حجة الله
البالغة (صفة النِّكَاح)
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لَا نِكَاح إِلَّا بولِي " اعْلَم أَنه لَا يجوز أَن يحكم فِي النِّكَاح
النِّسَاء خَاصَّة لنُقْصَان عقلهن وَسُوء فكرهن، فكثيرا مَا لَا يهتدين
الْمصلحَة، وَلعدم حماية الْحسب مِنْهُنَّ غَالِبا، فَرُبمَا رغبن فِي غير
الْكُفْء وَفِي ذَلِك عَار على قَومهَا، فَوَجَبَ أَن يَجْعَل للأولياء
شَيْء من هَذَا الْبَاب لتسد الْمفْسدَة، وَأَيْضًا فَإِن السّنة الفاشية
فِي النَّاس من قبل ضروره جبلية أَن يَكُونُوا الرِّجَال قوامين على
النِّسَاء، وَيكون بيدهم الْحل وَالْعقد وَعَلَيْهِم النَّفَقَات
وَإِنَّمَا النِّسَاء عوان بِأَيْدِيهِم، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله بَعضهم} . الْآيَة،
وَفِي اشْتِرَاط الْوَلِيّ فِي النِّكَاح تنويه أَمرهم، واستبداد النِّسَاء
بِالنِّكَاحِ وقاحة مِنْهُنَّ، منشؤها قلَّة الْحيَاء واقتضاب على
الْأَوْلِيَاء وَعدم اكتراث لَهُم، وَأَيْضًا يجب أَن يُمَيّز النِّكَاح من
السفاح بالتشهير، وأحق التشهير أَن يحضرهُ أولياؤها.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنْكح الثّيّب حَتَّى تستأمر، وَلَا الْبكر حَتَّى تستأذن، وإذنها
الصموت " وَفِي رِوَايَة " الْبكر يستأذنها أَبوهَا " أَقُول:
لَا يجوز أَيْضا أَن يحكم الْأَوْلِيَاء فَقَط لأَنهم لَا يعْرفُونَ مَا
تعرف الْمَرْأَة من نَفسهَا وَلِأَن حَار العقد وقاره راجعان إِلَيْهَا،
والاستثمار طلب أَن تكون هِيَ الآمره صَرِيحًا، والاستئذان طلب أَن تَأذن،
وَلَا تمنع، وَأَدْنَاهُ السُّكُوت، وَإِنَّمَا المُرَاد اسْتِئْذَان
الْبكر الْبَالِغَة دون الصَّغِيرَة كَيفَ وَلَا رَأْي لَهَا، وَقد زوج
أَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا من رَسُول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِي بنت سِتّ سِنِين.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إيما عبد تزوج بِغَيْر إِذن سَيّده فَهُوَ عاهر " أَقُول: لما كَانَ
العَبْد مَشْغُولًا بِخِدْمَة مَوْلَاهُ، وَالنِّكَاح وَمَا يتَفَرَّع
عَلَيْهِ من الْمُوَاسَاة مَعهَا والتخلي بهَا رُبمَا ينقص من خدمته وَحب
أَن تكون السّنة أَن يتَوَقَّف نِكَاح العَبْد على إِذن مَوْلَاهُ، وَأما
حَال الْأمة فَأولى أَن يتَوَقَّف نِكَاحهَا على إِذن مَوْلَاهَا، وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى:
(2/196)
{فانكحوهن بِإِذن أهلهن} .
قَالَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: علمنَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّشَهُّد فِي الْحَاجة أَن الْحَمد لله، ونستعينه،
وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، من يهد الله فَلَا
مضل لَهُ، وَمن يضلله فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله،
وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، وَيقْرَأ ثَلَاث آيَات.
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله حق تُقَاته وَلَا تموتن إِلَّا
وَأَنْتُم مُسلمُونَ} .
{وَاتَّقوا الله الَّذِي تساءلون بِهِ والأرحام إِن الله كَانَ عَلَيْكُم
رقيبا} .
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله وَقُولُوا قولا سديدا يصلح لكم
أَعمالكُم وَيغْفر لكم ذنوبكم وَمن يطع الله وَرَسُوله فقد فَازَ فوزا
عَظِيما} .
أَقُول كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يخطبون قبل العقد بِمَا يرونه من ذكر
ومفاخر قَومهمْ وَنَحْو ذَلِك يتوسلون بذلك إِلَى ذكر الْمَقْصُود والتنويه
بِهِ، وَكَانَ جَرَيَان الرَّسْم بذلك مصلحَة، فَإِن الْخطْبَة مبناها على
التشهير وَجعل الشَّيْء بمسمع ومرآى من الْجُمْهُور، والتشهير بِمَا يُرَاد
وجوده فِي النِّكَاح ليتميز من السفاح، وَأَيْضًا فالخطبة لَا تسْتَعْمل
إِلَّا فِي الْأُمُور المهمة، والاهتمام بِالنِّكَاحِ وَجعله أمرا عَظِيما
بَينهم من أعظم الْمَقَاصِد، فأبقى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَصْلهَا، وَغير وصفهَا، وَذَلِكَ أَنه ضم مَعَ هَذِه الْمصَالح
مصلحَة ملية، وَهِي أَنه يَنْبَغِي أَن يضم مَعَ كل ارتفاق ذكر مُنَاسِب
لَهُ، وينوه فِي كل مَحل بشعائر الله، ليَكُون الدّين الْحق منشورا
أَعْلَامه وراياتة، ظَاهرا شعاره وأماراته، فسن فِيهَا أنواعا من الذّكر
كالحمد، والاستعانة، وَالِاسْتِغْفَار، والتعوذ، والتوكل، وَالتَّشَهُّد،
وآيات من الْقُرْآن، وَأَشَارَ إِلَى هَذِه الْمصلحَة بقوله: " كل خطْبَة
لَيْسَ فِيهَا تشهد فَهِيَ كَالْيَدِ الجذماء " وَقَوله:
" كل كَلَام لَا يبْدَأ فِيهِ بِالْحَمْد لله فَهُوَ أَجْذم "
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فصل مَا بَين الْحَلَال
وَالْحرَام الصَّوْت
والدف فِي النِّكَاح " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أعْلنُوا هَذَا النِّكَاح واجعلوه فِي الْمَسَاجِد واضربوا عَلَيْهِ
الدفوف ".
أَقُول: كَانُوا يستعملون الدُّف وَالصَّوْت فِي النِّكَاح، وَكَانَت
تِلْكَ عَادَة فَاشِية فيهم لَا يكادون يتركونها فِي النِّكَاح الصَّحِيح
الَّذِي أبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْأَنْكِحَة
الْأَرْبَعَة على مَا
(2/197)
بَينته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، وَفِي
ذَلِك مصلحَة وَهِي أَن النِّكَاح والسفاح لما اتفقَا فِي قَضَاء
الشَّهْوَة ورضا الرجل وَالْمَرْأَة وَجب أَن يُؤمر بِشَيْء يتَحَقَّق بِهِ
الْفرق بَينهمَا بادى الرَّأْي بِحَيْثُ لَا يبْقى لأحد فِيهِ كَلَام وَلَا
خَفَاء، وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رخص فِي الْمُتْعَة
أَيَّامًا، ثمَّ نهى عَنْهَا، أما الترخيص أَولا فلمكان حَاجَة تَدْعُو
إِلَيْهِ كَمَا ذكره ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فِيمَن يقدم
بَلْدَة لَيْسَ بهَا أَهله، وَأَشَارَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
أَنَّهَا لم تكن يَوْمئِذٍ استئجارا على مُجَرّد الْبضْع، بل كَانَ ذَلِك
مغمورا فِي ضمن حاجات من بَاب تَدْبِير الْمنزل، كَيفَ والاستئجار على
مُجَرّد الْبضْع انسلاخ عَن الطبيعة الإنسانية، ووقاحة يمجها الْبَاطِن
السَّلِيم وَأما النَّهْي عَنْهَا فلارتفاع تِلْكَ الْحَاجة فِي غَالب
الْأَوْقَات، وَأَيْضًا فَفِي جَرَيَان الرَّسْم بِهِ اخْتِلَاط
الْأَنْسَاب لِأَنَّهَا عِنْد انْقِضَاء تِلْكَ الْمدَّة تخرج من حيزه،
وَيكون الْأَمر بِيَدِهَا، فَلَا يدْرِي مَاذَا تصنع، وَضبط الْعدة فِي
النِّكَاح الصَّحِيح الَّذِي بِنَاؤُه على التأييد فِي غَايَة الْعسر فَمَا
ظَنك فِي بِالْمُتْعَةِ وإهمال النِّكَاح الصَّحِيح الْمُعْتَبر فِي
الشَّرْع؟ فان أَكثر الراغبين فِي النِّكَاح إِنَّمَا غَالب داعيتهم قَضَاء
شَهْوَة الْفرج وَأَيْضًا فان من الْأَمر الَّذِي يتَمَيَّز بِهِ النِّكَاح
من السفاح التوطين على المعاونة الدائمة وَإِن كَانَ الأَصْل فِيهِ قطع
الْمُنَازعَة فِيهَا على أعين النَّاس.
وَكَانُوا لَا يناكحون إِلَّا بِصدق لأمور بعثتهم على ذَلِك، وَكَانَ فِيهِ
مصَالح مِنْهَا أَن النِّكَاح لَا تتمّ فَائِدَته إِلَّا بِأَن يوطن كل
وَاحِد نَفسه على المعاونة الدائمة، ويتحقق ذَلِك من جَانب الْمَرْأَة
بِزَوَال أمرهَا من يَدهَا، وَلَا جَائِز أَن يشرع زَوَال أمره أَيْضا من
يَده وَإِلَّا انسد بَاب الطَّلَاق، وَكَانَ أَسِيرًا فِي يَدهَا كَمَا
أَنَّهَا عانية بِيَدِهِ وَكَانَ الأَصْل أَن يَكُونُوا قوامين على
النِّسَاء، وَلَا جَائِز أَن يَجْعَل أَمرهمَا إِلَى الْقَضَاء. فان
مُرَاجعَة الْقَضِيَّة إِلَيْهِم فِيهَا حرج وهم لَا يعْرفُونَ مَا يعرف
هُوَ من خَاصَّة أمره، فَتعين أَن يكون بَين عَيْنَيْهِ خسارة مَال إِن
أَرَادَ فك النّظم لِئَلَّا يجترئ على ذَلِك إِلَّا عِنْد حَاجَة لَا يجد
مِنْهَا بدا، فَكَانَ هَذَا نوعا من التوطين.
وَأَيْضًا لَا يظْهر الاهتمام بِالنِّكَاحِ إِلَّا بِمَال يكون عوض
الْبضْع، فَإِن النَّاس لما تشاحوا بالأموال شحا لم يتشاحوا بِهِ فِي
غَيرهَا كَانَ الاهتمام لَا يتم إِلَّا ببذلها، وبالاهتمام
(2/198)
تقر أعين الْأَوْلِيَاء حِين يتَمَلَّك
هُوَ فلذة أكبادهم وَبِه يتَحَقَّق التَّمْيِيز بَين النِّكَاح والسفاح،
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{أَن تَبْتَغُوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} .
فَلذَلِك أبقى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوب الْمهْر
كَمَا كَانَ، وَلم يضبطه للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدّ
لَا يزِيد وَلَا ينقص، إِذْ الْعَادَات فِي إِظْهَار الاهتمام مُخْتَلفَة،
والرغبات لَهَا مَرَاتِب شَتَّى، وَلَهُم فِي المشاحة طَبَقَات، فَلَا
يُمكن تحديده عَلَيْهِم كَمَا لَا يُمكن أَن يضْبط ثمن الْأَشْيَاء
المرغوبة بِحَدّ مَخْصُوص، وَلذَلِك قَالَ: التمس وَلَو خَاتمًا من حَدِيد
" وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " من أعْطى فِي صدَاق امْرَأَته ملْء كَفه سويقا أَو تَمرا فقد اسْتحلَّ
" غير أَنه سنّ فِي صدَاق أَزوَاجه وَبنَاته ثِنْتَيْ عشرَة أوقيات ونشا،
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ: لَا تغَالوا فِي صدقَات النِّسَاء
فَإِنَّهَا إِن كَانَت مكرمَة فِي الدُّنْيَا أَو تقوى عِنْد الله لَكَانَ
أولاكم بهَا نَبِي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحَدِيث.
أَقُول: والسر فِيمَا سنّ أَنه يَنْبَغِي أَن يكون الْمهْر مِمَّا يتشاح
بِهِ، وَيكون لَهُ بَال يَنْبَغِي أَلا يكون مِمَّا يتَعَذَّر أَدَاؤُهُ
عَادَة بِحَسب مَا عَلَيْهِ قومه، وَهَذَا الْقدر نِصَاب صَالح حَسْبَمَا
كَانَ عَلَيْهِ النَّاس فِي زَمَانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَكَذَلِكَ أَكثر النَّاس بعده اللَّهُمَّ إِلَّا نَاس أغنياؤهم
بِمَنْزِلَة الْمُلُوك على الأسرة وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يظْلمُونَ
النِّسَاء فِي صدقاتهن بمطل أَو نقص فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَآتوا النِّسَاء صدقاتهن نحلة فَإِن طبن لكم} الْآيَة.
وَقَالَ الله تَعَالَى:
{لَا جنَاح عَلَيْكُم إِن طلّقْتُم النِّسَاء مَا لم تمَسُّوهُنَّ أَو
تفرضوا لَهُنَّ فَرِيضَة} . الْآيَة
أَقُول: الأَصْل فِي ذَلِك أَن النِّكَاح سَبَب الْملك وَالدُّخُول بهَا
أَثَره، وَالشَّيْء إِنَّمَا يُرَاد بِهِ أَثَره، وَإِنَّمَا يَتَرَتَّب
الحكم على سَببه فَلذَلِك كَانَ من حَقّهمَا أَن يوزع الصَدَاق
عَلَيْهِمَا، وبالموت يَتَقَرَّر الْأَمر، وَيثبت حَيْثُ لم يردهُ حَتَّى
مَاتَ، وَمَا انخنس عَنهُ حَتَّى حَال بَينه وَبَينه الْمَوْت، وبالطلاق
يرْتَفع الْأَمر، وينفسخ، وَهُوَ شبه الرَّد وَالْإِقَالَة،
(2/199)
إِذا تمهد هَذَا فَنَقُول:
كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة مناقشات فِي بَاب الْمهْر، وَكَانُوا يتشاحون
بِالْمَالِ، ويحتجون بِأُمُور، فَقضى الله تَعَالَى فِيهَا بالحكم الْعدْل
على هَذَا الأَصْل، فَإِن سمى لَهَا شَيْئا، وَدخل بهَا فلهَا الْمهْر
كَامِلا سَوَاء مَاتَ عَنْهَا أَو طَلقهَا لِأَنَّهُ قد تمّ لَهُ سَبَب
الْملك وأثره، وأفضى الزَّوْج إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَقد أفْضى بَعْضكُم إِلَى بعض وأخذن مِنْكُم ميثاقا غليظا} .
وَإِن سمى لَهَا، وَلم يدْخل بهَا، وَمَات عَنْهَا فلهَا الْمهْر كَامِلا،
لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ تقرر الْأَمر وَعدم الدُّخُول غير ضار وَالْحَالة
هَذِه لِأَنَّهُ بِسَبَب سماوي، فان طَلقهَا فلهَا نصف الْمهْر على هَذِه
الْآيَة، لتحَقّق أحد الْأَمريْنِ دون الآخر، فَحصل شبهان: شبه
بِالْخطْبَةِ من غير نِكَاح، وَشبه بِالنِّكَاحِ التَّام، وَإِن لم يسم
لَهَا شَيْئا وَدخل بهَا فلهَا مثل صدَاق نسائها، لَا وكس، وَلَا شطط،
وَعَلَيْهَا الْعدة، وَلها الْمِيرَاث، لِأَنَّهُ تمّ لَهَا العقد
بِسَبَبِهِ وأثره، فَوَجَبَ أَن يكون لَهَا مهر، وَإِنَّمَا يقدر الشَّيْء
بنظيره وَشبهه، وصداق نسائها أقرب مَا يقدر بِهِ فِي ذَلِك، وَإِن لم يسم
لَهَا شَيْئا، وَلم يدْخل بهَا فلهَا الْمُتْعَة لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن
يكون عقد نِكَاح خَالِيا عَن المَال، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{أَن تَبْتَغُوا بأموالكم} .
وَلَا سَبِيل إِلَى إِيجَاب الْمهْر لعدم تقرر الْملك وَلَا التَّسْمِيَة،
فَقدر دون ذَلِك بِالْمُتْعَةِ، وَجعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مرّة سورا من الْقُرْآن مهْرا، لِأَن تعليمها أَمر ذُو بَال يرغب
فِيهِ، وَيطْلب كَمَا ترغب وتطلب الْأَمْوَال، فَجَاز أَن يقوم مقَامهَا،
وَكَانَ النَّاس يعتادون الْوَلِيمَة قبل الدُّخُول بهَا، وَفِي ذَلِك
مصَالح كَثِيرَة.
مِنْهَا التلطف بإشاعة النِّكَاح، وَأَنه على شرف الدُّخُول بهَا إِذْ لَا
بُد من الإشاعة لِئَلَّا يبْقى مَحل لوهم الواهم فِي النّسَب؛ وليتميز
النِّكَاح عَن السفاح بادى الرَّأْي، ويتحقق اخْتِصَاصه بهَا على أعين
النَّاس.
وَمِنْهَا شكره مَا أولاه الله تَعَالَى من انتظام تَدْبِير الْمنزل بِمَا
يصرفهُ الآيه عباده، وينفعهم بِهِ.
وَمِنْهَا الْبر بِالْمَرْأَةِ وقومها فَإِن صرف المَال لَهَا، وَجمع
النَّاس فِي أمرهَا يدل على كراماتها عَلَيْهِ وَكَونهَا ذَات بَال عِنْده،
وَمثل هَذِه الْأُمُور لَا بُد مِنْهَا فِي إِقَامَة التَّأْلِيف فِيمَا
بَين أهل الْمنزل لَا سِيمَا فِي أول اجْتِمَاعهم.
(2/200)
وَمِنْهَا: أَن تجدّد النِّعْمَة حَيْثُ
ملك مَا لم يكن مَالِكًا لَهُ يُورث الْفَرح والنشاط وَالسُّرُور، ويهيج
على صرف المَال، وَفِي اتِّبَاع تِلْكَ الداعية التمرن على السخاوة، وعصيان
دَاعِيَة الشُّح إِلَى غير ذَلِك من الْفَوَائِد والمصالح فَلَمَّا كَانَ
فِيهَا جملَة صَالِحَة من فَوَائِد السياسة المدنية والمنزلية وتهذيب
النَّفس والاحسان وَجب أَن، يبقيها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، ويرغب فِيهَا، ويحث عَلَيْهَا، وَيعْمل هُوَ بهَا، وَلم يضبطه
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدّ بِمثل مَا ذكرنَا فِي
الْمهْر، وَالْحَد الْوسط الشَّاة، لم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
صَفِيَّة رَضِي الله عَنْهَا بحيس وَأَوْلَمَ على بعض نِسَائِهِ بمدين من
شعير.
قَالَ: " إِذا دعى أحدكُم إِلَى الْوَلِيمَة فليأتها " وَفِي رِوَايَة "
فَإِن شَاءَ طعم وَإِن شَاءَ ترك " أَقُول: لما كَانَ من الْأُصُول
التشريعية أَنه إِذا أَمر وَاحِد أَن يصنع بِالنَّاسِ شَيْئا لمصْلحَة فَمن
مُوجب ذَلِك أَن يحث النَّاس على أَن ينقادوا لَهُ فِيمَا يُرِيد، ويتمثلوا
لَهُ، ويطاوعوه، وَإِلَّا لما تحققت الْمصلحَة الْمَقْصُودَة بِالْأَمر،
فَلَمَّا أَمر هَذَا أَن يشيع أَمر النِّكَاح بوليمة تصنع للنَّاس وَجب أَن
يُؤمر أُولَئِكَ أَن يُجِيبُوهُ إِلَى طَعَامه، فَإِن كَانَ صَائِما وَلم
يطعم
فَلَا بَأْس بذلك فَإِنَّهُ حصلت الإشاعة الْمَقْصُودَة، وَأَيْضًا فَمن
الصِّلَة أَن يجِيبه إِذا دعى، وَفِي جَرَيَان السّنة بذلك انتظام أَمر
الْمَدِينَة والحي.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّه لَيْسَ لي أَو لنَبِيّ أَن يدْخل بَيْتا مزوقا " أَقُول: لما
كَانَت الصُّور يحرم صنعها، وَيحرم اسْتِعْمَال الثَّوْب المصنوعة هِيَ
فِيهِ كَانَ من مُقْتَضى ذَلِك أَن يهجر الْبَيْت الَّذِي فِيهِ تِلْكَ
الصُّورَة، وَأَن تُقَام اللأئمة فِي ذَلِك لَا سِيمَا للأنبياء عَلَيْهِم
السَّلَام، فَإِنَّهُم بعثوا أَمريْن بِالْمَعْرُوفِ وناهين عَن الْمُنكر،
وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ اسْتِحْبَاب التجمل الْبَالِغ سَببا لشدَّة خوضهم
فِي طلب الدُّنْيَا - وَقد وَقع ذَلِك فِي الْأَعَاجِم حَتَّى أنساهم ذكر
الْآخِرَة - وَجب أَن يكون فِي الشَّرْع ناهية عَن ذَلِك وَإِظْهَار نفرة
عَنهُ.
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن طَعَام المتبارين أَن يُؤْكَل.
أَقُول: كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتفاخرون يُرِيد كل وَاحِد أَن يغلب
الآخر، فَيصْرف المَال لذَلِك الْغَرَض دون سَائِر النيات، وَفِيه الحقد
وَفَسَاد ذَات الْبَين وإضاعة المَال من غير مصلحَة دينية أَو مَدَنِيَّة،
وَإِنَّمَا هُوَ اتِّبَاع داعيه نفسانية، فَلذَلِك وَجب أَن يهجر أمره،
ويهان، ويسد هَذَا الْبَاب، وَأحسن مَا ينْهَى بِهِ أَلا يُؤْكَل طَعَامه.
(2/201)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا اجْتمع داعيان فأجب أقربهما بَابا، وَإِن سبق أَحدهمَا فأجب الَّذِي
سبق ". أَقُول: لما تَعَارضا طلب التَّرْجِيح وَذَلِكَ بِالسَّبقِ أَو
بِقُرْبِهِ.
(الْمُحرمَات)
الأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آبائكم}
إِلَى قَوْله:
{وَالله غَفُور رَحِيم} .
وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أمسك أَرْبعا وَفَارق سائرهن " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنْكح الْمَرْأَة على عَمَّتهَا " الحَدِيث، وَقَوله تَعَالَى:
{الزَّانِي لَا ينْكح إِلَّا زَانِيَة} . الْآيَة
اعْلَم أَن تَحْرِيم الْمُحرمَات الْمَذْكُورَة فِي هَذِه الْآيَات كَانَ
أمرا شَائِعا فِي أهل الْجَاهِلِيَّة مُسلما عِنْدهم، لَا يكادون يتركونه،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَشْيَاء يسيرَة كَانُوا ابتدعوها من عِنْد أنفسهم بغيا
وعدوانا كَنِكَاح مَا نكح آباؤهم وَالْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَكَانُوا
توارثوا تَحْرِيمهَا طبقَة عَن طبقَة حَتَّى صَار لَا يخرج من قُلُوبهم
إِلَّا أَن تمزع وَكَانَ فِي تَحْرِيمهَا مصَالح جليلة، فأبقى الله
تَعَالَى عز وَجل أَمر الْمُحرمَات على مَا كَانَ، وسجل عَلَيْهِم فِيمَا
كَانُوا تهاونوا فِيهِ.
وَالْأَصْل فِي التَّحْرِيم أُمُور:
مِنْهَا جَرَيَان الْعَادة بالاصطحاب والارتباط وَعدم إِمْكَان لُزُوم
السّتْر فِيمَا بَينهم وارتباط الْحَاجَات من الْجَانِبَيْنِ على الْوَجْه
الطبيعي دون الصناعي فَإِنَّهُ لَو لم تجر السّنة بِقطع الطمع عَنْهُن
والإعراض عَن الرَّغْبَة فِيهِنَّ لهاحت مفاسد لَا تحصى وَأَنت ترى الرجل
يَقع بَصَره على محَاسِن امْرَأَة أَجْنَبِيَّة، فيتوله بهَا، ويقتحم فِي
المهالك لأَجلهَا، فَمَا ظَنك فِيمَن يَخْلُو مَعهَا، وَينظر إِلَى محاسنها
لَيْلًا وَنَهَارًا؟ وَأَيْضًا لَو فتح بَاب الرَّغْبَة فِيهِنَّ وَلم يسد،
وَلم
(2/202)
تقم اللائمة عَلَيْهِم فِيهِ أفْضى ذَلِك
إِلَى ضَرَر عَظِيم عَلَيْهِنَّ، فَإِنَّهُ سَبَب عضهن إياهن
عَمَّن يرغبن فِيهِ لأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُ بيدهم أمرهن، وإليهم إنكاحهن
أَولا يكون لَهُنَّ أَن نكحوهن من يطالبهم عَنْهُن حُقُوق الزَّوْجِيَّة
مَعَ شدَّة احتياجهن إِلَى من يُخَاصم عَنْهُن.
وَنَظِيره مَا وَقع فِي الْيَتَامَى كَانَ الْأَوْلِيَاء يرغبون فِي مالهن
وجمالهن وَلَا يُوفونَ حُقُوق الزَّوْجِيَّة فَنزل:
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فانكحوا مَا طَابَ لكم من
النِّسَاء} . الْآيَة
بيّنت ذَلِك عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَهَذَا الارتباط على الْوَجْه
الطبيعي وَاقع بَين الرِّجَال، والأمهات، وَالْبَنَات، وَالْأَخَوَات،
والعمات، والخالات، وَبَنَات الْأَخ، وَبَنَات الْأُخْت.
وَمِنْهَا الرضَاعَة فَإِن الَّتِي أرضعت تشبه الْأُم من حَيْثُ إِنَّهَا
سَبَب اجْتِمَاع أمشاج بنيته وَقيام هيكله، غير أَن الْأُم جمعت خلقته فِي
بَطنهَا، وَهَذِه درت عَلَيْهِ سد رمقه فِي أول نشأته، فَهِيَ أم بعد
الْأُم وَأَوْلَادهَا أخوة بعد الْأُخوة. وَقد قاست فِي حضانته مَا قاست،
وَقد ثَبت فِي ذمَّته من حُقُوقهَا مَا ثَبت، وَقد رَأَتْ فِي صغره مَا
رَأَتْ، فَيكون تَملكهَا والوثوب عَلَيْهَا مَا تمجه الْفطْرَة السليمة،
وَكم من بَهِيمَة عجماء لَا تلْتَفت إِلَى أمهَا أَو مرضعتها هَذِه اللفتة
فَمَا ظَنك بِالرِّجَالِ؟ وَأَيْضًا فَإِن الْعَرَب كَانُوا يسترضعون
أَوْلَادهم فِي حَيّ من الْأَحْيَاء، فيشب فيهم الْوَلِيد، ويخالطهم
كمخالطة الْمَحَارِم، وَيكون عِنْدهم للرضاعة لحْمَة كلحمة النّسَب،
فَوَجَبَ أَن يحمل على النّسَب، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" يحرم من الرضَاعَة مَا يحرم من الْولادَة ".
وَلما كَانَ الرَّضَاع إِنَّمَا صَار سَببا للتَّحْرِيم لِمَعْنى المشابهة
بِالْأُمِّ فِي كَونهَا سَببا لقِيَام بنية الْمَوْلُود وتركيب هيكله وَجب
أَن يعْتَبر فِي الأرضاع شيآن:
أَحدهمَا الْقدر الَّذِي يتَحَقَّق بِهِ هَذَا الْمَعْنى، فَكَانَ فِيمَا
أنزل من الْقُرْآن عشر رَضعَات مَعْلُومَات (يحر - من -، ثمَّ نسخن بِخمْس
مَعْلُومَات، فتوفى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهن
مِمَّا يقْرَأ فِي الْقُرْآن. أما التَّقْدِير فَلِأَنَّهُ لما كَانَ
الْمَعْنى مَوْجُودا فِي الْكثير دون الْقَلِيل وَجب عِنْد التشريع أَن
يضْرب بَينهمَا حد يرجع إِلَيْهِ عِنْد الِاشْتِبَاه، وَأما التَّقْدِير
بِعشر فَلِأَن الْعشْر أول حد مُجَاوزَة الْعدَد من الْآحَاد وتدربه فِي
العشرات، وَأول حد يسْتَعْمل فِيهِ جمع الْكَثْرَة وَلَا يسْتَعْمل فِيهِ
جمع الْقلَّة، فَكَانَ نِصَابا صَالحا لضبط الْكَثْرَة المعتد بهَا المؤثرة
فِي بدن
(2/203)
الْإِنْسَان أما النّسخ بِخمْس فللاحتياط
لِأَن الطِّفْل إِذا أرضع خمس رَضعَات غزيرات يظْهر الرونق والنضارة على
وَجهه وبدنه، وَإِذا أَصَابَهُ عوز اللَّبن فِي هَذِه الرضعات وَكَانَت
الْمُرْضع غير ذَات در ظهر على بدنه القحول والهزال وَهَذِه آيَة أَنَّهَا
سَبَب التنمية وَقيام الهيكل وَمَا دون ذَلِك لَا يظْهر أَثَره.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تحرم الرضعة والرضعتان،
وَلَا تحرم المصة والمصتان، لَا تحرم الإملاجة وَلَا الإملاجتان " وَأما
على قَول من قَالَ يحرم الْكثير والقليل فالسبب تَعْظِيم أَمر الرَّضَاع
وَجعله كالمؤثر بالخاصية كَسنة الله تَعَالَى فِي سَائِر مَا لَا يدْرك
منَاط حكمه.
وَالثَّانِي أَن يكون الرَّضَاع فِي أول قيام الهيكل وتشبح صُورَة
الْوَلَد، وَإِلَّا فَهُوَ غذَاء بِمَنْزِلَة سَائِر الأغذية الكائنة بعد
التشبح وَقيام الهيكل كالشاب يَأْكُل الْخبز، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ:
" إِن الرضَاعَة من المجاعة " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحرم من الرَّضَاع إِلَّا مَا فتق الأمعاء فِي الثدي، وَكَانَ قبل
الْفِطَام ".
وَمِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن قطع الرَّحِم بَين الْأَقَارِب؛ فَإِن الضرتين
تتحاسدان، وينجر الْبَعْض إِلَى أقرب النَّاس مِنْهُمَا، والحسد بَين
الْأَقَارِب أخنع وأشنع، وَقد كره جماعان من السّلف ابْنَتي عَم لذَلِك،
فَمَا ظَنك بامرأتين أَيهمَا فرض ذكرا حرمت عَلَيْهِ الْأُخْرَى كالأختين،
وَالْمَرْأَة، وعمتها، وَالْمَرْأَة، وخالتها، وَقد اعْتبر النَّبِي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الأَصْل فِي تَحْرِيم الْجمع بَين بنت
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبنت غَيره؛ فَإِن الْحَسَد من
الضره واستئثارها من الزَّوْج كثيرا مَا ينجران إِلَى بغضها وبغض أَهلهَا،
وبغض النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَو بِحَسب الْأُمُور
المعاشية يُفْضِي إِلَى الْكفْر، وَالْأَصْل فِي هَذَا الْأخْتَان، وَنبهَ
النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقولة: " لَا يجمع بَين
الْمَرْأَة وعمتها " الحَدِيث على وَجه الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا الْمُصَاهَرَة فَإِنَّهُ لَو جرت السّنة رَغْبَة بَين النَّاس
أَن يكون للْأُم رَغْبَة فِي زوج بنتهَا وللرجال فِي حلائل الْأَبْنَاء
وَبَنَات نِسَائِهِم لأفضى إِلَى السَّعْي فِي فك ذَلِك الرَّبْط أَو قتل
من يشح بِهِ، وَإِن أَنْت تسمعت إِلَى قصَص قدماء الفارسيين واستقرأت حَال
أهل زَمَانك من الَّذين لم يتقيدوا بِهَذِهِ السّنة الراشدة وجدت أمروا
عظاما ومهالك ومظالم لَا تحصى،
(2/204)
وَأَيْضًا فَإِن الاصطحاب فِي هَذِه
الْقَرَابَة لَازم، والستر مُتَعَذر، والتحاسد شنيع، والحاجات من
الْجَانِبَيْنِ متنازعة، فَكَانَ أمرهَا بِمَنْزِلَة الْأُمَّهَات
وَالْبَنَات أَو بِمَنْزِلَة الْأُخْتَيْنِ.
وَمِنْهَا الْعدَد الَّذِي لَا يُمكن الْإِحْسَان إِلَيْهِ من الْعشْرَة
الزَّوْجِيَّة فَإِن النَّاس كثيرا مَا يرغبون فِي جمال النِّسَاء،
ويتزوجون مِنْهُنَّ ذَوَات عدد، ويستأثرون مِنْهَا حظية، ويتركون الْأُخَر
كالمعلقة، فَلَا هِيَ مُزَوّجَة حظية تقر عينهَا، وَلَا هِيَ أيم يكون
أمرهَا بِيَدِهَا، وَلَا يُمكن أَن يضيق فِي ذَلِك كل تضييق، فَإِن من
النَّاس من لَا يحصنه فرج وَاحِد، وَأعظم الْمَقَاصِد التناسل، وَالرجل
يَكْفِي لتلقيح عدد كثير من النِّسَاء، وَأَيْضًا فالاكثار من النِّسَاء
شِيمَة الرِّجَال وَرُبمَا يحصل بِهِ المباهاة، فَقدر الشَّارِع بِأَرْبَع،
وَذَلِكَ أَن الْأَرْبَع عدد يُمكن لصاحبة أَن يرجع إِلَى كل وَاحِدَة بعد
ثَلَاثَة لَيَال، وَمَا دون لَيْلَة لَا يُفِيد فَائِدَة الْقسم، وَلَا
يُقَال فِي ذَلِك: بَات عِنْدهَا، وَثَلَاث أول حد كَثْرَة وَمَا فَوْقهَا
زِيَادَة الْكَثْرَة، وَكَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَن ينْكح مَا شَاءَ وَذَلِكَ لِأَن ضرب هَذَا الْحَد إِنَّمَا هُوَ لدفع
مفْسدَة غالبية دَائِرَة على مَظَنَّة لَا لدفع مفْسدَة عَيْنِيَّة حقيقيه،
وَالنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد عرف المئة فَلَا حَاجَة
لَهُ فِي المظنة وَهُوَ مامون فِي طَاعَة الله وامتثال أمره دون سَائِر
النَّاس.
وَمِنْهَا اخْتِلَاف الدّين؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلَا تنْكِحُوا الْمُشْركين حَتَّى يُؤمنُوا} . الْآيَة
وَقد بَين فِي هَذِه الْآيَة أَن الْمصلحَة المرعية فِي هَذَا الحكم هُوَ
أَن صُحْبَة الْمُسلمين مَعَ الْكفَّار وجريان الْمُوَاسَاة فِيمَا بَين
الْمُسلمين وَبينهمْ لَا سِيمَا على وَجه الازدواج مفْسدَة للدّين سَبَب
لآن يدب فِي قلبه الْكفْر من حَيْثُ يشْعر وَمن حَيْثُ لَا يشْعر، وَأَن
الْيَهُود. وَالنَّصَارَى يتقيدون بشريعة سَمَاوِيَّة قَائِلُونَ بأصول
قوانين التشريع وكلياته دون الْمَجُوس وَالْمُشْرِكين فمفسدة صحبتهم
خَفِيفَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهم، فَإِن الزَّوْج قاهر على الزَّوْجَة
قيم عَلَيْهَا وَإِنَّمَا الزَّوْجَات عوان بِأَيْدِيهِم، فَإِذا تزوج
الْمُسلم الْكِتَابِيَّة خف الْفساد، فَمن حق هَذَا أَن يرخص فِيهِ، وَلَا
يشدد كتشديد سَائِر أَخَوَات الْمَسْأَلَة.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة أمة لآخر، فَإِنَّهُ لَا يُمكن تحصين فرجهَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَيِّدهَا، وَلَا اخْتِصَاصه بهَا بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ إِلَّا من جِهَة التَّفْوِيض إِلَى دينه
وأمانته، وَلَا جَائِز أَن يسد سَيِّدهَا عَن استخدامها والتخلي بهَا فَإِن
ذَلِك تَرْجِيح أَضْعَف الْملكَيْنِ على أقواهما فَإِن هُنَالك ملكَيْنِ:
ملك الرَّقَبَة. وَملك الْبضْع، وَالْأول هُوَ الْأَقْوَى الْمُشْتَمل على
الآخر المستتبع لَهُ، وَالثَّانِي هُوَ الضَّعِيف المندرج، وَفِي اقتضاب
الْأَدْنَى للأعلى قلب الْمَوْضُوع وَعدم الِاخْتِصَاص بهَا، وَعدم
إِمْكَان ذب الطامع فِيهَا هُوَ أصل الزِّنَا، وَقد اعْتبر انبي صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا
(2/205)
الأَصْل فِي تَحْرِيم الْأَنْكِحَة الَّتِي
كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يتعاملونها، كالاستبضاع وَغَيره على مَا بَينته
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا، فَإِذا كَانَت فتاة مُؤمنَة بِاللَّه مُحصنَة
فرجهَا، واشتدت الْحَاجة إِلَى نِكَاحهَا لمخافة الْعَنَت وَعدم طول الْحر
خف الْفساد وَكَانَت الضروره والضرورات تبيح الْمَحْظُورَات.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة مَشْغُولَة بِنِكَاح مُسلم أَو كَافِر، فَإِن
أصل الزِّنَا هُوَ الازدحام على الموطوءه من غير اخْتِصَاص أَحدهمَا بهَا
وَغير قطع طمع الآخر فِيهَا، وَلذَلِك قَالَ الزُّهْرِيّ رَحْمَة الله
عَلَيْهِ: وَيرجع ذَلِك إِلَى أَن الله تَعَالَى حرم الزِّنَا، وَأصَاب
الصحابه رَضِي الله عَنْهُم سَبَايَا، وتحرجوا من غشيانها من أجل
أَزوَاجهنَّ من الْمُشْركين، فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَالْمُحصنَات من النِّسَاء إِلَّا مَا ملكت أَيْمَانكُم} .
أَي فهن حَلَال من جِهَة أَن السَّبي قَاطع لطعمه، وَاخْتِلَاف الدَّار
مَانع من الازدحام عَلَيْهَا، ووقوعها فِي سَهْمه مُخَصص لَهَا بِهِ.
وَمِنْهَا كَون الْمَرْأَة زَانِيَة مكتسبة بِالزِّنَا، فَلَا يجوز
نِكَاحهَا حَتَّى تتوب، وتقلع عَن فعلهَا ذَلِك، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{والزانية لَا ينْكِحهَا إِلَّا زَان أَو مُشْرك} .
والسر فِيهِ أَن كَون الزَّانِيَة فِي عصمته وَتَحْت يَده وَهِي بَاقِيَة
على عَادَتهَا من الزِّنَا ديوسية وانسلاخ عَن الْفطْرَة السليمة،
وَأَيْضًا فانه لَا يَأْمَن من أَن تلْحق بِهِ ولد غَيره.
وَلما كَانَت الْمصلحَة من تَحْرِيم الْمُحرمَات لَا تتمّ إِلَّا بِجعْل
التَّحْرِيم أمرا لَازِما وخلقا جبليا بِمَنْزِلَة الْأَشْيَاء الَّتِي
يستنكف مِنْهَا طبعا، وَجب أَن يُؤَكد شهرتها وشيوعها وَقبُول النَّاس
لَهَا باقامة لائمة شَدِيدَة على إهمال تَحْرِيمهَا، وَذَلِكَ أَن تكون
السّنة قتل من وَقع على ذَات، ورحم محرم مِنْهُ بِنِكَاح أَو غَيره،
وَلذَلِك بعث رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى من تزوج
بامرأه أَبِيه أَن يُؤْتى بِرَأْسِهِ.
(آدَاب الْمُبَاشرَة)
اعْلَم أَن الله تَعَالَى لما خلق الْإِنْسَان مدنيا بالطبع، وتعلقت
إِرَادَته بِبَقَاء النَّوْع بالتناسل وَجب أَن يرغب الشَّرْع فِي التناسل
أَشد رَغْبَة، وَينْهى عَن قطع النَّسْل والأسباب المفضية إِلَيْهِ أَشد
نهي، وَكَانَ أعظم أَسبَاب النَّسْل وأكثرها وجودا وأفضاها إِلَيْهِ وأحثها
عَلَيْهِ هُوَ شَهْوَة الْفرج، فانها كالمسلط عَلَيْهِم مِنْهُم يقهرهم على
ابْتِغَاء النَّسْل، أشاءوا أم أَبَوا،
(2/206)
وَفِي جَرَيَان الرَّسْم باتيان الغلمان
وَوَطْء النِّسَاء فِي أدبارهن تَغْيِير خلق الله حَيْثُ منع الْمُسَلط على
شَيْء من إفضائه إِلَى مَا قصد لَهُ وَأَشد ذَلِك كُله وَطْء الغلمان فانه
تَغْيِير لخق الله من الْجَانِبَيْنِ وتأنث الرِّجَال أقبح الْخِصَال،
وَكَذَلِكَ جَرَيَان الرَّسْم بِقطع أَعْضَاء النَّسْل وَاسْتِعْمَال
الادوية القامعة للباءة والتبتل وَغَيرهَا تَغْيِير لخلق الله عز وَجل
وإهمال لطلب النَّسْل، فَنهى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن
كل ذَلِك قَالَ: " لَا تَأْتُوا النِّسَاء فِي أدبارهن، مَلْعُون من أَتَى
امْرَأَة فِي دبرهَا " وَكَذَلِكَ نهى عَن الخصاء والتبتل فِي أَحَادِيث
كَثِيرَة قَالَ الله تَعَالَى:
{نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ أَنى شِئْتُم} .
اقول: كَانَ الْيَهُود يضيقون فِي هَيْئَة الْمُبَاشرَة من غير حكم سماوي،
وَكَانَ الْأَنْصَار وَمن وليهم يَأْخُذُونَ سنتهمْ، وَكَانُوا يَقُولُونَ:
إِذا أَتَى الرجل امْرَأَته من دبرهَا فِي قبلهَا كَانَ الْوَلَد أَحول
فَنزلت هَذِه الْآيَة: أقبل، وَأدبر مَا كَانَ فِي صمام وَاحِد، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ شَيْء لَا يتَعَلَّق بِهِ الْمصلحَة المدنية والملية "
وَالْإِنْسَان أعرف بمصلحة خَاصَّة نَفسه، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك من
تعمقات الْيَهُود فَكَانَ من حَقه أَن ينْسَخ.
وَسُئِلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْعَزْل؟
فَقَالَ:
" مَا عَلَيْكُم أَلا تَفعلُوا مَا من نسمَة كائنة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
إِلَّا وَهِي كائنة " أَقُول: يُشِير إِلَى كَرَاهِيَة الْعَزْل من غير
تَحْرِيم، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن الْمصَالح متعارضة، فالمصلحة
الْخَاصَّة بِنَفسِهِ فِي السَّبي مثلا أَن يعْزل، والمصلحة النوعية أَلا
يعْزل، ليتَحَقَّق كَثْرَة الْأَوْلَاد وَقيام النَّسْل، وَالنَّظَر إِلَى
الْمصلحَة النوعية أرجح من النّظر إِلَى الْمصلحَة الشخصية فِي عَامَّة
أَحْكَام الله تَعَالَى التشريعية والتكوينية، على أَن الْعَزْل لَيْسَ
فِيهِ مَا إتْيَان الدبر من تَغْيِير خلق الله وَلَا الْأَعْرَاض من
التَّعَرُّض للنسل، وَنبهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " مَا
عَلَيْكُم أَن أَلا تَفعلُوا " على أَن الْحَوَادِث مقدرَة قبل وجودهَا.
وَأَن الشَّيْء إِذا قدر وَلم يكن لَهُ فِي الأَرْض إِلَّا سَبَب ضَعِيف
فَمن سنة الله عز وَجل أَن يبسط ذَلِك السَّبَب الضَّعِيف حَتَّى يُفِيد
الْفَائِدَة التَّامَّة، فالإنسان إِذا قَارب الْإِنْزَال وَأَرَادَ أَن
ينْزع ذكره كثيرا مَا يتقاطر فِي إحليله قطرات تَكْفِي من مَادَّة وَلَده
وَهُوَ لَا يدْرِي، وَهُوَ سر قَول عمر رَضِي الله عَنهُ بالحاق الْوَلَد
بِمن أقرّ أَنه مَسهَا لَا يمْنَع من ذَلِك الْعَزْل.
(2/207)
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لقد هَمَمْت أَن أنهِي عَن الغيلة فَنَظَرت فِي الرّوم فَارس فَإِذا هم
يغيلون أَوْلَادهم فَلَا تضر أَوْلَادهم " وَقَالَ:
" لَا تقتلُوا أَوْلَادكُم سرا فان الغيل يدْرك الْفَارِس، فيدعثره ".
أَقُول: هَذَا إِشَارَة إِلَى كَرَاهِيَة الغيلة من غير تَحْرِيم، وَسَببه
أَن جماع الْمُرْضع يفْسد لَبنهَا، وينفه الْوَلَد، وَضَعفه فِي أول نمائه
يدْخل فِي جذر مزاجه، وَبَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَنه أَرَادَ التَّحْرِيم لكَونه مَظَنَّة الْغَالِب للضَّرَر، ثمَّ
أَنَّهَا لما استقرأ وجد أَن الضَّرَر غير مطرد وَأَنه لَا يصلح للمظنة
حَتَّى يدار عَلَيْهِ التَّحْرِيم، وَهَذَا الحَدِيث أحد دَلَائِل مَا
أَثْبَتْنَاهُ من أَن النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يجْتَهد وَأَن اجْتِهَاده معرفَة الْمصَالح والمظان وإدارة التَّحْرِيم
والكراهية عَلَيْهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن من أشر النَّاس عِنْد الله
منزلَة الرجل يُفْضِي إِلَى امْرَأَته، وتفضي هِيَ إِلَيْهِ ثمَّ ينشر سرها
" أَقُول: لما كَانَ السّتْر وَاجِبا وَإِظْهَار مَا أسبل عَلَيْهِ السّتْر
قلبا لموضوعه ومناقضا لغرضه كَانَ من مُقْتَضَاهُ أَن ينْهَى عَنهُ،
وَأَيْضًا فاظهار مثل هَذِه مجانة ووقاحة، وَاتِّبَاع مثل هَذِه
الدَّوَاعِي يعد النَّفس لتشبح الألوان الظلمانية فِيهَا.
وَكَانَت الْملَل مُخْتَلفه فِيمَا يفعل فِي بالحائض، فَمن متعمق كاليهود
يمْنَع مؤاكلتها ومضاجعتها، وَمن متهاون كالمجوس يجوز الْجِمَاع وَغَيره،
وَلَا يجد للْحيض بَالا وكل ذَلِك إفراط وتفريط، فراعت الْملَّة المصطفوية
التَّوَسُّط فَقَالَ: " اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح " وَذَلِكَ لمعان
مِنْهَا أَن جماع الْحَائِض لَا سِيمَا فِي فَور حَيْضَتهَا ضار اتّفق
الْأَطِبَّاء على ذَلِك، وَمِنْهَا أَن مُخَالطَة النَّجَاسَة خلق فَاسد
تمجه الطبيعة السليمة، وَيقرب
من الشَّيَاطِين وَفِي مثل الِاسْتِنْجَاء حَاجَة، وَإِنَّمَا الْمَقْصُود
من ذَلِك إِزَالَتهَا، وَفِي جماع الْحَائِض الغمس فِي النَّجَاسَة، وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى:
{قل هُوَ أَذَى فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} .
وَاخْتلفت الرِّوَايَة فِيمَا دون الْجِمَاع، فَقيل: يَتَّقِي شعار الدَّم،
وَقيل: يَتَّقِي مَا تَحت الْإِزَار، وعَلى الْوَجْهَيْنِ هُوَ
الدَّوَاعِي، وَجَاء الْأَمر لمن عصى الله، فجامع الْحَائِض أَن يتَصَدَّق
بِدِينَار أَو نصف دِينَار وَهَذَا لَيْسَ بمجمع عَلَيْهِ، وسر
الْكَفَّارَة مَا ذكرنَا مرَارًا.
(2/208)
|