حجة الله
البالغة (الْقسم الثَّانِي)
(فِي بَيَان أسرار مَا جَاءَ عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَفْصِيلًا)
وَالْمَقْصُود هَهُنَا ذكر جملَة صَالِحَة من الْأَحَادِيث الْمَعْرُوفَة
عِنْد أَهلهَا، السائرة بَين حَملَة الْعلم، المروية فِي صحيحي البُخَارِيّ
وَمُسلم وكتابي أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وقلما أوردت عَن غَيرهَا
إِلَّا اسْتِطْرَادًا، وَلذَلِك لم أتعرض لنسبة كل حَدِيث لمخرجه، وَرُبمَا
ذكرت حَاصِل الْمَعْنى أَو طَائِفَة من الحَدِيث، فَإِن هَذِه الْكتب تتيسر
مراجعتها وتتبعها على الطَّالِب.
(1/275)
(من أَبْوَاب الْإِيمَان)
أعلم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ مَبْعُوثًا
إِلَى الْخلق بعثا عَاما، ليغلب دينه على الْأَدْيَان كلهَا بعز عَزِيز،
أَو ذل ذليل - حصل فِي دينه أَنْوَاع من النَّاس، فَوَجَبَ التَّمْيِيز
بَين الَّذين يدينون بدين الْإِسْلَام، وَبَين غَيرهم، ثمَّ بَين الَّذين
اهتدوا بالهداية الَّتِي بعث بهَا، وَبَين غَيرهم مِمَّن لم تدخل بشاشة
الْإِيمَان قُلُوبهم، فَجعل الْإِيمَان على ضَرْبَيْنِ:
أَحدهمَا الْإِيمَان الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ أَحْكَام الدُّنْيَا من عصمَة
الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَضَبطه بِأُمُور ظَاهِرَة فِي الانقياد وَهُوَ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى
يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويقيموا
الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة فَإِذا فعلوا ذَلِك عصموا مني دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَق الْإِسْلَام وحسابهم على الله " وَقَوله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى صَلَاتنَا، واستقبل قبلتنا وَأكل
ذبيحتنا، فَذَلِك الْمُسلم الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله، فَلَا
تحفروا الله فِي ذمَّته " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلت من
أصل الْإِيمَان الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا نكفره بذنب
وَلَا نخرجهُ من الْإِسْلَام بِعَمَل " الحَدِيث.
وَثَانِيهمَا الْإِيمَان الَّذِي يَدُور عَلَيْهِ أَحْكَام الْآخِرَة من
النجَاة والفوز بالدرجات، وَهُوَ متناول لكل اعْتِقَاد حق، وَعمل مرضِي،
وملكة فاضلة، وَهُوَ يزِيد وَينْقص، وَسنة الشَّارِع أَن يُسمى كل شَيْء
مِنْهَا إِيمَانًا ليَكُون تَنْبِيها بليغا على جزئيته، وَهُوَ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا إِيمَان لمن لَا أَمَانَة لَهُ
وَلَا دين لمن لَا عهد لَهُ " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من لِسَانه وَيَده " الحَدِيث، وَله شعب
كَثِيرَة، وَمثله كَمثل الشَّجَرَة يُقَال للدوحة والأغصان والأوراق
وَالثِّمَار والأزهار جَمِيعًا: إِنَّهَا شَجَرَة، فَإِذا قطع أَغْصَانهَا،
وخبط أوراقها، وخرف ثمارها قيل: شَجَرَة نَاقِصَة، فَإِذا قلعت الدوحة بَطل
الأَصْل وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {
(1/277)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر
الله وجلت قُلُوبهم} الْآيَة.
وَلما لم يكن جَمِيع تِلْكَ الْأَشْيَاء على حد وَاحِد جعلهَا النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مرتبتين.
مِنْهَا الْأَركان الَّتِي هِيَ عُمْدَة أَجْزَائِهَا وَهُوَ قَوْله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وإقام الصَّلَاة
وإيتاء الزَّكَاة وَالْحج وَصَوْم رَمَضَان ".
وَمِنْهَا سَائِر الشّعب وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
الْإِيمَان بضع وَسَبْعُونَ شُعْبَة، أفضلهَا قَول لَا إِلَه إِلَّا الله،
وَأَدْنَاهَا إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق، وَالْحيَاء شُعْبَة من
الْإِيمَان ".
وَيُسمى مُقَابل الْإِيمَان الأول بالْكفْر، وَأما مُقَابل الْإِيمَان
الثَّانِي فَإِن كَانَ تفويتا للتصديق، وَإِنَّمَا يكون الانقياد بِغَلَبَة
السَّيْف - فَهُوَ النِّفَاق الْأَصْلِيّ، وَالْمُنَافِق بِهَذَا الْمَعْنى
لَا فرق بَينه وَبَين الْكَافِر فِي الْآخِرَة بل المُنَافِقُونَ - فِي
الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار. .، وَإِن كَانَ مُصدقا مفوتا لوظيفة
الْجَوَارِح سمي فَاسِقًا. .، أَو مفوتا لوظيفة الْجنان، فَهُوَ
الْمُنَافِق بِنفَاق آخر، وَقد سَمَّاهُ بعض السّلف نفاق الْعَمَل،
وَذَلِكَ أَن يغلب عَلَيْهِ حجاب الطَّبْع أَو الرَّسْم أَو سوء الْمعرفَة،
فَيكون ممعنا فِي محبَّة الدُّنْيَا والعشائر وَالْأَوْلَاد، فيدب فِي قلبه
استبعاد المجازاة والاجتراء على الْمعاصِي من حَيْثُ لَا يدْرِي وَإِن
كَانَ معترفا بِالنّظرِ البرهاني بِمَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاف بِهِ، أَو
رأى الشدائد فِي الْإِسْلَام، فكرهه، أَو أحب الْكفَّار بأعيانهم، فصد
ذَلِك من إعلاء كلمة الله.
وللإيمان مَعْنيانِ آخرَانِ:
أَحدهمَا تَصْدِيق الْجنان بِمَا لَا بُد من تَصْدِيقه، وَهُوَ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَوَاب جِبْرِيل: " الْإِيمَان أَن
تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته " الحَدِيث،
وَالثَّانِي السكينَة والهيئة الوجدانية الَّتِي تحصل للمقربين، وَهُوَ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطّهُور شطر الْإِيمَان "
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا زنى العَبْد خرج مِنْهُ
الْإِيمَان، فَكَانَ فَوق رَأسه كالظلة، فَإِذا خرج من ذَلِك الْعَمَل
رَجَعَ إِلَيْهِ الْإِيمَان " وَقَول معَاذ رَضِي الله عَنهُ: " تعال نؤمن
سَاعَة ".
فللإيمان أَرْبَعَة معَان مستعملة فِي الشَّرْع إِن حملت كل حَدِيث من
الْأَحَادِيث المتعارضة فِي الْبَاب على محمله اندفعت عَنْك الشكوك
والشبهات، وَالْإِسْلَام أوضح من الْإِيمَان فِي الْمَعْنى الأول وَلذَلِك
قَالَ الله تَعَالَى: {
(1/278)
قل لم تؤمنوا وَلَكِن قُولُوا أسلمنَا} .
وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد: " أَو مُسلما "،
وَالْإِحْسَان أوضح مِنْهُ فِي الْمَعْنى الرَّابِع.
وَلما كَانَ نفاق الْعَمَل وَمَا يُقَابله من الْإِخْلَاص أمرا خفِيا وَجب
بَيَان عَلَامَات كل وَاحِد مِنْهُمَا، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَربع من كن فِيهِ كَانَ منافقا خَالِصا، وَمن
كَانَت فِيهِ خصْلَة مِنْهُنَّ كَانَت فِيهِ خصْلَة من النِّفَاق حَتَّى
يَدعهَا، إِذا ائْتمن خَان، وَإِذا حدث كذب، وَإِذا عَاهَدَ غدر، وَإِذا
خَاصم فجر " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثَلَاث من كن
فِيهِ وجد بِهن حلاوة الْإِيمَان أَن يكون الله وَرَسُوله أحب إِلَيْهِ
مِمَّا سواهُمَا، وَأَن يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ إِلَّا لله، وَأَن يكره
أَن يعود فِي الْكفْر كَمَا يكره أَن يقذف فِي
النَّار " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا رَأَيْتُمْ
العَبْد يلازم الْمَسْجِد فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان " وَكَذَا قَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام: " حب على آيَة الْإِيمَان، وبغض على آيَة النِّفَاق "
وَالْفِقْه فِيهِ أَنه رَضِي الله عَنهُ كَانَ شَدِيدا فِي أَمر الله،
فَلَا يحْتَمل شدته إِلَّا من ركدت طَبِيعَته، وَغلب عقله على هَوَاهُ،
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حب الْأَنْصَار آيَة
الْإِيمَان " وَالْفِقْه فِيهِ أَن الْعَرَب المعدية واليمينة مَا زَالُوا
يتنازعون بَينهم حَتَّى جمعهم الْإِيمَان، فَمن كَانَ جَامع الهمة على
إعلاء الْكَلِمَة زَالَ عَنهُ الحقد، وَمن لم يكن جَامعا بَقِي فِيهِ
النزاع، وَقد بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيث "
بني الْإِسْلَام على خمس " وَحَدِيث ضمام ابْن ثَعْلَبَة، وَحَدِيث
أَعْرَابِي قَالَ - دلَّنِي على عمل إِذا عملته دخلت الْجنَّة - إِن هَذِه
الْأَشْيَاء الْخَمْسَة أَرْكَان الْإِسْلَام، وَأَن من فعلهَا وَلم يفعل
غَيرهَا من الطَّاعَات قد خلص رقبته من الْعَذَاب، واستوجب الْجنَّة، كَمَا
بَين أَن أدنى الصَّلَاة مَاذَا، وَأدنى الْوضُوء مَاذَا - وَإِنَّمَا خص
الْخَمْسَة بالركنية لِأَنَّهَا أشهر عبادات الْبشر، وَلَيْسَت مِلَّة من
الْملَل إِلَّا قد أخذت بهَا، والتزمتها كاليهود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس
وَبَقِيَّة الْعَرَب على اخْتلَافهمْ فِي أوضاع أَدَائِهَا، وَلِأَن فِيهَا
مَا يَكْفِي عَن غَيرهَا، وَلَيْسَ فِي غَيرهَا مَا يَكْفِي عَنْهَا،
وَذَلِكَ لِأَن أصل أصُول الْبر التَّوْحِيد وتصديق النَّبِي وَالتَّسْلِيم
للشرائع الإلهية، وَلما كَانَت الْبعْثَة عَامَّة، وَكَانَ النَّاس
يدْخلُونَ فِي دين الله أَفْوَاجًا لم يكن بُد من عَلامَة ظَاهِرَة بهَا
يُمَيّز بَين الْمُوَافق والمخالف، وَعَلَيْهَا يدار حكم الْإِسْلَام،
وَبهَا يُؤَاخذ النَّاس، وَلَوْلَا ذَلِك لم يفرق بَينهمَا طول الممارسة
إِلَّا تفريقا ظنيا مُعْتَمدًا على قَرَائِن وَلَا ختلف النَّاس
(1/279)
فِي الحكم بِالْإِسْلَامِ، وَفِي ذَلِك
اختلال كثير من الْأَحْكَام كَمَا لَا يخفى، وَلَيْسَ شَيْء كَالْإِقْرَارِ
طَوْعًا ورغبة كاشفا عَن حَقِيقَة مَا فِي الْقلب من الِاعْتِقَاد
والتصديق.
وَلما ذكرنَا من قبل من أَن مدَار السَّعَادَة النوعية، وملاك النجَاة
الأخروية هِيَ الْأَخْلَاق الْأَرْبَعَة، فَجعلت الصَّلَاة المقرونة
بِالطَّهَارَةِ سبحا ومظنة لخلقي
الاخبات، والنظافة، وَجعلت الزَّكَاة المقرونة بشروطها المصروفة إِلَى
مصارفها مَظَنَّة للسماحة وَالْعَدَالَة.
وَلما ذكرنَا أَنه لَا بُد من طَاعَة قاهرة على النَّفس، ليدفع بهَا الْحجب
الطبيعية، وَلَا شَيْء فِي ذَلِك كَالصَّوْمِ.
وَلما ذكرنَا أَيْضا من أَن أصل أصُول الشَّرَائِع هُوَ تَعْظِيم شَعَائِر
الله وَهِي أَرْبَعَة، مِنْهَا الْكَعْبَة، وتعظيمها الْحَج - وَقد ذكرنَا
فِيمَا سبق من فَوَائِد هَذِه الطَّاعَات مَا يعلم بِهِ أَنَّهَا تَكْفِي
عَن غَيرهَا وَأَن غَيرهَا لَا يَكْفِي عَنْهَا.
والآثام بِاعْتِبَار الْملَّة على قسمَيْنِ صغائر وكبائر
والكبائر مَالا يصدر إِلَّا بغاشية عَظِيمَة من الْبَهِيمَة أَو السبعية
أَو الشيطنة وَفِيه انسداد سَبِيل الْحق، وهتك حُرْمَة شَعَائِر الله أَو
مُخَالفَة الارتفاقات الضرورية، وَالضَّرَر الْعَظِيم بِالنَّاسِ، وَيكون
مَعَ ذَلِك منابذا للشَّرْع لِأَن الشَّرْع نهى عَنهُ أَشد نهي، وَغلظ
التهديد على فَاعله، وَجعله كَأَنَّهُ خُرُوج من الْملَّة.
والصغائر مَا كَانَ دون ذَلِك من دواعي الشَّرّ ومفضيات إِلَيْهِ، وَقد ظهر
نهي الشَّرْع عَنهُ حتما، وَلَكِن لم يغلظ فِيهِ ذَلِك التَّغْلِيظ.
وَالْحق أَن الْكَبَائِر لَيست محصورة فِي عدد، وَأَنَّهَا تعرف بإيعاد
النَّار فِي الْكتاب وَالسّنة الصَّحِيحَة وَشرع الْحَد عَلَيْهِ، وتسميته
كَبِيرَة، وَجعله خُرُوجًا عَن الدّين، وَكَون الشَّيْء أَكثر مفْسدَة
مِمَّا نَص النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كَونه كَبِيرَة
أَو مثلهَا فِي الْمفْسدَة.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين
يَزْنِي وَهُوَ مُؤمن " الحَدِيث مَعْنَاهُ أَن هَذِه الْأَفْعَال لَا تصدر
إِلَّا بغاشية عَظِيمَة من البهيمية أَو السبعية، فَتَصِير حِينَئِذٍ
الملكية كَأَن لم تكن وَالْإِيمَان كَأَنَّهُ زائل - دلّ بذلك على كَونهَا
كَبَائِر.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نفس مُحَمَّد
بِيَدِهِ لَا يسمع بِهِ أحد من هَذِه الْأمة يَهُودِيّ وَلَا نَصْرَانِيّ
ثمَّ يَمُوت وَلم يُؤمن بِالَّذِي أرْسلت بِهِ إِلَّا كَانَ من أَصْحَاب
النَّار ". أَقُول: يَعْنِي من بلغته الدعْوَة، ثمَّ أصر على الْكفْر
حَتَّى مَاتَ دخل النَّار، لِأَنَّهُ نَاقض تَدْبِير الله تَعَالَى
لِعِبَادِهِ، وَمكن من نَفسه لعنة الله وَالْمَلَائِكَة المقربين،
وَأَخْطَأ الطَّرِيق الكاسب للنجاة.
(1/280)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من وَالِده وَولده وَالنَّاس
أَجْمَعِينَ " وَقَالَ: " حَتَّى يكون هَوَاهُ تبعا لما جِئْت بِهِ ".
أَقُول: كَمَال الْإِيمَان أَن يغلب الْعقل على الطَّبْع بِحَيْثُ يكون
مُقْتَضى الطَّبْع بَادِي الْأَمر - وَكَذَلِكَ الْحَال فِي حب الرَّسُول -
ولعمري هَذَا مشهود فِي الكاملين.
قيل يَا رَسُول الله: قل لي فِي الْإِسْلَام قولا لَا أسأَل عَنهُ أحدا
بعْدك - وَفِي رِوَايَة - غَيْرك، قَالَ: " قل آمَنت بِاللَّه ثمَّ
اسْتَقِم " أَقُول: مَعْنَاهُ أَن يحضر الْإِنْسَان بَين عَيْنَيْهِ حَالَة
الانقياد وَالْإِسْلَام ثمَّ يعْمل مَا يُنَاسِبه، وَيتْرك مَا يُخَالِفهُ،
وَهَذَا قَول كلي يصير بِهِ الْإِنْسَان على بَصِيرَة من الشَّرَائِع "
وَإِن لم يكن نفضيلا، فَلَا يَخْلُو من علم إجمالي يَجْعَل الْإِنْسَان
سَابِقًا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا من أحد يشْهد أَن لَا
إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله صدقا من قلبه إِلَّا حرمه
الله على النَّار " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِن زنى
وَإِن سرق " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على مَا كَانَ من
عمل " أَقُول مَعْنَاهُ حرمه الله على النَّار الشَّدِيدَة المؤبدة الَّتِي
أعدهَا للْكَافِرِينَ وَإِن عمل الْكَبَائِر.
والنكتة فِي سوق الْكَلَام هَذَا السِّيَاق، أَن مَرَاتِب الأثم بَينهَا
تفَاوت بَين، وَإِن كَانَ يجمعها كلهَا اسْم الأثم، فالكبائر إِذا قيست
بالْكفْر لم يكن لَهَا قدر محسوس، وَلَا تَأْثِير يعْتد بِهِ، وَلَا
سَبَبِيَّة لدُخُول النَّار تسمى سَبَبِيَّة وَكَذَلِكَ الصَّغَائِر
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَبَائِر، فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْفرق بَينهَا على آكِد وَجه بِمَنْزِلَة الصِّحَّة والسقم،
فَإِن الْأَعْرَاض الْبَادِيَة كالزكام وَالنّصب إِذا قيست إِلَى سوء
المزاج المتمكن كالجذام والسل وَالِاسْتِسْقَاء يحكم عَلَيْهَا بِأَنَّهَا
صِحَة وَأَن صَاحبهَا لَيْسَ بمريض وَأَن لَيْسَ بِهِ قلبة - وَرب داهية
تنسي داهية - كمن أَصَابَهُ شَوْكَة ثمَّ وتر أَهله وَمَاله، قَالَ: لم يكن
بِي مُصِيبَة قبل أصلا.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن إِبْلِيس يضع عَرْشه على
المَاء، ثمَّ يبْعَث سراياه يفتنون النَّاس " الحَدِيث
(1/281)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى خلق الشَّيَاطِين
وجبلهم على الاغواء بِمَنْزِلَة الدُّود الَّتِي تفعل أفعالا بِمُقْتَضى
مزاجها - كالجعل يَده هده الحرأة - وَأَن لَهُم رَئِيسا يضع عَرْشه على
المَاء، ويدعوهم لتكميل مَا هم قبله قد اسْتوْجبَ أتم الشقاوة وأوفر
الضلال، وَهَذِه سنة الله فِي كل نوع وَفِي كل صنف وَلَيْسَ فِي هَذَا
مجَاز، وَقد تحققت من ذَلِك مَا يكون بِمَنْزِلَة الرُّؤْيَة بِالْعينِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمد لله الَّذِي رد أمره
إِلَى الوسوسة "
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الشَّيْطَان قد أيس من أَن
يعبده الْمُسلمُونَ فِي جَزِيرَة الْعَرَب وَلَكِن فِي التحريش بَينهم ".
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذَاك صَرِيح الْإِيمَان ".
اعْلَم أَن تَأْثِير وَسْوَسَة الشَّيَاطِين يكون مُخْتَلفا بِحَسب استعداد
الموسوس إِلَيْهِ، فأعظم تَأْثِيره الْكفْر وَالْخُرُوج من الْملَّة،
فَإِذا عصم الله من ذَلِك بِقُوَّة الْيَقِين انْقَلب تَأْثِيره فِي صُورَة
أُخْرَى، وَهِي المقاتلات وَفَسَاد تَدْبِير الْمنزل والتحريش بَين أهل
الْبَيْت وَأهل الْمَدِينَة، ثمَّ إِذا عصم الله من ذَلِك أَيْضا صَار
خاطرا يَجِيء، وَيذْهب، وَلَا يبْعَث النَّفس إِلَى عمل لضعف أَثَره -
وَهَذَا لَا يضر، بل إِذا اقْترن باعتقاد قبح ذَلِك كَانَ دَلِيلا على
صَرَاحَة الْإِيمَان، نعم أَصْحَاب النُّفُوس القدسية لَا يَجدونَ شَيْئا
من ذَلِك، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِلَّا أَن
الله أعانني عَلَيْهِ فَأسلم فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَير " وَإِنَّمَا
مثل هَذِه التأثيرات مثل شُعَاع الشَّمْس يُؤثر فِي الْحَدِيد والأجسام
الصقيلة مَا لَا يُؤثر فِي غَيرهَا، ثمَّ وَثمّ.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن للشَّيْطَان لمة وللملك
لمة " الحَدِيث
الْحَاصِل أَن صُورَة تَأْثِير الْمَلَائِكَة فِي نشأة الخواطر الْأنس
وَالرَّغْبَة فِي الْخَيْر وتأثير الشَّيَاطِين فِيهَا الوحشة وقلق الخاطر
وَالرَّغْبَة فِي الشَّرّ.
(1/282)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
من وجد من ذَلِك شَيْئا فَلْيقل آمَنت
بِاللَّه وَرَسُوله، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فليستعذ
بِاللَّه وليتفل عَن يسَاره " سره أَن الالتجاء إِلَى الله وتذكره وتقبيح
حَال الشَّيَاطِين وإهانة أَمرهم يصرف وَجه النَّفس عَنْهُم، ويصد عَن
قبُول أَثَرهم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين اتَّقوا إِذا مسهم
طائف من الشَّيْطَان تَذكرُوا فَإِذا هم مبصرون} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " احْتج آدم ومُوسَى عِنْد ربهما
".
أَقُول معنى قَوْله: عِنْد ربهما " أَن روح مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
انجذبت إِلَى حَظِيرَة الْقُدس، فوافت هُنَالك آدم.
وبطن هَذِه الْوَاقِعَة وسرها أَن الله فتح على مُوسَى علما على لِسَان آدم
عَلَيْهِمَا السَّلَام شبه مَا يرى النَّائِم فِي مَنَامه ملكا أَو رجلا من
الصَّالِحين يسْأَله، ويراجعه الْكَلَام حَتَّى يفِيء عَنهُ بِعلم لم يكن
عِنْده. وَهَهُنَا علم دَقِيق كَانَ قد خَفِي على مُوسَى عَلَيْهِ
السَّلَام حَتَّى كشفه الله عَلَيْهِ فِي هَذِه الْوَاقِعَة. وَهُوَ أَنه
اجْتمع فِي قصَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَجْهَان.
أَحدهمَا مِمَّا يَلِي خويصة نفس آدم عَلَيْهِ السَّلَام، وَهُوَ أَنه
كَانَ مَا لم يَأْكُل الشَّجَرَة لَا يظمأ وَلَا يضحى، وَلَا يجوع وَلَا
يعرى - وَكَانَ بِمَنْزِلَة الْمَلَائِكَة فَلَمَّا أكل غلبت البهيمية،
وكمنت الملكية، فَلَا جرم أَن أكل الشَّجَرَة إِثْم يجب الاسْتِغْفَار
عَنهُ.
وَثَانِيهمَا مِمَّا يَلِي التَّدْبِير الْكُلِّي الَّذِي قَصده الله
تَعَالَى فِي خلق الْعَالم
وأوحاه إِلَى الْمَلَائِكَة قبل أَن يخلق آدم وَهُوَ أَن الله تَعَالَى
أَرَادَ بخلقه أَن يكون نوع الْإِنْسَان خَليفَة فِي الأَرْض يُذنب،
ويستغفر، فَيغْفر لَهُ، ويتحقق فيهم التَّكْلِيف وَبعث الرُّسُل
وَالثَّوَاب وَالْعَذَاب ومراتب الْكَمَال والضلال، وَهَذِه نشأة عَظِيمَة
على حدتها، وَكَانَ أكل الشَّجَرَة حسب مُرَاد الْحق ووفق حكمته، وَهُوَ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَو لم تذنبوا لذهب الله بكم
وَجَاء بِقوم آخَرين يذنبون وَيَسْتَغْفِرُونَ فَيغْفر لَهُم " وَكَانَ آدم
أول مَا غلبت عَلَيْهِ بهيميته استتر عَلَيْهِ الْعلم الثَّانِي، وأحاط
بِهِ الْوَجْه الأول، وَعُوتِبَ عتابا شَدِيدا فِي نَفسه، ثمَّ سرى عَنهُ،
ولمع عَلَيْهِ بارق من الْعلم الثَّانِي، ثمَّ لما انْتقل إِلَى حَظِيرَة
الْقُدس علم الْحَال أصرح مَا يكون، وَكَانَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام
يظنّ مَا كَانَ يظنّ آدم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ
الْعلم الثَّانِي، وَقد ذكرنَا أَن الوقائع الخارجية يكون لَهَا تَعْبِير
كتعبير الْمَنَام وَأَن الْأَمر وَالنَّهْي لَا يكونَانِ جزَافا، بل لَهما
استعداد يوجبهما.
(1/283)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة، ثمَّ أَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ، وَيُنَصِّرَانِهِ، ويمجسانه كَمَا تنْتج الْبَهِيمَة
جَمْعَاء هَل تُحِسُّونَ فِيهَا من جَدْعَاء ".
أَقُول اعْلَم أَن الله تَعَالَى أجْرى سنته بِأَن يخلق كل نوع من
الْحَيَوَانَات والنباتات وَغَيرهمَا على شكل خَاص بِهِ، فَخص الْإِنْسَان
مثلا بِكَوْنِهِ بَادِي الْبشرَة مستوي الْقَامَة عريض الْأَظْفَار ناطقا
ضَاحِكا، وبتلك الْخَواص يعرف أَنه إِنْسَان اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تخرق
الْعَادة فَرد نَادِر كَمَا ترى أَن بعض المولودات يكون لَهُ خرطوم أَو
حافر فَكَذَلِك أجْرى سنته أَن يخلق فِي كل نوع قسطا من الْعلم والإدراك
محدودا بِحَدّ مَخْصُوصًا بِهِ لَا يُوجد فِي غَيره مطردا فِي أَفْرَاده،
فَخص النَّحْل بِإِدْرَاك
الْأَشْجَار الْمُنَاسبَة لَهَا، ثمَّ اتِّخَاذ الأكنان وَجمع الْعَسَل
فِيهَا، فَلَنْ ترى فَردا من أَفْرَاد النَّحْل إِلَّا وَهُوَ يدْرك ذَلِك،
وَخص الْحمام بِأَنَّهُ كَيفَ يهدر وَكَيف يعشش وَكَيف يزق فِرَاخه،
وَكَذَلِكَ خص الله تَعَالَى الْإِنْسَان بِإِدْرَاك زَائِد وعقل
مُسْتَوْفِي، ودس فِيهِ معرفَة بارئه وَالْعِبَادَة لَهُ وأنواع مَا
يرتفقون بِهِ فِي معاشهم وَهُوَ الْفطْرَة، فَلَو أَنهم لم يمنعهُم مَانع
لكبروا عَلَيْهَا، لكنه قد تعترض الْعَوَارِض كاضلال الْأَبَوَيْنِ، فينقلب
الْعلم جهلا كَمثل الرهبان يتمسكون بأنواع الْحِيَل، فيقطعون شَهْوَة
النِّسَاء والجوع مَعَ أَنَّهُمَا مدسوسان فِي فطْرَة الْإِنْسَان.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خلقهمْ لَهَا وهم فِي أصلاب
آبَائِهِم - وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم من آبَائِهِم "
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الله أعلم بِمَا كَانُوا
عاملين " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَنَامه الطَّوِيل:
" نسم ذُرِّيَّة بني آدم تكون عِنْد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ".
اعْلَم أَن الْأَكْثَر أَن يُولد الْوَلَد على الْفطْرَة كَمَا مر، لَكِن
قد يخلق بِحَيْثُ يسْتَوْجب اللَّعْن بِلَا عمل كَالَّذي قَتله الْخضر طبع
كَافِرًا، وَأما من آبَائِهِم فَمَحْمُول على أَحْكَام الدُّنْيَا،
وَلَيْسَ أَن التَّوَقُّف فِي النواميس إِنَّمَا يكون لعدم الْعلم، بل قد
يكون لعدم انضباط الْأَحْكَام بمظنة ظَاهِرَة أَو لعدم الْحَاجة إِلَى
بَيَانه أَو غموض فِيهِ بِحَيْثُ لَا يفهمهُ المخاطبون.
(1/284)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
بِيَدِهِ الْمِيزَان أَن يخْفض وَيرْفَع " أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى
التَّدْبِير، فَإِن مبناه على اخْتِيَار الأوفق بِالْمَصْلَحَةِ، فَمَا من
حَادِثَة يجْتَمع فِيهَا أَسبَاب متنازعة إِلَّا وَيَقْضِي الله فِي ذَلِك
مَا هُوَ عدل، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {كل يَوْم هُوَ فِي شَأْن} .
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن قُلُوب بني آدم كلهَا بَين
أصبعين من
من أَصَابِع الرَّحْمَن " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل
الْقلب كريشة بِأَرْض فلاة تقلبها الرِّيَاح ظهرا لبطن " أَقُول: أَفعَال
الْعباد اختيارية، لَكِن لَا اخْتِيَار لَهُم فِي ذَلِك الِاخْتِيَار،
وَإِنَّمَا مثله كَمثل رجل أَرَادَ أَن يَرْمِي حجرا، فَلَو أَنه كَانَ
قَادِرًا حكيما خلق فِي الْحجر اخْتِيَار الْحَرَكَة أَيْضا، وَلَا يرد
عَلَيْهِ أَن الْأَفْعَال إِذا كَانَت مخلوقة لله تَعَالَى، وَكَذَلِكَ
الِاخْتِيَار فَفِيمَ الْجَزَاء، لِأَن معنى الْجَزَاء يرجع إِلَى ترَتّب
بعض أَفعَال الله تَعَالَى على الْبَعْض، بِمَعْنى أَن الله تَعَالَى خلق
هَذِه الْحَالة فِي العَبْد فَاقْتضى ذَلِك فِي حكمته أَن يخلق فِيهِ
حَالَة أُخْرَى من النِّعْمَة أَو الْأَلَم كَمَا أَنه يخلق فِي المَاء
حرارة، فَيَقْتَضِي ذَلِك أَن يكسوه صُورَة الْهَوَاء، وَإِنَّمَا يشْتَرط
وجود الِاخْتِيَار وَكسب العَبْد فِي الْجَزَاء بِالْعرضِ لَا بِالذَّاتِ،
وَذَلِكَ لِأَن النَّفس الناطقة لَا تقبل لون الْأَعْمَال الَّتِي لَا
تستند إِلَيْهَا، بل إِلَى غَيرهَا من جِهَة الْكسْب، وَلَا الْأَعْمَال
الَّتِي لَا تستند إِلَى اخْتِيَارهَا وقصدها، وَلَيْسَ فِي حِكْمَة الله
أَن يجازى العَبْد بِمَا لم تقبل نَفسه الناطقة لَونه، فَإِذا كَانَ
الْأَمر على ذَلِك كفى هَذَا الِاخْتِيَار غير المستقل فِي الشّرطِيَّة
إِذا كَانَ مصححا لقبُول لون الْعَمَل، وَهَذَا الْكسْب غير المستقل إِذا
كَانَ مصححا لتخصيص هَذَا العَبْد بِخلق الْحَالة الْمُتَأَخِّرَة فِيهِ
دون غَيره، وَهَذَا تَحْقِيق شرِيف مَفْهُوم من كَلَام الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ فاحفظه.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله خلق خلقه فِي ظلمَة
فَألْقى عَلَيْهِم من نوره فَمن أَصَابَهُ من ذَلِك النُّور اهْتَدَى وَمن
أخطأه ضل " فَلذَلِك أَقُول: جف الْقَلَم على علم الله، مَعْنَاهُ أَنه
قدرهم قبل أَن يخلقوا، فَكَانُوا هُنَالك عُرَاة عَن الْكَمَال فِي حد
أنفسهم، فاستوجبوا أَن يبْعَث إِلَيْهِم، وَينزل عَلَيْهِم، فاهتدى بعض
مِنْهُم، وضل آخَرُونَ وَقدر جَمِيع ذَلِك مرّة وَاحِدَة، لَكِن كَانَ لما
من أنفسهم تقدم على مَا لَهُم يبْعَث الرُّسُل، كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِوَايَة عَن الله تَعَالَى: " كلكُمْ جَائِع إِلَّا من
أطعمته، وكلكم ضال إِلَّا من هديته " أَو نقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى
وَاقعَة مثل وَاقعَة إِخْرَاج ذُرِّيَّة آدم عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا قضى الله لعبد أَن يَمُوت
بِأَرْض جعل لَهُ إِلَيْهَا حَاجَة " أَقُول: فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن بعض
الْحَوَادِث تُوجد لِئَلَّا ينخرم نظام الْأَسْبَاب، فَإِن لم يكن اسْتهلّ
من إلهام أَو بعث تقريب لَا بُد أَن يظْهر ذَلِك
(1/285)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
كتب الله مقادير الْخَلَائق قبل أَن يخلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض
بِخَمْسِينَ ألف سنة وَكَانَ عَرْشه على المَاء " أَقُول: خلق الله
تَعَالَى الْعَرْش وَالْمَاء أول مَا خلق، ثمَّ خلق جَمِيع مَا أَرَادَ أَن
يُوجد فِي قُوَّة من قوى الْعَرْش يشبه الخيال من قوانا، وَهُوَ الْمعبر
عَنهُ بِالذكر على مَا بَينه الإِمَام الْغَزالِيّ - وَلَا تَظنن ذَلِك
مُخَالفا للسّنة - فَإِنَّهُ لم يَصح عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من
بَيَان صُورَة الْقَلَم واللوح على مَا يلهج بِهِ الْعَامَّة شَيْء يعْتد
بِهِ، وَالَّذِي يَرْوُونَهُ هُوَ من الاسرائيليات وَلَيْسَ من
الْأَحَادِيث المحمدية، وَذَهَاب الْمُتَأَخِّرين من أهل الحَدِيث إِلَى
مثله نوع من التعمق وَلَيْسَ للْمُتَقَدِّمين فِي ذَلِك كَلَام.
وَبِالْجُمْلَةِ فتحققت هُنَالك صُورَة هَذِه السلسلة بِتَمَامِهَا عبر
عَنهُ بِالْكِتَابَةِ أخذا من إِطْلَاق الْكِتَابَة فِي السياسة المدنية
على التَّعْيِين والإيجاب، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم
الصّيام} .
وَقَوله تَعَالَى: {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر} . الْآيَة
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله كتب على عَبده حَظه
من
من الزِّنَا " الحَدِيث، وَقَول الصَّحَابِيّ: كتبت فِي غَزْوَة كَذَا وَلم
يكن هُنَاكَ ديوَان كَمَا ذكره كَعْب بن مَالك، وَنَظِير ذَلِك فِي أشعار
الْعَرَب كثير جدا، وَذكر - خمسين ألف سنة - يحْتَمل أَن يكون تعيينا
وَيحْتَمل أَن يكون بَيَانا لطول الْمدَّة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الله خلق آدم، ثمَّ مسح
ظَهره بِيَمِينِهِ " الحَدِيث أَقُول لما خلق الله آدم ليَكُون أَبَا
للبشر. التف فِي وجوده حقائق بنيه، فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى وقتا من
أوقاته، علم مَا تضمنه وجوده بِحَسب الْقَصْد الألهي، فَأرَاهُ إيَّاهُم
رأى عين بِصُورَة مثالية، وَمثل سعادتهم وشقاوتهم بِالنورِ والظلمة، وَمثل
مَا جبلهم عَلَيْهِ من استعداد التَّكْلِيف بالسؤال وَالْجَوَاب والالتزام
على أنفسهم، فهم يؤاخذون بِأَصْل استعدادهم، وتنسب الْمُؤَاخَذَة إِلَى
شبحه فِي الظَّاهِر.
(1/286)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه " الحَدِيث أَقُول: هَذَا الِانْتِقَال
تدريجي غير دفعي، وكل حد يباين السَّابِق واللاحق، وَيُسمى مَا لم
يتَغَيَّر من صُورَة الدَّم تغيرا فَاحِشا - نُطْفَة - وَمَا فِيهِ انجماد
ضَعِيف - علقَة وَمَا فِيهِ انجماد أَشد من ذَلِك - مُضْغَة وَإِن كَانَ
فِيهِ عظم رخو، وكما أَن النواة إِذا ألقيت فِي الأَرْض وَذَلِكَ فِي وَقت
مَعْلُوم، وأحاط بهَا تَدْبِير مَعْلُوم علم المطلع على خاصية نوع النّخل
وخاصية تِلْكَ الأَرْض وَذَلِكَ المَاء وَذَلِكَ الْوَقْت أَنه يحسن نباتها
ويتحقق من شَأْنه على بعض الْأَمر، فَكَذَلِك يجلي الله على بعض
الْمَلَائِكَة حَال الْمَوْلُود بِحَسب الجبلة الَّتِي جبل عَلَيْهَا.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُم من أحد إِلَّا
وَقد كتب لَهُ مَقْعَده من النَّار ومقعده من الْجنَّة " أَقُول: كل صنف من
أَصْنَاف النَّفس لَهُ كَمَال ونقصان، عَذَاب وثواب، وَيحْتَمل أَن يكون
الْمَعْنى إِمَّا من الْجنَّة وَإِمَّا من النَّار، وَقَوله تَعَالَى:
{وَإِذا أَخذ رَبك من بني آدم} . الْآيَة
لَا يُخَالف حَدِيث " ثمَّ مسح ظَهره بِيَمِينِهِ واستخرج مِنْهُ ذُريَّته
" لِأَن آدم أخذت عَنهُ ذُريَّته وَمن ذُريَّته ذُرِّيتهمْ إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة على التَّرْتِيب الَّذِي يوجدون عَلَيْهِ، فَذكر فِي الْقُرْآن
بعض الْقِصَّة وَبَين الحَدِيث تتمتها، قَوْله تَعَالَى: {فَأَما من أعْطى
وَاتَّقَى وَصدق بِالْحُسْنَى} .
أَي من كَانَ متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات فِي علمنَا وقدرنا (فسنسيره) لتِلْك
الْأَعْمَال فِي الْخَارِج، وَبِهَذَا التَّوْجِيه ينطبق عَلَيْهِ
الحَدِيث.
قَوْله تَعَالَى: {وَنَفس وَمَا سواهَا فألهمها فجورها وتقواها} .
أَقُول المُرَاد بالإلهام هُنَا خلق صُورَة الْفُجُور فِي النَّفس كَمَا
سبق فِي حَدِيث ابْن مَسْعُود، فالإلهام فِي الأَصْل خلق الصُّورَة العلمية
الَّتِي يصير بهَا عَالما، ثمَّ نقل إِلَى صُورَة إجمالية هِيَ مبدأ آثَار،
وَإِن لم يصر بهَا عَالما تجوزا، وَالله أعلم.
(1/287)
(من أَبْوَاب الِاعْتِصَام بِالْكتاب
وَالسّنة)
قد حذرنا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدَاخِل التحريف
بأقسامها. وَغلظ النَّهْي عَنْهَا، وَأخذ العهود من أمته فِيهَا، فَمن أعظم
أَسبَاب التهاون ترك الْأَخْذ بِالسنةِ، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا من نَبِي بَعثه الله فِي أمته قبلي إِلَّا كَانَ
لَهُ من أمته حواريون وَأَصْحَاب يَأْخُذُونَ بسنته، ويقتدون بأَمْره، ثمَّ
إِنَّهَا تخْتَلف من بعدهمْ خلوف يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، ويفعلون
مَا لَا يؤمرون، فَمن جاهدهم بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن جاهدهم
بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤمن، وَمن جاهدهم بِقَلْبِه فَهُوَ مُؤمن، وَلَيْسَ
وَرَاء ذَلِك من الْإِيمَان حَبَّة خَرْدَل " وَقَوله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا أَلفَيْنِ أحدكُم مُتكئا على أريكته يَأْتِيهِ
الْأَمر من أَمْرِي مِمَّا أمرت بِهِ أَو نهيت عَنهُ، فَيَقُول: لَا
أَدْرِي مَا وَجَدْنَاهُ فِي كتاب الله اتبعناه " وَرغب فِي الْأَخْذ
بِالسنةِ جدا لَا سِيمَا عِنْد اخْتِلَاف النَّاس.
وَفِي التشدد قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تشددوا على
أَنفسكُم، فيشدد الله عَلَيْكُم " ورده على عبد الله بن عَمْرو والرهط
الَّذين تقالوا عبَادَة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَرَادُوا شاق الطَّاعَات.
وَفِي التعمق قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَال أَقوام
يتنزهون عَن الشَّيْء أصنعه، فوَاللَّه إِنِّي لأعلمهم بِاللَّه وأشدهم
خشيَة لَهُ " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " مَا ضل قوم بعد هدى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجدل " وَقَوله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم ".
وَفِي الْخَلْط قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أَرَادَ
الْخَوْض فِي علم الْيَهُود " أمتهوكون أَنْتُم كَمَا تهوكت الْيَهُود
والنصار؟ لقد جِئتُكُمْ بهَا بَيْضَاء نقية وَلَو كَانَ مُوسَى حَيا لما
وَسعه إِلَّا اتباعي "، وَجعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبْغض
النَّاس من هُوَ مبتغ فِي الْإِسْلَام سنة الْجَاهِلِيَّة.
وَفِي الِاسْتِحْسَان قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحدث
فِي أمرنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رد " وَضرب الْمَلَائِكَة لَهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل رجل بنى دَارا، وَجعل فِيهَا مأدبة،
وَبعث دَاعيا أَقُول هَذَا إِشَارَة إِلَى تَكْلِيف النَّاس بِهِ وَجعله
كالأمر المحسوس إكمالا للتعليم.
(1/288)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
مثلي كَمثل رجل استوقد نَارا، الحَدِيث وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا مثلي وَمثل مَا بَعَثَنِي الله بِهِ كَمثل رجل أَتَى
قوما فَقَالَ يَا قوم إِنِّي رَأَيْت الْجَيْش بعيني " الحَدِيث
دَلِيل ظَاهر على أَن هُنَالك أعمالا تستوجب فِي أَنْفسهَا عذَابا قبل
الْبعْثَة، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثل مَا بَعَثَنِي
الله بِهِ من الْهدى وَالْعلم كَمثل الْغَيْث الْكثير أصَاب أَرضًا
الحَدِيث فِيهِ بَيَان قبُول أهل الْعلم هدايته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِأحد وَجْهَيْن، الرِّوَايَة صَرِيحًا، وَالرِّوَايَة دلَالَة
بِأَن استنبطوا، وأخبروا بالمستنبطات، أَو عمِلُوا بِالشَّرْعِ، فاهتدى
النَّاس بهديهم، وَعدم قبُول أهل الْجَهْل رَأْسا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الموعظة البليغة: "
فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين ".
أَقُول انتظام الدّين يتَوَقَّف على اتِّبَاع سنَن النَّبِي، وانتظام
السياسة الْكُبْرَى يتَوَقَّف على الانقياد للخلفاء فِيمَا يأمرونهم
بِالِاجْتِهَادِ فِي بَاب الارتفاقات وَإِقَامَة الْجِهَاد، وأمثال ذَلِك
مَا لم يكن إبداعا لشريعة أَو مُخَالفا لنَصّ.
" خطّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُم خطا ثمَّ قَالَ:
هَذَا سَبِيل الله، ثمَّ خطّ خُطُوطًا عَن يَمِينه وَعَن شِمَاله وَقَالَ:
هَذِه سبل، على كل سَبِيل مِنْهَا شَيْطَان يَدْعُو إِلَيْهِ وَقَرَأَ.
{وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل
فَتفرق بكم عَن سَبيله} .
أَقُول الْفرْقَة النَّاجِية هم الآخذون فِي العقيدة وَالْعَمَل جَمِيعًا
بِمَا ظهر من الْكتاب وَالسّنة، وَجرى عَلَيْهِ جُمْهُور الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وَإِن اخْتلفُوا فِيمَا
بَينهم فِيمَا لم يشْتَهر فِيهِ نَص، وَلَا ظهر من الصَّحَابَة اتِّفَاق
عَلَيْهِ اسْتِدْلَالا مِنْهُم بِبَعْض مَا هُنَالك أَو تَفْسِيرا لمجمله.
وَغير النَّاجِية كل فرقة انتحلت عقيدة خلاف عقيدة السّلف أَو عملا دون
أَعْمَالهم.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَجْتَمِع هَذِه الْأمة على
الضَّلَالَة " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يبْعَث الله
لهَذِهِ الْأمة على راس كل أمة سنة من يجدد لَهَا دينهَا " وَتَفْسِيره فِي
حَدِيث آخر: يحمل هَذَا الْعلم من كل خلف عَدو لَهُ ينفون عَنهُ تَحْرِيف
الغالين وانتحال المبطلين وَتَأْويل الْجَاهِلين ".
اعْلَم أَن النَّاس لما اخْتلفُوا فِي الدّين، وأفسدوا فِي الأَرْض قرع
ذَلِك بَاب جود الْحق
(1/289)
فَبعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَأَرَادَ بذلك إِقَامَة الْملَّة العوجاء، ثمَّ لما توفّي
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَت تِلْكَ الْعِنَايَة
بِعَينهَا متوجهة إِلَى حفظ علمه ورشده فِيمَا بَينهم، فأورثت فيهم إلهامات
وتقريبات، فَفِي حَظِيرَة الْقُدس دَاعِيَة لإِقَامَة الْهِدَايَة فيهم مَا
لم تقم السَّاعَة، فَوَجَبَ لذَلِك أَن يكون فيهم لَا محَالة أمة قَائِمَة
بِأَمْر الله، وَأَن لَا يجتمعوا على الضَّلَالَة بأسرهم، وَأَن يحفظ
الْقُرْآن فيهم، وَأوجب اخْتِلَاف استعدادهم أَن يلْحق بِمَا عِنْدهم مَعَ
ذَلِك شَيْء من التَّغَيُّر، فانتظرت الْعِنَايَة لناس مستعدين قضى لَهُم
بالتنويه، فأورث فِي قُلُوبهم الرَّغْبَة فِي الْعلم، وَنفى تَحْرِيف
الغالين وَهُوَ إِشَارَة إِلَى التشدد والتعمق، وانتحال المبطلين وَهُوَ
إِشَارَة إِلَى الِاسْتِحْسَان وخلط مِلَّة بِملَّة، وَتَأْويل الْجَاهِلين
وَهُوَ إِشَارَة إِلَى التهاون، وَترك الْمَأْمُور بِهِ بِتَأْوِيل ضَعِيف
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يرد الله بِهِ خير يفقهه فِي
الدّين " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَن الْعلمَاء
وَرَثَة الْأَنْبِيَاء " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فضل
الْعَالم على العابد كفضلي على أدناكم " وأمثال ذَلِك، اعْلَم أَن
الْعِنَايَة الإلهية إِذا حلت بشخص، وصيره الله مَظَنَّة لتدبير إلهي لَا
بُد أَن يصير مرحوما وَأَن تُؤمر الْمَلَائِكَة بمحبته وتعظيمه لحَدِيث
محبَّة جِبْرَائِيل
وَوضع الْقبُول فِي الأَرْض، وَلما انْتقل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَنزلت الْعِنَايَة الْخَاصَّة بِهِ بِحَسب حفظ مِلَّته إِلَى
حَملَة الْعلم وَرُوَاته ومشيعيه، فانتج فيهم فَوَائِد لَا تحصى
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نضر الله عبدا سمع مَقَالَتي
فحفظها ووعاها وأداها كَمَا سَمعهَا " أَقُول: سَبَب هَذَا الْفضل أَنه
مَظَنَّة لحمل الْهِدَايَة النَّبَوِيَّة إِلَى الْخلق.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كذب عَليّ مُتَعَمدا،
فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " يكون فِي آخر الزَّمَان دجالون كذابون ".
أَقُول لما كَانَ طَرِيق بُلُوغ الدّين إِلَى الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة
إِنَّمَا هِيَ الرِّوَايَة، وَإِذا دخل الْفساد من وَجهه الرِّوَايَة لم
يكن لَهُ علاج الْبَتَّةَ كَانَ الْكَذِب على النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَبِيرَة، وَوَجَب الِاحْتِيَاط فِي الرِّوَايَة
لِئَلَّا يرْوى كذبا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حدثوا عَن بني إِسْرَائِيل
وَلَا حرج " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تُصَدِّقُوهُمْ
وَلَا تكذبوهم " أَقُول: الرِّوَايَة عَن أهل الْكتاب تجوز فِيمَا سَبيله
سَبِيل الِاعْتِبَار، وَحَيْثُ يكون الآمن عَن الِاخْتِلَاط فِي شرائع
الدّين، وَلَا تجوز فِيمَا سوى ذَلِك،، وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن يعلم أَن
غَالب الْإسْرَائِيلِيات المدسوسة فِي كتب التَّفْسِير، وَالْأَخْبَار
منقولة عَن أَخْبَار أهل الْكتاب لَا يَنْبَغِي أَن يبْنى عَلَيْهَا حكم
واعتقاد فَتدبر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تعلم علما مِمَّا يَنْبَغِي
بِهِ وَجه الله لَا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يحد
عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة " يَعْنِي رِيحهَا
(1/290)
أَقُول يحرم طلب الْعلم الديني لأجل
الدُّنْيَا وَيحرم تَعْلِيم من يرى فِيهِ الْغَرَض الْفَاسِد لوجوه:
مِنْهَا أَن مثله لَا يَخْلُو غَالِبا من تَحْرِيف الدّين لأغراض
الدُّنْيَا بِتَأْوِيل ضَعِيف، فَوَجَبَ سد الذريعة وَمِنْهَا ترك حُرْمَة
الْقُرْآن وَالسّنَن وَعدم الاكتراث بهَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سُئِلَ عَن علم علمه، ثمَّ
كتمه، ألْجم يَوْم الْقِيَامَة بلجام من نَار " أَقُول يحرم كتم الْعلم
عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ لِأَنَّهُ أصل التهاون وَسبب نِسْيَان
الشَّرَائِع، وأجزية الْمعَاد تبنى على المناسبات فَلَمَّا كَانَ الْإِثْم
كف لِسَانه عَن النُّطْق جوزي بشبح الْكَفّ وَهُوَ اللجام من نَار.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْعلم ثَلَاثَة آيَة محكمَة،
أَو سنة قَائِمَة، أَو فَرِيضَة عادلة، وَمَا كَانَ سوى ذَلِك فَهُوَ فضل "
أَقُول هَذَا ضبط وتحديد لما يجب عَلَيْهِم بالكفاية، فَيجب معرفَة
الْقُرْآن لفظا، وَمَعْرِفَة محكمَة بالبحث عَن شرح غَرِيبه وَأَسْبَاب
نُزُوله وتوجيه معضله وناسخه ومنسوخه أما المتشابهة فحكمة التَّوَقُّف أَو
الإرجاع إِلَى الْمُحكم وَالسّنة الْقَائِمَة مَا ثَبت فِي الْعِبَادَات
والارتفاقات من الشَّرَائِع وَالسّنَن مِمَّا يشْتَمل عَلَيْهِ علم
الْفِقْه، والقائمة مَا لم ينْسَخ، وَلم يهجر، وَلم يشذ رَاوِيه، وَجرى
عَلَيْهِ جُمْهُور الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. أَعْلَاهَا مَا اتّفق
فُقَهَاء الْمَدِينَة والكوفة عَلَيْهِ، وآيته أَن يتَّفق على ذَلِك
الْمذَاهب الْأَرْبَعَة، ثمَّ مَا كَانَ فِيهِ قَولَانِ لجمهور الصَّحَابَة
أَو ثَلَاثَة، ذَلِك كل قد عمل بِهِ طَائِفَة من أهل الْعلم، وَآيَة ذَلِك
أَن تظهر فِي مثل الْمُوَطَّأ وجامع عبد الرَّزَّاق ورواياتهم وَمَا سوى
ذَلِك فَإِنَّمَا هُوَ استنباط بعض الْفُقَهَاء دون بعض تَفْسِيرا وتخريجا
واستدلالا واستنباطا، وَلَيْسَ من الْقَائِمَة وَالْفَرِيضَة العادلة
الْأَنْصِبَاء للْوَرَثَة، وَيلْحق بِهِ أَبْوَاب الْقَضَاء مِمَّا سَبيله
قطع الْمُنَازعَة بَين الْمُسلمين بِالْعَدْلِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَة يحرم
خلو الْبَلَد عَن غالبها لتوقف الدّين عَلَيْهِ، وَمَا سوى ذَلِك من بَاب
الْفضل وَالزِّيَادَة.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الأغلوطات، وَهِي الْمسَائِل
الَّتِي يَقع الْمَسْئُول عَنْهَا فِي الْغَلَط ويمتحن بهَا أذهان النَّاس،
وَإِنَّمَا نهى عَنْهَا لوجوه.
مِنْهَا أَن فِيهَا إِيذَاء وإذلالا للمسئول عَنهُ وعجبا وبطرا لنَفسِهِ
وَمِنْهَا أَنَّهَا تفتح بَاب التعمق وَإِنَّمَا الصَّوَاب مَا كَانَ عِنْد
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ أَن يُوقف
(1/291)
على ظَاهر السّنة، وَمَا هُوَ بِمَنْزِلَة
الظَّاهِر من الْإِيمَاء والاقتضاء والفحوى، وَألا يمعن جدا أَلا يقتحم فِي
الِاجْتِهَاد حَتَّى يضْطَر إِلَيْهِ، وَتَقَع الْحَادِثَة فَإِن الله يفتح
عِنْد ذَلِك الْعلم عناية مِنْهُ بِالنَّاسِ، وَأما تهيئته من قبل فمظنة
الغلظ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قَالَ فِي الْقُرْآن
بِرَأْيهِ، فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده فِي النَّار " - أَقُول: يحرم الْخَوْض
فِي التَّفْسِير لمن لَا يعرف اللِّسَان الَّذِي نزل الْقُرْآن بِهِ
والمأثور عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابه
وَالتَّابِعِينَ من شرح غَرِيب وَسبب نزُول وناسخ ومنسوخ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المراء فِي الْقُرْآن كفر "
أَقُول: يحرم الْجِدَال فِي الْقُرْآن وَهُوَ أَن يرد الحكم الْمَنْصُوص
بِشُبْهَة يجدهَا فِي نَفسه:
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ
بِهَذَا ضربوا كتاب الله بعضه بِبَعْض " أَقُول: يحرم التدارؤ
بِالْقُرْآنِ، وَهُوَ أَن يسْتَدلّ وَاحِد بِآيَة، فَيردهُ آخر بِآيَة
أُخْرَى طلبا لإِثْبَات مَذْهَب نَفسه، وَهدم وضع صَاحبه، أَو ذَهَابًا
إِلَى نصْرَة مَذْهَب بعض الْأَئِمَّة على مَذْهَب بعض، وَلَا يكون جَامع
الهمة على ظُهُور الصَّوَاب والتدارؤ بِالسنةِ مثل ذَلِك.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لكل آيَة مِنْهَا ظهر وبطن
وَلكُل حد مطلع " أَقُول أَكثر مَا فِي الْقُرْآن بَيَان صِفَات الله
تَعَالَى وآياته، وَالْأَحْكَام والقصص والاحتجاج على الْكفَّار
وَالْمَوْعِظَة بِالْجنَّةِ وَالنَّار - فالظهر - الْإِحَاطَة بِنَفس مَا
سيق الْكَلَام لَهُ والبطن فِي آيَات الصفاء التفكر فِي آلَاء الله
والمراقبة، وَفِي آيَات الْأَحْكَام الاستنباط بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَة
والفحوى والاقتضاء كاستنباط عَليّ رَضِي الله عَنهُ من قَوْله تَعَالَى:
{وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} .
إِن هَذِه مُدَّة الْحمل قد تكون سِتَّة أشهر لقَوْله:
{حَوْلَيْنِ كَامِلين}
وَفِي الْقَصَص معرفَة منَاط الثَّوَاب والمدح أَو الْعَذَاب أَو الذَّم،
وَفِي العظة رقة الْقلب وَظُهُور الْخَوْف والرجاء وأمثال ذَلِك ومطلع كل
حد الاستعداد الَّذِي بِهِ يحصل كمعرفة اللِّسَان والْآثَار وكلطف الذِّهْن
واستقامة الْفَهم.
(1/292)
قَوْله تَعَالَى:
{مِنْهُ آيَات محكمات هن أم الْكتاب وَأخر متشابهات}
أَقُول الظَّاهِر أَن الْمُحكم مَا لم يحْتَمل إِلَّا وَجها وَاحِدًا مثل:
{حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم وأخواتكم}
والمتشابه مَا احْتمل وُجُوهًا، وَإِنَّمَا المُرَاد بَعْضهَا كَقَوْلِه
تَعَالَى:
{لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا}
حملهَا الزائغون على إِبَاحَة الْخمر مَا لم يكن بغي أَو إِفْسَاد فِي
الأَرْض، وَالصَّحِيح حملهَا على شاربيها قبل التَّحْرِيم.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِنَّمَا الْأَعْمَال
بِالنِّيَّاتِ " أَقُول: النِّيَّة الْقَصْد والعزيمة، وَالْمرَاد هَهُنَا
الْعلَّة الغائبة الَّتِي يتصورها الْإِنْسَان فيبعثه على الْعَمَل مثل طلب
ثَوَاب من الله أَو طلب رضَا الله، وَالْمعْنَى لَيْسَ للأعمال أثر فِي
تَهْذِيب النَّفس وَإِصْلَاح عوجها إِلَّا إِذا كَانَت صادرة من تصور مقصد
مِمَّا يرجع إِلَى التَّهْذِيب دون الْعَادة وموافقة النَّاس أَو الرِّيَاء
والسمعة أَو قَضَاء
جبلة، كالقتال من الشجاع الَّذِي لَا يَسْتَطِيع الصَّبْر عَن الْقِتَال،
فلولا مجاهدة الْكفَّار لصرف هَذَا الْخلق فِي قتال الْمُسلمين، وَهُوَ مَا
سُئِلَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الرجل وَيُقَاتل رِيَاء
يُقَاتل شجاعة فأيها فِي سَبِيل الله؟ فَقَالَ: من قَاتل لتَكون كلمة الله
هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله " وَالْفِقْه فِي ذَلِك أَن عَزِيمَة
الْقلب روح الْأَعْمَال أشباح لَهَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَلَال بَين، وَالْحرَام
بَين، وَبَينهمَا مُشْتَبهَات، فَمن اتَّقى الشُّبُهَات فقد اسْتَبْرَأَ
لدينِهِ وَعرضه " أَقُول قد تتعارض الْوُجُوه فِي الْمَسْأَلَة، فَتكون
السّنة حِينَئِذٍ الِاسْتِبْرَاء وَالِاحْتِيَاط، فَمن التَّعَارُض أَن
تخْتَلف الرِّوَايَة تَصْرِيحًا كمس الذّكر، هَل ينْقض الْوضُوء، أثْبته
الْبَعْض، ونفاه الْآخرُونَ، وَلكُل وَاحِد حَدِيث يشْهد لَهُ،
كَالنِّكَاحِ للْمحرمِ سوغه طَائِفَة، ونفاه آخَرُونَ، وَاخْتلفت
الرِّوَايَة.
وَمِنْه أَن يكون اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي هَذَا الْبَاب غير منضبط
الْمَعْنى يكون مَعْلُوما بِالْقِسْمَةِ والمثال، وَلَا يكون مَعْلُوما
بِالْحَدِّ الْجَامِع الْمَانِع، فَيخرج ثَلَاث مواد، مَادَّة يُطلق
عَلَيْهِ اللَّفْظ يَقِينا، ومادة لَا يُطلق عَلَيْهَا يَقِينا، ومادة لَا
يدْرِي هَل يَصح الْإِطْلَاق عَلَيْهَا أم لَا.
وَمِنْه أَن يكون الحكم مَنُوطًا يَقِينا بعلة هِيَ مَظَنَّة لمقصد
يَقِينا، وَيكون نوع لَا يُوجد فِيهِ الْمَقْصد، وَيُوجد فِيهِ الْعلَّة
كالأمة الْمُشْتَرَاة مِمَّن لَا يُجَامع مثله، هَل يجب استبراؤها؟
فَهَذِهِ وأمثالها يتَأَكَّد الِاحْتِيَاط فِيهَا.
(1/293)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نزل الْقُرْآن على خَمْسَة
وُجُوه، حَلَال، وَحرَام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. أَقُول: هَذِه الْوُجُوه
أَقسَام للْكتاب وَلَو بتقسيمات شَتَّى، فَلَا جرك لَيْسَ فِيهِ تمانع
حَقِيقِيّ، فَالْحكم يكون تَارَة حَلَالا وَأُخْرَى حَرَامًا، وَفِي أصُول
الدّين ترك الْخَوْض بِالْعقلِ فِي المتشابهات من
الْآيَات وَالْأَحَادِيث، وَمن ذَلِك أُمُور كَثِيرَة لَا يدْرِي أأريد
حَقِيقَة الْكَلَام أم أقرب مجَاز إِلَيْهَا؟ وَذَلِكَ فِيمَا لم تجمع
عَلَيْهِ الْأمة، وَلم ترْتَفع فِيهِ الشُّبْهَة وَالله أعلم. |