمِنْه إِصَابَة ظَالِم إنْسَانا بقتل أَو جرح أَو ضرب أَو فِي أَهله بِأَن يزاحم على زَوجته، أَو يطْمع فِي بَنَاته وأخواته لغير حق، أَو فِي مَاله من غضب جهرة أَو سَرقَة خُفْيَة، أَو فِي عرضه من نسبته إِلَى أَمر قَبِيح يلام بِهِ أَو إغلاظ القَوْل عَلَيْهِ.
وَمِنْه أَعمال ضارة بِالْمَدِينَةِ ضَرَرا خفِيا كالسحر ودس السم وَتَعْلِيم النَّاس الْفساد وتخبيب الرّعية على الْملك وَالْعَبْد على مَوْلَاهُ وَالزَّوْجَة على زَوجهَا
وَمِنْه عادات فَاسِدَة فِيهَا إهمال للارتفاقات الْوَاجِبَة كاللواطة والسحاقة وإتيان الْبَهَائِم، فَإِنَّهُ تصد عَن النِّكَاح أَو انسلاخ عَن الْفطْرَة السليمة كَالرّجلِ يؤنث وَالْمَرْأَة تذكر، أَو حُدُوث لمنازعات عريضة كالمزاحمة على الْمَوْطُوءَة من غير اخْتِصَاص بهَا وكإدمان الْخمر.
وَمِنْه معاملات ضارة بِالْمَدِينَةِ كالقمار والربا أضعافاً مضاعفة والرشوة وتطفيف الْكَيْل وَالْوَزْن والتدليس فِي السّلع وتلقي الجلب والاحتكار والنجش.
وَمِنْه خصومات مشكلة يتَمَسَّك فِيهَا كل بِشُبْهَة، وَلَا تنكشف جلية الْحَال، فَيحْتَاج إِلَى

(1/92)


التَّمَسُّك بِالْبَيِّنَاتِ وَالْإِيمَان والوثائق وقرائن الْحَال وَنَحْوهَا، وردهَا إِلَى سنة مسلمة، وإبداء وَجه التَّرْجِيح، وَمَعْرِفَة مكايد المتخاصمين وَنَحْو ذَلِك.
وَمِنْه أَن يَبْدُو أهل الْمَدِينَة ويكتفوا بالارتفاق الأول، أَو يتمدنوا فِي غير هَذِه الْمَدِينَة، أَو يكون توزعهم فِي الإقبال على الاكساب بِحَيْثُ يضر بِالْمَدِينَةِ مثل أَن يقبل أَكْثَرهم على التِّجَارَة، وَيَدْعُو الزِّرَاعَة، أَو يتكسب أَكْثَرهم بالغزو وَنَحْوه، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يكون الزراع بِمَنْزِلَة الطَّعَام والصناع والتجار والحفظة بِمَنْزِلَة الْملح المصلح لَهُ.
وَمِنْه انتشار السبَاع الضارية والهوام المؤذية، فَيجب السَّعْي فِي إفنائها وَمن بَاب كَمَال الْحِفْظ بِنَاء الْأَبْنِيَة الَّتِي يشتركون فِي الِانْتِفَاع بهَا كالأسوار والربط والحصون والثغور والأسواق والقناطر.
وَمِنْه حفر الْآبَار واستنباط الْعُيُون وتهيئة السفن على سواحل الْأَنْهَار.
وَمِنْه حمل التُّجَّار على الْميرَة بتأنيسهم وتأليفهم وتوصية أهل الْبَلَد أَن يحسنوا الْمُعَامَلَة مَعَ الغرباء، فَإِن ذَلِك يفتح بَاب كَثْرَة ورودهم، وَحمل الزراع على أَلا يتْركُوا أَرضًا مُهْملَة، والصناع أَن يحسنوا الصناعات، ويتقنوها، وَأهل الْبَلَد على اكْتِسَاب الْفَضَائِل كالخط والحساب والتاريخ والطب وَالْوُجُوه الصَّحِيحَة من تقدمة الْمعرفَة.
وَمِنْه معرفَة أَخْبَار الْبَلَد ليتميز الداعر من الناصح، وليعلم الْمُحْتَاج، فيعان وَصَاحب صَنْعَة مرغوبة، فيستعان بِهِ.
وغالب سَبَب خراب الْبلدَانِ فِي هَذَا الزَّمَان شَيْئَانِ أَحدهمَا تضييقهم على بَيت المَال بِأَن يعتادوا التكسب بِالْأَخْذِ مِنْهُ على أَنهم من الْغُزَاة، أَو من الْعلمَاء الَّذين لَهُم حق فِيهِ، أَو من الَّذين جرت عَادَة الْمُلُوك بصلتهم كالزهاد وَالشعرَاء، أَو بِوَجْه من وُجُوه التكدي، وَيكون الْعُمْدَة عِنْدهم هُوَ التكسب دون الْقيام بِالْمَصْلَحَةِ، فَيدْخل قوم على قوم، فينغصون عَلَيْهِم، ويصيرون كلا على الْمَدِينَة.
وَالثَّانِي ضرب الضرائب الثَّقِيلَة على الزراع والتجار والمتحرفة وَالتَّشْدِيد عَلَيْهِم حَتَّى يُفْضِي إِلَى إجحاف المطاوعين واستئصالهم، وَإِلَى تمنع أولي بَأْس شَدِيد وبغيهم وَإِنَّمَا تصلح الْمَدِينَة بالجباية الْيَسِيرَة وَإِقَامَة الْحفظَة بِقدر الضَّرُورَة، قليتنبه أهل الزَّمَان لهَذِهِ النُّكْتَة وَالله أعلم.

(1/93)


(بَاب سيرة الْمُلُوك)
يجب أَن يكون الْملك متصفا بالأخلاق المرضية، وَإِلَّا كَانَ كلا على الْمَدِينَة، فَإِن لم يكن شجاعا ضعف عَن مقاومة الْمُحَاربين، وَلم تنظر إِلَيْهِ الرّعية
إِلَّا بِعَين الهوان، وَإِن لم يكن حَلِيمًا كَاد يُهْلِكهُمْ بسطوته، وَإِن لم يكن حكيما لم يستنبط التَّدْبِير المصلح، وَأَن يكون عَاقِلا بَالغا حرا ذكرا ذار أَي وَسمع وبصر ونطق مِمَّن سلم النَّاس شرفه وَشرف قومه، وَرَأَوا مِنْهُ وَمن آبَائِهِ المآثر الحميدة، وَعرفُوا أَنه لَا يألو جهدا فِي إصْلَاح الْمَدِينَة، هَذَا كُله يدل عَلَيْهِ الْعقل، وأجمعت عَلَيْهِ أُمَم بني آدم على تبَاعد بلداتهم وَاخْتِلَاف أديانهم لما أحسوا من أَن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة من نصب الْملك لَا تتمّ إِلَّا بِهِ، فَإِن وَقع شَيْء من إهماله رَأَوْهُ خلاف مَا يَنْبَغِي، وكرهته قُلُوبهم، وَلَو سكتوا سكتوا على غيظ.
وَلَا بُد للْملك من إنْشَاء الجاه فِي قُلُوب رَعيته، ثمَّ حفظه وتدارك الخادشات لَهُ بتدبيرات مُنَاسبَة، وَمن قصد الجاه فَعَلَيهِ أَن يتحلى بالأخلاق الفاضلة مِمَّا يُنَاسب رياسته كالشجاعة وَالْحكمَة والسخاوة وَالْعَفو عَمَّن ظلم وارادة نفع الْعَامَّة، وَيفْعل بِالنَّاسِ مَا يفعل الصياد بالوحش، فَكَمَا أَن الصياد يذهب إِلَى الغيضة، فَينْظر إِلَى الظباء، ويتأمل الْهَيْئَة الْمُنَاسبَة لطبائعها وعاداتها، فيتهيأ بِتِلْكَ الْهَيْئَة، ثمَّ يبرز لَهَا من بعيد، وَيقصر النّظر على عيونها وآذانها، فمهما عرف مِنْهَا تيقظا أَقَامَ بمكانه كَأَنَّهُ جماد لَيْسَ بِهِ حراك، وَمهما عرف مِنْهَا غَفلَة دب إِلَيْهَا دبيبا، وَرُبمَا أطر بهَا بالنغم، وَألقى إِلَيْهَا أطيب مَا ترومه من الْعلف على أَنه صَاحب كرم بالطبع، وَأَنه لم يقْصد بذلك صيدها، وَالنعَم تورث حب الْمُنعم، وَقيد الْمحبَّة أوثق من قيد الْحَدِيد، فَكَذَلِك الرجل الَّذِي يبرز إِلَى النَّاس يَنْبَغِي أَن يُؤثر هَيْئَة ترغب فِيهَا النُّفُوس من زِيّ ومنطق وأدب.
ثمَّ يتَقرَّب مِنْهُم هونا، وَيظْهر إِلَيْهِم النصح والمحبة من غير مجازفة وَلَا ظُهُور قرينَة تدل على أَن ذَلِك لصيدهم، ثمَّ يعلمهُمْ أَن نَظِيره كالممتنع فِي حَقهم حَتَّى يرى أَن نُفُوسهم قد طمأنت بفضله وتقدمه، وصدورهم قد
امْتَلَأت مَوَدَّة وتعظيما، وجوارحهم تدابت خشوعا وإخباتا، ثمَّ ليحفظ ذَلِك فيهم، فَلَا يكن مِنْهُ مَا يَخْتَلِفُونَ بِهِ عَلَيْهِ، فَإِن فرط شَيْء من ذَلِك، فليتداركه بلطف وإحسان وَإِظْهَار أَن الْمصلحَة حكمت بِمَا فعل، وَأَنه لَهُم لَا عَلَيْهِم.

(1/94)


وَالْملك مَعَ ذَلِك يحْتَاج إِلَى إِيجَاب طَاعَته بالانتقام مِمَّن عَصَاهُ، فمهما استشعر من رجل كِفَايَة فِي حَرْب أَو جباية أَو تَدْبِير، فليضاعف عطاءه، وليرفع قدره، ولبسط لَهُ بشره، وَمهما استشعر مِنْهُ خِيَانَة وتخلفا وانسلالا، فلينقص من عطائه، وليخفض من قدره، وليطو عَنهُ بشره، وَإِلَى يسَار أكمل من يسَار النَّاس، وَليكن مِمَّا لَا يضيق عَلَيْهِم كموات يحييه وناحية بعيدَة يحميها وَنَحْو ذَلِك وَإِلَى أَلا يبطش بِأحد إِلَّا بعد أَن يصحح على أهل الْحل وَالْعقد أَنه يسْتَحقّهُ، وَأَن الْمصلحَة الْكُلية حاكمة بِهِ.
وَلَا بُد للْملك من فراسة يتعرف بهَا مَا أضمرت نُفُوسهم، وَيكون ألمعيا يظنّ بك الظَّن كَأَن قد رأى وَقد سمع، وَيجب عَلَيْهِ إِلَّا لَا يُؤَخر مَا لَا بُد مِنْهُ إِلَى غَد، وَلَا يصبر إِن رأى مِنْهُم أحدا يضمر عداوته دون فك نظامه وإضعاف قوته وَالله أعلم.
(بَاب سياسة الأعوان)
لما كَانَ الْملك لَا يَسْتَطِيع إِقَامَة هَذِه الْمصَالح كلهَا بِنَفسِهِ وَجب أَن يكون لَهُ بِإِزَاءِ كل حَاجَة أعوان، وَمن شَرط الأعوان الْأَمَانَة وَالْقُدْرَة على إِقَامَة مَا أمروا بِهِ وانقيادهم للْملك والنصح لَهُ ظَاهرا أَو بَاطِنا، وكل من خَالف هَذِه الشريطة فقد اسْتحق الْعَزْل، فَإِن أهمل الْملك عَزله، فقد خَان الْمَدِينَة، وأفسد على نَفسه أمره، وَيَنْبَغِي أَنه لَا يتَّخذ الأعوان مِمَّن يتَعَذَّر عَزله، أَو مِمَّن لَهُ حق على الْملك من قرَابَة أَو نَحْوهَا، فيقبح عَزله، وليميز الْملك
بَين محبيه، فَمنهمْ من يُحِبهُ لرهبة أَو لرغبته، فليجره إِلَيْهِ بحيلة، وَمِنْهُم من يُحِبهُ لذاته، وَيكون نَفعه نفعا لَهُ، وضرره ضَرَرا عَلَيْهِ، فَذَلِك الْمُحب الناصح وَلكُل إِنْسَان جبلة جبل عَلَيْهَا وَعَادَة اعتادها، وَلَا يَنْبَغِي للْملك أَن يَرْجُو من أحد أَكثر مِمَّا عِنْده.
والأعوان إِمَّا حفظه من شَرّ الْمُخَالفين بِمَنْزِلَة الْيَدَيْنِ الحاملتين للسلاح من بدن الْإِنْسَان، وَإِمَّا مدبرون للمدينة بِمَنْزِلَة الْقُوَّة الطبيعية من الْإِنْسَان أَو المشاورون للْملك بِمَنْزِلَة الْعقل والحواس للْإنْسَان.
وَيجب على الْملك أَن يسْأَل كل يَوْم مَا فيهم من الْأَخْبَار، وَيعلم مَا وَقع من الْإِصْلَاح وضده.

(1/95)


وَلما كَانَ الْملك وأعوانه عاملين للمدينة عملا نَافِعًا وَجب أَن يكون رزقهم عَلَيْهَا، وَلَا بُد أَن يكون بجباية العشور وَالْخَرَاج سنة عادلة لَا تضر بهم، وَقد كفت الْحَاجة، وَلَا يَنْبَغِي أَن يضْرب على كل أحد وَفِي كل مَال، وَالْأَمر مَا أَجمعت مُلُوك الْأُمَم من مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا أَن تكون الجباية من أهل الدُّثُور والقناطير المقنطرة، وَمن الْأَمْوَال النامية كماشية متناسلة وزراعة وتجارة، فَإِن احْتِيجَ إِلَى أَكثر من ذَلِك، فعلى رُءُوس الكاسبين:
وَلَا بُد للْملك من سياسة جُنُوده، وَطَرِيق السياسة مَا يَفْعَله الرائض الماهر بفرسه حَيْثُ يتعرف أَصْنَاف الجري من إرفال وهرولة وعدو وَغَيرهَا، والعادات الذميمة من حرونة وَنَحْوهَا، والأمور الَّتِي تنبه الْفرس تَنْبِيها بليغا كالنخس والزجر وَالسَّوْط، ثمَّ يراقبه، فَكلما فعل مَا لَا يرتضيه، أَو ترك مَا يرتضيه ينبهه بِمَا ينقاد لَهُ طبعه، وتنكسر بِهِ سورته، وليقصد فِي ذَلِك أَلا يتشوش خاطره، فَلَا يتفطن لماذا ضربه، ولتكن صُورَة الْأَمر الَّذِي يلقيه إِلَيْهِ متمثله فِي صَدره منعقدة فِي قلبه وَالْخَوْف من المجازاه مُقيما فِي
خاطره، ثمَّ إِذا حصل فعل الْمَطْلُوب والكف عَن المهروب لَا يَنْبَغِي أَن يتْرك الرياضة حَتَّى يرى أَن الطَّرِيقَة الْمَطْلُوبَة صَارَت خلقا لَهُ وديدنا، وَصَارَ بِحَيْثُ لَوْلَا الزّجر لما ركن إِلَى خلَافهَا، فَكَذَلِك يجب على رائض الْجنُود أَن يعرف الطَّرِيقَة الْمَطْلُوبَة فعلا وكفا والأمور الَّتِي يَقع بهَا تنبيههم، وَليكن من شَأْنه أَلا يهمل شَيْء من ذَلِك أبدا.
وَلَيْسَ للأعوان حصر فِي عدد لكنه يَدُور على دوران حاجات الْمَدِينَة، فَرُبمَا تقع الْحَاجة إِلَى اتِّخَاذ عونين فِي حَاجَة، وَرُبمَا كفا عون لحاجتين، غير أَن رُءُوس الأعوان خَمْسَة.
القَاضِي، وَليكن حرا ذكرا بَالغا عَاقِلا كَافِيا عَارِفًا بِسنة الْمُعَامَلَات وبمكايد الْخُصُوم فِي اختصامهم، وَليكن صلبا حَلِيمًا جَامعا للأمرين، ولينظر فِي مقامين: أَحدهمَا معرفَة جلية الْحَال، وَهِي إِمَّا عقد أَو مظْلمَة أَو سَابِقَة بَينهمَا، وَثَانِيهمَا مَا يُرِيد كل وَاحِد من صَاحبه أَي الإراديتين أصوب وأرجح ولينظر فِي وَجه الْمعرفَة، فهنالك حجَّة لَا يريب فِيهَا النَّاس تَقْتَضِي الحكم الصراح، وَحجَّة لَيست بِذَاكَ تَقْتَضِي حكما دون الحكم الأول.
وأمير الْغُزَاة، وَليكن من شَأْنه معرفَة عدَّة الْحَرْب وتأليف الْأَبْطَال والشجعان وَمَعْرِفَة مبلغ كل رجل فِي النَّفْع وَكَيْفِيَّة تعبية الجيوش وَنصب الجواسيس والخبرة فِي بمكايد الْخُصُوم.

(1/96)


وسائس الْمَدِينَة، وَليكن مجربا قد عرف وُجُوه صَلَاح الْمَدِينَة وفسادها صلبا حَلِيمًا، وَليكن من قوم لَا يسكتون إِذا رَأَوْا خلاف مَا يرتضونه، وليتخذ لكل قوم نَقِيبًا مِنْهُم عَارِفًا؛ أخبارهم يَنْتَظِم بِهِ أَمرهم ويؤاخذه بِمَا عِنْدهم.
وَالْعَامِل، وَليكن عَارِفًا بكيفية جباية الْأَمْوَال وتفريقها على الْمُسْتَحقّين.
وَالْوَكِيل، المتكفل بمعاش الْملك فَإِنَّهُ مَعَ مَا بِهِ من الأشغال لَا يُمكن أَن يتفرغ إِلَى إصْلَاح معاشه
(بَاب الارتفاق الرَّابِع)
وَهِي الْحِكْمَة الباحثة عَن سياسة حكام المدن وملوكها، وَكَيْفِيَّة حفظ الرَّبْط الْوَاقِع بَين أهل الأقاليم، وَذَلِكَ أَنه لما انفرز كل ملك بمدينته، وجبي إِلَيْهِ الْأَمْوَال، وانظم إِلَيْهِ الْأَبْطَال أوجب اخْتِلَاف أمزجتهم وتشتت استعداداتهم أَن يكون فيهم الْجور وَترك السّنة الراشدة، وَأَن يطْمع بَعضهم فِي مَدِينَة الْآخِرَة، وَأَن يتحاسدوا، ويتقاتلوا باراء جزئية من نَحْو رَغْبَة فِي الْأَمْوَال والأراضي، أَو حسد وحقد، فَلَمَّا كثر ذَلِك فِي الْمُلُوك اضطروا إِلَى الْخَلِيفَة، وَهُوَ من حصل لَهُ من العساكر وَالْعدَد مَا يرى كالممتنع أَن يسلب رجل آخر ملكه، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يتَصَوَّر بعد بلَاء عَام وَجهد كَبِير واجتماعات كَثِيرَة وبذل أَمْوَال خطيرة تتقاصر الْأَنْفس دونهَا وتحيله الْعَادة، وَإِذا وجد الْخَلِيفَة، وَأحسن السِّيرَة فِي الأَرْض، وخضعت لَهُ الْجَبَابِرَة، وانقاد لَهُ الْمُلُوك تمت النِّعْمَة، واطمأنت الْبِلَاد والعباد، واضطر الْخَلِيفَة إِلَى إِقَامَة الْقِتَال دفعا للضَّرَر اللَّاحِق لَهُم من أنفس سبعية تنهب أَمْوَالهم، وَتَسْبِي ذَرَارِيهمْ، وتهتك حرمهم، وَهَذِه الْحَاجة هِيَ الَّتِي دعت بني إِسْرَائِيل إِلَى أَن قَالُوا لنَبِيّ لَهُم. {ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله}
وَابْتِدَاء إِذا أساءت أنفس شهوية أَو سبعية السِّيرَة، وأفسدوا فِي الأَرْض، فألهم الله سُبْحَانَهُ إِمَّا بِلَا وَاسِطَة أَو بِوَاسِطَة الْأَنْبِيَاء أَن يسلب شوكتهم، وَيقتل مِنْهُم من لَا سَبِيل لَهُ إِلَى الْإِصْلَاح أصلا، وهم فِي نوع الْإِنْسَان بِمَنْزِلَة
والعضو المؤف بالاكلة، وَهَذِه الْحَاجة

(1/97)


هِيَ الْمشَار إِلَيْهَا بقوله تَعَالَى:
{وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض لهدمت صوامع وَبيع} الْآيَة
وَقَوله تَعَالَى:
{وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة} .
وَلَا يتَصَوَّر للخليفة مقاتلة الْمُلُوك الْجَبَابِرَة وَإِزَالَة شوكتهم إِلَّا بأموال وَجمع رجال، وَلَا بُد فِي ذَلِك من معرفَة الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة لكل وَاحِد من الْقِتَال والهدنة، وَضرب الْخراج والجزية، وَأَن يتَأَمَّل أَولا مَا يقْصد بالمقاتلة من دفع مظْلمَة أَو إزهاق أنفس سبعية خبيثة لَا يرجي صَلَاحهَا، أَو كبت أنفس دونهَا فِي الْخبث بِإِزَالَة شوكتها، أَو كبت قوم مفسدين فِي الأَرْض بقتل رُءُوسهم المدبرين لَهُم أَو حَبسهم أَو حِيَازَة أَمْوَالهم وأراضيهم أَو صرف وُجُوه الرّعية عَنْهُم.
وَلَا يَنْبَغِي للخليفة أَن يقتحم لتَحْصِيل مقصد فِيمَا هُوَ أَشد مِنْهُ، فَلَا يقْصد حِيَازَة الْأَمْوَال بإفناء جمَاعَة صَالِحَة من الموافقين، وَلَا بُد من استمالة قُلُوب الْقَوْم وَمَعْرِفَة مبلغ نفع كل وَاحِد، فَلَا يعْتَمد على أَكثر مِمَّا هُوَ فِيهِ، والتنوية بشأن السراة والدهاة والتحريض على الْقِتَال ترغيبا وترهيبا وَليكن أول نظرة إِلَى تَفْرِيق جمعهم وتكليل حَدهمْ وإخافة قُلُوبهم حَتَّى يتمثلوا بَين يَدَيْهِ
لَا يَسْتَطِيعُونَ لأَنْفُسِهِمْ شَيْئا، فَإِذا ظفر بذلك فليتحقق فيهم ظَنّه الَّذِي زوره قبل الْحَرْب، فَإِن خَافَ مِنْهُم أَن يفسدوا تَارَة أُخْرَى ألزمهم خراجا منهكا وجزية مستأصلة، وَهدم صياصيهم، وجعلهم بِحَيْثُ لَا يُمكن لَهُم أَن يَفْعَلُوا فعلهم ذَلِك.
وَلما كَانَ الْخَلِيفَة حَافِظًا لصِحَّة مزاج حَاصِل من أخلاط متشاكسة جدا أوجب أَن يكون متيقظا، وَيبْعَث عيُونا فِي كل نَاحيَة، وَيسْتَعْمل فراسة نَافِذَة، وَإِذا رأى اجتماعا منعقدا من عساكره، فَلَا صَبر دون أَن ينصب اجتماعا آخر مثله مِمَّن تحيل الْعَادة مواطأتهم مَعَهم، وَإِذا رأى من رجل التمَاس خلَافَة، فَلَا صَبر دون اتقاء جرأته وَإِزَالَة شوكته وإضعاف قوته وَلَا بُد أَن يَجْعَل قبُول أمره والارتفاق على مناصحته سنة مسلمة عِنْدهم، وَلَا يَكْفِي فِي ذَلِك مُجَرّد الْقبُول، بل لَا بُد من أَمارَة ظَاهِرَة للقبول، بهَا يُؤَاخذ الرّعية، كالدعاء لَهُ

(1/98)


والتنويه بِشَأْنِهِ فِي الاجتماعات الْعَظِيمَة، وَأَن يوطنوا أنفسهم على زِيّ وهيئة أَمر بهَا الْخَلِيفَة، كالاصطلاح على الدَّنَانِير المنقوشة باسم الْخَلِيفَة فِي زَمَاننَا وَالله أعلم.
(بَاب اتِّفَاق النَّاس على أصُول الارتفاقات)
اعْلَم أَن الارتفاقات لَا تخلوا عَنْهَا مَدِينَة من الأقاليم المعمورة، وَلَا أمة من الْأُمَم أهل الأمزجة المعتدلة والأخلاق الفاضلة من لدن آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وأصولها مسلمة عِنْد الْكل قرنا بعد قرن وطبقة بعد طبقَة لم يزَالُوا يُنكرُونَ على من عصاها أَشد نَكِير، ويرونها أُمُور بديهية من شدَّة شهرتها، وَلَا يصدنك عَمَّا ذكرنَا اخْتلَافهمْ فِي صور الارتفاقات وفروعها، فاتفقوا مثلا على إِزَالَة نَتن الْمَوْتَى وَستر سوآتهم، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الصُّور، فَاخْتَارَ بَعضهم الدّفن فِي الأَرْض، وَبَعْضهمْ الحرق بالنَّار،
وَاتَّفَقُوا على تشهير أَمر النِّكَاح وتمييزه عَن السفاح على رُءُوس الأشهاد، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الصُّور، فَاخْتَارَ بَعضهم الشُّهُود والإيجاب وَالْقَبُول والوليمة، وَبَعْضهمْ الدُّف والغناء وَلبس ثِيَاب فاخرة لَا تلبس إِلَّا فِي الولائم الْكَبِيرَة، وَاتَّفَقُوا على زجر الزِّنَا والسراق ثمَّ اخْتلفُوا، فَاخْتَارَ بَعضهم الرَّجْم وَقطع الْيَد، وَبَعْضهمْ الضَّرْب والأليم وَالْحَبْس الوجيع والغرامات المنهكة، وَلَا يصدنك أَيْضا مُخَالفَة طائفتين، أَحدهمَا البلة الملتحقون بالبهائم مِمَّن لَا يشك الْجُمْهُور أَن أمزجتهم نَاقِصَة وعقولهم مخدجة، وصاروا يستدلون على بلاهتهم بِمَا يرَوْنَ من عدم تقييدهم أنفسهم بِتِلْكَ الْقُيُود، وَالثَّانيَِة الْفجار الَّذين لَو نقح مَا فِي قُلُوبهم ظهر أَنهم يَعْتَقِدُونَ الارتفاقات لَكِن تغلب عَلَيْهِم الشَّهَوَات، فيعصونها شَاهِدين على أنفسهم بِالْفُجُورِ، ويزنون ببنات النَّاس وأخواتهم، وَلَو زني ببناتهم وأخواتهم كَادُوا يتميزون من الغيظ، ويعلمون قطعا أَن النَّاس يصيبهم مَا أصَاب أولاء، وَإِن إِصَابَة هَذِه الْأُمُور مخلة بانتظام الْمَدِينَة لَكِن يعميهم الْهوى، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي السّرقَة وَالْغَصْب وَغَيرهمَا، وَلَا يَنْبَغِي أَن يظنّ أَنهم اتَّفقُوا على ذَلِك من غير شَيْء بِمَنْزِلَة الِاتِّفَاق على أَن يتغذى بِطَعَام وَاحِد أهل الْمَشَارِق والمغارب كلهم وَهل سفسطه أَشد من ذَلِك؟ بل الْفطْرَة السليمة حاكمة بِأَن النَّاس لم يتفقوا عَلَيْهَا مَعَ اخْتِلَاف أمزجتهم وتباعد بلدانهم وتشتت مذاهبهم وأديانهم إِلَّا لمناسبة فطرية متشعبة من الصُّورَة النوعية، وَمن حاجات كَثِيرَة الْوُقُوع يتوارد عَلَيْهَا أَفْرَاد النَّوْع، وَمن أَخْلَاق توجبها الصِّحَّة النوعية فِي أمزجة الْأَفْرَاد، وَلَو أَن إنْسَانا

(1/99)


نَشأ ببادية نائية عَن الْبلدَانِ، وَلم يتَعَلَّم من أحد رسما كَانَ لَهُ لَا جرم حاجات من الْجُوع والعطش والغلمة، واشتاق لَا محَالة إِلَى امْرَأَة، وَلَا بُد عِنْد صِحَة مزاجهما أَن يتَوَلَّد بَينهمَا أَوْلَاد، وَيضم أهل أَبْيَات، وينشأ فيهم معاملات، فينتظم الارتفاق الأول عَن آخِره، ثمَّ إِذا كَثُرُوا لَا بُد
أَن يكون فيهم أهل أَخْلَاق فاضلة تقع فيهم وقائع توجب سَائِر الارتفاقات وَالله أعلم.
(بَاب الرسوم السائرة فِي النَّاس)
اعْلَم أَن الرسوم من الارتفاقات هِيَ بِمَنْزِلَة الْقلب من جَسَد الْإِنْسَان، وَإِيَّاهَا قصدت الشَّرَائِع أَولا وبالذات، وعنها الْبَحْث فِي النواميس الإلهية، وإليها الإشارات، وَلها أَسبَاب تنشأ مِنْهَا كاستنباط الْحُكَمَاء، وكالهام الْحق فِي قُلُوب المؤيدين بِالنورِ الملكي، وَأَسْبَاب تَنْتَشِر بهَا فِي النَّاس، مثل كَونهَا سنة ملك كَبِير دَانَتْ لَهُ الرّقاب، أَو كَونهَا تَفْصِيلًا لما يجده النَّاس فِي صُدُورهمْ، فيتلقونها بِشَهَادَة قُلُوبهم، وَأَسْبَاب يعضون عَلَيْهَا بالنواجذ لأ أجلهَا من تجربة مجازاة غيبية على إهمالها، أَو وُقُوع فَسَاد فِي إغفالها، وكإقامة أهل الآراء الراشدة اللائمة على تَركهَا، وَنَحْو ذَلِك، والمستبصر رُبمَا يوفق لتصديق ذَلِك من إحْيَاء سنَن وإماتتها فِي كثير من الْبلدَانِ بنظائر مَا ذكرنَا.
وَالسّنَن السائرة وَإِن كَانَت من حق فِي أصل أمرهَا لكَونهَا حافظة على الارتفاقات الصَّالِحَة، ومفضية بأفراد الْإِنْسَان إِلَى كمالها النظري والعملي، ولولاها لالتحق أَكثر النَّاس بالبهائم، فكم من رجل يُبَاشر النِّكَاح والمعاملات على الْوَجْه الْمَطْلُوب، وَإِذا سُئِلَ عَن سَبَب تقيده بِتِلْكَ الْقُيُود لم يجد جَوَابا إِلَّا مُوَافقَة الْقَوْم، وَغَايَة جهده علم إجمالي لَا يعرب عَنهُ لِسَانه فظلا عَن تمهيد ارتفاقه، فَهَذَا لَو لم يلْتَزم سنة كَاد يلْتَحق بالبهائم، لَكِنَّهَا قد يَنْضَم مَعهَا بَاطِل، فيلبس على النَّاس سنتهمْ، وَذَلِكَ بِأَن يترأس قوم يغلب عَلَيْهِم الآراء الْجُزْئِيَّة دون الْمصَالح الْكُلية، فَيخْرجُونَ إِلَى أَعمال سبعية كَقطع الطَّرِيق أَو غضب أَو شهوية كاللواطة وتأنث الرِّجَال أَو أكساب ضارة
كالربا وتطفيف الْكَيْل وَالْوَزْن أَو عادات فِي الزي والولائم تميل إِلَى الْإِسْرَاف، وتحتاج إِلَى تعمق بليغ فِي الاكساب، أَو

(1/100)


الْإِكْثَار من المسليات بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى إهمال أَمر المعاش والمعاد كالمزامير وَالشطْرَنْج وصيد واقتناء الْحمام وَنَحْوهَا، أَو جبايات منهكة لأبناء السَّبِيل وخراج مستأصل للرعية، أَو التشاحح والتشاحن فِيمَا بَينهم، فيستحسنون أَن يفعلوها مَعَ النَّاس، وَلَا يستحسنون أَن يفعل ذَلِك مَعَهم، فَلَا يُنكر عَلَيْهِم أحد لجاههم وصولتهم فَيَجِيء فجرة الْقَوْم، فيقتدون بهم، وينصرونهم، ويبذلون السَّعْي فِي إِشَاعَة ذَلِك، وَيَجِيء قوم لم يخلق فِي قُلُوبهم ميل قوى إِلَى الْأَعْمَال الصَّالِحَة، وَلَا إِلَى أضدادها، فيحملهم مَا يرَوْنَ من الرؤساء على التَّمَسُّك بذلك، وَرُبمَا أعيت بهم الْمذَاهب الصَّالِحَة، وَيبقى قوم فطرتهم سوية فِي أخريات الْقَوْم لَا يخالطونهم، ويسكتون على غيظ فتنعقد سنة سَيِّئَة وتتأكد.
وَيجب بذل الْجهد على أهل الآراء الْكُلية فِي إِشَاعَة الْحق وتمشيته وإخمال الْبَاطِل، وصده، فَرُبمَا لم يُمكن ذَلِك إِلَّا بمخاصمات أَو مقاتلات، فيعد كل ذَلِك من أفضل أَعمال الْبر، وَإِذا انْعَقَدت سنة راشدة، فسلمها الْقَوْم عصرا بعد عصر، وَعَلَيْهَا كَانَ محياهم ومماتهم، ويبست عَلَيْهَا نُفُوسهم وعلومهم، فظنوها متلازمة لِلْأُصُولِ وجودا وعدما لم تكن إِرَادَة الْخُرُوج عَنْهَا وعصيانها إِلَّا مِمَّن سمجت نَفسه، وطاش عقله، وقويت شَهْوَته، واقتعد غاربه الْهوى، فَإِذا بَاشر الْخُرُوج أضمر فِي قلبه شَهَادَة على فجوره، وسدل حجاب بَينه وَبَين الْمصلحَة الْكُلية، فَإِذا كمل فعله صَار ذَلِك شرحا لمرضه النفساني، وَكَانَ ثلمة فِي دينه، فَإِذا تقرر ذَلِك تقررا بَينا ارْتَفَعت أدعية الْمَلأ الْأَعْلَى وتضرعت مِنْهُم لمن وَافق تِلْكَ السّنة وعَلى من خالفها، وانعقد فِي حَظِيرَة الْقُدس رضَا وَسخط عَمَّن بَاشَرَهَا، أَو عَلَيْهِ، وَإِذا كَانَت السّنَن كَذَلِك عدت من الْفطْرَة الَّتِي فطر الله النَّاس عَلَيْهَا وَالله أعلم.