حجة الله البالغة

(من أَبْوَاب الطَّهَارَة)
اعْلَم أَن الطَّهَارَة على ثَلَاثَة أَقسَام: طَهَارَة من الْحَدث، وطهارة من النَّجَاسَة الْمُتَعَلّقَة بِالْبدنِ أَو الثَّوْب أَو الْمَكَان، وطهارة من الأوساخ النابتة من الْبدن كشعر الْعَانَة والأظافر والدرن.
أما الطَّهَارَة من الْأَحْدَاث فمأخوذة من أصُول الْبر، والعمدة فِي معرفَة الْحَدث، وروح الطَّهَارَة وجدان أَصْحَاب النُّفُوس الَّتِي ظَهرت فِيهَا أنوار ملكية، فأحسست بمنافرتها للحالة الَّتِي تسمى حَدثا، وسرورها وانشراحها فِي الْحَالة الَّتِي تسمى طَهَارَة، وَفِي تعْيين هيئات الطَّهَارَة وموجباتها مَا اشْتهر فِي الْملَل السَّابِقَة من الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس وبقايا الْملَل الإسماعيلية، فَكَانُوا يجْعَلُونَ الْحَدث على قسمَيْنِ، وَالطَّهَارَة على ضَرْبَيْنِ - كَمَا ذكرنَا من قبل - وَكَانَ الْغسْل من الْجَنَابَة سنة سائره فِي الْعَرَب فوزع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسمي الطَّهَارَة على نَوْعي الْحَدث، فَجعل الطَّهَارَة الْكُبْرَى بأزاء الحَدِيث الْأَكْبَر لِأَنَّهُ أقل وقوعا وَأكْثر لوثا وأحوج إِلَى تَنْبِيه النَّفس بِعَمَل شاق، قَلما يفعل، مثله، وَالطَّهَارَة الصُّغْرَى بأزاء الْحَدث الْأَصْغَر لِأَنَّهُ أَكثر وقوعا وَأَقل لوثا ويكفيه التَّنْبِيه فِي الْجُمْلَة، والأمور الَّتِي فِيهَا معنى الحَدِيث كَثِيرَة جدا يعرفهَا أهل الاذواق السليمة ... لَكِن الَّذِي يصلح أَن يُخَاطب بِهِ النَّاس كَافَّة مَا هُوَ منضبط بِأُمُور محسوسة ظَاهِرَة الْأَثر فِي النَّفس لتمكن الْمُؤَاخَذَة بِهِ جهرة، فَلذَلِك تعين أَلا يدار الحكم على اشْتِغَال النَّفس بِمَا يختلج فِي الْمعدة، وَلَكِن يدار على خُرُوج شَيْء من السَّبِيلَيْنِ فَإِن الأول غير مضبوط الْمِقْدَار وَإِذا تمكن لَا يعرفهُ الْوضُوء من خَارج، وَالثَّانِي مَعْلُوم بالحس، وَأَيْضًا فلمعنى انقباض النَّفس فِيهِ شبح محسوس وخليقه ظَاهِرَة وَهِي التلطخ بِالنَّجَاسَةِ،
وَأَيْضًا إِنَّمَا يُؤثر الْوضُوء عِنْد زَوَال اشْتِغَال النَّفس وَذَلِكَ بِالْخرُوجِ، وَقد نبه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله " لَا يصل أحدكُم وَهُوَ يدافع الأخبثين. " أَن نفس الِاشْتِغَال فِيهِ معنى من مَعَاني الْحَدث.
والأمور الَّتِي فِيهَا معنى الطَّهَارَة كَثِيرَة كالتطيب والأذكار المذكرة لهَذِهِ الْخلَّة كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين " وَقَوله: " اللَّهُمَّ نقني من الْخَطَايَا

(1/294)


كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس " والحلول بالمواضع المتبركة وَنَحْو ذَلِك، لَكِن الَّذِي يصلح أَن يُخَاطب بِهِ جَمَاهِير النَّاس مَا يكون منضبطا متيسرا لَهُم كل حِين وكل مَكَان. وَالَّذِي يحس أَثَره بَادِي الرَّأْي، وَالَّذِي جرى عَلَيْهِ طوائف الْأُمَم.
وأصل الْوضُوء غسل الْأَطْرَاف، فضبط الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ - إِلَى الْمرْفقين - لِأَن دون ذَلِك لَا يحس أَثَره، وَالرّجلَيْنِ - إِلَى الْكَعْبَيْنِ - لِأَن دون ذَلِك لَيْسَ بعضو تَامّ، وَجعل وظيفه الرَّأْس الْمسْح لِأَن غسله نوع من الْحَرج.
وأصل الْغسْل نعميم الْبدن بِالْغسْلِ.
وأصل مُوجب الْوضُوء الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ وَمَا سوى ذَلِك مَحْمُول عَلَيْهِ
وأصل مُوجب الْغسْل الْجِمَاع وَالْحيض، وَكَأن هذَيْن الْأَمريْنِ كَانَا مُسلمين فِي الْعَرَب قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأما القسمان الْآخرَانِ من الطَّهَارَة فمأخوذان من الارتفاقات فَإِنَّهُمَا من مُقْتَضى أصل طبيعة الْإِنْسَان لَا يَنْفَكّ عَنْهُمَا قوم وَلَا مِلَّة، والشارع اعْتمد فِي ذَلِك على مَا عِنْد الْعَرَب القح من الرَّفَاهِيَة المتوسطة كَمَا اعْتمد عَلَيْهِ فِي سَائِر مَا ضبط من الارتفاقات فَلم يزدْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تعْيين الْآدَاب وتمييز الْمُشكل وَتَقْدِير الْمُبْهم.
(فصل فِي الْوضُوء)
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الطّهُور شطر الْإِيمَان ".
أَقُول: المُرَاد بِالْإِيمَان هَهُنَا هيأة نفسانية مركبة من نور الطَّهَارَة والإخبات، وَالْإِحْسَان أوضح مِنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنى، وَلَا شكّ أَن الطّهُور شطره.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تَوَضَّأ فَأحْسن الْوضُوء خرجت خطاياه من جسده حَتَّى تخرج من أَظْفَاره " أَقُول: النَّظَافَة المؤثرة فِي جذر النَّفس، تقدس النَّفس، وتلحقها بِالْمَلَائِكَةِ، وتنسى كثيرا من الْحَالَات الدنسية فَجعلت خاصيتها خاصية للْوُضُوء الَّذِي هُوَ شبحها ومظنتها وعنوانها.

(1/295)


قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " إِن أمتِي يدعونَ يَوْم الْقِيَامَة غرا محجلين من آثَار الْوضُوء، فَمن اسْتَطَاعَ مِنْكُم أَن يُطِيل غرته فَلْيفْعَل " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تبلغ الْحِلْية من الْمُؤمن حَيْثُ يبلغ الْوضُوء " أَقُول لما كَانَ شبح الطَّهَارَة مَا يتَعَلَّق بالأعضاء الْخَمْسَة تمثل تنعم النَّفس بهَا حلية لتِلْك الْأَعْضَاء وغرة وتحجلا كَمَا يتَمَثَّل الْجُبْن وَبرا والشجاعة أسدا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يحافظ على الْوضُوء إِلَّا مُؤمن " أَقُول: لما كَانَت الْمُحَافظَة عَلَيْهِ شاقة لَا تتأتى إِلَّا مِمَّن كَانَ على بَصِيرَة من أَمر الطَّهَارَة موقنا بنفعها الجسيم جعلت عَلامَة الْإِيمَان
(صفة الْوضُوء)
صفة الْوضُوء على مَا ذكره عُثْمَان وَعلي وَعبد الله بن زيد وَغَيرهم رضى الله عَنْهُم عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل تَوَاتر عَنهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتطابق عَلَيْهِ الْأمة أَن يغسل يَدَيْهِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، ويتمضمض، ويستنثر، ويستنشق، فَيغسل وَجهه فذراعيه إِلَى الْمرْفقين، فيمسح بِرَأْسِهِ، فَيغسل رجلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَلَا عِبْرَة بِقوم تجارت بهم الْأَهْوَاء، فانكروا غسل الرجلَيْن مُتَمَسِّكِينَ بِظَاهِر الْآيَة، فانه لَا فرق عِنْدِي بَين من قَالَ بِهَذَا القَوْل وَبَين من انكر غَزْوَة بدر أَو أحد مِمَّا هُوَ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَة النَّهَار، نعم من قَالَ بِأَن الِاحْتِيَاط الْجمع بَين الْغسْل وَالْمسح أَو أَن أدنى الْفَرْض الْمسْح، وَإِن كَانَ الْغسْل مِمَّا يلام أَشد الْمَلَامَة على تَركه فَذَلِك أَمر يُمكن أَن يتَوَقَّف فِيهِ الْعلمَاء حَتَّى تنكشف فِيهِ جلية الْحَال، وَلم أجد فِي رِوَايَة صَحِيحَة تَصْرِيحًا بِأَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأ بِغَيْر مضمضة واستنشاق وترتيب، فهى متأكدة فِي الْوضُوء غَايَة الوكادة، وهما طهارتان مستقلتان من خِصَال الْفطْرَة ضمتا مَعَ الْوضُوء ليَكُون ذَلِك توقيتا لَهما، ولإنهما من بَاب تعهد المغابن، والوصل بَينهمَا أصح من الْفَصْل.
واداب الْوضُوء ترجع إِلَى معَان (مِنْهَا) : تعهد المغابن الَّتِى لَا يصل إِلَيْهَا المَاء إِلَّا بعناية كالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق وتخليل أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ واللحية وتحريك الْخَاتم.

(1/296)


وَمِنْهَا إِكْمَال التَّنْظِيف كتثليث الْغسْل وكالاسباغ - وَهُوَ إطالة الْغرَّة - والتحجيل والإنقاء - وَهُوَ الدَّلْك - وَمسح الْأُذُنَيْنِ مَعَ الرَّأْس وَالْوُضُوء على الْوضُوء.
وَمِنْهَا مُوَافقَة عاداتهم فِي الْأُمُور المهمة كالبداءة بِالْإِيمَان، فَإِن الْيَمين أقوى وَأولى، فَكَانَ أَحَق بالبداءة فِيمَا كَانَ بهما، واختصاصه بالطيبات، والمحاسن دون أضدادها فِيمَا كَانَ بأحداهما
وَمِنْهَا ضبط فعل الْقلب بِأَلْفَاظ صَرِيحَة فِي المُرَاد، وَضم الذّكر اللساني مَعَ الْقلب.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا وضوء لمن لم يذكر الله ". أَقُول. هَذَا الحَدِيث لم يجمع أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ على تَصْحِيحه وعَلى تَقْدِير صِحَّته، فَهُوَ من الْمَوَاضِع الَّتِي اخْتلف فِيهَا طَرِيق التلقي من النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد اسْتمرّ الْمُسلمُونَ يحكون وضوء النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويعلمون النَّاس، وَلَا يذكرُونَ التَّسْمِيَة حَتَّى ظهر زمَان أهل الحَدِيث، وَهُوَ نَص على أَن التَّسْمِيَة ركن أَو شَرط، وَيُمكن أَن يجمع بَين الْوَجْهَيْنِ بِأَن المُرَاد هُوَ التَّذَكُّر بِالْقَلْبِ، فَإِن الْعِبَادَات لَا تقبل إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَحِينَئِذٍ يكون صِيغَة لَا وضوء على ظَاهرهَا، نعم التَّسْمِيَة أدب كَسَائِر الْآدَاب لقَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل أَمر ذِي بَال لم يبْدَأ باسم الله فَهُوَ أَبتر، وَقِيَاسًا على مَوَاضِع كَثِيرَة، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى لَا يكمل الْوضُوء لَكِن لَا أرتضي مثل التَّأْوِيل، فَإِنَّهُ من التَّأْوِيل الْبعيد الَّذِي يعود بالمخالفة على اللَّفْظ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده ".
أَقُول: مَعْنَاهُ أَن بعد الْعَهْد بالتطهر والغفلة عَنْهُمَا مَلِيًّا مَظَنَّة لوصول النَّجَاسَة والأوساخ إِلَيْهِمَا، مِمَّا يكون إِدْخَال المَاء مَعَه تنجيسا لَهُ أَو تكديرا وشناعة، وَهُوَ عِلّة النَّهْي عَن النفخ فِي الشَّرَاب.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فان الشَّيْطَان يبيت على خيشومه " أَقُول: مَعْنَاهُ أَن اجْتِمَاع المخاط والمواد الغليظة فِي الخيشوم سَبَب لتبلد الذِّهْن وَفَسَاد الْفِكر، فَيكون أمكن لتأثير الشَّيْطَان بالوسوسة وصده عَن تدبر الاذكار:

(1/297)


قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا مِنْكُم من أحد يتَوَضَّأ، فَيبلغ الْوضُوء، ثمَّ يَقُول: أشهد الخ - وَفِي رِوَايَة - اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين، واجعلني من المتطهرين فتحت لَهُ أَبْوَاب الْجنَّة الثَّمَانِية يدْخل من أَيهَا يَشَاء ".
أَقُول: روح الطَّهَارَة لَا يتم إِلَّا بتوجه النَّفس إِلَى عَالم الْغَيْب واستفراغ الْجهد فِي طلبَهَا، فضبط لذَلِك ذكرا ورتب عَلَيْهِ مَا هُوَ فَائِدَة الطَّهَارَة الدَّاخِلَة فِي جذر النَّفس.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لمن لم يستوعب: " ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار " أَقُول: السِّرّ فِيهِ أَن الله تَعَالَى لما أوجب غسل هَذِه الْأَعْضَاء، اقْتضى ذَلِك أَن يُحَقّق مَعْنَاهُ، فَإِذا غسل بعض الْعُضْو، وَلم يستوعب كُله لَا يَصح أَن يُقَال: غسل الْعُضْو، وَأَيْضًا فِيهِ سد بَاب التهاون وَإِنَّمَا تخللت النَّار فِي الأعقاب لِأَن تراكم الْحَدث والإصرار على عدم إِزَالَته خصْلَة مُوجبَة للنار، وَالطَّهَارَة مُوجبه للنجاة مِنْهَا وتكفير الْخَطَايَا، فَإِذا لم يُحَقّق معنى الطَّهَارَة فِي عُضْو، وَخَالف حكم الله فِيهِ كَانَ ذَلِك سَبَب أَن يظْهر تألم النَّفس بالخصلة الْمُوجبَة لفساد النَّفس من قبل هَذَا الْعُضْو، وَالله أعلم.