حجة الله البالغة

 (من أَبْوَاب شَتَّى)
قد فَرغْنَا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين عَمَّا أردنَا إِيرَاده فِي هَذَا الْكتاب وشرطناه على أَنْفُسنَا، وَلَا استوعب الْمَذْكُور جَمِيع مَا هُوَ مَكْنُون فِي صدورنا من أسرار الشَّرِيعَة فَلَيْسَ كل وَقت يسمح الْقلب بمضمونات السرائر وينفع اللِّسَان بمكنونات الضمائر، وَلَا كل حَدِيث يثنى للعامة وَلَا كل شَيْء يحسن ذكره بِغَيْر تمهيد مقدماته، وَلَا استوعب مَا جمع الله فِي صدورنا جَمِيع مَا أنزل على قلب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَيف يكون لمورد الْوَحْي ومنزل الْقُرْآن نِسْبَة مَعَ رجل من أمته هَيْهَات ذَلِك، وَلَا استوعب مَا جمع الله فِي صَدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيع مَا عِنْد الله تَعَالَى من الحكم والمصالح المرعية فِي أَحْكَامه تَعَالَى، وَقد أوضح عَن ذَلِك الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام حَيْثُ قَالَ، مَا نقص علمي وعلمك إِلَّا كَمَا نقص هَذَا العصفور من الْبَحْر. فَمن هَذَا الْوَجْه يَنْبَغِي أَن يعرف فخامة أَمر الْمصَالح المرعية فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة وَأَنَّهَا لَا مُنْتَهى لَهَا، وَأَن جَمِيع مَا يذكر فِيهَا غير واف بِوَاجِب حَقّهَا. وَلَا كَاف بِحَقِيقَة شَأْنهَا وَلَكِن مَا لَا يدْرك كُله لَا يتْرك كُله، وَنحن الْآن نشتغل بِشَيْء من الْيُسْر. والفتن. والمناقب على التَّيْسِير دون الِاسْتِيعَاب، وَالله الْمُوفق والمعين، وَإِلَيْهِ الْمرجع والمآب.
(سير النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
نَبينَا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف بن قصي، نَشأ من أفضل الْعَرَب نسبا وَأَقْوَاهُمْ شجاعة وأوفرهم سخاوة وأفصحهم لِسَان وأذكاهم جنَانًا، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام لَا تبْعَث إِلَّا فِي نسب قَومهَا، فَإِن النَّاس معادن كمعادن الذَّهَب وَالْفِضَّة، وجودة الْأَخْلَاق يَرِثهَا الرجل من آبَائِهِ وَلَا يسْتَحق النُّبُوَّة إِلَّا الكاملون فِي الْأَخْلَاق.

(2/316)


وَقد أَرَادَ الله ببعثهم أَن يظْهر الْحق وَيُقِيم بهم الْأمة العوجاء ويجعلهم أَئِمَّة، وَالْأَقْرَب لذَلِك أهل النّسَب الرفيع واللطف مرعى فِي أَمر الله، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى:
{الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته} .
وَنَشَأ معتدلا فِي الْخلق والخلق، كَانَ ربعَة لَيْسَ بالطويل وَلَا بالقصير. وَلَا الْجَعْد القطط. وَلَا الْبسط كَانَ جَعدًا رجلا، وَلم يكن بالمطهم. وَلَا بالمكلثم، وَكَانَ فِي وَجهه تدوير، ضخم الرَّأْس واللحية شئن الْكَفَّيْنِ والقدمين مشربا حمرَة. ضخم الكراديس. قوي الْبَطْش والباءة. أصدق النَّاس لهجة
وألينهم عَرِيكَة من رَآهُ بديهة هابه، وَمن خالطه معرفَة أحبه، أَشد النَّاس تواضعا مَعَ كبر النَّفس وأرفقهم بِأَهْل بَيته وخدمه، خدمه أنس رَضِي الله عَنهُ عشر سِنِين فَمَا قَالَ لَهُ أُفٍّ وَلَا لم صنعت؟ وَلَا أَلا صنعت؟ وَإِن كَانَت الْأمة من إِمَاء أهل الْمَدِينَة لتأْخذ بِيَدِهِ فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت.
وَكَانَ يكون فِي مهنة أَهله وَلم يكن فَاحِشا وَلَا لعانا وَلَا سبابا.
وَكَانَ يخصف نَعله ويخيط ثَوْبه ويحلب شاته مَعَ كَونه ذَا عَزِيمَة نَافِذَة قيله القيل لَا يغلبه أَمر وَلَا تفوته مصلحَة.
وَكَانَ أَجود النَّاس وأصبرهم على الْأَذَى وَأَكْثَرهم رَحْمَة بِالنَّاسِ لَا يصل إِلَى أحد مِنْهُ شَرّ لَا من يَده وَلَا من لِسَانه إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله.
وَكَانَ الزمهم باصلاح تَدْبِير الْمنزل ورعاية الْأَصْحَاب وسياسة الْمَدِينَة بِحَيْثُ لَا يتَصَوَّر فَوْقه يعرف لكل شَيْء قدره.

(2/317)


وَكَانَ دَائِم النّظر إِلَى الملكوت مستهترا بِذكر الله يحس ذَلِك من فلتات لِسَانه وَجَمِيع حالاته مؤيدا من الْغَيْب مُبَارَكًا يُسْتَجَاب دعاؤه وتفتح عَلَيْهِ الْعُلُوم من حَظِيرَة الْقُدس وَيظْهر مِنْهُ المعجزات من وُجُوه استجابة الدَّعْوَات وانكشاف خبر الْمُسْتَقْبل وَظُهُور الْبركَة فِيمَا يبرك عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم يجبلون على هَذِه الصِّفَات ويندفعون إِلَيْهَا فطْرَة فطرهم الله عَلَيْهَا.
ذكره إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي دُعَائِهِ وَبشر بفخامة أمره، وَبشر بِهِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَام وَسَائِر الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم.
وَرَأَتْ أمه كَأَن نورا خرج مِنْهَا فأضاء الأَرْض فعبرت بِوُجُود ولد مبارك يظْهر دينه شرقا وغربا وهتفت الْجِنّ وأخبرت الْكُهَّان والمنجمون بِوُجُودِهِ وعلو أمره ودلت الْوَاقِعَات الجوية كانكسار شرفات كسْرَى على شرفه وأحاطت بِهِ دَلَائِل النُّبُوَّة كَمَا أخبر هِرقل قَيْصر الرّوم وَرَأَوا آثَار الْبركَة عِنْد مولده وإرضاعه وَظَهَرت الْمَلَائِكَة فشقت عَن قلبه فملأنه إِيمَانًا وَحِكْمَة، وَذَلِكَ بَين عَالم الْمِثَال وَالشَّهَادَة فَلذَلِك لم يكن الشق عَن الْقلب إهلاكا وَقد بَقِي مِنْهُ أثر الْمخيط وَكَذَلِكَ كل مَا اخْتَلَط فِيهِ عَالم الْمِثَال وَالشَّهَادَة.
وَلما خرج بِهِ أَبُو طَالب إِلَى الشَّام فَرَآهُ الراهب شهد بنبوته لآيَات رَآهَا فِيهِ، وَلما شب ظَهرت مُنَاسبَة الْمَلَائِكَة بالهتف بِهِ والتمثل لَهُ.
وسد الله خلته برغبة خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا فِيهِ ومواساتها بِهِ وَكَانَت من مياسير نسَاء قُرَيْش، وَكَذَلِكَ من أحبه الله يدبر لَهُ فِي عباده.
وَلما بنى الْكَعْبَة فِيمَن بنى ألْقى إزَاره على عَاتِقه كعادة الْعَرَب فَانْكَشَفَتْ عَوْرَته فأسقط مغشيا عَلَيْهِ، وَنهى عَن كشف عَوْرَته فِي غَشيته وَذَلِكَ شُعْبَة من النُّبُوَّة وَنَوع من الْمُؤَاخَذَة فِي النَّفس.
ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يَخْلُو بحراء اللَّيَالِي ذَوَات الْعدَد، ثمَّ يَأْتِي أَهله ويتزود لمثلهَا لعزوفه عَن الدُّنْيَا وتجرده إِلَى الْفطْرَة الَّتِي فطره الله عَلَيْهَا.
وَكَانَ أول مَا بُدِئَ بِهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح وَهَذِه شُعْبَة من شعب النُّبُوَّة.

(2/318)


ثمَّ نزل الْحق عَلَيْهِ وَهُوَ بحراء فَفَزعَ بطبيعته بِأَن تشوشت الْبَهِيمَة
من سننها لغَلَبَة الملكية فَذَهَبت بِهِ خَدِيجَة إِلَى ورقة، فَقَالَ: هُوَ الناموس الَّذِي نزل على مُوسَى، ثمَّ فتر الْوَحْي وَذَلِكَ لِأَن الْإِنْسَان يجمع جِهَتَيْنِ: جِهَة البشرية. وجهة الملكية فَيكون عِنْد الْخُرُوج من الظُّلُمَات إِلَى النُّور مزاحمات ومصادمات حَتَّى يتم أَمر الله، وَكَانَ يرى الْملك تَارَة جَالِسا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض. وَتارَة وَاقِفًا فِي الْحرم تصل حجزته إِلَى الْكَعْبَة وَنَحْو ذَلِك، وسره أَن الملكوت تلم بالنفوس المستعدة للنبوة فَكلما انفلتت برق عَلَيْهَا بارق ملكي حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ الْوَقْت كَمَا تَنْفَلِت نفوس الْعَامَّة فَتَطلع فِي الرُّؤْيَا على بعض الْأَمر.
قيل: " يَا رَسُول الله كَيفَ يَأْتِيك الْوَحْي؟ فَقَالَ: أَحْيَانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس وَهُوَ أشده عَليّ فَيفْصم عني وَقد وعيت مَا قَالَ: وَأَحْيَانا يتَمَثَّل لي الْملك رجلا فيكلمني فأعي مَا يَقُول ".
أَقُول: أما الصلصلة فحقيقتها أَن الْحَواس إِذا صادمها تَأْثِير قوي تشوشت، فتشويش قُوَّة الْبَصَر أَن يرى ألوانا الْحمرَة والصفرة والخضرة وَنَحْو ذَلِك، وتشويش قُوَّة السّمع أَن يسمع أصواتا مُبْهمَة كالطنين والصلصلة والهمهمة فَإِذا تمّ الْأَثر حصل الْعلم.
وَأما التَّمْثِيل فَهُوَ فِي موطن يجمع بعض أَحْكَام الْمِثَال وَالشَّهَادَة، وَلذَلِك كَانَ يرى الْملك بَعضهم دون الْبَعْض.
ثمَّ أَمر بالدعوة فاشتغل بهَا إخفاء فآمنت خَدِيجَة وَأَبُو بكر الصّديق. وبلال. وأمثالهم رَضِي الله عَنْهُم.
ثمَّ قيل لَهُ:
{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤمر} .
وَقيل:
{وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين} .
فجهر بالدعوة وَإِبْطَال وُجُوه الشّرك فتعصب عَلَيْهِ النَّاس وآذوه بألسنتهم وأيديهم كقصة إِلْقَاء سلى جزور والخنق وَهُوَ صابر فِي كل ذَلِك يبشر الْمُؤمنِينَ بالنصر وينذر

(2/319)


الْكَافرين بالانهزام كَمَا قَالَ الله تَعَالَى:
{سَيهْزمُ الْجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} .
وَقَالَ الله تَعَالَى:
{جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب} .
ثمَّ ازدادوا فِي التعصب فتقاسموا على إِيذَاء الْمُسلمين وَمن وليهم من بني هَاشم وَبني الْمطلب فهدوا إِلَى الْهِجْرَة قبل الْحَبَشَة فوجدوا سَعَة قبل السعَة الْكُبْرَى.
وَلما مَاتَت خَدِيجَة رَضِي الله عَنْهَا وَمَات أَبُو طَالب عَمه وَتَفَرَّقَتْ كلمة بني هَاشم فزع لذَلِك وَكَانَ قد نفث فِي صَدره أَن علو كَلمته فِي الْهِجْرَة نفثا
إجماليا فَتَلقاهُ برويته وفكره فَذهب وهله إِلَى الطَّائِف. وَإِلَى هجر. وَإِلَى الْيَمَامَة. وَإِلَى كل مَذْهَب، فاستعجل وَذهب إِلَى الطَّائِف فلقي عناء شَدِيدا، ثمَّ إِلَى بني كنَانَة فَلم ير مِنْهُم مَا يسره فَعَاد إِلَى مَكَّة بِعَهْد زَمعَة وَنزل
{وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} .
قَالَ: أمْنِيته أَن يتَمَنَّى إنجاز الْوَعْد فِيمَا يتفكره من قبل نَفسه وإلقاء الشَّيْطَان أَن يكون خلاف مَا أَرَادَ الله ونسخه كشف حَقِيقَة الْحَال وإزالته من قلبه.
وَأسرى بِهِ إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى، ثمَّ إِلَى سِدْرَة الْمُنْتَهى، وَإِلَى مَا شَاءَ الله،
وكل ذَلِك لجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْيَقَظَة وَلَكِن ذَلِك فِي موطن هُوَ برزخ بَين الْمِثَال وَالشَّهَادَة جَامع لأحكامهما فَظهر على الْجَسَد أَحْكَام الرّوح وتمثل الرّوح والمعاني الروحية أجسادا، وَلذَلِك بَان لكل وَاقعَة من تِلْكَ الوقائع تَعْبِير، وَقد ظهر لحزقيل. ومُوسَى. وَغَيرهمَا عَلَيْهِمَا السَّلَام نَحْو من تِلْكَ الوقائع وَكَذَلِكَ لأولياء الْأمة ليَكُون علو درجاتهم عِنْد الله كحالهم فِي الرُّؤْيَا وَالله أعلم.
أما شقّ الصَّدْر وملؤه إِيمَانًا فحقيقته غَلَبَة أنوار الملكية وانطفاء لَهب الطبيعة وخضوعها لما يفِيض عَلَيْهَا من حَظِيرَة الْقُدس.
وَأما ركُوبه على الْبراق فحقيقته اسْتِوَاء نَفسه النطقية على نسمته الَّتِي هِيَ الْكَمَال الحيواني فَاسْتَوَى رَاكِبًا على الْبراق كَمَا غلبت أَحْكَام نَفسه النطقية على البهيمية وتسلطت عَلَيْهَا.
وَأما إسراؤه إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَلِأَنَّهُ مَحل ظُهُور شَعَائِر الله ومتعلق همم الْمَلأ الْأَعْلَى ومطمح أنظار الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَكَأَنَّهُ كوَّة إِلَى الملكوت.
وَأما ملاقاته مَعَ الْأَنْبِيَاء صلوَات الله عَلَيْهِم ومفاخرته مَعَهم فحقيقتها اجْتِمَاعهم من حَيْثُ ارتباطهم بحظيرة الْقُدس وَظُهُور مَا اخْتصَّ بِهِ من بَينهم من وُجُوه الْكَمَال.

(2/320)


وَأما رقِيه إِلَى السَّمَاوَات سَمَاء بعد سَمَاء فحقيقته الانسلاخ إِلَى مستوى الرَّحْمَن منزلَة بعد منزلَة وَمَعْرِفَة حَال الْمَلَائِكَة الموكلة بهَا وَمن لحق بهم من أفاضل الْبشر وَالتَّدْبِير الَّذِي أوحاه الله فِيهَا والاختصام الَّذِي يحصل فِي ملئها
وَأما بكاء مُوسَى فَلَيْسَ بحسد وَلكنه مِثَال لفقده عُمُوم الدعْوَة وَبَقَاء كَمَال لم يحصله مِمَّا هُوَ فِي وَجهه.
وَأما سِدْرَة الْمُنْتَهى فشجرة الْكَوْن وترتب بَعْضهَا على بعض وانجماعها فِي تَدْبِير وَاحِد كانجماع الشَّجَرَة فِي الغاذية والنامية وَنَحْوهمَا وَلم تتمثل حَيَوَانا لِأَن التَّدْبِير الْجملِي الإجمالي الشبيه للسياسة الْكُلِّي أَفْرَاده، وَإِنَّمَا أشبه الْأَشْيَاء بِهِ الشَّجَرَة دون الْحَيَوَان فَإِن الْحَيَوَان فِيهِ قوى تفصيلية والإرادة فِيهِ أصرح من سنَن الطبيعة.
وَأما الْأَنْهَار فِي أَصْلهَا فرحمة فائضة فِي الملكوت حَذْو الشَّهَادَة وحياة وإنماء، فَلذَلِك تعين هُنَالك بعض الْأُمُور النافعة فِي الشَّهَادَة كالنيل والفرات.
وَأما الْأَنْوَار الَّتِي غشيتها فتدليات إلهية وتدبيرات رحمانية تلعلعت فِي الشَّهَادَة حَيْثُمَا استعدت لَهَا.
وَأما الْبَيْت الْمَعْمُور فحقيقته التجلي الإلهي الَّذِي يتَوَجَّه إِلَيْهِ سَجدَات الْبشر وتضرعاتها يتَمَثَّل بَيْتا على حَذْو مَا عِنْدهم من الْكَعْبَة وَبَيت الْمُقَدّس.
ثمَّ أُتِي بِإِنَاء من لبن. وإناء من خمر فَاخْتَارَ اللَّبن، فَقَالَ جِبْرَائِيل: هديت
للفطرة وَلَو أخذت الْخمر لغوت أمتك فَكَانَ هُوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَامع أمته ومنشأ ظُهُورهمْ وَكَانَ اللَّبن اختيارهم الْفطْرَة وَالْخمر اختيارهم لذات الدُّنْيَا
وَأمر بِخمْس صلوَات بِلِسَان التَّجَوُّز لِأَنَّهَا خَمْسُونَ بِاعْتِبَار الثَّوَاب، ثمَّ أوضح الله مُرَاده تدريجا ليعلم أَن الْحَرج مَدْفُوع وَأَن النِّعْمَة كَامِلَة وتمثل هَذَا الْمَعْنى مُسْتَندا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ أَكثر الْأَنْبِيَاء معالجة للامة وَمَعْرِفَة بسياستها.
ثمَّ كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستنجد من أَحيَاء الْعَرَب فوفق الْأَنْصَار لذَلِك فَبَايعُوهُ بيعَة الْعقبَة الأولى. وَالثَّانيَِة وَدخل الْإِسْلَام كل دَار من دور الْمَدِينَة.
وأوضح الله على نبيه أَن ارْتِفَاع دينه الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة فأجمع عَلَيْهَا وازداد غيظ قُرَيْش فمكروا بِهِ ليقتلوه أَو يثبتوه أَو يخرجوه فظهرت آيَات لكَونه محبوبا مُبَارَكًا مقضيا لَهُ بالغلبة فَلَمَّا دخل هُوَ وَأَبُو بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ الْغَار لدغ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ فبرك عَلَيْهِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشفي من سَاعَته، وَلما وقف الْكفَّار على رَأس الْغَار أعمى الله

(2/321)


أَبْصَارهم وَصرف عَنهُ أفكارهم وَلما أدركهما سراقَة بن مَالك دَعَا عَلَيْهِ فارتطمت فرسه إِلَى بَطنهَا فِي جلد من الأَرْض بِأَن انخسفت الأَرْض بتقريب من الله فتكفل بِالرَّدِّ عَنْهُمَا، وَلما مروا بخيمة أم معبد درت لَهُ شَاة لم تكن من شِيَاه الدّرّ.
فَلَمَّا قدما الْمَدِينَة جَاءَهُ عبد الله بن سَلام فَسَأَلَهُ عَن ثَلَاث لَا يعلمهُنَّ
إِلَّا نَبِي " فَمَا أول أَشْرَاط السَّاعَة، وَمَا أول طَعَام أهل الْجنَّة، وَمَا ينْزع الْوَلَد إِلَى أَبِيه أَو إِلَى أمه قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أما أول أَشْرَاط السَّاعَة فَنَار تحْشر النَّاس من الْمشرق إِلَى الْمغرب، وَأما أول طَعَام يَأْكُلهُ أهل الْجنَّة فَزِيَادَة كبد حوت، وَإِذا سبق مَاء الرجل مَاء الْمَرْأَة نزع الْوَلَد، وَإِذا سبق مَاء الْمَرْأَة نزعت " فَأسلم عبد الله وَكَانَ إفحاما لأحبار الْيَهُود.
ثمَّ عَاهَدَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُود وَأمن شرهم واشتغل بِبِنَاء الْمَسْجِد وَعلم الْمُسلمين الصَّلَاة وأوقاتها وشاور فِيمَا يحصل بِهِ الْأَعْلَام بِالصَّلَاةِ. فَأرى عبد الله بن زيد فِي مَنَامه الْأَذَان وَكَانَ مطمح الافاضة الغيبية رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِن كَانَ السفير عبد الله، وحرضهم على الْجَمَاعَة. وَالْجُمُعَة. وَالصَّوْم وَأمر بِالزَّكَاةِ وعلمهم حُدُودهَا وجهر بدعوة الْخلق إِلَى الْإِسْلَام ورغبهم فِي الْهِجْرَة من أوطانهم لِأَنَّهَا يَوْمئِذٍ دَار الْكفْر وَلَا يَسْتَطِيعُونَ إِقَامَة الْإِسْلَام هُنَالك وَشد الْمُسلمين بَعضهم بِبَعْض بالمواخاة وَإِيجَاب الصِّلَة والإنفاق والتوارث بِتِلْكَ المؤاخاة لتتفق كلمتهم فيتأتى الْجِهَاد ويتمعنوا من أعدائهم، وَكَانَ الْقَوْم ألفوا التناصر بالقبائل.
ثمَّ لما رأى الله فيهم اجتماعا ونجدة أوحى إِلَى نبيه أَن يُجَاهد وَيقْعد لَهُم كل مرصد، وَلما وَقعت وَاقعَة بدر لم يَكُونُوا على مَاء فَأمْطر الله مَطَرا، وَاسْتَشَارَ النَّاس هَل يخْتَار العير أَن النفير؟ فبورك فِي رَأْيهمْ حسب رَأْيه فَأَجْمعُوا على النفير بعد مَا لم يكد يكون ذَلِك، وَلما رأى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَة الْعَدو تضرع إِلَى الله فبشر بِالْفَتْح وَأوحى إِلَيْهِ مصَارِع الْقَوْم.
فَقَالَ: " هَذَا مصرع فلَان. وَهَذَا مصرع فلَان يضع يَده هَهُنَا وَهَهُنَا فَمَا مَاطَ أحدهم عَن مَوضِع يَد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَظَهَرت
الْمَلَائِكَة يَوْمئِذٍ بِحَيْثُ يراهم النَّاس لتثبت قُلُوب الْمُوَحِّدين وترعب قُلُوب الْمُشْركين فَكَانَ ذَلِك فتحا عَظِيما أغناهم الله بِهِ وأشبعهم وَقطع حَبل الشّرك وَأهْلك أفلاذ كبد قُرَيْش، وَلذَا سمي فرقانا.

(2/322)


وَكَانَ ميلهم للافتداء مُخَالفا لما أحبه من الله قطع دابر الشّرك فعوتبوا ثمَّ عفى عَنْهُم.
ثمَّ أهاج الله تَقْرِيبًا لاجلاء الْيَهُود فانه لم يكن يصفو دين الله بِالْمَدِينَةِ وهم مجاوروها فَكَانَ مِنْهُم نقض الْعَهْد فَأجلى بني النَّضِير. وَبني قينقاع، وَقتل كَعْب بن الاشرف، وَألقى الله فِي قُلُوبهم الرعب فَلم يعرجوا لمن وعدهم النَّصْر وشجع قُلُوبهم فأفاء الله أَمْوَالهم على نبيه وَكَانَ أول توسع عَلَيْهِم.
وَكَانَ أَبُو رَافع تَاجر الْحجاز يُؤْذِي الْمُسلمين فَبعث إِلَيْهِ عبد الله بن عتِيك فيسر الله لَهُ قَتله، فَلَمَّا خرج من بَيته انْكَسَرت سَاقه فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
" ابْسُطْ رجلك فمسحها فَكَأَنَّهَا لم يشتكها قطّ ".
وَلما اجْتمعت الْأَسْبَاب السماوية على هزيمَة الْمُسلمين يَوْم أحد ظَهرت رَحمَه الله ثمَّ من وُجُوه كَثِيرَة فَجعل الْوَاقِعَة استبصارا فِي دينهم وعبرة فَلم يَجْعَل سَببه إِلَّا مُخَالفَة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمر من الْقيام على الشّعب، وَعلم الله نبيه بالانهزام إِجْمَالا فَأرَاهُ سَيْفا انْقَطع وبقرة ذبحت فَكَانَت الْهَزِيمَة وَشَهَادَة الصَّحَابَة، وَجعلهَا بِمَنْزِلَة نهر طالوت ميز الله بهَا المخلصين من غَيرهم لِئَلَّا يعْتَمد على أحد أَكثر مِمَّا يَنْبَغِي.
وَلما اسْتشْهد عَاصِم وَأَصْحَابه حمتهم الزنابير من الأعادي فَلم يبلغُوا مِنْهُم مَا أَرَادوا.
وَلما اسْتشْهد الْقُرَّاء فِي بِئْر مَعُونَة جعل النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَيْهِم فِي صلَاته وَكَانَ فِيهِ نوع من استعجال البشرية فنبه على ذَلِك ليَكُون كل أمره فِي الله وَبِاللَّهِ وَللَّه، وَنزل فِي الْقُرْآن مقالتهم - بلغُوا قَومنَا أَنا قد ليقينا رَبنَا فَرضِي عَنَّا ورضينا عَنهُ لتتسلى قُلُوبهم - ثمَّ نسخ بعد.
وَلما أحاطت بهم الْأَحْزَاب وحفر الخدق ظَهرت رَحْمَة الله بهم من وُجُوه كَثِيرَة رد الله كيدهم فِي نحورهم وَلم يضروا الْمُسلمين شَيْئا، وبورك فِي طَعَام جَابر رَضِي الله عَنهُ فَكفى صَاع من شعير وبهمة نَحْو ألف رجل، وانكشفت قُصُور كسْرَى وَقَيْصَر فِي قدحة الْحجر وَبشر بِفَتْحِهَا وهبت ريح شَدِيدَة فِي لَيْلَة مظْلمَة، وَألقى الرعب فِي قُلُوبهم فَانْهَزَمُوا، وحاصر قريضة فنزلوا على حكم سعد رَضِي الله عَنهُ فَأمر بقتل مُقَاتلَتهمْ وَسبي ذُرِّيتهمْ فَأصَاب الْحق، وَكَانَت للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَغْبَة طبيعية لِزَيْنَب رَضِي الله عَنْهَا فوفر الله لَهُ ذَلِك حَيْثُ كَانَت فِيهِ مصلحَة دينية ليعلموا أَن حلائل الأدعياء تحل لَهُم فَطلقهَا زَوجهَا فَأَنْكحهَا الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

(2/323)


وَبينا هُوَ يخْطب يَوْم الْجُمُعَة إِذْ قَامَ أَعْرَابِي فَقَالَ: " يَا رَسُول الله هلك المَال وجاع الْعِيَال فاستسقي وَمَا فِي السَّمَاء قزعة فَمَا وضع يَده حَتَّى ثار السَّمَاء كأمثال الْجبَال فَمُطِرُوا حَتَّى خَافُوا الضَّرَر، فَقَالَ: حوالينا وَلَا علينا لَا يُشِير إِلَى نَاحيَة إِلَّا انفرجت.
وتكرر ظُهُور الْبركَة فِيمَا برك عَلَيْهِ كبيدر جَابر وأقراص أم سليم وَنَحْوهَا.
وَلما غزا بني المصطلق ظَهرت الْمَلَائِكَة متمثله فخاف الْعَدو.
واتهمت عَائِشَة فِي تِلْكَ الْغَزْوَة فظهرت رَحْمَة الله بتبرئتها وَإِقَامَة الْحَد على من أشاع الْفَاحِشَة عَلَيْهَا.
وَلما انْكَشَفَ الشَّمْس تضرع إِلَى الله فَإِنَّهُ آيَة من آيَات الله يترشح عِنْدهَا خوف فِي قُلُوب المصطفين، وَرَأى فِي ذَلِك الْجنَّة وَالنَّار بَينه وَبَين جِدَار الْقبْلَة وَهُوَ من ظُهُور حكم الْمِثَال فِي مَكَان خَاص.
وَأرَاهُ الله رُؤْيَاهُ مَا يَقع بعد الْفَتْح من دُخُولهمْ مَكَّة مُحَلِّقِينَ وَمُقَصِّرِينَ لَا يخَافُونَ فرغبوا فِي الْعمرَة وَلما يَأن وَقتهَا، وَكَانَ ذَلِك تَقْرِيبًا من الله للصلح الَّذِي هُوَ سَبَب فتوح كَثِيرَة وهم لَا يَشْعُرُونَ، نَظِير ذَلِك مَا قالته عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا فِي مُعَارضَة أبي بكر، وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا عِنْد موت النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِن فِي كل قَول فَائِدَة فَرد الله الْمُنَافِقين بقول عمر رَضِي الله عَنهُ وَبَين الْحق بقول أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فآل الْأَمر إِلَى أَن اجْتمع رَأْي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء أَن يصطلحوا وَإِن كرهه الفئتان.
وَظَهَرت هُنَالك آيَات، عطشوا وَلم يكن عِنْدهم مَاء إِلَّا فِي ركوة فَوضع عَلَيْهِ السَّلَام يَده فِيهَا فَجعل المَاء يفور من بَين أَصَابِعه، ونزحوا مَاء الْحُدَيْبِيَة فَلم يتْركُوا فِيهَا قَطْرَة فبرك عَلَيْهَا فسقوا واستقوا، وَوَقعت بيعَة الرضْوَان معرفَة لإخلاص المخلصين، ثمَّ فتح الله عَلَيْهِم خَيْبَر فأفاء مِنْهُ على النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْمُسْلِمين مَا يتقوون بِهِ على الْجِهَاد، وَكَانَ ابْتِدَاء انتظام الْخلَافَة فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَام خَليفَة الله فِي الأَرْض.

(2/324)


وَظَهَرت آيَات دسوا السم فِي طَعَامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنبأه الله، وأصابت سَلمَة ابْن الْأَكْوَع ضَرْبَة فنفث فِيهَا نفثات فَمَا اشتكاها بعد، وَأَرَادَ أَن يقْضِي حَاجته فَلم لَا يجد شَيْئا يستر بِهِ فَدَعَا شجرتين فانقاديا كالبعير المخشوش حَتَّى إِذا فرغ ردهما إِلَى موضعهما، وَلما أَرَادَ المحاربى أَن يَسْطُو بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألْقى الله عَلَيْهِ الرعب فَربط يَده.
ثمَّ نفث الله فِي روعه مَا انْعَقَد فِي الْمَلأ الْأَعْلَى من لعن الْجَبَابِرَة وَإِزَالَة شوكتهم وَإِبْطَال رسومهم فتقرب فِي الله بالسعي إِلَى ذَلِك فَكتب إِلَى قَيْصر وكسرى وكل جَبَّار عنيد، فأساء كسْرَى الْأَدَب فَدَعَا عَلَيْهِ فمزقه الله كل ممزق.
وَبعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدا. وجعفرا. وَابْن رَوَاحَة إِلَى مُؤْتَة فانكشف عَلَيْهِ حَالهم فنعاهم عَلَيْهِ السَّلَام قبل أَن يَأْتِي الْخَبَر.
ثمَّ بعث الله تَقْرِيبًا بِفَتْح مَكَّة بعد مَا فرغ من جِهَاد أَحيَاء الْعَرَب فنقضت قُرَيْش عهودها وتعاموا وَأَرَادَ حَاطِب أَن يُخْبِرهُمْ فنبأ الله بذلك رَسُوله وَفتح مَكَّة وَلَو كره الْكَافِرُونَ وَأدْخل عَلَيْهِم الْإِسْلَام من حَيْثُ لم يحتسبوا.
وَلما التقى الْمُسلمُونَ وَالْكفَّار يَوْم حنين وَكَانَت لَهُم جَوْلَة استقام رَسُول الله وَأهل بَيته اشد استقامة وَرَمَاهُمْ بِتُرَاب فبورك فِي رميه فَمَا خلق الله مِنْهُم إنْسَانا إِلَّا مَلأ الله عينه تُرَابا فَوَلوا مُدبرين، ثمَّ ألْقى الله سكينته على الْمُسلمين فَاجْتمعُوا واجتهدوا حَتَّى كَانَ الْفَتْح، وَقَالَ لرجل يدعى الْإِسْلَام
وَقَاتل أَشد الْقِتَال: هُوَ من أهل النَّار فكاد بعض النَّاس يرتاب ثمَّ ظهر أَنه قتل نَفسه.
وسحر النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا الله أَن يكْشف عَلَيْهِ جلية الْحَال فَجَاءَهُ فِيمَا يرَاهُ رجلَانِ وأخبراه عَن السحر والساحر.

(2/325)


وَأَتَاهُ ذُو الْخوَيْصِرَة فَقَالَ: " يَا رَسُول الله اعْدِلْ فانكشف عَلَيْهِ حَاله وَحَال قومه فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَاتلُون خير فرقة من النَّاس آيَتهم رجل أسود أحد عضديه مثل ثدي الْمَرْأَة " فَقَاتلهُمْ عَليّ رَضِي الله عَنهُ وَوجد الْوَصْف كَمَا قَالَ.
ودعا لأم أبي هُرَيْرَة فَآمن فِي يَوْمهَا.
وَقَالَ: عَلَيْهِ السَّلَام " يَوْمًا لم يبسط أحد مِنْكُم ثَوْبه حَتَّى أَقْْضِي مَقَالَتي هَذِه ثمَّ يجمعه إِلَى صَدره فينسى من مقَالَته شَيْء أبدا فَبسط أَبُو هرير فَمَا نسي مِنْهَا شَيْئا ".
وَضرب عَلَيْهِ السَّلَام بِيَدِهِ على صدر جرير، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثبته فَمَا سقط عَن فرسه بعد " وَكَانَ لَا يثبت على الْخَيل.
وارتد رجل عَن دينه فَلم تقبله الأَرْض.
وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يخْطب مُسْتَندا إِلَى جزع فَلَمَّا صنع لَهُ الْمِنْبَر واستوى
عَلَيْهِ صَاح حَتَّى أَخذه وضمه، وَركب فرسا بطيئة، وَقَالَ: " وجدنَا فرسكم هَذَا بحرا " فَكَانَ بعد ذَلِك لَا يجارى.
ثمَّ أحكم الله دينه وتواردت الْوُفُود وتوارت الْفتُوح وَبعث الْعمَّال على الْقَبَائِل وَنصب الْقُضَاة فِي الْبِلَاد وتمت الْخلَافَة فنفث فِي روعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَن يخرج إِلَى تَبُوك ليظْهر شوكته على الرّوم فينقاد لَهُ أهل تِلْكَ النَّاحِيَة، وَكَانَت تِلْكَ غَزْوَة فِي وَقت الْحر والعسرة فَجَعلهَا الله تمييزا بَين الْمُؤمنِينَ حَقًا وَالْمُنَافِقِينَ.
وَمر عَلَيْهِ السَّلَام على حديقة لامْرَأَة فِي وَادي الْقرى فخرصها وخرصها الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَكَانَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَلما وصل إِلَى ديار حجر نَهَاهُم عَن مياهه تنفيرا عَن مَحل اللَّعْن، ونهاهم لَيْلَة أَن يخرج أحد فَخرج رجل فألقته الرّيح بجبلي طَيئ وضل لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا فَقَالَ بعض الْمُنَافِقين؛ لَو كَانَ نَبيا لعلم أَيْن بعيره فنبأه الله بقول الْمُنَافِق وبمكان الْبَعِير،
وتخلف نَاس من المخلصين زلَّة مِنْهُم ثمَّ ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْض بِمَا رَحبَتْ فَعَفَا الله

(2/326)


عَنْهُم.
وَأُلْقِي ملك أَيْلَة فِي أسر خَالِد من حَيْثُ لم يحْتَسب.
فَلَمَّا قوي الْإِسْلَام وَدخل النَّاس فِي دين الله أَفْوَاجًا أوحى الله إِلَى نبيه أَن ينْبذ عهد كل معاهد من الْمُشْركين، وَنزلت سُورَة بَرَاءَة.
وَأَرَادَ المباهلة من نَصَارَى نَجْرَان فعجزوا واختاروا الْجِزْيَة،
ثمَّ خرج إِلَى الْحَج وَحضر مَعَه نَحْو من مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا فَأَرَاهُم مَنَاسِك الْحَج ورد تحريفات الشّرك.
وَلما تمّ أَمر الْإِرْشَاد واقترب أَجله بعث الله جِبْرَائِيل فِي صُورَة رجل يرَاهُ النَّاس فَسَأَلَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام عَن الْإِيمَان. وَالْإِسْلَام. والاحسان والساعة فَبين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصدقه جِبْرَائِيل ليَكُون ذَلِك كالفذلكة لدينِهِ،
وَلما مرض لم يزل يذكر الرفيق الْأَعْلَى ويحن إِلَيْهِم حَتَّى توفاه الله ثمَّ تكفل أَمر مِلَّته فنصب قوما لَا يخَافُونَ لومة لائم فَقَاتلُوا المتنبئين وَالروم والعجم حَتَّى تمّ أَمر الله وَوَقع وعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَلى آله وَأَصْحَابه وَسلم.