حجة الله
البالغة (أَحْكَام الصَّوْم)
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تَصُومُوا حَتَّى
تروا الْهلَال وَلَا تفطروا حَتَّى تروه فَإِن غم عَلَيْكُم، فاقدروا لَهُ
- وَفِي رِوَايَة - فأكملوا الْعدة ثَلَاثِينَ " أَقُول: لما كَانَ وَقت
الصَّوْم مضبوطا بالشهر الْقمرِي بِاعْتِبَار رُؤْيَة الْهلَال، وَهُوَ
تَارَة ثَلَاثُونَ يَوْمًا، وَتارَة تسع وَعِشْرُونَ، وَجب فِي صُورَة
الِاشْتِبَاه أَن يرجع إِلَى هَذَا الأَصْل وَأَيْضًا مبْنى الشَّرَائِع
على الْأُمُور الظَّاهِرَة عِنْد اميين دون التعمق والمحاسبات النجومية، بل
الشَّرِيعَة وَارِدَة بإخمال ذكرهَا، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب " وَقَوله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " شهرا عيد لَا ينقصان رَمَضَان وَذُو الْحجَّة "
قيل لَا ينقصان مَعًا، وَقيل: لَا يتَفَاوَت اجْرِ ثَلَاثِينَ وَتِسْعَة
وَعشْرين، وَهَذَا الْأَخير أقعد بقواعد التشريع كَأَنَّهُ أَرَادَ سد أَن
يخْطر فِي قلب أحد ذَلِك.
وَاعْلَم أَن من الْمَقَاصِد المهمة فِي بَاب الصَّوْم سد ذرائع التعمق،
ورد مَا أحدثه فِيهِ المتعمقون، فَإِن هَذِه الطَّاعَة كَانَت شائعة فِي
الْيَهُود. وَالنَّصَارَى ومتحنثي الْعَرَب، وَلما رَأَوْا أَن أصل
الصَّوْم هُوَ قهر النَّفس تعمقوا، وابتدعوا أَشْيَاء فِيهَا زِيَادَة
الْقَهْر، وَفِي ذَلِك تَحْرِيف دين الله، وَهُوَ إِمَّا بِزِيَادَة الْكمّ
أَو الكيف.
(2/79)
فَمن الْكمّ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " لَا يتقدمن أحدكُم رَمَضَان بِصَوْم يَوْم أَو يَوْمَيْنِ
إِلَّا أَن يكون رجلا كَانَ يَصُوم يَوْمًا فليصم ذَلِك الْيَوْم "
وَنَهْيه عَن صَوْم يَوْم الْفطر. وَيَوْم الشَّك، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بَين هَذِه وَبَين رَمَضَان فصل، فَلَعَلَّهُ إِن أَخذ ذَلِك
المتعمقون سنة فيدركه مِنْهُم الطَّبَقَة الْأُخْرَى وهلم جرا يكون تحريفا،
وأصل التعمق أَن يُؤْخَذ مَوضِع الِاحْتِيَاط لَازِما، وَمِنْه يَوْم
الشَّك.
وَمن الكيف النَّهْي عَن الْوِصَال وَالتَّرْغِيب فِي السّحُور، وَالْأَمر
بِتَأْخِيرِهِ وَتَقْدِيم الْفطر، فَكل ذَلِك تشدد وتعمق من صنع
الْجَاهِلِيَّة، وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " إِذا انتصف شعْبَان فَلَا تصوموه " وَحَدِيث أم سَلمَة رَضِي
الله عَنْهَا " مَا رَأَيْت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين إِلَّا شعْبَان ورمضان " لِأَن النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يفعل فِي نَفسه مَا لَا يَأْمر بِهِ
الْقَوْم، وَأكْثر ذَلِك مَا هُوَ من بَاب سد الذرائع وَضرب مظنات كُلية،
فَإِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُون من أَن يسْتَعْمل
الشَّيْء فِي غير مَحَله، أَو يُجَاوز الْحَد الَّذِي أَمر بِهِ إِلَى
إضعاف المزاج وملال الخاطر، وَغَيره لَيْسَ بمأمون، فيحتاجون إِلَى ضرب
تشريع وسد تعمق، وَلذَلِك كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهاهم
أَن يجاوزا أَربع نسْوَة، وَكَانَ أحل لَهُ تسع فَمَا فَوْقهَا لِأَن عِلّة
الْمَنْع أَلا يُفْضِي إِلَى جور.
ثمَّ الْهلَال يثبت بشهاده مُسلم عدل أَو مَسْتُور أَنه رَآهُ، وَقد سنّ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كلتا الصُّورَتَيْنِ، "
جَاءَ أَعْرَابِي فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت الْهلَال، قَالَ: أَتَشهد؟ "
الحَدِيث وَأخْبر ابْن عمر أَنه رَآهُ فصَام، وَكَذَلِكَ الحكم فِي كل مَا
كَانَ من أُمُور الْملَّة فَإِنَّهُ يشبه الرِّوَايَة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تسحرُوا فَإِن فِي السّحُور
بركَة " أَقُول: فِيهِ بركتان: إِحْدَاهمَا رَاجِعَة إِلَى إصْلَاح الْبدن
أَلا ينفعهولا يضعف إِذْ الْإِمْسَاك يَوْمًا كَامِلا نِصَاب، فَلَا
يُضَاعف.
وَالثَّانيَِة رَاجِعَة إِلَى تَدْبِير الْملَّة أَلا يتعمق فِيهَا، وَلَا
يدخلهَا تَحْرِيف أَو تَغْيِير.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يزَال النَّاس بِخَير مَا
عجلوا الْفطر " وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " فصل مَا بَين وَمَا بَين صيامنا وَصِيَام أهل الْكتاب أَكلَة
السحر " وَقَالَ الله تَعَالَى: " أحب عبَادي إِلَيّ أعجلهم فطرا "
(2/80)
أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن هَذِه
مَسْأَلَة دخل فِيهَا التحريف من أهل الْكتاب، فبمخالفتهم، ورد تحريفهم
قيام الْملَّة.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْوِصَال " فَقيل: إِنَّك
تواصل، قَالَ: وَأَيكُمْ مثلي؟ ! إِنِّي أَبيت يطعمني رَبِّي ويسقيني "
أَقُول: النَّهْي عَن الْوِصَال إِنَّمَا هُوَ لأمرين: أَحدهمَا أَلا يصل
إِلَى حد الإجحاف كَمَا بَينا، وَالثَّانِي أَلا تحرف الْملَّة، وَقد
أَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنه لَا
يَأْتِيهِ الإجحاف لِأَنَّهُ مؤيد بِقُوَّة ملكية نورية وَهُوَ مَأْمُون.
وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لم يجمع
الصَّوْم قبل الْفجْر فَلَا صِيَام لَهُ " وَبَين قَوْله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام حِين لم يجد طَعَاما " إِنِّي إِذا صَائِم " لِأَن
الأول فِي الْفَرْض. وَالثَّانِي فِي النَّفْل. وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ نفي
الْكَمَال.
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذا سمع النداء أحدكُم " ألخ
أَقُول: المُرَاد بالنداء هُوَ نِدَاء خَاص أَعنِي نِدَاء بِلَال، وَهَذَا
الحَدِيث مُخْتَصر حَدِيث " إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل ".
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِذا أفطر أحدكُم فليفطر على
تَمْرَة فَإِنَّهُ بركَة فَإِن لم يجد فليفطر على مَاء فَإِنَّهُ طهُور ".
أَقُول: الحلو يقبل عَلَيْهِ الطَّبْع لَا سِيمَا بعد الْجُوع، وَيُحِبهُ
الكبد، وَالْعرب يمِيل طبعهم إِلَى التَّمْر، وللميل فِي مثله أثر، فَلَا
جرم أَنه يصرفهُ فِي الْمحل الْمُنَاسب من الْبدن وَهَذَا نوع من الْبركَة.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من فطر صَائِما أَو جهز غازيا
فَلهُ مثل أجره " أَقُول: من فطر صَائِما لِأَنَّهُ صَائِم يسْتَحق
التَّعْظِيم، فَإِن ذَلِك صَدَقَة وتعظيم للصَّوْم وصلَة بِأَهْل
الطَّاعَات، فَإِذا تمثلت صورته فِي الصُّحُف كَانَ متضمنا لِمَعْنى
الصَّوْم من وُجُوه، فجوزي بذلك.
وَمن أذكار الْإِفْطَار: ذهب الظمأ، وابتلت الْعُرُوق، وَثَبت الْأجر إِن
شَاءَ الله، وَفِيه بَيَان الشُّكْر على الْحَالَات الَّتِي يستطيبها
الْإِنْسَان بطبيعته أَو عقله مَعًا، وَمِنْهَا اللَّهُمَّ لَك صمت، وعَلى
رزقك أفطرت، وَفِيه تَأْكِيد الْإِخْلَاص فِي الْعَمَل وَالشُّكْر على
النِّعْمَة.
(2/81)
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
لَا يَصُوم أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة إِلَّا أَن يَصُوم قبله أَو يَصُوم
بعده "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا تختصوا لَيْلَة
الْجُمُعَة " الحَدِيث أَقُول. السِّرّ فِيهِ شَيْئَانِ: أَحدهمَا سد
التعمق لِأَن الشَّارِع لما خصّه بطاعات وَبَين فَضله كَانَ مَظَنَّة أَن
يتعمق المتعمقون، فيلحقون بهَا صَوْم ذَلِك الْيَوْم.
وَثَانِيهمَا تَحْقِيق معنى الْعِيد، فَإِن الْعِيد يشْعر بالفرح
وَاسْتِيفَاء اللَّذَّة، وَفِي جعله عيدا أَن يتَصَوَّر عِنْدهم أَنَّهَا
من الاجتماعات الَّتِي يرغبون فِيهَا من طبائعهم من غير قصر.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا صَوْم فِي يَوْمَيْنِ
الْفطر. والأضحى "، وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيَّام
التَّشْرِيق أَيَّام أكل وَشرب وَذكر الله "
أَقُول: فِيهِ تَحْقِيق معنى الْعِيد وكبح عنانهم عَن التنسك الْيَابِس
والتعمق فِي الدّين.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا يحل لمرأة أَن تَصُوم
وَزوجهَا شَاهد إِلَّا بِإِذْنِهِ " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن صَومهَا مفوت
لبَعض حَقه ومنغص عَلَيْهِ بشاشتها وفكاهتها.
وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الصَّائِم
المتطوع أَمِير نَفسه إِن شَاءَ صَامَ وَإِن شَاءَ أفطر "، وَقَوله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَائِشَة. وَحَفْصَة رَضِي الله عَنْهُمَا: "
اقضيا يَوْمًا آخر مَكَانَهُ " إِذْ يُمكن أَن يكون الْمَعْنى إِن شَاءَ
أفطر مَعَ الْتِزَام الْقَضَاء، وَأَمرهمَا بِالْقضَاءِ للاستحباب، فَإِن
الْوَفَاء بِمَا الْتَزمهُ أثلج للصدر، أَو كَانَ أمرا لَهما خَاصَّة حِين
رأى فِي صدرهما حرجا من ذَلِك كَقَوْل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: رجعُوا
بِحجَّة وَعمرَة وَرجعت بِحَجّ فأعمرها من التَّنْعِيم.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من نسي وَهُوَ صَائِم، فَأكل
وَشرب فليتم صَوْمه فَإِنَّمَا أطْعمهُ الله وسقاه " أَقُول إِنَّمَا عذر
بِالنِّسْيَانِ فِي الصَّوْم دون غَيره لِأَن الصَّوْم لَيْسَ لَهُ هَيْئَة
مذكرة بِخِلَاف الصَّلَاة وَالْإِحْرَام فَإِن لَهما هيآت عَن اسْتِقْبَال
الْقبْلَة والتجرد من الْمخيط، فَكَانَ أَحَق أَن يعْذر فِيهِ.
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن وَقع على امْرَأَته فِي نَهَار
رَمَضَان " أعتق رَقَبَة " الحَدِيث أَقُول لما هجم على هتك حُرْمَة
شَعَائِر الله وَكَانَ مبدؤه إفراطا طبيعيا وَجب أَن
(2/82)
يُقَابل بِإِيجَاب طَاعَة شاقة غَايَة
الْمَشَقَّة ليَكُون بَين يَدَيْهِ مثل تِلْكَ فيزجره عَن غلواء نَفسه،
وَلَا اخْتِلَاف بَين حَدِيث تسوكه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَبَين قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " لخلوف
فَم الصَّائِم أطيب " الحَدِيث، فَإِن مثل هَذَا الْكَلَام إِنَّمَا يرا
بِهِ الْمُبَالغَة كَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّه مَحْبُوب بِحَيْثُ لَو كَانَ
لَهُ خلوف لَكَانَ محبوبا لحبه.
وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَيْسَ من
الْبر الصّيام فِي السّفر ذهب المفطرون بِالْأَجْرِ "، وَقَوله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من كَانَت لَهُ حمولة تأوى إِلَى شبع فليصم
رَمَضَان حَيْثُمَا أدْركهُ " لِأَن الأول فِيمَا إِذا كَانَ شاقا عَلَيْهِ
مغضيا إِلَى الضعْف والغشى، كَمَا هُوَ مقتضي قَول الرَّاوِي: قد ضلل
عَلَيْهِ أَو كَانَ بِالْمُسْلِمين حَاجَة لَا تنجبر إِلَّا بالإفطار
وَهُوَ قَول الرَّاوِي: فَسقط الصوامون وَقَامَ المفطرون، أَو كَانَ يرى
فِي نَفسه كَرَاهِيَة التَّرَخُّص فِي مظانه وأمثال ذَلِك من الْأَسْبَاب،
وَالثَّانِي فِيمَا إِذا كَانَ السّفر خَالِيا عَن الْمَشَقَّة الَّتِي
يعْتد بهَا، والأسباب الَّتِي ذَكرنَاهَا.
وَلَا اخْتِلَاف بَين قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من مَاتَ
وَعَلِيهِ صَوْم صَامَ عَنهُ وليه "، وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام فِيهِ أَيْضا " فليطعم عَنهُ مَكَان كل يَوْم مِسْكينا إِذا
يجوز أَن يكون كل من الْأَمريْنِ مجزئا، والسر فِي ذَلِك شيآن: أَحدهمَا
رَاجع إِلَى الْمَيِّت فَإِن كثيرا من النُّفُوس الْمُفَارقَة أجسادها
تدْرك أَن وَظِيفَة من الْوَظَائِف الَّتِي يجب عَلَيْهَا، وتؤاخذ
بِتَرْكِهَا
فَأَتَت مِنْهَا، فتتألم، وَيفتح ذَلِك بَابا من الوحشة، فَكَانَ الحدب على
مثله أَن يقوم أقرب النَّاس مِنْهُ وَأَوْلَادهمْ بِهِ، فَيعْمل عمله على
قصد أَن يَقع عَنهُ فَإِن همته تِلْكَ تفِيد كَمَا فِي القرابين، أَو يفعل
فعلا آخر مثله، وَكَذَلِكَ حَال من مَاتَ وَقد أجمع على صَدَقَة تصدق عَنهُ
وليه، وَقد ذكرنَا فِي الصَّلَاة على الْمَيِّت مَا إِذا عطف على صَدَقَة
الْأَحْيَاء للأموات انعطف، وَالثَّانِي رَاجع إِلَى الْملَّة، وَهُوَ
التَّأْكِيد الْبَالِغ، ليعلموا أَن الصَّوْم لَا يسْقط بِحَال حَتَّى
الْمَوْت.
(2/83)
(أُمُور تتَعَلَّق بِالصَّوْمِ)
اعْلَم أَن كَمَال الصَّوْم إِنَّمَا هُوَ تنزيهه عَن الْأَفْعَال والأقوال
الشهوية والسبعية والشيطانية، فَإِنَّهَا تذكر النَّفس فِي الْأَخْلَاق
الخسيسة، وتهيجها لهيآت فَاسِدَة، والاحتراز عَمَّا يُفْضِي إِلَى الْفطر،
ويدعوا إِلَيْهِ، فَمن الأول قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
فَلَا يرْفث وَلَا يصخب فَإِن سابه أحد أَو قَاتله فَلْيقل إِنِّي صَائِم "
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من لم يدع قَول الزُّور
وَالْعَمَل بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَة فِي أَن يدع طَعَامه وَشَرَابه "
وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ نفي الْكَمَال، وَمن الثَّانِي: " أفطر الحاجم
والمحجوم " فَإِن المحجوم تعرض للأفطار من الضعْف، والحاجم لِأَنَّهُ لَا
يَأْمَن من أَن يصل شَيْء إِلَى جَوْفه بمص الملازم، والتقبيل والمباشرة،
وَكَانَ النَّاس قد أفرطوا، وتعمقوا، وكادوا أَن يَجْعَلُوهُ من مرتبَة
الرُّكْن، فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولا وفعلا أَنه
لَيْسَ مُفطرا وَلَا منقصا للصَّوْم. وأشعر بِأَنَّهُ ترك الأولى فِي حق
غَيره بِلَفْظ الرُّخْصَة، وَأما هُوَ كَانَ مَأْمُورا بِبَيَان
الشَّرِيعَة، فَكَانَ هُوَ الأولى فِي حَقه، وَكَذَا سَائِر مَا تنزل فِيهِ
عَن دَرَجَة الْمُحْسِنِينَ إِلَى دَرَجَة عَامَّة الْمُؤمنِينَ، وَالله
أعلم.
وَاخْتلفت سنَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِي الصَّوْم، فَكَانَ
نوح عَلَيْهِ السَّلَام يَصُوم الدَّهْر، وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمًا، وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ
السَّلَام يَصُوم يَوْمًا، وَيفْطر يَوْمَيْنِ أَو أَيَّامًا، وَكَانَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَاصَّة نَفسه يَصُوم حَتَّى
يُقَال لَا يفْطر، وَيفْطر حَتَّى يُقَال لَا يَصُوم، وَلم يكن يستكمل
صِيَام شهر إِلَّا رَمَضَان، وَذَلِكَ أَن الصّيام ترياق، والترياق لَا
يسْتَعْمل إِلَّا بِقدر الْمَرَض.
وَكَانَ قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام شديدي الأمزجة حَتَّى روى عَنْهُم مَا
روى، وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ذَا قُوَّة ورزانة، وَهُوَ قَوْله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَكَانَ لَا يفر إِذا لَاقَى " وَكَانَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام ضَعِيفا
فِي بدنه فَارغًا لَا أهلك لَهُ وَلَا مَال، فَاخْتَارَ كل وَاحِد مَا
يُنَاسب الْأَحْوَال، وَكَانَ نَبينَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَارِفًا بفوائد الصَّوْم والإفطار مطلعا على مزاجه وَمَا يُنَاسِبه،
فَاخْتَارَ بِحَسب مصلحَة الْوَقْت مَا شَاءَ، وَاخْتَارَ لأمته صياما.
مِنْهَا يَوْم عَاشُورَاء وسر مشروعيته أَنه وَقت نصر الله تَعَالَى مُوسَى
عَلَيْهِ السَّلَام على فِرْعَوْن وَقَومه، وشكر مُوسَى بِصَوْم ذَلِك
الْيَوْم، وَصَارَ سنة بَين أهل الْكتاب وَالْعرب، فأقره رَسُول الله
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِنْهَا صَوْم عَرَفَة، السِّرّ فِيهِ أَنه تشبه بالحاج وَتَشَوُّقِ
إِلَيْهِم وَتعرض للرحمة الَّتِي تنزل عَلَيْهِم، وسر فَضله على صَوْم
يَوْم عَاشُورَاء أَنه خوض فِي لجة الرَّحْمَة النَّازِلَة ذَلِك الْيَوْم،
وَالثَّانِي تعرض للرحمة الَّتِي مَضَت، وَانْقَضَت، فَعمد النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثَمَرَة الْخَوْض فِي لجة
(2/84)
الرَّحْمَة وَهِي كَفَّارَة الذُّنُوب
السَّابِقَة والنبو عَن الذُّنُوب اللاحقة بألا يقبلهَا صميم قلبه،
فَجَعلهَا لصوم عَرَفَة، وَلم يصمه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حجَّته لما ذكرنَا فِي التَّضْحِيَة وَصَلَاة الْعِيد من أَن
مبناها كلهَا على التَّشَبُّه بالحاج وَإِنَّمَا المتشبهون غَيرهم.
وَمِنْهَا سِتَّة الشوال، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من
صَامَ رَمَضَان فَأتبعهُ سِتا من شَوَّال كَانَ كصيام الدَّهْر كُله "،
والسر فِي مشروعيتها أَنَّهَا بِمَنْزِلَة السّنَن الرَّوَاتِب فِي
الصَّلَاة تكمل فائدتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى أمزجة لم تتام فائدتها بهم،
وَإِنَّمَا خص فِي بَيَان فَضِيلَة التَّشَبُّه بِصَوْم الدَّهْر لِأَن من
الْقَوَاعِد المقررة أَن الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا، وبهذه السِّتَّة
يتم الْحساب.
وَمِنْهَا ثَلَاث من كل شهر لِأَنَّهَا بِحِسَاب كل حَسَنَة بِعشْرَة
أَمْثَالهَا تضاهي
صِيَام الدَّهْر، وَلِأَن الثَّلَاثَة اقل حد الْكَثْرَة، وَقد اخْتلفت
الرِّوَايَة فِي اخْتِيَار تِلْكَ الْأَيَّام، فورد " يَا أَبَا ذَر إِذا
صمت من الشَّهْر الثَّلَاثَة فَصم ثَلَاث عشرَة وَأَرْبع عشرَة وَخمْس
عشرَة " وَورد كَانَ يَصُوم من الشَّهْر السبت والأحد والاثنين، وَمن
الشَّهْر الآخر الثُّلَاثَاء والآربعاء وَالْخَمِيس، وَورد من غرَّة كل شهر
ثَلَاثَة أَيَّام، وَورد أَنه أَمر أم سَلمَة بِثَلَاثَة أَولهَا
الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيس، وَلكُل وَجه، وَاعْلَم أَن لَيْلَة الْقدر
ليلتان: إِحْدَاهمَا لَيْلَة
{فِيهَا يفرق كل أَمر حَكِيم} .
وفيهَا نزل الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة ثمَّ نزل بعد ذَلِك نجما نجما، وَهِي
لَيْلَة فِي السّنة، وَلَا يجب أَن تكون فِي رَمَضَان، نعم رَمَضَان
مَظَنَّة غالبة لَهَا، وَاتفقَ أَنَّهَا كَانَت فِي رَمَضَان عِنْد نزُول
الْقُرْآن، وَالثَّانيَِة يكون فِيهَا نوع من انتشار الروحانية ومجيء
الْمَلَائِكَة إِلَى الأَرْض، فيتفق الْمُسلمُونَ فِيهَا على الطَّاعَات،
فتتعاكس أنوارهم فِيمَا بَينهم، ويتقرب مِنْهُم الْمَلَائِكَة، ويتباعد
مِنْهُم الشَّيَاطِين ويستجاب مِنْهُم أدعيتهم وطاعاتهم، وَهِي لَيْلَة فِي
كل رَمَضَان فِي أوتار الْعشْر الْأَوَاخِر تتقدم، وتتأخر فِيهَا، وَلَا
تخرج مِنْهَا، فَمن قصد الأولى قَالَ: هِيَ فِي كل السّنة، وَمن قصد
الثَّانِيَة قَالَ: هِيَ فِي الْعشْر الْأَوَاخِر من رَمَضَان، وَقَالَ
رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أرى رؤياكم قد تواطأت فِي
السَّبع الْأَوَاخِر فَمن كَانَ متحريها فليتحرها فِي السَّبع الْأَوَاخِر،
وَقَالَ: أَرَأَيْت هَذِه اللَّيْلَة ثمَّ أنسيتها وَقد رَأَيْتنِي أَسجد
فِي مَاء وطين " فَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة إِحْدَى وَعشْرين "،
وَاخْتِلَاف
الصَّحَابَة فِيهَا مَبْنِيّ
(2/85)
على اخْتلَافهمْ فِي وجدانها، وَمن أدعية
من وجدهَا. اللَّهُمَّ أَنَّك عَفْو تحب الْعَفو فَاعْفُ عني.
وَلما كَانَ الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد سَببا لجمع الخاطر وصفاء الْقلب
والتفرغ للطاعة والتشبه بِالْمَلَائِكَةِ والتعرض لوجدان لَيْلَة الْقدر
اخْتَارَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعشْر
الْأَوَاخِر وسنه للمحسنين من أمته، قَالَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا:
السّنة على الْمُعْتَكف أَلا يعود مَرِيضا، وَلَا يشْهد جَنَازَة وَلَا يمس
الْمَرْأَة، وَلَا يُبَاشِرهَا، وَلَا يخرج إِلَّا لحَاجَة إِلَّا مَا لَا
بُد مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا بِصَوْم وَلَا اعْتِكَاف إِلَّا فِي
مَسْجِد جَامع أَقُول وَذَلِكَ تَحْقِيقا لِمَعْنى الِاعْتِكَاف، وليكون
الطَّاعَة لَهَا بَال ومشقة على النَّفس وَمُخَالفَة للْعَادَة، وَالله
أعلم.
(2/86)
|