حجة الله
البالغة (تَطْهِير النَّجَاسَات)
النَّجَاسَة كل شَيْء يستقذره أهل الطبائع السليمة، ويتحفظون عَنهُ ويغسلون
الثِّيَاب إِذا أَصَابَهَا كالعذرة وَالْبَوْل وَالدَّم.
وَأما تَطْهِير النَّجَاسَات فَهُوَ مَأْخُوذ عَنْهُم ومستنبط مِمَّا
اشْتهر فيهم والروث
ركس لحَدِيث ابْن مَسْعُود وَبَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه لَا شُبْهَة فِي
كَونه خبثا تستقذره الطبائع السليمة، وَإِنَّمَا يرخص فِي شربه لضَرُورَة
الِاسْتِشْفَاء، وَإِنَّمَا يحكم بِطَهَارَتِهِ أَو بخفة نَجَاسَته لدفع
الْحَرج، وَألْحق الشَّارِع بهَا الْخمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{رِجْس من عمل الشَّيْطَان}
لِأَنَّهُ حرمهَا وأكد تَحْرِيمهَا، فاقتضت الْحِكْمَة أَن يَجْعَلهَا
بِمَنْزِلَة الْبَوْل والعذرة ليتمثل قبحها عِنْدهم، وَيكون ذَلِك أكبح
لنفوسهم عَنْهَا.
(1/313)
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " إِذا شرب الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبع مَرَّات "
وَفِي رِوَايَة " أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ " أَقُول ألحق النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُؤْر الْكَلْب بالنجاسات، وَجعله من أَشدّهَا
لِأَن الْكَلْب حَيَوَان مَلْعُون تنفر مِنْهُ الْمَلَائِكَة، وَينْقص -
اقتناؤه والمخالطة مَعَه بِلَا عذر - من الْأجر كل يَوْم قيراطا، والسر فِي
ذَلِك أَنه يشبه الشَّيْطَان بجبلته لِأَن ديدته لعب وَغَضب واطراح فِي
النَّجَاسَات وإيذاء للنَّاس، وَيقبل الإلهام من الشَّيَاطِين، فَرَأى
مِنْهُم صدودا وتهاونا، وَلم يكن سَبِيل إِلَى النَّهْي عَنهُ
بِالْكُلِّيَّةِ لضَرُورَة الزَّرْع والماشية والحراسة وَالصَّيْد، فعالج
ذَلِك بِاشْتِرَاط أتم الطهارات وأوكدها وَمَا فِيهَا بعض الْحَرج ليَكُون
بِمَنْزِلَة الْكَفَّارَة فِي الردع وَالْمَنْع، واستشعر بعض حَملَة
الْملَّة بِأَن ذَلِك لَيْسَ بتشريع بل نوع تَأْكِيد، وَاخْتَارَ بَعضهم
رِعَايَة ظَاهر الحَدِيث وَالِاحْتِيَاط أفضل.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هريقوا على بَوْله سجلا من مَاء
"
أَقُول الْبَوْل على الأَرْض يطهره مكاثرة المَاء عَلَيْهِ، وَهُوَ
مَأْخُوذ مِمَّا تقرر عِنْد النَّاس قاطبة أَن الْمَطَر الْكثير يطهر
الأَرْض، وَأَن المكاثرة تذْهب بالرائحة المنتنة وَتجْعَل الْبَوْل متلاشيا
كَأَن لم يكن. قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أصَاب ثوب
إحداكن الدَّم من الْحَيْضَة، فلتقرصه، ثمَّ لتنضحه بِمَاء ثمَّ لتصلى
فِيهِ " أَقُول: تحصل الطَّهَارَة بِزَوَال عين النَّجَاسَة وأثرها
وَسَائِر الخصوصيات بَيَان لصورة صَالِحَة لزوالهما وتنبيه على ذَلِك لَا
شَرط.
وَأما المنى فَالْأَظْهر أَنه نجس لوُجُود مَا ذكرنَا فِي حد النَّجَاسَة،
وَأَن الفرك يطهر يابسة إِذا كَانَ لَهُ حجم.
(1/314)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "
يغسل من بَوْل الْجَارِيَة ويرش من بَوْل الْغُلَام " أَقُول: هَذَا أَمر
كَانَ قد تقرر فِي الْجَاهِلِيَّة، وأبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَالْحَامِل على هَذَا الْفرق أُمُور:
مِنْهَا أَن بَوْل الْغُلَام ينتشر فيعسر إِزَالَته، فيناسبه التَّخْفِيف،
وَبَوْل الْجَارِيَة يجْتَمع، فيسهل إِزَالَته:
وَمِنْهَا أَن بَوْل الْأُنْثَى أغْلظ وأنتن من بَوْل الذّكر.
وَمِنْهَا أَن الذّكر ترغب فِيهِ النُّفُوس وَالْأُنْثَى تعافها، وَقد أَخذ
بِالْحَدِيثِ أهل الْمَدِينَة وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وأضجع فِيهِ
القَوْل مُحَمَّد فَلَا تغتر بالمشهور بَين النَّاس.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا أدبغ الأهاب، فقد طهر "
أَقُول:
اسْتِعْمَال جُلُود الْحَيَوَانَات المدبوغة أَمر شَائِع مُسلم عِنْد طوائف
النَّاس، والسر فِيهِ أَن الدّباغ يزِيل النتن والرائحة الكريهة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا وطئ أحدكُم بنعله الْأَذَى
فَإِن التُّرَاب لَهُ طهُور " أَقُول النَّعْل والخف يطهر من النَّجَاسَة
الَّتِي لَهَا جرم بالدلك لِأَنَّهُ جسم صلب لَا يَتَخَلَّل فِيهِ
النَّجَاسَة وَالظَّاهِر أَنه عَام فِي الرّطبَة واليابسة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّة " إِنَّهَا من
الطوافين والطوافات ".
أَقُول: مَعْنَاهُ على قَول أَن الْهِرَّة وَأَن كَانَت تلغ فِي
النَّجَاسَات، وَتقتل الْفَأْرَة فهنالك ضَرُورَة فِي الحكم بتطهير سؤرها،
وَدفع الْحَرج أصل من أصُول الشَّرْع، وعَلى قَول آخر حث على الْإِحْسَان
على كل ذَات كبد رطبَة وَشبههَا بالسائلين والسائلات، وَالله أعلم.
(من أَبْوَاب الصَّلَاة)
اعْلَم أَن الصَّلَاة أعظم الْعِبَادَات شَأْنًا وأوضحها برهانا وأشهرها
فِي النَّاس وأنفعها فِي النَّفس، وَلذَلِك اعتنى الشَّارِع بِبَيَان
فَضلهَا وَتَعْيِين أَوْقَاتهَا وشروطها وأركانها وآدابها ورخصها ونوافلها
اعتناء عَظِيم لم يفعل فِي سَائِر أَنْوَاع الطَّاعَات، وَجعلهَا من أعظم
شَعَائِر الدّين، وَكَانَت مسلمة فِي الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس
وبقايا الْملَّة الإسماعيلية، فَوَجَبَ أَلا يذهب فِي توقيتها وَسَائِر مَا
يتَعَلَّق بهَا إِلَّا إِلَى مَا كَانَ عِنْدهم من الْأُمُور الَّتِي
اتَّفقُوا عَلَيْهَا، وَاتفقَ عَلَيْهَا جمهورهم وَأما مَا كَانَ من
تحريفهم، ككراهية الْيَهُود الصَّلَاة فِي الْخفاف وَالنعال وَنَحْو ذَلِك،
فَمن حَقه أَن يسجل على تَركه، وَأَن يَجْعَل سنة الْمُسلمين غير سنة
(1/315)
هَؤُلَاءِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْمَجُوس
حرفوا دينهم، وعبدوا الشَّمْس،؛ فَوَجَبَ أَن تميز مِلَّة الْإِسْلَام من
ملتهم غَايَة التَّمْيِيز، فنهي الْمُسلمُونَ عَن الصَّلَاة فِي أَوْقَات
صلواتهم أَيْضا.
ولاتساع أَحْكَام الصَّلَاة وَكَثْرَة أُصُولهَا الَّتِي تبنى عَلَيْهَا لم
تذكر الْأُصُول
فِي فَاتِحَة كتاب الصَّلَاة كَمَا ذكرنَا فِي سَائِر الْكتب، بل ذكرنَا
أصل كل فصل فِي ذَلِك الْفَصْل.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ
وهم أَبنَاء سبع سِنِين وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وهم أَبنَاء عشر سِنِين،
وَفرقُوا بَينهم فِي الْمضَاجِع " أَقُول: بُلُوغ الصَّبِي على وَجْهَيْن:
بُلُوغ فِي صَلَاحِية السقم وَالصِّحَّة النفسانيتين، ويتحقق بِالْعقلِ
فَقَط، وأمارة ظُهُور الْعقل سبع، فَابْن السَّبع ينْتَقل فِيهَا لَا
محَالة من حَالَة إِلَى حَالَة انتقالا ظَاهرا، وأمارة تَمَامه الْعشْر
فَابْن الْعشْر عِنْد سَلامَة المزاج يكون عَاقِلا يعرف نَفعه من ضَرَره
ويحذق فِي التِّجَارَة وَمَا يشبهها. وبلوغ فِي صَلَاحِية الْجِهَاد
وَالْحُدُود والمؤاخذة عَلَيْهِ، وَأَن يصير بِهِ من الرِّجَال الَّذين
يعانون المكايد، وَيعْتَبر حَالهم فِي السياسات المدنية والملية، ويجبرون
قسرا على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم، ويعتمد على تَمام الْعقل وَتَمام الجثة
وَذَلِكَ بِخمْس عشر سنة فِي الْأَكْثَر، وَمن عَلَامَات هَذَا الْبلُوغ
الِاحْتِلَام وإنبات الْعَانَة.
وَالصَّلَاة لَهَا اعتباران: فباعتبار كَونهَا وَسِيلَة فِيمَا بَينه
وَبَين مَوْلَاهُ منقذه عَن التردي فِي أَسْفَل السافلين أَمر بهَا عِنْد
الْبلُوغ الأول.
وَبِاعْتِبَار كَونه من شَعَائِر الْإِسْلَام يؤاخذون بهَا، ويجبرون
عَلَيْهَا أشاؤا أم أَبَوا حكمهَا حكم سَائِر الْأُمُور.
وَلما كَانَ سنّ الْعشْر برزخا بَين الحدين جَامعا بَين الْجِهَتَيْنِ جعل
لَهُ نَصِيبا مِنْهُمَا. وَإِنَّمَا أَمر بتفريق الْمضَاجِع لِأَن
الْأَيَّام أَيَّام مراهقة فَلَا يبعد أَن تُفْضِي المضاجعة إِلَى شَهْوَة
المجامعة، فَلَا بُد من سد سَبِيل الْفساد قبل وُقُوعه.
(1/316)
|