حجة الله البالغة

(الْفِتَن)
اعْلَم أَن الْفِتْنَة على أَقسَام: فتْنَة الرجل فِي نَفسه بِأَن يقسوا قلبه فَلَا يجد حلاوة الطَّاعَة وَلَا لَذَّة الْمُنَاجَاة، وَإِنَّمَا الْإِنْسَان ثَلَاث شعب.
قلب هُوَ مبدأ الْأَحْوَال كالغضب. والجراءة. وَالْحيَاء. والمحبة. وَالْخَوْف، وَالْقَبْض. والبسط وَنَحْوهَا.
وعقل هُوَ مبدأ الْعُلُوم الَّذِي يَنْتَهِي إِلَيْهِ الْحَواس كالأحكام البديهية من التجربة والحدس وَنَحْوهمَا والنظرية من الْبُرْهَان والخطابية وَنَحْوهمَا.
وطبع هُوَ مبدأ اقْتِضَاء النَّفس مَا لَا بُد مِنْهُ أَو لَا بُد من جنسه فِي بَقَاء الْبَيِّنَة كالداعية المنبجسة من شَهْوَة الطَّعَام. وَالشرَاب. وَالنَّوْم. وَالْجِمَاع. وَنَحْوهَا.
فالقلب مهما غلبت عَلَيْهِ خِصَال البهيمية فَكَانَ قَبضه وَبسطه نَحْو قبض الْبَهَائِم وبسطها الحاصلين من طبيعة وَوهم كَانَ قلبا بهيميا، وَمهما قبل من الشَّيَاطِين وسوستهم فِي النّوم واليقظة يُسمى الْإِنْسَان شَيْطَان الْأنس، وَمهما غلب عَلَيْهِ خِصَال الملكية يُسمى قلبا إنسانيا فَيكون خَوفه ومحبته وَمَا يشبههما مائلة إِلَى اعتقادات حقة حصلها، وَمهما قوى صفاؤها وَعظم نوره كَانَ روحا فَيكون بسطا بِلَا قبض وألفة بِلَا قلق؛ وَكَانَت أَحْوَاله أنفاسا، وَكَانَت الْخَواص الملكية كالديدن لَهُ دون الْأُمُور المكتسبة بسعي.

(2/327)


وَمهما غلبت خِصَال البهيمية على الْعقل صَار جربزة وَأَحَادِيث نفس تميل إِلَى بعض الدَّوَاعِي الطبيعية فَيحدث نَفسه بِالْجِمَاعِ إِن كَانَ فِيهِ شبق، وبأنواع الطَّعَام إِن كَانَ فِيهِ جوع وَنَحْو ذَلِك، أَو وَحي الشَّيْطَان فَيكون أَحَادِيث النَّفس تميل إِلَى فك النظامات الفاضلة وَشك فِي المعتقدات الحقة وَإِلَى الهيآت
مُنكرَة تعافها النُّفُوس السليمة، وَمهما غلبت عَلَيْهِ خِصَال الملكية فِي الْجُمْلَة كَانَ عقلا من فعله التَّصْدِيق بِمَا يجب تَصْدِيقه من الْعُلُوم الارتفاقية أَو الاحسانية بديهية أَو نظرا، وَمهما قوى نوره وصفاؤه كَانَ سر من فعله قبُول عُلُوم فائضة من الْغَيْب رُؤْيا وفراسة وكشفا وهتفا وَنَحْو ذَلِك، وَمهما مَال إِلَى المجردات الْبَريَّة من الزَّمَان وَالْمَكَان كَانَ خفِيا.
وَمهما انحدر الطَّبْع إِلَى الْخِصَال البهيمية كَانَ نفسا أَمارَة بالسوء، مهما كَانَ مترددا بَين البهيمية والملكية وَكَانَ الْأَمر سجالا ونوبا كَانَ نفسا لوامة، وَمهما تقيدت بِالشَّرْعِ وَلم تَبْغِ عَلَيْهِ وَلم تنبجس إِلَّا فِيمَا موافقه كَانَت نفسا مطمئنة.
هَذَا مَا عِنْدِي من معرفَة لطائف الْإِنْسَان وَالله أعلم.
وفتنة الرجل فِي أَهله وَهِي فَسَاد تَدْبِير الْمنزل، وإليها الْإِشَارَة فِي قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِن أبليس يضع عَرْشه - إِلَى أَن قَالَ - ثمَّ يجِئ أحدهم فَيَقُول: مَا تركته حَتَّى فرقت بَينه وَبَين امْرَأَته فيدنيه مِنْهُ وَيَقُول: نعم أَنْت ".
وفتنة تموج كموج الْبَحْر وَهِي فَسَاد تَدْبِير الْمَدِينَة وطمع النَّاس فِي الْخلَافَة من غير حق، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الشَّيْطَان قد أيس أَن يعبده المصلون من جَزِيرَة الْعَرَب " وَلَكِن فِي التحريش بَينهم.
وفتنة ملية وَهِي أَن يَمُوت الحواريون من أَصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستند الْأَمر إِلَى غير أَهله فيتعمق رهبانهم وَأَحْبَارهمْ ويتهاون مُلُوكهمْ وجهالهم وَلَا يأمرون بِمَعْرُوف وَلَا ينهون عَن مُنكر فَيصير الزَّمَان زمَان الْجَاهِلِيَّة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَا من نَبِي إِلَّا كَانَ لَهُ حواريون " الحَدِيث.
وفتنة مستطيرة وَهِي تغير النَّاس من الإنسانية ومقتضاها فأزكارهم
وأزهدهم إِلَى الانسلاخ من مقتضيات الطَّبْع رَأْسا دون إصلاحها والتشبه بالمجردات والتحنن إِلَيْهِم بِوَجْه من الْوُجُوه وَنَحْو ذَلِك، وعامتهم إِلَى البهيمية الْخَالِصَة وَيكون نَاس بَين الْفَرِيقَيْنِ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ.
وفتنة الوقائع الجوية المنذرة بالإهلاك الْعَام كالطوفانات الْعَظِيمَة من الوباء والخسف وَالنَّار المنتشرة فِي الأقطار وَنَحْو ذَلِك.
وَقد بَين النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَكثر الْفِتَن قَالَ: " لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ شبْرًا بشبر وذراعا بِذِرَاع حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب تبعتموهم " وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يذهب الصالحون الأول

(2/328)


فَالْأول وَيبقى حفالة كحفالة الشّعير لَا يباليهم الله بالة ".
أَقُول: علم النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنه إِذا بعد الْعَهْد من النَّبِي وانقرض الحواريون من أَصْحَابه ووسد الْأَمر إِلَى غير أَهله لَا بُد أَن تجرى الرسوم حسب الدَّوَاعِي النفسانية والشيطانية وتعمهم جَمِيعًا إِلَّا مَا شَاءَ الله مِنْهُم.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن هَذَا الْأَمر بَدَأَ نبوة وَرَحْمَة ثمَّ يكون خلَافَة وَرَحْمَة، ثمَّ ملكا عَضُوضًا ثمَّ كَائِن جبرية وعتوا وَفَسَادًا فِي الأَرْض يسْتَحلُّونَ الْحَرِير والفروج وَالْخُمُور يرْزقُونَ على ذَلِك وينصرون حَتَّى يلْقوا الله ".
أَقُول: فالنبوة انْقَضتْ بوفاة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والخلافة الَّتِي لَا سيف فِيهَا بمقتل عُثْمَان، والخلافة بِشَهَادَة عَليّ كرم الله وَجهه وخلع الْحسن رَضِي الله عَنهُ، وَالْملك العضوض ومشاجرات الصَّحَابَة بني أُميَّة ومظالمهم إِلَى أَن اسْتَقر أَمر مُعَاوِيَة، والجبرية، والعتو خلَافَة بني الْعَبَّاس فَإِنَّهُم مهدوها على رسوم كسْرَى وَقَيْصَر.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب والحصير عودا عودا فَأَي قلب أشربها نكتت فِيهِ نُكْتَة سَوْدَاء وَأي قلب أنكرها نكتت
فِيهِ نُكْتَة بَيْضَاء حَتَّى تصير على قلبين أَبيض مثل الصَّفَا فَلَا تضره فتْنَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْآخِرَة أسود مربادا كالكوز مجخيا لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا إِلَّا مَا أشْرب من هَوَاهُ "
أَقُول الهواجس والنفسانية الشيطانية تنبعث فِي الْقُلُوب والأعمال الْفَاسِدَة تكتنفها وَلَا تكون حِينَئِذٍ دَعْوَة حثيثة إِلَى الْحق فَلَا ينكرها إِلَّا من جهل فِي قلبه هَيْئَة مضادة للفتن، وتعم من سوى ذَلِك وَتَأْخُذ بتلابيبه
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن الْأَمَانَة نزلت فِي جذر قلاب النَّاس ثمَّ علمُوا من الْقُرْآن ثمَّ علمُوا من السّنة وَحدث عَلَيْهِ السلامعن رَفعهَا فَقَالَ: " ينَام الرجل النومة فتقبض الْأَمَانَة من قلبه فيظل أَثَرهَا مثل أثر الوكت ثمَّ ينَام النومة فتقبض الْأَمَانَة فَيبقى أَثَرهَا مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا "

(2/329)


اقول لما أَرَادَ الله ظُهُور مِلَّة الْإِسْلَام اخْتَار قوما ومرنهم لانقياد والاذعان وَجمع الهمة على مُوَافقَة حكم الله ثمَّ كَانَت الْأَحْكَام المفصلة فِي الْكتاب وَالسّنة تَفْصِيلًا لذَلِك الاذعان الاجمالي. ثمَّ إِنَّهَا تخرج من صُدُورهمْ على غَفلَة مِنْهَا وَذُهُول شَيْئا فَشَيْئًا فَيرى الْإِنْسَان أظرف مَا يكون وأعقله وَلَيْسَ فِي قلبه مِقْدَار شَيْء من الامانة لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى دين الله وَلَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى معاملات النَّاس،
وَقَالَ حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ: " قلت يَا رَسُول الله أَيكُون بعد هَذَا الْخَيْر
شَرّ كَمَا كَانَ قبله شَرّ؟ قَالَ: نعم قلت: فَمَا الْعِصْمَة؟ قَالَ: السَّيْف، قلت وَهل بعد السَّيْف بَقِيَّة؟ قَالَ: نعم يكون إِمَارَة على أقذاء وهدنة على دخن: قلت: مَاذَا؟ قَالَ: ثمَّ ينشأ دعاة الضلال فان كَانَ لله فِي الأَرْض خَليفَة جلد ظهرك وَأخذ مَالك فأطمعه وَإِلَّا فمت وَأَنت عاض على جذل شَجَرَة "
أَقُول: الْفِتْنَة الَّتِي يكون الْعِصْمَة فِيهَا السَّيْف ارتداد الْعَرَب فِي أَيَّام أبي بكر رَضِي الله عَنهُ، وَأما أَمارَة على أقذاء فالمشاجرات الَّتِي وَقعت فِي ايام عُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا، ودعاة الضلال يزِيد بِالشَّام ومختار بالعراق، وَنَحْو ذَلِك حَتَّى اسْتَقر الْأَمر على عبد الْملك.
وَذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتْنَة الاحلاس قيل: وَمَا فتْنَة الاحلاس؟ قَالَ: هِيَ هرب وَحرب " قَالَ: " ثمَّ فتْنَة السَّرَّاء دخنها من تَحت قدمي رجل من أهل بَيْتِي يزْعم أَنه مني وَلَيْسَ مني إِنَّمَا أوليائي المتقون، ثمَّ يصطلح النَّاس على رجل كورك على ضلع " ثمَّ فتْنَة الدهيماء لَا تدع أحدا من هَذِه الْأمة إِلَّا لطمته لطمة، فاذا قيل: انْقَضتْ تمادت.
أَقُول: يشبه وَالله أعلم أَن تكون فتْنَة الأحلاس قتال أهل الشَّام عبد الله ابْن الزبير بعد

(2/330)


هربه من الْمَدِينَة، وفتنة السَّرَّاء إِمَّا تغلب الْمُخْتَار وإفراطه فِي الْقَتْل والنهب يَدْعُو ثأر أهل الْبَيْت، فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " يزْعم أَنه مني " مَعْنَاهُ من حزب أهل الْبَيْت وناصريهم، ثمَّ اصْطَلحُوا على مَرْوَان وَأَوْلَاده، أَو خُرُوج أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي لبني الْعَبَّاس يزْعم أَنه يسْعَى فِي خلَافَة أهل الْبَيْت، ثمَّ اصْطَلحُوا على السفاح، والفتنة الدهيماء تغلب الجنكيزية على الْمُسلمين ونهبهم بِلَاد الْإِسْلَام.
وَبَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَاط السَّاعَة وَهِي ترجع إِلَى أَنْوَاع: الْفِتَن الَّتِي مر ذكرهَا وشيوعها وَكَثْرَتهَا فَإِن التّلف من القرف، وَإِنَّمَا يَجِيء النُّقْصَان من حَيْثُ يَجِيء الْهَلَاك، وَشرح هَذَا يطول.
قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم، وَيكثر الْجَهْل، وَيكثر الزِّنَا، وَيكثر شرب الْخمر. ويقل الرِّجَال. وَيكثر النِّسَاء حَتَّى يكون لخمسين امْرَأَة الْقيم الْوَاحِد ". والحشر فِي لِسَان الشَّرِيعَة مقول على مَعْنيين: حشر النَّاس إِلَى الشَّام، وَهُوَ وَاقعَة قبل الْقِيَامَة حِين يقل النَّاس على وَجه الأَرْض يحْشر بَعضهم بتقريبات وَبَعْضهمْ بِنَار تسوقهم. وَحشر هُوَ الْبَعْث بعد الْمَوْت، وَقد ذكرنَا من قبل أسرار الْمعَاد، وَالله أعلم.
الْفِتَن الْعَظِيمَة الَّتِي أخبر بهَا النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَربع: الأولى: فتْنَة أَمارَة على أقذاء، وَذَلِكَ صَادِق بمشاجرات الصَّحَابَة بعد مقتل عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة مُعَاوِيَة، وَهِي الَّتِي أُشير إِلَيْهَا بقوله: " هدنة عل دخن " وَهُوَ الَّذِي يعرف أمره وينكر لِأَنَّهُ كَانَ على سيرة الْمُلُوك لَا على سيرة الْخُلَفَاء قبله.
الثَّانِيَة فتْنَة الأحلاس. وفتنة الدعاة إِلَى أَبْوَاب جَهَنَّم، وَذَلِكَ صَادِق باخْتلَاف النَّاس وخروجهم طَالِبين الْخلَافَة بعد موت مُعَاوِيَة إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة عبد الْملك.
الثَّالِثَة فتْنَة السَّرَّاء. والجبرية. والعتو، وَذَلِكَ صَادِق بِخُرُوج بني الْعَبَّاس على بني أُميَّة إِلَى أَن اسْتَقَرَّتْ خلَافَة العباسية ومهدوها على رسوم الأكاسرة وَأخذُوا بجبرية وعتو.
الرَّابِعَة فتْنَة تلطم جَمِيع النَّاس إِذا قيل: انْقَضتْ تمادت حَتَّى رَجَعَ النَّاس إِلَى فسطاطتين وَذَلِكَ صَادِق بِخُرُوج الأتراك الجنكيزية وإبطالهم خلَافَة بني الْعَبَّاس ومزقهم على وَجههَا الْفِتَن.

(2/331)


وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْفِتَن أَكْثَرهَا مرت من قبل، وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" تَدور رحى الْإِسْلَام بِخمْس وَثَلَاثِينَ أَو سِتّ وَثَلَاثِينَ فَإِن يهْلكُوا فسبيل من هلك وَإِن يقم لَهُم دينهم يقم لَهُم سبعين عَاما قلت: أمما بَقِي أَو مِمَّا مضى؟ قَالَ: مِمَّا مضى ".
فَمَعْنَى قَوْله: " تَدور رحى الْإِسْلَام " أَي يقوم أَمر الْإِسْلَام بِإِقَامَة الْحُدُود وَالْجهَاد فِي هَذِه الْأمة وَذَلِكَ صَادِق من ابْتِدَاء وَقت الْجِهَاد وأوائل الْهِجْرَة إِلَى مقتل سيدنَا عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ، وَالشَّكّ فِي خَمْسَة وَثَلَاثِينَ وَأَخَوَاتهَا لِأَن الله تَعَالَى أوحى إِلَيْهِ مُجملا.
وَقَوله: " فَإِن يهْلكُوا بَيَان لصعوبة الْأَمر وَأَن الْأَمر يصير إِلَى حَالَة لَو نظر فِيهَا النَّاظر يشك فِي هَلَاك الْأمة وَبطلَان أُمُورهم.
قَوْله. سبعين عَاما ابْتِدَاؤُهَا من الْبعْثَة وتمامها موت مُعَاوِيَة رَضِي الله عَنهُ وَبعده قَامَت فتْنَة دعاة الضلال.
وَقَوله سبعين عَاما مَعْنَاهُ تهويل الْأَمر وَأَنه يكون تَحت بطن الْبَاطِن فِيهِ، وَأَنه لَا يكون بعد هَذِه استقامة الْأَمر، وَالله أعلم.
وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُقَاتِلكُمْ قوم صغَار الْأَعْين - يَعْنِي التّرْك - تسوقونهم ثَلَاث مَرَّات " الحَدِيث مَعْنَاهُ أَن الْعَرَب يجاهدونهم ويغلبونهم فَيصير ذَلِك سَببا لأحقاد وضغائن حَتَّى يؤول الْأَمر إِلَى أَن يذبوا الْعَرَب من بِلَادهمْ ثمَّ لَا يقتصرون على ذَلِك بل يدْخلُونَ بِلَاد الْعَرَب، وَهَذَا هُوَ المُرَاد من قَوْله: " حَتَّى تلحقوهم بِجَزِيرَة الْعَرَب " أما فِي السِّيَاقَة الأولى فينجو من الْعَرَب من هرب من قِتَالهمْ بِأَن يفر من بَين أَيْديهم، وَذَلِكَ صَادِق بِقِتَال الجنكيزية فَهَلَك العباسية الَّذين كَانُوا بِبَغْدَاد وَنَجَا العباسية الَّذين فروا إِلَى مصر، وَأما فِي السِّيَاقَة الثَّانِيَة فينجو بعض وَيهْلك بعض، وَذَلِكَ صَادِق بِوَطْء تيمور ديار الشَّام وإهلاك أَمر العباسية " وَأما فِي الثَّالِثَة فيصطلمون " وَذَلِكَ صَادِق بِغَلَبَة العثمانية على جَمِيع الْعَمَل، وَالله أعلم.
(المناقب)
الأَصْل فِي مَنَاقِب الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أُمُور:

(2/332)


مِنْهَا أَن يطلع النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هَيْئَة نفسانية تعد الْإِنْسَان لدُخُول الْجنان كَمَا اطلع على أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَنه لَيْسَ فِيهِ خُيَلَاء وَأَنه مِمَّن أكمل الْخِصَال الَّتِي تكون أَبْوَاب الْجنَّة تمثالا لَهَا فَقَالَ: " أَرْجُو أَن تكون مِنْهُم " يَعْنِي الَّذين يدعونَ من الْأَبْوَاب جَمِيعًا.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر رَضِي الله عَنهُ: " مَا لقيك الشَّيْطَان سالكا فجا قطّ إِلَّا سلك فجا غير فجك ".
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إِن يَك من أمتِي أحد من الْمُحدثين فَإِنَّهُ عمر ".
وَمِنْهَا: أَن يرى فِي الْمَنَام أَو ينفث فِي روعة مَا يدل على رسوخ قدمه فِي الدّين كَمَا رأى بِلَالًا رَضِي الله عَنهُ يتقدمه فِي الْجنَّة، وَرَأى قصرا لعمر رَضِي الله عَنهُ فِي الْجنَّة وَرَآهُ قمص بقميص سابغ، وَأَنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطَاهُ سؤره من اللَّبن فَعبر بِالدّينِ وَالْعلم.
وَمِنْهَا حب النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُم وتوقيرهم ومواساته مَعَهم وسوابقهم فِي الْإِسْلَام، فَذَلِك كُله ظَاهره أَنه لم يكن إِلَّا لامتلاء الْقلب من الْإِيمَان.
وَاعْلَم أَن فضل بعض الْقُرُون على بعض لَا يُمكن أَن يكون من جِهَة كل فَضِيلَة، وَهُوَ قَوْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدْرِي أَوله خير أم آخِره " وَقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" أَنْتُم أَصْحَابِي، وإخواني الَّذين يأْتونَ بعد "
وَذَلِكَ أَن الاعتبارات متعارضة وَالْوُجُوه متجاذبة، وَلَا يُمكن أم يكون تَفْضِيل كل أحد من الْقرن الْفَاضِل على كل أحد من الْقرن الْمَفْضُول كَيفَ وَمن الْقُرُون الفاضلة اتِّفَاقًا من هُوَ مُنَافِق أَو فَاسق وَمِنْهَا الْحجَّاج. وَيزِيد بن مُعَاوِيَة. ومختار. وغلمة من قُرَيْش الَّذين يهْلكُونَ النَّاس وَغَيرهم مِمَّن بَين النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء حَالهم، وَلَكِن الْحق أَن جُمْهُور الْقرن الأول أفضل من جُمْهُور الْقرن الثَّانِي وَنَحْو ذَلِك.
وَالْملَّة إِنَّمَا تثبت بِالنَّقْلِ والتوارث وَلَا توارث إِلَّا بِأَن يعظم الَّذين شاهدوا مواقع الْوَحْي وَعرفُوا تَأْوِيله وشاهدوا سيرة النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلم يخلطوا مَعهَا تعمقا وَلَا تهاونا وَلَا مِلَّة أُخْرَى.
وَقد أجمع من يعْتد بِهِ من الْأمة على أَن أفضل الْأمة أَبُو بكر الصّديق، ثمَّ عمر رَضِي الله عَنْهُمَا، وَذَلِكَ لِأَن أَمر النُّبُوَّة لَهُ جَنَاحَانِ: تلقى الْعلم عَن الله تَعَالَى. وبثه فِي النَّاس، أما التلقي عَن الله فَلَا يُشْرك النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِك أحد، وَأما بثه فَإِنَّمَا تحقق بسياسة وتأليف وَنَحْو ذَلِك، وَلَا شكّ أَن الشَّيْخَيْنِ رَضِي الله عَنْهُمَا أَكثر الْأمة فِي هَذِه الْأُمُور فِي زمَان النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبعده، وَالله أعلم.
وَليكن هَذَا آخر مَا أردنَا إِيرَاده فِي كتاب حجَّة الله الْبَالِغَة، وَالْحَمْد لله تَعَالَى أَولا وآخرا، وظاهرا وَبَاطنا، وَصلى الله على خير خلقه مُحَمَّد وَآله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ.

(2/333)