حجة الله
البالغة (بَاب صَلَاة المعذورين)
لما كَانَ من تَمام التشريع - أَن يبين لَهُم الرُّخص عِنْد الْأَعْذَار،
ليَأْتِي المكلفون من الطَّاعَة بِمَا يَسْتَطِيعُونَ، وَيكون قدر ذَلِك
مفوضا إِلَى الشَّارِع، ليراعي فِيهِ التَّوَسُّط، لَا إِلَيْهِم، فيفرطوا،
أَو يفرطوا - اعتنى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضبط
الرُّخص والأعذار.
وَمن أصُول الرُّخص أَن ينظر إِلَى اصل الطَّاعَة حَسْبَمَا تَأمر بِهِ
حِكْمَة الْبر، فيعض عَلَيْهَا فِي بالنواجد على كل حَال، وَينظر إِلَى
حُدُود وضوابط شرعها الشَّارِع، ليتيسر لَهُم الْأَخْذ بِالْبرِّ، فَيصْرف
فِيهَا إِسْقَاطًا وإبدالا حَسْبَمَا تُؤدِّي إِلَيْهِ الضَّرُورَة.
فَمن الْأَعْذَار السّفر، وَفِيه من الْحَرج مَا لَا يحْتَاج إِلَى بَيَان،
فشرع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ رخصا.
مِنْهَا الْقصر، فأبقى أصل أعداد الرَّكْعَات - وَهِي إِحْدَى عشرَة
رَكْعَة، وَأسْقط مَا زيد بِشَرْط الطُّمَأْنِينَة والحضر، وَلما كَانَ
هَذَا الْعدَد فِيهِ شَائِبَة الْعَزِيمَة لم يكن من حَقه أَن يقدر بِقدر
الضَّرُورَة، ويضيق فِي ترخيصه كل التَّضْيِيق، فَلذَلِك بَين رَسُول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن شَرط الْخَوْف فِي الْآيَة لبَيَان
الْفَائِدَة، وَلَا مَفْهُوم لَهُ، فَقَالَ: " صَدَقَة تصدق الله بهَا
عَلَيْكُم فاقبلوا صَدَقَة " وَالصَّدَََقَة لَا يضيق فِيهَا أهل المروءات،
وَلذَلِك أَيْضا واظب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
الْقصر، وَإِن جوز الاتمام، فِي الْجُمْلَة فَهُوَ سنة مُؤَكدَة، وَلَا
اخْتِلَاف بيم مَا روى من جَوَاز الْإِتْمَام،
وَأَن الرَّكْعَتَيْنِ فِي السّفر تَمام غير قصر لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون
الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ ذَلِك يكون الاتمام مجزئا
بِالْأولَى - كَالْمَرِيضِ. وَالْعَبْد - يصليان الْجُمُعَة فَيسْقط
عَنْهُم الظّهْر، أَو كَالَّذي وَجب عَلَيْهِ بنت مَخَاض فَتصدق
بِالْكُلِّ، وَلذَلِك كَانَ من حَقه أَنه إِذا صَحَّ على الْمُكَلف
إِطْلَاق اسْم الْمُسَافِر جَازَ لَهُ الْقصر إِلَى أَن يَزُول عَنهُ هَذَا
الِاسْم بِالْكُلِّيَّةِ، لَا ينظر فِي ذَلِك إِلَى وجود الْحَرج، وَلَا
إِلَى عدم الْقُدْرَة على الاتمام لِأَنَّهُ وَظِيفَة من هَذَا شَأْنه
ابْتِدَاء وَهُوَ قَول ابْن عمر رَضِي الله عَنهُ: سنّ رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاة السّفر رَكْعَتَيْنِ، وهما تَمام غير قصر.
وَاعْلَم أَن السّفر وَالْإِقَامَة وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة، وَسَائِر مَا
أدَار الشَّارِع عَلَيْهِ الحكم أُمُور يستعملها أهل الْعرف فِي مظانها،
ويعرفون مَعَانِيهَا، وَلَا ينَال حَده الْجَامِع الْمَانِع إِلَّا بِضَرْب
من الِاجْتِهَاد والتأمل، وَمن المهم معرفَة طَرِيق الِاجْتِهَاد، فَنحْن
نعلم نموذجا مِنْهَا فِي
(2/36)
السّفر، فَنَقُول: هُوَ مَعْلُوم
بِالْقِسْمَةِ. والمثال: يعلم جَمِيع أهل اللِّسَان أَن الْخُرُوج من
مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَمن الْمَدِينَة إِلَى خَيْبَر سفر لَا محَالة،
وَقد ظهر من فعل الصَّحَابَة وَكَلَامهم، أَن الْخُرُوج من مَكَّة إِلَى
جدة. وَإِلَى الطَّائِف. وَإِلَى عسفان وَسَائِر مَا يكون الْمَقْصد فِيهِ
على أَرْبَعَة برد سفر، ويعلمون أَيْضا أَن الْخُرُوج من الوطن على
أَقسَام: تردد إِلَى الزَّارِع والبساتين وهيمان بِدُونِ تعْيين مقصد سفر،
ويعلمون أَن اسْم اُحْدُ هَذِه لَا يُطلق على الآخر، وسبيل الِاجْتِهَاد
أَن يَسْتَقْرِئ الْأَمْثِلَة الَّتِي يُطلق عَلَيْهَا الِاسْم عرفا
وَشرعا، وَأَن يسبر الْأَوْصَاف الَّتِي بهَا يُفَارق أَحدهَا قسيمة،
فَيجْعَل أعمها فِي مَوضِع
الْجِنْس، واخصها فِي مَوضِع الْفَصْل، فَعلمنَا أَن الِانْتِقَال من الوطن
جُزْء نَفسِي، إِذْ من كَانَ ثاويا فِي مَحل إِقَامَته لَا يُقَال لَهُ:
مُسَافر، وَأَن الِانْتِقَال إِلَى مَوضِع معِين جُزْء نَفسِي، وَإِلَّا
كَانَ هيمانا لَا سفرا، وَأَن كَون ذَلِك الْموضع بِحَيْثُ لَا يُمكن لَهُ
الرُّجُوع مِنْهُ إِلَى مَحل إِقَامَته فِي يَوْمه وأوائل ليلته جُزْء
نَفسِي، وَإِلَّا كَانَ مثل التَّرَدُّد إِلَى الْبَسَاتِين والمزارع، وَمن
لَازمه أَن يكون مسيرَة يَوْم تَامّ - وَبِه قَالَ سَالم - لَكِن مسير
أَرْبَعَة برد مُتَيَقن، وَمَا دونه مَشْكُوك وَصِحَّة هَذَا الِاسْم يكون
بِالْخرُوجِ من سور الْبَلَد أَو حلَّة الْقرْيَة أَو بيوتها بِقصد مَوضِع
هُوَ على أَرْبَعَة برد، وَزَوَال هَذَا الِاسْم إِنَّمَا يكون بنية
الْإِقَامَة مُدَّة صَالِحَة يعْتد بهَا فِي بَلَده أَو قربه.
وَمِنْهَا الْجمع بَين الظّهْر. وَالْعصر. وَالْمغْرب. وَالْعشَاء،
وَالْأَصْل فِيهِ مَا أَشَرنَا أَن الْأَوْقَات الْأَصْلِيَّة ثَلَاثَة:
الْفجْر. وَالظّهْر. وَالْمغْرب، وَإِنَّمَا اشتق الْعَصْر من الظّهْر،
وَالْعشَاء من الْمغرب لِئَلَّا تكون الْمدَّة الطَّوِيلَة صلَة بَين
الذكرين، وَلِئَلَّا يكون النّوم على صفة الْغَفْلَة، فشرع، لَهُم جمع
التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير لكنه لم يواظب عَلَيْهِ وَلم يعزم عَلَيْهِ مثل
مَا فعل فِي الْقصر.
وَمِنْهَا ترك السّنَن فَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. وَأَبُو بكر. وَعمر. وَعُثْمَان رَضِي الله عَنْهُم لَا يسبحون
إِلَّا سنة الْفجْر وَالْوتر.
وَمِنْهَا الصَّلَاة على الرَّاحِلَة حَيْثُ تَوَجَّهت بِهِ يُومِئ إِيمَاء
وَذَلِكَ فِي النَّوَافِل وَسنة الْفجْر. وَالْوتر لَا الْفَرَائِض.
وَمن الْأَعْذَار الْخَوْف، وَقد صلى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ صَلَاة الْخَوْف على أنحاء كَثِيرَة.
(2/37)
مِنْهَا أَن رتب الْقَوْم صفّين، فصلى بهم،
فَلَمَّا سجد سجد مَعَه صف سجدتيه، وحرس صف، فَلَمَّا قَامُوا سجد من حرس،
ولحقوه، وَسجد مَعَه فِي الثَّانِي من حرس أَولا، وحرس الْآخرُونَ،
فَلَمَّا جلس سجد من حرس، وَتشهد بالصفين، وَسلم وَالْحَالة الَّتِي
تَقْتَضِي هَذَا النَّوْع أَن يكون الْعَدو فِي جِهَة الْقبْلَة.
وَمِنْهَا أَن صلى مرَّتَيْنِ كل مرّة بفرقة، وَالْحَالة الَّتِي تَقْتَضِي
هَذَا النَّوْع أَن يكون الْعَدو فِي غَيرهَا، وَأَن يكون توزيع
الرَّكْعَتَيْنِ عَلَيْهِم مشوشا لَهُم، وَلَا يحيطوا بأجمعهم بكيفية
الصَّلَاة.
وَمِنْهَا أَن وقفت فرقة فِي وجهة، وَصلى بفرقة رَكْعَة، فَلَمَّا قَامَ
للثَّانِيَة فارقته، وأتمت، وَذَهَبت وجاه الْعَدو، وَجَاء الواقفون،
فاقتدوا بِهِ، فصلى بهم الثَّانِيَة، فَلَمَّا جلس للتَّشَهُّد قَامُوا،
فَأتمُّوا ثانيتهم، ولحقوه، وَسلم بهم ... ، وَالْحَالة الْمُقْتَضِيَة
لهَذَا النَّوْع أَن يكون الْعَدو فِي بِغَيْر الْقبْلَة، وَلَا يكون توزيع
الرَّكْعَتَيْنِ عَلَيْهِم مشوشا لَهُم.
وَمِنْهَا أَنه صلى بطَائفَة مِنْهُم، وَأَقْبَلت طَائِفَة من الْعَدو،
فَرَكَعَ بهم رَكْعَة، ثمَّ انصرفوا بمَكَان الطَّائِفَة الَّتِي لم تصل،
وَجَاء أُولَئِكَ، فَرَكَعَ بهم رَكْعَة، ثمَّ أتم هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء.
وَمِنْهَا أَن يُصَلِّي كل وَاحِد كَيْفَمَا أمكن رَاكِبًا أَو مَاشِيا
لقبلة أَو غَيرهَا رَوَاهُ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا ... ، وَالْحَالة
الْمُقْتَضِيَة لهَذَا النَّوْع أَن يشْتَد الْخَوْف، أَو يلتحم الْقِتَال.
وَبِالْجُمْلَةِ فَكل نَحْو روى عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَهُوَ جَائِز، وَيفْعل الْإِنْسَان مَا هُوَ أخف عَلَيْهِ وأوفق
بِالْمَصْلَحَةِ حالتئذ.
وَمن الْأَعْذَار الْمَرَض وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" صل قَائِما فَإِن لم تستطع، فقاعداً، فَإِن لم تستطع، فعلى جنب ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي: النَّافِلَة من صلى قَائِما
فَهُوَ أفضل، وَمن صلى قَاعِدا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم "
(2/38)
أَقُول لما كَانَ من حق الصَّلَاة أَن يكثر
مِنْهَا - وأصل الصَّلَاة يَتَأَتَّى قَائِما وَقَاعِدا كَمَا بَينا،
وَإِنَّمَا وَجب الْقيام عِنْد التشريع، مَا لَا يدْرك كُله لَا يتْرك كُله
- واقتضت الرَّحْمَة أَن يسوغ لَهُم الصَّلَاة النَّافِلَة قَاعِدا، وَبَين
لَهُم مَا بَين الدرجتين.
وَقد وَردت صَلَاة الطَّالِب، وَصَلَاة الْمَطَر، وَصَلَاة الوحل: وَلم
يترخص أحد من الصَّحَابَة فِي الضوابط وَالْحُدُود من ضَرُورَة لَا يجد
مِنْهَا بدا من غير شَائِبَة الْإِنْكَار والتهاون إِلَّا وَسلمهُ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" فَإِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم " كلمة
جَامِعَة، وَالله أعلم.
(الْجَمَاعَة)
اعْلَم أَنه لَا شَيْء أَنْفَع من غائلة الرسوم من أَن يَجْعَل شَيْء من
الطَّاعَات رسما فاشيا يُؤَدِّي على رُءُوس الخامل والنبيه، وَيَسْتَوِي
فِيهِ الْحَاضِر والباد، ويجرى فِيهِ التفاخر والتباهي، حَتَّى تدخل فِي
الارتفاقات الضرورية الَّتِي لَا يُمكن لَهُم أَن يتركوها، وَلَا أَن
يهملوها لتصير مؤيدا لعبادة الله، وَالسّنة تَدْعُو إِلَى الْحق، وَيكون
الَّذِي يخَاف مِنْهُ الضَّرَر هُوَ الَّذِي يجلبهم إِلَى الْحق.
وَلَا شَيْء من الطَّاعَات أتم شَأْنًا وَلَا أعظم برهانا من الصَّلَاة،
فَوَجَبَ إشاعتها فِيمَا بَينهم والاجتماع لَهَا، وموافقة النَّاس فِيهَا.
وَأَيْضًا فالملة تجمع نَاسا عُلَمَاء يقْتَدى بهم، وناسا يَحْتَاجُونَ فِي
تحصل إحسانهم إِلَى دَعْوَة حثيثة، وناسا ضعفاء البنية وَلَو لم يكلفوا أَن
يؤدوا على أعين النَّاس تهاونوا فِيهَا. فَلَا أَنْفَع وَلَا أوفق
بِالْمَصْلَحَةِ فِي حق هَؤُلَاءِ جَمِيعًا أَن يكلفوا أَن يطيعوا الله على
أعين النَّاس ليتميز فاعلها من تاركها، وراغبها من الزَّاهِد فِيهَا،
ويقتدي بعالمها، وَيعلم جاهلها، وَتَكون طَاعَة الله فيهم كسبيكة تعرض على
طائف النَّاس، يُنكر مِنْهَا الْمُنكر، وَيعرف مِنْهَا الْمَعْرُوف، وَيرى
غشها وخالصها.
وَأَيْضًا فلاجتماع الْمُسلمين راغبين فِي الله، راجين راهبين مِنْهُ،
مُسلمين وُجُوههم إِلَيْهِ - خاصية عَجِيبَة فِي نزُول البركات وتدلي
الرَّحْمَة كَمَا بَينا فِي الاسْتِسْقَاء. وَالْحج.
وَأَيْضًا فمراد الله من نصب هَذِه الْأمة أَن تكون كلمة الله هِيَ
الْعليا، وَألا يكون فِي الأَرْض دين أَعلَى من الْإِسْلَام، وَلَا
يتَصَوَّر ذَلِك إِلَّا بِأَن يكون سنتهمْ أَن يجْتَمع خاصتهم وعامتهم،
وحاضرهم وباديهم، وصغيرهم وَكَبِيرهمْ، لما هُوَ أعظم شعائره وَأشهر
طاعاته.
فلهذه الْمعَانِي انصرفت الْعِنَايَة التشريعية إِلَى شرع الْجُمُعَة
وَالْجَمَاعَات، وَالتَّرْغِيب فِيهَا وتغليظ النَّهْي عَن تَركهَا.
(2/39)
والإشاعة إشاعتان: إِشَاعَة فِي الْحَيّ،
وإشاعة فِي الْمَدِينَة، والإشاعة فِي الْحَيّ تتيسر فِي كل وَقت صَلَاة
والإشاعة فِي الْمَدِينَة لَا تتيسر إِلَّا غب طَائِفَة من الزَّمَان
كالأسبوع، أما الأولى فَهِيَ الْجَمَاعَة، وفيهَا قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَلَاة الْجَمَاعَة تفصل صَلَاة الْفَذ بِسبع وَعشْرين
دَرَجَة " وَفِي رِوَايَة " بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة " وَقد صرح النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَو لوح أَن من المرجحات أَنه إِذا
تَوَضَّأ، فَأحْسن وضوءه، ثمَّ توجه إِلَى الْمَسْجِد، لَا ينهضه إِلَّا
الصَّلَاة كَانَ مَشْيه فِي حكم الصَّلَاة، وخطواته مكفرات لذنوبه، وَأَن
دَعْوَة الْمُسلمين تحيط بهم من ورائهم، وَأَن فِي انْتِظَار الصَّلَوَات
معنى الرِّبَاط وَالِاعْتِكَاف إِلَى غير ذَلِك، ثمَّ مَا نوه بِأحد
العددين الْمَذْكُورين إِلَّا لنكتة بليغة تمثلت عِنْده صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقد ذَكرنَاهَا من قبل فراجع، وَلَيْسَ فِي الْحق
الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه جزاف
بِوَجْه من الْوُجُوه.
وفيهَا قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَا من ثَلَاثَة فِي
قَرْيَة أَو بَدو لَا تُقَام فيهم الصَّلَاة إِلَّا قد استحوذ عَلَيْهِم
الشَّيْطَان " أَقُول هُوَ إِشَارَة إِلَى أَن تَركهَا يفتح بَاب التهاون.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد
هَمَمْت أَن آمُر بحطب فيحطب " الحَدِيث أَقُول الْجَمَاعَة سنة مُؤَكدَة
تُقَام اللأئمة على تَركهَا لِأَنَّهَا من شَعَائِر الدّين، لكنه صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى من بعض من هُنَالك تأخرا واستبطاء، وَعرف أَن
سَببه ضعف النِّيَّة فِي الْإِسْلَام، فَشدد النكير عَلَيْهِم، وأخاف
قُلُوبهم.
ثمَّ لما كَانَ فِي شُهُود الْجَمَاعَة حرج للضعيف، والسقيم، وَذي الْحَاجة
اقْتَضَت الْحِكْمَة أَن يرخص فِي تَركهَا عِنْد ذَلِك، ليتَحَقَّق الْعدْل
بَين الإفراط والتفريط:
فَمن أَنْوَاع الْحَرج لَيْلَة ذَات برد ومطر، وَيسْتَحب عِنْد ذَلِك قَول
الْمُؤَذّن: أَلا صلوا فِي الرّحال.
وَمِنْهَا حَاجَة يعسر التَّرَبُّص بهَا كالعشاء إِذا حضر، فَإِنَّهُ
رُبمَا تتشوف نفس إِلَيْهِ، وَرُبمَا يضيع الطَّعَام، وكمدافعة الاخبثين،
فَإِنَّهُ بمعزل عَن فَائِدَة الصَّلَاة مَعَ مَا بِهِ من اشْتِغَال
النَّفس، وَلَا اخْتِلَاف بَين حَدِيث لَا صَلَاة بِحَضْرَة الطَّعَام "
وَحَدِيث " لَا تؤخروا الصَّلَاة
(2/40)
لطعام وَلَا غَيره " إِذْ يُمكن تَنْزِيل
كل وَاحِد على صُورَة أَو معنى إِذْ المُرَاد نفي وجوب الْحُضُور سدا لباب
التعمق، وَعدم التَّأْخِير هُوَ الْوَظِيفَة لمن أَمن شَرّ التعمق،
وَذَلِكَ كتنزيل فطر الصَّائِم وَعَدَمه على الْحَالين، أَو التَّأْخِير
إِذا كَانَ تشوف إِلَى الطَّعَام، أَو خوف ضيَاع وَعَدَمه إِذا لم يكن،
وَذَلِكَ مَأْخُوذ من حَالَة الْعلَّة.
وَمِنْهَا مَا إِذا كَانَ خوف فتْنَة كامرأة أَصَابَت بخورا، وَلَا
اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا
اسْتَأْذَنت امْرَأَة أحدكُم إِلَى الْمَسْجِد فَلَا يمْنَعهَا " وَبَين
مَا حكم بِهِ جُمْهُور الصَّحَابَة من مَنعهنَّ إِذْ الْمنْهِي الْغيرَة
الَّتِي تنبعث من الأنفة دون خوف الْفِتْنَة، والجائز مَا فِيهِ خوف
الْفِتْنَة، وَذَلِكَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغيرَة
غيرتان " الحَدِيث، وَحَدِيث عَائِشَة " إِن النِّسَاء أحدثن " الحَدِيث.
وَمِنْهَا الْخَوْف وَالْمَرَض، وَالْأَمر فيهمَا الظَّاهِر، وَمعنى قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
للأعمى أتسمع النداء بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأجب أَن سُؤَاله
كَانَ فِي الْعَزِيمَة فَلم يرخص لَهُ.
ثمَّ وَقعت الْحَاجة إِلَى بَيَان الأحق بِالْإِمَامَةِ، وَكَيْفِيَّة
الِاجْتِمَاع، وَوَصِيَّة الإِمَام أَن يُخَفف بالقوم، والمأمومين أَن
يحافظوا على اتِّبَاعه، وقصة معَاذ رَضِي الله عَنهُ فِي الإطالة
مَشْهُورَة، فَبين هَذِه الْمعَانِي بأوكد وَجه، وَهُوَ قَوْله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤم الْقَوْم أقرؤهم للْكتاب الله فَإِن كَانُوا
فِي الْقِرَاءَة سَوَاء فأعلمهم بِالسنةِ، فَإِن كَانُوا فِي السّنة سَوَاء
فأقدمهم هِجْرَة، فَإِن كَانُوا فِي الْهِجْرَة سَوَاء فأقدمهم سنا، وَلَا
يُؤمن الرجل الرجل فِي سُلْطَانه ".
وَسبب تَقْدِيم الأقرأ أَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حد للْعلم حدا
مَعْلُوما كَمَا بَينا، وَكَانَ أول مَا هُنَالك معرفَة كتاب الله
لِأَنَّهُ أصل الْعلم، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ من شَعَائِر الله، فَوَجَبَ أَن
يقدم صَاحبه، وينوه بِشَأْنِهِ؛ ليَكُون ذَلِك دَاعيا إِلَى التنافس فِيهِ،
وَلَيْسَ كَمَا يظنّ أَن السَّبَب احْتِيَاج الْمُصَلِّي إِلَى الْقِرَاءَة
فَقَط، وَلَكِن الأَصْل حملهمْ على المنافسة فِيهَا، وَإِنَّمَا تدْرك
الْفَضَائِل بالمنافسة، وَسبب خُصُوص الصَّلَاة بِاعْتِبَار المنافسة
احتياجها إِلَى الْقِرَاءَة فليتدبر.
ثمَّ من بعْدهَا معرفَة السّنة لِأَنَّهُ تلو الْكتاب، وَبهَا قيام
الْملَّة، وَهِي مِيرَاث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
قومه.
(2/41)
ثمَّ بعده اعْتبرت الْهِجْرَة إِلَى
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَن النَّبِي عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظم أَمر
الْهِجْرَة، وَرغب فِيهَا، ونوه بشأنها، وَهَذَا من تَمام التَّرْغِيب
والتنويه.
ثمَّ زِيَادَة السن إِذْ السّنة الفاشية فِي الْملَل جَمِيعهَا توقير
الْكَبِير، وَلِأَنَّهُ أَكثر تجربة، وَأعظم حلما.
وَإِنَّمَا نهى عَن التَّقَدُّم على ذِي سُلْطَان فِي سُلْطَانه لِأَنَّهُ
يشق عَلَيْهِ، ويقدح فِي سُلْطَانه، فشرع ذَلِك إبْقَاء عَلَيْهِ.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا صلى أحدكُم للنَّاس فليخفف،
فَإِن فيهم السقيم والضعيف وَالْكَبِير، وَإِذا صلى أحدكُم لنَفسِهِ فليطول
مَا شَاءَ " أَقُول: الدعْوَة إِلَى الْحق لَا تتمّ مائدتها إِلَّا
بالتيسير، والتنفير يُخَالف الْمَوْضُوع، وَالشَّيْء الَّذِي يُكَلف بِهِ
جُمْهُور النَّاس من حَقه التَّخْفِيف كَمَا صرح النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ إِن مِنْكُم منفرين ".
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ،
فَلَا تختلفوا عَلَيْهِ، فَإِذا ركع، فاركعوا، وَإِذا قَالَ سمع الله لمن
حَمده، فَقَالُوا اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، وَإِذا سجد، فاسجدوا،
وَإِذا صلى جَالِسا، فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعِينَ " وَفِي رِوَايَة " وَإِذا
قَالَ: (وَلَا الضَّالّين) فَقولُوا: أَمِين " أَقُول بَدْء الْجَمَاعَة
مَا اجتهده عَلَيْهِ معَاذ رَضِي الله عَنهُ بِرَأْيهِ، فقرره النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستصوبه، وَإِنَّمَا اجْتهد لِأَنَّهُ
بِهِ تصير صلَاتهم وَاحِدَة، وَدون ذَلِك إِنَّمَا هُوَ اتِّفَاق فِي
الْمَكَان دون الصَّلَاة.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا صلى جَالِسا فصلوا جُلُوسًا
" مَنْسُوخ بِدَلِيل إِمَامَة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي آخر عمره جَالِسا وَالنَّاس قيام، والسر فِي هَذَا النّسخ أَن جُلُوس
الإِمَام وَقيام الْقَوْم يشبه فعل الْأَعَاجِم فِي إفراط تَعْظِيم
مُلُوكهمْ كَمَا صرح بِهِ فِي بعض رِوَايَات الحَدِيث، فَلَمَّا
اسْتَقَرَّتْ الْأُصُول الإسلامية، وَظَهَرت الْمُخَالفَة مَعَ الْأَعَاجِم
فِي كثير من الشَّرَائِع رجح قِيَاس آخر، وَهُوَ أَن الْقيام ركن
الصَّلَاة، فَلَا يتْرك من غير عذر وَلَا عذر للمقتدي.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلنى مِنْكُم أَو لَو الأحلام
وَالنَّهْي، ثمَّ الَّذين
يَلُونَهُمْ ثَلَاثًا وَإِيَّاكُم وهيشات الْأَسْوَاق " أَقُول: ذَلِك
ليتقرر عِنْدهم توقير الْكَبِير، أَو ليتنافسوا فِي عَادَة أهل السؤدد،
وَلِئَلَّا يشق على أولى الأحلام تَقْدِيم من دونهم عَلَيْهِم، وَنهى عَن
الهيشات تأدبا، وليتمكنوا من تدبر الْقُرْآن، وليتشبهوا بِقوم ناجوا
الْملك.
(2/42)
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَلا تصفون كَمَا تصف الْمَلَائِكَة عِنْد رَبهَا " أَقُول لكل ملك مقَام
مَعْلُوم، وَإِنَّمَا وجدوا على مُقْتَضى التَّرْتِيب الْعقلِيّ فِي
الاستعدادات، فَلَا يُمكن أَن يكون هُنَالك فُرْجَة، قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لأرى الشَّيْطَان يدْخل من خلل الصَّفّ
كَأَنَّهَا الْحَذف ". أَقُول: قد جربنَا أَن التراص فِي حلق الذّكر سَبَب
جمع الخاطر ووجدان الْحَلَاوَة فِي الذّكر وسد الخطرات، وَتَركه ينقص من
هَذِه الْمعَانِي، والشيطان يدْخل كلما انْتقصَ شَيْء من هَذِه الْمعَانِي،
فَرَأى ذَلِك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متمثلا بِهَذِهِ
الصُّورَة، وَإِنَّمَا رأى فِي هَذِه الصُّورَة لِأَن دُخُول الْحَذف أقرب
مَا يرى فِي الْعَادة من هجوم شَيْء فِي المضايق مَعَ السوَاد الْمشعر بقبح
السريرة. فتمثل الشَّيْطَان بِتِلْكَ الصُّورَة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتسون صفوفكم، أَو ليخالفن الله
بَين وُجُوهكُم " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما يخْشَى
الَّذِي يرفع رَأسه قبل الإِمَام أَن يحول الله رَأسه إِلَى رَأس حمَار "
أَقُول: كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمرهم بالتسوية
والاتباع، ففرطوا، وسجل عَلَيْهِم، فَلم ينزجروا، فغلظ التهديد، وأخافهم
إِن أصروا على الْمُخَالفَة أَن يلعنهم الْحق؛ إِذْ منابذة التدليات
الإلهية جالبة للعن، واللعن إِذا أحَاط بِأحد يُورث المسخ،
أَو وُقُوع الْخلاف بَينهم، والنكتة فِي خُصُوص الْحمار أَنه بَهِيمَة
يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْحمق والإهانة، كَذَلِك هَذَا العَاصِي غلب
عَلَيْهِ البهيمية والحمق، وَفِي خُصُوص مُخَالفَة الْوُجُوه أَنهم أساءوا
الْأَدَب فِي إِسْلَام الْوَجْه لله، فجوزوا فِي الْعُضْو الَّذِي أساءوا
بِهِ، كَمَا فِي كي الْوُجُوه، أَو اخْتلفُوا صُورَة بالتقدم والتأخر،
فجوزوا بالاختلاف معنى والمناقشة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا جئْتُمْ إِلَى الصَّلَاة
وَنحن سُجُود فاسجدوا، وَلَا تعدوه شَيْئا، وَمن أدْرك الرَّكْعَة فقد
أدْرك الصَّلَاة " أَقُول: ذَلِك لِأَن الرُّكُوع أقرب شبها بِالْقيامِ،
فَمن أدْرك الرُّكُوع فَكَأَنَّهُ أدْركهُ، وَأَيْضًا فالسجدة أصل أصُول
الصَّلَاة وَالْقِيَام وَالرُّكُوع تمهيدا لَهُ وتوطئة.
(2/43)
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا صليتما فِي رحالكما، ثمَّ أتيتما مَسْجِد جمَاعَة فَصَليَا مَعَهم،
فَإِنَّهَا لَكمَا نَافِلَة " أَقُول: ذَلِك لِئَلَّا يعْتَذر وتارك
الصَّلَاة بِأَنَّهُ صلى فِي بَيته، فَيمْتَنع بالإنكار عَلَيْهِ،
وَلِئَلَّا تفترق كلمة الْمُسلمين وَلَو بادئ الرَّأْي.
(الْجُمُعَة)
الأَصْل فِيهَا أَنه لما كَانَت إِشَاعَة الصَّلَاة فِي الْبَلَد - بِأَن
يجْتَمع لَهَا أَهلهَا - متعذره كل يَوْم وَجب أَن يعين لَهَا حد لَا يسْرع
دورانه جدا، فيتعسر عَلَيْهِم، وَلَا ييطؤ جدا، فيفوتهم الْمَقْصُود
وَكَانَ الْأُسْبُوع مُسْتَعْملا فِي الْعَرَب والعجم. وَأكْثر الْملَل،
وَكَانَ صَالحا لهَذَا الْحَد، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل ميقاتها ذَلِك، ثمَّ
اخْتلف أهل الْملَل فِي الْيَوْم الَّذِي يُوَقت بِهِ، فَاخْتَارَ
الْيَهُود السبت، وَالنَّصَارَى الْأَحَد لمرجحات ظَهرت لَهُم، وَخص الله
تَعَالَى هَذِه الْأمة بِعلم عَظِيم نفثه أَولا فِي صُدُور أَصْحَابه
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَقَامُوا الْجُمُعَة فِي
الْمَدِينَة قبل مقدمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكشفه عَلَيْهِ
ثَانِيًا بِأَن أَتَاهُ جِبْرَائِيل بِمِرْآة فِيهَا نقطة سَوْدَاء،
فَعرفهُ مَا أُرِيد بِهَذَا الْمِثَال، فَعرف.
وَحَاصِل هَذَا الْعلم أَن أَحَق الْأَوْقَات بأَدَاء الطَّاعَات هُوَ
الْوَقْت الَّذِي يتَقرَّب فِيهِ الله إِلَى عباده، ويستجاب فِيهِ أدعيتهم،
لِأَنَّهُ أدنى أَن تقبل طاعتهم، وتؤثر فِي صميم النَّفس، وتنتفع نفع عدد
كَبِير من الطَّاعَات، وَأَن لله وقتا دائرا بدوران الْأُسْبُوع يتَقرَّب
فِيهِ إِلَى عباده، وَهُوَ الَّذِي يتجلى فِيهِ لعبادة فِي جنَّة
الْكَثِيب، وَأَن أقرب مَظَنَّة لهَذَا الْوَقْت هُوَ يَوْم الْجُمُعَة،
فَإِنَّهُ وَقع فِيهِ أُمُور عِظَام، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " خير يَوْم طلعت عَلَيْهِ الشَّمْس يَوْم الْجُمُعَة، فِيهِ
خلق آدم، وَفِيه أَدخل الْجنَّة، وَفِيه أخرج مِنْهَا، وَلَا تقوم
السَّاعَة إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة، والبهائم تكون فِيهِ مسيخة " يَعْنِي
فزعة مرعوبة كَالَّذي مَاله صَوت شَدِيد، وَذَلِكَ لما يترشح على نُفُوسهم
فِي الْمَلأ السافل، ويترشح عَلَيْهِم من الْمَلأ الْأَعْلَى حِين تفزع
أَولا لنزول الْقَضَاء، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كسلسلة على صَفْوَان حَتَّى إِذا فزع عَن قُلُوبهم "
الحَدِيث، وَقد حدث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ
النِّعْمَة كَمَا أمره
(2/44)
ربه فَقَالَ: " نَحن الْآخرُونَ
السَّابِقُونَ يَوْم الْقِيَامَة " يعْنى فِي دُخُول الْجنَّة أَو الْعرض
لِلْحسابِ " بيد أَنهم أُوتُوا الْكتاب من قبلنَا، وأوتيناه من بعدهمْ "
يَعْنِي غير هَذِه الْخصْلَة فَإِن الْيَهُود. وَالنَّصَارَى تقدمُوا
فِيهَا " ثمَّ هَذَا يومهم الَّذِي فرض عَلَيْهِم " يَعْنِي الْفَرد
الْمُنْتَشِر الصَّادِق بِالْجمعَةِ فِي حَقنا وبالسبت. والأحد فِي حَقهم "
فَاخْتَلَفُوا فِيهِ مهدانا الله لَهُ " أَي لهَذَا الْيَوْم كَمَا هُوَ
عِنْد الله، وَبِالْجُمْلَةِ فَتلك فَضِيلَة خص الله بهَا هَذِه الْأمة،
وَالْيَهُود. وَالنَّصَارَى لم يفتهم أصل مَا يَنْبَغِي من التشريع،
وَكَذَلِكَ الشَّرَائِع السماوية لَا تخطئ قوانين التشريع وَإِن امتاز
بَعْضهَا بفضلية زَائِدَة.
ونوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ السَّاعَة، وَعظم شَأْنهَا
فَقَالَ " لَا يُوَافِقهَا مُسلم يسْأَل الله فِيهَا خيرا إِلَّا أعطَاهُ
إِيَّاه ". ثمَّ اخْتلفت الرِّوَايَة فِي تَعْيِينهَا فَقيل: هِيَ مَا بَين
أَن يجلس الإِمَام إِلَى أَن تقضى الصَّلَاة لِأَنَّهَا سَاعَة تفتح فِيهَا
أَبْوَاب السَّمَاء، وَيكون الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا راغبين إِلَى الله، فقد
أجتمع فِيهَا بَرَكَات السَّمَاء وَالْأَرْض.
وَقيل بعد الْعَصْر ألى غيبوبة الشَّمْس لِأَنَّهَا وَقت نزُول الْقَضَاء،
وَفِي بعض الْكتب الإلهية إِن فِيهَا خلق آدم، وَعِنْدِي أَن الْكل بَيَان
أقرب مَظَنَّة، وَلَيْسَ بِتَعْيِين.
ثمَّ مست الْحَاجة إِلَى بَيَان وُجُوبهَا والتأكيد فِيهِ، فَقَالَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لينتهين أَقوام عَن ودعهم
الْجُمُعَات، أَو ليختمن الله على قُلُوبهم،
ثمَّ لَيَكُونن من الغافلين ". أَقُول هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن تَركهَا
يفتح بَاب التهاون، وَبِه يستحوذ الشَّيْطَان.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تجب الْجُمُعَة على كل مُسلم
إِلَّا امْرَأَة أَو صبي أَو مَمْلُوك " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " الْجُمُعَة على من سمع النداء " أَقُول: هَذَا رِعَايَة للعدل
بَين الإفراط والتفريط، وَتَخْفِيف لِذَوي الاعذار، وَالَّذين يشق
عَلَيْهِم الْوُصُول إِلَيْهَا، أَو يكون فِي حضورهم فتْنَة.
وَإِلَى اسْتِحْبَاب التَّنْظِيف وبالغسل والسواك والتطيب وَلبس الثِّيَاب
لِأَنَّهَا من مكملات الطَّهَارَة، فيتضاعف التَّنْبِيه لخلة النَّظَافَة،
وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَوْلَا أَن اشق على
أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ " وَلِأَنَّهُ لَا بُد لَهُم من يَوْم يغتسلون
فِيهِ، ويتطيبون لِأَن ذَلِك من محَاسِن ارتفاقات بني آدم، وَلما لم
يَتَيَسَّر كل يَوْم أَمر بذلك يَوْم الْجُمُعَة لِأَن التَّوْقِيت يحض
عَلَيْهِ، ويكمل الصَّلَاة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " حق على كل مُسلم أَن يغْتَسل فِي كل سَبْعَة أَيَّام يَوْمًا
يغسل فِيهِ
(2/45)
رَأسه وَجَسَده " وَلِأَنَّهُم كَانُوا
عملة أنفسهم، وَكَانَ لَهُم إِذا اجْتَمعُوا ريح كريح الضَّأْن، فَأمروا
فِي بِالْغسْلِ ليَكُون رَافعا لسَبَب التنفير، وأدعى للاجتماع، بَينه ابْن
عَبَّاس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَإِلَى الْأَمر بالإنصات والدنو من الإِمَام، وَترك اللَّغْو والتبكير
ليَكُون أدنى إِلَى اسْتِمَاع الموعظة والتدبر فِيهَا. وبالمشي وَترك
الرّكُوب لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّوَاضُع والتذلل لرَبه، وَلِأَن
الْجُمُعَة تجمع المملق والمثري، فَلَعَلَّ من لَا يجد المركوب يستحي،
فاستحب سد هَذَا الْبَاب.
وَإِلَى اسْتِحْبَاب الصَّلَاة قبل الْخطْبَة لما بَينا فِي سنَن
الرَّوَاتِب، فَإِذا جاءو الإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ، وليتجوز
فيهمَا رِعَايَة لسنة الرَّاتِبَة وأدب الْخطْبَة
جَمِيعًا بِقدر الْإِمْكَان، وَلَا تغتر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة بِمَا يلهج
بِهِ أهل بلدك فَإِن الحَدِيث صَحِيح وَاجِب اتِّبَاعه.
وَإِلَى النَّهْي عَن التخطي أَو التَّفْرِيق بَين اثْنَيْنِ وَإِقَامَة
أحد ليخالف إِلَى مَقْعَده لِأَنَّهَا مِمَّا يَفْعَله الْجُهَّال كثيرا،
وَيحصل بهَا فَسَاد ذَات الْبَين وَهِي بذر الحقد.
ثمَّ بَين رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوَاب من أدّى
الْجُمُعَة كَامِلَة موفرة بآدابها أَنه يغْفر لَهُ مَا بَينه وَبَين
الْجُمُعَة الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِقْدَار صَالح للحلول فِي لجة
النُّور ودعوة الْمُؤمنِينَ وبركات صحبتهم وبركة الموعظة وَالذكر وَغير
ذَلِك.
وَبَين دَرَجَات التَّكْبِير مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْأجر بِمَا ضرب
من مثل - الْبَدنَة. وَالْبَقَرَة. والكبش. والدجاجة - وَتلك السَّاعَات
أزمنة خَفِيفَة من وَقت وجوب الْجُمُعَة إِلَى قيام الْخطْبَة.
وَاعْلَم أَن كل صَلَاة تجمع الأقاصي والأدانى فَإِنَّهَا شفع وَاحِد
لِئَلَّا تثقل عَلَيْهِم وَأَن فيهم الضَّعِيف والسقيم وَذَا الْحَاجة.
ويجهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، وليكون أمكن لتدبرهم فِي الْقُرْآن وأنوه
بِكِتَاب الله، وَيكون فِيهَا خطْبَة، ليعلم الْجَاهِل، وَيذكر النَّاسِي،
وَسن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمُعَة خطبتين
يجلس بَينهمَا، ليتوفر الْمَقْصد مَعَ استراحة الْخَطِيب وتطرية نشاطه
ونشاطهم.
(2/46)
وَسنة الْخطْبَة أَن يحمد الله، وَيصلى على
نبيه، ويتشهد، وَيَأْتِي بِكَلِمَة الْفَصْل وَهِي - أما بعد - وَيذكر،
وَيَأْمُر بالتقوى، ويحذر عَذَاب الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة،
وَيقْرَأ شَيْئا من الْقُرْآن وَيَدْعُو للْمُسلمين
وَسبب ذَلِك أَنه ضم مَعَ التَّذْكِير التنويه بِذكر الله وَنبيه وبكتاب
الله لِأَن الْخطْبَة من شَعَائِر الدّين، فَلَا يَنْبَغِي أَن يخلوا
مِنْهَا كالأذان.
وَفِي الحَدِيث " كل خطْبَة لَيْسَ فِيهَا تشهد فَهِيَ كَالْيَدِ الجذماء "
وَقد تلقت الْأمة تلقيا معنويا من غير تلقي لفظ أَنه يشْتَرط فِي
الْجُمُعَة الْجَمَاعَة وَنَوع من التمدن، وَكَانَ النبى صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخلفاؤه رَضِي الله عَنْهُم. وَالْأَئِمَّة المجتهدون
رَحِمهم الله تَعَالَى يجمعُونَ فِي الْبلدَانِ، وَلَا يؤاخذون أهل البدو،
بل وَلَا يُقَام فِي عَهدهم فِي البدو، ففهموا من ذَلِك قرنا بعد قرن وعصرا
بعد عصر أَنه يشْتَرط لَهَا الْجَمَاعَة والتمدن أَقُول وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
لما كَانَ حَقِيقَة الْجُمُعَة إِشَاعَة الدّين فِي الْبَلَد وَجب أَن ينظر
إِلَى تَمُدَّن وَجَمَاعَة، وَالأَصَح عِنْدِي أَنه يَكْفِي اقل مَا يُقَال
فِيهِ قَرْيَة، لما رُوِيَ من طرق شَتَّى يُقَوي بَعْضهَا بَعْضًا "
خَمْسَة لَا جُمُعَة عَلَيْهِم " وعد مِنْهُم أهل الْبَادِيَة قَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجُمُعَة على الْخمسين رجلا " أَقُول
الْخَمْسُونَ يتقرى بهم قَرْيَة، وَقَالَ الْجُمُعَة وَاجِبَة على كل
قَرْيَة " وَأَقل مَا يُقَال فِيهِ: جمَاعَة لحَدِيث الانفضاض، وَالظَّاهِر
أَنهم لم يرجِعوا وَالله أعلم، فَإِذا حصل ذَلِك وَجَبت الْجُمُعَة وَمن
تخلف عَنْهَا فَهُوَ الآثم، وَلَا يشْتَرط أَرْبَعُونَ، وَأَن الْأُمَرَاء
أَحَق بِإِقَامَة الصَّلَاة وَهُوَ قَول عَليّ كرم الله وَجهه: أَربع إِلَى
الإِمَام الخ، وَلَيْسَ وجود الإِمَام شرطا، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
(العيدان)
الأَصْل فيهمَا أَن كل قوم لَهُم يَوْم يتجملون فِيهِ، وَيخرجُونَ من
بِلَادهمْ بزينتهم، وَتلك عَادَة لَا يَنْفَكّ عَنْهَا أحد من طوائف
الْعَرَب. والعجم، وَقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة،
وَلَهُم يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فيهمَا، فَقَالَ: " مَا هَذَانِ اليومان؟
قَالُوا: كُنَّا نلعب فِيهَا فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ: قد أبدلكم
(2/47)
الله بهما خيرا مِنْهُمَا يَوْم الْأَضْحَى
وَيَوْم الْفطر " قيل: هما النيروز. والمهرجان، وَإِنَّمَا بَدَلا
لِأَنَّهُ مَا من عيد فِي النَّاس إِلَّا وَسبب وجوده تنويه بشعائر دين،
أَو مُوَافقَة أَئِمَّة مَذْهَب، أَو شَيْء مِمَّا يضاهي ذَلِك، فخشي
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِن تَركهم وعادتهم أَن يكون
هُنَالك تنويه بشعائر الْجَاهِلِيَّة، أَو ترويج لسنة أسلافها، فأبدلهما
بيومين فيهمَا تنويه بشعائر الْملَّة الحنيفية وَضم مَعَ التجميل فيهمَا
ذكر الله وأبوابا من الطَّاعَة، لِئَلَّا يكون اجْتِمَاع الْمُسلمين بمحض
اللّعب، وَلِئَلَّا يخلوا اجْتِمَاع مِنْهُم من إعلاء كلمة الله.
أَحدهمَا يَوْم فطر صِيَامهمْ وَأَدَاء نوع من زكاتهم، فَاجْتمع الْفَرح
الطبيعي من قبل تفرغهم عَمَّا يشق عَلَيْهِم وَأخذ الْفَقِير الصَّدقَات،
والعقلي من قبل الابتهاج مِمَّا أنعم الله عَلَيْهِم من توفيق أَدَاء مَا
افْترض عَلَيْهِم، وأسبل عَلَيْهِم من إبْقَاء رُءُوس الْأَهْل وَالْولد
إِلَى سنة أُخْرَى.
وَالثَّانِي يَوْم ذبح إِبْرَاهِيم وَلَده إِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا
السَّلَام وإنعام الله عَلَيْهِمَا بِأَن فدَاه بِذبح عَظِيم، إِذْ فِيهِ
تذكر حَال أَئِمَّة الْملَّة الحنيفية وَالِاعْتِبَار بهم فِي بذل المهج
وَالْأَمْوَال فِي طَاعَة الله وَقُوَّة الصَّبْر، وَفِيه تشبه بالحاج
وتنويه بهم وشوق لما هم فِيهِ، وَلذَلِك سنّ التَّكْبِير وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى:
{ولتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ} .
يَعْنِي شكرا لما وفقكم للصيام، وَلذَلِك سنّ الْأُضْحِية والجهر فِي
بِالتَّكْبِيرِ أَيَّام منى، وَاسْتحبَّ ترك الْحلق لمن قصد التَّضْحِيَة،
وَسن الصَّلَاة وَالْخطْبَة لِئَلَّا يكون شَيْء من اجْتِمَاعهم بِغَيْر
ذكر الله وتنويه شَعَائِر الدّين.
وَضم مَعَه مقصوا آخر من مَقَاصِد الشَّرِيعَة، وَهُوَ أَن كل مِلَّة لَا
بُد لَهَا من عرضة يجْتَمع فِيهَا أَهلهَا؛ لتظهر شوكتهم، وَتعلم كثرتهم،
وَلذَلِك اسْتحبَّ خُرُوج الْجَمِيع حَتَّى الصّبيان وَالنِّسَاء وَذَوَات
الْخُدُور وَالْحيض ويعتزلن الْمصلى، ويشهدن دَعْوَة الْمُسلمين - وَلذَلِك
كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَالف فِي الطَّرِيق
ذَهَابًا وإيابا؛ ليطلع أهل كلتا الطَّرِيقَيْنِ على شَوْكَة الْمُسلمين.
وَلما كَانَ أصل الْعِيد الزِّينَة اسْتحبَّ حسن اللبَاس والتقليس
وَمُخَالفَة الطَّرِيق وَالْخُرُوج إِلَى الْمصلى.
وَسنة صَلَاة الْعِيدَيْنِ أَن يبْدَأ بِالصَّلَاةِ من غير أَذَان وَلَا
إِقَامَة يجْهر فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ يقْرَأ عِنْد إِرَادَة التَّخْفِيف -
(2/48)
بسبح اسْم رَبك الْأَعْلَى، وَهل أَتَاك
وَعند الْإِتْمَام (ق، واقتربت السَّاعَة) يكبر فِي الأولى سبعا قبل
الْقِرَاءَة، وَالثَّانيَِة خمْسا قبل الْقِرَاءَة، وَعمل الْكُوفِيّين أَن
يكبر اربعا كتكبير الْجَنَائِز فِي الأولى قبل الْقِرَاءَة وَفِي
الثَّانِيَة بعْدهَا، وهما سنتَانِ، وَعمل الْحَرَمَيْنِ أرجح.
ثمَّ يخْطب يَأْمر بتقوى الله، ويعظ، وَيذكر.
وَفِي الْفطر خَاصَّة أَلا يَغْدُو حَتَّى يَأْكُل تمرات، ويأكلهن وترا،
وَحَتَّى يُؤَدِّي زَكَاة الْفطر إغناء للْفُقَرَاء فِي مثل هَذَا
الْيَوْم؛ ليشهدوا الصَّلَاة فارغي الْقلب، وليتحقق مُخَالفَة عَادَة
الصَّوْم عِنْد إِرَادَة التنويه بِانْقِضَاء شهر الصّيام
وَفِي الْأَضْحَى خَاصَّة أَلا يَأْكُل حَتَّى يرجع، فيأكل من أضحيته
اعتناء بالأضحية ورغبة فِيهَا وتبركا بهَا، وَلَا يُضحي إِلَّا بعد
الصَّلَاة؛ لِأَن الذّبْح لَا يكون قربَة إِلَّا بتشبه الْحَاج، وَذَلِكَ
بالاجتماع للصَّلَاة.
وَالْأُضْحِيَّة مُسِنَّة من معز، أَو جذع من ضَأْن فِي كل أهل بَيت
وقاسوها على الْهدى، فأقاموا الْبَقر عَن سَبْعَة، وَالْجَزُور عَن سَبْعَة
مقَامهَا.
وَلما كَانَت الْأُضْحِية من بَاب بذل المَال لله تَعَالَى، وَهُوَ قَوْله
تَعَالَى:
{لن ينَال الله لحومها وَلَا دماؤها وَلَكِن يَنَالهُ التَّقْوَى مِنْكُم}
.
كَانَ تَسْمِيَتهَا وَاخْتِيَار الْجيد مِنْهَا مُسْتَحبا لدلالته على
صِحَة رغبته فِي الله، فَلذَلِك يَتَّقِي من الضَّحَايَا أَرْبعا: العرجاء
الْبَين ظلعها. والعوراء الْبَين عورها. والمريضة الْبَين مَرضهَا.
والعجفاء الَّتِي لَا تنقى، وَيُنْهِي عَن أعضب الْقرن وَالْأُذن، وَسن
استشراف الْعين وَالْأُذن، وَألا يُضحي بِمُقَابلَة. وَلَا مدابرة. وَلَا
شرقاء وَلَا خرقاء، وَسن الْفَحْل الأقرن الَّذِي ينظر فِي سَواد، ويبرك
فِي سَواد؛ ويطأ فِي سَواد لِأَن ذَلِك تَمام شباب الْعِزّ، وَمن أذكار
التَّضْحِيَة.
{إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض} .
الخ اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك وَلَك من الله، وَالله أكبر.
(2/49)
|