حجة الله
البالغة (الْبيُوع الْمنْهِي عَنْهَا)
اعْلَم أَن الميسر سحت بَاطِل؛ لِأَنَّهُ اختطاف لأموال النَّاس عَنْهُم.
مُعْتَمد على اتِّبَاع جهل وحرص وأمنية بَاطِلَة وركوب غرر تبعثه هَذِه على
الشَّرْط، وَلَيْسَ لَهُ دخل فِي التمدن والتعاون، فان سكت المغبون سكت على
غيظ وخيبة، وَإِن خَاصم خَاصم فِيمَا الْتَزمهُ بِنَفسِهِ، واقتحم فِيهِ
بِقَصْدِهِ، والغابن يستلذه، ويدعوه قَلِيله إِلَى كَثِيره، وَلَا يَدعه
حرصه أَن يقْلع عَنهُ، وَعَما قَلِيل تكون الترة عَلَيْهِ، وَفِي الاعتياد
بذلك إِفْسَاد للأموال ومناقشات طَوِيلَة وإهمال للارتفاقات الْمَطْلُوبَة
وإعراض عَن التعاون الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ التمدن، والمعاينة تغنيك عَن
الْخَبَر، هَل رَأَيْت من أهل الْقمَار إِلَّا مَا ذَكرْنَاهُ.
وَكَذَلِكَ الرِّبَا، وَهُوَ الْقَرْض على أَن يُؤَدِّي إِلَيْهِ أَكثر أَو
أفضل مِمَّا أَخذ سحت بَاطِل فَإِن عَامَّة المقترضين بِهَذَا النَّوْع هم
المفاليس المضطرون، وَكَثِيرًا مَا لَا يَجدونَ الْوَفَاء عِنْد الْأَجَل،
فَيصير أضعافا مضاعفة لَا يُمكن التَّخَلُّص مِنْهُ أبدا، وَهُوَ مَظَنَّة
لمناقشات
(2/164)
عَظِيمَة وخصومات مستطيرة، وَإِذا جرى
الرَّسْم باستنماء المَال بِهَذَا الْوَجْه أفْضى إِلَى ترك الزراعات
والصناعات الَّتِي هِيَ أصُول المكاسب، وَلَا شَيْء فِي الْعُقُود أَشد
تدقيقا واعتناء بِالْقَلِيلِ وخصومة من الرِّبَا، وَهَذَانِ الكسبان
بِمَنْزِلَة السكر مناقضان لأصل مَا شرع الله لِعِبَادِهِ من المكاسب،
وَفِيهِمَا قبح ومناقشة، وَالْأَمر فِي مثل ذَلِك إِلَى الشَّارِع، إِمَّا
أَن يضْرب لَهُ حدا يرخص فِيمَا دونه ويغلظ النَّهْي عَمَّا فَوْقه أَو يصد
عَنهُ رَأْسا.
وَكَانَ الميسر والربا شائعين فِي الْعَرَب، وَكَانَ قد حدث بسببهما
مناقشات
عَظِيمَة لَا انْتِهَاء لَهَا ومحاربات، وَكَانَ قليلهما يدعوا إِلَى
كثيرهما، فَلم يكن أصوب وَلَا أَحَق من أَن يُرَاعى حكم الْقبْح وَالْفساد
موفرا، فينهى عَنْهُمَا بِالْكُلِّيَّةِ.
وَاعْلَم أَن الرِّبَا على الْوَجْهَيْنِ: حَقِيقِيّ. ومحمول عَلَيْهِ.
أما الْحَقِيقِيّ فَهُوَ فِي الدُّيُون، وَقد ذكرنَا أَن فِيهِ قلبا لموضوع
الْمُعَامَلَات، وَأَن النَّاس كَانُوا منهمكين فِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّة
اشد انهماك، وَكَانَ حدث لأَجله محاربات مستطيرة، وَكَانَ قَلِيله يدعوا
إِلَى كَثِيره، فَوَجَبَ أَن يسد بَابه بِالْكُلِّيَّةِ، وَلذَلِك نزل فِي
الْقُرْآن فِي شَأْنه مَا نزل.
وَالثَّانِي رَبًّا الْفضل، وَالْأَصْل فِيهِ الحَدِيث المستفيض " الذَّهَب
بِالذَّهَب. وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ. وَالْبر بِالْبرِّ. وَالشعِير
بِالشَّعِيرِ. وَالتَّمْر بالنمر. وَالْملح بالملح، مثلا بِمثل، وَسَوَاء
بِسَوَاء يدا بيد، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف، فبيعوا كَيفَ شِئْتُم
إِذا كَانَ يدا بيد " وَهُوَ مُسَمّى بربا تَغْلِيظًا وتشبيها لَهُ بالربا
الْحَقِيقِيّ على حد قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" المنجم كَاهِن " وَبِه يفهم معنى قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" لَا رَبًّا إِلَّا فِي النَّسِيئَة " ثمَّ كثر فِي الشَّرْع اسْتِعْمَال
الرِّبَا فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى صَار حَقِيقَة شَرْعِيَّة فِيهِ
أَيْضا وَالله أعلم.
وسر التَّحْرِيم أَن الله تَعَالَى يكره الرَّفَاهِيَة الْبَالِغَة كالحرير
والارتفاقات المحوجة إِلَى الإمعان فِي طلب الدُّنْيَا كآنية الذَّهَب
الْفضة، وحلي غير مقطع من الذَّهَب وكالسوار والخلخال والطوق والتدقيق فِي
الْمَعيشَة والتعمق فِيهَا لِأَن ذَلِك مُرَاد لَهُم فِي أَسْفَل السافلين
صَارف لأفكارهم إِلَى ألوان مظْلمَة،
وَحَقِيقَة الرَّفَاهِيَة طلب الْجيد من كل ارتفاق، والاعراض عَن رديئه،
والرفاهية الْبَالِغَة اعْتِبَار الْجَوْدَة والرداءة فِي الْجِنْس
الْوَاحِد.
(2/165)
وتفصيل ذَلِك أَنه لَا بُد من التعيش بقوت
مَا من الأقوات، والتمسك بِنَقْد مَا من النُّقُود، وَالْحَاجة إِلَى
الأقوات جَمِيعهَا وَاحِدَة، وَالْحَاجة إِلَى النُّقُود جَمِيعهَا
وَاحِدَة، ومبادلة إِحْدَى القبيلتين بِالْأُخْرَى من أصُول الارتفاقات
الَّتِي لَا بُد للنَّاس مِنْهَا، وَلَا ضَرُورَة فِي مُبَادلَة شَيْء
بِشَيْء يَكْفِي كِفَايَته، وَمَعَ ذَلِك، فَأوجب اخْتِلَاف أمزجتهم
وعاداتهم أَن تَتَفَاوَت مَرَاتِبهمْ فِي التعيش، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{نَحن قسمنا بَينهم معيشتهم فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا ورفعنا بَعضهم فَوق
بعض دَرَجَات ليتَّخذ بَعضهم بَعْضًا سخريا} .
فَيكون مِنْهُم من يَأْكُل الْأرز وَالْحِنْطَة، وَمِنْهُم من يَأْكُل
الشّعير والذرة، وَيكون مِنْهُم من يتحلى بِالْفِضَّةِ.
وَأما تميز النَّاس فِيمَا بَينهم بأقسام الْأرز وَالْحِنْطَة مثلا
وَاعْتِبَار فضل بَعْضهَا على بعض، وَكَذَلِكَ اعْتِبَار الصناعات الدقيقة
فِي الذَّهَب وطبقات عياره، فَمن عَادَة المسرفين والأعاجم، والامعان فِي
ذَلِك تعمق فِي الدُّنْيَا، فالمصلحة حاكمة بسد هَذَا الْبَاب، وتفطن
الْفُقَهَاء أَن الرِّبَا الْمحرم يجْرِي فِي غير الْأَعْيَان السِّتَّة
الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، وَأَن الحكم مُتَعَدٍّ مِنْهَا إِلَى كل مُلْحق
بِشَيْء مِنْهَا، ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْعلَّة.
والأوفق بقوانين الشَّرْع أَن تكون فِي النَّقْدَيْنِ الثمينة، وتختص بهما،
وَفِي الْأَرْبَعَة المقتات المدخر، وَأَن الْملح لَا يُقَاس عَلَيْهِ
الدَّوَاء والتوابل
لِأَن للطعام إِلَيْهِ حَاجَة لَيست إِلَى غَيره، وَلَا عشر تِلْكَ
الْحَاجة، فَهُوَ جُزْء مقوت وبمنزلة نَفسه دون سَائِر الْأَشْيَاء،
وَإِنَّمَا ذَهَبْنَا إِلَى ذَلِك لِأَن الشَّرْع اعْتبر الثمينة فِي كثير
من الاحكام كوجوب التَّقَابُض فِي الْمجْلس، ولان الحَدِيث ورد بِلَفْظ
الطَّعَام، وَالطَّعَام يُطلق فِي الْعرف على مَعْنيين: أَحدهمَا الْبر
وَلَيْسَ بِمُرَاد، وَالثَّانِي المقتات المدخر، وَلذَلِك يَجْعَل قسيما
للفاكهة والتوابل، وَإِنَّمَا أوجب التَّقَابُض فِي الْمجْلس لمعنيين،
أحمدهما الطَّعَام والنقد الْحَاجة إِلَيْهِمَا أَشد الْحَاجَات وأكثرهما
وقوعا، وَالِانْتِفَاع بهما لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالإفناء والإخراج من
الْملك، وَرُبمَا ظَهرت خُصُومَة عِنْد الْقَبْض وَيكون الْبَدَل قد فنى،
وَذَلِكَ أقبح المناقشة، فَوَجَبَ أَن يسد هَذَا الْبَاب بألا يَتَفَرَّقَا
إِلَّا عَن قبض، وَلَا يبْقى بَينهمَا شَيْء، وَقد اعْتبر الشَّرْع هَذِه
الْعلَّة فِي النَّهْي عَن بيع الطَّعَام قبل أَن يسْتَوْفى، وَحَيْثُ
قَالَ فِي اقْتِضَاء الذَّهَب من الْوَرق: " مَا لم تتفرقا وبينكما شَيْء
"، وَالثَّانِي إِنَّه إِذا كَانَ النَّقْد فِي جَانب وَالطَّعَام أَو
غَيره فِي جَانب، فالنقد وَسِيلَة لطلب الشَّيْء كَمَا هُوَ مُقْتَضى
النقدية، فَكَانَ حَقِيقا بِأَن يبْذل قبل الشَّيْء، وَإِذا
(2/166)
كَانَ فِي كلا الْجَانِبَيْنِ النَّقْد أَو
الطَّعَام كَانَ الحكم يبْذل أَحدهمَا تحكما، وَلَو لم يبْذل من
الْجَانِبَيْنِ كَانَ بيع الكالئ بالكالئ وَرُبمَا يشح بِتَقْدِيم
الْبَذْل، فَاقْتضى الْعدْل أَن يقطع الْخلاف بَينهمَا، ويؤمرا جَمِيعًا
أَلا يَتَفَرَّقَا إِلَّا عَن قيض، وَإِنَّمَا خص الطَّعَام والنقد
لِأَنَّهُمَا أصلا الْأَمْوَال وأكثرها تعاورا، وَلَا ينْتَفع بهما إِلَّا
بعد إهلاكهما، فَلذَلِك كَانَ الْحَرج فِي التَّفَرُّق عَن بيعهمَا قبل
الْقَبْض أَكثر وأفضى إِلَى الْمُنَازعَة، وَالْمَنْع فيهمَا أردع من تدقيق
الْمُعَامَلَة.
وَاعْلَم أَن مثل هَذَا الحكم إِنَّمَا يُرَاد بِهِ أَلا يجْرِي الرَّسْم
بِهِ، وَألا يعْتَاد تكسب ذَلِك النَّاس لَا أَلا يفعل شَيْء مِنْهُ أصلا،
وَلذَلِك قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِبلَال: " بِعْ التَّمْر
بِبيع آخر، ثمَّ اشْتَرِ بِهِ ".
وَاعْلَم أَن من الْبيُوع مَا يجْرِي فِيهِ معنى الميسر، وَكَانَ أهل
الْجَاهِلِيَّة يتعاملون بهَا فِيمَا بَينهم، فَنهى عَنْهَا النَّبِي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مِنْهَا الْمُزَابَنَة أَن يَبِيع الرجل الثَّمر فِي رُءُوس النّخل
بِمِائَة فرق من التَّمْر مثلا.
والمحاقلة أَن يَبِيع الزَّرْع بِمِائَة فرق حِنْطَة، وَرخّص فِي
الْعَرَايَا بِخرْصِهَا من التَّمْر فِيمَا دون خَمْسَة أوسق لِأَنَّهُ عرف
أَنهم لَا يقصدون فِي ذَلِك الْقدر الميسر، وَإِنَّمَا يقصدون أكلهَا رطبا،
وَخَمْسَة أوسق هُوَ نِصَاب الزَّكَاة وَهِي مِقْدَار مَا يتفكه بِهِ أهل
الْبَيْت.
وَمِنْهَا بيع الصُّبْرَة من الثَّمر لَا يعلم مكيلتها بِالْكَيْلِ
الْمُسَمّى من التَّمْر.
وَالْمُلَامَسَة أَن يكون لمس الرجل ثوب الآخر بِيَدِهِ بيعا.
والمنابذة أَن يكون نبذ الرجل بِثَوْبِهِ بيعا من غير نظر.
وَبيع الْحَصَاة أَن يكون وُقُوع الْحَصَاة بيعا.
فَهَذِهِ الْبيُوع فِيهَا معنى الميسر، وفيهَا قلب مَوْضُوع الْمُعَامَلَة،
وَهُوَ اسْتِيفَاء حَاجته بترو وَتثبت.
وَنهى عَن بيع العربان أَن يقدم إِلَيْهِ شَيْء من الثّمن، فَإِن اشْترى
حسب من الثّمن، وَإِلَّا فَهُوَ لَهُ مجَّانا وَفِيه معنى الميسر.
(2/167)
وَسُئِلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَن اشْتِرَاء التَّمْر بالرطب، فَقَالَ: أينقص إِذا
يبس؟ فَقَالَ. نعم، فَنَهَاهُ عَن ذَلِك " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أحد
وُجُوه الميسر؛ وَفِيه احْتِمَال رَبًّا الْفضل، فَإِن الْمُعْتَبر حَتَّى
تَمام الشَّيْء.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" قلادة فِيهَا ذهب وخرز: " لَا تبَاع حَتَّى تفصل " أَقُول: وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ أحد وُجُوه الميسر ومظنة أَن يغبن أَحدهمَا، فيسكت على غيظ، أَو
يُخَاصم فِي غير حق.
وَاعْلَم أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث فِي الْعَرَب،
وَلَهُم معاملات وبيوع، فَأوحى الله إِلَيْهِ كَرَاهِيَة بَعْضهَا وَجَوَاز
بَعْضهَا، والكراهية تَدور على معَان: مِنْهَا أَن يكون شَيْء قد جرت
الْعَادة بِأَن يقتنى لمعصية، أَو يكون الِانْتِفَاع الْمَقْصُود بِهِ
عِنْد النَّاس نوعا من الْمعْصِيَة كَالْخمرِ، والأصنام، والطنبور، فَفِي
جَرَيَان الرَّسْم بِبَيْعِهَا واتخاذها تنويه بِتِلْكَ الْمعاصِي وَحمل
النَّاس عَلَيْهَا وتقريب لَهُم مِنْهَا، وَفِي تَحْرِيم بيعهَا واقتنائها
إخمال لَهَا وتقريب لَهُم من أَلا يباشروها، قَالَ رَسُول الله إِنَّا: "
أَن الله وَرَسُوله حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير والأصنام ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الله إِذا حرم شَيْئا حرم ثمنه " يَعْنِي إِذا كَانَ وَجه
الِاسْتِمْتَاع بالشَّيْء مُتَعَيّنا كَالْخمرِ يتَّخذ للشُّرْب. والصنم
لِلْعِبَادَةِ، فحرمه الله - اقْتضى ذَلِك فِي حِكْمَة الله تَحْرِيم
بيعهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مهر الْبَغي خَبِيث " نهى صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن حلوان الكاهن - وَنهى عَن كسب الزمارة.
أَقُول: المَال الَّذِي يحصل من مخامرة الْمعْصِيَة لَا يحل الِاسْتِمْتَاع
بِهِ لمعنيين: أَحدهمَا أَن تَحْرِيم هَذَا المَال وَترك الِانْتِفَاع بِهِ
زاجر عَن تِلْكَ الْمعْصِيَة. وجريان الرَّسْم بِتِلْكَ الْمُعَامَلَة جالب
للْفَسَاد حَامِل لَهُم عَلَيْهِ، وَثَانِيهمَا
أَن الثّمن نَاشِئ من الْمَبِيع فِي مدارك النَّاس وعلومهم، فَكَانَ عِنْد
الْمَلأ الْأَعْلَى للثّمن وجود تشبيهي أَنه الْمَبِيع، وللأجرة وجود
تشبيهي أَنه الْعَمَل، فانجر الْخبث إِلَيْهِ فِي علومهم، فَكَانَ لتِلْك
الصُّورَة العلمية أثر فِي نفوس النَّاس.
وَلعن رَسُول الله فِي الْخمر عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها،
(2/168)
والمحمولة إِلَيْهِ.
أَقُول: الْإِعَانَة فِي الْمعْصِيَة وترويجها وتقريب النَّاس إِلَيْهَا
مَعْصِيّة وَفَسَاد فِي الأَرْض، وَمِنْهَا أَن مُخَالطَة النَّجَاسَة
كالميتة وَالدَّم والسرقين والعذرة فِيهَا شناعة وَسخط، وَيحصل بهَا مشابهة
الشَّيَاطِين، والنظافة وهجر الرجز من أصُول مَا بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لإقامته وَبِه تحصل مشابهة الْمَلَائِكَة وَالله يحب
المتطهرين.
وَلما لم يكن بُد من إِبَاحَة بعض المخالطة إِذْ فِي سد الْبَاب فِي
بِالْكُلِّيَّةِ حرج وَجب أَن ينْهَى عَن التكسب بمعالجته وَالتِّجَارَة
فِيهِ، وَفِي معنى النَّجَاسَة الرَّفَث الَّذِي يستحيا مِنْهُ كالفساد
وَلذَلِك حرم بيع الْميتَة وَنهى عَن كسب الْحجام، وَقَالَ عِنْد
الضَّرُورَة " أطْعمهُ ناضجك " وَعَن عسب الْفَحْل، ويروى وضراب الْجمل
وَرخّص فِي الْكَرَامَة، وَهِي مَا يعْطى من غير شَرط.
وَمِنْهَا أَلا تَنْقَطِع الْمُنَازعَة بَين الْعَاقِدين لابهام فِي
الْعِوَضَيْنِ، أَو يكون العقد بيعَة بَين ببعتين أَو لَا يُمكن تحقق
الرِّضَا إِلَّا بِرُؤْيَة الْمَبِيع وَلم يره أَو يكون فِي البيع شَرط
يحْتَج بِهِ من بعد.
وَنهى رَسُول الله عَن بيع المضامين. والملاقيح، فالمضامين مَا فِي أصلاب
الفحول، والملاقيح مَا فِي الْبُطُون، وَعَن بيع حَبل
الحبلة، وَعَن بيع الكالئ بالكالئ، وَعَن ببعتين فِي ببعة أَن يكون البيع
بِأَلف نَقْدا وألفين نَسِيئَة لِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن أحد الْأَمريْنِ
عِنْد العقد، وَقيل: أَن يَقُول بعنى هَذَا بِأَلف على أَن تبيعني ذَاك
بِكَذَا، وَهَذَا شَرط يحْتَج بِهِ الشارط من بعد فيخاصم، وَمِنْه أَن
يَبِيع بِشَرْط إِن أَرَادَ البيع فَهُوَ أَحَق بِهِ، وَقَالَ فِيهِ عمر
رَضِي الله عَنهُ: لَا تحل لَك وفيهَا شَرط لأحد.
وَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الثنيا حَتَّى يعلم،
مثل أَن يَبِيع عشرَة أفراق إِلَّا شَيْئا لِأَن فِيهِ جَهَالَة مفضية
إِلَى الْمُنَازعَة، وَمَا كل جَهَالَة تفْسد البيع، فَإِن كثيرا من
الْأُمُور يتْرك مهملا فِي البيع، وَاشْتِرَاط الِاسْتِقْصَاء ضَرَر
وَلَكِن الْمُفْسد هُوَ المفضي إِلَى الْمُنَازعَة، وَمِنْهَا أَن يقْصد
بِهَذَا البيع مُعَاملَة أُخْرَى يترقبها فِي ضمنه أَو مَعَه لِأَنَّهُ إِن
فقد الْمَطْلُوب لم يكن لَهُ أَن يُطَالب، وَلَا أَن يسكت، وَمثل هَذَا
حقيق بِأَن يكون سَببا للخصومة بِغَيْر حق، وَلَا يقْضِي فِيهَا بِشَيْء
فصل.
(2/169)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" لَا يحل بيع وَسلف وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع " مثل أَن يَقُول بِعْت هَذَا
على أَن تقرضني كَذَا، وَمعنى الشَّرْطَيْنِ أَن يشْتَرط حُقُوق البيع،
وَيشْتَرط شَيْئا خَارِجا مِنْهَا مثل أَن يَهبهُ كَذَا، أَو يشفع لَهُ
إِلَى فلَان، أَو إِن احْتَاجَ إِلَى بَيْعه لم يبع إِلَّا مِنْهُ، وَنَحْو
ذَلِك، فَهَذَا شَرْطَانِ فِي صَفْقَة وَاحِدَة.
وَمِنْهَا أَلا يكون التَّسْلِيم بيد الْعَاقِد، كمبيع لَيْسَ بيد
البَائِع، وَإِنَّمَا هُوَ حق توجه لَهُ على غَيره، وَشَيْء لَا يجده
إِلَّا بِرَفْع قَضِيَّة أَو إِقَامَة بَيِّنَة أَو سعى واحتيال أَو
اسْتِيفَاء واكتيال أَو نَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ مَظَنَّة أَن يكون قَضِيَّة
فِي قَضِيَّة أَو يحصل غرر وتخبيب، وكل مَا لَيْسَ عنْدك فَلَا تأمن أَن
تَجدهُ إِلَّا بِجهْد
النَّفس وَرُبمَا يُطَالِبهُ المُشْتَرِي بِالْقَبْضِ، فَلَا يكون عِنْده
فَيُطَالب الَّذِي توجه عَلَيْهِ حَقه، أَو يذهب ليصطاد من الْبَريَّة، أَو
يَشْتَرِي من السُّوق، أَو يستوهب من صديقه، وَهَذَا أَسد المناقشات.
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ".
وَنهى عَن بيع الْغرَر، وَهُوَ الَّذِي لَا يتَيَقَّن أَنه مَوْجُود أَو
لَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ابْتَاعَ طَعَاما فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيه " قيل: مَخْصُوص
بِالطَّعَامِ لِأَنَّهُ أَكثر الْأَمْوَال تعاورا وحاجة " وَلَا ينْتَفع
بِهِ إِلَّا باهلاكه، فَإِذا لم يستوفه فَرُبمَا تصرف فِيهِ البَائِع،
فَيكون قَضِيَّة فِي قَضِيَّة وَقيل: يجْرِي فِي الْمَنْقُول لِأَنَّهُ
مَظَنَّة أَن يتَغَيَّر، ويتعيب، فَتحصل الْخُصُومَة وَقَالَ ابْن عَبَّاس
رَضِي الله عَنْهُمَا: وَلَا أَحسب كل شَيْء إلامثله وَهُوَ الأقيس بِمَا
ذكرنَا من الْعلَّة.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مَظَنَّة لمناقشات وَقعت فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعرف أَنه حقيق بِأَن تكون فِيهِ المناقشات كَمَا ذكر
زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ أَنهم كَانُوا يحتجون بعاهات تصيب الثِّمَار
يَقُولُونَ: أَصَابَهَا قشام دمان فَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَن بيع الثمارحتى يَبْدُو صَلَاحهَا، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن
يشْتَرط الْقطع فِي الْحَال، وَعَن السَّبِيل حَتَّى يبيض، ويأمن العاهة،
وَقَالَ: " أَرَأَيْت إِذا منع الله الثَّمر بِمَ يَأْخُذ أحدكُم مَال
أَخِيه " يَعْنِي أَنه غرر، لِأَنَّهُ على خطر أَن يهْلك، فَلَا يجد
الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَقد لزمَه الثّمن، وَكَذَا فِي بيع السنين.
(2/170)
وَمِنْهَا مَا يكون سَببا لسوء انتظام
الْمَدِينَة وإضرار بَعْضهَا بَعْضًا، فَيجب
إخمالها والصد عَنْهَا، قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" لَا تلقوا الركْبَان لبيع، وَلَا يبع بَعْضكُم على بيع بعض، وَلَا يسم
الرجل على سوم أَخِيه وَلَا تناجشوا، وَلَا يبع حَاضر لباد ".
أَقُول: أما تلقي الركْبَان فَهُوَ أَن يقدم ركب بِتِجَارَة فيتلقاه رجل
قبل أَن يدخلُوا الْبَلَد، ويعرفوا السّعر، فيشتري مِنْهُم بأرخص من سعر
الْبَلَد، وَهَذَا مَظَنَّة ضَرَر بالبائع، لِأَنَّهُ إِن نزل بِالسوقِ
كَانَ أغْلى لَهُ وَلذَلِك كَانَ لَهُ الْخِيَار إِذا عثر على الضَّرَر،
وضرر بالعامة لِأَنَّهُ تُوجد فِي تِلْكَ التِّجَارَة حق أهل الْبَلَد
جَمِيعًا، والمصلحة المدنية تَقْتَضِي أَن يقدم الأحوج فالأحوج، فَإِن
اسْتَووا سوى بَينهم أَو أَقرع، فاستئثار وَاحِد مِنْهُم بالتلقي نوع من
الظُّلم، وَلَيْسَ لَهُم الْخِيَار لِأَنَّهُ لم يفْسد عَلَيْهِم مَالهم،
وَإِنَّمَا منع مَا كَانُوا يرجونه.
وَأما البيع على البيع فَهُوَ تضييق على أَصْحَابه من التُّجَّار وَسُوء
مُعَاملَة مَعَهم، وَقد توجه حق البَائِع الأول وَظهر وَجه لرزقه فافساده
عَلَيْهِ ومزاجته فِيهِ نوع من ظلم.
وَكَذَا السّوم على سوم أَخِيه فِي التَّضْيِيق على المشترين والإساءة
مَعَهم، وَكثير من المناقشات والأحقاد تنبعث فيهم من أجل هذَيْن.
والنجش فِي زِيَادَة الثّمن بِلَا رَغْبَة فِي الْمَبِيع تغريرا للمشترين،
وَفِيه من الضَّرَر مَا لَا يخفى.
وَبيع الْحَاضِر للبادى أَن يحمل البدوي مَتَاعه إِلَى الْبَلَد يُرِيد أَن
يَبِيعهُ بِسعْر يَوْمه، فيأتيه الْحَاضِر، فَيَقُول: خل متاعك عِنْدِي
حَتَّى أبيعه على المهلة بِثمن غال، وَلَو بَاعَ البادى بِنَفسِهِ لأرخص،
ونفع البلديين، وانتفع هُوَ أَيْضا، فَإِن انْتِفَاع التُّجَّار يكون
بِوَجْهَيْنِ: أَن يبيعوا بِثمن غال بالمهلة على من يحْتَاج إِلَى الشَّيْء
أَشد حَاجَة. فيستقل فِي جنبها مَا يبْذل، وَأَن يبيعوا بِرِبْح يسير،
ثمَّ يَأْتُوا بِتِجَارَة أُخْرَى عَن قريب، فيربحوا أَيْضا وهلم جرا،
وَهَذَا الِانْتِفَاع أوفق بمصلحة المدينه وَأكْثر بركَة، وَقَالَ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من احتكر فَهُوَ خاطئ ".
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " الجالب مَرْزُوق والمحتكر مَلْعُون ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن حبس المناع مَعَ حَاجَة أهل الْبَلَد إِلَيْهِ
لمُجَرّد طلب الغلاء وَزِيَادَة الثّمن إِضْرَار بهم يتَوَقَّع نفع مَا
هُوَ سوء انتظام الْمَدِينَة.
(2/171)
وَمِنْهَا أَن يكون فِيهِ التَّدْلِيس على
المُشْتَرِي، قَالَ رَسُول الله:
" لَا تصروا الْإِبِل وَالْغنم، فَمن ابتاعها بعد ذَلِك فَهُوَ بِخَير
النظرين بعد أَن يحلبها، إِن رضيها أمْسكهَا، وَإِن سخطها ردهَا وصاعا من
تمر - ويروى صَاعا من طَعَام - لَا سمراء ".
أَقُول: التصرية جمع اللَّبن فِي الضَّرع ليتخيل المُشْتَرِي غزارته،
فيغتر، وَلما كَانَ أقرب شبهه بِخِيَار الْمجْلس أَو الشَّرْط لِأَن عقد
البيع كَأَنَّهُ مَشْرُوط بغزارة اللَّبن لم يَجْعَل من بَاب الضَّمَان
بالخراج، ثمَّ لما كَانَ قدر اللَّبن وَقِيمَته بعد إهلاكه وإتلافه
مُتَعَذر الْمعرفَة جدا لَا سِيمَا عِنْد تشاكس الشُّرَكَاء وَفِي مثل
البدو وَجب أَن يضْرب لَهُ حد معتدل بِحَسب المظنة الغالبية يقطع بِهِ
النزاع، وَلبن النوق فِيهِ زهومة وَيُوجد رخيصا، وَلبن الْغنم طيب، وَيُوجد
غَالِبا، فَجعل حكمهَا وَاحِدًا، فَتعين أَن يكون صَاعا من أدنى جنس
يقتاتون بِهِ كالتمر فِي الْحجاز. وَالشعِير. والذرة عندنَا لَا من
الْحِنْطَة والأرز فانهما أغْلى الأقوات وأعلاها، وَاعْتذر بعض من لم يوفق
للْعَمَل بِهَذَا
الحَدِيث بِضَرْب قَاعِدَة من عِنْد نَفسه، فَقَالَ. كل حَدِيث لَا يرويهِ
إِلَّا غير فَقِيه إِذا إنسد بَاب الرَّأْي فِيهِ يتْرك الْعَمَل بِهِ،
وَهَذِه الْقَاعِدَة على مَا فِيهَا لَا تنطبق على صورتنا هَذِه لِأَنَّهُ
أخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود أَيْضا، وناهيك بِهِ، وَلِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة سَائِر الْمَقَادِير الشَّرْعِيَّة يدْرك الْعقل حسن تَقْدِير
مَا فِيهِ، وَلَا يسْتَقلّ بِمَعْرِِفَة حِكْمَة هَذَا الْقدر خَاصَّة
اللَّهُمَّ إِلَّا عقول الراسخين فِي الْعلم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صبرَة طَعَام داخلها بَلل:
" أَفلا جعلته فَوق الطَّعَام حَتَّى يرَاهُ النَّاس، فَمن غش فَلَيْسَ مني
".
وَمِنْهَا أَن يكون الشَّيْء مُبَاح الأَصْل كَالْمَاءِ الْعد فيتغلب
ظَالِم عَلَيْهِ، فيبيعه وَذَلِكَ تصرف فِي مَال الله من غير حق وإضرار
بِالنَّاسِ وَلذَلِك نهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن بيع
فضل المَاء ليباع بِهِ الْكلأ أَقُول: هُوَ أَن يتغلب رجل على عين أَو
وَاد، فَلَا يدع أحد يسْقِي مِنْهُ مَاشِيَة إِلَّا بِأَجْر، فَإِنَّهُ
يُفْضِي إِلَى بيع الْكلأ الْمُبَاح يَعْنِي يصير الرَّعْي من ذَلِك
بِإِزَاءِ مَال، وَهَذَا بَاطِل لِأَن المَاء والكلأ مباحان، وَهُوَ
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " فَيَقُول الله الْيَوْم أمنعك فضلي كَمَا
منعت فضل مَا لم تعْمل يداك ".
وَقيل: يحرم بيع المَاء الْفَاضِل عَن حَاجته لمن أَرَادَ الشّرْب أَو
سقِِي الدَّوَابّ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث فِي المَاء والكلأ وَالنَّار "
(2/172)
أَقُول: يتَأَكَّد اسْتِحْبَاب
الْمُوَاسَاة فِي هَذِه فِيمَا كَانَ مَمْلُوكا وَمَا لَيْسَ بمملوك أمره
ظَاهر.
(أَحْكَام البيع)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رحم الله رجلا سَمحا إِذا بَاعَ، وَإِذا اشْترى، وَإِذا اقْتضى " أَقُول:
السماحة من أصُول الْأَخْلَاق الَّتِي تتهذب بهَا النَّفس، وتتخلص بهَا عَن
إحاطة الْخَطِيئَة، وَأَيْضًا فِيهَا نظام الْمَدِينَة، وَعَلَيْهَا بِنَاء
التعاون، وَكَانَت الْمُعَامَلَة بِالْبيعِ وَالشِّرَاء والاقتضاء مَظَنَّة
لضد السماحة، فسجل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
استحبابها.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة " أَقُول: يكره إكثار الْحلف فِي البيع
لشيئين: كَونه مَظَنَّة لتغرير المتعاملين، وَكَونه سَببا لزوَال تَعْظِيم
اسْم الله من الْقلب، وَالْحلف الْكَاذِب منفقة للسلعة لِأَن مبْنى الانفاق
فِي تَدْلِيس المُشْتَرِي، وممحقة للبركة لِأَن مبْنى الْبركَة على توجه
دُعَاء الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ، وَقد تَبَاعَدت بالمعصية بل دعت عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" يَا معشر التُّجَّار إِن البيع يحضرهُ اللَّغْو وَالْحلف فشوبوه
بِالصَّدَقَةِ " أَقُول: فِيهِ تَكْفِير الْخَطِيئَة وجبر مَا فرط من غلواء
النَّفس.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِيمَن بَاعَ بِالدَّنَانِيرِ
وَأخذ مَكَانهَا الدَّرَاهِم: " لَا بَأْس أَن تأخذها بِسعْر يَوْمهَا مَا
لم تفترقا وبينكما شَيْء ".
أَقُول. لِأَنَّهُمَا إِن افْتَرقَا وَبَينهمَا شَيْء مثل أَن يجعلا تَمام
صرف الدِّينَار بِالدَّرَاهِمِ مَوْقُوفا على مَا يَأْمر بِهِ الصيرفيون،
أَو على أَن يزنه الْوزان أَو مثل ذَلِك كَانَ مَظَنَّة أَن يحْتَج بِهِ
المحتج، ويناقش فِيهِ المناقش، وَلَا تصفوا الْمُعَامَلَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من ابْتَاعَ نخلا بعد أَن تؤبر فثمرتها للْبَائِع إِلَّا أَن يشْتَرط
الْمُبْتَاع " أَقُول: ذَلِك لِأَنَّهُ عمل زَائِد عَن أصل الشَّجَرَة،
وَقد ظَهرت الثَّمَرَة على ملكه وَهُوَ يشبه الشَّيْء الْمَوْضُوع فِي
الْبَيْت فَيجب أَن يُوفى لَهُ حَقه إِلَّا أَن يُصَرح بِخِلَافِهِ.
(2/173)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا كَانَ من شَرط لَيْسَ فِي كتاب الله فَهُوَ بَاطِل ". أَقُول:
المُرَاد كل شَرط ظهر النَّهْي عَنهُ، وَذكر فِي حكم الله نَفْيه لَا
النَّفْي الْبَسِيط.
وَنهى عَلَيْهِ السَّلَام عَن بيع الْوَلَاء. وَعَن هِبته لِأَن الْوَلَاء
لَيْسَ بِمَال حَاضر مضبوط، إِنَّمَا هُوَ حق تَابع للنسب، فَكَمَا لَا
يُبَاع النّسَب لَا يَنْبَغِي أَن يُبَاع الْوَلَاء.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْخراج بِالضَّمَانِ ". أَقُول: لَا تَنْقَطِع الْمُنَازعَة إِلَّا
بِأَن يَجْعَل الْغنم بالغرم، فَمن رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ إِن طُولِبَ
بخراجه كَانَ فِي إِثْبَات مِقْدَار الْخراج حرج عَظِيم، فَقطع المنازعه
بِهَذَا الحكم كَمَا قطع المنازع فِي الْقَضَاء بِأَن مِيرَاث
الْجَاهِلِيَّة على مَا قسم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيعان: إِذا اخْتلفَا
وَالْمَبِيع قَائِم لَيْسَ بَينهمَا بَيِّنَة فَالْقَوْل مَا قَالَ
البَائِع أَو يترادان. أَقُول: وَإِنَّمَا قطع بِهِ الْمُنَازعَة لِأَن
الأَصْل أَلا يخرج شَيْء من ملك أحد إِلَّا بِعقد صَحِيح وتراض، فَإِذا
وَقعت المشاحة وَجب الرَّد إِلَى الأَصْل وَالْمَبِيع مَا لَهُ يَقِينا
وَهُوَ صَاحب الْيَد بِالْفِعْلِ أَو قبل العقد الَّذِي لم تتقر صِحَّته،
وَالْقَوْل قَول صَاحب المَال لَكِن الْمُبْتَاع بِالْخِيَارِ لِأَن البيع
مبناه على التَّرَاضِي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم
فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطَّرِيق فَلَا شُفْعَة " وَقَالَ عَلَيْهِ
السَّلَام:
" الْجَار أَحَق بعقبه ".
أَقُول: الأَصْل فِي الشُّفْعَة دفع الضَّرَر من الْجِيرَان والشركاء،
وَأرى أَن الشُّفْعَة شفعتان: شُفْعَة يجب للْمَالِك أَن يعرضهَا على
الشَّفِيع فِيمَا بَينه وَبَين الله، وَأَن يؤثره على غَيره، وَلَا يجْبر
عَلَيْهَا فِي الْقَضَاء، وَهِي للْجَار الَّذِي لَيْسَ بِشريك، وشفعة
يجْبر عَلَيْهَا فِي الْقَضَاء وَهِي للْجَار الشَّرِيك فَقَط، وَهَذَا
وَجه الْجمع بَين الْأَحَادِيث الْمُخْتَلفَة فِي الْبَاب.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أقَال أَخَاهُ الْمُسلم
صَفْقَة كرهها أقَال الله عثرته يَوْم الْقِيَامَة " أَقُول: يستجب
إِقَالَة النادم فِي صفقته دفعا للضَّرَر عَنهُ، وَلَا يجب لِأَن الْمَرْء
مَأْخُوذ باقراره لَازم عَلَيْهِ مَا الْتَزمهُ.
(2/174)
وَحَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ بِعته،
واستثنيت حملانه إِلَى أهلى أَقُول: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِثْنَاء فِيمَا لم
يكن مَحل المناقشة وَكَانَا متبرعين متباذلين لِأَن الْمَنْع إِنَّمَا هُوَ
لكَونه مَظَنَّة المناقشة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من فرق بَين وَالِدَة وَوَلدهَا فرق الله بَينه وَبَين أحبته يَوْم
الْقِيَامَة " وَقَالَ لعَلي رَضِي الله عَنهُ حِين بَاعَ أحد
الْأَخَوَيْنِ: " رده ".
أَقُول: التَّفْرِيق بَين وَالِده وولدهما يهيجهما على الوحشة والبكاء،
وَمثل ذَلِك حَال الْأَخَوَيْنِ، فَوَجَبَ أَن يجْتَنب الْإِنْسَان ذَلِك.
قَالَ الله تَعَالَى: {إِذا نودى للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا
إِلَى ذكر الله وذرا البيع}
أَقُول: يتَعَلَّق الحكم بالنداء الَّذِي هُوَ عِنْد خُرُوج الإِمَام،
وَلما كَانَ الِاشْتِغَال بِالْبيعِ وَنَحْوه كثيرا مَا يكون مفضيا إِلَى
ترك الصَّلَاة وَترك اسْتِمَاع الْخطْبَة نهى عَن ذَلِك.
وَقيل: قد غلا السّعر فسعر لنا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" إِن الله هُوَ المسعر الْقَابِض الباسط الرازق وَإِنِّي لأرجو أَن ألْقى
الله وَلَيْسَ أحد يطلبني بمظلمة "،
أَقُول: لما كَانَ الحكم الْعدْل بَين المشترين وَأَصْحَاب السّلع الَّذِي
لَا يتَضَرَّر بِهِ أَحدهمَا، أَو يكون تضررهما سَوَاء فِي غَايَة الصعوبة
تورع مِنْهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِئَلَّا يتخذها
الْأُمَرَاء من بعده سنة، وَمَعَ ذَلِك فان رؤى مِنْهُم جور ظَاهر لَا يشك
فِيهِ النَّاس جَازَ تَغْيِيره فانه من الافساد فِي الأَرْض.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذْ تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه}
اعْلَم أَن الدّين أعظم الْمُعَامَلَات مناقشة وبأكثرها جدلا، وَلَا بُد
مِنْهُ للْحَاجة، فَلذَلِك أكد الله تَعَالَى فِي الْكِتَابَة والاستشهاد،
وَشرع الرَّهْن وَالْكَفَالَة، وَبَين إِثْم كتمان الشَّهَادَة، وَأوجب
بالكفاية الْقيام بِالْكِتَابَةِ وَالشَّهَادَة، وَهُوَ من الْعُقُود
الضرورية.
وَقدم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَة وهم يسلفون
فِي الثِّمَار السّنة والسنتين وَالثَّلَاث، فَقَالَ:
" من أسلف فِي شَيْء، فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل
مَعْلُوم "
(2/175)
أَقُول: ذَلِك لترتفع المناقشة بِقدر
الْإِمْكَان، وقاسوا عَلَيْهَا الْأَوْصَاف الَّتِي يبين بهَا الشَّيْء من
غير تضييق، ومبنى الْقَرْض على التَّبَرُّع من أول الْأَمر، وَفِيه معنى
الْإِعَارَة؛ فَلذَلِك جَازَت النَّسِيئَة، وَحرم الْفضل، ومبنى الرَّهْن
على الاستيثاق، وَهُوَ بِالْقَبْضِ، فَلذَلِك اشْترط فِيهِ، وَلَا
اخْتِلَاف عِنْدِي بَين حَدِيث " لَا يغلق الرَّهْن الرهت من صَاحبه
الَّذِي رَهنه لَهُ غنمه وَعَلِيهِ غرمه " وَحَدِيث " الظّهْر يركب
بِنَفَقَتِهِ إِذا كَانَ مَرْهُونا، وَلبن الدّرّ يشرب بِنَفَقَتِهِ إِذا
كَانَ مَرْهُونا، وعَلى الَّذِي يركب وَيشْرب النَّفَقَة "؛ لِأَن الأول
هُوَ الْوَظِيفَة، لَكِن إِذا امْتنع الرَّاهِن من النَّفَقَة عَلَيْهِ،
وَخيف الْهَلَاك، وأحياه الْمُرْتَهن، فَعِنْدَ ذَلِك ينْتَفع بِهِ بِقدر
مَا يرَاهُ النَّاس عدلا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَاب الْكَيْل وَالْمِيزَان:
" إِنَّكُم قد وليتم أَمريْن هَلَكت فِيهَا الْأُمَم السَّابِقَة قبلكُمْ "
أَقُول: يحرم التطفيف لِأَنَّهُ خِيَانَة وَسُوء مُعَاملَة، وَقد سبق فِي
قوم شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلَام مَا اقص الله تَعَالَى فِي كِتَابه.
وَقَالَ: " أَيّمَا رجل أفلس، فَأدْرك رجل مَاله بِعَيْنِه، فَهُوَ أَحَق
بِهِ " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الأَصْل مَاله من غير مزاحمة،
ثمَّ بَاعه، وَلم يرض فِي بَيْعه بِخُرُوجِهِ من يَده إِلَّا بِالثّمن،
فَكَانَ البيع إِنَّمَا هُوَ بِشَرْط إِيفَاء الثّمن، فَلَمَّا لم يؤد
كَانَ لَهُ نقضه مَا دَامَ الْمَبِيع قَائِما بِعَيْنِه، فَإِذا فَاتَ
الْمَبِيع لم يُمكن أَن يرد الْمَبِيع، فَيصير دينه كَسَائِر الدُّيُون.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أَن ينجيه الله من كرب
يَوْم الْقِيَامَة فلينفس عَن مُعسر أَو يضع عَنهُ ".
أَقُول: هَذَا ندب إِلَى السماحة الَّتِي هِيَ من أصُول مَا ينفع فِي
الْمعَاد والمعاش، وَقد
(2/176)
ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام:
" مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أتبع أحدكُم على ملئ فَليتبعْ " أَقُول: هَذَا
أَمر اسْتِحْبَاب لِأَن فِيهِ قطع المناقشة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لى الْوَاجِد يحل عرضه وعقوبته "، أَقُول: هُوَ هَذَا أَن يغلظ لَهُ فِي
القَوْل، وَيحبس، وَيجْبر على البيع إِن لم يكن لَهُ مَال غَيره.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا حرم حَلَالا، أَو أحل
حَرَامًا، والمسلمون على شروطهم إِلَّا شرطا حرم حَلَالا، أَو أحل حَرَامًا
" فَمِنْهُ وضع جُزْء من الدّين كقصة ابْن أبي حَدْرَد، وَهَذَا الحَدِيث
أحد الْأُصُول فِي بَاب الْمُعَامَلَات |