حجة الله
البالغة (التَّيَمُّم)
لما كَانَ من سنة الله فِي شرائعه أَن يسهل عَلَيْهِم كل مَا لَا
يستطيعونه، وَكَانَ أَحَق أَنْوَاع التَّيْسِير أَن يسْقط مَا فِيهِ حرج
إِلَى بدل لتطمئن نُفُوسهم، وَلَا تخْتَلف الخواطر عَلَيْهِم بإهمال مَا
التزموه غَايَة الِالْتِزَام مرّة وَاحِدَة،
وَلَا يألفوا ترك الطهارات - أسقط الْوضُوء وَالْغسْل فِي الْمَرَض
وَالسّفر إِلَى التَّيَمُّم، وَلما كَانَ ذَلِك كَذَلِك نزل الْقَضَاء فِي
الْمَلأ الْأَعْلَى بِإِقَامَة التَّيَمُّم مقَام الْوضُوء وَالْغسْل،
وَحصل لَهُ وجود تشبيهي أَنه طَهَارَة من الطهارات، وَهَذَا الْقَضَاء أحد
الْأُمُور الْعِظَام الَّتِي تميزت بهَا الْملَّة المصطفوية من سَائِر
الْملَل، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " جعلت تربَتهَا
لنا طهُورا إِذا لم نجد المَاء "
أَقُول: إِنَّمَا خص الأَرْض لِأَنَّهَا لَا تكَاد تفقد، فَهِيَ أَحَق مَا
يرفع بِهِ الْحَرج، وَلِأَنَّهَا طهُور فِي بعض الْأَشْيَاء كالخف وَالسيف
بَدَلا عَن الْغسْل بِالْمَاءِ، وَلِأَن فِيهِ تذللا بِمَنْزِلَة تعفير
الْوَجْه فِي التُّرَاب، وَهُوَ يُنَاسب طلب الْعَفو، وَإِنَّمَا لم يفرق
بَين بدل الْغسْل وَالْوُضُوء - وَلم يشرع التمرغ - لِأَن من حق مَا لَا
يعقل مَعْنَاهُ بادئ الرَّأْي أَن يَجْعَل كالمؤثر بالخاصية دون
الْمِقْدَار، فانه هُوَ الَّذِي اطمأنت نُفُوسهم بِهِ فِي هَذَا الْبَاب،
وَلِأَن التمرغ فِيهِ بعض الْحَرج، فَلَا يصلح رَافعا للْحَرج
بِالْكُلِّيَّةِ.
وَفِي معنى الْمَرَض الْبرد الضار - لحَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ - وَالسّفر
لَيْسَ بِقَيْد، إِنَّمَا هُوَ صُورَة لعدم وجدان المَاء يتَبَادَر إِلَى
الذِّهْن، وَإِنَّمَا لم يُؤمر بمسح الرجل بِالتُّرَابِ - لِأَن الرجل مَحل
الأوساخ - وَإِنَّمَا يُؤمر بِمَا لَيْسَ حَاصِلا ليحصل بِهِ التنبه.
(1/305)
أما صفة التَّيَمُّم فَهُوَ أحد مَا اخْتلف
فِيهِ طَرِيق التلقي عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِن
أَكثر الْفُقَهَاء من التَّابِعين وَغَيرهم قبل أَن تمهد طَريقَة
الْمُحدثين على أَن التَّيَمُّم ضربتان، وضربه للْوَجْه، وضربة
لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين.
وَأما الْأَحَادِيث فأصحها حَدِيث عمار " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيك أَن تضرب
بيديك الأَرْض، ثمَّ تنفخ فيهمَا، ثمَّ تمسح بهما وَجهك وكفيك " وَرُوِيَ
من حَدِيث ابْن عمر " التَّيَمُّم ضربتان، ضَرْبَة للْوَجْه وضربة
لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين " وَقد روى عمل النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَة على الْوَجْهَيْنِ، وَوجه الْجمع
ظَاهر يرشد إِلَيْهِ لفظ " إِنَّمَا يَكْفِيك " فَالْأول أدنى التَّيَمُّم
وَالثَّانِي هُوَ السّنة وعَلى ذَلِك يُمكن أَن يحمل اخْتلَافهمْ فِي
التَّيَمُّم، وَلَا يبعد أَن يكون تَأْوِيل فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنه علم عمارا أَن الْمَشْرُوع فِي التَّيَمُّم إِيصَال مَا لصق
باليدين بِسَبَب الضَّرْبَة - دون التمرغ، وَلم يرد بَيَان قد رالمسموح من
أَعْضَاء التَّيَمُّم وَلَا عدد الضَّرْبَة، وَلَا يبعد أَن يكون قَوْله
لعمَّار أَيْضا مَحْمُولا على هَذَا الْمَعْنى، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ
الْحصْر بِالنِّسْبَةِ إِلَى التمرغ، وَفِي مثل هَذِه الْمَسْأَلَة لَا
يَنْبَغِي أَن يَأْخُذ الْإِنْسَان إِلَّا بِمَا يخرج بِهِ من الْعَهْد
يَقِينا، وَكَانَ عمر وَابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يريان
التَّيَمُّم على الْجَنَابَة، وحملا الْآيَة على اللَّمْس وَأَنه ينْقض
الْوضُوء، لَكِن حَدِيث عمرَان وعمار يشْهد بِخِلَاف ذَلِك، وَلم أجد فِي
حَدِيث صَحِيح تَصْرِيحًا بِأَنَّهُ يجب أَن يتَيَمَّم لكل فَرِيضَة، أَو
لَا يجوز التَّيَمُّم للآبق وَنَحْوه، وَإِنَّمَا ذَلِك من التخريجات.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرجل المشجوج: " إِنَّمَا
كَانَ يَكْفِيهِ أَن يتَيَمَّم ويعصب على جرحه خرقَة، ثمَّ يمسح عَلَيْهَا
وَيغسل سَائِر جسده ": فِيهِ أَن التَّيَمُّم هُوَ الْبَدَل عَن الْعُضْو
كتمام الْبدن لِأَنَّهُ كالشيء الْمُؤثر بالخاصية، وَفِيه الْأَمر
بِالْمَسْحِ لما ذكرنَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الصَّعِيد الطّيب وضوء
الْمُسلم وَإِن لم يجد المَاء عشر سِنِين " أَقُول الْمَقْصُود مِنْهُ سد
بَاب التعمق، فان مثله يتعمق فِيهِ المتعمقون ويخالفون حكم الله فِي
الترخيص.
(1/306)
(آدَاب الْخَلَاء)
هِيَ ترجع إِلَى معَان:
تَعْظِيم الْقبْلَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة، وَلَا تستدبروها.
وَفِيه حكمه أُخْرَى، وَهِي أَنه لما كَانَ توجه الْقلب إِلَى تَعْظِيم
الله أمرا خفِيا لم يكن بُد من إِقَامَة مَظَنَّة ظَاهِرَة مقامة؛ وَكَانَ
الشَّرَائِع الْمُتَقَدّمَة تجْعَل تِلْكَ المظنة الْحُلُول بالصوامع
المبنية لله تَعَالَى الَّتِي صَارَت من شَعَائِر الله وَدينه، وَجعلت
شريعتنا المظنة اسْتِقْبَال الْقبْلَة وَالتَّكْبِير، فَلَمَّا جعل الله
تَعَالَى اسْتِقْبَال الْقبْلَة قَائِما مقَام توجه الْقلب إِلَى تَعْظِيم
الله وَجمع الخاطر فِي ذكر الله وَكَانَ سَبَب إِقَامَته أَن هَذِه
الْهَيْئَة تذكر الله - استنبط النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
من هَذَا الحكم أَنه يجب أَن يَجْعَل هَيْئَة الِاسْتِقْبَال مُخْتَصَّة
بالتعظيم وَذَلِكَ بألا يسْتَعْمل فِي الهيأة المباينة للصَّلَاة كل
المباينة - ورؤي استقباله واستدباره - فَجمع بتنزيل التَّحْرِيم على
الصَّحرَاء والاباحة على الْبُنيان، وَجمع بِحمْل النَّهْي على
الْكَرَاهِيَة وَهُوَ الأضهر.
وَمِنْهَا تَحْقِيق معنى التَّنْظِيف، فورد النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء
بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أَحْجَار - أَي ثَلَاث مسحات - لِأَنَّهَا لَا تنقي
غَالِبا واستحباب الْجمع بَين الْحجر وَالْمَاء.
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَمَّا يضر النَّاس كالتحلي فِي ظلّ النَّاس
وطريقهم ومتحدثهم وَالْمَاء الدَّائِم والاستنجاء بالعظم لِأَنَّهُ طَعَام
الْجِنّ، وَكَذَا سَائِر مَا ينْتَفع بِهِ، وَأفهم قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتَّقوا اللاعنين " أَن الْحِكْمَة الِاحْتِرَاز عَن
لعنهم وتأذيهم، أَو مَا يضر بِنَفسِهِ كالبول فِي الْجُحر، فَإِنَّهُ قد
يكون مأوى حَيَّة أَو مثلهَا فَيخرج ويؤذي.
وَمِنْهَا اخْتِيَار محَاسِن الْعَادَات، فَلَا يتمسح بِيَمِينِهِ، وَلَا
يَأْخُذ ذكره بِيَمِينِهِ، وَلَا يستنجي برجيع، ويوتر فِي الِاسْتِجْمَار.
وَمِنْهَا رِعَايَة السّتْر فَيَنْبَغِي أَن يبعد لِئَلَّا يسمع مِنْهُ
صَوت، أَو يشم مِنْهُ ريح، أَو يرى مِنْهُ عَورَة، وَلَا يرفع ثَوْبه
حَتَّى يدنو من الأَرْض،
وَيسْتر بِمثل حائش نخل مِمَّا يواري أسافل بدنه، فَمن لم يجد إِلَّا أَن
يجمع كثيبا من رمل، فليستدبره فَإِن الشَّيْطَان يلْعَب بمقاعد بني آدم،
وَذَلِكَ لِأَن الشَّيْطَان جبل على أفكار فَاسِدَة وأعمال شنيعة.
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز من أَن يُصِيب بدنه أَو ثَوْبه نَجَاسَة وَهُوَ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أَرَادَ أحدكُم أَن يَبُول
فليرتد لبوله "
(1/307)
وَمِنْهَا إِزَالَة الوسواس وَهُوَ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَلَا يبولن أحدكُم فِي مستحمة فَإِن
عَامَّة الوسواس مِنْهُ "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا
تبل قَائِما ".
أَقُول: إِنَّمَا أكره الْبَوْل قَائِما لِأَنَّهُ يُصِيبهُ الرشاش،
وَلِأَنَّهُ يُنَافِي الْوَقار ومحاسن الْعِبَادَات وَهُوَ مَظَنَّة انكشاف
الْعَوْرَة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الحشوش محتضرة فَإِذا أَتَى
أحدكُم الْخَلَاء، فَلْيقل أعوذ بِاللَّه من الْخبث والخبائث وَإِذا خرج من
الْخَلَاء قَالَ غفرانك " أَقُول: يسْتَحبّ أَن يَقُول عِنْد الدُّخُول
اللَّهُمَّ أَنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث لِأَن الحشوش محتضرة يحضرها
الشَّيَاطِين لأَنهم يحبونَ النَّجَاسَة وَعند الْخُرُوج غفرانك لِأَنَّهُ
وَقت ترك ذكر الله ومخالطة الشَّيَاطِين.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما أَحدهمَا فَكَانَ لَا
يستبرئ من الْبَوْل "
الحَدِيث أَقُول فِيهِ إِن الِاسْتِبْرَاء وَاجِب وَهُوَ أَن يمْكث، وينثر
حَتَّى يظنّ أَنه لم يبْق فِي قَصَبَة الذّكر شَيْء من الْبَوْل، وَفِيه
أَن مُخَالطَة النَّجَاسَة وَالْعَمَل الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد ذَات
الْبَين يُوجب عَذَاب الْقَبْر، أما شقّ الجريدة والغرز فِي كل قبر فسره
الشَّفَاعَة الْمقيدَة إِذْ لم تمكن الْمُطلقَة لكفرهما.
(خِصَال الْفطْرَة ومأ يتَّصل بهَا)
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عشر من الْفطْرَة: قصّ
الشَّارِب، وإعفاء اللِّحْيَة، والسواك، والاسنتشاق بِالْمَاءِ، وقص
الأظافر، وَغسل البراجم، ونتف الأبط، وَحلق الْعَانَة، وانتقاص المَاء -
يَعْنِي الِاسْتِنْجَاء قَالَ الرَّاوِي: ونسيت الْعَاشِرَة إِلَّا أَن
تكون الْمَضْمَضَة ".
أَقُول هَذِه الطَّهَارَة منقولة عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
متداولة فِي طوائف الْأُمَم الحنيفية أشربت فِي قُلُوبهم، وَدخلت فِي صميم
اعْتِقَادهم، عَلَيْهَا محياهم، وَعَلَيْهَا مماتهم
(1/308)
عصرا بعد عصر، وَلذَلِك سميت بالفطرة
وَهَذِه شَعَائِر الْملَّة الحنيفية، وَلَا بُد لكل مِلَّة من شَعَائِر
يعْرفُونَ بهَا، ويؤاخذون عَلَيْهَا، ليَكُون طاعتها وعصيانها أمرا محسوسا،
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يَجْعَل من الشعائر مَا كثر وجوده، وتكرر
وُقُوعه، وَكَانَ ظَاهرا، وَفِيه فَوَائِد جمة تقبله أذهان النَّاس أَشد
الْقبُول.
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَن بعض الشُّعُور النابتة من جَسَد الْإِنْسَان
يفعل فعل الْأَحْدَاث فِي قبض الخاطر، وَكَذَا شعث الرَّأْس واللحية وليرجع
الْإِنْسَان فِي ذَلِك إِلَى مَا ذكره الْأَطِبَّاء فِي الشرى والحكة
وَغَيرهمَا من الْأَمْرَاض الجلدية أَنَّهَا تحزن الْقلب وَتذهب النشاط.
واللحية هِيَ الفارقة الصَّغِير وَالْكَبِير وَهِي جمال الفحول وَتَمام
هيأتهم فَلَا بُد من إعفائها، وقصها سنة الْمَجُوس، وَفِيه تَغْيِير خلق
الله، ولحوق أهل السؤدد والكبرياء بالرعاع، وَمن طَالَتْ شواربه تعلق
الطَّعَام وَالشرَاب بهَا، وَاجْتمعَ فِيهَا الأوساخ وَهُوَ من سنه
الْمَجُوس، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خالفوا
الْمُشْركين قصوا الشَّوَارِب وَاعْفُوا اللحى ".
وَفِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق والسواك إِزَالَة المخاط والبخر،
والغرلة عُضْو زَائِد يجْتَمع فِيهَا الْوَسخ وَيمْنَع الِاسْتِبْرَاء من
الْبَوْل وينقض لَذَّة الْجِمَاع، وَفِي التَّوْرَاة - إِن الْخِتَان ميسم
الله على إِبْرَاهِيم وَذريته - مَعْنَاهُ أَن الْمُلُوك جرت عَادَتهم
بِأَن يسموا مَا يخصهم من الدَّوَابّ لتتميز من غَيرهَا وَالْعَبِيد
الَّذين لَا يُرِيدُونَ إعتاقهم، فَكَذَلِك جعل الْخِتَان ميسما عَلَيْهِم،
وَسَائِر الشعائر يُمكن أَن يدخلهَا تَغْيِير وتدليس، والختان لَا
يتَطَرَّق إِلَيْهِ تَغْيِير إِلَّا بِجهْد، وانتقاص المَاء كِنَايَة عَن
الِاسْتِنْجَاء بِهِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَرْبَعَة من سنَن الْمُرْسلين
الْحيَاء - ويروى الْخِتَان - والتعطر والسواك وَالنِّكَاح " أَقُول: أرى
أَن هَذِه كلهَا من الطَّهَارَة فالحياء ترك الوقاحة وَالْبذَاء
وَالْفَوَاحِش، وَهِي تلوث النَّفس، وتكدرها. والتعطر يهيج سرُور النَّفس
وانشراحها وينبه على الطَّهَارَة تَنْبِيها قَوِيا، وَالنِّكَاح يطهر
الْبَاطِن من التوقان إِلَى النِّسَاء ودوران أَحَادِيث تميل إِلَى قَضَاء
هَذِه الشَّهْوَة.
(1/309)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
لَوْلَا أَن اشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة " أَقُول:
مَعْنَاهُ لَوْلَا خوف الْحَرج لجعلت السِّوَاك شرطا
للصَّلَاة كَالْوضُوءِ، وَقد ورد بِهَذَا الأسلوب أَحَادِيث كَثِيرَة جدا
وَهِي دَلَائِل وَاضِحَة على أَن لاجتهاد النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مدخلًا فِي الْحُدُود الشَّرْعِيَّة، وَأَنَّهَا منوطة بالمقاصد،
وَأَن رفع الْحَرج من الْأُصُول الَّتِي بنى عَلَيْهَا الشَّرَائِع.
قَول الرَّاوِي فِي صفة تسوكه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: أع
أع - كَأَنَّهُ يتهوع أَقُول: يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يبلغ بِالسِّوَاكِ
أقاصى الْفَم، فَيخرج بلاغم الْحلق والصدر، وَالِاسْتِقْصَاء فِي السِّوَاك
يذهب بالقلاع، ويصفى الصَّوْت، ويطيب النكهة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل
فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا، يغسل فِيهِ جسده وَرَأسه " أَقُول: هَذَا
يدل على أَن الِاغْتِسَال فِي كل سَبْعَة أَيَّام سنة مُسْتَقلَّة شرعت
لدفع الأوساخ والأدران وتنبيه النَّفس لصفة الطَّهَارَة، وَإِنَّمَا وَقت
لصَلَاة الْجُمُعَة لِأَن كل وَاحِد فمنهما يكمل بِالْآخرِ، وَفِيه تعظم
صَلَاة الْجُمُعَة.
وَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغْتَسل من أَربع من
الْجَنَابَة وَيَوْم الْجُمُعَة وَمن الْحجامَة وَمن غسل الْمَيِّت.
أَقُول: أما الْحجامَة فَلِأَن الدَّم كثيرا مَا ينتشر على الْجَسَد،
ويتعسر غسل كل نقطة على حدتها وَلِأَن المص بالملازم جاذب للدم من كل
جَانب، فَلَا يُفِيد نقص الدَّم من الْعُضْو، وَالْغسْل يزِيل السيلان،
وَيمْنَع انجذابه.
وَأما غسل الْمَيِّت فَلِأَن الرشاش ينتشر فِي الْبدن، وَجَلَست عِنْد
محتضر، فَرَأَيْت أَن الْمَلَائِكَة الموكلة بِقَبض الْأَرْوَاح لَهَا
نكاية عَجِيبَة فِي أَرْوَاح الْحَاضِرين ففهمت أَنه لَا بُد من تَغْيِير
الْحَالة لتتنبه النَّفس لمخالفها.
أَمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أسلم بِأَن يغْتَسل بِمَاء وَسدر؛
وَقَالَ لآخر: " ألق عَنْك شعر الْكفْر ".
أَقُول سره أَن يتَمَثَّل عِنْده الْخُرُوج من شَيْء من أصرح مَا يكون،
وَالله أعلم.
(1/310)
(أَحْكَام الْمِيَاه)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء
الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل فِيهِ ".
أَقُول: مَعْنَاهُ النَّهْي عَن كل وَاحِد من الْبَوْل فِي المَاء
وَالْغسْل فِيهِ مثل حَدِيث: " لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط
كاشفين عَن عورتهما يتحدثان فَإِن الله يمقت على ذَلِك " وَيبين ذَلِك
رِوَايَة النَّهْي عَن الْبَوْل فِي المَاء فَقَط وَرِوَايَة أُخْرَى
النَّهْي عَن الِاغْتِسَال فَقَط وَالْحكمَة أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لَا
يَخْلُو من أحد أَمريْن: إِمَّا أَن يُغير المَاء بِالْفِعْلِ، أَو يُفْضِي
إِلَى التَّغْيِير بِأَن يرَاهُ النَّاس بِفعل، فيتتابعوا، وَهُوَ
بِمَنْزِلَة اللاعنين اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون المَاء مستبحرا أَو
جَارِيا والعفاف أفضل كل حَال.
وَأما المَاء الْمُسْتَعْمل فَمَا كَانَ أحد من طوائف النَّاس
يَسْتَعْمِلهُ فِي الطَّهَارَة، وَكَانَ كالمهجور المطرود فأبقاه النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مَا كَانَ عِنْدهم، وَلَا شكّ أَنه
طَاهِر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا بلغ المَاء ملتين لم يحمل
خبثا ".
أَقُول مَعْنَاهُ لم يحمل خبثا معنويا إِنَّمَا يحكم بِهِ الشَّرْع دون
الْعرف وَالْعَادَة، فَإِذا تغير أحد أَوْصَافه بِالنَّجَاسَةِ، وفحشت
النَّجَاسَة كَمَا أَو كيفا
فَلَيْسَ مِمَّا ذكر، وَإِنَّمَا جعل الْقلَّتَيْنِ حدا فاصلا بَين الْكثير
والقليل لأمر ضَرُورِيّ لَا بُد مِنْهُ، وَلَيْسَ تحكما وَلَا جزَافا -
وَكَذَا سَائِر الْمَقَادِير الشَّرْعِيَّة - وَذَلِكَ أَن للْمَاء محلين
مَعْدن واوان، أما الْمَعْدن فالآبار والعيون، وَيلْحق بهَا الأودية، أما
الْأَوَانِي فالقرب والقلال والجفان والمخاضب والأداوة، وَكَانَ الْمَعْدن
يتضررون بتنجسه، ويقاسون الْحَرج فِي نزحه، وَأما الْأَوَانِي فتملأ فِي كل
يَوْم وَلَا حرج فِي إراقتها، والمعادن لَيْسَ لَهَا غطاء، وَلَا يُمكن
سترهَا من رَوْث الدَّوَابّ وولغ السبَاع، وَأما الْأَوَانِي فَلَيْسَ فِي
تغطيتها وحفظها كثير حرج اللَّهُمَّ إِلَّا من الطوافين والطوافات، والمعدن
كثير غرير لَا يُؤثر فِيهِ كثير من النَّجَاسَات بِخِلَاف الْأَوَانِي،
فَوَجَبَ أَن يكون حكم الْمَعْدن غير حكم الْأَوَانِي، وَأَن يرخص فِي
الْمَعْدن مَا لَا يرخص فِي الْأَوَانِي، وَلَا يصلح فارقا بَين حد
الْمَعْدن وحد الْأَوَانِي إِلَّا القلتان لِأَن مَاء الْبِئْر وَالْعين
لَا يكون أقل من الْقلَّتَيْنِ أَلْبَتَّة وكل مَا دون الْقلَّتَيْنِ من
الأودية لَا يُسمى حوضا وَلَا جوبة، وَإِنَّمَا يُقَال لَهُ حفيرة وَإِذا
كَانَ قدر قُلَّتَيْنِ فِي مستو من الأَرْض يكون غَالِبا سَبْعَة أشبار،
وَذَلِكَ أدنى الْحَوْض، وَكَانَ أَعلَى الْأَوَانِي الْقلَّة وَلَا يعرف
أَعلَى مِنْهَا عِنْدهم آنِية،
(1/311)
وَلَيْسَت القلال سَوْدَاء: فقلة عِنْدهم
تكون قلَّة وَنصفا، وَقلة وربعا، وَقلة وَثلثا، وَلَا تعرف قلَّة تكون
كقلتين فَهَذَا حد لَا تبلغه الْأَوَانِي، وَلَا ينزل مِنْهُ الْمَعْدن،
فَضرب حدا فاصلا بَين الْكثير والقليل، وَمن يقل بالقلتين اضْطر إِلَى
مثلهمَا فِي ضبط المَاء الْكثير - كالمالكية - والرخصة فِي آبار الفلوات من
نَحْو أبعار الْإِبِل فَمن هُنَا يَنْبَغِي أَن يعرف الْإِنْسَان أَمر
الْحُدُود الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهَا نازلة على وَجه ضَرُورِيّ لَا يَجدونَ
مِنْهُ بدا، وَلَا يجوز الْعقل غَيرهَا.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء
" وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المَاء لَا يجنب " وَقَوله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْمُؤمن لَا ينجس " وَمثله مَا فِي
الْأَخْبَار من أَن الْبدن لَا ينجس وَالْأَرْض لَا تنجس.
أَقُول: معنى ذَلِك كُله يرجع إِلَى نفي نَجَاسَة خَاصَّة تدل عَلَيْهِ
الْقَرَائِن الحالية والقالية فَقَوله: " المَاء لَا ينجس " مَعْنَاهُ
الْمَعَادِن لَا تنجس بملاقاة النَّجَاسَة إِذا أخرجت، ورميت، وَلم
يتَغَيَّر أحد أَوْصَافه، وَلم تفحش، وَالْبدن يغسل، فيطهر، وَالْأَرْض
يُصِيبهَا الْمَطَر وَالشَّمْس، وتدلكها الأرجل فَتطهر، وَهل يُمكن أَن
يظنّ ببئر بضَاعَة أَنَّهَا كَانَت تَسْتَقِر فِيهَا النَّجَاسَات؟ ! كَيفَ
وَقد جرت عَادَة بني آدم بالاجتناب عَمَّا هَذَا شَأْنه، فَكيف يستقى بهَا
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ بل كَانَت تقع فِيهَا
النَّجَاسَات من غير أَن يقْصد إلقاؤها كَمَا تشاهد من آبار زَمَاننَا،
ثمَّ تخرج تِلْكَ النَّجَاسَات، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام سَأَلُوا عَن
الطَّهَارَة الشَّرْعِيَّة الزَّائِدَة على مَا عِنْدهم، فَقَالَ رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شَيْء "
يَعْنِي لَا ينجس نَجَاسَة غير مَا عنْدكُمْ، وَلَيْسَ هَذَا تَأْوِيلا
وَلَا صرفا عَن الظَّاهِر بل هُوَ كَلَام الْعَرَب فَقَوله تَعَالَى:
{قل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم} الْآيَة.
مَعْنَاهُ مِمَّا اختلفتم فِيهِ، وَإِذا سُئِلَ الطَّبِيب عَن شَيْء
فَقَالَ لَا يجوز اسْتِعْمَاله عرف أَن المُرَاد نفي الْجَوَاز بِاعْتِبَار
صِحَة الْبدن، وَإِذا سُئِلَ فَقِيه عَن شَيْء فَقَالَ لَا يجوز عرف أَنه
يُرِيد نفي الْجَوَاز الشَّرْعِيّ،
(1/312)
قَوْله تَعَالَى:
{حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} .
وَقَوله تَعَالَى:
{حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} .
فَالْأول فِي النِّكَاح وَالثَّانِي فِي الْأكل قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نِكَاح
إِلَّا بولِي " نفي للْجُوَاز الشَّرْعِيّ لَا الْوُجُود الْخَارِجِي
وأمثال هَذَا كَثِيرَة وَلَيْسَ من التَّأْوِيل.
وَأما الْوضُوء من المَاء الْمُقَيد الَّذِي لَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم
المَاء بِلَا قيد فَأمر تَدْفَعهُ الْملَّة بادئ الرَّأْي، نعم وَإِزَالَة
الْخبث بِهِ مُحْتَمل بل هُوَ الرَّاجِح، وَقد أَطَالَ الْقَوْم من فروع
موت الْحَيَوَان فِي الْبِئْر، وَالْعشر فِي الْعشْر، وَالْمَاء الْجَارِي
وَلَيْسَ فِي كل ذَلِك حَدِيث عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ألبته، وَأما الْآثَار المنقولة عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
كأثر ابْن الزبير فِي الزنْجِي، وَعلي رَضِي الله عَنهُ فِي الْفَأْرَة،
وَالنَّخَعِيّ. وَالشعْبِيّ فِي نَحْو السنور فَلَيْسَتْ مِمَّا يشْهد لَهُ
المحدثون بِالصِّحَّةِ وَلَا مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ جُمْهُور أهل الْقُرُون
الأولى،، وعَلى تَقْدِير صِحَّتهَا يُمكن أَن يكون ذَلِك تطبيبا للقلوب
وتنظيفا للْمَاء لَا من جِهَة الْوُجُوب الشَّرْعِيّ كَمَا ذكر فِي كتب
الْمَالِكِيَّة، وَدون نفي هَذَا الِاحْتِمَال خرط القتاد.
وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب شَيْء يعْتد بِهِ، وَيجب
الْعَمَل عَلَيْهِ، وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ أثبت فِي ذَلِك كُله بِغَيْر
شُبْهَة، وَمن الْمحَال أَن يكون الله تَعَالَى شرع فِي هَذِه الْمسَائِل
لعبادة شَيْئا زِيَادَة على مَا لَا ينفكون عَنهُ من الارتفاقات وَهِي
مِمَّا يكثر وُقُوعه، وتعم بِهِ الْبلوى، ثمَّ لَا ينص عَلَيْهِ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصا جليا، وَلَا يستفيض فِي الصَّحَابَة
وَمن بعدهمْ وَلَا حَدِيث وَاحِد فِيهِ، وَالله أعلم. |