حجة الله البالغة

 (حُقُوق الزَّوْجِيَّة)
اعْلَم أَن الارتباط الْوَاقِع بَين الزَّوْجَيْنِ أعظم الارتباطات المنزلية بأشرها، وأكثرها نفعا، وأتمها حَاجَة؛ إِذْ السّنة عِنْد طوائف النَّاس عربهم وعجمهم أَن تعاونه الْمَرْأَة فِي اسْتِيفَاء الارتفاقات، وَأَن تتكفل لَهُ بتهيئة الْمطعم وَالْمشْرَب والملبس، وَأَن تخزن مَاله، وتحضن وَلَده، وَتقوم فِي بَيته مقَامه عِنْد غيبته إِلَى غير ذَلِك مِمَّا لَا حَاجَة إِلَى شَرحه وَبَيَانه، فَلذَلِك كَانَ أَكثر توجه الشَّرَائِع إِلَى إبقائه مَا أمكن وتوفير مقاصده وكراهية تنغيصه وإبطاله، وكل ارتباط لَا يُمكن اسْتِيفَاء مقاصده إِلَّا بِإِقَامَة الألفة، وَلَا ألفة إِلَّا بخصال يقيدان أَنفسهمَا عَلَيْهَا، كالمواساة وعفو مَا يفرط من سوء الْأَدَب والاحتراز عَمَّا يكون سَببا للضغائن ووحر الصَّدْر وَإِقَامَة المفاكهة وطلاقة الْوَجْه وَنَحْو ذَلِك، فاقتضت الْحِكْمَة أَن يرغب فِي هَذِه الْخِصَال ويحث عَلَيْهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اسْتَوْصُوا بِالنسَاء خيرا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ من ضلع، فَإِن ذهبت تُقِيمهُ كَسرته وَإِن تركته لم يزل أَعْوَج " أَقُول: مَعْنَاهُ اقْبَلُوا وصيتي، وَاعْمَلُوا بهَا فِي النِّسَاء، وان فِي خَلقهنَّ عوجا وسوءا، وَهُوَ
كالأمر اللَّازِم بِمَنْزِلَة مَا يتوارثه الشَّيْء من مادته، وَأَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ اسْتِيفَاء مَقَاصِد الْمنزل مِنْهَا لَا بُد أَن يُجَاوز عَن محقرات الْأُمُور، ويكظم الغيظ فِيمَا يجده خلاف هَوَاهُ إِلَّا مَا يكون من بَاب الْغيرَة المحمودة وتداركا لجور وَنَحْوه ذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يفرك مُؤمن مُؤمنَة، ان كره مِنْهَا خلقا رَضِي مِنْهَا الآخر " أَقُول: الْإِنْسَان إِذا كره مِنْهَا خلقا يَنْبَغِي أَلا يُبَادر إِلَى الطَّلَاق، فَإِنَّهُ كثيرا مَا يكون فِيهَا خلق آخر يستطاب مِنْهَا، ويتحمل سوء عشرتها لذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" اتَّقوا الله فِي النِّسَاء، فَإِنَّكُم أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَان الله، واستحللتم فروجهن بِكَلِمَة الله، وَلكم عَلَيْهِنَّ أَلا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فَإِن فعلن، فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عَلَيْكُم رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ ".
اعْلَم أَن الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ المعاشرة بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:

(2/209)


{وعاشروهن بِالْمَعْرُوفِ} .
فبينها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرزق وَالْكِسْوَة وَحسن الْمُعَامَلَة، وَلَا يُمكن فِي الشَّرَائِع المستندة إِلَى الْوَحْي أَن يعين جنس الْقُوت وَقدره مثلا، فَإِنَّهُ لَا يكَاد يتَّفق أهل الأَرْض على شَيْء وَاحِد، وَلذَلِك إِنَّمَا أَمر أمرا مُطلقًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا دَعَا الرجل امْرَأَته إِلَى فرَاشه، فَأَبت، فَبَاتَ غَضْبَان لعنتها الْمَلَائِكَة حَتَّى تصبح ". أَقُول لما كَانَت الْمصلحَة المرعية فِي النِّكَاح تحصين فرجه وَجب أَن تحقق تِلْكَ الْمصلحَة، فَإِن من أصُول الشَّرَائِع أَنَّهَا إِذا ضربت مَظَنَّة لشَيْء سجل بِمَا يُحَقّق وجود الْمصلحَة عِنْد المظنة وَذَلِكَ أَن تُؤمر الْمَرْأَة بمطاوعته إذأ أَرَادَ مِنْهَا ذَلِك، وَلَوْلَا هَذَا لم يتَحَقَّق تحصين فرجه، فَإِن أَبَت، فقد سعت فِي رد الْمصلحَة الَّتِي أَقَامَهَا الله فِي عباده، فَتوجه إِلَيْهَا لعن الْمَلَائِكَة على كل من سعى فِي فَسَادهَا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن من الْغيرَة مَا يحب الله وَمِنْهَا مَا يبغض الله، فَأَما الَّتِي يُحِبهَا الله فالغيرة فِي الرِّيبَة، وَأما الَّتِي يبغضها الله فالغيرة فِي غير رِيبَة ". أَقُول: فرق بَين اقامة الْمصلحَة والسياسة الَّتِي لَا بُد لَهُ مِنْهَا وَبَين سوء الْخلق والضجر والضيق من غير مُوجب.
قَالَ الله تَعَالَى:
{الرِّجَال قوامون على النِّسَاء بِمَا فضل الله} إِلَى قَوْله. {إِن الله كَانَ عليما خَبِيرا} .
أَقُول: يجب أَن يَجْعَل الزَّوْج قواما على امْرَأَته، وَأَن يكون لَهُ الطول عَلَيْهَا بالجبلة فَإِن الزَّوْج أتم عقلا وأوفر سياسة وآكد حماية وذبا للعار، بِالْمَالِ حَيْثُ أنْفق عَلَيْهَا رزقها وكسوتها، وَكَون السياسة بِيَدِهِ يَقْتَضِي أَن يكون لَهُ تعزيرها وتأديبها أَن بَغت، وليأخذ بالأسهل فالأسهل، فَالْأول بالوعظ، ثمَّ الهجر بالضجع يَعْنِي ترك مضاجعتها، وَلَا يُخرجهَا من بَيته، ثمَّ الضَّرْب غير المبرح أَي الشَّديد، فَإِن اشْتَدَّ الشقاق، وَادّعى كل نشوز الآخر وظلمه لم يكن قطع الْمُنَازعَة إِلَّا بحكمين: حكم من أَهله، وَحكم من أَهلهَا يحكمان عَلَيْهِمَا من النَّفَقَة وَغَيرهَا مَا يريان من الْمصلحَة وَذَلِكَ لِأَن
إِقَامَة الْبَيِّنَة على مَا يجْرِي فِي الزَّوْجَيْنِ ممتنعة؛ فَلَا أَحَق من أَن يَجْعَل الْأَمر إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهِمَا وأشفقهم

(2/210)


عَلَيْهِمَا.
قَالَ رَسُول الله:
" لَيْسَ منا من خبب امْرَأَة على زَوجهَا أَو عبدا على سَيّده،. أَقُول: أحد أَسبَاب فَسَاد تَدْبِير الْمنزل أَن يخبب إِنْسَان الْمَرْأَة أَو العَبْد وَذَلِكَ سعي فِي تنغيص هَذَا النّظم وفكه ومناقضة الْمصلحَة الْوَاجِب إِقَامَتهَا.
وَاعْلَم أَن بَاب فَسَاد تَدْبِير الْمنزل خِصَالًا فَاشِية فِي النَّاس، كثيرا المبتلون بهَا، فَلَا بُد أَن يتَعَرَّض الشَّرْع لَهَا، ويبحث عَنْهَا، مِنْهَا أَن يجْتَمع عِنْد رجل عدد من النسْوَة، فيفضل إِحْدَاهُنَّ فِي الْقسم وَغَيره، وَيظْلم الآخرى وَيَتْرُكهَا كالمعلقة قَالَ الله تَعَالَى:
{وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم فَلَا تميلوا كل الْميل فتذروها كالمعلقة وَإِن تصلحوا وتتقوا فَإِن الله كَانَ غَفُورًا رحِيما} .
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا كَانَ عِنْد الرجل امْرَأَتَانِ، فَلم يعدل بَينهمَا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة وَشقه سَاقِط ". أَقُول: قد مر أَن المجازاة إِنَّمَا تظهر فِي صُورَة الْعَمَل فَلَا نعيده.
وَمِنْهَا أَن يعضلهن الْأَوْلِيَاء عَمَّا يرغبن فِيهِ من الْأَكفاء أتباعا لداعية نفسانية من حق وَغَضب وَنَحْوهمَا، وَفِي ذَلِك من الْمفْسدَة مَا لَا يخفى فَنزل قَوْله تَعَالَى:
{وَإِذا طلّقْتُم النِّسَاء فبلغن أَجلهنَّ فَلَا تعضلوهن أَن ينكحن أَزوَاجهنَّ} .
وَمِنْهَا أَن يتَزَوَّج الْيَتَامَى اللَّاتِي فِي حجره إِن كن ذَوَات مَال وجمال، وَلَا يَفِي بحقوقهن مثل مَا يصنع بذوات الْآبَاء، ويتركهن إِن كن على غير ذَلِك، قَالَ الله تَعَالَى:
{وَإِن خِفْتُمْ أَلا تقسطوا فِي الْيَتَامَى فنكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع فَإِن خِفْتُمْ أَن لَا تعدلوا فَوَاحِدَة أَو مَا ملكت أَيْمَانكُم} .
فَنهى الْإِنْسَان إِن خشِي الْجور أَن ينْكح الْيَتَامَى، أَو ينْكح ذَوَات عدد من النِّسَاء.
وَمن السّنة إِذا تزوج الْبكر على امْرَأَة أَقَامَ عِنْدهَا سبعا، ثمَّ قسم، وَإِذا تزوج الثّيّب أَقَامَ عِنْدهَا ثَلَاثًا، ثمَّ قسم.
أَقُول: السِّرّ فِي هَذَا أَنه لَا يجوز أَن يضيق فِي هَذَا الْبَاب كل التَّضْيِيق، فَإِنَّهُ لَا يطيقه أَكثر أَفْرَاد الْإِنْسَان وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{وَلنْ تستطيعوا أَن تعدلوا بَين النِّسَاء وَلَو حرصتم}
نبه على أَنه لما لم يكن إِقَامَة الْعدْل الصراح وَجب أَن يدار الحكم على ترك الْجور

(2/211)


الصَّرِيح، فَإِذا رغب رجل فِي امْرَأَة، وَأَعْجَبهُ حسنها، وشغف قلبه جمَالهَا، وَكَانَ لَهُ رَغْبَة وافره إِلَيْهَا لم يكن أَن يصد عَن ذَلِك بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ كالتكليف بالممتنع، فَقدر لَهُ مِقْدَار استئثاره لَهَا، لِئَلَّا يزِيد، فيقتحم
فِي الْجور، وَأَيْضًا فَمن الْمصلحَة الْمُعْتَبرَة تأليف قلب الجديدة وإكرامها، وَلَا يحصل إِلَّا بِأَن يستأثر وَهُوَ إِيمَاء قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا:
" لَيْسَ لَك على أهلك هوان إِن شِئْت سبعت " الحَدِيث وَأما كسر قلب الْقَدِيمَة فقد عولج فِي الجريان السّنة بِالزِّيَادَةِ للجديدة، فَإِنَّهُ إِذا جرت السّنة بِشَيْء، وَلم يكن مِمَّا قصد بِهِ إِيذَاء أحد أَو مِمَّا خص بِهِ هان وقعه عَلَيْهِ، وَهُوَ إِيمَاء قَوْله تَعَالَى:
{ذَلِك أدنى أَن تقر أعينهن وَلَا يحزن ويرضين بِمَا آتيتهن كُلهنَّ} .
يَعْنِي نزُول الْقُرْآن بالخيرة فِي حقهن سَبَب زَوَال السخطة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْبكْر الرَّغْبَة فيهاا أتم، وَالْحَاجة إِلَى تأليف قَلبهَا أَكثر، فَجعل قدرهَا السَّبع، وَقدر الثّيّب الثَّلَاث.
وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بِهن، وَإِذا أَرَادَ سفرا أَقرع بَين نِسَائِهِ. أَقُول: وَذَلِكَ دفعا لوحر الصَّدْر، وَالظَّاهِر أَن ذَلِك مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَبَرعا وإحسانا من غير وجوب عَلَيْهِ لقَوْله تَعَالَى:
{ترجي من تشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْك من تشَاء} .
وَأما فِي غَيره فموضع تَأمل واجتهاد، وَلَكِن جُمْهُور الْفُقَهَاء أوجبوا
الْقسم، وَاخْتلفُوا فِي الْقرعَة. أَقُول: وَفِيه أَن قَوْله: فَلم يعدل مُجمل لَا يدْرِي أَي عدل أُرِيد بِهِ، وَقَوله تَعَالَى:
{فتذروها كالمعلقة} .
مُبين أَن المُرَاد نفي الْجور الْفَاحِش وإهمال أمرهَا بِالْكُلِّيَّةِ سوء الْعشْرَة مَعهَا.
وأعتقت بربرة، وَكَانَ زَوجهَا عبدا، فَخَيرهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَاخْتَارَتْ نَفسهَا. أَقُول: السَّبَب فِي ذَلِك ان كَون الْحرَّة فراشا للْعَبد عَار عَلَيْهَا، فَوَجَبَ دفع ذَلِك الْعَار عَنْهَا إِلَّا أَن ترْضى بِهِ، وَأَيْضًا فالأمة تَحت يَد مَوْلَاهَا لَيْسَ رِضَاهَا رضَا حَقِيقَة، وَإِنَّمَا النِّكَاح بِالتَّرَاضِي، فَلَمَّا أَن كَانَ أمرهَا بِيَدِهَا وَجب مُلَاحظَة رِضَاهَا،

(2/212)


وَفِي رِوَايَة إِن قربك، فَلَا خِيَار لَك، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد من ضرب حد يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْخِيَار، وَإِلَّا كَانَ لَهَا الْخِيَار طول عمرها، وَفِي ذَلِك قلب مَوْضُوع النِّكَاح، وَلَا يصلح اخْتِيَارهَا إِيَّاه بالْكلَام حَتَّى يَنْتَهِي إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا رُبمَا تشَاور أَهلهَا، وتقلب الْأَمر فِي نَفسهَا وَكَثِيرًا مَا يجْرِي عِنْد ذَلِك صِيغَة الِاخْتِيَار وَإِن لم تجزم بِهِ، وَفِي إلجائها أَلا تَتَكَلَّم بِمِثْلِهَا حرج، فَلَا أَحَق من القربان إِذْ هُوَ فَائِدَة الْملك وَالشَّيْء الَّذِي يقْصد مِنْهُ وَالْأَمر الَّذِي يتم بِهِ، وَالله أعلم.
(الطَّلَاق)
قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَيّمَا امْرَأَة سَأَلت زَوجهَا طَلَاقا من غير بَأْس فَحَرَام عَلَيْهَا رَائِحَة الْجنَّة "
، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أبْغض الْحَلَال إِلَى الله الطَّلَاق " اعْلَم أَن فِي الأكثار من الطَّلَاق وجريان الرَّسْم بِعَدَمِ المبالاة بِهِ مفاسد كَثِيرَة، وَذَلِكَ أَن نَاسا ينقادون إِلَى لشَهْوَة الْفرج،
وَلَا يقصدون إِقَامَة تَدْبِير الْمنزل وَلَا التعاون فِي الارتفاقات وَلَا تحصين الْفرج، وَإِنَّمَا مطمح أَبْصَارهم التَّلَذُّذ بِالنسَاء وذوق لَذَّة كل امْرَأَة، فيهيجهم ذَلِك إِلَى أَن يكثروا الطَّلَاق وَالنِّكَاح، وَلَا فرق بَينهم وَيبين الزناة من جِهَة مَا يرجع إِلَى نُفُوسهم، وَإِن تميزوا عَنْهُم بِإِقَامَة سنة النِّكَاح والموافقة لسياسة الْمَدِينَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لعن الله الذواقين والذواقات " وَأَيْضًا فَفِي جَرَيَان الرَّسْم لذَلِك إهمال لتوطين النَّفس على المعاونة الدائمة أَو شبه الدائمة، وَعَسَى إِن فتح هَذِه الْبَاب أَن يضيق صَدره أَو صدرها فِي شَيْء من محقرات الْأُمُور، فيندفعان إِلَى الْفِرَاق، وَأَيْنَ ذَلِك من احْتِمَال أعباء الصُّحْبَة، وَالْإِجْمَاع على إدامة هَذَا النّظم؟ وَأَيْضًا فَإِن اعتيادهن بذلك وَعدم مبالاة النَّاس بِهِ وَعدم حزنهمْ عَلَيْهِ يفتح بَاب الوقاحة، وَألا يَجْعَل كل مِنْهُمَا ضَرَر الآخر ضَرَر نَفسه، وَأَن تخون كل وَاحِد الآخر يمهد لنَفسِهِ إِن وَقع الِافْتِرَاق، وَفِي ذَلِك مَا لَا يخفى، وَمَعَ ذَلِك لَا يُمكن سد هَذَا الْبَاب والتضيق، فِيهِ فانه قد يصير الزَّوْجَانِ متناشزين إِمَّا لسوء خلقهما أَو لطموح غين أَحدهمَا إِلَى حسن إِنْسَان آخر أَو لضيق معيشتهما أَو

(2/213)


لخرق وَاحِد مِنْهُمَا، وَنَحْو ذَلِك من الْأَسْبَاب، فَيكون إدامة هَذَا النّظم مَعَ ذَلِك بلَاء عَظِيما وحرجا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ، وَعَن الصَّبِي حَتَّى يبلغ، وَعَن الْمَعْتُوه حَتَّى يعقل " أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن مبْنى جَوَاز الطَّلَاق بل الْعُقُود كلهَا على الْمصَالح الْمُقْتَضِيَة لَهَا، والنائم وَالصَّبِيّ وَالْمَعْتُوه بمعزل عَن معرفَة تِلْكَ الْمصَالح.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا طَلَاق وَلَا إِعْتَاق فِي إغلاق " مَعْنَاهُ: فِي إِكْرَاه، اعْلَم أَن السَّبَب فِي هدر طَلَاق الْمُكْره شَيْئَانِ:
أَحدهمَا أَنه لم يرض بِهِ، وَلم يرد فِيهِ مصلحَة منزلية، وَإِنَّمَا هُوَ لحادثة لم يجد مِنْهَا بدا، فَصَارَ بِمَنْزِلَة النَّائِم.
وَثَانِيهمَا أَنه لَو اعْتبر طَلَاقه طَلَاقا لَكَانَ ذَلِك فتحا لباب الاكراه، فَعَسَى أَن يختطف الْجَبَّار الضَّعِيف من حَيْثُ لَا يعلم النَّاس، ويخيفه بِالسَّيْفِ، ويكرهه على الطَّلَاق إِذا رغب فِي امْرَأَته، فَلَو خيبنا رَجَاءَهُ، وقلبنا عَلَيْهِ مُرَاده كَانَ ذَلِك سَببا لترك تظالم النَّاس فِيمَا بَينهم بالاكراه، وَنَظِيره مَا ذكرنَا فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الْقَاتِل لَا يَرث ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا طَلَاق فِيمَا لَا لَا يملك " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا طَلَاق قبل النِّكَاح ". أَقُول: الظَّاهِر أَنه يعم الطَّلَاق المنجر وَالْمُعَلّق بِنِكَاح وَغَيره، وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن الطَّلَاق إِنَّمَا يجوز فِي للْمصْلحَة، والمصلحة لَا تتمثل عِنْده قبل أَن يملكهَا، وَيرى مِنْهَا سيرتها، فَكَانَ طَلاقهَا قبل ذَلِك بِمَنْزِلَة نِيَّة الْمُسَافِر الْإِقَامَة فِي الْمَفَازَة أَو الغازى فِي دَار الْحَرْب مِمَّا تكذبه دَلَائِل الْحَال، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة يطلقون ويراجعون إِلَى مَتى شَاءُوا وَكَانَ فِي ذَلِك من الأضرار مَا لَا يخفى، فَنزل قَوْله تَعَالَى:
{الطَّلَاق مَرَّتَانِ} . الْآيَة
مَعْنَاهُ: أَن الطَّلَاق المعقب للرجعة مَرَّتَانِ، فَإِن طَلقهَا الثَّالِثَة، فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح زوجا غَيره، وألحقت السّنة ذوق الْعسيلَة بِالنِّكَاحِ.

(2/214)


والسر فِي جعل الطَّلَاق ثَلَاثًا لَا يزِيد عَلَيْهَا أَنَّهَا أول حد كَثْرَة، وَلِأَنَّهُ لَا بُد من ترو، وَمن النَّاس لَا يتَبَيَّن لَهُ الْمصلحَة حَتَّى يَذُوق فقدا، وأصل التجربة وَاحِدَة، ويكملها ثِنْتَانِ.
وَأما اشْتِرَاط النِّكَاح بعد الثَّالِثَة فلتحقيق معنى التَّحْدِيد والإنهاء، وَذَلِكَ أَنه لَو جَازَ رُجُوعهَا إِلَيْهِ من غير تخَلّل نِكَاح الآخر كَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الرّجْعَة،
فَإِن نِكَاح الْمُطلقَة إِحْدَى الرجعتين، وَأَن الْمَرْأَة مَا دَامَت فِي بَيته وَتَحْت يَده وَبَين أظهر أَقَاربه يُمكن أَن يغلب على رأيها، وتضطر إِلَى رضَا مَا يسولون لَهَا فَإِذا فَارَقْتهمْ، ذاقت الْحر والقر، ثمَّ رضيت بعد ذَلِك فَهُوَ حَقِيقِيَّة الرِّضَا، وَأَيْضًا فَفِيهِ إذاقة الْفَقْد ومعاقبة على اتِّبَاع دَاعِيَة الضجر من غيرتروي مصلحَة مهمة أَيْضا: فَفِيهِ إعظام المطلقات الثَّلَاث بَين أَعينهم وَجعلهَا بِحَيْثُ لَا يُبَادر إِلَيْهَا إِلَّا من وَطن نَفسه على ترك الطمع فِيهَا إِلَّا بعد ذل وإرغام أنف لَا مزِيد عَلَيْهِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لامْرَأَة رِفَاعَة حِين طَلقهَا، فَبت طَلاقهَا، فنكحت زوجا غَيره: أَتُرِيدِينَ أَن ترجعى إِلَى رِفَاعَة؟ قَالَت: نعم، قَالَ: لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَته وَيَذُوق عُسَيْلَتك ". أَقُول: إِنَّمَا شَرط تَمام النِّكَاح بذوق الْعسيلَة ليتَحَقَّق معنى التَّحْدِيد الَّذِي ضرب عَلَيْهِم فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِك لاحْتِمَال رجل باجراء صِيغَة النِّكَاح على اللِّسَان، ثمَّ يُطلق فِي الْمجْلس، وَهَذَا مناقضة لفائدة التَّحْدِيد.
وَلعن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحَلّل والمحلل لَهُ. أَقُول: لما كَانَ من النَّاس من ينْكح لمُجَرّد التَّحْلِيل من غير أَن يقْصد مِنْهَا تعاونا فِي الْمَعيشَة، وَلَا يتم بذلك الْمصلحَة الْمَقْصُودَة، وَأَيْضًا فَفِيهِ وقاحة وإهمال غيرَة وتسويغ إزدحام على الموطوأة من غير أَن يدْخل فِي تضاعيف المعاونة نهى عَنهُ.
وطلق عبد الله بن عمر رَضِي الله عَنهُ امْرَأَته وَهِي حَائِض. وَذكر ذَلِك للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتغيظ، وَقَالَ: ليراجعها، ثمَّ ليمسكها حَتَّى تطهر، ثمَّ تحيض ثمَّ تطهر، فَإِن بدا لَهُ أَن يطلقهَا فَلْيُطَلِّقهَا طَاهِرا قبل أَن يَمَسهَا ". أَقُول: السِّرّ فِي ذَلِك أَن الرجل قد يبغض الْمَرْأَة بغضة طبيعية، وَلَا طَاعَة لَهَا مثل كَونهَا حَائِضًا، وَفِي هَيْئَة رثَّة وَقد، يبغضها لمصْلحَة يحكم بإقامتها
الْعقل السَّلِيم مَعَ وجود

(2/215)


الرَّغْبَة الطبيعية، وَهَذِه هِيَ المتبعة وَأكْثر مَا يكون النَّدَم فِي الأول وَفِيه يَقع التراجع، وَهَذَا دَاعِيَة يتَوَقَّف تَهْذِيب النَّفس على إهمالها وَترك اتباعها، وَقد يشْتَبه الْأَمْرَانِ على كثير من النَّاس، فَلَا بُد من ضرب حد يتَحَقَّق بِهِ الْفرق، فَجعل الطُّهْر مَظَنَّة للرغبة الطبيعية، وَالْحيض مَظَنَّة للبغضة الطبيعية، والأقدام على الطَّلَاق على حِين رَغْبَة فِيهَا مَظَنَّة للْمصْلحَة الْعَقْلِيَّة،، والبقاء مُدَّة طَوِيلَة على هَذَا الخاطر مَعَ تحول الْأَحول من حيض إِلَى طهر، وَمن رثاثة إِلَى زِينَة، وَمن انقباض إِلَى انبساط مَظَنَّة لِلْعَقْلِ الصراح وَالتَّدْبِير الْخَالِص، فَلذَلِك كره الطَّلَاق فِي الْحيض، وَأمر بالمراجعة وتخلل حيض جَدِيد، وَأَيْضًا فَإِن طَلقهَا فِي الْحيض فَإِن عدت هَذِه الْحَيْضَة فِي الْعدة انتقصت مُدَّة الْعدة، وَإِن لم تعد تضررت الْمَرْأَة بطول الْعدة سَوَاء كَانَ المُرَاد بالقروء الإطهار أَو الْحيض، فَفِي كل ذَلِك مناقضة للحد الَّذِي ضربه الله فِي مُحكم كِتَابه من ثَلَاثَة قُرُوء.
وَإِنَّمَا أَمر أَن يكون الطَّلَاق فِي الطُّهْر قبل أَن يَمَسهَا لمعنيين: أَحدهمَا بَقَاء الرَّغْبَة الطبيعية فِيهَا، فَإِنَّهُ فِي بِالْجِمَاعِ تفتر سُورَة الرَّغْبَة.
وَثَانِيهمَا أَن يكون ذَلِك أبعد من اشْتِبَاه الإنساب.
وَإِنَّمَا أَمر الله تَعَالَى بإشهاد شَاهِدين على الطَّلَاق لمعنيين: أَحدهمَا الاهتمام بِأَمْر الْفروج؛ لِئَلَّا يكون نظم تَدْبِير الْمنزل، وَلَا فكه إِلَّا على أعين النَّاس،
وَالثَّانِي أَلا تشتبه الانساب وَألا يتواضع الزَّوْجَانِ من بعد، فيهملا الطَّلَاق، وَالله أعلم.
وَكره أَيْضا جمع الطلقات الثَّلَاث فِي طهر وَاحِد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إهمال للحكمة المرعية فِي شرع تفريقها، فَإِنَّهَا شرعت ليتدارك المفرط، وَلِأَنَّهُ تضييق على نَفسه وتعرضه للندامة، وَأما الطلقات الثَّلَاث فِي ثَلَاثَة أطهار فأيضا تضييق
ومظنة ندامة غير أَنَّهَا أخف من الأول من جِهَة وجود التروي والمدة الَّتِي تتحول فِيهَا الْأَحْوَال، وَرب إِنْسَان تكون مصْلحَته فِي تَحْرِيم المغلظ.