حجة الله
البالغة (التَّبَرُّع والتعاون)
التَّبَرُّع أَقسَام: صَدَقَة إِن أُرِيد بِهِ وَجه الله، وَيجب أَن يكون
مصرفة مَا ذكر الله تَعَالَى فِي قَوْله:
{إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} الْآيَة
وهدية إِن قصد بِهِ وَجه الْمهْدي لَهُ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: " من أعْطى عَطاء فَوجدَ فليجز بِهِ، وَمن لم يجد فليثن، فَإِن
من أثنى فقد شكر، وَمن كتم فقد كفر، وَمن تحلى بِمَا لم يُعْط كَانَ كلابس
ثوبي زور "
اعْلَم أَن الْهَدِيَّة إِنَّمَا يَبْتَغِي بهَا إِقَامَة الألفة فِيمَا
بَين النَّاس، وَلَا يتم هَذَا الْمَقْصُود إِلَّا بِأَن يرد إِلَيْهِ
مثله، فَإِن الْهَدِيَّة تحبب الْمهْدي إِلَى المهدى لَهُ من غير عكس،
وَأَيْضًا فَإِن الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى، وَلمن أعطي الطول
على من أَخذ، فَإِن عجز فليشكره، وليظهر نعْمَته فَإِن الثَّنَاء أول
اعْتِدَاد بنعمته وإضمار لمحبته، وَأَنه يفعل فِي إيراث الْحبّ مَا تفعل
الْهَدِيَّة، وَمن كتم فقد خَالف عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُ، وناقض مصلحَة
الائتلاف، وغمط حَقه،
(2/177)
وَمن أظهر مَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة
فَذَلِك كذب، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" كلابس ثوبي زور " مَعْنَاهُ كمن تردى أَو اتزر بالزور وَشَمل الزُّور
جَمِيع بدنه.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صنع إِلَيْهِ مَعْرُوف،
فَقَالَ لفَاعِله:
جَزَاك الله خيرا، فقد أبلغ فِي الثَّنَاء " أَقُول: إِنَّمَا عين النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِه اللَّفْظَة لِأَن الْكَلَام
الزَّائِد فِي مثل هَذَا الْمقَام إطراء وإلحاح، والناقص، كتمان وغمط "،
وَأحسن مَا يحيي بِهِ بعض الْمُسلمين بِهِ بَعْضًا مَا يذكر الْمعَاد،
ويحيل الْأَمر على الله، وَهَذِه اللَّفْظَة نِصَاب صَالح بِجَمِيعِ مَا
ذكرنَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تهادوا، فَإِن الْهَدِيَّة تذْهب الضغائن " وَفِي رِوَايَة " تذْهب وحر
الصَّدْر " أَقُول: الْهَدِيَّة وَإِن قلت تدل على تَعْظِيم المهدى لَهُ،
وَكَونه مِنْهُ على بَال، وَأَنه يُحِبهُ، ويرغب فِيهِ، وَإِلَيْهِ
الْإِشَارَة فِي حَدِيث "
لَا تحقرن جَارة لجارتها وَلَو فرسن شاه " فَلذَلِك كَانَ طَرِيقا صَالحا
لدفع الضغينة، ويدفعها تَمام الألفة فِي الْمَدِينَة والحي.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من عرض عَلَيْهِ ريحَان فَلَا يردهُ، فَإِنَّهُ خَفِيف الْمحمل طيب
الرّيح " أَقُول: إِنَّمَا كره رد الريحان، وَمَا يُشبههُ لخفة مُؤْنَته،
وتعامل النَّاس بإهدائه، فَلَا يلْحق هَذَا كثير عَار فِي قبُوله، وَلَا
فِي ذَلِك كثير حرج فِي إهدائه، وَفِي التَّعَامُل بذلك إئتلاف، وَفِي رده
فَسَاد ذَات الْبَين، وإضمار على وحر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه، لَيْسَ لنا مثل السوء "
أَقُول: إِنَّمَا كره الرُّجُوع فِي الْهِبَة لِأَن منشأ الْعود فِيمَا
أفرزه عَن مَاله، وَقطع الطمع عَنهُ إِمَّا شح بِمَا أعْطى، أَو تضجر
مِنْهُ، أَو إِضْرَار لَهُ، وكل ذَلِك من الْأَخْلَاق المذمومة، وَأَيْضًا
نفي نقض الْهِبَة بعد مَا أحكم، وأمضى وحر وضغينة، بِخِلَاف مَا لم يُعْط
من أول الْأَمر، فَشبه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعود
فِيمَا أفرزه من ملكه بِعُود الْكَلْب فِي قيئه، يمثل لَهُم الْمَعْنى بادئ
الرَّأْي وَبَين لَهُم قبح تِلْكَ الْحَالة بأبلغ وَجه اللَّهُمَّ إِلَّا
إِذا كَانَ بَينهمَا مباسطة ترفع المناقشة ك الْوَالِد وَالْولد، وَهُوَ
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِلَّا الْوَالِد من وَلَده ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن ينْحل بعض أَوْلَاده مَا
لم ينْحل الآخر.
" أَيَسُرُّك أَن يَكُونُوا إِلَيْك فِي الْبر سَوَاء؟ قَالَ: بلَى. قَالَ:
فَلَا إِذا ".
(2/178)
أَقُول: إِنَّمَا كره تَفْضِيل بعض
الْأَوْلَاد على بعض فِي الْعَطِيَّة لِأَنَّهُ يُورث الحقد فِيمَا بَينهم
والضغينة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوَالِد، فَأَشَارَ النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَن تَفْضِيل بَعضهم إِلَى بعض سَبَب أَن يضمر
المنقوص لَهُ على ضغينة، ويطوي على غل، فيقصر فِي الْبر، وَفِي ذَلِك
فَسَاد الْمنزل.
وَوَصِيَّة إِن كَانَ موقنا بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا جرت بهَا السّنة لِأَن
الْملك فِي بني آدم عَارض لِمَعْنى المشاحة، فَإِذا قَارب أَن يَسْتَغْنِي
عَنهُ بِالْمَوْتِ اسْتحبَّ أَن يتدارك مَا قصر فِيهِ، ويواسي من وَجب حَقه
عَلَيْهِ فِي مثل هَذِه السَّاعَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أوص بِالثُّلثِ وَالثلث كثير ". وَاعْلَم أَن مَال الْمَيِّت ينْتَقل
إِلَى ورثته عِنْد طوائف الْعَرَب والعجم، وَهُوَ كالجبلة عِنْدهم
وَالْأَمر اللَّازِم فِيمَا بَينهم لمصَالح لَا تحصى، فَلَمَّا مرض، وأشرف
على الْمَوْت توجه طَرِيق لحُصُول ملكهم، فَيكون تأييسهم عَمَّا يتوقعون
غمطا لحقهم وتفريطا فِي جنبهم، وَأَيْضًا فالحكمة أَن يَأْخُذ مَاله من
بعده أقرب النَّاس مِنْهُ، وَأَوْلَادهمْ، بِهِ وأنصرهم لَهُ، وَأَكْثَرهم
مواساة، وَلَيْسَ أحد فِي ذَلِك بِمَنْزِلَة الْوَالِد وَالْولد،
وَغَيرهمَا من الْأَرْحَام. وَهُوَ وَقَوله تَعَالَى:
{وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله}
وَمَعَ ذَلِك فكثيراً مَا تقع أُمُور توجب مواساة غَيرهم، وَكَثِيرًا مَا
يُوجب خُصُوص الْحَال أَن يخْتَار غَيرهم، فَلَا بُد من ضرب حد لَا يتجاوزه
النَّاس وَهُوَ الثُّلُث لِأَنَّهُ لَا بُد من تَرْجِيح الْوَرَثَة،
وَذَلِكَ بِأَن يكون لَهُم أَكثر من النّصْف، فَضرب لَهُم الثُّلثَيْنِ،
ولغيرهم الثُّلُث.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله أعْطى لكل ذِي حق حَقه، فَلَا وَصِيَّة لوَارث. أَقُول: لما
كَانَ النَّاس فِي الْجَاهِلِيَّة يضارون فِي الْوَصِيَّة، وَلَا يتبعُون
فِي ذَلِك الْحِكْمَة الْوَاجِبَة، فَمنهمْ من ترك الْحق والأوجب سواساته،
وَاخْتَارَ الْأَبْعَد بِرَأْيهِ الأبتر. وَجب أَن يسد هَذَا الْبَاب،
وَوَجَب عِنْد ذَلِك أَن يعْتَبر المظان الْكُلية بِحَسب الْقرَابَات دون
الخصوصيات الطارئة بِحَسب الْأَشْخَاص، فَلَمَّا تقرر أَمر الْمَوَارِيث
قطعا لمنازعتهم وسدا لضغائنهم كَانَ من حكمه أَلا يسوغ الْوَصِيَّة لوَارث؛
إِذْ فِي ذَلِك مناقضة للحد الْمَضْرُوب.
(2/179)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" مَا حق امْرِئ مُسلم لَهُ شَيْء يُوصي فِيهِ يبيت لَيْلًا إِلَّا ووصيته
مَكْتُوبَة عِنْده ". أَقُول: اسْتحبَّ تَعْجِيل الْوَصِيَّة احْتِرَازًا
من أَن يهجمه الْمَوْت، أَو يحدث حَادث بَغْتَة، فتفوته الْمصلحَة الَّتِي
يجب إِقَامَتهَا عِنْده، فيتحسر، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَيّمَا رجل أعمر عمري " الحَدِيث. أَقُول: كَانَ فِي زمَان النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناقشات لَا تكَاد تَنْقَطِع، فَكَانَ
قطعهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهَا كالربا والثارات وَغَيرهَا، وَكَانَ قوم أعمروا لقوم، ثمَّ
انقرض هَؤُلَاءِ
وَهَؤُلَاء، فجَاء الْقرن الآخر، فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِم الْحَال، فتخاصموا،
فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه إِن كَانَ نَص
الْوَاجِب هِيَ لَك ولعقبك فَهِيَ هبة؛ لِأَنَّهُ بَين الْأَمر بِمَا يكون
من خَواص الْهِبَة الْخَالِصَة، وَإِن قَالَ: هِيَ لَك مَا عِشْت فَهِيَ
إِعَارَة إِلَى مُدَّة لمُدَّة حَيَاته؛ لِأَنَّهُ قَيده بِقَيْد يُنَافِي
الْهِبَة.
وَمن التَّبَرُّعَات الْوَقْف وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يعرفونه،
فاستنبطه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمصَالح لَا تُوجد فِي
سَائِر الصَّدقَات، فَإِن الْإِنْسَان رُبمَا يصرف فِي سَبِيل الله مَالا
كثيرا، ثمَّ يفنى، فَيحْتَاج أُولَئِكَ الْفُقَرَاء تَارَة أُخْرَى،
وَيَجِيء أَقوام آخَرُونَ من الْفُقَرَاء، فيبقون محرومين، فَلَا أحسن
وَلَا أَنْفَع للعامة من أَن يكون شَيْء حبسا للْفُقَرَاء وَأَبْنَاء
السَّبِيل تصرف عَلَيْهِم منافعة، وَيبقى أَصله على ملك الْوَاقِف، وَهُوَ
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رَضِي الله عَنهُ:
" إِن شِئْت حبست أَصْلهَا؛ وتصدقت بهَا " فَتصدق بهَا عمر أَنه لَا يُبَاع
أَصْلهَا، وَلَا يُوهب، وَلَا يُورث، وَتصدق بهَا فِي الْفُقَرَاء وَفِي
الْقُرْبَى، وَفِي الرّقاب، وَفِي سَبِيل الله، وَابْن السَّبِيل، والضعيف،
لَا جنَاح على من وَليهَا أَن يَأْكُل مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيطْعم غير
مُتَمَوّل.
أما المعاونة فَهِيَ أَنْوَاع أَيْضا: مِنْهَا الْمُضَاربَة، وَهِي أَن
يكون المَال لإِنْسَان، وَالْعَمَل فِي التِّجَارَة من الآخر ليَكُون
الرِّبْح بَينهَا على مَا يبينانه.
والمفاوضة أَن يعْقد رجلَانِ مَا لَهما سَوَاء الشّركَة فِي جَمِيع مَا
يشتريانه ويبيعانه، وَالرِّبْح بَينهمَا، وكل وَاحِد كَفِيل الآخر ووكيله.
والعنان أَن يعقدا الشّركَة فِي مَال معِين كَذَلِك، وَيكون كل وَاحِد
وَكيلا للْآخر فِيهِ وَلَا يكون كَفِيلا يُطَالب بِمَا على الآخر.
وَشركَة الصَّنَائِع كخياطين أَو صباغين اشْتَركَا على أَن يتَقَبَّل كل
وَاحِد، وَيكون الْكسْب بَينهمَا.
(2/180)
وَشركَة الْوُجُوه أَن يشتركا وَلَا مَال
بَينهمَا على أَن يشتريا بوجوههما، ويبيعا، الرِّبْح بَينهمَا.
وَالْوكَالَة أَن يكون أَحدهمَا يعْقد الْعُقُود لصَاحبه.
وَالْمُسَاقَاة أَن تكون أصُول الشّجر لرجل فَيَكْفِي مؤنتها الآخر على أَن
يكون الثَّمر بَينهمَا.
والمزارعة أَن تكون الأَرْض وَالْبذْر لوَاحِد، وَالْعَمَل، وَالْبَقر من
الآخر
وَالْمُخَابَرَة أَن تكون الأَرْض لوَاحِد، وَالْبذْر، وَالْبَقر،
وَالْعَمَل من الآخر، وَنَوع آخر يكون الْعَمَل من أَحدهمَا وَالْبَاقِي من
الآخر.
وَالْإِجَارَة وفيهَا معنى الْعِبَادَة. وَمعنى المعاونة فَإِن كَانَ
الْمَطْلُوب نفس الْمَنْفَعَة فالمبادلة غالبة، وَإِن كَانَ خُصُوص
الْعَامِل مَطْلُوبا فَمَعْنَى المعاونة غَالب، وَهَذِه عُقُود كَانَ
النَّاس يتعاملون بهَا قبل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَمَا لم يكن مِنْهَا محلا لمناقشة غَالِبا، وَلم بنه عَنهُ النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاقٍ على إِبَاحَته دَاخل فِي
قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُسلمُونَ على شروطهم ".
وَقد اخْتلف الروَاة فِي حَدِيث رَافع بن خديج اخْتِلَافا فَاحِشا، وَكَانَ
وُجُوه التَّابِعين يتعاملون بالمزراعة، وَيدل على الْجَوَاز حَدِيث
مُعَاملَة أهل خَيْبَر، وَأَحَادِيث النَّهْي عَنْهَا مَحْمُولَة على
الْإِجَارَة بِمَا على الماذيانات أَو قِطْعَة مُعينَة، وَهُوَ قَوْله
رَافع رَضِي الله عَنهُ، أَو على التَّنْزِيه والإرشاد وَهُوَ قَول ابْن
عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا، أَو على مصلحَة خَاصَّة بذلك الْوَقْت من
جِهَة كَثْرَة مناقشتهم فِي هَذِه الْمُعَامَلَة حِينَئِذٍ، وَهُوَ قَول
زيد رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم.
(الْفَرَائِض)
اعْلَم أَنه أوجبت الْحِكْمَة أَن تكون السّنة بَينهم أَن يتعاون أهل
الْحَيّ فِيمَا بَينهم، ويتناصروا، ويتواسوا، وَأَن يَجْعَل كل وَاحِد
ضَرَر الآخر ونفعه بِمَنْزِلَة ضَرَر نَفسه ونفعه،
(2/181)
وَلَا يُمكن إِقَامَة ذَلِك إِلَّا بجبلة
تؤكدها أَسبَاب طارئة، ويسجل عَلَيْهَا سنة متوارثه بَينهم فالجبلة هِيَ
مَا بَين الْوَالِد، وَالْولد، والأخوة، وَغير ذَلِك من المرادة.
والأسباب الطارئة هِيَ التألف، والزيارة، والمهاداة، والمواساة فَإِن كل
ذَلِك يحبب الْوَاحِد إِلَى الآخر، ويشجع على النَّصْر والمعاونة فِي
الكريهات.
وَأما السّنة فَهِيَ مَا نطقت بِهِ الشَّرَائِع من وجوب صلَة الْأَرْحَام
وَإِقَامَة اللأئمة على إهمالها، ثمَّ لما كَانَ من النَّاس من يتبع فكرا
فَاسِدا، وَلَا يُقيم صلَة الرَّحِم كَمَا يَنْبَغِي، ويعد مَا دون
الْوَاجِب كثيرا مست الْحَاجة إِلَى إِيجَاب بعض ذَلِك عَلَيْهِم، أشاءوا،
أم أَبَوا مثل عِيَادَة الْمَرِيض، وَفك العاني، وَالْعقل، وإعتاق مَا ملكه
من ذِي حم وَغير ذَلِك، وأحق هَذَا الصِّنْف مَا اسْتغنى عَنهُ بالإشراف
على الْمَوْت، فَإِنَّهُ يجب فِي مثل ذَلِك أَن يصرف مَاله على عينه فِيمَا
هُوَ نَافِع فِي المعاونات المنزلية، أَو يصرف مَاله من بعده فِي أَقَاربه.
وَاعْلَم أَن الأَصْل فِي الْفَرَائِض أَن النَّاس جَمِيعهم عربهم وعجمهم
اتَّفقُوا على أَن أَحَق النَّاس بِمَال الْمَيِّت أَقَاربه وأرحامه، ثمَّ
كَانَ لَهُم بعد ذَلِك اخْتِلَاف شَدِيد، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة
يورثون الرِّجَال دون النِّسَاء يرَوْنَ أَن الرِّجَال هم القائمون
بالبيضة، وهم الذابون عَن الذمار، فهم أَحَق بِمَا يكون شبه
المجان، وَكَانَ أول مَا نزل على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وجوب الْوَصِيَّة للاقربين من غير تعْيين وَلَا تَوْقِيت؛ لِأَن النَّاس
أَحْوَالهم مُخْتَلفَة: فَمنهمْ من ينصره أحد أَخَوَيْهِ دون الآخر،
وَمِنْهُم من ينصره وَالِده، وعَلى هَذَا الْقيَاس فَكَانَت الْمصلحَة أَن
يُفَوض الْأَمر إِلَيْهِم، ليحكم كل وَاحِد مَا يرى من مصلحَة، ثمَّ إِذا
ظهر من موص جنف أَو إِثْم كَانَ للقضاة أَن يصلحوا وَصيته، ويغيروا،
فَكَانَ الحكم على ذَلِك مُدَّة، ثمَّ أَنه لما ظَهرت أَحْكَام الْخلَافَة
الْكُبْرَى، وزوى للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشَارِق
الأَرْض وَمَغَارِبهَا؛ وتشعشعت أنوار الْبعْثَة الْعَامَّة أوجبت
الْمصلحَة أَلا يَجْعَل أَمرهم إِلَيْهِم وَلَا إِلَى الْقُضَاة من بعدهمْ،
بل يَجْعَل على المظان الغالبية فِي علم الله من عادات الْعَرَب والعجم
وَغَيرهم مِمَّا يكون كالأمر الطبيعي، وَيكون مُخَالفَة كالشاذ النَّادِر
وكالبهيمية المخدجة الَّتِي تولد جَدْعَاء أَو عرجاء خرقا للْعَادَة
المستمرة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{لَا تَدْرُونَ أَيهمْ أقرب لكم نفعا}
ومسائل الْمَوَارِيث تبتنى على أصُول: مِنْهَا أَن الْمُعْتَبر فِي هَذَا
الْبَاب هُوَ المصاحبة الطبيعية؛ والمناصرة؛ والموادة الَّتِي هِيَ
(2/182)
كمذهب جبلي، دون الاتفاقات الطارئة؛
فَإِنَّهَا غير مضبوطة، وَلَا يُمكن أَن يبْنى عَلَيْهَا النواميس
الْكُلية؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض فِي كتاب الله}
فَلذَلِك لم يَجْعَل الْمِيرَاث إِلَّا لأولي الْأَرْحَام غير
الزَّوْجَيْنِ؛ فَإِنَّهُمَا لاحقان بِأولى الْأَرْحَام داخلان فِي
تضاعيفهم لوجوه: مِنْهَا تَأْكِيد التعاون فِي تَدْبِير
الْمنزل، والحث على أَن يعرف كل وَاحِد مِنْهُمَا ضَرَر الآخر ونفعه رَاجعا
إِلَى نَفسه، وَمِنْهَا أَن الزَّوْج ينْفق عَلَيْهَا، ويستودع مِنْهَا
مَاله؛ ويأمنها على ذَات يَده؛ حَتَّى يتخيل أَن جَمِيع مَا تركته أَو بعض
ذَلِك حَقه فِي الْحَقِيقَة، وَتلك خُصُومَة لَا تكَاد تنصرم؛ فعالج
الشَّرْع هَذَا الدَّاء بِأَن جعل لَهُ الرّبع أَو النّصْف، ليَكُون
جَابِرا لِقَلْبِهِ وكاسرا لسورة خصومته، وَمِنْهَا أَن الزَّوْجَة رُبمَا
تَلد من زَوجهَا أَوْلَادًا هم من قوم الرجل لَا محَالة وَأهل نسبه ومنصبه،
واتصال الْإِنْسَان بِأُمِّهِ لَا يَنْقَطِع أبدا، فَمن هَذَا الْجِهَة
تدخل الزَّوْجَة فِي تضاعيف من لَا يَنْفَكّ عَن قومه، وَتصير بِمَنْزِلَة
ذَوي الْأَرْحَام، وَمِنْهَا أَنه يجب عَلَيْهَا يعده أَن تَعْتَد فِي
بَيته لمصَالح لَا تخفى وَلَا متكفل لمعيشتها من قومه، فَوَجَبَ أَن تجْعَل
كفايتها فِي مَال الزَّوْج، وَلَا يُمكن أَن يَجْعَل قدرا مَعْلُوما
لِأَنَّهُ لَا يدْرِي كم يتْرك، فَوَجَبَ جُزْء شَائِع كَالثّمنِ،
وَالرّبع.
وَمِنْهَا أَن الْقَرَابَة نَوْعَانِ: أَحدهمَا مَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة
فِي الْحسب، والمنصب، وَأَن يَكُونَا من قوم وَاحِد وَفِي منزله وَاحِدَة،
وَثَانِيهمَا مَا لَا يَقْتَضِي الْمُشَاركَة فِي الْحسب، وَالنّسب،
والمنزلة، وَلكنه مَظَنَّة الود والرفق، وَأَنه لَو كَانَ أَمر قسْمَة
التَّرِكَة إِلَى الْمَيِّت لما جَاوز تِلْكَ الْقَرَابَة، وَيجب أَن يفضل
النَّوْع الأول على الثَّانِي، لِأَن النَّاس عربهم وعجمهم يرَوْنَ
إِخْرَاج منصب الرجل وثروته من قومه إِلَى قوم آخَرين جورا وهضما، ويسخطون
على ذَلِك، وَإِذا أعطي مَال الرجل ومنصبه لمن يقوم مقَامه من قومه رَأَوْا
ذَلِك عدلا، وَرَضوا بِهِ وَذَلِكَ كالجبلة الَّتِي لَا تنفك مِنْهُم
إِلَّا أَن تقطع قُلُوبهم اللَّهُمَّ إِلَّا فِي زَمَاننَا حِين اختلت
الانساب، وَلم يكن تناصرهم بنسبهم، وَلَا يجوز أَن يهمل حق النَّوْع
الثَّانِي أَيْضا بعد ذَلِك وَلذَلِك كَانَ نصيب الْأُم مَعَ أَن برهَا
أوجب وصلتها أوكد أقل من نصيب الْبِنْت. وَالْأُخْت فَإِنَّهَا لَيست من
قوم ابْنهَا وَلَا من أهل حَسبه وَنسبه ومنصبه وشرفه، وَلَا مِمَّن يقوم
مقَامه، أَلا ترى أَن الابْن رُبمَا يكون هاشميا، وَالأُم حبشية، وَالِابْن
قرشيا، وَالأُم عجمية، وَالِابْن من بَيت الْخلَافَة، وَالأُم مغموصا
عَلَيْهَا بعهر ودناءة، أما الْبِنْت وَالْأُخْت فهما من قوم الْمَرْء
وَأهل منصبه، وَكَذَلِكَ أَوْلَاد الْأُم لم يرثوا حِين ورثوا إِلَّا ثلثا
لَا يُزَاد لَهُم عَلَيْهِ
(2/183)
أَلْبَتَّة، أَلا ترى أَن الرجل يكون من
قُرَيْش وَأَخُوهُ لأمه من تَمِيم، وَقد يكون بَين القبيلتين خُصُومَة،
فينصر كل رجل قومه على قوم الآخر، وَلَا يرى النَّاس قِيَامه مقَام أَخِيه
عدلا، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَة الَّتِي هِيَ لاحقة بذوي الْأَرْحَام دَاخِلَة
فِي تضاعيفها لم تَجِد إِلَّا أوكس الانصباء، وَإِذا اجْتمعت جمَاعَة
مِنْهُنَّ اشتركن فِي ذَلِك النَّصِيب، وَلم يرز أَن سَائِر الْوَرَثَة
أَلْبَتَّة، أَلا ترى أَنَّهَا تتَزَوَّج بعد بَعْلهَا زوجا غَيره، فتنقطع
العلاقة بِالْكُلِّيَّةِ.
وَبِالْجُمْلَةِ فالتوارث يدورعلى معَان ثَلَاثَة: الْقيام مقَام الْمَيِّت
فِي شرفه ومنصبه وَمَا هُوَ من هَذَا الْبَاب، فَإِن الْإِنْسَان يسْعَى كل
السَّعْي، ليبقي لَهُ خلف يقوم مقَامه، والخدمة. والمواساة. والرفق. والحدب
عَلَيْهِ من هَذَا الْبَاب، الثَّالِث الْقَرَابَة المتضمنة لهذين
الْمَعْنيين جَمِيعًا، والأقدم بِالِاعْتِبَارِ هُوَ الثَّالِث، ومظنتها
جَمِيعًا على وَجه الْكَمَال من يدْخل فِي عَمُود النّسَب كَالْأَبِ.
وَالْجد. وَالِابْن. وَابْن الابْن فَهَؤُلَاءِ أَحَق الْوَرَثَة
بِالْمِيرَاثِ، غير أَن قيام الابْن مقَام أَبِيه هُوَ الْوَضع الطبيعي
الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاء الْعَالم من انْقِرَاض قرن وَقيام الْقرن
الثَّانِي مقامهم، وَهُوَ الَّذِي يرجونه، ويتوقعونه، ويحصلون الْأَوْلَاد
والأحفاد لأَجله، أما قيام الْأَب بعد ابْنه فَكَأَنَّهُ لَيْسَ بِوَضْع
طبيعي، وَلَا مَا يطلبونه، ويتوقعونه، وَلَو أَن الرجل خير فِي مَاله
لكَانَتْ مواساة وَلَده أملك لِقَلْبِهِ من مواساة وَالِده، فَلذَلِك
كَانَت السّنة الفاشية فِي طوائف النَّاس تَقْدِيم الْأَوْلَاد على الأباء،
أما الْقيام مقَامه فمظنته بعد مَا ذكرنَا الْأُخوة وَمن فِي مَعْنَاهُ
مِمَّن هم كالعضد وكالصنو وَمن قوم
الْمَرْء وَأهل نسبه وشرفه، وَأما الْخدمَة والرفق فمظنة الْقَرَابَة
الْقَرِيبَة، فالأحق بِهِ الْأُم وَالْبِنْت وَمن فِي مَعْنَاهُمَا مِمَّن
يدْخل فِي عَمُود النّسَب، وَلَا تَخْلُو الْبَتّ من قيام مَا مقَامه، ثمَّ
الْأُخْت وَلَا تَخْلُو أَيْضا من قيام مَا مقَامه، ثمَّ من بِهِ علاقَة
التَّزَوُّج، ثمَّ أَوْلَاد الْأُم، وَالنِّسَاء لَا يُوجد فِيهِنَّ معنى
الحماية وَالْقِيَام مقَامه كَيفَ وَالنِّسَاء رُبمَا تَزَوَّجن فِي قوم
آخَرين، ويدخلن فيهم اللَّهُمَّ إِلَّا الْبِنْت وَالْأُخْت على ضعف
فيهمَا، وَيُوجد فِي النِّسَاء معنى الرِّفْق والحدب كَامِلا موفرا،
وَإِنَّمَا مَظَنَّة الْقَرَابَة الْقَرِيبَة جدا كالأم وَالْبِنْت ثمَّ
الْأُخْت دون الْبَعِيدَة كالعمة وعمة الْأَب، وَالْبَاب الأول يُوجد فِي
الْأَب وَالِابْن كَامِلا، ثمَّ الْأُخوة، ثمَّ الْأَعْمَام، وَالْمعْنَى
الثَّانِي يُوجد فِي الْأَب كَامِلا، ثمَّ الابْن، ثمَّ الْأَخ لأَب
(2/184)
وَأم أَو لأم، وَإِنَّمَا مَظَنَّة
الْقَرَابَة الْقَرِيبَة دون الْبَعِيدَة، فَمن ثمَّ لم يَجْعَل للعمة
شَيْء مِمَّا للعم لِأَنَّهَا لَا تذب عَنهُ كَمَا يذب الْعم وَلَيْسَت
كالاخت فِي الْقرب.
وَمِنْهَا أَن الذّكر يفضل على الْأُنْثَى إِذا كَانَا فِي منزلَة وَاحِدَة
أبدا لاخْتِصَاص الذُّكُور بحماية الْبَيْضَة والذب عَن الذمار، وَلِأَن
الرِّجَال عَلَيْهِم انفاقات كَثِيرَة، فهم أَحَق مَا يكون شبه المجان،
بِخِلَاف النِّسَاء فَإِنَّهُنَّ كل على أَزوَاجهنَّ أَو آبائهن أَو
أبنائهن، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم على بعض وَبِمَا
أَنْفقُوا}
وَقَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ فِي مَسْأَلَة ثلث الْبَاقِي: مَا
كَانَ الله ليريني أَن أفضل أما على أَب، غير أَن الْوَالِد لما اعْتبر
فَضله مرّة بجمعه بَين الْعُصُوبَة وَالْفَرْض وَلم يعْتَبر ثَانِيًا
بتضاعف نصِيبه أَيْضا، فَإِنَّهُ غمط لحق سَائِر الْوَرَثَة، وَأَوْلَاد
الْأُم لَيْسَ للذّكر مِنْهُم حماية للبيضة وَلَا ذب عَن الذمار،
فَإِنَّهُم من
قوم آخَرين، فَلم يفضل على الْأُنْثَى، وَأَيْضًا فَإِن قرابتهم منشعبة من
قرَابَة الْأُم فكأنهم جَمِيعًا إناث.
وَمِنْهَا أَنه إِذا اجْتمع جمَاعَة من الْوَرَثَة فَإِن كَانُوا فِي
مرتبَة وَاحِدَة وَجب أَن يوزع عَلَيْهِم لعدم تقدم وَاحِد مِنْهُم على
الآخر وَإِن كَانُوا فِي منَازِل شَتَّى فَذَلِك على وَجْهَيْن: إِمَّا أَن
يعمهم اسْم وَاحِد أَو جِهَة وَاحِدَة وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْأَقْرَب
يحجب الْأَبْعَد حرمانا لِأَن التَّوَارُث إِنَّمَا شرع حثا على التعاون
وَلكُل قرَابَة وتعاون كالرفق فِيمَن يعمهم اسْم الْأُم وَالْقِيَام مقَام
الرجل فِيمَن يعمهم اسْم الابْن والذب عَنهُ فِيمَن يعمهم اسْم
الْعُصُوبَة. وَلَا تتَحَقَّق هَذِه الْمصلحَة إِلَّا بِأَن يتَعَيَّن من
يُؤَاخذ نَفسه بذلك، ويلام على تَركه، ويتميز من سَائِر من هُنَالك
بِالنَّبلِ اما فضل سهم على سهم، فَلَا يَجدونَ لَهُ كثير بَال أَو تكون
أَسمَاؤُهُم وجهاتهم مُخْتَلفَة، وَالْأَصْل فِيهِ أَن الْأَقْرَب والأنفع
فِيمَا عِنْد الله من علم المظان الغالبية يحجب الْأَبْعَد نُقْصَانا.
وَمِنْهَا أَن السِّهَام الَّتِي تعين بهَا الْأَنْصِبَاء يجب أَن تكون
أجزاؤها ظَاهِرَة يتميزها بادئ الرَّأْي المحاسب وَغَيره، وَقد أَشَارَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله:
" إِنَّا أمة أُميَّة لَا نكتب وَلَا نحسب " إِلَى أَن الَّذِي يَلِيق أَن
يُخَاطب بِهِ جُمْهُور الْمُكَلّفين هُوَ مَا لَا يحْتَاج إِلَى تعمق فِي
الْحساب وَيجب أَن يكون بِحَيْثُ يظْهر فِيهَا تَرْتِيب الْفضل
وَالنُّقْصَان بادئ الرَّأْي، فآثر الشَّرْع من السِّهَام فصلين: الأول
الثُّلُثَانِ، وَالثلث، وَالسُّدُس، وَالثَّانِي النّصْف، وَالرّبع،
وَالثمن، فَإِن مخرجهما الْأَصْلِيّ أَولا الْأَعْدَاد، ويتحقق فيهمَا
ثَلَاث مَرَاتِب بَين كل مِنْهَا نِسْبَة
(2/185)
الشَّيْء إِلَى ضعفه ترفعا وَنصفه تنزلا،
وَذَلِكَ أدنى أَن يظْهر فِيهِ الْفضل وَالنُّقْصَان محسوسا متبينا، ثمَّ
إِذا اعْتبر فضل ظَهرت نسب أُخْرَى لَا بُد مِنْهَا فِي الْبَاب كالشيء
الَّذِي زيد على النّصْف، فَلَا يبلغ التَّمام وَهُوَ الثُّلُثَانِ،
وَالشَّيْء الَّذِي ينقص عَن النّصْف، وَلَا يبلغ الرّبع وَهُوَ الثُّلُث،
وَلم يعْتَبر الْخمس، والسبع لِأَن تَخْرِيج مخرجهما أدق، والترفع والتنزل
فيهمَا يحْتَاج إِلَى تعمق فِي الْحساب، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِن كن
نسَاء فَوق اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثلثا مَا ترك وَإِن كَانَت وَاحِدَة
فلهَا النّصْف}
أَقُول: يضعف نصيب الذّكر على الْأُنْثَى، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله}
وللبنت المنفردة النّصْف لِأَنَّهُ إِن كَانَ ابْن وَاحِد لأحاط المَال،
فَمن حق الْبِنْت الْوَاحِدَة أَن تَأْخُذ نصفه قَضِيَّة للتضعيف، والبنتان
حكمهمَا حكم الثَّلَاث بالأجماع، وَإِنَّمَا أعطيتا الثُّلثَيْنِ لِأَنَّهُ
لَو كَانَ مَعَ الْبِنْت ابْن لوجدت الثُّلُث،، فالبنت الْأُخْرَى أولى
أَلا ترزأ نصِيبهَا من الثُّلُث، وَإِنَّمَا أفضل للْعصبَةِ الثُّلُث لِأَن
للبنات مَعُونَة وللعصبات مَعُونَة، فَلم يسْقط إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى،
لَكِن كَانَت الْحِكْمَة أَن يفضل من فِي عَمُود النّسَب على من يُحِيط
بِهِ من جوانبه، وَذَلِكَ نِسْبَة الثُّلثَيْنِ من الثُّلُث، وَكَذَلِكَ
حَال الْوَالِدين مَعَ الْبَنِينَ وَالْبَنَات، وَقَالَ الله تَعَالَى:
{ولأبويه لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس مِمَّا ترك إِن كَانَ لَهُ ولد
فَإِن لم يكن لَهُ ولد وَورثه أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث فَإِن كَانَ لَهُ
إخْوَة فلأمه السُّدس} الْآيَة.
أَقُول: قد علمت أَن الْأَوْلَاد أَحَق بِالْمِيرَاثِ من الْوَالِدين،
وَذَلِكَ بِأَن يكون لَهُم الثُّلُثَانِ، وَلَهُمَا الثُّلُث، وَإِنَّمَا
لم يَجْعَل نصيب الْوَالِد أَكثر من نصيب
الْأُم لِأَنَّهُ اعْتبر فَضله من جِهَة قِيَامه مقَام الْوَلَد وذبه عَنهُ
مرّة وَاحِدَة بالعصوبة، فَلَا يعْتَبر ذَلِك الْفضل بِعَيْنِه فِي حق
التَّضْعِيف أَيْضا، وَعند عدم الْوَلَد لَا أَحَق من الْوَالِدين، فأحاط
تَمام الْمِيرَاث، وَفضل الْأَب على الْأُم، وَقد علمت أَن الْفضل
الْمُعْتَبر فِي أَكثر هَذِه الْمسَائِل فضل التَّضْعِيف، ثمَّ إِن كَانَ
الْمِيرَاث للْأُم والأخوة وهم أَكثر من وَاحِد وَجب أَن ينقص سهمها إِلَى
السُّدس لِأَنَّهُ إِن لم تكن الْأُخوة عصبَة، وَكَانَت الْعَصَبَات أبعد
من ذَلِك فالعصوبة، والرفق، والمودة على السوَاء، فَجعل النّصْف لهَؤُلَاء،
وَالنّصف لهَؤُلَاء ثمَّ قسم النّصْف على الْأُم وَأَوْلَادهَا، فَجعل
السُّدس لَهَا أَلْبَتَّة لَا ينقص سهمها مِنْهُ، وَالْبَاقِي لَهُم
جَمِيعًا، وَإِن كَانَت الْأُخوة
(2/186)
عصبات فقد اجْتمع فيهم الْقَرَابَة
الْقَرِيبَة والحماية، وَكَثِيرًا مَا يكون مَعَ ذَلِك وَرَثَة آخَرُونَ
كالبنت والبنين وَالزَّوْج فَلَو لم يَجْعَل لَهَا السُّدس حصل التفسيق
عَلَيْهِم. وَقَالَ تَعَالَى:
{وَلكم نصف مَا ترك أزواجكم إِن لم يكن لَهُنَّ ولد فَإِن كَانَ لَهُنَّ
ولد فلكم الرّبع مِمَّا تركن من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين ولهن
الرّبع مِمَّا تركْتُم إِن لم يكن لكم ولد فَإِن كَانَ لكم ولد فَلَهُنَّ
الثّمن مِمَّا تركْتُم من بعد وَصِيَّة توصون بهَا أَو دين} .
أَقُول: الزَّوْج يَأْخُذ الْمِيرَاث لِأَنَّهُ ذُو الْيَد عَلَيْهَا وعَلى
مَالهَا، فاخراج المَال من يَده يسوؤه، وَلِأَنَّهُ يودع مِنْهَا، ويأمنها
فِي ذَات يَده حَتَّى يتخيل أَن لَهُ حَقًا قَوِيا فِيمَا فِي يَدهَا أَو
الزَّوْجَة تَأْخُذ حق الْخدمَة والمواساة والرفق ففضل الزَّوْج على
الزَّوْجَة، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء}
ثمَّ اعْتبر أَلا يضيقا على الْأَوْلَاد، وَقد علمت أَن الْفضل الْمُعْتَبر
فِي أَكثر الْمسَائِل فضل التَّضْعِيف قَالَ تَعَالَى:
{وَإِن كَانَ رجل يُورث كللة أَو امْرَأَة وَله أَخ أَو أُخْت فَلِكُل
وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس فَإِن كَانُوا أَكثر من ذَلِك فهم شُرَكَاء فِي
الثُّلُث} .
أَقُول: هَذِه الْآيَة فِي أَوْلَاد الْأُم للاجماع، وَلما لم يكن لَهُ
وَالِد وَلَا ولد جعل لحق الرِّفْق - إِذا كَانَت فيهم الْأُم - النّصْف،
وَلحق النُّصْرَة والحماية النّصْف، فان لم تكن أم جعل لَهُم الثُّلُثَانِ،
ولهؤلاء الثُّلُث، قَالَ الله تَعَالَى:
{يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الكللة إِن امرؤا هلك لَيْسَ لَهُ ولد وَله
أُخْت فلهَا نصف مَا ترك وَهُوَ يَرِثهَا إِن لم يكن لَهَا ولد فَإِن
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا ترك وَإِن كَانُوا
أخوة رجَالًا وَنسَاء فللذكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ} الْآيَة.
أَقُول: هَذِه الْآيَة فِي أَوْلَاد الْأَب بني الْأَعْيَان وَبني العلات
بالاجماع، والكلالة من لَا وَالِد لَهُ وَلَا ولد، وَقَوله (لَيْسَ لَهُ
ولد) كشف لبَعض حَقِيقَة الْكَلَالَة، وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَنه إِذا لم
يُوجد من يدْخل فِي عَمُود النّسَب حمل أقرب من يشبه الْأَوْلَاد وهم
الْأُخوة وَالْأَخَوَات على الْأَوْلَاد.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألْحقُوا
الْفَرَائِض بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِي فَهُوَ لأولى، رجل ذكر ".
أَقُول: قد علمت أَن الأَصْل فِي التَّوَارُث مَعْنيانِ، وَقد ذكرناهما
وَأَن الْمَوَدَّة، والرفق لَا يعْتَبر إِلَّا فِي الْقَرَابَة الْقَرِيبَة
جدا كالأم والأخوة دون مَا سوى ذَلِك، فَإِذا جاوزهم
(2/187)
الْأَمر تعين التَّوَارُث بِمَعْنى الْقيام
مقَام الْمَيِّت والنصرة لَهُ، وَذَلِكَ قوم الْمَيِّت وَأهل نسبه وشرفه
الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر وَلَا الْكَافِر الْمُسلم ". أَقُول:
إِنَّمَا شرع ذَلِك ليَكُون طَرِيقا إِلَى قطع الْمُوَاسَاة بَينهمَا، فان
اخْتِلَاط الْمُسلم بالكافر يفْسد عَلَيْهِ دينه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى
فِي حكم النِّكَاح:
{أُولَئِكَ يدعونَ إِلَى النَّار}
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقَاتِل لَا يَرث " أَقُول إِنَّمَا شرع ذَلِك لِأَن من الْحَوَادِث
الْكَثِيرَة الْوُقُوع أَن يقتل الْوَارِث مُوَرِثه، ليحرز مَاله لَا
سِيمَا فِي أَبنَاء الْعم وَنَحْوهم، فَيجب أَن تكون السّنة بَينهم تأييس
من فعل ذَلِك عَمَّا أَرَادَهُ، لتقطع عَنْهُم تِلْكَ الْمفْسدَة، وَجَرت
السّنة أَلا برث العَبْد، وَلَا يُورث، وَذَلِكَ لِأَن مَاله لسَيِّده
وَالسَّيِّد أَجْنَبِي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أَعْيَان بني الْأُم يتوارثون دون بني العلات " أَقُول وَذَلِكَ لما
ذكرنَا من أَن الْقيام مقَام الْمَيِّت مبناه على الِاخْتِصَاص وحجب
الْأَقْرَب والأبعد بالحرمان، وأجمعت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي
زوج وأبوين وَامْرَأَة وأبوين أَن للْأُم ثلث الْبَاقِي، وَقد بَين ابْن
مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ ذَلِك. بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ حَدِيث قَالَ:
مَا كَانَ الله ليريني أَن أفضل أما على
أَب، وَقضى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بنت وَابْنَة
ابْن وَأُخْت لأَب وَأم للابنة النّصْف ولابنة الابْن السُّدس وَمَا بَقِي
فللاخت.
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْأَبْعَد لَا يزاحم الْأَقْرَب فِيمَا يجوزه،
فَمَا بَقِي فان الْأَبْعَد أَحَق بِهِ حَتَّى يسْتَوْفى مَا جعل الله
لذَلِك النّصْف، فالابنة تَأْخُذ النّصْف كملا وَابْنَة الابْن فِي حكم
الْبَنَات، فَلم تزاحم الْبِنْت الْحَقِيقِيَّة، واستوفت مَا بَقِي من نصيب
الْبَنَات، ثمَّ كَانَت الْأُخْت عصبَة لِأَن فِيهَا معنى من الْقيام مقَام
الْبِنْت وَهِي من أهل شرفه.
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي زوج وَأم، وأخوة لأَب وَأم، وأخوة لأم:
لم يزدهم الْأَب إِلَّا قربا، وتابع عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود، وَزيد،
وَشُرَيْح، رَضِي الله عَنْهُم، وخلائق، وَهَذَا القَوْل أوفق الْأَقْوَال
بقوانين الشَّرْع، وَقضى للجدة بالسدس إِقَامَة لَهَا مقَام الْأُم عِنْد
عدمهَا. وَكَانَ أَبُو بكر، وَعُثْمَان، وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم
يجْعَلُونَ الْجد ابا، وَهُوَ أولى الْأَقْوَال عِنْدِي.
وَأما الْوَلَاء فالسر فِيهِ النُّصْرَة وحماية الْبَيْضَة، فالأحق بهَا
مولى النِّعْمَة، ثمَّ بعده الذُّكُور من قومه الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب،
وَالله أعلم.
(2/188)
|