حجة الله
البالغة
(المبحث الرَّابِع)
(مَبْحَث السَّعَادَة)
(بَاب حَقِيقَة السَّعَادَة)
اعْلَم أَن للْإنْسَان كمالا تَقْتَضِيه الصُّورَة النوعية، وكمالا
يَقْتَضِيهِ مَوْضُوع النَّوْع من الْجِنْس الْقَرِيب والبعيد، وسعادته
الَّتِي يضرّهُ فقدها، ويقصدها أهل الْعُقُول المستقيمة قصدا مؤكدا هُوَ
الأول، وَذَلِكَ أَنه قد يمدح فِي الْعَادة
(1/101)
بِصِفَات يُشَارك فِيهَا الْأَجْسَام
المعدنية، كالطول وَعظم الْقَامَة، فَإِن كَانَت السَّعَادَة هَذِه،
فالجبال أتم سَعَادَة، وصفات يُشَارك فِيهَا النَّبَات كالنمو الْمُنَاسب
وَالْخُرُوج إِلَى تخاطيط جميلَة وهيآت ناضرة، فَإِن كَانَت السَّعَادَة
هَذِه فالشقائق والأوراد أتم سَعَادَة، وصفات يُشَارك فِيهَا الْحَيَوَان،
كشدة الْبَطْش وجهورية الصَّوْت وَزِيَادَة الشبق وَكَثْرَة الْأكل وَالشرب
ووفور الْغَضَب والحسد، فَإِن كَانَت السَّعَادَة هَذِه فالحمار أتم
سَعَادَة، وصفات يخْتَص بهَا الْإِنْسَان كالأخلاق المهذبة والارتفاقات
الصَّالِحَة والصنائع الرفيعة والجاه الْعَظِيم، فبادئ الرَّأْي أَنَّهَا
سَعَادَة الْإِنْسَان، وَلذَلِك ترى كل أمة من أُمَم النَّاس يسْتَحبّ
أتمهَا عقلا وأسدها رَأيا أَن يكْتَسب هَذِه، وَيجْعَل مَا سواهَا
كَأَنَّهَا لَيْسَ صِفَات مدح، وَلَكِن الْأَمر إِلَى الْآن غير منقح لِأَن
أصل هَذِه مَوْجُود فِي أَفْرَاد الْحَيَوَان، فالشجاعة أَصْلهَا الْغَضَب
وَحب الانتقام والثبات فِي الشدائد والإقدام على المهالك، وَهَذِه كلهَا
موفرة فِي الفحول من الْبَهَائِم، لَكِن لَا تسمى شجاعة إِلَّا بعد مَا
يهذبها فيض النَّفس النطقية، فَتَصِير منقادة للْمصْلحَة الْكُلية منبعثة
من دَاعِيَة معقولة، وَكَذَلِكَ أصل الصناعات مَوْجُود فِي الْحَيَوَان
كالعصفور الَّذِي ينسج العش، بل رب صَنْعَة يصنعها الْحَيَوَان بطبيعته لَا
يتَمَكَّن مِنْهَا الْإِنْسَان بتجشم، كلا بل الْحق أَن هَذِه سَعَادَة
بِالْعرضِ وَأَن السَّعَادَة الْحَقِيقَة هِيَ انقياد البهيمية للنَّفس
النطقية، وَاتِّبَاع الْهوى لِلْعَقْلِ، وَكَون النَّفس الناطقة قاهرة على
البهيمية وَالْعقل غَالِبا على الْهوى وَسَائِر الخصوصيات ملغاة.
وَاعْلَم أَن الْأُمُور الَّتِي تشبك بالسعادة الْحَقِيقِيَّة على
قسمَيْنِ: قسم هُوَ من بَاب ظُهُور فيض النَّفس النطقية فِي المعاش بِحكم
الجبلة، وَلَا يُمكن أَن يحصل الْخلق الْمَطْلُوب بِهَذَا الْقسم، بل
رُبمَا يكون الغوص فِي تِلْكَ الْأَفْعَال بزينتها لَا سِيمَا بفكر جزئي
كَمَا هُوَ شَأْن النَّاقِص ضد الْكَمَال الْمَطْلُوب، كَالَّذي يقْصد
تَحْصِيل الشجَاعَة بإثارة الْغَضَب والمصارعة وَنَحْو ذَلِك، أَو الفصاحة
بِمَعْرِِفَة أشعار الْعَرَب وخطبهم، والأخلاق لَا تظهر إِلَى عِنْد
مزاحمات من نَبِي النَّوْع، والارتفاقات لَا تقتنص الابحاجات طارئه،
والصنائع لَا تتمّ إِلَّا بآلات ومادة، وَهَذِه كلهَا منقضية بِانْقِضَاء
الْحَيَاة الدُّنْيَا، فَإِن مَاتَ النَّاقِص فِي تِلْكَ الْحَالة، وَكَانَ
سمجا بَقِي عَارِيا عَن الْكَمَال وَإِن لزق بِنَفسِهِ صور هَذِه العلاقات
كَانَ الضَّرَر عَلَيْهِ أَشد من النَّفْع،
(1/102)
وَقسم إِنَّمَا روحه هَيْئَة إذعان
البهيمية للملكية بِأَن تتصرف حسب وحيها، وتنصبغ بصبغها، وتمنع الملكية
مِنْهَا بألا تقبل ألوانها الدنية، وَلَا تنطبع فِيهَا نقوشها الخسيسة،
كَمَا تنطبع نقوش الْخَاتم فِي الشمعة، وَلَا سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا
أَن تَقْتَضِي الملكية شَيْئا من ذَاتهَا، وتوحيه إِلَى البهيمية، وتقترحه
عَلَيْهَا، ومتنقاد لَهَا، وَلَا تبغي عَلَيْهَا، وَلَا تتمنع مِنْهَا،
ثمَّ تَقْتَضِي أَيْضا، فتنقاد هَذِه أَيْضا، ثمَّ، وَثمّ حَتَّى تعتاد
ذَلِك؛ وتتمرن، وَهَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي تقتضيها هَذِه من ذَاتهَا
وتقسر عَلَيْهَا تِلْكَ على رغم أنفها إِنَّمَا يكون من جنس مَا فِيهِ
انْشِرَاح لهَذِهِ وانقباض لتِلْك، وَذَلِكَ كالتشبه بالملكوت، والتطلع
للجبروت، فَإِنَّهَا خَاصَّة الملكية بعيدَة عَنْهَا البهيمية غَايَة
الْبعد، أَو يتْرك مَا تَقْتَضِيه البهيمية، وتستلذه، وتشتاق إِلَيْهِ فِي
غلوائها.
وَهَذَا الْقسم يُسمى بالعبادات والرياضات وَهِي شركات تَحْصِيل الْفَائِت
من الْخلق الْمَطْلُوب، فآل تَحْقِيق الْمقَام إِلَى أَن السَّعَادَة
الْحَقِيقِيَّة لَا تقتنص
إِلَّا بالعبادات، وَلذَلِك كَانَت الْمصلحَة الْكُلية تنادي أَفْرَاد
الْإِنْسَان من كوَّة الصُّورَة النوعية، وتأمرها أمرا مؤكدا أَن تجْعَل
إصْلَاح الصِّفَات الَّتِي هِيَ كَمَال ثَان بِقدر الضَّرُورَة، وَأَن
تجْعَل غَايَة همتها ومطمح بصرها تَهْذِيب النَّفس وتحليتها بهيآت تجعلها
شَبيهَة بِمَا فَوْقهَا من الْمَلأ الْأَعْلَى مستعدة لنزول أكوان الجبروت
والملكوت عَلَيْهَا، وَأَن تجْعَل البهيمية مذعنة للملكية مطيعة لَهَا منصة
لظُهُور أَحْكَامهَا.
وأفراد الْإِنْسَان عِنْد الصِّحَّة النوعية، وتمكين الْمَادَّة لظُهُور
أَحْكَام النَّوْع كَامِلَة وافرة تشتاق إِلَى هَذِه السَّعَادَة وتنجذب
إِلَيْهَا انجذاب الْحَدِيد إِلَى المغناطيس، وَذَلِكَ خلق خلق الله
النَّاس عَلَيْهِ، وفطرة فطرهم عَلَيْهَا، وَلِهَذَا مَا كَانَ فِي بني آدم
أمة من أهل المزاج المعتدل إِلَّا فِيهَا قوم من عظمائهم يهتمون بتكميل
هَذَا الْخلق، ويرونه السَّعَادَة القصوى، ويراهم الْمُلُوك والحكماء فَمن
دونهم فائزين بِمَا يجل عَن سعادات الدُّنْيَا كلهَا، ملتحقين
بِالْمَلَائِكَةِ، منخرطين فِي سلكهم، حَتَّى صَارُوا يتبركون بهم، ويقبلون
أَيْديهم وأرجلهم، فَهَل يُمكن أَن يتَّفق عرب النَّاس وعجمهم على
اخْتِلَاف عاداتهم وأديانهم وتباعد مساكنهم وبلدانهم على شَيْء، وَاحِد
وحدة نوعية إِلَّا لمناسبة فطرية، كَيفَ لَا وَقد عرفت أَن الملكية
مَوْجُودَة فِي أصل فطْرَة الْإِنْسَان، وَعرفت أفاضل النَّاس وأساطينهم من
هم، وَالله أعلم.
(1/103)
(بَاب اخْتِلَاف النَّاس فِي السَّعَادَة)
اعْلَم أَن الشجَاعَة وَسَائِر الْأَخْلَاق كَمَا يخْتَلف أَفْرَاد
الْإِنْسَان فِيهَا، فَمنهمْ الفاقد الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ حُصُولهَا
أبدا لقِيَام هَيْئَة مضادة فِي أصل جبلته، كالمخنث وَضَعِيف الْقلب جدا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشجَاعَة.
وَمِنْهُم الفاقد الَّذِي يُرْجَى لَهُ ذَلِك بعد ممارسة أَفعَال وأقوال
وهيآت تناسبها
وتلقي ذَلِك من أَهلهَا، وتذكر أَحَادِيث أئمتها وَمَا جرى عَلَيْهِم من
الْحَوَادِث فِي الْأَيَّام، فثبتوا فِي الشدائد، وأقدموا على المهالك.
وَمِنْهُم الَّذِي خلق فِيهِ أصل الْخلق، وَلَا تزَال تنبجس فِيهِ فلتات كل
حِين، فَإِن أَمر بِحَبْس نَفسه عَنْهَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْأَمر، وَسكت على
غيظ، وَأَن أَمر بِمَا يُنَاسب جبلته كَانَ كالكبريت يتَّصل بِهِ النَّار،
فَلَا يتراخى احتراقه
وَمِنْهُم الَّذِي خلق فِيهِ الْخلق كَامِلا وافرا، ويندفع إِلَى مقتضياته
ضَرُورَة، وَإِن دعِي إِلَى الْجُبْن أَشد دَعْوَة لم يقبل، ويتيسر لَهُ
الْخُرُوج إِلَى أَفعَال هَذَا الْخلق والهيآت الْمُنَاسبَة لَهُ بالطبع من
غير رسم وَلَا دَعْوَة، وَهَذَا هُوَ الإِمَام فِي هَذَا الْخلق لَا
يحْتَاج إِلَى إِمَام أصلا، وَيجب على الَّذين هم دونه فِي الْخلق أَن
يَتَمَسَّكُوا بسنته، ويعضوا بنواجذهم على رسومه، ويتكلفوا فِي محاكاة
هيئآته، ويتذكروا وقائعه، ليتحرجوا إِلَى الْكَمَال المتوقع لَهُم من
الْخلق بِحَسب مَا قدر لَهُم، فَكَذَلِك يَخْتَلِفُونَ فِي هَذَا الْخلق
الَّذِي عَلَيْهِ مدَار سعادتهم، فَمنهمْ الفاقد الَّذِي لَا يُرْجَى
صَلَاحه كَالَّذي قَتله الْخضر طبع كَافِرًا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَة فِي
قَوْله تَعَالَى:
{صم بكم عمي فهم لَا يرجعُونَ} .
وَمِنْهُم الفاقد الَّذِي يُرْجَى لَهُ ذَلِك بعد رياضات شاقة وأعمال
دِيمَة يُؤَاخذ بهَا نَفسه وَيحْتَاج إِلَى دَعْوَة حثيثة من الْأَنْبِيَاء
وَسنَن مأثورة مِنْهُم وَهَؤُلَاء أَكثر النَّاس وجودا، وهم المقصودون فِي
الْبعْثَة أَولا وبالذات.
وَمِنْهُم الَّذِي ركب فِيهِ الْخلق إِجْمَالا وينبجس مِنْهُ فلتاته إِلَّا
أَنه يحْتَاج فِي التَّفْصِيل وتمهيد الهيآت على مَا يُنَاسب الْخلق فِي
كثير مِمَّا يَنْبَغِي إِلَى إِمَام وَفِيه قَوْله تَعَالَى:
{يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار}
وهم السباق.
(1/104)
وَمِنْهُم الْأَنْبِيَاء يَتَأَتَّى لَهُم
الْخُرُوج إِلَى كَمَال هَذَا الْخلق وَاخْتِيَار هيآت مُنَاسبَة لَهُ
وَكَيْفِيَّة تَحْصِيل الْفَائِت وإبقاء الْحَاضِر وإتمام النَّاقِص من غير
إِمَام وَلَا دَعْوَة، فينتظم من جريانهم فِي مُقْتَضى جبلتهم سنَن يتذكرها
النَّاس، ويتخذونها دستورا، وَكَيف وَلما كَانَت الحدادة وَالتِّجَارَة
وأمثالهما لَا تَأتي من جُمْهُور النَّاس إِلَّا بسنن مأثورة عَن أسلافهم،
فَمَا ظَنك بِهَذِهِ المطالب الشَّرِيفَة الَّتِي لَا يَهْتَدِي إِلَيْهَا
إِلَّا الموفقون " وَمن هَذَا الْبَاب يَنْبَغِي أَن يعلم شدَّة الْحَاجة
إِلَى الْأَنْبِيَاء وَوُجُوب إتباع سنتهمْ والاشتغال بأحاديثهم وَالله
أعلم.
(بَاب توزع النَّاس فِي كَيْفيَّة تَحْصِيل هَذِه السَّعَادَة)
اعْلَم أَن هَذِه السَّعَادَة تحصل بِوَجْهَيْنِ، أَحدهمَا مَا هُوَ
كالانسلاخ عَن الطبيعية البهيمية، وَذَلِكَ أَن يتَمَسَّك بالحيل الجالبة
لركود أَحْكَام الطبيعة وخمود سورتها، وانطفاء لَهب علومها وحالاتها،
وَيقبل على التَّوَجُّه التَّام إِلَى مَا وَرَاء الْجِهَات من الجبروت،
وَقبُول النَّفس لعلوم مُفَارقَة عَن الزَّمَان وَالْمَكَان
بِالْكُلِّيَّةِ، ولذات مباينة اللَّذَّات المألوفة من كل وَجه، حَتَّى
يصير لَا يخالط النَّاس، وَلَا يرغب فِيمَا يرغبون، وَلَا يرهب مِمَّا
يرهبون، وَيكون مِنْهُم على طرف شاسع، وصقع بعيد، وَهَذَا الَّذِي يرومه
المتألهون من الْحُكَمَاء، والمجذبون من الصُّوفِيَّة، فوصل بَعضهم غَايَة
مداها، وَقَلِيل مَا هم وَبَقِي آخَرُونَ مشتاقين لَهَا، طامحة أَبْصَارهم
إِلَيْهَا، متكلفين لمحاكاة هيآتها.
وَثَانِيهمَا مَا هُوَ كالإصلاح للبهيمية وَالْإِقَامَة لعوجها مَعَ تعلق
أَصْلهَا، وَذَلِكَ أَن يسْعَى فِي محاكاة البهيمية مَا عِنْد النَّفس
النطقية بِأَفْعَال وهيآت وأذكار وَنَحْوهَا، كَمثل مَا يحاكي الْأَخْرَس
أَقْوَال النَّاس بإشاراته، والمصور
أحوالا نفسانية من الوجل والخجل بهيآت مبصرة يجدهَا متعانقة مَعَ تِلْكَ
الْأَحْوَال، والثكلى تفجعها بِكَلِمَات وترجيعات لَا يسْمعهَا أحد إِلَّا
حزن وتمثل عِنْده صُورَة التفجع.
وَلما كَانَ مبْنى التَّدْبِير الإلهي فِي الْعَالم على اخْتِيَار
الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، والأسهل فالأسهل، وَالنَّظَر إِلَى صَلَاح مَا
يجْرِي مجْرى جملَة أَفْرَاد النَّوْع دون الشاذة والفاذة، وَإِقَامَة
مصَالح الدَّاريْنِ من غير أَن ينخرم نظام شَيْء مِنْهُمَا اقْتضى لطف الله
وَرَحمته أَن يبْعَث الرُّسُل أَولا وبالذات لإِقَامَة الطَّرِيق
الثَّانِيَة، والدعوة إِلَيْهَا، والحث عَلَيْهَا، وَيدل على الأولى
بإشارات التزامية، وتلويحات تضمنية لَا غير، وَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة.
(1/105)
تَفْصِيل ذَلِك أَن الأولى إِنَّمَا تَأتي
من قوم ذَوي تجاذب، وَقَلِيل مَا هم، وبرياضات شاقة، وتفرغ قوى، وَقَلِيل
من يَفْعَلهَا، وَإِنَّمَا أئمتها قوم أهملوا معاشهم، وَلَا دَعْوَة لَهُم
فِي الدُّنْيَا، وَلَا تتمّ إِلَّا بِتَقْدِيم جملَة صَالِحَة من
الثَّانِيَة وَلَا يخلوا من إهمال إِحْدَى السعادتين إصْلَاح الارتفاقات
فِي الدُّنْيَا وَإِصْلَاح النَّفس للآخرة، فَلَو أَخذ بهَا أَكثر النَّاس
خربَتْ الدُّنْيَا، وَلَو كلفوا بهَا كَانَ كالتكاليف بالمحال، لِأَن
الارتفاقات صَارَت كالجبلة، وَالثَّانيَِة إِنَّمَا أئمتها المفهمون، وذوو
إصْلَاح، وهم القائمون برياسة الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا، ودعوتهم هِيَ
المقبولة، وسنتهم هِيَ المتبعة، وينحصر فِيهَا كَمَال المصطلحين من
السَّابِقين أَصْحَاب الْيَمين، وهم أَكثر النَّاس وجودا، ويتمكن مِنْهَا
الذكي والغبي، والمشتغل والفارغ، وَلَا حرج فِيهَا وتكفي العَبْد فِي
استقامة نَفسه، وَدفع أعوجاجها، وَدفع الآلام المتوقعة فِي الْمعَاد
عَنْهَا، إِذْ لكل نفس أَفعَال ملكية تتنعم بوجودها، وتتألم بفقدها أما
أَحْكَام التجرد فسيلقي إِلَيْهَا نشآت الْقَبْر والحشر من حَيْثُ لَا
يدْرِي بجبلتها وَلَو بعد حِين. ... ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا
... ويأتيك بالأخبار من لم تزَود ...
وَبِالْجُمْلَةِ فالإحاطة واستقصاء وُجُوه الْخَيْر كالمحال فِي حق
الْأَكْثَرين، وَالْجهل الْبَسِيط غير الضار، وَالله أعلم.
(بَاب الْأُصُول الَّتِي يرجع إِلَيْهَا تَحْصِيل الطَّرِيقَة الثَّانِيَة)
اعْلَم أَن طرق تَحْصِيل السَّعَادَة على الْوَجْه الثَّانِي كَثِيرَة جدا
غير أَنِّي فهمني الله تَعَالَى بفضله أَن مرجعها إِلَى خِصَال أَربع تتلبس
بهَا البهيمية مَتى غطتها النَّفس النطقية، وقسرتها على مَا يُنَاسِبهَا،
وَهِي أشبه حالات الْإِنْسَان بِصفة الْمَلأ الْأَعْلَى معدة للحوقة بهم،
وانخراطه فِي سلكهم، وفهمني أَنه إِنَّمَا بعث الْأَنْبِيَاء للدعوة
إِلَيْهَا والحث عَلَيْهَا وَأَن الشَّرَائِع تَفْصِيل لَهَا وراجعة
إِلَيْهَا.
أَحدهَا: الطَّهَارَة، وحقيقتها أَن الْإِنْسَان عِنْد سَلامَة فطرته
وَصِحَّة مزاجه وتفرع قلبه من الْأَحْوَال السلفية الشاغلة لَهُ عَن
التَّدْبِير إِذا تلطخ بالنجاسات، وَكَانَ حاقبا حاقنا قريب الْعَهْد من
الْجِمَاع ودواعيه، انقبضت نَفسه، وأصابه ضيق وحزن، وَوجد نَفسه فِي غاشية
عَظِيمَة، ثمَّ إِذا تخفف عَن الأخبثين، ودلك بدنه، واغتسل وَلبس أحسن
ثِيَابه، وتطيب انْدفع عَنهُ ذَلِك الانقباض، وَوجد مَكَانَهُ انشراحا
وسرورا وانبساطا كل ذَلِك لَا لمراءاة النَّاس وَالْحِفْظ على رسومه، بل
لحكم النَّفس النطقية فَقَط،
(1/106)
فالحالة الأولى تسمى حَدثا، وَالثَّانيَِة
الطَّهَارَة، والذكي من النَّاس، وَالَّذِي يرى مِنْهُ سَلامَة أَحْكَام
النَّوْع وتمكين الْمَادَّة لأحكام الصُّورَة النوعية يعرف الْحَالَتَيْنِ
متميزة كل وَاحِدَة من الْأُخْرَى، وَيُحب إِحْدَاهمَا، وَيبغض الْأُخْرَى
لطبيعته، والغبي مِنْهُم إِذا أَضْعَف شَيْئا من البهيمية، ولج بالطهارات
والتبتل، وتفرغ لمعرفتها، لَا بُد يعرفهما ويميز كل وَاحِدَة من
الْأُخْرَى، وَالطَّهَارَة أشبه الصِّفَات النسمية بحالات الْمَلأ
الْأَعْلَى فِي تجردها عَن الألواث البهيمية، وابتهاجها بِمَا عِنْدهَا من
النُّور، وَلذَلِك كَانَت معدة لتلبس النَّفس
بكمالها بِحَسب الْقُوَّة العملية، وَالْحَدَث إِذا تمكن من الْإِنْسَان
وأحاط بِهِ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه أورث لَهُ اسْتِعْدَادًا لقبُول
وساوس الشَّيَاطِين ورؤيتهم بحاسة الْحس الْمُشْتَرك، ولمنامات موحشة،
ولظهور الظلمَة عَلَيْهِ فِيمَا يَلِي النَّفس النطقية، وتمثل
الْحَيَوَانَات الملعونة اللئيمة وَإِذا تمكنت الطَّهَارَة مِنْهُ، وأحاطت
بِهِ، وتنبه لَهَا، وركن إِلَيْهَا أورثت اسْتِعْدَادًا لقبُول إلهامات
الْمَلَائِكَة ورؤيتها، ولمنامات صَالِحَة، ولظهور الْأَنْوَار، وتمثل
الطَّيِّبَات والأشياء الْمُبَارَكَة المعظمة.
وَالثَّانيَِة: الإخبات لله تَعَالَى، وَحَقِيقَته أَن الْإِنْسَان عِنْد
سَلَامَته وتفرغه إِذا ذكر بآيَات الله تَعَالَى وَصِفَاته، وأمعن فِي
التَّذَكُّر تنبهت النَّفس النطقية، وخضعت الْحَواس والجسد لَهَا، وَصَارَت
كالحائرة الكليلة، وَوجد ميلًا إِلَى جَانب الْقُدس، وَكَانَ كَمثل
الْحَالة الَّتِي تعتري السوقة بِحَضْرَة الْمُلُوك، وملاحظة عجز أنفسهم،
واستبداد أُولَئِكَ بِالْمَنْعِ وَالعطَاء، وَهَذِه الْحَالة أقرب
الْحَالَات النسمية، وأشبهها بِحَال الْمَلأ الْأَعْلَى فِي توجهها إِلَى
بارئها، وهيمانها فِي جَلَاله، واستغراقها فِي تقديسه وَلذَلِك كَانَت معدة
لخُرُوج النَّفس إِلَى كمالها العلمي أَعنِي انتقاش الْمعرفَة الإلهية فِي
لوح ذهنها، واللحوق بتك الحضرة بِوَجْه من الْوُجُوه وَإِن كَانَت
الْعبارَة تقصر عَنهُ.
وَالثَّالِثَة: السماحة، وحقيقتها كَون النَّفس بِحَيْثُ لَا تنقاد لدواعي
الْقُوَّة البهيمية، وَلَا يتشبح فِيهَا نقوشها، وَلَا يلْحق بهَا ضَرَر
لوثها، وَذَلِكَ لِأَن النَّفس إِذا تصرفت فِي أَمر معاشها، وتاقت
للنِّسَاء، وعاسفت اللَّذَّات، أَو قرمت لطعام فاجتهدت فِي تَحْصِيله
حَتَّى استوفت مِنْهَا حَاجَتهَا، وَكَذَلِكَ إِذا غضِبت أَو شحت بِشَيْء،
فَإِنَّهَا لَا بُد فِي تِلْكَ الْحَالة تستغرق سَاعَة فِي هَذِه
الْكَيْفِيَّة لَا ترفع إِلَى مَا وَرَائِهَا النّظر أَلْبَتَّة، ثمَّ إِذا
زايلت تِلْكَ الْحَالة، فَإِن كَانَت سَمْحَة خرجت من تِلْكَ المضايق كَأَن
لم تكن فِيهَا قطّ، وَإِن كَانَت غير
(1/107)
ذَلِك فَإِنَّهَا تشتبك مَعهَا تِلْكَ
الكيفيات، وتتشبح كَمَا تتشبح نقوش الْخَاتم فِي الشمعة فَإِذا فَارَقت
الْجَسَد، وتخففت عَن العلائق الظلمانية المتراكمة، وَرجعت إِلَى مَا
عِنْدهَا لم تَجِد شَيْئا مِمَّا كَانَ فِي الدُّنْيَا من مخلفات الملكية
فَحصل لَهَا الْأنس، وَصَارَت فِي أرغد عَيْش.
والشحيحة تتمثل نقوشها عِنْدهَا، كَمَا ترى بعض النَّاس يسرق مِنْهُ مَال
نَفِيس فَإِن كَانَ سخيا لم يجدله بَالا، وَإِن كَانَ رَكِيك النَّفس صَار
كَالْمَجْنُونِ، وتمثلت عِنْده، والسماحة وضدها لَهما ألقاب كَثِيرَة
بِحَسب مَا يكونَانِ فِيهِ، فَمَا كَانَ مِنْهُمَا فِي المَال يُسمى سخاوة
وشحا، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة شَهْوَة الْفرج أَو الْبَطن يُسمى عفة
وشرة، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة الرَّفَاهِيَة والنبو عَن المشاق يُسمى
صبرا وهلعا، وَمَا كَانَ فِي دَاعِيَة الْمعاصِي الممنوعة عَنْهَا فِي
الشَّرْع يُسمى تقوى وفجورا، وَإِذا تمكنت السماحة من الْإِنْسَان بقيت
نَفسه عرية عَن شهوات الدُّنْيَا، واستعدت للذات الْعلية الْمُجَرَّدَة،
والسماحة هَيْئَة تمنع الْإِنْسَان من أَن يتَمَكَّن مِنْهُ ضد الْكَمَال
الْمَطْلُوب علما وَعَملا.
الرَّابِعَة الْعَدَالَة، وَهِي ملكة فِي النَّفس تصدر عَنْهَا الْأَفْعَال
الَّتِي يُقَام بهَا نظام الْمَدِينَة والحي بسهولة، وَتَكون النَّفس
كالمجبول على تِلْكَ الأفاعيل والسر فِي ذَلِك أَن الْمَلَائِكَة والنفوس
الْمُجَرَّدَة عَن العلائق الجسمانية ينطبع فِيهَا مَا أَرَادَ الله فِي
خلق الْعَالم من إصْلَاح النظام وَنَحْوه، فتنقلب مرضياتها إِلَى مَا
يُنَاسب ذَلِك النظام، فَهَذِهِ طبيعة الرّوح الْمُجَرَّدَة، فَإِن فَارَقت
جَسدهَا وفيهَا شَيْء من هَذِه الصّفة ابتهجت كل الابتهاج، وَوجدت سَبِيلا
إِلَى اللَّذَّة الْمُفَارقَة عَن اللَّذَّات الخسيسة، وَإِن فَارَقت
وفيهَا ضد هَذِه الْخصْلَة ضَاقَ
عَلَيْهَا الْحَال، وتوحشت، وتألمت، فَإِذا بعث الله نَبيا لإِقَامَة
الدّين، وليخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور، وَيقوم النَّاس
بِالْعَدْلِ، فَمن سعى فِي إِشَاعَة هَذَا النُّور، ووطأ لَهُ فِي النَّاس
كَانَ مرحوما، وَمن سعى لردها وإخمالها كَانَ ملعونا مرجوما، وَإِذا تمكنت
الْعَدَالَة من الْإِنْسَان وَقع اشْتِرَاك بَينه وَبَين حَملَة الْعَرْش
ومقربي الحضرة من الْمَلَائِكَة الَّذين هم وسائط نزُول الْجُود والبركات،
وَكَانَ ذَلِك بَابا مَفْتُوحًا بَينه وَبينهمْ، ومعدا لنزول ألوانهم
وصبغهم بِمَنْزِلَة تَمْكِين النَّفس من إلهام الْمَلَائِكَة والانبعاث
حسبها.
فَهَذِهِ الْخِصَال الْأَرْبَع إِن تحققت حَقِيقَتهَا، وفهمت كَيْفيَّة
اقتضائها للكمال العلمي والعملي وإعدادها للانسلاك فِي سلك الْمَلَائِكَة،
وفطنت كَيْفيَّة انشعاب الشَّرَائِع الإلهية بِحَسب كل عصر مِنْهَا -
أُوتيت الْخَيْر الْكثير، وَكنت فَقِيها فِي الدّين مِمَّن أَرَادَ الله
بهم خيرا،
(1/108)
وَالْحَالة المركبة مِنْهَا تسمى بالفطرة،
وللفطرة أَسبَاب تحصل بهَا، بَعْضهَا علمية، وَبَعضهَا عملية، وحجب تصد
الْإِنْسَان عَنْهَا، وحيل تكسر الْحجب، وَنحن نُرِيد أَن ننبهك على هَذِه
الْأُمُور، فاستمع لما يُتْلَى عَلَيْك بِتَوْفِيق الله تَعَالَى وَالله
أعلم.
(بَاب طَرِيق اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال وتكميل ناقصها ورد فائتها)
اعْلَم أَن اكْتِسَاب هَذِه الْخِصَال يكون بتدبيرين: تَدْبِير علمي،
وتدبير عَمَلي.
أما التَّدْبِير العلمي، فَإِنَّمَا احْتِيجَ لَهُ لِأَن الطبيعة منقادة
للقوى العلمية، وَلذَلِك ترى سُقُوط الشَّهْوَة والشبق عِنْد خطور مَا
يُورث فِي النَّفس كَيْفيَّة الْحيَاء أَو الْخَوْف، فَمَتَى امْتَلَأَ
علمه بِمَا يُنَاسب الْفطْرَة جر ذَلِك إِلَى تحققها فِي النَّفس، وَلذَلِك
أَن يعْتَقد أَن لَهُ رَبًّا منزها عَن الأدناس البشرية، لَا يعزب عَنهُ
مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء، مَا يكون من نجوى ثَلَاثَة
إِلَّا هُوَ رابعهم وَلَا خَمْسَة إِلَّا هُوَ سادسهم، يفعل مَا يَشَاء،
وَيحكم مَا يُرِيد لاراد لقضائه، وَلَا مَانع لحكمه، منعم بِأَصْل
الْوُجُود وتوابعه من النعم الجسمانية
والنفسانية، مجَاز على أَعماله، إِن خيرا فَخير، وَإِن شرا فشر، وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى: " أذْنب عَبدِي ذَنبا، فَعلم أَن لَهُ رَبًّا يغْفر
الذَّنب، وَيَأْخُذ بالذنب، قد غفرت لعبدي ".
وَبِالْجُمْلَةِ فيعتقد اعتقادا مؤكدا مَا يُفِيد الهيبة وَغَايَة
التَّعْظِيم، وَمَا لَا يبْقى وَلَا يذر فِي قلبه جنَاح بعوضة من إخبات
غَيره ورهبته، ويعتقد أَن كَمَال الْإِنْسَان أَن يتَوَجَّه إِلَى ربه،
ويعبده، وَأَن أحسن حالات الْبشر أَن يتشبه بِالْمَلَائِكَةِ، وَيَدْنُو
مِنْهُم، وَأَن هَذِه الْأُمُور مقربة لَهُ من ربه، وَأَن الله تَعَالَى
ارتضى مِنْهُم ذَلِك، وَأَنه حق الله عَلَيْهِ لَا بُد لَهُ توفيقه.
وَبِالْجُمْلَةِ فَيعلم علما لَا يحْتَمل النقيض أَن سعادته فِي اكْتِسَاب
هَذِه، وَأَن شقاوته فِي إهمالها، وَلَا بُد لَهُ من سَوط يُنَبه البهيمية
تَنْبِيها قَوِيا، ويزعجها إزعاجا شَدِيدا، وَاخْتلف مسالك الْأَنْبِيَاء
فِي ذَلِك فَكَانَ عُمْدَة مَا أنزل الله تَعَالَى على إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ السَّلَام التَّذْكِير بآيَات الله الباهرة وَصِفَاته الْعليا
ونعمه الآفاقية والنفسانية، حَتَّى يصحح بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ أَنه
حقيق أَن يبذلوا لَهُ الملاذ، وَأَن يؤثروا ذكره على مَا سواهُ، وَأَن
يحبوه حبا شَدِيدا، ويعبدوه بأقصى مجهودهم، وَضم الله مَعَه لمُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام التَّذْكِير بأيام الله، وَهُوَ بَيَان مجازاة الله
تَعَالَى للمطيعين والعصاة فِي الدُّنْيَا، وتقليبه النعم والنقم حَتَّى
يتَمَثَّل فِي صُدُورهمْ الْخَوْف من الْمعاصِي، ورغبة قَوِيَّة فِي
الطَّاعَات، وَضم مَعَهُمَا ل نَبينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْإِنْذَار والتبشير بحوادث الْقَبْر، وَمَا بعده، وَبَيَان خَواص الْبر
والاثم،
(1/109)
وَلَا يُفِيد أصل الْعلم بِهَذِهِ
الْأُمُور، بل لَا بُد من تكرارها وتردادها وملاحظتها كل حِين، وَجعلهَا
بَين عَيْنَيْهِ حَتَّى تمتلئ القوى العلمية بهَا، فتنقاد الْجَوَارِح
لَهَا، وَهَذِه الثَّلَاثَة مَعَ اثْنَيْنِ آخَرين أَحدهمَا بَيَان
الْأَحْكَام من الْوَاجِب وَالْحرَام وَغَيرهمَا، وَثَانِيهمَا مخاصمة
الْكفَّار - فنون خَمْسَة هِيَ عُمْدَة عُلُوم الْقُرْآن الْعَظِيم.
أما التَّدْبِير العملي، فالعمدة فِيهِ التَّلَبُّس بهيآت وأفعال
وَأَشْيَاء تذكر النَّفس الْخصْلَة الْمَطْلُوبَة، وتنبهها لَهَا، وتهيجها
إِلَيْهَا، وتحثها عَلَيْهَا إِمَّا لتلازم عَادَة بَينهَا وَبَين
الْخصْلَة، أَو لكَونهَا مَظَنَّة لَهَا بِحكم الْمُنَاسبَة الجبلية،
فَكَمَا أَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يُنَبه نَفسه للغضب، ويحضره بَين
عَيْنَيْهِ يتخيل الشتم الَّذِي تفوه بِهِ المغضوب عَلَيْهِ، وَالَّذِي
يلْحقهُ من الْعَار وَنَحْو ذَلِك، والنائحة إِذا أَرَادَت أَن تجدّد عهدها
بالفجع تذكر نَفسهَا محَاسِن الْمَيِّت، وتتخيلها، وتبعث من خواطرها
الْخَيل وَالرجل إِلَيْهَا، وَالَّذِي يُرِيد الْجِمَاع، يتَمَسَّك
بداوعيه، ونظائر هَذَا الْبَاب كَثِيرَة جدا لَا تعصى على من يُرِيد
الْإِحَاطَة بجوانب الْكَلَام، فَكَذَلِك لكل وَاحِدَة من هَذِه الْخِصَال
أَسبَاب تكتسب بهَا، والاعتماد فِي معرفَة تِلْكَ الْأُمُور على ذوق أهل
الأذواق السليمة، فأسباب الْحَدث امتلاء الْقلب بِحَالَة سفلية، كقضاء
الشَّهْوَة من النِّسَاء جماعا ومباشرة، وإضماره مُخَالفَة الْحق وإحاطة
لَهُنَّ الْمَلأ الْأَعْلَى بِهِ، وَكَونه حاقبا حاقنا، وَقرب الْعَهْد
بالبول وَالْغَائِط وَالرِّيح، وَهَذِه الثَّلَاثَة فضول الْمعدة، وتوسخ
الْبدن والبخر واجتماع المخاط ونبات الشّعْر على الْعَانَة والابط وتلطخ
الثَّوْب وَالْبدن بالنجاسات المستقذرة، وامتلاء الْحَواس بِصُورَة تذكر
الْحَالة السفلية كالقاذورات وَالنَّظَر إِلَى الْفرج ومسافدة
الْحَيَوَانَات وَالنَّظَر الممعن فِي الْجِمَاع والطعن فِي الْمَلَائِكَة
وَالصَّالِحِينَ وَالسَّعْي فِي إِيذَاء النَّاس، وَأَسْبَاب الطَّهَارَة
إِزَالَة هَذِه الْأَشْيَاء واكتساب أضدادها وَاسْتِعْمَال مَا تقرر فِي
الْعَادَات كَونه نظافة بالغه كالغسل وَالْوُضُوء وَلبس أحسن الثِّيَاب
وَاسْتِعْمَال الطّيب، فَإِن اسْتِعْمَال هَذِه الْأَشْيَاء تنبه النَّفس
على صفة الطَّهَارَة، وَأَسْبَاب الإخبات مُؤَاخذَة نَفسه بِمَا هُوَ
أَعلَى حالات التَّعْظِيم عِنْده من الْقيام
(1/110)
مطرقا وَالسُّجُود والنطق بِأَلْفَاظ
دَالَّة على الْمُنَاجَاة والتذلل لَدَيْهِ وَرفع الْحَاجَات إِلَيْهِ،
فَإِن هَذِه الْأُمُور تنبه النَّفس تَنْبِيها قَوِيا على صفة
الخضوع والاخبات، وَأَسْبَاب السماحة التمرن على السخاوة والبذل وَالْعَفو
عَمَّن ظلم ومؤاخذة نَفسه بِالصبرِ عِنْد المكاره وَنَحْو ذَلِك،
وَأَسْبَاب الْعَدَالَة الْمُحَافظَة على السّنة الراشدة بتفاصيلها وَالله
أعلم.
(بَاب الْحجب الْمَانِعَة عَن ظُهُور الْفطْرَة)
اعْلَم أَن مُعظم الْحجب ثَلَاثَة: حجاب الطَّبْع، وحجاب الرَّسْم، وحجاب
سوء الْمعرفَة، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ركب فِي الْإِنْسَان دواعي الْأكل
وَالشرب وَالنِّكَاح، وَجعل قلبه مَطِيَّة للأحوال الطبيعية كالحزن والنشاط
وَالْغَضَب والوجل وَغَيرهَا، فَلَا يزَال مَشْغُولًا بهَا، إِذْ كل حَالَة
يتقدمها توجه النَّفس إِلَى أَسبَابهَا وانقياد القوى العلمية لما
يُنَاسِبهَا، ويجتمع مَعهَا استغراق النَّفس فِيهَا وذهولها عَمَّا سواهَا،
ويتخلف عَنْهَا بَقِيَّة ظلها ووضر لَوْنهَا، فتمر الْأَيَّام والليالي،
وَهُوَ على ذَلِك لَا يتفرغ لتَحْصِيل غَيرهَا من الْكَمَال، وَرب إِنْسَان
ارتطمت قدماه فِي هَذَا الوحل، فَلم يخرج مِنْهُ طول عمره، وَرب إِنْسَان
غلب عَلَيْهِ حكم الطَّبْع، فَخلع رقبته عَن رَقَبَة الرَّسْم وَالْعقل،
وَلم ينزجر بالملامة، وَهَذَا الْحجاب يُسمى بِالنَّفسِ، لَكِن من تمّ
عقله، وتوفر تيقظه يختطف من أوقاته فرصا يركد فِيهَا أَحْوَال الطبيعة،
ويتسع نَفسه لهَذِهِ الْأَحْوَال وَغَيرهَا، ويستوجب لفيضان عُلُوم أُخْرَى
غير اسْتِيفَاء مقتضيات الطَّبْع، ويشتاق إِلَى الْكَمَال النوعي بِحَسب
القوتين الْعَاقِلَة والعاملة؛ فَإِذا فتح حدقة بصيرته أبْصر فِي أول
الْأَمر قومه فِي ارتفاقات وزي ومباهات وفضائل من الفصاحات والصناعات،
فَوَقَعت من قلبه بموقع عَظِيم، واستقبلها بعزيمة كَامِلَة وهمة قَوِيَّة،
وَهَذَا حجاب الرَّسْم وَيُسمى بالدنيا.
وَمن النَّاس من لَا يزَال مُسْتَغْرقا فِي ذَلِك إِلَى أَن يَأْتِيهِ
الْمَوْت، فتزول تِلْكَ الْفَضَائِل بأسرها، لِأَنَّهَا لَا تتمّ إِلَّا
بِالْبدنِ والآلات، فَتبقى النَّفس عَارِية
لَيْسَ بهَا شَيْء، وَصَارَ مثله كَمثل ذِي جنَّة أَصَابَهَا إعصار، أَو
كرماد اشتدت بِهِ الرّيح فِي يَوْم عاصف، فَإِن كَانَ شَدِيد التنبه عَظِيم
الفطنة استيقن بِدَلِيل برهاني أَو خطابي أَو بتقليد الشَّرْع أَن لَهُ
رَبًّا قاهرا فَوق عباده، مُدبرا أُمُورهم، منعما عَلَيْهِ جَمِيع النعم،
ثمَّ خلق فِي قلبه ميل إِلَيْهِ
(1/111)
ومحبه بِهِ، وَأَرَادَ التَّقَرُّب مِنْهُ
وَرفع الْحَاجَات إِلَيْهِ واطرح لَدَيْهِ، فَمن مُصِيب فِي هَذَا الْقَصْد
ومخطئ، ومعظم الْخَطَأ شيآن: أَن يعْتَقد فِي الْوَاجِب صِفَات
الْمَخْلُوق، أَو يعْتَقد فِي الْمَخْلُوق صِفَات الْوَاجِب. فَالْأول هُوَ
التَّشْبِيه، ومنشؤه قِيَاس الْغَائِب على الشَّاهِد، وَالثَّانِي هُوَ
الْإِشْرَاك، ومنشؤه رُؤْيَة الْآثَار الخارقة من المخلوقين، فيظن أَنَّهَا
مُضَافَة إِلَيْهِم بِمَعْنى الْخلق، وَأَنَّهَا ذاتية لَهُم، وَيَنْبَغِي
لَك أَن تستقرئ أَفْرَاد الْإِنْسَان هَل ترى من تفَاوت فِيمَا أَخْبَرتك؟
لَا أَظُنك تَجِد ذَلِك بل كل إِنْسَان وَإِن كَانَ فِي تشريع مَا، لَا بُد
لَهُ من أَوْقَات تستغرق فِي حجاب الطَّبْع قلت أَو كثرت، وَإِن لم يزل
مباشراً للأعمال الرسمية، وَمن أَوْقَات تستغرق فِي حجاب الرَّسْم، ويهمه
حِينَئِذٍ التَّشَبُّه بعاقلي قومه كلَاما وزيا وخلقا ومعاشرة، وأوقات يصغي
فِيهَا إِلَى مَا كَانَ يسمع، وَلَا يصغي من أَحَادِيث الجبروت
وَالتَّدْبِير الْغَيْبِيِّ فِي الْعَالم. وَالله أعلم.
(بَاب طَرِيق رفع هَذِه الْحجب)
اعْلَم أَن تَدْبِير حجاب الطَّبْع شيآن: أَحدهمَا يُؤمر بِهِ، ويرغب
فِيهِ، ويحث عَلَيْهِ، وَالثَّانِي يضْرب عَلَيْهِ من فَوْقه، ويؤاخذ بِهِ،
أنشاء أم أَبى.
فَالْأول رياضات تضعف البهيمية كَالصَّوْمِ والسهر، وَمن النَّاس من أفرط،
وَاخْتَارَ تَغْيِير خلق الله مثل قطع الآت التناسل، وجفيف عُضْو شرِيف
كَالْيَدِ وَالرجل، وَأُولَئِكَ جهال الْعباد، وَخير الْأُمُور وَسطهَا،
وَإِنَّمَا الصَّوْم والسهر بِمَنْزِلَة دَوَاء سمى يجب أَن يتَقَدَّر
بِقدر ضَرُورِيّ.
وَالثَّانِي إِقَامَة الْإِنْكَار على من اتبع الطبيعة، فَخَالف السّنة
الراشدة، وَبَيَان طَرِيق التفصي من كل غَلَبَة طبيعية، وَضرب سنة لَهُ،
وَلَا يَنْبَغِي أَن
يضيق على النَّاس كل الضّيق، وَلَا يَكْفِي فِي الْكل الْإِنْكَار القولي،
بل لَا بُد من ضرب وجيع وغرامة منهكة فِي بعض الْأُمُور، والأليق بذلك
إفراطات فِيهَا ضَرَر مُتَعَدٍّ كَالزِّنَا وَالْقَتْل.
وتدبير حجاب الرَّسْم شيآن: أَحدهمَا أَن يضم مَعَ كل ارتفاق ذكر الله
تَعَالَى تَارَة وَحفظ أَلْفَاظ يُؤمر بهَا، وَتارَة بمراعاة حُدُود وقيود
لَا يُرَاعى إِلَّا الله
وَالثَّانِي أَن يَجْعَل أَنْوَاع من الطَّاعَات رسما فاشيا، ويسجل على
الْمُحَافظَة عَلَيْهَا، أَشَاء أم أَبى، ويلام على تَركهَا، ويكبح عَن
المرغوبات من الجاه وَغَيره جَزَاء لتفويتها،
(1/112)
فبهذين التدبيرين تنْدَفع غوائل الرَّسْم،
وَتصير مؤيدة لعبادة الله تَعَالَى، وَتصير السّنة تَدْعُو إِلَى الْحق.
وَسُوء الْمعرفَة بكلا قسميه ينشأ من سببين: أَحدهمَا لَا يَسْتَطِيع أَن
يعرف ربه حق مَعْرفَته، لتعاليه عَن صِفَات الْبشر جدا وتنزهه عَن سمة
المحدثات والمحسوسات وتدبيره أَلا يخاطبوا إِلَّا بِمَا تسعه أذهانهم.
وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَنه مَا من مَوْجُود، أَو مَعْدُوم متحيز، أَو
مُجَرّد إِلَّا يتَعَلَّق علم الْإِنْسَان بِهِ، إِمَّا بِحُضُور صورته،
أَو بِنَحْوِ التَّشْبِيه والمقايسة حَتَّى الْعَدَم الْمُطلق والمجهول
الْمُطلق، فَيعلم الْعَدَم من جِهَة معرفَة الْوُجُود وملاحظة عدم الاتصاف
بِهِ، وَيعلم مَفْهُوم الْمُشْتَقّ على صِيغَة الْمَفْعُول، وَيعلم
مَفْهُوم الْمُطلق، فَيجمع هَذِه الْأَشْيَاء، وَيضم بَعْضهَا إِلَى بعض،
فينتظم صُورَة تركيبية هِيَ مكشاف الْبَسِيط الْمَقْصُود تصَوره الَّذِي
لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج وَلَا فِي الأذهان، كَمَا أَنه رُبمَا
يتَوَجَّه إِلَى مَفْهُوم نَظَرِي، فيعمد إِلَى مَا يحسبه جِنْسا وَإِلَى
مَا يحسبه فصلا، فيركبهما فَيحصل صُورَة مركبة هِيَ مكشاف الْمَطْلُوب
تصَوره، فيخاط وَا مثلا بِأَن الله تَعَالَى مَوْجُود، لَا كوجودنا،
وَبِأَنَّهُ حَيّ، لَا كحياتنا، وَبِالْجُمْلَةِ فيعمد إِلَى صِفَات هِيَ
مورد الْمَدْح فِي الشَّاهِد،
ويلاحظ ثَلَاثَة مفاهيم فِيمَا نشاهد، شَيْء فِيهِ هَذِه الصِّفَات، وَقد
صدرت من آثارها، وَشَيْء لَيست فِيهِ وَلَيْسَت من شَأْنه، وَشَيْء لَيست
فِيهِ وَمن شَأْنه أَن تكون فِيهِ كالحي والجماد وَالْمَيِّت، فَيثبت هَذِه
بِثُبُوت آثارها، وَيجْبر هَذِه التَّشْبِيه بِأَنَّهُ لَيْسَ كمثلنا.
وَالثَّانِي تمثل الصُّورَة المحسوسة بزينتها وَاللَّذَّات بجمالها وامتلاء
القوى العلمية بالصور الحسية، فينقاد قلبه لذَلِك، وَلَا يصفو التَّوَجُّه
إِلَى الْحق وتدبير هَذِه رياضات وأعمال يستعد بهَا الْإِنْسَان للتجليات
الشامخة، وَلَو فِي الْمعَاد واعتكافات وَإِزَالَة للشاغل بِقدر
الْإِمْكَان، كَمَا هتك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
القرام المصور وَنزع خميصه فِيهَا أَعْلَام وَالله أعلم.
(1/113)
|