حجة الله البالغة

 (الْجَنَائِز)
اعْلَم أَن عيادات الْمَرِيض وتمسكه بالرقى الْمُبَارَكَة. والرفق بالمحتضر. وتكفين الْمَيِّت وَدَفنه، والاحسان إِلَيْهِ والبكا عَلَيْهِ وتعزية أَهله. وزيارة الْقُبُور أُمُور تتداولها طوائف الْعَرَب، وتتوارد عَلَيْهَا أَو على نظائرها أَصْنَاف الْعَجم، وَتلك عَادَة لَا يَنْفَكّ عَنْهَا أهل الأمزجة السليمة، وَلَا يَنْبَغِي لَهُم أَن ينفكوا، فَلَمَّا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر فِيمَا عِنْدهم من الْعَادَات فأصلحها، وَصحح السقيم مِنْهَا.
والمصلحة المرعية إِمَّا رَاجِعَة إِلَى نفس الْمُبْتَلى من حَيْثُ الدُّنْيَا، أَو من حَيْثُ الْآخِرَة، أَو إِلَى أَهله من إِحْدَى الحيثيتين، أَو فِي الْملَّة، وَالْمَرِيض يحْتَاج إِلَى حَيَاته الدُّنْيَا إِلَى تَنْفِيس كربته بالتسلية والرفق، وَإِلَى أَن يتَعَرَّض النَّاس لمعاونته فِيمَا يعجز عَنهُ، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا أَن تكون العيادة سنة لَازِمَة فِي إخوانه وَأهل مدينته، وَفِي آخرته يحْتَاج إِلَى الصَّبْر، وَأَن يتَمَثَّل الشدائد عِنْده بِمَنْزِلَة الدَّوَاء المر يعاف طعمها، ويرجو نَفعهَا لِئَلَّا يكون سَببا لغوصه فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا واحتجابه والتنحي عَن ربه، بل مؤيدة فِي حط ذنُوبه مَعَ تحلل أَجزَاء نسمته، وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يُنَبه على فَوَائِد الصَّبْر وَمَنَافع الآلام والمحتضر فِي آخر يَوْم من أَيَّام الدُّنْيَا، وَأول يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة، فَوَجَبَ أَن يحث على الذّكر والتوجه إِلَى الله لتفارق نَفسه - وَهِي فِي غاشية من الْإِيمَان - فيجد ثَمَرَتهَا فِي معاده، وَالْإِنْسَان عِنْد سَلامَة مزاجه كَمَا جبل على حب المَال والأهل كَذَلِك جبل على حب أَن يذكرهُ النَّاس بِخَير فِي حَيَاته وَبعد مماته، وَألا تظهر سوأته لَهُم حَتَّى إِن أَسد النَّاس رَأيا من كل طَائِفَة يجب أَن يبْذل أَمْوَالًا خطيرة فِي بِنَاء شامخ يبْقى بِهِ ذكره، ويهجم على المهالك؛
ليقال لَهُ من بعده: أَنه جرئ، ويوصي أَن يَجْعَل قَبره شامخا ليقول النَّاس: هُوَ ذُو حَظّ عَظِيم فِي حَيَاته وَبعد مَوته، وَحَتَّى قَالَ حكماؤهم: إِن من كَانَ ذكره حَيا فِي النَّاس، فَلَيْسَ بميت، وَلما كَانَ ذَلِك أمرا يخلقون عَلَيْهِ ويموتون مَعَه كَانَ تَصْدِيق ظنهم وإيفاء وعدهم نوعا من الْإِحْسَان إِلَيْهِم بعد مَوْتهمْ.
وَأَيْضًا إِن الرّوح إِذا فَارَقت الْجَسَد بقيت حساسة مدركة بالحس الْمُشْتَرك وَغَيره، وَبقيت على علومها وظنونها الَّتِي كَانَت مَعهَا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا، ويترشح عَلَيْهَا من فَوْقهَا عُلُوم يعذب بهَا أَو ينعم، وهمم الصَّالِحين من عباد الله ترتقي إِلَى حَظِيرَة الْقُدس فَإِذا ألحوا فِي الدُّعَاء لمَيت، أَو عانوا صَدَقَة عَظِيمَة لأَجله وَقع ذَلِك بتدبير الله نَافِعًا للْمَيت، وصادف الْفَيْض النَّازِل عَلَيْهِ من هَذِه الحظيرة، فأعد لرفاهية حَاله.

(2/50)


وَأهل الْمَيِّت قد أَصَابَهُم حزن شَدِيد، فمصلحتهم من حَيْثُ الدُّنْيَا أَن يعزوا؛ ليخفف ذَلِك عَنْهُم بعض مَا يجدونه. وَأَن يعاونوا على دفن ميتهم، وَأَن يهيأ لَهُم مَا يشبعهم فِي يومهم وليلتهم، وَمن حَيْثُ الْآخِرَة أَن يَرْغَبُوا فِي الْأجر الجزيل ليَكُون سدا لغوصهم فِي القلق، وفتحا لباب التَّوَجُّه إِلَى الله، وَأَن ينهوا عَن النِّيَاحَة وشق الْجُيُوب وَسَائِر مَا يذكرهُ الأسف والموجدة، ويتضاعف بِهِ الْحزن والقلق؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَة الْمَرِيض يحْتَاج أَن يداوى مَرضه لَا يَنْبَغِي أَن يمد فِيهِ، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ابتدعوا أمورا تقضى إِلَى الشّرك بِاللَّه، فمصلحة الْملَّة أَن يسد ذَلِك الْبَاب، إِذا علمت هَذَا حَان أَن شرع فِي شرح الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا من مُسلم يُصِيبهُ أَذَى من مرض، فَمَا سواهُ إِلَّا حط الله تَعَالَى بِهِ سيأته كَمَا تحط الشَّجَرَة وَرقهَا ".
أَقُول قد ذكرنَا الْمعَانِي الْمُوجبَة لتكفير الْخَطَايَا، مِنْهَا كسر حجاب النَّفس، وتحلل النَّسمَة البهيمية الحاملة للملكات السَّيئَة، وَأَن صَاحبهَا يعرض عَن الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا نوع إِعْرَاض.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مثل الْمُؤمن كَمثل الخامة وَمثل الْمُنَافِق كَمثل الازره " الحَدِيث أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن لنَفس الْإِنْسَان قوتين: قُوَّة بهيمية، وَقُوَّة ملكية، وَأَن من خاصيته أَنه قد تكمن بهيميته، وتبرز ملكيته، فَيصير فِي أعداد الْمَلَائِكَة ... ، وَقد تكمن ملكيته، وتبرز بهيميته، فَيصير كَأَنَّهُ من الْبَهَائِم لَا يعبأ بِهِ، وَله عِنْد الْخُرُوج من سُورَة البهيمية إِلَى سلطنة الملكية أَحْوَال تتعالجان فِيهَا، تنَال هَذِه مِنْهَا وَتلك من هَذِه ... ، وَتلك مَوَاطِن المجازاة فِي الدُّنْيَا، وَقد ذكرنَا لمية المجازاة من قبل، فراجع.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا مرض العَبْد، أَو سَافر كتب لَهُ بِمثل مَا كَانَ يعْمل صَحِيحا مُقيما " أَقُول: الْإِنْسَان إِذا كَانَ جَامع الهمة على الْفِعْل، وَلم يمْنَع عَنهُ إِلَّا مَانع خارجي، فقد أَتَى بوظيفة الْقلب، وَإِنَّمَا التَّقْوَى فِي الْقلب، وَإِنَّمَا الْأَعْمَال شُرُوح ومؤكدات، يعَض عَلَيْهَا عِنْد الِاسْتِطَاعَة، ويمهل عِنْد الْعَجز.

(2/51)


قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشُّهَدَاء خَمْسَة، أَو سَبْعَة " الحَدِيث أَقُول: الْمُصِيبَة الشَّدِيدَة الَّتِي لَيست بصنعة العَبْد تعْمل عمل الشَّهَادَة فِي تَكْفِير الذُّنُوب، وَكَونه مرحوما.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن الْمُسلم إِذا عَاد أَخَاهُ الْمُسلم لم يزل فِي خرفة الْجنَّة حَتَّى يرجع " أَقُول: تآلف أهل الْمَدِينَة فِيمَا بَينهم لَا يُمكن إِلَّا بمعاونة ذَوي الْحَاجَات، وَالله تَعَالَى يحب مَا فِيهِ صَلَاح مدينتهم، والعيادة سَبَب صَالح لإِقَامَة التألف.
قَول الله تَعَالَى يَوْم الْقِيَامَة: " يَا ابْن آدم مَرضت فَلم تعدني " الخ أَقُول: هَذَا التجلي مثله بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرّوح الْأَعْظَم الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى:
{الْمَلَائِكَة وَالروح} .
مثل الصُّورَة الظَّاهِرَة فِي رُؤْيا الْإِنْسَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَلِك الْإِنْسَان، فَكَمَا أَن اعْتِقَاد الْإِنْسَان فِي ربه أَو حكمه وَرضَاهُ فِي حق هَذَا الشَّخْص يتَمَثَّل فِي رُؤْيَاهُ بربه تَعَالَى، وَلذَلِك كَانَ من حق الْمُؤمن الْكَامِل أَن يرَاهُ فِي أحسن صُورَة كَمَا رَآهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ تَعْبِير من يرَاهُ يلطمه فِي دهليز بَابه أَنه فرط فِي جنب الله فِي ذَلِك الدهليز، فَكَذَلِك يتَمَثَّل حق الله وَحكمه وَرضَاهُ وتدبيره أَو قيوميته لأفراد الْإِنْسَان، أَو كَونه مبدأ تحققهم ومبلغ اعْتِقَاد أَفْرَاد الْإِنْسَان فِي رَبهم عِنْد صِحَة مزاجهم واستقامة نُفُوسهم حَسْبَمَا تعطيه الصُّورَة النوعية فِي أَفْرَاد الْإِنْسَان فِي الْمعَاد بصور كَثِيرَة كَمَا بَينه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا التجلي إِنَّمَا هُوَ للروح الْأَعْظَم الَّذِي هُوَ جَامع أَفْرَاد الْإِنْسَان، ومتلقى كثرتهم، ومبلغ رقيهم فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، أَعنِي بذلك أَن هُنَا لَك لله تَعَالَى شَأْنًا كليا بِحَسب قيومته لَهُ وَحكمه فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي يرَاهُ النَّاس فِي الْمعَاد عيَانًا دَائِما بقلوبهم وَأَحْيَانا إِذا تمثل بِصُورَة مُنَاسبَة بِأَبْصَارِهِمْ وَبِالْجُمْلَةِ فَلذَلِك كَانَ هَذَا التجلي مكشافا بِحكم الله وَحقه
فِي أَفْرَاد الْإِنْسَان من حَيْثُ تعطيها الصُّورَة النوعية مثل تألفهم فِيمَا بَينهم وتحصيلهم للكمال الإنساني الْمُخْتَص بالنوع وَإِقَامَة الْمصلحَة المرضية فيهم، فَوَجَبَ أَن ينْسب مَا للْقَوْم إِلَى نَفسه لهَذِهِ العلاقة.
وَأمر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقى تَامَّة كَامِلَة فِيهَا ذكر الله والاستعانة بِهِ يُرِيد أَن تغشاهم غاشية من رَحْمَة الله، فندفع بلاياهم، وَأَن يكبحهم عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَ فِي الْجَاهِلِيَّة من الِاسْتِعَانَة

(2/52)


بطواغيتهم، ويعوضهم عَن ذَلِك بِأَحْسَن عوض، مِنْهَا قَول الراقي وَهُوَ يمسحه بِيَمِينِهِ: " أذهب الباس رب النَّاس، واشف أَنْت الشافي لَا شِفَاء إِلَّا شفاؤك شِفَاء لَا يُغَادر سقما " وَقَوله: " بِسم الله ارقيك من كل شَيْء يُؤْذِيك من شَرّ كل نفس أَو عين حَاسِد، الله يشفيك باسم الله أرقيك " وَقَوله " أُعِيذك بِكَلِمَات الله التَّامَّة من كل شَيْطَان وَهَامة وَمن كل عين لَامة " وَقَوله سبع مَرَّات: " أسأَل الله الْعَظِيم رب الْعَرْش الْعَظِيم أَن يشفيك " وَمِنْهَا النفث بالمعوذات، وَالْمسح، وَأَن يضع يَده على الَّذِي يألم من جسده وَيَقُول. " باسم الله ثَلَاثًا وَسبع مَرَّات أعوذ بعزة الله وَقدرته من شَرّ مَا أجد وأحاذر "، وَأَقُول: " باسم الله الْكَبِير أعوذ بِاللَّه الْعَظِيم من شَرّ كل عرق نعار وَمن شَرّ حر النَّار " وَقَوله: " رَبنَا الله الَّذِي فِي السَّمَاء تقدس اسْمك، أَمرك فِي السَّمَاء وَالْأَرْض، كَمَا رحمتك فِي السَّمَاء فَاجْعَلْ رحمتك فِي الأَرْض، اغْفِر لنا حوبنا وخطايانا، أَنْت رب الطيبين، أنزل رَحْمَة من رحمتك وشفاء من شفائك على هَذَا الوجع.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يتمنين أحدكُم الْمَوْت " الحَدِيث. أَقُول: من أدب الْإِنْسَان فِي جنب ربه أَلا يجترئ على طلب سلب نعْمَة، والحياة
نعْمَة كَبِيرَة لِأَنَّهَا وَسِيلَة إِلَى كسب الْإِحْسَان، فَإِنَّهُ إِذا مَاتَ انْقَطع أَكثر عمله، وَلَا يترقى إِلَّا ترقيا طبيعيا، وَأَيْضًا فَذَلِك تهور وتضجر وهما من أقبح الْأَخْلَاق.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أحب لقاءه الله أحب الله لقاءه وَمن كره لِقَاء الله كره الله لِقَائِه ". أَقُول: معنى لِقَاء الله أَن ينْتَقل من الْإِيمَان بِالْغَيْبِ إِلَى الْإِيمَان عيَانًا وَشَهَادَة، وَذَلِكَ أَن تنقشع عَنهُ الْحجب الغليظة البهيمية فَيظْهر نور الملكية، فيترتشح عَلَيْهِ الْيَقِين من حَظِيرَة الْقُدس، فَيصير مَا وعد على أَلْسِنَة التراجمة بمرأى مِنْهُ ومسمع، وَالْعَبْد الْمُؤمن الَّذِي لم يزل يسْعَى فِي ردع بهيميته وتقوية ملكيته يشتاق إِلَى هَذِه الْحَالة اشتياق كل عنصر إِلَى حيزه وكل ذِي حس إِلَى مَا هُوَ لَذَّة ذَلِك الْحس، وَإِن كَانَ بِحَسب نظام جسده يتألم، ويتنفر من الْمَوْت وأسبابه. وَالْعَبْد الْفَاجِر الَّذِي لم يزل يسْعَى فِي تَغْلِيظ البهيمية يشتاق إِلَى الْحَيَاة الدُّنْيَا، ويميل إِلَيْهَا كَذَلِك، وَحب الله وكراهيته وردا على المشاكلة، وَالْمرَاد إعداد مَا يَنْفَعهُ أَو يُؤْذِيه وتهيئته وَكَونه بمرصاد من ذَلِك.

(2/53)


وَلما اشْتبهَ على عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أحد الشَّيْئَيْنِ بِالْآخرِ نبه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْمَعْنى المُرَاد بِذكر أصرح حالات الْحبّ المترشح من فَوْقه الَّذِي لَا يشْتَبه بِالْآخرِ وَهِي حَالَة ظُهُور الْمَلَائِكَة.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يموتن أحدكُم إِلَّا وَهُوَ يحسن ظَنّه بربه " اعْلَم أَنه لَيْسَ عمل صَالح أَنْفَع للْإنْسَان بعد أدنى مَا تستقيم بِهِ النَّفس، ويندفع بِهِ اعوجاجها، أَعنِي أَدَاء الْفَرَائِض والاجتناب من الْكَبَائِر من أَن يَرْجُو من الله خيرا، فَإِن التملي من الرَّجَاء بِمَنْزِلَة الدُّعَاء الحثيث والهمة القوية فِي كَونه معدا لنزول رَحْمَة الله، وَإِنَّمَا الْخَوْف سيف يُقَاتل بِهِ أَعدَاء الله من
الْحجب الغليظة الشهوية والسبعية ووساوس الشَّيْطَان، وكما أَن الرجل الَّذِي لَيْسَ بحاذق فِي الْقِتَال قد يَسْطُو بِسَيْفِهِ، فَيُصِيب نَفسه كَذَلِك الَّذِي لَيْسَ بحاذق فِي تَهْذِيب النَّفس وَرُبمَا يسْتَعْمل الْخَوْف فِي غير مَحَله، فيتهم جَمِيع أَعماله الْحَسَنَة بالعجب والرياء وَسَائِر الْآفَات حَتَّى لَا يحْتَسب لشَيْء مِنْهَا أجرا عِنْد الله، وَيرى جَمِيع صغائره وزلاته وَاقعَة بِهِ لَا محَالة، فَإِذا مَاتَ تمثلت سيئاته عاضة عَلَيْهِ فِي ظَنّه، فَكَانَ ذَلِك سَببا لفيضان قُوَّة مثالية فِي تِلْكَ الْمثل الخيالية، فيعذب نوعا من الْعَذَاب، وَلم ينْتَفع بحسناته من أجل تِلْكَ الشكوك والظنون انتفاعا معتدا بِهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الله تبَارك وَتَعَالَى أَنا عِنْد ظن عَبدِي بِي " وَلما كَانَ الْإِنْسَان فِي مَرضه وَضَعفه كثيرا مَا لَا يتَمَكَّن من اسْتِعْمَال سيف الْخَوْف فِي مَحَله أَو يشْتَبه عَلَيْهِ كَانَت السّنة فِي حَقه أَن يكون رجاؤه أَكثر من خَوفه.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَكْثرُوا ذكر هَادِم اللَّذَّات " أَقُول: لَا شَيْء أَنْفَع فِي كسر حجاب النَّفس وردع الطبيعة عَن خوضها فِي لَذَّة الْحَيَاة الدُّنْيَا من ذكر الْمَوْت، فَإِنَّهُ يمثل بَين عَيْنَيْهِ صُورَة الانفكاك عَن الدُّنْيَا وهيئة لِقَاء الله، وَلِهَذَا التمثل أثر عَجِيب، وَقد ذكرنَا شَيْئا من ذَلِك فراجع.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من كَانَ آخر كَلَامه لَا إِلَه إِلَّا الله دخل الْجنَّة " أَقُول: ذَلِك لِأَن مؤاخذته نَفسه - وَقد أحيط بِنَفسِهِ - بِذكر الله تَعَالَى دَلِيل صِحَة إيمَانه وَدخُول بشاشته الْقلب، وَأَيْضًا فَذكره ذَلِك مَظَنَّة انصباغ نَفسه بصبغ الْإِحْسَان، فَمن مَاتَ وهذ، حَالَته وَجَبت لَهُ الْجنَّة.

(2/54)


قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقنوا مَوْتَاكُم لَا إِلَه إِلَّا الله " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقرءوا على مَوْتَاكُم (يس) أَقُول: هَذَا غَايَة الْإِحْسَان بالمختصر
بِحَسب صَلَاح معاده، وَإِنَّمَا خص " لَا إِلَه إِلَّا الله " لِأَنَّهُ أفضل الذّكر مُشْتَمل على التَّوْحِيد وَنفي الْإِشْرَاك، وأنوه أذكار الْإِسْلَام، و (يس) لِأَنَّهُ قلب الْقُرْآن، وسيأتيك، لِأَنَّهُ مِقْدَار صَالح للعظة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا من مُسلم تصيبه مُصِيبَة، فَيَقُول مَا أَمر الله:
{إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} .
اللَّهُمَّ أجرني فِي مصيبتي واخلف لي خيرا مِنْهَا إِلَّا أخلف الله لَهُ خيرا مِنْهَا " أَقُول: ذَلِك ليتذكر الْمُصَاب مَا عِنْد الله من الْأجر، وَمَا الله قَادر عَلَيْهِ من أَن يخلف عَلَيْهِ خيرا لتتخفف موجدته.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذا حضرتم الْمَيِّت، فَقولُوا خيرا " كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اغْفِر لأبي سَلمَة وَرفع دَرَجَته " الحَدِيث أَقُول: كَانَ من عَادَة النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة أَن يدعوا على أنفسهم، وَعَسَى أَن، يتَّفق سَاعَة الْإِجَابَة، فيستجاب، فبدل ذَلِك بِمَا هُوَ أَنْفَع لَهُ وَلَهُم، وَأَيْضًا فَهَذِهِ هِيَ الصدمة الأولى، فَيسنّ هَذَا الدُّعَاء ليَكُون وَسِيلَة إِلَى التَّوَجُّه تِلْقَاء الله.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنَته: اغسلنها وترا، ثَلَاثًا أَو خمْسا. أَو سبعا بِمَاء وَسدر، واجعلن فِي الْآخِرَة كافورا، وَقَالَ: ابدأن بميامنها ومواضع الْوضُوء مِنْهَا أَقُول: الأَصْل فِي غسل الْمَوْتَى أَن يحمل على غسل الْأَحْيَاء لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَسْتَعْمِلهُ فِي حَيَاته وَهُوَ الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ الغاسلون
فِي أنفسهم فَلَا شَيْء فِي تكريم الْمَيِّت مثله، وَإِنَّمَا أَمر بالسدر وَزِيَادَة الغسلات لِأَن الْمَرَض مَظَنَّة الأوساخ والرياح المنتنة، وَإِنَّمَا أَمر بالكافور فِي الْآخِرَة لِأَن من خاصيته أَلا يسْرع التَّغَيُّر فِيمَا اسْتعْمل، وَيُقَال: من فَوَائده أَنه لَا يقرب مِنْهُ حَيَوَان مؤذ، وَإِنَّمَا بُدِئَ بالميامن ليَكُون غسل الْمَوْتَى بِمَنْزِلَة غسل الْأَحْيَاء، وليحصل إكرام هَذِه الْأَعْضَاء، وَإِنَّمَا جرت السّنة فِي الشَّهِيد أَلا يغسل، ويدفن فِي ثِيَابه ودمائه تنويها بِمَا فعل، وليتمثل صُورَة بَقَاء عمله بادى الرَّأْي، وَلِأَن النُّفُوس البشرية إِذا فَارَقت أجسادها بقيت حساسة عَالِمَة بأنفسها وَيكون بَعْضهَا مدْركا لما يفعل بهَا فَإِذا أُبْقِي أثر عمل مثل هَذِه كَانَ إِعَانَة فِي تذكر الْعَمَل وتمثله عِنْدهَا، وَهَذَا قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جروحهم تدمي اللَّوْن لون دم وَالرِّيح ريح مسك " وَصَحَّ فِي الْمحرم أَيْضا " كفنوه فِي ثوبيه، وَلَا تمسوه بِطيب، وَلَا تخمروا رَأسه، فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبيا " فَوَجَبَ الْمصير إِلَيْهِ.

(2/55)


وَإِلَى هَذِه النُّكْتَة أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقَوْله " الْمَيِّت يبْعَث فِي ثِيَابه الَّتِي يَمُوت فِيهَا " وَالْأَصْل فِي التَّكْفِين الشّبَه بِحَال النَّائِم المسجي بِثَوْبِهِ، أكمله فِي الرجل إِزَار وقميص وَمِلْحَفَة أَو حلَّة، وَفِي الْمَرْأَة هَذِه مَعَ زِيَادَة لِأَنَّهُ يُنَاسِبهَا زِيَادَة السّتْر قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تغَالوا فِي الْكَفَن فَإِنَّهُ يسلب سلبا سَرِيعا " أَرَادَ الْعدْل بَين الإفراط والتفريط وَألا ينتحلوا عَادَة الْجَاهِلِيَّة فِي المغالاة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَسْرعُوا فِي بالجنازة فَإِنَّهَا إِن تَكُ صَالِحَة " أَقُول السَّبَب فِي ذَلِك أَن الإبطاء مَظَنَّة فَسَاد جثة الْمَيِّت وقلق الْأَوْلِيَاء فَإِنَّهُم مَتى مَا رَأَوْا الْمَيِّت اشتدت موجدتهم، وَإِذا غَابَ عَنْهُم اشتغلوا عَنهُ، وَقد
أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كلا السببين فِي كلمة وَاحِدَة حَيْثُ قَالَ " لَا يَنْبَغِي لجيفة مُسلم أَن تحسس بَين ظهراني أَهله ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فَإِن كَانَت صَالِحَة " الخ أَقُول: هَذَا عندنَا مَحْمُول على حَقِيقَته، وَبَعض النُّفُوس إِذا فَارَقت أجسادها تحس بِمَا يفعل بجسدها، وتتكلم بِكَلَام روحاني إِنَّمَا يفهم من الترشح على النُّفُوس دون المالوف عِنْد النَّاس من الِاسْتِمَاع بالأذن، وَذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَّا الْإِنْسَان ".
قُوَّة لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من اتبع جَنَازَة مُسلم إِيمَانًا واحتسابا " الخ أَقُول: السِّرّ فِي شرع الِاتِّبَاع إكرام الْمَيِّت وجبر قُلُوب الْأَوْلِيَاء ليَكُون طَرِيقا إِلَى اجْتِمَاع أمة صَالِحَة من الْمُؤمنِينَ للدُّعَاء لَهُ تعرضا لمعاونة الْأَوْلِيَاء فِي الدّفن؛ وَلذَلِك رغب فِي الْوُقُوف لَهَا إِلَى أَن يفرغ من الدّفن، وَنهى عَن الْقعُود حَتَّى تُوضَع.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن الْمَوْت فزع فَإِذا رَأَيْتُمْ الْجِنَازَة فَقومُوا " أَقُول لما كَانَ ذكر هاذم اللَّذَّات والاتعاظ من انْقِرَاض حَيَاة الاخوان مَطْلُوبا وَكَانَ أمرا خفِيا لَا يدْرِي الْعَامِل بِهِ من التارك لَهُ ضبط بِالْقيامِ لَهَا، وَلكنه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعزم عَلَيْهِ وَلم يكن سنة قَائِمَة، وَقيل: مَنْسُوخ، وعَلى هَذَا فالسر فِي النّسخ أَنه كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يَفْعَلُونَ أفعالا مشابهة بِالْقيامِ، فخشي أَن يحمل ذَلِك على غير محمله، فَيفتح بَاب الممنوعات،

(2/56)


وَالله أعلم.
وَإِنَّمَا شرعت الصَّلَاة على الْمَيِّت لِأَن اجْتِمَاع أمة من الْمُؤمنِينَ شافعين للْمَيت لَهُ تَأْثِير بليغ فِي نزُول الرَّحْمَة عَلَيْهِ.
وَصفَة الصَّلَاة عَلَيْهِ أَن يَقُول الإِمَام بِحَيْثُ يكون الْمَيِّت بَينه وَبَين الْقبْلَة ويصطف النَّاس خَلفه وَيكبر أَربع تَكْبِيرَات يَدْعُو فِيهَا للْمَيت ثمَّ يسلم، وَهَذَا مَا تقرر فِي زمَان عمر رَضِي الله عَنهُ، وَاتفقَ عَلَيْهِ جَمَاهِير الصَّحَابَة. وَمن بعدهمْ وَإِن كَانَت الْأَحَادِيث متخالفة فِي الْبَاب. وَمن السّنة قِرَاءَة فَاتِحَة الْكتاب لِأَنَّهَا خير الْأَدْعِيَة وأجمعها، علمهَا الله تَعَالَى عباده فِي مُحكم كِتَابه، وَمِمَّا حفظ من دُعَاء النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْمَيِّت " اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وَكَبِيرنَا وَذكرنَا وأنثانا، اللَّهُمَّ من أحييته منا فأحيه على الْإِسْلَام، وَمن توفيته منا فقوفه على الْإِيمَان، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمنَا أجره، وَلَا تفتنا بعده " و" اللَّهُمَّ إِن فلَان ابْن فلَان فِي ذِمَّتك وحبل جوارك فقه من فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب النَّار، وَأَنت أهل الْوَفَاء وَالْحق، اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم " و" اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، وارحمه، وعافه، واعف عَنهُ، وَأكْرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بِالْمَاءِ والثلج وَالْبرد، ونقه من الْخَطَايَا كَمَا نقيت الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس، وأبدله دَارا خير من دَاره وَأهلا خيرا من أَهله وزوجا خيرا من زوجه، وَأدْخلهُ الْجنَّة، وأعذه من عَذَاب الْقَبْر وَمن عَذَاب النَّار " وَفِي رِوَايَة " وقه فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب النَّار "
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن هَذِه الْقُبُور مَمْلُوءَة ظلمَة على أَهلهَا، وَإِن الله ينورها لَهُم بصلاتي " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا من مُسلم يَمُوت، فَيقوم على جنَازَته أَرْبَعُونَ رجلا لَا يشركُونَ بِاللَّه شَيْئا إِلَّا شفعهم الله فِيهِ "، وَفِي رِوَايَة " يُصَلِّي عَلَيْهِ أمة من الْمُسلمين يبلغون مائَة " أَقُول: لما كَانَ الْمُؤثر هُوَ الدُّعَاء - مِمَّن لَهُ بَال عِنْد الله ليخرق دعاؤه الْحجب، ويعد لنزوله الرَّحْمَة بِمَنْزِلَة الاسْتِسْقَاء - وَجب أَن يرغب فِي أحد الْأَمريْنِ أَن يكون من نفس عالية تعد أمة من النَّاس، أَو جمَاعَة عَظِيمَة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " هَذَا أثنيتم عَلَيْهِ خيرا وَجَبت لَهُ الْجنَّة "
الحَدِيث أَقُول: أَنا الله تَعَالَى إِذا أحب عبدا أحبه الْمَلأ الْأَعْلَى، ثمَّ ينزل الْقبُول فِي الْمَلأ السافل، ثمَّ إِلَى الصَّالِحين من النَّاس، وَإِذا أبْغض عبدا نزل البغض كَذَلِك، فَمن شهد لَهُ جمَاعَة من الصَّالِحِي الْمُسلمين بِالْخَيرِ من صميم قُلُوبهم من غير رِيَاء وَلَا مُوَافقَة عَادَة فَإِنَّهُ آيَة كَونه ناجيا، وَإِذا أثنوا عَلَيْهِ شرا فَإِنَّهُ آيَة كَونه هَالكا، وَمعنى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض " إِنَّهُم مورد الإلهام وتراجمة الْغَيْب.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تسبوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُم قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا "

(2/57)


أَقُول: لما كَانَ سَبَب الأموت سَبَب غيظ الْأَحْيَاء وتأذيهم وَلَا فَائِدَة فِيهِ، وَإِن كثيرا من النَّاس لَا يعلم حَالهم إِلَّا الله نهى عَنهُ، وَقد بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا السَّبَب فِي قصَّة سبّ جاهلي وَغَضب الْعَبَّاس لاجله.
وَهل يمشي أَمَام الْجِنَازَة أَو خلفهَا، وَهل يحملهَا أَرْبَعَة أَو اثْنَان، وَهل يسل من قبل رجلَيْهِ أَو من الْقبْلَة؟ الْمُخْتَار أَن الْكل وَاسع، وَأَنه قد صَحَّ فِي الْكل حَدِيث أَو أثر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّحْد لنا والشق لغيرنا " أَقُول ذَلِك لِأَن اللَّحْد أقرب من إكرام الْمَيِّت وإهالة التُّرَاب على وَجهه من غير ضَرُورَة سوء أدب.
وَإِنَّمَا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا رَضِي الله عَنهُ أَلا يدع تمثالا إِلَّا طمثه، وَلَا قبرا مشرفا إِلَّا سواهُ، وَنهى أَن يجصص الْقَبْر، وَأَن يبْنى عَلَيْهِ، وَأَن يقْعد عَلَيْهِ، وَقَالَ: " لَا تصلوا إِلَيْهَا لِأَن ذَلِك ذَرِيعَة أَن يتخذها النَّاس معبودا، وَأَن يفرطوا فِي تعظيمها بِمَا لَيْسَ بِحَق، فيحرفوا دينهم كَمَا فعل أهل الْكتاب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن الله الْيَهُود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد وَمعنى أَن يقْعد عَلَيْهِ، قيل: أَن يلازمه المزورون، وَقيل: أَن يطأوا الْقُبُور، وعَلى هَذَا فَالْمَعْنى إكرام الْمَيِّت، فَالْحق التَّوَسُّط بَين التَّعْظِيم الَّذِي يُقَارب الشّرك، وَبَين الإهانة وَترك الْمُوَالَاة بِهِ.
وَلما كَانَ البكا على الْمَيِّت والحزن عَلَيْهِ طبيعة لَا يَسْتَطِيعُونَ أَن ينفكوا عَنْهَا لم يجز أَن يكلفوا بِتَرْكِهِ كَيفَ وَهُوَ ناشيء من رقة الجنسية وَهِي محمودة لتوقف تألف أهل الْمَدِينَة فِيمَا بَينهم عَلَيْهَا، وَلِأَنَّهَا مُقْتَضى سَلامَة مزاج الْإِنْسَان، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّمَا يرحم الله من عباده الرُّحَمَاء ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنا الله لَا يعذب بدمع الْعين وَلَا بحزن الْقلب، وَلَكِن يعذب بِهَذَا - وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه - أَو يرحم "، قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسَ منا من ضرب الخدود، وشق الْجُيُوب، ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة " السِّرّ فِيهِ أَن ذَلِك سَبَب تهيج الْغم، وَإِنَّمَا الْمُصَاب بالثكل بِمَنْزِلَة الْمَرِيض يعالج ليخفف مَرضه، وَلَا يَنْبَغِي أَن يسْعَى فِي تضَاعف وَجَعه، وَكَذَلِكَ الْمُصَاب يشغل عَمَّا يجده، وَلَا يَنْبَغِي أَن يغوص بِقَصْدِهِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ هيجان القلق يكون سَببا لعدم الرِّضَا بِالْقضَاءِ، وَأَيْضًا فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يراءون النَّاس بِإِظْهَار التفجع وَتلك عَادَة خبيثة ضارة، فنهوا عَنْهَا.

(2/58)


وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النائحة: " تُقَام يَوْم الْقِيَامَة وَعَلَيْهَا سربال
من قطران وَدرع من جرب " أَقُول: إِنَّمَا كَانَ كَذَلِك لِأَنَّهَا أحاطت بهَا الْخَطِيئَة، فجوزيت بتمثل الْخَطِيئَة نَتنًا محيطا بجسدها، وَإِنَّمَا تُقَام تشهيرا أَو لِأَنَّهَا كَانَت قَائِمَة عِنْد النوحة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَربع فِي أمتِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة لَا يتركونهن " الحَدِيث أَقُول إِنَّمَا تفطن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنهم لَا يتركون لِأَن ذَلِك مُقْتَضى إفراط الطبيعة البشرية بِمَنْزِلَة الشبق، فَإِن النُّفُوس لَهَا تيه يظْهر فِي الْأَنْسَاب وألفة بالأموات تستدعي النِّيَاحَة، ورصد يُؤَدِّي إِلَى الاسْتِسْقَاء بالنجوم، وَلذَلِك لن ترى أمة من الْبشر من عربهم وعجمهم إِلَّا وَهَذِه سنة فيهم.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النِّسَاء يتبعن الْجِنَازَة: " ارْجِعْنَ مَأْزُورَات غير مَأْجُورَات: أَقُول إِنَّمَا نهين عَن ذَلِك لِأَن حضورهن مَظَنَّة الصخب والنياحة وَعدم الصَّبْر وانكشاف العورات.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَمُوت لمُسلم ثَلَاثَة من الْوَلَد، فيلج النَّار " أَقُول: ذَلِك لجاهد نَفسه بالاحتساب ولمعان ذَكرنَاهَا فراجع.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من عزى مصابا فَلهُ مثل أجره " أَقُول: ذَلِك لسببين: أَحدهمَا أَن الْحَاضِر يرق رقة الْمُصَاب، وَثَانِيهمَا أَن عَالم الْمِثَال مبناه على ظُهُور الْمعَانِي التضايفية، فَفِي تَعْزِيَة الثكلى صُورَة الثكل، فجوزي شبه جَزَائِهِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصنعوا لآل جَعْفَر طَعَاما، فقد أَتَاهُم مَا يشغلهم ". أَقُول: هَذَا نِهَايَة الشَّفَقَة بِأَهْل الْمُصِيبَة وحفظهم من أَن يتضرروا بِالْجُوعِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها " أَقُول: كَانَ نهى عَنْهَا لِأَنَّهَا تفتح بَاب الْعِبَادَة لَهَا، فَلَمَّا اسْتَقَرَّتْ الْأُصُول الإسلامية، وإطمأنت نُفُوسهم على تَحْرِيم الْعِبَادَة لغير الله أذن فِيهَا، وَعلل التجويز بِأَن فَائِدَته عَظِيمَة، وَهِي أَنَّهَا تذكر الْمَوْت، وَأَنَّهَا سَبَب صَالح للاعتبار بتقلب الدُّنْيَا.
وَمن دُعَاء الزائر لأهل الْقُبُور: السَّلَام عَلَيْكُم يَا أهل الديار من الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين، وَإِنَّا إِن شَاءَ الله بكم لاحقون نسْأَل الله لنا وَلكم الْعَافِيَة - وَفِي رِوَايَة - السَّلَام عَلَيْكُم يَا أهل الْقُبُور يغْفر الله لنا وَلكم وَأَنْتُم سلفنا وَنحن بالأثر، وَالله أعلم.

(2/59)