حجة الله البالغة

 (آدَاب الصُّحْبَة)
اعْلَم أَنه مِمَّا أوجبت سَلامَة الْفطر وَوُقُوع الْحَاجَات فِي أشخاص الْإِنْسَان والارتفاق مِنْهَا آدَاب يتأدبون بهَا فِيمَا بَينهم، وأكثرها أُمُور اجْتمعت طرائف الْعَرَب والعجم على أُصُولهَا وَإِن اخْتلفُوا فِي الصُّور والأشباح، فَكَانَ الْبَحْث عَنْهَا وتميز الصَّالح من الْفَاسِد مِنْهَا إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا.
فَمِنْهَا التَّحِيَّة الَّتِي يحيي بهَا بَعضهم بَعْضًا؛ فَإِن النَّاس يَحْتَاجُونَ إِلَى إِظْهَار التبشيش فِيمَا بَينهم. وَأَن يلاطف بَعضهم بَعْضًا. وَيرى الصَّغِير فضل الْكَبِير وَيرْحَم الْكَبِير الصَّغِير. ويواخى الأقران بَعضهم بَعْضًا؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا هَذِه لم تثمر الصُّحْبَة فائدتها وَلَا أنتجت جدولها وَلَو لم تضبط بِلَفْظ لكَانَتْ من الْأُمُور الْبَاطِنَة لَا يعلم إِلَّا استنباطا من الْقَرَائِن، وَلذَلِك جرت سنة السّلف فِي كل طَائِفَة بِتَحِيَّة حَسْبَمَا أدّى إِلَيْهِ رَأْيهمْ ثمَّ صَارَت شعارا لملتهم وإمارة لكَون الرجل مِنْهُم.
فَكَانَ الْمُشْركُونَ يَقُولُونَ: أنعم الله بك علينا وأنعم الله بك صبحا
وَكَانَ الْمَجُوس يَقُولُونَ: هز إرْسَال برزي.
وَكَانَ قانون الشَّرْع يَقْتَضِي أَن يذهب فِي ذَلِك إِلَى مَا جرت بِهِ سنة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام وتلقوها عَن الْمَلَائِكَة.
وَكَانَ من قبيل الدُّعَاء وَالذكر دون الاطمئنان بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا كتمني طول الْحَيَاة وَزِيَادَة الثروة وَدون الافراط فِي التَّعْظِيم حَتَّى يتاخم الشّرك
كالسجدة ولئم الأَرْض وَذَلِكَ هُوَ السَّلَام، فقد قَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لما خلق الله آدم قَالَ: اذْهَبْ فَسلم على أُولَئِكَ النَّفر وهم نفر من الْمَلَائِكَة جُلُوس فاستمع مَا يحينوك يحيونك لله فَإِنَّهَا تحيتك وتحية ذريتك فَذهب فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم فَقَالُوا: السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة الله، قَالَ: فزادوه وَرَحْمَة لله.
قَوْله: " فَسلم على أُولَئِكَ " مَعْنَاهُ - وَالله أعلم - حيهم حَسْبَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجتهادك فَأصَاب الْحق، فَقَالَ: " السَّلَام عَلَيْكُم " وَقَوله: " فانها تحيتك " يعْنى حتما من حَيْثُ إِنَّه عرف أَن ذَلِك مترشح من حَظِيرَة الْقُدس.

(2/304)


وَقَالَ الله تَعَالَى فِي قصَّة الْجنَّة: {سَلام عَلَيْكُم طبتم فادخلوها خَالِدين} قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تدخلون الْجنَّة حَتَّى تؤمنوا وَلَا تؤمنوا حَتَّى تحَابوا أَولا أدلكم على شَيْء إِذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السَّلَام بَيْنكُم ".
أَقُول: بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَائِدَة السَّلَام وَسبب مشروعيته فَإِن التحابب فِي النَّاس خصْلَة يرضاها الله تَعَالَى وإفشاء السَّلَام آلَة صَالِحَة لإنشاء الْمحبَّة. وَكَذَلِكَ المصافحة. وتقبيل الْيَد وَنَحْو ذَلِك، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يسلم الصَّغِير على الْكَبِير والمار على الْقَاعِد والقليل على الْكثير " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " يسلم الرَّاكِب على الْمَاشِي ".
أَقُول: الفاشي فِي طوائف النَّاس أَن يحي الدَّاخِل صَاحب الْبَيْت والحقير الْعَظِيم فأبقاه النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذَلِك غير أَنه مر عَلَيْهِ السَّلَام على غلْمَان فَسلم عَلَيْهِم. وَمر على نسْوَة فَسلم عَلَيْهِنَّ علما مِنْهُ أَن فِي رُؤْيَة الْإِنْسَان فضل من هُوَ أعظم مِنْهُ واشرف جمعا لشمل الْمَدِينَة، وَأَن فِي ذَلِك نوعا من الاعجاب بِنَفسِهِ فَجعل وَظِيفَة الْكِبَار التَّوَاضُع ووظيفة
الصغار توقير الْكِبَار، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من لم يرحم صَغِيرنَا وَلم يوقر كَبِيرنَا فَلَيْسَ منا ".
وَإِنَّمَا جعل وَظِيفَة الرَّاكِب السَّلَام على الْمَاشِي لِأَنَّهُ أهيب عِنْد النَّاس وَأعظم فِي نَفسه فتأكد لَهُ التَّوَاضُع.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
: لَا تبدأوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذا لَقِيتُم أحدهم فِي الطَّرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أضيفة، أَقُول: سره أَن إِحْدَى الْمصَالح الَّتِي بعث النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا التنويه بالملة الإسلامية وَجعلهَا أَعلَى الْملَل وَأَعْظَمهَا لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِأَن يكون لَهُم طول على سواهُم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَن قَالَ. " السَّلَام عَلَيْكُم عشر، وفيمن زَاد وَرَحْمَة الله عشرُون، وفيمن زَائِد أَيْضا وَبَرَكَاته ثَلَاثُونَ، وَأَيْضًا ومغفرته أَرْبَعُونَ، وَقَالَ: هَكَذَا تكون الْفَضَائِل ".
أَقُول: سر الْفضل ومناطه أَنه تتميم لما شرع الله لَهُ السَّلَام من التبشيش. والتألف. والموادة. وَالدُّعَاء وَالذكر. وإحالة الْأَمر على الله.

(2/305)


وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يُجزئ عَن الْجَمَاعَة إِذا مروا أَن يسلم أحدهم، وَيُجزئ عَن الْجُلُوس أَن يرد أحدهم " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن الْجَمَاعَة وَاحِدَة فِي الْمَعْنى وَتَسْلِيم وَاحِد مِنْهُم يدْفع الوحشة ويودد بَعضهم بَعْضًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا انْتهى أحدكُم إِلَى مجْلِس فليسلم فَإِن بدا لَهُ أَن يجلس فليجلس ثمَّ إِذا قَامَ فليسلم فَلَيْسَتْ الأولى بِأَحَق من الْآخِرَة "
أَقُول: سَلام الْوَدَاع فِيهِ فَوَائِد؛ مِنْهَا التَّمْيِيز بَين قيام المتاركة والكراهية، وَقيام الْحَاجة على نِيَّة الْعود لمثل تِلْكَ الصُّحْبَة، وَمِنْهَا أَن يتدارك المتدارك بعض مَا كَانَ يَقْصِدهُ ويهمه من الحَدِيث وَنَحْو ذَلِك، وَمِنْهَا أَلا يكون ذَهَابه من التسلل، والسر فِي المصافحة، وَقَوله: مرْحَبًا بفلان ومعانقة القادم وَنَحْوهَا أَنَّهَا زِيَادَة فِي الْمَوَدَّة والتبشيش وَرفع الوحشة والتدابر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا التقى المسلمان فتصافحا حمدا لله واستغفراه غفر لَهما " أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن التبشيش فِيمَا بَين الْمُسلمين توادهم وتلاطفهم وإشاعة ذكر الله فِيمَا بَينهم يرضى بهَا رب الْعَالمين.
وَأما الْقيام فاختلفت فِيهِ الْأَحَادِيث، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من سره أَن يتَمَثَّل لَهُ الرجل قيَاما فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار
" وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تقوموا كَمَا يقوم الْأَعَاجِم يعظم بَعضهم بَعْضًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قصَّة سعد:
" قومُوا إِلَى سيدكم " وَكَانَت فَاطِمَة رَضِي الله عَنْهَا إِذا دخلت على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ إِلَيْهَا فَأخذ بِيَدِهَا فقبلها وأجلسها فِي مَجْلِسه، وَإِذا دخل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهَا قَامَت وَأخذت بِيَدِهِ فقبلته وأجلسته فِي مجلسها.
أَقُول: وَعِنْدِي أَنه لَا اخْتِلَاف فِيهَا فِي الْحَقِيقَة فَإِن الْمعَانِي الَّتِي يَدُور عَلَيْهَا الْأَمر وَالنَّهْي مُخْتَلفَة فَإِن الْعَجم كَانَ من أَمرهم أَن تقوم الخدم بَين أَيدي سادتهم والرعية بَين أَيدي مُلُوكهمْ وَهُوَ من إفراطهم فِي التَّعْظِيم حَتَّى كَاد يتاخم الشّرك فنهوا عَنهُ، وَإِلَى هَذَا وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " كَمَا يقوم الْأَعَاجِم ".
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام:
" من سره أَن يتَمَثَّل " يُقَال: مثل بَين يَدَيْهِ مثولا إِذا انتصب قَائِما للْخدمَة، أما إِذا كَانَ تبشيشا لَهُ واهتزازا اليه وإكراما وتطبيبا لِقَلْبِهِ من غير أَن يتَمَثَّل بَين يَده فَلَا بَأْس فانه لَا يتاخم الشّرك.
وَقيل " يَا رَسُول الله الرجل منا يلقى أَخَاهُ أينحني لَهُ؟ قَالَ: لَا "

(2/306)


وَسَببه أَنه يشبه الرُّكُوع فِي الصَّلَاة فَكَانَ بِمَنْزِلَة سَجْدَة التَّحِيَّة.
قَالَ الله تَعَالَى:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تدْخلُوا بُيُوتًا غير بُيُوتكُمْ حَتَّى تستأنسوا وتسلموا على أَهلهَا}
وَقَالَ تَعَالَى الله:
{يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم الَّذين ملكت أَيْمَانكُم وَالَّذين لم يبلغُوا الْحلم مِنْكُم ثَلَاث مَرَّات}
إِلَى قَوْله تَعَالَى {كَمَا اسْتَأْذن الَّذين من قبلكُمْ} فَقَوله (تستأنسوا) أَي تستأذنوا أَقُول: إِنَّمَا شرع الاسْتِئْذَان لكراهية أَن يهجم الْإِنْسَان على عورات النَّاس وان ينظر مِنْهُم مَا يكْرهُونَ، وَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بعض حَدِيثه: " إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان لاجل الْبَصَر " فَكَانَ من حَقه أَن يخْتَلف باخْتلَاف النَّاس.
فَمنهمْ الْأَجْنَبِيّ الَّذِي لَا مُخَالطَة بَينهم وَبَينه، وَمن حَقه أَلا يدْخل حَتَّى يُصَرح بالاستئذان وَيُصَرح لَهُ بالأذن، وَلذَلِك علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلدة ابْن الحنبل رجلا من بني عَامر أَن يَقُول: " السَّلَام عَلَيْكُم أَأدْخل، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" الاسْتِئْذَان ثَلَاث فاذا اذن لَك وَإِلَّا فَارْجِع.
وَمِنْهُم نَاس أَحْرَار لَيْسُوا بالمحارم لَكِن بَينهم خلْطَة وصحبة فاستئذانهم دون اسْتِئْذَان الْأَوَّلين، وَلذَلِك قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الله بن مَسْعُود: " إذنك على أَن ترفع الْحجاب وَأَن تستمع سوادى حَتَّى أَنهَاك "
وَمِنْهُم صبيان ومماليك لَا يجب السّتْر مِنْهُم فَلَا اسْتِئْذَان لَهُم إِلَّا فِي أَوْقَات جرت الْعَادة فِيهَا بِوَضْع الثِّيَاب، وَإِنَّمَا خص الله تَعَالَى هَذِه الْأَوْقَات الثَّلَاث لِأَنَّهَا وَقت ولوج الصّبيان والمماليك بِخِلَاف نصف اللَّيْل مثلا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رَسُول الرجل إِلَى الرجل إِذْنه " وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عرف بِدُخُولِهِ لما أرسل إِلَيْهِ.
وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذا أَتَى بَاب قوم لم يسْتَقْبل الْبَاب من تِلْقَاء وَجهه لَكِن من رُكْنه الْأَيْمن أَو الْأَيْسَر، فَيَقُول: " السَّلَام عَلَيْكُم السَّلَام عليم " وَذَلِكَ لِأَن الدّور لم يكن عَلَيْهَا يَوْمئِذٍ ستور.
وَمِنْهَا آدَاب الْجُلُوس. وَالنَّوْم. وَالسّفر. وَنَحْوهَا، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يُقيم الرجل الرجل من مَجْلِسه ثمَّ يجلس فِيهِ وَلَكِن يَقُول: تَفَسَّحُوا وتوسعوا "

(2/307)


أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يصدر من كبر وَإِعْجَاب بِنَفسِهِ ويجد بِهِ الآخر وحرا وضغينة وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قَامَ من مَجْلِسه ثمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ " أَقُول: سبق إِلَى مجْلِس أُبِيح لَهُ من مَسْجِد أَو رِبَاط أوبيت فقد تعلق حَقه بِهِ فَلَا يهيج حَتَّى يَسْتَغْنِي عَنهُ كالموات " وَقد مر هُنَالك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا يحل للرجل أَن يفرق بَين اثْنَيْنِ إِلَّا بإذنهما ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا رُبمَا يَجْتَمِعَانِ لمسارة ومناجاة فَيكون الدُّخُول بَينهمَا تنغيصا عَلَيْهِمَا، وَرُبمَا يتآنسان فَيكون الْجُلُوس بَينهمَا إيحاشا لَهما.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يستلقين أحدكُم ثمَّ يضع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى " ورؤى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى
قَدَمَيْهِ على الْأُخْرَى أَقُول. كَانَ الْقَوْم يَأْتَزِرُونَ والمؤتزر إِذا رفع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى لَا يَأْمَن أَن تنكشف عَوْرَته فَإِن كَانَ لابس سَرَاوِيل أَو يَأْمَن انكشاف عَوْرَته فَلَا بَأْس فِي ذَلِك.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمضطجع على بَطْنه: " أَن هَذِه ضجعة يبغضها الله ". أَقُول وَذَلِكَ لِأَنَّهَا من الهيآت الْمُنكرَة القبيحة.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بَات على ظهر بَيت لَيْسَ عَلَيْهِ حجاب فقد بَرِئت مِنْهُ الذِّمَّة " أَقُول. وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تعرض لاهلاك نَفسه وَألقى نَفسه إِلَى التَّهْلُكَة، وَقد قَالَ الله تَعَالَى:
{وَلَا تلقوا بأيدكم إِلَى التَّهْلُكَة}
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَلْعُون على لِسَان مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قعد وسط الْحلقَة " قيل: المُرَاد مِنْهُ الماجن الَّذِي يُقيم نَفسه مقَام السخرية ليَكُون ضحكة وَهُوَ عمل من أَعمال الشَّيْطَان، وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى أَن يدبر على طَائِفَة وَيقبل على نَاحيَة فيجد بَعضهم فِي نَفسه من ذَلِك كَرَاهِيَة.
وَاخْتَلَطَ الرِّجَال مَعَ النِّسَاء فِي الطَّرِيق، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" للنِّسَاء استأخرن فانه لَيْسَ لَكِن أَن تحققن الطَّرِيق عليكن بحافات الطَّرِيق فَكَانَت الْمَرْأَة تلصق بالجدار ".
وَنهى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يمشي الرجل بَين امْرَأتَيْنِ.
أَقُول وَذَلِكَ خوفًا من أَن يمس الرجل امْرَأَة لَيست بِمحرم أَو ينظر إِلَيْهَا.

(2/308)


قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: إِذا عطس أحدكُم فَلْيقل الْحَمد لله وَليقل أَخُوهُ أَو صَاحبه يَرْحَمك الله فَلْيقل: يهديكم الله وَيصْلح بالكم " وَفِي رِوَايَة " وَإِن لم يحمد الله فَلَا تشمتوه " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" شمت أَخَاك ثَلَاثًا فَمَا زَاد فَهُوَ زكام " أَقُول: إِنَّمَا شرع الْحَمد عِنْد العطسه لمعنيين: أَحدهمَا أَنه من الشِّفَاء وَخُرُوج الأبخرة الغليظة من الدِّمَاغ، وَثَانِيهمَا أَنه سنة آدم عَلَيْهِ السَّلَام وَهُوَ معرف لكَونه تَابعا لسنن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام جَامع الْعَزِيمَة على ملتهم وَكَذَلِكَ وَجب التشميت وَكَانَ من حُقُوق الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا سنّ جَوَاب التشميت لِأَنَّهُ من مُقَابلَة الْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِنَّمَا التثاؤب من الشَّيْطَان فَإِذا تثاءب أحدكُم فليردده مَا اسْتَطَاعَ فان أحدكُم إِذا تثاءب ضحك مِنْهُ الشَّيْطَان ".
أَقُول: وَذَلِكَ لِأَن التثاؤب نَاشِئ عَن كسل الطبيعة وَغَلَبَة الملال والشيطان يجد فِي ضمن ذَلِك فرْصَة وَفتح الْفَم وَصَوت هاه يضْحك مِنْهُ الشَّيْطَان لِأَنَّهُ من الهيآت الْمُنكرَة.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا تثاءب أحكم فليمسك بِيَدِهِ على فَمه فَإِن الشَّيْطَان يدْخلهُ " أَقُول: الشَّيْطَان يهيج ذبابا أَو بقة فَيدْخل فِي فَمه وَرُبمَا تشنج أعصاب وَجهه وَقد راينا ذَلِك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَو يعلم النَّاس مَا فِي الوحده مَا أعلم مَا سَار رَاكب بلَيْل وَحده " أَقُول. أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَام كَرَاهِيَة التهور والاقتحام فِي المهالك من غير ضَرُورَة أما بعث الزبير رَضِي الله عَنهُ وَحده طَلِيعَة فلمكان ضَرُورِيّ.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تصْحَب الْمَلَائِكَة رفْقَة فِيهَا كلب وَلَا جرس " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" الجرس مَزَامِير الشَّيْطَان ".
أَقُول. الصَّوْت الْحَدِيد الشَّديد يُوَافق الشَّيْطَان وَحزبه ويكرهه الْمَلَائِكَة لِمَعْنى يُعْطِيهِ مزاجهم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذا سافرتم فِي الخصب فأعطوا الْإِبِل حَقّهَا من الأَرْض.
وَإِذا سافرتم فِي السّنة فَأَسْرعُوا عَلَيْهَا السّير. وَإِذا عرستم بِاللَّيْلِ فَاجْتَنبُوا الطَّرِيق فانها طَرِيق الدَّوَابّ ومأوى الْهَوَام فِي بِاللَّيْلِ ".
أَقُول: هَذَا كُله ظَاهر.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" السّفر قِطْعَة من الْعَذَاب يمْنَع أحدكُم نَومه وَطَعَامه وَشَرَابه فَإِذا قضى

(2/309)


نهمته من وَجهه فليعجل إِلَى أَهله " أَقُول. يُرِيد عَلَيْهِ السَّلَام كَرَاهِيَة أَن يتبع محقرات الْأُمُور فيطيل مكثه لأَجلهَا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا أَطَالَ أحدكُم الْغَيْبَة فَلَا يطْرق أَهله لَيْلًا ". أَقُول: كثيرا مَا يتنفر الْإِنْسَان نفرة طبيعية من أجل التشعث وَنَحْوه فَيكون سَببا لتنغيص حَالهم.
وَمِنْهَا آدَاب الْكَلَام قَالَ رَسُول الله: " أخنى الْأَسْمَاء يَوْم الْقِيَامَة عِنْد الله رجل يُسمى ملك الْأَمْلَاك " وَقَالَ: " لَا ملك إِلَّا الله " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التكنية بِأبي الحكم: " إِن الله هُوَ الحكم وَإِلَيْهِ الحكم ". أَقُول: إِنَّمَا نهى عَن ذَلِك لِأَنَّهُ إفراط فِي التَّعْظِيم يتاخم الشّرك.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تسمين غلامك يسارا وَلَا رباحا وَلَا نجيحا وَلَا أَفْلح فَإنَّك نقُول: أَثم هُوَ؟ فَلَا يكون، فَيَقُول: لَا ".
وَقَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ: أَرَادَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن ينْهَى أَن يُسمى بيعلي. وببركة. وبأفلح. وبيسار. وبنافع. وَنَحْو ذَلِك، ثمَّ رَأَيْته سكت بعد أَن عَنْهَا ثمَّ قبض وَلم ينْه عَن ذَلِك أَقُول: سَبَب كَرَاهِيَة التَّسْمِيَة بِهَذِهِ الْأَسْمَاء أَنَّهَا تُفْضِي إِلَى هَيْئَة مُنكرَة هِيَ فِي الْأَقْوَال بِمَنْزِلَة الأجدع وَنَحْوه فِي الْأَفْعَال، وَهُوَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام:
" الأجدع شَيْطَان ".
وَوجه الْجمع بَين الْحَدِيثين أَنه لم يعزم فِي النَّهْي وَلم يُؤَكد وَلكنه نهى نهي إرشاد بِمَنْزِلَة المشورة، أَو ظَهرت مخايل النَّهْي، فَقَالَ الرَّاوِي نهى اجْتِهَادًا مِنْهُ، وَمن حفظ حجَّة على من لم بِحِفْظ.
وَأرى أَن هَذَا الْوَجْه أوفق لفعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَإِنَّهُم لم يزَالُوا يسمون بِهَذِهِ الْأَسْمَاء.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" سموا باسمي وَلَا تكنوا بكنيتي فَإِنِّي إِنَّمَا جعلت قاسما أقسم بَيْنكُم " أَقُول: لَو كَانَ أحد يُسمى باسم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَكَانَ مَظَنَّة أَن تشتبه الْأَحْكَام وَيُدَلس فِي

(2/310)


نسبتها ورفعها، فَإِذا قيل: قَالَ أَبُو الْقَاسِم ظن أَن الْآمِر هُوَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرُبمَا كَانَ المُرَاد غَيره.
وَأَيْضًا رُبمَا يسب الرجل باسمه أَو يذم بِقَلْبِه فِي الملاحاة فَإِن كَانَ مُسَمّى باسم النَّبِي كَانَ فِي ذَلِك هَيْئَة مُنكرَة.
ثمَّ هَذَا الْمَعْنى أَكثر تحققا فِي الكنية مِنْهُ فِي الْعلم لوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن النَّاس كَانُوا ممنوعين شرعا وممتنعين ديدنا من أَن ينادوا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمه وَكَانَ الْمُسلمُونَ ينادون يَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأهل الذِّمَّة يَقُولُونَ: يَا أَبَا الْقَاسِم.
وَثَانِيهمَا أَن الْعَرَب كَانُوا لَا يقصدون بِالِاسْمِ التشريف وَلَا التحقير، وَأما الكنى فَكَانُوا يقصدون بهَا أحد الْأَمريْنِ كَأبي الحكم. وَأبي جهل وَنَحْو ذَلِك.
وَإِنَّمَا كنى النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأبي الْقَاسِم لِأَنَّهُ قَاسم فَكَانَ تكنية غَيره بهَا كالتسوية مَعَه.
وَإِنَّمَا رخص النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلي أَن يُسَمِّي وَلَده باسمه بعده ويكنيه بكنيته لارْتِفَاع الالتباس والتدليس بانقراض الْقرن.
قَالَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَن أحدكُم عَبدِي وَأمتِي كلكُمْ عبيد الله وكل نِسَائِكُم إِمَاء الله وَلَكِن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وَفَتَاتِي وَلَا يقل العَبْد رَبِّي وَلَكِن ليقل سَيِّدي ".
أَقُول: التطاول فِي الْكَلَام والازدراء بِالنَّاسِ منشؤه الْإِعْجَاب وَالْكبر وَفِيه كسر قُلُوب النَّاس، وَأَيْضًا فَلَمَّا عبر فِي الْكتب الإلهية عَن النِّسْبَة الَّتِي هِيَ لِلْخلقِ إِلَى الْخَالِق بالعبيده والربية كَانَ إِطْلَاقهَا فِيمَا بَينهم سوءأدب
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقولُوا الْكَرم وَلَكِن قَالُوا الْعِنَب والحبلة وَلَا تَقولُوا يَا خيبة الدَّهْر فَإِن الله هُوَ الدَّهْر، وَقَالَ الله تَعَالَى: " يُؤْذِينِي ابْن آدم يسب الدَّهْر وَأَنا الدَّهْر بيَدي الْأَمر أقلب اللَّيْل وَالنَّهَار ".
أَقُول: لما نهى الله تَعَالَى عَن الْخمر وَوضع أمرهَا اقْتضى ذَلِك أَن يمْنَع عَن كل مَا يُنَوّه أمرهَا ويخيل حسنها إِلَيْهِم وَالْعِنَب مَادَّة الْخمر وَأَصلهَا، وَكَانَ الْعَرَب كثيرا مَا يسمونها بنت كرم ويروجونها بذلك.
وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة ينسبون الوقائع إِلَى الدَّهْر وَهَذَا نوع من الشّرك،
وَأَيْضًا رُبمَا يُرِيدُونَ بالدهر مُقَلِّب الدَّهْر، فالسخط رَاجع إِلَى الله وَأَن أخطأوا فِي العنوان.

(2/311)


قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَقُولَن أحدكُم خبثت نَفسِي وَلَكِن ليقل لقست نَفسِي " أَقُول: الْخبث كثير مَا يسْتَعْمل فِي الْكتب الإلهية بِمَعْنى خبث الْبَاطِن وَسُوء السريرة فَهَذِهِ الْكَلِمَة بِمَنْزِلَة الهيآت الشيطانية.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَعَمُوا: " بئس مَطِيَّة الرجل " أَقُول: يُرِيد كَرَاهِيَة أَن يذكر الْأَقَاوِيل من غير تثبت.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تَقولُوا مَا شَاءَ الله وَشاء فلَان وَقُولُوا مَا شَاءَ الله ثمَّ شَاءَ فلَان " أَقُول: التَّسْوِيَة فِي الذّكر توهم التَّسْوِيَة فِي الْمنزلَة فَكَانَ إِطْلَاق مثل هَذِه اللَّفْظَة سوء أدب.
وَاعْلَم أَن التنطع والتشدق. والتقعر فِي الْكَلَام. والإكثار من الشّعْر. والمزاح. وتزجية الْوَقْت بأسمار وَنَحْوهَا إِحْدَى المسليات الَّتِي تشغل عَن الدّين وَالدُّنْيَا وَمَا يَقع بِهِ التفاخر والمراءة فَكَانَ حَالهَا كَحال عادات الْعَجم فكرهها النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين مَا فِي ذَلِك من الْآفَات، وَرخّص فِيمَا لَا يتَحَقَّق فِيهِ معنى الْكَرَاهِيَة وَإِن أشتبه بادى الرَّأْي.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هلك المتنطعون قَالَهَا ثَلَاثًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: " الْحيَاء والعي شعبتان من الْإِيمَان، وَالْبذَاء وَالْبَيَان شعبتان من النِّفَاق " أَقُول: يُرِيد ترك الْبذاء. والتقعر. والتطاول فِي الْكَلَام.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني يَوْم الْقِيَامَة أحاسنكم أَخْلَاقًا وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني أساوئكم أَخْلَاقًا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون "، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بقد رَأَيْت - أَو أمرت - أَن أتجوز فِي القَوْل وفإن الْجَوَاز هُوَ خير " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لِأَن يمتلئ جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خيرا من أَن يمتلئ شعرًا " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان:
" إِن روح الْقُدس مَا لَا يزَال يؤيدك مَا

(2/312)


نافحت عَن الله وَرَسُوله " وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " إِن الْمُؤمن يُجَاهد بِسَيْفِهِ وَلسَانه وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ فَكَأَنَّمَا ترمونهم بِهِ نضح النبل ".
وَقد ذكرنَا فِي الاحسان من أصُول آفَات اللِّسَان مَا يَتَّضِح بِهِ أَحَادِيث حفظ اللِّسَان كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو لِيَسْكُت " وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. " سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَة؟ ذكر أَخَاك بِمَا يكره، قيل: أَفَرَأَيْت إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول؟ قَالَ. إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقول فقد اغْتَبْته وَإِن لم يكن فِيهِ فقد بَهته ".
وَقَالَ الْعلمَاء يسْتَثْنى من تَحْرِيم الْغَيْبَة أُمُور سِتَّة: التظلم لقَوْله تَعَالَى:
{لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم} .
والاستعانة على تَغْيِير الْمُنكر ورد العَاصِي إِلَى الصَّوَاب كاخبار زيد ابْن أَرقم بقول عبد الله بن أبي. وإخبار ابْن مَسْعُود بقول الْأَنْصَار فِي مَغَانِم حنين. والاستفتاء كَقَوْل هِنْد: إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح، وتحذير الْمُسلمين من الشَّرّ كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بئس أَخُو الْعَشِيرَة " وكجرح الْمَجْرُوحين وَكَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أما مُعَاوِيَة فصعلوك، وَأما أَبُو الجهم فَلَا يضع الْعَصَا عَن عَاتِقه " والتنفير من مجاهر بِالْفِسْقِ كَقَوْلِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا أَظن فلَانا وَفُلَانًا يعرفان من أمرنَا شَيْئا " والتعريف كالأعمش. والأعرج.، وَقَالُوا: الْكَذِب يجوز إِذا كَانَ تَحْصِيل الْمَقْصُود لَا يُمكن إِلَّا بِهِ، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" لَيْسَ الْكذَّاب الَّذِي يصلح بَين النَّاس فينمي خيرا أَو يَقُول خيرا ".
(وَمِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا المبحث أَحْكَام النذور والايمان)
وَالْجُمْلَة فِي ذَلِك أَنَّهَا من ديدن النَّاس وعادتهم عربهم وعجمهم إِلَّا تَجِد وَاحِدَة من الْأُمَم لَا تستعملها فِي مظانها فَوَجَبَ الْبَحْث عَنْهَا.

(2/313)


وَلَيْسَ النّذر من أصُول الْبر وَلَا الْإِيمَان، وَلَكِن إِذا أوجب الْإِنْسَان على نَفسه وَذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَجب أَلا يفرط فِي جنب الله وَفِيمَا ذكر عَلَيْهِ اسْم الله، وَلذَلِك قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تنذروا فَإِن النّذر لَا يُغني من الْقدر شَيْئا وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل " يَعْنِي أَن الْإِنْسَان إِذا أحيط بِهِ رُبمَا يسهل عَلَيْهِ إِنْفَاق شَيْء فَإِذا أنقذه الله من تِلْكَ الْمهْلكَة كَانَ كَأَن لم يمسهُ ضرّ قطّ، فَلَا بُد من شَيْء يسْتَخْرج بِهِ مَا الْتَزمهُ على نَفسه مِمَّا يُؤَكد عزيمته وينوه نِيَّته.
وَالْحلف على أَرْبَعَة أضْرب: يَمِين منعقدة وَهِي الْيَمين على مُسْتَقْبل مُتَصَوّر عاقدا عَلَيْهِ قلبه، وفيهَا قَوْله تَعَالَى:
{وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان} .
ولغو الْيمن قَول الرجل: لَا وَالله. وبلى وَالله من غير قصد، وَأَن يحلف على شَيْء يَظُنّهُ كَمَا حلف متبين بِخِلَافِهِ، وفيهَا قَوْله تَعَالَى.
{لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} .
وَالْيَمِين الْغمُوس وَهِي الَّتِي يحلفها كَاذِبًا عَاملا ليقتطع بهَا مَال امْرِئ مُسلم وَهِي من الْكَبَائِر.
وَالْيَمِين على مُسْتَحِيل عقلا كَصَوْم أمس، وَالْجمع بَين الضدين، أَو عَادَة كإحياء الْمَيِّت وقلب الْأَعْيَان.
وَاخْتلف فِي الضربين اللَّذين لَيْسَ فيهمَا نَص هَل فيهمَا كَفَّارَة؟ قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" لَا تحلفُوا بِآبَائِكُمْ من كَانَ حَالفا فليحلف بِاللَّه أَو ليصمت " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك ".
أَقُول: الْحلف باسم شَيْء لَا يتَحَقَّق حَتَّى يعْتَقد فِيهِ عَظمَة وَفِي اسْمه بركَة، والتفريط فِي جنبه وإهمال مَا ذكر اسْمه عَلَيْهِ إِثْمًا.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف فَقَالَ فِي حلفه: بِاللات والعزى، فَلْيقل: لَا إِلَه إِلَّا الله، وَمن قَالَ لصَاحبه: تعال أقامرك فليتصدق "
أَقُول: اللِّسَان ترجمان الْقلب ومقدمته وَلَا يتَحَقَّق تَهْذِيب الْقلب حَتَّى يُؤَاخذ بِحِفْظ اللِّسَان.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِذا حَلَفت على يَمِين فَرَأَيْت غَيرهَا خيرا مِنْهَا فَكفر عَن يَمِينك وأت الَّذِي هُوَ خير ".

(2/314)


وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لِأَن بلج: " إِن يلاج أحدكُم بِيَمِينِهِ فِي أَهله آثم لَهُ عِنْد الله من أَن يُعْطي كَفَّارَته الَّتِي افْترض الله عَلَيْهِ " أَقُول: كثيرا مَا يحلف الْإِنْسَان على شَيْء فيضيق على نَفسه وعَلى النَّاس وَلَيْسَت تِلْكَ من الْمصلحَة، وَإِنَّمَا شرعت الْكَفَّارَة منهية لما يجده الْمُكَلف على نَفسه.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَمِينك على مَا يصدقك عَلَيْهِ صَاحبك " أَقُول: قد يحتال لاقتطاع مَال امْرِئ الْمُسلم بِأَن يتَأَوَّل فِي الْيَمين فَيَقُول مثلا وَالله لَيْسَ فِي يَدي من مَالك شَيْء يُرِيد لَيْسَ فِي يَدي شَيْء وَإِن كَانَ فِي تصرفي وقبضي، وَهَذَا مَحَله الظَّالِم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من حلف فَقَالَ: إِن شَاءَ الله لم يَحْنَث ".
أَقُول: حِينَئِذٍ لم يتَحَقَّق عقد الْقلب وَلَا جزم النِّيَّة وَهُوَ الْمَعْنى فِي الْكَفَّارَة، قَالَ الله تَعَالَى:
{لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم وَلَكِن يُؤَاخِذكُم بِمَا عقدتم الْأَيْمَان فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من أَوسط مَا تطْعمُونَ أهليكم أَو كسوتهم أَو تَحْرِير رَقَبَة فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم إِذا حلفتم} .
أَقُول: قد مر سر وجوب الْكَفَّارَة من قبل فراجع.
وَالنّذر على أَقسَام: النّذر الْمُبْهم، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" كَفَّارَة النّذر إِن لم يسم كَفَّارَة الْيَمين ".
وَالنّذر الْمُبَاح، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أوف بِنَذْرِك " بِلَا وجوب لما يَأْتِي من قصَّة أبي إِسْرَائِيل.
وَنذر طَاعَة فِي مَوضِع بِعَيْنِه أَو بهيئة بِعَينهَا، وَفِيه قصَّة أبي إِسْرَائِيل نذر أَن يقوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل وَلَا يتَكَلَّم ويصوم، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه " وقصة من نذر أَن ينْحَر إبِلا ببوانة لَيْسَ بهَا وثن وَلَا عيد لأهل الْجَاهِلِيَّة. قَالَ:
" أوف بِنَذْرِك ".
وَنذر الْمعْصِيَة، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من نذر نذرا فِي مَعْصِيّة فكفارته كَفَّارَة يَمِين ".
وَنذر مُسْتَحِيل، وَفِيه قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من نذر نذرا لَا يطيقه فكفارته كَفَّارَة يَمِين " وَالْأَصْل فِي هَذَا الْبَاب أَن الْكَفَّارَة شرعت منهية للاثم مزيلة لما حاك فِي صَدره فَمن نذر بِطَاعَة فَلْيفْعَل وَمن نذر غير ذَلِك وَوجد فِي صَدره حرجا وَجَبت الْكَفَّارَة، وَالله أعلم.

(2/315)