حجة الله
البالغة (من أَبْوَاب الْحَج)
الْمصَالح المرعية فِي الْحَج أُمُور: مِنْهَا تَعْظِيم الْبَيْت،
فَإِنَّهُ من شَعَائِر الله، وتعظيمه هُوَ تَعْظِيم الله تَعَالَى.
وَمِنْهَا تَحْقِيق معنى العرضة، فَإِن لكل دولة أَو مِلَّة اجتماعا
يتوارده الأقاصي والأدانى ليعرف فِيهِ بَعضهم بَعْضًا، ويستفيدوا أَحْكَام
الْملَّة، ويعظموا شعائرها، وَالْحج عرضة الْمُسلمين وَظُهُور شوكتهم
واجتماع جنودهم وتنويه ملتهم، وَهُوَ قَول الله تَعَالَى:
{وَإِذا جعلنَا الْبَيْت مثابة للنَّاس وَأمنا} .
وَمِنْهَا مُوَافقَة مَا توارث النَّاس عَن سيدنَا إِبْرَاهِيم وإسمعيل
عَلَيْهِمَا السَّلَام، فَإِنَّهُمَا إِمَامًا الْملَّة الحنيفة ومشرعاها
للْعَرَب، وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث لتظهر بِهِ
الْملَّة الحنيفية وَتَعْلُو بهَا كلمتها، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم} .
فَمن الْوَاجِب الْمُحَافظَة على مَا استفاض عَن إماميها كخصال الْفطْرَة
ومناسك الْحَج؛ وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " قفوا على
مشاعركم فَإِنَّكُم على إِرْث من إِرْث أبيكم إِبْرَاهِيم ".
وَمِنْهَا الِاصْطِلَاح على حَال يتَحَقَّق بهَا الرِّفْق لعامتهم وخاصتهم
كنزول منى. وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة، فَإِنَّهُ لَو لم يصطلح على مثل
هَذَا لشق عَلَيْهِم، وَلَو لم يسجل عَلَيْهِم لم تَجْتَمِع كلمتهم
عَلَيْهِ مَعَ كثرتهم وانتشارهم.
وَمِنْهَا الْأَعْمَال الَّتِي تعلن بِأَن صَاحبهَا موحد تَابع للحق متدين
بالملة الحنيفية شَاكر لله على مَا أنعم على أَوَائِل هَذِه الْملَّة
كالسعي بَين الصَّفَا والمروة.
وَمِنْهَا أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانُوا يحجون وَكَانَ الْحَج أصل دينهم
وَلَكنهُمْ خلطوا أعمالا مَا هِيَ مأثورة عَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام، وَإِنَّمَا هِيَ اخْتِلَاف مِنْهُم وفيهَا إشراك لغير الله
كتعظيم إساف. ونائلة، وكالاهلال لمناة الطاغية، وكقولهم فِي التَّلْبِيَة:
لَا شَرِيكا
(2/87)
لَك إِلَّا شريك هُوَ لَك، وَمن حق هَذِه
الْأَعْمَال أَن ينْهَى عَنْهَا ويؤكد فِي ذَلِك، وأعمالا انتحلوها فخرا
وعجبا كَقَوْل حمس: نَحن قطان الله، فَلَا نخرج من حرم الله فَنزل:
{ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} .
وكذكرهم أباءهم ايام منى فَنزل:
{فاذكروا الله كذكركم آبَاءَكُم أَو أَشد ذكرا} .
وَلما استشعر الْأَنْصَار هَذَا الأَصْل تحرجوا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا
والمروا حَتَّى نزل
{إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} .
وَمِنْهَا أَنهم كَانُوا ابتدعوا قياسات فَاسِدَة هِيَ من بَاب التعمق فِي
الدّين، وفيهَا حرج للنَّاس، وَمن حَقّهَا أَن تنسخ وتهجر كَقَوْلِهِم:
يجْتَنب الْمحرم دُخُول الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَكَانُوا يتسورون من
ظُهُورهَا ظنا مِنْهُم أَن الدُّخُول من الْبَاب ارتفاق يُنَافِي هَيْئَة
الْإِحْرَام فَنزل:
{وَلَيْسَ الْبر بِأَن تَأْتُوا الْبيُوت من ظُهُورهَا} .
وككراهيتهم فِي التِّجَارَة موسم الْحَج ظنا مِنْهُم أَنَّهَا تخل باخلاص
الْعَمَل لله، فَنزل:
{لَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح أَن تَبْتَغُوا فضلا من ربكُم} .
وكاستحبابهم أَن يحجوا بِلَا زَاد، ويقولوا: نَحن المتوكلون وَكَانُوا
يضيقون على النَّاس ويعتدون. فَنزل:
{وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} .
وكقولهم من أفجر الْفُجُور الْعمرَة فِي أَيَّام الْحَج، وَقَوْلهمْ
إِذا انْسَلَخَ صفر، وبرأ الدبر، وَعَفا الْأَثر حلت الْعمرَة لمن اعْتَمر
وَفِي ذَلِك حرج للآفاقى حَيْثُ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَجْدِيد السّفر
للْعُمْرَة، فَأَمرهمْ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حجَّة
الْوَدَاع أَن يخرجُوا من الْإِحْرَام بِعُمْرَة، ويحجوا بعد ذَلِك، وشدد
الْأَمر فِي ذَلِك ينكلهم على عَادَتهم وَمَا ركز فِي قُلُوبهم.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " يَا أَيهَا النَّاس
قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ رجل: أكل عَام يَا رَسُول الله،
فَسكت حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ وَلما
اسْتَطَعْتُم " اقول: سره أَن الْأَمر الَّذِي يعد لنزول وَحي الله بتوقيت
خَاص هُوَ إقبال الْقَوْم على
(2/88)
ذَلِك وتلقي علومهم وهممهم لَهُ
بِالْقبُولِ وَكَون ذَلِك الْقدر هُوَ الَّذِي اشْتهر بَينهم وتداولوها،
ثمَّ عَزِيمَة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَلَبه من الله،
فَإِذا اجْتمعَا لَا بُد أَن ينزل الْوَحْي على حَسبه، وَلَك عِبْرَة بِأَن
الله مَا انْزِلْ كتابا إِلَّا بِلِسَان قومه وَبِمَا يفهمونه، وَلَا ألقِي
عَلَيْهِم حكما وَلَا دَلِيلا إِلَّا مِمَّا هُوَ قريب من فهمهم، كَيفَ
ومبدأ الْوَحْي اللطف، وَإِنَّمَا اللطف اخْتِيَار أقرب مَا يُمكن هُنَاكَ
للإجابة.
وَقيل: " أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ: الْإِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله،
قيل: ثمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَاد فِي سَبِيل الله، قيل: ثمَّ مَاذَا؟
قَالَ: حج مبرور، وَلَا اخْتِلَاف بَينه وَبَين قَوْله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فضل الذّكر " أَلا أنبئكم بِأَفْضَل أَعمالكُم؟ "
لِأَن الْفضل يخْتَلف باخْتلَاف الِاعْتِبَار، وَالْمَقْصُود هَهُنَا
بَيَان الْفضل بِاعْتِبَار تنويه دين الله وَظُهُور شَعَائِر الله،
وَلَيْسَ بِهَذَا الِاعْتِبَار بعد الْإِيمَان كالجهاد وَالْحج.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حج لله فَلم يرْفث
وَلم يفسق رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: "
الْعمرَة إِلَى الْعمرَة كَفَّارَة لما بَينهمَا وَالْحج المبرور لَيْسَ
لَهُ جَزَاء إِلَّا الْجنَّة " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " تابعوا بَين
الْحَج وَالْعمْرَة "، أَقُول: تَعْظِيم شَعَائِر الله والخوض فِي لجة
رَحْمَة الله يكفر الذُّنُوب، وَيدخل الْجنَّة، وَلما كَانَ الْحَج المبرور
والمتابعة بَين الْحَج وَالْعمْرَة، والإكثار مِنْهَا نِصَابا صَالحا لتعرض
رَحمته أثبت لَهما ذَلِك، وَإِنَّمَا شَرط ترك الرَّفَث وَالْفِسْق؛
ليتَحَقَّق ذَلِك الْخَوْض، فَإِن من فعلهمَا عرضت عَنهُ الرَّحْمَة، وَلم
تكمل فِي حَقه.
وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إِن عمْرَة فِي
رَمَضَان تعدل حجَّة "، أَقُول: سره أَن الْحَج إِنَّمَا يفضل الْعمرَة
بِأَنَّهُ جَامع بَين تَعْظِيم شَعَائِر الله واجتماع النَّاس على استنزال
رَحْمَة الله دونهَا، وَالْعمْرَة فِي رَمَضَان تفعل فعله، فَإِن رَمَضَان
وَقت تعاكس أضواء الْمُحْسِنِينَ ونزول الروحانية.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من ملك زادا وراحلة تبلغه إِلَى
بَيت الله وَلم يحجّ فَلَا عَلَيْهِ أَن يَمُوت يَهُودِيّا أَو
نَصْرَانِيّا ". أَقُول: ترك ركن من أَرْكَان الْإِسْلَام يشبه بِالْخرُوجِ
عَن الْملَّة، وَإِنَّمَا شبه تَارِك الْحَج باليهودي
وَالنَّصْرَانِيّ، وتارك الصَّلَاة بالمشرك، لِأَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى
يصلونَ، وَلَا يحجون، ومشركو الْعَرَب يحجون، وَلَا يصلونَ.
(2/89)
قيل: " مَا الْحَاج؟ قَالَ: الشعث التفل،
قيل: أَي الْحَج أفضل؟ قَالَ: العج والثج، قيل: مَا السَّبِيل؟ قَالَ: زَاد
وراحلة "، أَقُول: الْحَاج من شَأْنه أَن يذلل نَفسه لله، والمصلحة المرعية
فِي الْحَج إعلاء كلمة الله وموافقة سنة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام،
وتذكر نعْمَة الله عَلَيْهِ، وَوقت السَّبِيل بالزاد وَالرَّاحِلَة، وَإِذا
بهما يتَحَقَّق التَّيْسِير الْوَاجِب رعايته فِي أَمْثَال الْحَج من
الطَّاعَات الشاقة، وَقد ذكرنَا فِي صَلَاة الْجِنَازَة وَالصَّوْم عَن
الْمَيِّت مَا إِذا عطف على الْحَج عَن الْغَيْر انعطف.
(صفة الْمَنَاسِك)
اعْلَم أَن الْمَنَاسِك على مَا استفاض من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
وَسَائِر الْمُسلمين أَرْبَعَة: حج مُفْرد، وَعمرَة مُفْردَة، وتمتع،
وقران.
فالحج لحاضر مَكَّة أَن يحرم مِنْهَا، ويجتنب فِي الاحرام الْجِمَاع
ودواعيه، وَالْحلق، وتقليم الأظافر، وَلبس الْمخيط، وتغطية الرَّأْس
والتطيب، وَالصَّيْد، ويجتنب النِّكَاح على قَول، ثمَّ يخرج إِلَى عَرَفَات
وَيكون فِيهَا عَشِيَّة عَرَفَة، ثمَّ يرجع مِنْهَا بعد غرُوب الشَّمْس،
ويبيت بِمُزْدَلِفَة، وَيدْفَع مِنْهَا قبل شروق الشَّمْس، فَيَأْتِي منى،
وَيَرْمِي الْعقبَة الْكُبْرَى، وَيهْدِي إِن كَانَ مَعَه، ويحلق أَو يقصر،
ثمَّ يطوف للافاضة فِي ايام منى وَيسْعَى بَين الصَّفَا والمروة. .،
وللآفاقي أَن يحرم من الْمِيقَات، فَإِن دخل مَكَّة قبل الْوُقُوف طَاف
للقدوم، وَرمل فِيهِ، وسعى بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ بَقِي على
إِحْرَامه حَتَّى يقوم بِعَرَفَة، وَيَرْمِي، ويحلق، وَيَطوف، وَلَا يرهل
فِيهِ، وَلَا سعي حِينَئِذٍ وَالْعمْرَة أَن يحرم من الْحل، فان كَانَ
آفاقيا فَمن الْمِيقَات، فيطوف، وَيسْعَى، ويحلق، أَو يقصر والتمتع أَن
يحرم الآفاقى للْعُمْرَة فِي أشهر الْحَج، فَيدْخل مَكَّة، وَيتم عمرته،
وَيخرج من إِحْرَامه، ثمَّ يبْقى حَلَالا حَتَّى يجمع عَلَيْهِ أَن يذبح
مَا اسْتَيْسَرَ من الْهدى الْقرَان، أَن يحرم الآفاقى بِالْحَجِّ
وَالْعمْرَة مَعًا، ثمَّ يدْخل مَكَّة، وَيبقى على إِحْرَامه حَتَّى يفرغ
من أَفعَال الْحَج، وَعَلِيهِ أَن يطوف طَوافا وَاحِدًا وَيسْعَى سعيا
وَاحِد فِي قَول،
(2/90)
وطوافين وسعيين ثمَّ يذبح مَا اسْتَيْسَرَ
من الْهدى، فَإِذا أَرَادَ أَن ينفر من مَكَّة طَاف للوداع.
وَأَقُول اعْلَم أَن الْإِحْرَام فِي الْحَج وَالْعمْرَة بِمَنْزِلَة
التَّكْبِير فِي الصَّلَاة، فِيهِ تَصْوِير الْإِخْلَاص والتعظيم وَضبط
عَزِيمَة الْحَج بِفعل ظَاهر، وَفِيه
جعل النَّفس متذللة خاشعة لله بترك الملاذ والعادات المألوفة وأنواع
التجمل، وَفِيه تَحْقِيق معاناة التَّعَب والتشعث والتغبر لله، وَإِنَّمَا
شرع أَن يجْتَنب الْمحرم هَذِه الْأَشْيَاء تَحْقِيقا لتذلل وَترك
الزِّينَة والتشعث، وتنويها لاستشعار خوف الله وتعظيمه، ومؤاخذة نَفسه أَلا
تسترسل فِي هَواهَا، وَإِنَّمَا الصَّيْد تله وَتوسع، وَلذَلِك قَالَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من اتبع الصَّيْد لَهَا " وَلم
يثبت فعله عَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا كبار
أَصْحَابه وَإِن سوغه فِي الْجُمْلَة. وَالْجِمَاع انهماك فِي الشَّهْوَة
البهيمية، وَإِذا لم يجز سد هَذَا الْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ لِأَنَّهُ
يُخَالف قانون الشَّرْع، فَلَا أقل من أَن ينْهَى فِي بعض الْأَحْوَال
كالإحرام وَالِاعْتِكَاف وَالصَّوْم وَبَعض الْمَوَاضِع كالمساجد سُئِلَ
مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب؟ " فَقَالَ: لَا تلبسوا القمص وَلَا العمائم
وَلَا السراويلات وَلَا البرانس وَلَا الْخفاف " وَقَالَ للأعرابي: " أما
الطّيب الَّذِي بك فاغسله ثَلَاث مَرَّات وَأما الْجُبَّة فانزعها.
الْفرق بَين الْمخيط وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَبَين غير ذَلِك، أَن الأول
ارتفاق وتجمل وزينة، وَالثَّانِي ستر عَورَة، وَترك الأول تواضع لله، وَترك
الثَّانِي سوء أدب.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لَا ينْكح الْمحرم وَلَا
ينْكح وَلَا يحطب "، وروى أَنه تزوج مَيْمُونَة محرما.
أَقُول: اخْتَار أهل الْحجاز من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاء
أَن السّنة للْمحرمِ أَلا ينْكح، وَاخْتَارَ أهل الْعرَاق أَنه يجوز لَهُ
ذَلِك، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ أفضل، وعَلى الأول
السِّرّ مِنْهُ أَن النِّكَاح من الارتفاقات الْمَطْلُوبَة أَكثر من
الصَّيْد، وَلَا يُقَاس الانشاء على الابقاء لِأَن الْفَرح والطرب إِنَّمَا
يكون فِي الِابْتِدَاء، وَلذَلِك يضْرب بالعروس الْمثل فِي هَذَا
الْبَاب دون الْبَقَاء، ثمَّ لَا بُد من ضبط الصَّيْد فَإِن الْإِنْسَان قد
يقتل مَا يُرِيد أكله، وَقد يقتل مَا لَا يُرِيد أكله، وَإِنَّمَا يُرِيد
التمرن بالاصطياد، وَقد يقتل يُرِيد أَن يدْفع شَره عَنهُ أَو عَن أَبنَاء
نَوعه، وَقد يذبح بَهِيمَة الْأَنْعَام فأيها الصَّيْد؟ فَقَالَ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " خمس لَا جنَاح على من قتلهن فِي الْحرم
وَالْإِحْرَام. الْفَأْرَة، والغراب، والحدأة، وَالْعَقْرَب، وَالْكَلب
(2/91)
الْعَقُور وَالْجَامِع المؤذي الصَّائِل
على الْإِنْسَان أَو على مَتَاعه " فَإِنَّهُ إِذا رَجَعَ إِلَى استقراء
الْعرف لَا يُقَال لَهُ صيد، وَكَذَلِكَ بَهِيمَة الْأَنْعَام والدجاج
وأمثالهما مِمَّا جرت الْعَادة باقتنائه فِي الْبيُوت لَا تسمى صيدا، وَأما
الْأَقْسَام الْأُخَر، فَالظَّاهِر أَنَّهَا صيد.
وَوقت لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة، وَلأَهل
نجد قرن الْمنَازل، وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم فهن لَهُنَّ، وَلمن أَتَى
عَلَيْهِنَّ من غير أهلهن لمن كَانَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة فَمن كَانَ
دونهن فمهله من أَهله حَتَّى أهل مَكَّة يهلون مِنْهَا. أَقُول: الأَصْل
فِي الْمَوَاقِيت أَنه لما كَانَ الْإِتْيَان إِلَى مَكَّة شعثا تفلا
تَارِكًا لغلواء نَفسه مَطْلُوبا، وَكَانَ فِي تَكْلِيف الْإِنْسَان أَن
يحرم من بَلَده حرج ظَاهر، فَإِن مِنْهُم من يكون قطره على مسيرَة شهر
وشهرين وَأكْثر - وَجب أَن يخص أمكنة مَعْلُومَة حول مَكَّة يحرمُونَ
مِنْهَا، وَلَا يؤخرون الْإِحْرَام بعْدهَا، وَلَا بُد أَن تكون تِلْكَ
الْمَوَاضِع ظَاهِرَة مَشْهُورَة، وَلَا تخفى على أحد، وَعَلَيْهَا مُرُور
أهل الْآفَاق، فاستقرا ذَلِك، وَحكم بِهَذِهِ الْمَوَاضِع، وَاخْتَارَ لأهل
الْمَدِينَة أبعد الْمَوَاقِيت لِأَنَّهَا مهبط الْوَحْي ومأرز الْإِيمَان
وَدَار الْهِجْرَة وَأول قَرْيَة آمَنت بِاللَّه وَرَسُوله، فأهلها أَحَق
بِأَن يبالغوا فِي إعلاء كلمة الله، وَأَن يخصوا بِزِيَادَة طَاعَة الله،
وَأَيْضًا فَهِيَ أقرب الأقطار الَّتِي آمَنت فِي زمَان رَسُول الله صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخلصت إيمَانهَا بِخِلَاف
جؤاثي. والطائف ويمامة. وَغَيرهَا فَلَا حرج عَلَيْهَا.
والسر فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة أَن اجْتِمَاع الْمُسلمين فِي زمَان وَاحِد
وَمَكَان وَاحِد راغبين فِي رَحْمَة الله تَعَالَى داعين لَهُ متضرعين
إِلَيْهِ لَهُ تَأْثِير عَظِيم فِي نزُول البركات وانتشار الروحانية،
وَلذَلِك كَانَ الشَّيْطَان يَوْمئِذٍ أَدْحَر وأحقر مَا يكون، وَأَيْضًا
فاجتماعهم ذَلِك تَحْقِيق لِمَعْنى العرضة وخصوص هَذَا الْيَوْم. وَهَذَا
الْمَكَان متوارث عَن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام على مَا يذكر فِي
الْأَخْبَار عَن آدم فَمن بعده، وَالْأَخْذ بِمَا جرت بِهِ سنة السّلف
الصَّالح أصل أصيل فِي بَاب التَّوْقِيت.
والسر فِي نزُول منى أَنَّهَا كَانَت سوقا عَظِيما من أسواق الْجَاهِلِيَّة
مثل عكاظ، والمجنة، وَذي الْمجَاز، وَغَيرهَا، وَإِنَّمَا اصْطَلحُوا
عَلَيْهِ لِأَن الْحَج يجمع أَقْوَامًا كَثِيرَة من أقطار متباعدة، وَلَا
أحسن للتِّجَارَة وَلَا أرْفق بهَا من أَن يكون موسمها عِنْد هَذَا
الِاجْتِمَاع، وَلِأَن مَكَّة تضيق عَن تِلْكَ الْجنُود المجندة، فَلَو لم
يصطلح حاضرهم وباديهم وخاملهم ونبيهم
(2/92)
على النُّزُول فِي فضاء مثل منى لحرجوا،
وَإِن اخْتصَّ بَعضهم بالنزول لوجدوا فِي أنفسهم، وَلما جرت الْعَادة
بنزولها اقْتضى ديدن الْعَرَب وحميتهم أَن يجْتَهد كل حَيّ فِي التفاخر
وَالتَّكَاثُر، وَذكر مآثر الْآبَاء وإراءة جلدهمْ وَكَثْرَة أعوانهم ليرى
ذَلِك الأقاصي والأداني، وَيبعد بِهِ الذّكر فِي الأقطار، وَكَانَ
لِلْإِسْلَامِ حَاجَة إِلَى اجْتِمَاع مثله يظْهر بِهِ شَوْكَة الْمُسلمين
وعدتهم وعدتهم، ليظْهر دين الله، وَيبعد صيته، ويغلب على كل قطر من
الأقطار، فأبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحث عَلَيْهِ
وَندب إِلَيْهِ، وَنسخ التفاخر، وَذكر الْآبَاء،
وأبدله بِذكر الله بِمَنْزِلَة مَا أبقى من ضيافاتهم وولائمهم. وَلِيمَة
النِّكَاح. وعقيقة الْمَوْلُود لما رأى فِيهَا من فَوَائِد جليلة فِي
تَدْبِير الْمنَازل.
والسر فِي الْمبيت بِمُزْدَلِفَة أَنه كَانَ سنة قديمَة فيهم، ولعلهم
اصْطَلحُوا عَلَيْهَا لما رَأَوْا من أَن للنَّاس اجتماعا لم يعْهَد مثله
فِي غير هَذَا الموطن، وَمثل هَذَا مَظَنَّة أَن يزاحم بَعضهم بَعْضًا،
ويحطم بَعضهم بَعْضًا، وَإِنَّمَا براحهم بعد الْمغرب، وَكَانُوا طول
النَّهَار فِي تَعب يأْتونَ من كل فج عميق، فَلَو تجشموا أَن يَأْتُوا منى،
وَالْحَال هَذِه لتعبوا، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يدْفَعُونَ من
عَرَفَات قبل الْغُرُوب، وَلما كَانَ ذَلِك قدرا غير ظَاهر، وَلَا
يتَعَيَّن بِالْقطعِ، وَلَا بُد فِي مثل هَذَا الِاجْتِمَاع من تعْيين لَا
يحْتَمل الْإِبْهَام وَجب أَن يعين بالغروب.
وَإِنَّمَا شرع الْوُقُوف بالمشعر الْحَرَام لِأَنَّهُ كَانَ أهل
الْجَاهِلِيَّة يتفاخرون، ويتراءون فأبدل من ذَلِك إكثار ذكر الله ليَكُون
كابحا عَن عَادَتهم، وَيكون التنويه بِالتَّوْحِيدِ فِي ذَلِك الموطن
كالمنافسة كَأَنَّهُ قيل: هَل يكون ذكركُمْ الله أَكثر أَو ذكر أهل
الْجَاهِلِيَّة مفاخرهم أَكثر.
والسر فِي رمي الْجمار مَا ورد فِي نفس الحَدِيث من أَنه إِنَّمَا جعل
لإِقَامَة ذكر الله عز وَجل، وتفصيله أَن أحسن أَنْوَاع تَوْقِيت الذّكر
وأكملها وأجمعها لوجوه التَّوْقِيت أَن يُوَقت بِزَمَان وبمكان ويقام مَعَه
مَا يكون حَافِظًا لعدده محققا لوُجُوده على رُءُوس الأشهاد حَيْثُ لَا
يخفى شَيْء، وَذكر الله نَوْعَانِ: نوع يقْصد بِهِ الإعلان بانقياده لدين
الله، وَالْأَصْل فِيهِ اخْتِيَار مجامع النَّاس دون الْإِكْثَار، وَمِنْه
الرَّمْي وَلذَلِك لم يُؤمر بالإكثار هُنَاكَ، وَنَوع يقْصد بِهِ انصباع
النَّفس بالتطلع للجبروت، وَفِيه الْإِكْثَار، وَأَيْضًا ورد فِي
الْأَخْبَار مَا يَقْتَضِي أَنه سنة سنّهَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
حِين طرد الشَّيْطَان، فَفِي حِكَايَة مثل هَذَا الْفِعْل
(2/93)
تَنْبِيه للنَّفس أَي تَنْبِيه.
والسر فِي الْهدى التَّشَبُّه بِفعل سيدنَا إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام
فِيمَا قصد من ذبح وَلَده فِي ذَلِك الْمَكَان طَاعَة لرَبه وتوجها
إِلَيْهِ، والتذكر لنعمة الله بِهِ وبأبيهم إِسْمَعِيل عَلَيْهِ السَّلَام
وَفعل مثل هَذَا الْفِعْل فِي هَذَا الْوَقْت، وَالزَّمَان يُنَبه النَّفس
أَي تنبه.
إِنَّمَا وَجب على الْمُتَمَتّع والقارن شكرا لنعمة الله حَيْثُ وضع
عَنْهُم إصر الْجَاهِلِيَّة فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة.
والسر فِي الْحلق أَنه تعْيين طَرِيق لِلْخُرُوجِ من الْإِحْرَام بِفعل لَا
يُنَافِي الْوَقار، فَلَو تَركهم وأنفسهم لذهب كل مذهبا، وَأَيْضًا فَفِيهِ
تَحْقِيق انْقِضَاء التشعث والتغبر بِالْوَجْهِ الأتم، وَمثله كَمثل
السَّلَام من الصَّلَاة، وَإِنَّمَا قدم على طواف الْإِفَاضَة ليَكُون
شَبِيها بِحَال الدَّاخِل على الْمُلُوك فِي مؤاخذته نَفسه بِإِزَالَة
تشعثه وغباره.
وَصفَة الطّواف أَن يَأْتِي الْحجر، فيستلمه، ثمَّ يمشي على يَمِينه
سَبْعَة أطوفة يقبل فِيهَا الْحجر الْأسود، أَو يُشِير إِلَيْهِ بِشَيْء
فِي يَده كالمحجن، وَيكبر، ويستلم الرُّكْن الْيَمَانِيّ، وَليكن فِي ذَلِك
على طَهَارَة وَستر عَورَة، وَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير، ثمَّ يَأْتِي
مقَام إِبْرَاهِيم فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ، أما الِابْتِدَاء بِالْحجرِ
فَلِأَنَّهُ وَجب عِنْد التشريع أَن يعين مَحل الْبدَاءَة وجهة الْمَشْي،
وَالْحجر أحسن مَوَاضِع الْبَيْت لِأَنَّهُ نَازل من الْجنَّة، وَالْيَمِين
أَيمن الْجِهَتَيْنِ.
وَطواف الْقدوم بِمَنْزِلَة تَحِيَّة الْمَسْجِد، إِنَّمَا شرع تَعْظِيمًا
للبيت، وَلِأَن الإبطاء بِالطّوافِ فِي مَكَانَهُ وزمانه عِنْد تهيء
أَسبَابه سوء أدب، وَأول طواف بِالْبَيْتِ فِيهِ رمل واضطباع؛ وَبعده سعى
بَين الصَّفَا والمروة؛ وَذَلِكَ لمعان: مِنْهَا مَا ذكره ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنْهُمَا من إخافة قُلُوب الْمُشْركين.
وَإِظْهَار صولة الْمُسلمين، وَكَانَ أهل مَكَّة يَقُولُونَ: وهنتهم حمى
يثرب، فَهُوَ فعل من أَفعَال الْجِهَاد، وَهَذَا السَّبَب قد انْقَضى
وَمضى، وَمِنْهَا تَصْوِير الرَّغْبَة فِي طَاعَة الله، وَأَنه لم يزده
السّفر الشاسع والتعب الْعَظِيم إِلَّا شوقا ورغبة كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(إِذا اشتكت من كلال السّير واعدها ... روح الْوِصَال فتحيا عِنْد ميعاد)
وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ أَرَادَ أَن يتْرك الرمل والاضطباع لانقضاء
سببهما، ثمَّ تفطن
(2/94)
إِجْمَالا أَن لَهما سَببا آخر غير منقض فَلم يتركهما.
وَإِنَّمَا لم يشرع الْوُقُوف بِعَرَفَة فِي الْعمرَة لِأَنَّهَا لَيْسَ
لَهَا وَقت معِين ليتَحَقَّق معنى الِاجْتِمَاع فَلَا فَائِدَة للوقوف
بهَا، وَلَو شرع لَهَا وَقت معِين كَانَت حجا، وَفِي الِاجْتِمَاع
مرَّتَيْنِ فِي السّنة مَا لَا يخفى.
وَإِنَّمَا الْعُمْدَة فِي الْعمرَة تَعْظِيم بَيت الله وشكر نعْمَة الله.
والسر فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة على مَا ورد فِي الحَدِيث أَن
هَاجر أم إِسْمَعِيل عَلَيْهِ السَّلَام لما اشْتَدَّ بهَا الْحَال سعت
بَينهمَا سعي الْإِنْسَان المجهود، فكشف الله عَنْهُمَا الْجهد بابداء
زَمْزَم، وإلهام الرَّغْبَة فِي النَّاس أَن يعمروا تِلْكَ الْبقْعَة،
فَوَجَبَ شكر تِلْكَ النِّعْمَة على أَوْلَاده وَمن تَبِعَهُمْ، وتذكر
تِلْكَ الْآيَة الخارقة لتبهت بهيميتهم، وتدلهم على الله، وَلَا شَيْء فِي
هَذَا مثل أَن يعضد عقد الْقلب بهما بِفعل ظَاهر منضبط مُخَالف لمألوف
الْقَوْم فِيهِ تذلل عِنْد أول دُخُولهمْ مَكَّة وَهُوَ محاكاة مَا كَانَت
فِيهِ من العناء والجهد، وحكاية الْحَال فِي مثل هَذَا أبلغ بِكَثِير من
لِسَان الْمقَال.
قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا ينفرن أحدكُم
حَتَّى يكون آخر عَهده بِالْبَيْتِ وخفف عَن الْحَائِض " أَقُول: السِّرّ
فِيهِ تَعْظِيم الْبَيْت بِأَن يكون هُوَ الأول وَهُوَ الآخر تصويرا لكَونه
هُوَ الْمَقْصُود من السّفر، وموافقة لعادتهم فِي توديع الْوُفُود
مُلُوكهَا عِنْد النَّفر، وَالله أعلم. |