خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام

كتاب الصلاة
باب المواقيت
الحديث الأول
عن أبي عمرو الشيباني - واسمه سعد بن إياس - قال: حدثني صاحب هذه الدار - وأشار بيده إلى دار عبد الله بن مسعود - قال: "سألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله - عزَّ وجلَّ -؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قلت: ثم أي (1) ؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قال: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني.
(الصلاة) : في اللغة الدعاء: قال الله - تعالى -: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] ؛ أي: ادعُ لهم، وهي في الشرع عبارة عن الأفعال المعلومة.
قال الله - تعالى -: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] ، وقال - تعالى -: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31] .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((العهد الذي بيننا وبينكم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر)) ؛ رواه الخمسة.
ومناسبة تعقيب الطهارة
_________
(1) قوله: ((أي)) , قيل: الصواب أنه غير منوَّن, وحكى ابن الجزري عن ابن الخشاب الجزم بتنوينه.

(1/45)


بالصلاة لتقدُّم الشرط على المشروط والوسيلة على المقصود.
و (المواقيت) : جمع ميقات قال الله - تعالى -: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ؛ أي: مقدرًا وقتها، فلا تُقدَّم عليه ولا تُؤخَّر عنه.
قال ابن عباس: أي: مفروضًا.
وقال - تعالى -: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] .
والدلوك: زوال الشمس، فيدخل فيه وقت الظهر والعصر، ويدخل في غسق الليل وقتُ المغرب والعشاء.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِب الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس)) ؛ رواه مسلم.
قوله: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أحب إلى الله - تعالى؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) "؛ أي: في وقتها، فلا تصحُّ الصلاة قبل دخول وقتها، ويحرم تأخيرها حتى يخرج وقتها؛ قال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، قال ابن مسعود: أخَّروها عن وقتها، وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا العصر حتى تغرب الشمس.
وعن ابن مسعود أنه قيل له: إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 5] ، و {عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] ، و {عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] .
فقال بن مسعود: على مواقيتها، قالوا: ما كنَّا نرى ذلك إلا على الترك، قال: ذلك الكفر.
وفي الحديث تعظيم الوالدين، وأن أعمال البر يفضُل بعضها على بعض، وفيه السؤال عن مسائل شتَّى في وقت واحد، والرفق بالعالم والتوقُّف عن الإكثار عليه خشيةَ إملاله، وفيه أن الإشارة تتنزل منزلة التصريح إذا كانت مبيِّنة.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لقد كان رسول الله - صلى الله عليه

(1/46)


وسلم - يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفِّعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس".
قال: "المروط": أكسية معلمة تكون من خزٍّ وتكون من صوف، و"متلفِّعات": ملتحفات، و"الغلس": اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل.
فيه استحباب المبادرة بصلاة الصبح في أوَّل الوقت وهو تحقُّق طلوع الفجر كما في حديث أبي موسى: "فأقام الفجر حين انشقَّ الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا"، وأمَّا المبادرة بها من حين طلوع الفجر فلم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يوم مزدلفة.
قال الشوكاني: ولا معارضة بين هذا الحديث وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه؛ لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفِّعة على بعد، وذاك إخبار عن رؤية الجليس.
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: ((يا معاذ، إذا كان في الشتاء فغلِّس بالفجر، وأطِل القراءة قدر ما يطيق الناس ولا تملهم، وإذا كان الصيف فأسفِر بالفجر، فإن الليل قصير والناس ينامون فأمهلهم حتى يدركوا)) ؛ رواه البغوي في "شرح السنة".
قوله: " (والغلس) اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل"؛ أي: الصبح الصادق وهو الفجر الثاني، وأمَّا الفجر الأول فلا تصحُّ فيه، وفي الحديث جواز خروج النساء إلى المساجد إذا لم يخشَ فتنة.
* * *
الحديث الثالث
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقيَّة، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحيانًا وأحيانًا إذا رآهم اجتمعوا عجَّل وإذا رآهم

(1/47)


أبطؤوا أخَّر، والصبح كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس".
(الهاجرة) : هي شدة الحر بعد الزوال.
وهذا الحديث يدلُّ على فضيلة أوَّل الوقت، وهو عام مخصوص بالإبراد في شدَّة الحر، وتأخير العشاء إذا لم يشق.
قوله: "والعصر والشمس نقية"؛ أي: صافية لم تدخلها صفرة.
قوله: "والمغرب إذا وجبت"؛ أي: إذا سقطت؛ يعني: غربت الشمس.
وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال، اجعل بين أذانك وإقامتك نفَسًا يفرغ الآكِل من طعامه في مهَل، ويقضي المتوضِّئ حاجته في مهَل)) ؛ رواه عبد الله بن أحمد في "زوائد المسند".
قال ابن دقيق العيد: وتأخير صلاة الجماعة أفضل من صلاة المنفرد في أول الوقت؛ لأن التشديد في ترك الجماعة والترغيب في فعلها موجود، للأحاديث الصحيحة، وفضيلة الصلاة في أوَّل الوقت وردت على جهة الترغيب في الفضيلة، وأمَّا جانب التشديد في التأخير عن أوَّل الوقت فلم يرد كما في صلاة الجماعة.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي المنهال سيار بن سلامة قال: "دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي، فقال له أبي: كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي المكتوبة؟ فقال: كان يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله
في أقصى المدينة والشمس حية، ونسيت ما قال في المغرب، وكان يستحبُّ أن يؤخِّر من العشاء التي تدعونها العَتَمة، وكان يكره النوم قبلها

(1/48)


والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المائة".
قوله: "والشمس حية"؛ أي: بيضاء نقية، و"رحله": مسكنه.
قال ابن دقيق العيد: وإنما قيل لصلاة الظهر الأولى؛ لأنها أول صلاة أقامها جبريل - عليه السلام - للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قوله: "وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" فيه دليلٌ على كراهة الأمرين.
وروى الحافظ المقدسي في "الأحكام" من حديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعًا: ((لا سمر إلا لثلاثة: مصلٍّ، أو مسافر، أو عروس)) .
قال النووي: واتَّفق العلماء على كراهة الحديث بعدها إلاَّ ما كان في خير.
* * *
الحديث الخامس
عن علي - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الخندق: ((ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس)) .
وفي لفظٍ لمسلم: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر)) ، ثم صلاها بين المغرب والعشاء.
وله عن عبد الله بن مسعود قال: "حبس المشركون رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة العصر حتى احمرَّت الشمس أو اصفرَّت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارًا أو حشا الله أجوافهم وقبورهم نارًا)) .
في الحديث دلالةٌ صريحةٌ على أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
قوله: "ثم

(1/49)


صلاها بين المغرب والعشاء"؛ أي: بعد دخول وقت المغرب، كما في حديث جابر: فصلى العصر بعدما غربت الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
* * *
الحديث السادس
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: أعتَمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر يقول: ((لولا أن أشقَّ على أمتي - أو: على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة)) .
فيه دليلٌ على استحباب تأخير العشاء إذا لم يشقَّ على الناس.
قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على تنبيه الأكابر؛ إمَّا لاحتمال غفلة، أو لاستثارة فائدة.
* * *
الحديث السابع
عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أُقِيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء)) ، وعن ابن عمر نحوه.
* * *
الحديث الثامن
ولمسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)) .
فيه دليل على تقديم فضيلة الخشوع في الصلاة على فضيلة أوَّل الوقت ولو فاتته

(1/50)


الجماعة، ولا يجوز اتِّخاذ ذلك عادة.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قدم العشاء فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا المغرب)) .
قوله في حديث عائشة: ((ولا وهو يدافعه الأخبثان)) ؛ يعني: البول والغائط.
قال ابن دقيق العيد: ومدافعة الأخبثين إمَّا أن تؤدِّي إلى الإخلال بركن أو شرط أو لا، فإن أدَّى إلى ذلك امتنع دخول الصلاة معه، وإن دخل واختلَّ الركن أو الشرط فسَدت الصلاة بذلك الاختلال، وإن لم يؤدِّ إلى ذلك فالمشهور فيه الكراهة.
* * *
الحديث التاسع
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "شهد عندي رجال مرضيُّون وأرضاهم عندي عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب".
وما في معناه من الحديث العاشر.
* * *
الحديث العاشر
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس)) .
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: وفي الباب عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، وسلمة بن الأكوع، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وكعب بن مرة،

(1/51)


وأبي أمامة الباهلي، وعمرو بن عبسة الأسلمي، وعائشة - رضي الله عنهم - والصنابحي، ولم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله، قال المصنف: إلى آخره من الأصل.
قال النووي: أجمعت الأمة على كراهة صلاة لا سبب لها في الأوقات المنهيِّ عنها، واتَّفقوا على جواز الفرائض المؤدَّاة فيها، واختلفوا في النوافل التي لها سبب، انتهى.
وقال الموفق في "المقنع": ويجوز قضاء الفرائض في أوقات النهي، وتجوز صلاة الجنازة وركعتا الطواف وإعادة الجماعة إذا أُقِيمت وهو في المسجد بعد الفجر والعصر، وهل يجوز في الثلاثة الباقية؟ على روايتين، ولا يجوز التطوُّع بغيرها في شيء من الأوقات الخمسة إلا ما له سبب؛ كتحية المسجد وسجود التلاوة وصلاة الكسوف وقضاء السنن الراتبة فإنها على روايتين، انتهى.
وعن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بني عبدمناف، لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلَّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار)) ؛ رواه الخمسة.
وهذا الحديث يدلُّ على مشروعية ركعتي الطواف في أوقات النهي تبعا للطواف.
قال الموفق في "المغني": ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوُّع في أوقات النهي، والله أعلم.
* * *
الحديث الحادي عشر
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس، فجعل يسبُّ كفار قريش، وقال: يا رسول الله، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والله ما صليتها)) ، قال: فقمنا إلى بطحان فتوضَّأ للصلاة وتوضَّأنا لها، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى بعدها المغرب.

(1/52)


في الحديث دليلٌ على جواز قضاء الفوائت في أوقات النهي، وفيه جواز اليمين من غير استحلاف إذا اقتضت مصلحة من زيادة طمأنينة أو نفي توهُّم، وفيه مشروعية ترتيب قضاء الفوائت وصلاتها في الجماعة.
* * *
باب فضل الصلاة الجماعة ووجوبها
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة)) .
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يُخرِجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوةً إلا رُفِعت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزل الملائكة تصلِّي عليه ما دام في مصلاَّه: اللهم صلِّ عليه، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة)) .
قوله: ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) قال الترمذي: عامة من رواه قالوا: "خمسًا وعشرين"، إلا ابن عمر فإنه قال: "سبعًا وعشرين"؛ انتهى.

(1/53)


وقد جمع بينهما بأن ذكر القليل لا ينفي الكثير وفضل الله واسع، وقيل: السبع مختصَّة بالجهرية والخمس بالسرية؛ لأن في الجهرية الإنصات عند قراءة الإمام والتأمين عند تأمينه.
وفي حديث أبي هريرة إشارة إلى بعض الأسباب المقتضية للدرجات وهو قوله: ((وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخطُ خطوة إلا رُفِعت له بها درجة وحُطَّ عنها بها خطيئة)) ، ومنها الاجتماع والتعاون على الطاعة، والألفة بين الجيران، والسلامة من صفة النفاق
ومن إساءة الظن به، ومنها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، وغير ذلك، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا، ولقد هممت أن آمُر بالصلاة فتُقَام، ثم آمر رجلاً فيصلِّي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حِزَم من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار)) .
هذا الحديث يدلُّ على وجوب الصلاة في الجماعة، وفيه تقديم التهديد على العقوبة، وسر ذلك أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرَّة، وفيه الرخصة للإمام في ترك الجماعة لمثل ذلك.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: ((لقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتَى به يُهادِي بين الرجلين حتى يُقَام في الصف)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي، وقال البخاري: "باب وجوب صلاة الجماعة".
وقال الحسن: إن منعته أمه عن العشاء في الجماعة شفقة عليه لم يطعها وساق الحديث، ولفظه: أن رسول الله -

(1/54)


صلى الله عليه وسلم - قال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمُر بحطب فيحطب، ثم آمُر بالصلاة فيؤذن لها، ثم آمُر رجلاً فيؤمُّ الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا أو مرماتين (1) حسنتين لشهد العشاء)) .
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها)) ، قال: فقال بلال بن عبد الله، والله لنمنعهن، قال: فأقبل عليه عبد الله فسبَّه سبًّا سيئًا ما سمعته سبَّه مثله قطُّ، وقال: أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول: والله لنمنعهن، وفي لفظ: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)) .
فيه دليلٌ على جواز خروج النساء إلى المساجد إذا أُمِنت الفتنة بهن أو منهن.
ولأبي داود: ((ولا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خيرٌ لهن)) .
قال ابن دقيق العيد: وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة)) ، ويلحق به حسن الملابس، ولبس الحلي الذي يظهر أثره في الزينة، انتهى.
وفي الحديث تأديب المعترض على السنن برأيه وعلى العالم بهواه وتأديب الرجل ولده وإن كان كبيرًا إذا تكلم بما لا ينبغي له، وجواز التأديب بالهجران.
* * *
_________
(1) العرق: العظم بلحمه, والمرماة: الظلف, اهـ قاموس, اهـ مصححه.

(1/55)


الحديث الخامس
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد الجمعة وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء"، وفي لفظ: "فأمَّا المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته".
وفي لفظ للبخاري أن ابن عمر قال: "حدثتني حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي سجدتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر وكانت ساعة لا أدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها".
قوله: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر"، في رواية "حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشر ركعات"، فالمراد بقوله: "مع" التبعية لا التجميع، وهذا الحديث يدلُّ على سنيَّة الرواتب العشر وتأكيدها.
قوله: "فأمَّا المغرب والعشاء والفجر والجمعة ففي بيته" قال الحافظ: والظاهر أن ذلك لم يقع عن عمد، وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - يتشاغَل بالناس في النهار غالبًا، وبالليل يكون في بيته غالبًا، انتهى.
قال ابن دقيق العيد: وفي تقديم السنن على الفرائض وتأخيرها عنها معنًى لطيف مناسب، أمَّا في التقديم فلأن الإنسان يشتغل بأمور الدنيا وأسبابها فتتكيَّف النفس في ذلك بحال بعيدة عن حضور القلب في العبادة والخشوع فيها الذي هو روحها، فإذا قدمت السنن على الفريضة تأنَّست النفس بالعبادة وتكيَّفت بحالة تقرِّب من الخشوع فيدخل في الفرائض على حالة حسنة لم تكن تحصل له لو لم تقدم السنة، فإن النفس مجبولة على التكييف بما هي فيه لا سيَّما إذا كثر أو طال، وورود الحالة المنافية لما قبلها قد تمحو أثر الحالة السابقة أو تضعفه، وأمَّا السنن المتأخِّرة فلما ورد أن النوافل جابرة لنقصان الفرائض، فإذا وقع الفرض ناسَب أن يكون بعده ما يجبر خللاً فيه إن وقع.
* * *

(1/56)


الحديث السادس
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشدَّ تعاهدًا منه على ركعتي الفجر"، وفي لفظ لمسلم: ((ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها)) .
فيه دليل على تأكيد ركعتي الفجر وعظم ثوابهما.
تنبيه:
إذا صلى الرجل ركعتي الفجر في بيته وأتى المسجد قبل أن تُقَام الصلاة فليركع ركعتين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) .
باب الأذان
الحديث الأول
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: ((أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة)) .
الأذان: لغة الأعلام؛ قال الله - تعالى -: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] ، وشرعًا: الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة في أوقات مخصوصة.
قال الله - تعالى -: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58] .
قال القرطبي وغيره: الأذان على قِلَّة ألفاظه مشتَمِل على مسائل العقيدة؛ لأنه بدأ بالأكبرية وهي تتضمَّن وجود الله وكماله، ثم ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك، ثم بإثبات الرسالة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا إلى الطاعة المخصوصة بالرسالة؛ لأنها لا تُعرَف إلا

(1/57)


من جهة الرسول، ثم دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثم أعاد ما أعاد توكيدًا.
ويحصل من الأذان الإعلامُ بدخول الوقت والدعاءُ إلى الجماعة، وإظهارُ شعائر الإسلام، والحكمة في اختيار القول له دون الفعل سهولةُ القول وتيسُّره لكل أحد في كل زمان ومكان.
قوله: "أمر بلال"؛ أي: أمره النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
والحديث له قصة، وهي ما رواه البخاري عن ابن عمر: كان المسلمون حين قدِمُوا يجتمعون فيتحيَّنون الصلاة ليس يُنادَى لها، فتكلَّموا يومًا في ذلك، فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن
اليهود، فقال عمر: أوَلاَ تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا بلال، قم فنادِ بالصلاة)) .
قوله: "أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"؛ أي: بألفاظ الأذان شفعًا والإقامة فُرادَى إلا قد قامت الصلاة.
قال ابن عبد البر: ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن تربيع التكبير الأوَّل في الأذان وتثنيته والترجيع في التشهد وتركه وتثنية الإقامة وإفرادها من الاختلاف المباح، فالجميع جائز، انتهى.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي جحيفة وهب بن عبد الله السُّوائي قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قُبَّة له حمراء من أدم، قال: فخرج بلال بوضوء فمن ناضح ونائل، قال: فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حُلَّة حمراء كأني أنظر إلى بياض ساقيه، قال: فتوضَّأ وأذَّن بلال، قال: فجعلت اتبع فاه ها هنا وها هنا يقول يمينًا وشمالاً: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، ثم ركَّزت له عنزة فتقدَّم وصلَّى الظهر ركعتين، ثم لم يزل يصلي ركعتين حتى رجع إلى المدينة".

(1/58)


فيه دليلٌ على مشروعية الالتفات عند الحيعلتين، ووضع السترة للمصلي، والاكتفاء بمثل العنزة، وأن السنَّة في السفر قصر الصلاة، قال أحمد: لا يدور المؤذن إلا إن كان على منارة يقصد إسماع أهل الجهتين.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن بلالاً يؤذِّن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذِّن ابن أم مكتوم)) .
في الحديث دليلٌ على جواز أذان الأعمى إذا كان له مَن يخبره، وكان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يُقَال له: أصبحت أصبحت.
وللبخاري: ((فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر)) .
ولمسلم: ((ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا)) ، وفيه جواز اتِّخاذ مؤذنَين في المسجد الواحد، وفيه جواز الأكل مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل، وجواز ذكر الرجل بما فيه من العاهة إذا كان يقصد التعريف ونحوه، وجواز نسبة الرجل إلى أمِّه إذا اشتهر بذلك واحتيج إليه.
قال الموفق في "المغني": ويستحبُّ أن لا يؤذِّن قبل الفجر إلا أن يكون معه مؤذِّن آخر يؤذِّن إذا أصبح كفعل بلال وابن أم مكتوم اقتداءً برسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا مثلما يقول)) .

(1/59)


فيه دليلٌ على مشروعية إجابة المؤذِّن بمثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فيقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول بعد فراغه: اللهم ربِّ هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد، رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا.
تتمة:
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتَمَة والصبح لأتوهما ولو حبوًا)) .
* * *
باب استقبال القبلة
الحديث الأول
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسبِّح على ظهر راحلته حيث كان يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله.
وفي رواية: كان يوتر على بعيره.
ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة.
وللبخاري: إلا الفرائض.
استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة، والقبلة هي الكعبة؛ والأصل في ذلك قول الله - تعالى -: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] .
قوله: "كان يسبح على ظهر راحلته"؛ أي: يصلي عليها.
وفيه دليلٌ على جواز صلاة النافلة على الدابة سواء كان إلى جهة القبلة أو غيرها.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق والسجود أخفض من الركوع"؛ رواه أبو داود.
وتجوز صلاة الفرض

(1/60)


على الراحلة للعذر؛ لحديث يعلي بن مرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته والسماء من فوقهم والبِلَّة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذَّن وأقام، ثم تقدَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته فصلَّى بهم يومئ إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع؛ رواه أحمد والترمذي.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف أصلي في السفينة؟ قال: ((صلِّ فيها قائمًا إلاَّ أن تخاف الغرق)) ؛ رواه الدارقطني.
وقال البخاري: "وصلى جابر وأبو سعيد في السفينة قائمًا، وقال الحسن: "قائمًا ما لم تشق على أصحابك تدور معها وإلا فقاعدًا.
* * *
الحديث الثاني
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة".
فيه دليلٌ على صحة صلاة مَن صلَّى إلى غير القبلة جاهلاً أو ساهيًا أو مجتهدًا، وفيه أن العمل الكثير لمصلحة الصلاة لا يبطلها، وفيه قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وفيه جواز تعليم مَن ليس في الصلاة لِمَن هو فيها، وأن استماع المصلي لكلام مَن ليس في الصلاة لا يفسد صلاته.
* * *
الحديث الثالث
عن أنس بن سيرين قال: "استقبلنا أنسًا حين قدم من الشام

(1/61)


فلقيناه بعين التمر، فرأيته يصلي على حمار ووجه من ذا الجانب - يعني: عن يسار القبلة - فقلت: رأيتك تصلي لغير القبلة؟ فقال: لولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله ما فعلته".
فيه دليلٌ على جواز الصلاة على الحمار.
قال ابن دقيق العيد: يُؤخَذ من هذا الحديث طهارة عرق الحمار؛ لأن ملابسته مع التحرُّز منه متعذِّرة، لا سيَّما إذا طال الزمان في ركوبه واحتمل العرق.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد أن مَن صلَّى على موضع فيه نجاسة لا يباشرها بشيء منه أن صلاته صحيحة؛ لأن الدابة لا تخلو من نجاسة ولو على منفذها، وفيه الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كالرجوع إلى أقواله من غير عرضة للاعتراض عليه، وفيه تلقِّي المسافر، وسؤال التلميذ شيخَه عن مستند فعله، والجواب بالدليل، وفيه التلطُّف في السؤال والعمل بالإشارة؛ لقوله: "من ذا الجانب"، انتهى.
تتمَّة:
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما بين المشرق والمغرب قبلة)) .
وعن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلَّينا فلمَّا طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى غير القبلة فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] "؛ رواهما الترمذي.
* * *
باب الصفوف
الحديث الأول
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((سوُّوا صفوفكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة)) .

(1/62)


فيه دليلٌ على وجوب تسوية الصفوف.
وفي رواية البخاري: ((فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة)) .
وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها)) ، فقلنا: يا رسول الله، كيف تصفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: يتمُّون الصف الأول ويتراصون في الصف)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
* * *
الحديث الثاني
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفنَّ الله بين وجوهكم)) .
ولمسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوِّي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أن قد عقلنا عنه، ثم خرج يومًا فقام حتى كاد أن يكبر فرأى رجلاً باديًا صدره فقال: ((عباد الله، لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)) .
قال في "القاموس": "القدح": السهم قبل أن يُرَاش وينصل، جمعه قداح.
قال ابن دقيق العيد: القداح خشب السهام حين تُبرَى وتُنحَت وتُهيَّأ للرمي وهي مما يطلب فيها التحرير وإلا كان السهم طائشًا، انتهى.
وفي الحديث دليلٌ على وجوب تسوية الصفوف وعلى جواز كلام الإمام فيما بين الإقامة والصلاة لما يعرض من حاجة، وفيه مراعاة الإمام لرعيته والشفقة عليهم وتحذيرهم من المخالفة.
* * *

(1/63)


الحديث الثالث
عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن جدته مليكة دعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لطعام صنعته له، فأكل منه ثم قال: ((قوموا فلأصلي لكم)) ، قال أنس: فقمت إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِس فنضحته بماء، فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى ركعتين ثم انصرف.
ولمسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى به وبأمه فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا.
(اليتيم) : هو ضميرة جد حسن بن عبد الله بن ضميرة.
فيه دليلٌ على أن المرأة وحدها تكون صفًّا، وفيه إجابة الدعوة ولو لم تكن عرسًا ولو كان الداعي امرأة إذا أمنت الفتنة، وفيه جواز صلاة النافلة جماعة، وفيه تنظيف مكان المصلي، وقيام الصبي مع الرجل صفًّا، وتأخير النساء عن صفوف الرجال، وفيه أن المرأة لا تصفُّ مع الرجال، فلو خالفت أجزأت صلاتها عند الجمهور.
* * *
الحديث الرابع
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "بتُّ عند خالتي ميمونة فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه".

(1/64)


فيه دليلٌ على أن موقف المأموم الواحد يكون عن يمين الإمام، وفيه دليل على جواز الائتمام بمن لم ينوِ الإمامة، وأن العمل اليسير في الصلاة لا يفسدها.
* * *
باب الإمامة
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أمَا يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار أو يجعل صورته صورة حمار)) .
قوله: ((أمَا)) استفهام توبيخ، وفيه وعيد شديد لِمَن سابق الإمام، وفيه وجوب متابعة الإمام، وفي الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم - بأمته وبيانه لهم الأحكام وما يترتَّب عليها من الثواب والعقاب.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون)) .
* * *

(1/65)


الحديث الثالث
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته وهو شاكٍ، فصلى جالسًا وصلى وراءه قوم قيامًا فأشار إليهم أن اجلسوا؟ فلمَّا انصرف قال: ((إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعين)) .
قوله: ((إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ به)) ؛ أي: ليقتدي به ويتبع، ومن شأن التابع أن لا يسبق متبوعه ولا يساويه ولا يتقدَّم عليه في موقفه.
قوله: ((وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد)) ، فيه دليلٌ على أن المأموم لا يقول: سمع الله لِمَن حمده، بل يقول: ربنا ولك الحمد.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: ((اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء المجد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .
وعن رفاعة ابن رافع الزرقي - رضي الله عنه - قال: كنَّا يومًا نصلي وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا رفع رأسه من الركعة قال: ((سمع الله لِمَن حمده)) ، قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه)) ، فلمَّا انصرف قال: ((مَن المتكلم؟)) ، قال: أنا، قال: ((رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) .
قوله: ((وإذا صلى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون)) ، قال البخاري في "صحيحه": قال الحميدي: قوله: ((إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا)) هو في مرضه القديم، ثم صلى بعد ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا والناس خلفه قيامًا لم يأمرهم بالقعود، وإنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من فعل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
* * *

(1/66)


الحديث الرابع
عن عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري - رضي الله عنه - قال: حدثني البراء وهو غير كذوب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: ((سمع الله لِمَن حمده)) ، لم يحنِ أحدٌ منَّا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًّا ثم نقع سجودًا بعده.
فيه دليلٌ على أن المأموم يتأخَّر حتى يتمكَّن الإمام من الركن الذي ينتقل إليه، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به فإذا كبَّر فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبِّر، وإذا ركع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركع، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا
سجد فاسجدوا ولا تسجدوا حتى يسجد، وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا، وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعون)) ؛ رواه أبو داود.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا؛ فإنه مَن وافَق تأمينه تأمين الملائكة غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) .
فيه دليلٌ على مشروعية التأمين للإمام والمأموم والجهر به في الجهرية.
ومعنى آمين: اللهم استجب.
* * *

(1/67)


الحديث السادس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطوِّل ما شاء)) .
* * *
الحديث السابع
عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة أشد مما غضب يومئذ، فقال: ((يا أيها الناس، إن منكم منفِّرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز؛ فإن وراءه الكبير والصغير وذا الحاجة)) .
فيه دليلٌ على استحباب التخفيف للإمام حيث يشق التطويل على المأمومين، وفيه الغضب في التعليم.
قال ابن القيم: الإيجاز أمر نسبي إضافي راجع إلى السنة لا إلى شهوة الإمام ومَن خلفه.
وقال شيخنا سعد بن عتيق - رحمه الله تعالى -: ليس في هذا الحديث حجة للنقارين.
* * *

(1/68)


باب صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كبَّر في الصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطاياي كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاي بالماء والثلج والبرد)) .
قوله: "هنيهة" وفي رواية: "هنيَّة"؛ أي: شيئًا يسيرًا.
قوله: "بأبي أنت وأمي"؛ أي: أفديك بأبي وأمي.
قوله: ((بالماء والثلج والبرد)) قال ابن دقيق العيد: عبَّر بذلك عن غاية المحو؛ فإن الثوب الذي يتكرَّر عليه ثلاثة أشياء منقية يكون في غاية النقاء.
وفي الحديث دليلٌ على مشروعية الاستفتاح بين التكبير والقراءة، وحديث الباب أصحُّ ما ورد في ذلك، وقد ورد فيه أحاديث منها: ((وجهت وجهي ... )) إلى آخره، ومنها: ((سبحانك اللهم وبحمدك ... )) إلى آخره.
ونقل عن الشافعي استحباب الجمع بين التوجيه والتسبيح، وإن جمع بين ((سبحانك اللهم وبحمدك)) وبين ((اللهم باعد بيني وبين خطاياي)) فحسن.
وفي الحديث من الفوائد جواز الدعاء في الصلاة بما ليس في القرآن، وفيه ما كان الصحابة عليه من المحافظة على تتبُّع أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركاته وسكناته، وإسراره وإعلانه، حتى حفظ الله بهم الدين.

(1/69)


وعن الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يسكت سكتتين: إذا استفتح الصلاة، وإذا فرغ من القراءة كلها.
وفي رواية: سكتت إذا كبر، وسكتت إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] ؛ رواه أبو داود.
قال النووي: يسكت قدر قراءة المأمومين الفاتحة، وقال في "الفروع": ويستحبُّ سكوته بعدها قدر قراءة المأموم.
وقال في "المغني": يستحب أن يسكت الإمام عُقَيب قراءة الفاتحة سكتةً يستريح فيها، ويقرأ فيها مَن خلفه الفاتحة كي لا ينازعوه فيها.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوِّبه ولكن بين ذلك، وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا، وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفرش الرجل ذراعيه افتراش السبع، وكان يختم الصلاة بالتسليم".
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث سها المصنف في إيراده في هذا الكتاب فإنه مما انفرد به مسلم عن البخاري، وشرط الكتاب تخريج الشيخين للحديث.
قوله: "كان يستفتح الصلاة بالتكبير"؛ أي: يقول: الله أكبر، وهي تكبيرة الإحرام.
قوله: "والقراءة" بالنصب؛ أي: ويستفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، بضم الدال على الحكاية0
قوله: "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه"؛ أي: لم يرفعه ولم يخفضه.
قوله:

(1/70)


"وكان يقول في كل ركعتين التحية"؛ أي: يجلس للتشهد ويقول: ((التحيات لله)) .
قوله: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" هي أن يلصق الرجل إليتيه في الأرض وينصب ساقيه وفخذيه ويضع يديه على الأرض كما يقعي الكلب.
قوله: "وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع"؛ أي: يبسطهما في سجوده كالكلب.
قوله: "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى" هذه الجلسة تكون في التشهد الأول وفي القعود بين السجدتين، وأمَّا التشهد الأخير فيتورَّك فيه لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وإذا جلس في الركعتين جلَس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعَد على مقعدته"؛ أخرجه البخاري.
قال في "سبل السلام": وللعلماء خلاف في ذلك، والظاهر أنه من الأفعال المخير فيها.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه حذوَ منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وقال: ((سمع الله لِمَن حمده ربنا ولك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود)) .
فيه دليلٌ على استحباب رفع اليدين في هذه المواضع الثلاثة، ويستحب أيضًا حين يقوم من التشهد الأول لما روى البخاري عن نافع: أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبَّر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه، ورفع ذلك ابن عمر إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويستحب أن يضع يده اليمنى على كوعه؛ لحديث وائل بن حجر: أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وضع يده اليمنى على كفِّه اليسرى والرسغ والساعد؛ رواه أحمد وأبو داود، ويضعهما تحت سرَّته أو فوق صدره.
قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أن ذلك صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع.
* * *

(1/71)


الحديث الرابع
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أُمِرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة - وأشار بيده إلى أنفه - واليدين، والركبتين، وأطراف القدمين)) .
فيه دليلٌ على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة.
قوله: "وأشار بيده إلى أنفه" يدل على دخول الأنف في السجود مع الجبهة فصارا كالعضو الواحد.
وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه، وكفاه، وركبتاه، وقدماه)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول سمع الله لِمَن حمده حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ((ربنا ولك الحمد)) ، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.
* * *

(1/72)


الحديث السادس
عن مطرف بن عبد الله قال: صليت أنا وعمران بن حصين خلف علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فكان إذا سجد كبَّر، وإذا رفع رأسه كبَّر، وإذا نهض من الركعتين كبَّر، فلمَّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال: ذكَّرَني هذا صلاة محمد - صلى الله عليه وسلم - أو قال: صلى بنا صلاة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
في ذلك دليلٌ على مشروعية التكبير في كل خفض ورفع وقيام وقعود، إلا في الرفع من الركوع فإن الإمام يقول: سمع الله لِمَن حمده، ويقول هو والمأموم: ربنا ولك الحمد ... إلى آخره.
قال البغوي في "شرح السنة": اتفقت الأئمة على هذه التكبيرات.
وقال النووي: قد كان فيه خلاف في زمن أبي هريرة، وكان بعضهم لا يرى التكبير إلا للإحرام، انتهى.
واختلف العلماء هل التكبير واجب أو مندوب؟ فذهب جمهورهم إلى أنه مندوب فيما عدا تكبيرة الإحرام، وقال أحمد في رواية عنه وبعض أهل الظاهر: إنه يجب؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) ؛ رواه البخاري، ولحديث أبي موسى قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فبين لنا سنَّتنا وعلَّمنا صلاتنا فقال: ((إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبِّروا وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا: آمين يحبكم الله، وإذا كبَّر وركع فكبِّروا واركعوا؛ فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم)) ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فتلك بتلك)) ، وإذا قال: سمع الله لِمَن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد يسمع الله لكم، فإن الله - تعالى - قال على لسان نبيه: سمع الله لِمَن حمده، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا فإن الإمام يسجد قبلكم ويرفع قبلكم.
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فتلك بتلك)) ؛ الحديث رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
* * *

(1/73)


الحديث السابع
عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - قال: "رمقت الصلاة مع محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجدت قيامه فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء، وفي رواية البخاري: ما خلا القيام والقعود قريبًا من السواء".
فيه دليلٌ على تقارب الأركان في الطول من الركوع والرفع منه والسجود والجلوس بين السجدتين.
قوله: "ما خلا القيام والقعود"؛ يعني: القيام للقراءة والقعود للتشهد الأخير؛ فإنهما أطول من بقية الأركان.
* * *
الحديث الثامن
عن ثابت البناني عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "إني لا آلو أن أصلي بكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا".
قال ثابت: "فكان أنس يصنع شيئًا لا أراكم تصنعونه؛ كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي".
قوله: "لا آلو"؛ أي: لا أقصر، وفي الحديث دليل على تطويل هذين الركنين كسائر الأركان.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/74)


كان يقول بين السجدتين: ((اللهم اغفر لي، وارحمني، واجبرني، واهدني، وارزقني)) ؛ رواه أبو داود والترمذي واللفظ له.
وأمَّا الرفع من الركوع فكان يقول فيه: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) .
* * *
الحديث التاسع
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "ما صليت وراء إمام قطُّ أخف صلاة، ولا أتم صلاة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
قال ابن دقيق العيد: الحديث يدلُّ على طلب أمرين في الصلاة: التخفيف في حقِّ الإمام مع الإتمام، والثاني عدم التقصير، وذلك هو الوسط العدل، والميل إلى أحد الطرفين خروجٌ عنه، أمَّا التطويل في حقِّ الإمام فإضرارٌ بالمأمومين، وأمَّا التقصير عن الإتمام فبخس في حق العبادة، انتهى.
* * *
الحديث العاشر
عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي البصري قال: "جاءنا مالك بن الحويرث في مسجدنا هذا فقال: إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة، أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، فقلت لأبي قلابة: كيف كان يصلي؟ قال: مثل صلاة شيخنا هذا، وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض".

(1/75)


أراد بشيخهم أبا بريد عمر بن سلمة الجرمي.
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وليس من شرط هذا الكتاب، وقال الحافظ: أخرج صاحب "العمدة" هذا الحديث وليس هو عند مسلم من حديث مالك بن الحويرث.
قوله: "إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة"؛ أي: ما أريد الصلاة بكم، ولم يرد نفي القربة إنما أراد تعليمهم؛ ولهذا قال: "أصلي كيف رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي".
وفي رواية: كان مالك ابن الحويرث يرينا كيف كانت صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في غير وقت صلاة.
قوله: "وكان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض" هذه تسمى جلسة الاستراحة، واختلف العلماء في مشروعيتها؛ فذهب الشافعي وطائفة من أهل الحديث إلى مشروعيتها، وهو رواية عن الإمام أحمد، ولم يستحبَّها الأكثر لحديث وائل بن حجر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سجد وقعت ركبتاه على الأرض قبل أن يقع كفاه، فلمَّا سجد وضع جبهته بين كفَّيه وجافى عن إبطيه، وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه؛ رواه أبو داود.
* * *
الحديث الحادي عشر
عن عبد الله بن مالك بن بحينة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطه.
فيه دليلٌ على استحباب التجافي للرجال في السجود.
* * *
الحديث الثاني عشر
عن أبي سلمة سعيد بن يزيد قال: "سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم".

(1/76)


فيه دليلٌ على جواز الصلاة في النعلين.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر، فإن رأى في نعليه أذًى أو قذرًا فليمسحه وليصلِّ فيهما)) ؛ رواه أبو داود.
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خالِفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) ؛ رواه أبو داود.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي حافيًا ومنتعلاً"؛ رواه أبو داود.
* * *
الحديث الثالث عشر
عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأبي العاص بن الربيع بن عبدشمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
هذا الحديث دليلٌ على جواز مثل ذلك في الصلاة وأنه لا يبطلها، وفيه جواز دخول الصبيان المساجد، وفيه تواضعه - صلى الله عليه وسلم - وشفَقَته على الأطفال وإكرامه لهم؛ رحمة بهم وجبرًا لوالديهم.
* * *
الحديث الرابع عشر
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) .

(1/77)


قوله: ((اعتدلوا في السجود)) قال الحافظ: أي: كونوا متوسِّطين بين الافتراش والقبض، انتهى.
وينتصب على كفَّيه وركبتيه وصدوره قدميه، ويُجافِي عضُدَيه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويسجد بين كفيه، ويفرق ركبتيه.
قوله: ((ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)) ؛ أي: لا يفترش ذراعيه، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمخالفة الحيوانات في هيئة الصلاة، قال بعض العلماء:
إِذَا نَحْنُ قُمْنَا فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّنَا = نُهِينَا عَنِ الإِتْيَانِ فِيهَا بِسِتَّةِ
بُرُوكِ بَعِيرٍ وَالْتِفَاتٍ كَثَعْلَبٍ = وَنَقْرِ غُرَابٍ فِي سُجُودِ الفَرِيضَةِ
وَإِقْعَاءِ كَلْبٍ أَوْ كَبَسْطِ ذِرَاعِهِ = وَأَذْنَابِ خَيْلٍ عِنْدَ فِعْلِ التَّحِيَّةِ
* * *
باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد فدخل رجلٌ فصلَّى ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)) ، فرجع فصلَّى كما صلَّى، ثم جاء فسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)) ثلاثًا، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلِّمني، فقال: ((إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر، ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا، ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًّا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا وافعل ذلك في صلاتك كلها)) .

(1/78)


قوله: "باب وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود"؛ أي: ووجوبها في الاعتدال من الركوع، وفي الجلوس بين السجدتين.
وهذا حديث جليل مشتَمِل على معظم ما يجب في الصلاة وما لا تتمُّ إلا به، وفيه وجوب الطمأنينة في جميع الأركان.
قوله: "فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - "، في رواية فقال: ((وعليك السلام، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)) .
قوله: ((ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا)) ، زاد البخاري: ((ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًّا)) .
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد وجوبُ الإعادة على مَن أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة، وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحسن التعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وطلب المتعلِّم من العالم أن يعلمه، وفيه تكرار السلام وردُّه وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال، وفيه
جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه، وفيه التسليم للعالم والانقياد له، والاعتراف بالتقصير، والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ، وفيه حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم - ولطف معاشرته، وفيه تأخير البيان في المجلس للمصلحة.
* * *
باب القراءة في الصلاة
الحديث الأول
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لِمَن يقرأ بفاتحة الكتاب)) .
فيه دليلٌ على وجوب قراءة الفاتحة على الإمام والمأموم والمنفرد، وروى أبو داود والترمذي عن عبادة قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح فثقلت عليه القراءة، فلمَّا انصرف قال: ((إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم)) ، قال: قلنا: يا رسول الله، إي والله، قال: ((لا تفعلوا إلا بأمِّ القرآن؛ فإنه لا صلاة لِمَن يقرأ بها)) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((مَن صلى صلاةً لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)) ، يقولها ثلاثًا، فقيل

(1/79)


لأبي هريرة: إنَّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي، وقال مرة: فوض إلي عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليَين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى
ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخريين، بأم الكتاب، وكان يطول في الركعة الأولى في صلاة الصبح ويقصر في الثانية".
فيه دليلٌ على استحباب تطويل القراءة في الأوليين من الصلاة، وكون الأولى أطول من الثانية، وجواز الجهر في السرية بالآية ونحوها أحيانًا، وجواز النظر إلى الإمام، وفيه الاقتصار على الفاتحة في الأخريين، وفيه التنصيص على قراءة الفاتحة في كل ركعة.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كُنَّا نَحْزِر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ألم تنزيل السجدة، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك، وفي الأوليَين من العصر على قدر الأخريين من الظهر، والأخريين على النصف من ذلك"؛ رواه مسلم.
والجمع بين الحديثين أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصنع هذا تارة،

(1/80)


وهذا تارة؛ فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها أحيانًا، ويقتصر على الفاتحة أحيانًا.
وروى مالك من طريق الصنابحي: أنه سمع أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - يقرأ في ثالثة المغرب: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8]
* * *
الحديث الثالث
عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطور".
فيه دليلٌ على استحباب القراءة في المغرب بطوال المفصل أحيانًا.
وعن سليمان بن يسار عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: "ما رأيت رجلاً أشبه صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فلان، لإمامٍ كان بالمدينة، قال سليمان: فصليت خلفه، فكان يطيل الأوليين من الظهر ويخفف الأخريين، ويخفف العصر،
ويقرأ في الأوليين من المغرب بقصار المفصل، ويقرأ في الأوليين من العشاء من وسط المفصل، ويقرأ في الغداة بطوال المفصل"؛ رواه أحمد والنسائي.
* * *
الحديث الرابع
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في سفر فصلَّى العشاء الآخرة فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه - صلَّى الله عليه وسلَّم.

(1/81)


فيه استحباب تحسين الصوت بالقراءة في الصلاة وغيرها، وتخفيف القراءة في السفر.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ما أَذِن الله لشيء ما أَذِن لنبيٍّ حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن يجهر به)) ؛ متفق عليه.
* * *
الحديث الخامس
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله بعث رجلاً على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، فلمَّا رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال: ((سلوه لأيِّ شيء يصنع ذلك؟)) ، فقال: لأنها صفة الرحمن - عزَّ وجلَّ - فأنا أحب أن أقرأها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أخبروه أن الله - تعالى - يحبه)) .
فيه دليلٌ على جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة، وفيه فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، وفيه دليلٌ على جواز تخصيص بعض القرآن بميل النفس إليه والاستكثار منه، ولا يعد ذلك هجرانًا لغيره.
وقال البخاري: "باب الجمع بين السورتين في ركعةٍ والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة"، ويذكر عن عبد الله بن السائب: "قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم -
المؤمنون في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهرون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع".
وقرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة، وفي الثانية بسورة من المثاني، وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى، وفي الثانية بيوسف أو يونس، وذكر أنه صلى مع عمر - رضي الله عنه - الصبح بهما، وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال، وفي الثانية بسورة من المفصل.
وقال قتادة فيمَن يقرأ سورة واحدة في ركعتين أو يردِّد سورة واحدة في ركعتين: كل

(1/82)


كتاب الله.
وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس: "كان رجل من الأنصار يؤمُّهم في مسجد قباء، وكان كلَّما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما تقرأ به افتتح بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] حتى يفرغ منها، ثم يقرأ سورة أخرى معها، وكان يصنع ذلك في كلِّ ركعة، فكلَّمه أصحابه فقالوا: إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى، فإمَّا تقرأ بها، وإمَّا أن تدعها وتقرأ بأخرى، فقال: ما أنا بتاركها، وإن أحببتم أن أؤمَّكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم، وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمَّهم غيره، فلمَّا أتاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبروه الخبر، فقال: ((يا فلان، ما منعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة؟)) ، فقال: إني أحبها، فقال: ((حبك إيَّاها أدخلك الجنة)) .
* * *
الحديث السادس
عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ: ((فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى؛ فإنه وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)) .
قال البخاري: "باب مَن شكا إمامه إذا طوَّل"، وقال أبو أسيد: طوَّلت بنا يا بني، وذكر حديث أبي مسعود: قال رجل: يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها، ثم ذكر حديث جابر، ولفظه قال: "أقبل رجل بناضحين وقد جنح الليل، فوافَق معاذًا يصلي، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نال منه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكا إليه معاذًا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معاذ، أفتَّان أنت - أو: أفاتن؟ ثلاث مرار - فلولا صلَّيت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)) .
وفي الحديث دليلٌ على استحباب قراءة أوساط المفصل في العشاء، واقتداء الإمام

(1/83)


بأضعف المأمومين، ومراعاة حوائجهم، وعدم المشقة عليهم.
قال الحافظ: وفيه استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وفيه أن الحاجة من أمور الدنيا عذر في تخفيف الصلاة، وجواز خروج المأموم من الصلاة لعذر، وفيه الاكتفاء في التعزير بالقول، وفيه أن التخلُّف عن الجماعة من صفة المنافقين، انتهى ملخصًا.
* * *
باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
الحديث الأول
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين.
وفي رواية: "صليت مع أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم".
ولمسلم: "صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - وكانوا يستفتحون الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها".
قال ابن دقيق العيد: يستدلُّ به مَن يرى عدم الجهر بالبسملة في الصلاة، والعلماء في ذلك على ثلاثة مذاهب: أحداها تركها سرًّا وجهرًا، وهو مذهب مالك - رحمه الله تعالى - الثاني: قراءتها سرًّا لا جهرًا، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد - رحمهما الله - الثالث: الجهر بها في الجهرية، وهو مذهب الشافعي - رحمه الله - والمتيقن من هذا الحديث عدم الجهر، انتهى.
وقال ابن القيم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفيها أكثر مما يجهر بها.
وقال صاحب "الاختيارات

(1/84)


لشيخ الإسلام ابن تيميَّة": ويستحبُّ الجهر بالبسلمة للتأليف، كما استحبَّ أحمد ترك القنوت في الوتر تأليفًا للمأموم، ولو كان الإمام مطاعًا يتبعه المأموم فالسنَّة أولى.
* * *
باب سجود السهو
الحديث الأول
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي"، قال ابن سيرين: وسمَّاها أبو هريرة ولكن نسيت أنا، قال: "فصلَّى بنا ركعتين ثم سلَّم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتَّكأ عليها كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبَّك بين أصابعه، وخرجت السرعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر فهابَا أن يكلِّماه، وفي القوم رجلٌ في يديه طول يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: ((لم أنس ولم تقصر)) ، فقال: ((أكما يقول ذو اليدين؟)) ، قالوا: نعم، فتقدَّم فصلى ما ترك ثم سلم ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه ثم سلَّم، قال: فنبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم".

(1/85)


(العشي) ما بين زوال الشمس إلى غروبها؛ قال الله - تعالى -: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] .
قوله: "إحدى صلاتي العشاء"؛ يعني: إمَّا الظهر وإمَّا العصر، وفي رواية لمسلم: "صلاة العصر"، والحديث دليل على مشروعية سجود السهو، وعلى أن كلام الناس لا يبطل الصلاة، وأن السلام سهوًا والخروج من الصلاة على ظن التمام لا يبطلها، وإذا تكلم عامدًا لمصلحة الصلاة لم تبطل، كما فعل ذو اليدين ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة، وفيه جواز البناء على الصلاة بعد السلام سهوًا، وفيه دليلٌ على أن سجود السهو يتداخَل ولا يتعدَّد بتعدُّد أسبابه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلَّم ومشى، وفيه دليلٌ على أنه إذا سها الإمام فسجد سجد معه المأمومون وإن لم يسهوا، وفيه التكبير في سجود السهو والسلام بعده.
وفي الحديث جواز السهو على النبي في الأفعال، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكِّروني)) ، ولكنه لا يقرُّ عليه بل يقع له بيان ذلك، وفائدته بيان الحكم الشرعي إذا وقع مثل ذلك لغيره، وفيه أن الاعتقاد عند فَقْدِ اليقين يقوم مقام اليقين لقوله: ((لم أنسَ)) ؛ أي: في اعتقادي لا في نفس الأمر، وفيه جواز تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، وأمَّا الحديث الذي أخرجه أبو داود عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إذا توضَّأ أحدكم ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فلا يشبِّكن بين يديه فإنه في صلاة)) ، فمن العلماء مَن ضعَّفه، ومنهم مَن جمع بين الأحاديث بأن النهي مقيَّد بما إذا كان في الصلاة أو قاصدًا لها، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن بحينة - وكان من أصحاب النبي، - صلى الله عليه وسلم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر فقام في الركعتين الأوليَين ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة

(1/86)


وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس، فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم.
فيه دليلٌ على أن مَن ترك التشهد الأول ساهيًا جبره بسجود السهو قبل السلام، وقد اختلف أهل العلم في حكم سجود السهو هل هو واجب أو سنة؛ فمنهم مَن قال: مسنون، ومنهم مَن قال: واجب، ومنهم مَن فصَّل في ذلك.
واختلفوا أيضًا في محلِّه؛ فمنهم مَن قال: قبل السلام، ومنهم مَن قال: بعده، ومنهم مَن قال: يستعمل كل حديث فيما ورد فيه، وما لم يَرِدْ فيه حديث فمحلُّه قبل السلام، قال الحافظ: ورجَّح البيهقي طريقة التخيير في سجود السهو قبل السلام أو بعده، ونقل الماوردي وغيره الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف في الأفضل انتهى.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا شكَّ أحدكم في صلاته فلم يدرِ كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليبنِ
على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم فإن كان صلى خمسًا شفعن صلاته، وإن كانتا ترغيمًا للشيطان)) ؛ رواه مسلم.
فائدة:
قال الموفق في "المغني": وإذا نسي سجود السهو حتى طال الفصل لم تبطل الصلاة، وحكم النافلة حكم الفرض في سجود السهود، والله أعلم.
* * *
باب المرور بين يدي المصلي
الحديث الأول
عن أبي جهم بن الحارث بن الصمة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه من الإثم لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين

(1/87)


يدي المصلي)) ، قال أبو النضر: لا أدري قال أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة؟
فيه دليلٌ على تحريم المرور بين يدي المصلي، ولا فرق بين مكة وغيرها، واغتفر بعض الفقهاء ذلك للطائفين دون غيرهم للضرورة.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس فأراد أحدٌ أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله؛ فإنما هو شيطان)) .
(المقاتلة) : المدافعة باليد لا بالسلاح، ولو صلى إلى غير سترة فليس له الدفع لتقصيره، والحكمة في السترة كفُّ البصر عمَّا وراءها، ومنع من يجتاز دونها.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أقبلت راكبًا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهَزت الاحتلام، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالناس بمنًى إلى غير جدار فمررت بين يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك عليَّ أحد".

(1/88)


قوله: "إلى غير جدار" قال ابن دقيق العيد: ولا يلزم من عدم الجدار عدم السترة، انتهى.
واستدل به على أن سترة الإمام سترة لِمَن خلفه، وفيه تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة الخفيفة.
* * *
الحديث الرابع
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أنام بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمَزَني فقبضت رجلي، وإذا قام بسطتهما، والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.
فيه دليلٌ على جواز الصلاة إلى النائم إذا لم يشغله، وعلى أن اللمس بغير لذَّة لا ينقض الطهارة، وعلى أن العمل اليسير لا يفسد الصلاة.
وعن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا قام أحدكم يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخِرة الرحل، فإذا لم يكن بين يديه مثل آخِرة الرحل فإنه يقطع صلاته المرأة والحمار والكلب الأسود)) ، قلت: يا أبا ذر، ما بالُ الكلب الأسود من الكلب الأحمر من الكلب الأصفر؟ قال: يا ابن أخي: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: ((الكلب الأسود شيطان)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري.
واختلف العلماء في معنى قطع الصلاة؛ فقال قوم: تبطل الصلاة بالمذكورات في هذا الحديث، وعن أحمد تبطل بمرور الكلب الأسود فقط، وقال جمهور العلماء: لا تبطل بمرور شيء من ذلك، وتأوَّلوا القطع بنقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخطَّ خطا ثم لا يضرُّه مَن مرَّ بين يديه)) ؛ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.

(1/89)


باب جامع
الحديث الأول
عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) .
فيه دليل على استحباب صلاة تحية المسجد، قال الحافظ: واتَّفق أئمَّة الفتوى على أن الأمر في ذلك للندب، وقال الطحاوي: الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها ليس هذا الأمر بداخل فيها.
قال الحافظ: هما عمومان تعارضَا: الأمر بالصلاة لكلِّ داخل غير تفصيل، والنهي عن الصلاة في أوقات مخصوصة فلا بُدَّ من تخصيص أحد العمومين؛ فذهب جمعٌ إلى تخصيص النهي وتعميم الأمر وهو الأصح عند الشافعية، وذهب جمعٌ إلى عكسه وهو قول الحنفية والمالكية انتهى.
والحديث له سبب؛ وهو أن أبا قتادة دخل المسجد فوجَد النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا بين أصحابه فجلس معهم، فقال له: ((ما منعك أن تركع؟)) ، قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال: ((فإذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين)) ؛ رواه مسلم.
ولابن أبي شيبة: ((أعطوا المساجد حقَّها)) ، قيل: له: وما حقها؟ قال: ((ركعتين قبل أن تجلس)) .
* * *
الحديث الثاني
عن زيد بن أرقم قال: "كنَّا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل منَّا

(1/90)


صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
(القنوت) : هنا السكوت، وأجمع العلماء على أن الكلام في الصلاة من عالم بالتحريم عامد لغير مصلحتها أو إنقاذ مسلم مُبطِل لها.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا اشتدَّ الحر فأبردوا عن الصلاة؛ فإن شدَّة الحر من فيح جهنم)) .
فيه دليلٌ على استحباب تأخير الظهر في شدَّة الحر إلى أن يبرد الوقت وينكسر الوهج، والأحاديث الدالَّة على فضيلة التعجيل عامة، وهذا خاصٌّ، والخاص مقدَّم على العام، والحكمة في الإبراد دفع المشقَّة لكونها قد تسلب الخشوع.
* * *
الحديث الرابع
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلاَّ ذلك)) ، وتلا قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، ولمسلم: ((مَن نسي صلاة أو نام عنها فكفَّارتها أن يصليها إذا ذكرها)) .

(1/91)


قوله: وتلا قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ، قال مجاهد في قوله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ؛ أي: أقم الصلاة لتذكرني بها، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثم ذكرتها فأقمها.
وفي الحديث دليلٌ على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت بالنوم أو بالنسيان فورًا ولا إثم عليه، وأمَّا العامد فإنه يجب عليه قضاؤها والإثم باقٍ عليه بإخراجه الصلاة عن وقتها؛ قال الله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم: 59- 60] .
* * *
الحديث الخامس
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن معاذ بن جبل كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة.
فيه دليلٌ على جواز اقتداء المفترض بالمتنفِّل، وللدارقطني: ((فهي لهم فريضة وله تطوع)) .
قال الحافظ: وهو حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، وفيه جواز إعادة الصلاة الواحدة في اليوم الواحد مرتين.
* * *
الحديث السادس
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شدَّة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكِّن جبهته من الأرض بسَط ثوبه فسجد عليه".

(1/92)


فيه دليلٌ على جواز استعمال الثياب وغيره في الحيلولة بين المصلي وبين الأرض لاتِّقاء حرِّها وبردها، وفيه جواز السجود على الثوب المتَّصل بالمصلي، وفيه جواز العمل القليل في الصلاة ومراعاة الخشوع فيها، وفيه جواز الصلاة في شدَّة الحر وإن كان الإبراد أفضل.
* * *
الحديث السابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء)) .
قوله: ((لا يصلي)) (لا) نافية، وهو خبر بمعنى النهي، واختلف العلماء في وجوب ستر العاتق؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه وصحة صلاة من تركه، وحملوا النهي على التنزيه.
وعن أحمد: لا تصحُّ صلاة مَن قدر على ذلك فتركه، وعنه: تصحُّ ويأثم؛ واختار ابن المنذر وجوبه إذا كان الثوب واسعًا؛ لحديث جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كان الثوب واسعًا فالتحِف به)) ؛ يعني: في الصلاة، ولمسلم: ((فخالِف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا فاتَّزر به)) ؛ متفق عليه.
* * *
الحديث الثامن
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا - أو: ليعتزل مسجدنا - وليقعد في بيته)) ، وأتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحًا، فسأل، فأُخبِر بما فيها من البقول، فقال: ((قرِّبوها)) إلي بعض أصحابه، فلمَّا رآه كره أكلها، قال: ((كُلْ فإني أناجي من لا تناجي)) .
* * *

(1/93)


الحديث التاسع
عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أكل البصل أو الثوم أو الكراث فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو الإنسان)) .
فيه دليل على النهي عن حضور الجماعة لِمَن به رائحة من هذه المذكورات؛ لإيذائه المسلمين والملائكة.
قال الخطابي: توهَّم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلُّف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لآكله على فعله؛ إذ حُرِم فضل الجماعة.
قال الحافظ: ولا تعارض بين امتناعه - صلى الله عليه وسلم - من أكل الثوم وغيره مطبوخًا وبين إذنه لهم في أَكْلِ ذلك مطبوخًا؛ فقد علَّل ذلك بقوله: ((إني لست كأحدٍ منكم)) .
* * *
باب التشهد
الحديث الأول
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفِّي بين كفَّيه كما يعلمني السورة من القرآن: ((التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)) ، وفي لفظ: ((إذا قعد

(1/94)


أحدكم للصلاة فليقل: ((التحيات لله ... )) وذكره، وفيه: ((فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلَّمتم على كلِّ عبدٍ صالح في السماء والأرض)) ، وفيه: ((فليتخير من المسألة ما شاء)) .
قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث في التشهد، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، انتهى.
قوله: ((ثم ليتخيَّر من المسألة ما شاء)) فيه دليل على جواز كلِّ سؤال يتعلَّق بالدنيا والآخرة في الصلاة وغيرها.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "لقيني كعب بن عجرة فقال: ألاَ أهدي لكم هدية؟ إن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، عَلِمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد)) .
قوله: ((كما صليت على آل إبراهيم)) وقع للبخاري في كتاب أحاديث الأنبياء من "صحيحه" في ترجمة إبراهيم - عليه السلام - بلفظ: ((كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)) ، وكذا في قوله: ((كما باركت)) .
* * *

(1/95)


الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو في صلاته: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال)) .
وفي لفظٍ لمسلم: ((إذا تشهَّد أحدكم فليستعذ بالله من أربع؛ يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ... )) ثم ذكر نحوه.
((الدجال)) : الكذاب؛ والمراد به هنا الذي يخرج في آخر الزمان يدَّعي الألوهية، وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء بعد التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والاستعاذة بالله من هذه الأربع في كلِّ صلاة؛ لعظم الأمر فيها وشدة البلاء في وقوعها.
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - إنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: ((اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
فيه دليلٌ على استحباب هذا الدعاء في الصلاة خصوصًا بعد التشهد، وفيه استحباب طلب التعليم من العالم.
* * *

(1/96)


الحديث الخامس
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً بعد أن نزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] ، إلا يقول فيها: ((سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي)) ، وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: ((سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)) .
فيه دليلٌ على استحباب هذا الدعاء في الركوع والسجود.
قال ابن دقيق العيد: ولا يعارضه قوله - عليه السلام -: ((فأمَّا الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأمَّا السجود فاجتهدوا في الدعاء)) ، فإنه يُؤخَذ من هذا الحديث الجواز، ومن ذلك الأولوية بتخصيص الركوع بالتعظيم.
* * *
باب الوتر
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "سأل رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل؟ قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة)) ، فأوترت له ما صلى، وأنه كان يقول: ((اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا)) .

(1/97)


الوتر من آكَد السنن لا ينبغي تركه.
وفي الحديث دليلٌ على استحباب التسليم في كل ركعتين من صلاة الليل، واستحباب الإيتار بركعة واحدة، وإن أوتر بثلاث أو خمس فلا بأس كما ورد ذلك في الأحاديث الأخرى، ويجوز الوصل، والفصل أفضل؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - أجاب به السائل.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوَّل الليل وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر".
فيه دليلٌ على استحباب تأخير الوتر إلى آخر الليل لِمَن وثق بالاستيقاظ.
* * *
الحديث الثالث
عن عارئشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس، ولا يجلس في شيء إلى في أخرها".
فيه دليلٌ على جواز الإيتار بخمسٍ بسلامٍ واحد.
وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر بسبع وبخمس، لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام)) ؛ رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
* * *

(1/98)


باب الذكر عقب الصلاة
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن عباس: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته".
وفي لفظ: "ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالتكبير".
فيه دليلٌ على استحباب رفع الصوت بالذكر عقب المكتوبة.
* * *
الحديث الثاني
عن وارد مولى المغيرة بن شعبة قال: "أملى عليَّ المغيرة بن شعبة في كتابٍ إلى معاوية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، ثم وفدت بعد على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك".
وفي لفظ: "كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال، وكان ينهي عن عقوق الأمهات، ووأد البنات، ومنع وهات".

(1/99)


قوله: ((ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ؛ أي: لا ينفع ذا الحظ حظه، وإنما ينفعه العمل الصالح كما قال - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وقال - تعالى -: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88- 89] ، وإضاعة المال: بذلُه في غير مصلحة دينية ولا دنيوية.
قال ابن دقيق العيد: وأمَّا كثرة السؤال ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ذلك راجعًا إلى الأمور العلمية، وقد كانوا يكرهون تكلُّف المسائل التي لا تدعو الحاجة إليها، وفي حديث معاوية: "نهى الله عن الأغلوطات"؛ وهي شداد المسائل وصعابها، وإنما كان ذلك مكروهًا لما يتضمَّن كثيرًا من التكلُّف في الدين والتنطُّع والرجم بالظن من غير ضرورة تدعو إليه، مع عدم الأمن من العثار وخطأ الظن، والأصل المنع من الحكم بالظن إلا أن تدعو الضرورة إليه.
الوجه الثاني: أن يكون ذلك راجعًا إلى سؤال المال، وقد وردت أحاديث في تعظيم مسألة الناس، انتهى.
قال الحافظ: والأَوْلَى حَمْلُه على العموم.
قوله: "وكان ينهي عن عقوق الأمهات ووأد البنات"؛ أي: قتلهن.
"ومنع وهات"؛ أي: منع ما أمر ببذله، وسؤال ما ليس له، وحكم اختصاص الأم بالذكر إظهار لعِظَم حقها، والعقوق محرَّم في حق الوالدين جميعًا.
وفي لفظ: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)) .
قال الحافظ: وفي الحديث استحباب هذا الذكر عقب الصلوات؛ لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله، والمنع والإعطاء وتمام القدرة، وفيه المبادرة إلى امتثال السنن وإشاعتها.
* * *
الحديث الثالث
عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن فقراء المسلمين

(1/100)


أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلَى والنعيم المقيم، قال: ((وما ذاك؟)) ، قالوا: يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون ولا نتصدَّق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا أعلِّمكم شيئًا تدركون
به مَن سبقكم، وتسبقون من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا مَن صنع مثل ما صنعتم)) ، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((تسبِّحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين مرة)) ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذلك فضل الله يؤتيه مَن يشاء)) ، قال سمي: فحدَّثت بعض أهلي بهذا الحديث فقال: وهمت، إنما قال: ((تسبح الله ثلاثًا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وتكبر الله ثلاثًا وثلاثين)) ، فرجعت إلى أبي صالح فذكرت له ذلك فقال: "الله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، حتى يبلغ من جميعهن ثلاثًا وثلاثين".
"الدثور": جمع دثر هو المال الكثير قوله: ((تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين)) ، قال الحافظ: يحتمل أن يكون المجموع للجميع فإذا وُزِّع كان بكلِّ واحد إحدى عشرة، والأظهر أن المراد أن المجموع لكل فرد فرد؛ أي: تسبحون خلف كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وتحمدون كذلك، وتكبرون كذلك، انتهى.

(1/101)


قلت: ويؤيِّده ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن سبَّح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبر الله ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسع وتسعون وقال تمام المائة: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، غُفِرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) .
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم أن العالِم إذا سُئِل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل لئلاَّ يقع الخلاف، وفيه التوسعة في الغبظة والفرق بينهما وبين الحسد المذموم، وفيه المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلَغَهم، وفيه أن العمل السهل قد يدرك به صاحبه فضل العمل الشاق، وفيه أن العمل القاصر قد يساوي المتعدِّي.
* * *
الحديث الرابع
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلمَّا انصرف قال: ((اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفًا عن صلاتي)) .
((الخميصة)) : كساء مربع له أعلام، ((والأنبجانية)) : كساء غليظ.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على جواز لباس الثوب ذي العلم، وعلى أن اشتغال الفكر يسيرًا غير قادح في الصلاة، وفيه دليلٌ على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها، ونفي ما يقتضي شغل الخاطر بغيرها، انتهى.
وقال شيخنا سعد بن عتيق - رحمه الله تعالى -: في الحديث دليلٌ على جواز الكلام بعد السلام قبل الذكر والدعاء، والله أعلم.

(1/102)


تتمَّة:
وعن ثوبان قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) ؛ رواه الجماعة إلا البخاري.
وعن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله، أيُّ الدعاء أسمع؟ قال: ((جوف الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات)) ؛ رواه الترمذي.
وعن أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا صلى الصبح حين يسلم: ((اللهم إني أسألك علمًا نافعًا ورزقًا طيبًا وعملاً متقبَّلاً)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه.
وأخرج مسلم من حديث البراء أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول بعد الصلاة: ((رب قني عذابك يوم تبعث عبادك)) .
قال الشوكاني: ووَرَد عقب المغرب والفجر بخصوصهما عند أحمد والنسائي: ((مَن قال قبل أن ينصرف منهما: لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، عشر مرَّات كُتِب له عشر حسنات، ومُحِي عنه عشر سيئات، وكان يومه في حرز من الشيطان)) .
باب الجمع بين الصلاتين في السفر
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء".
قال الموفق في "المغني": الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما جائز في قول أكثر أهل العلم.
وقال المجد في "المنتقى": "باب جمع المقيم لمطر أو غيره، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء"؛ متفق عليه".
* * *

(1/103)


باب قصر الصلاة في السفر
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك".
هذا هو لفظ رواية البخاري في الحديث، ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد، فليعلم ذلك.
الأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] .
وروى مسلم عن يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] ، وقد آمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته)) .
قوله: "ولفظ رواية مسلم أكثر وأزيد"، قال مسلم: وحدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، حدثنا عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: "صبحت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلَّى بنا الظهر ركعتين ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحلة، وجلس وجلسنا معه، فحانَت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى ناسًا قيامًا فقال: ما ينصع هؤلاء؟ قلت: يسبحون، قال: لو كنت مسبحًا أتممت صلاتي يا ابن أخي، إني صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله،

(1/104)


وقد قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ".
قال النووي: وقد اتَّفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر، واختلفوا في استحباب النوافل الراتبة، فكرهها ابن عمر وآخرون، واستحبَّها الشافعي وأصحابه والجمهور.
فائدة:
عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الإنفراد وأربعًا إذا ائتمَّ بمقيم؟ فقال: تلك السنة؛ رواه أحمد.
تنبيه:
ليس الجمع بسنة راتبة كما يعتقد أكثر المسافرين، بل هو رخصة عارضة، فسنة المسافر قصر الرباعية سواء كان له عذر أو لم يكن، وأمَّا جمعه بين الصلاتين فحاجة ورخصة.
* * *
باب الجمعة
الحديث الأول
عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رجالاً تمارَوْا في منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أي عود هو؟ فقال سهل: من طرفاء الغابة، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام عليه فكبَّر وكبَّر الناس وراءه وهو على المنبر، ثم ركع فنزل القهقرى حتى سجد في أصل المنبر، ثم عاد حتى فرغ من آخر صلاته، ثم أقبل على الناس فقال: ((يا أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتمُّوا بي ولتتعلموا صلاتي)) ، وفي لفظ: "صلى عليها، ثم كبَّر عليها، ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى".

(1/105)


الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] .
قال الحافظ: يستفاد من الحديث أن مَن فعل شيئًا يخالف العادة أن يبين حكمته لأصحابه، وفيه مشروعية الخطبة على المنبر لكلِّ خطيب خليفة كان أو غيره، وفيه جواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وجواز العمل اليسير في الصلاة وكذا الكثير إن تفرَّق، وفيه استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، واستحباب الافتتاح بالصلاة في كل جديد، إمَّا شكرًا، وإمَّا تبركًا.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن جاء منكم الجمعة فليغتسل)) .
فيه دليلٌ على استحباب الغسل يوم الجمعة وتأكيد سنيته.
* * *
الحديث الثالث
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جاء رجل والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: ((صليت يا فلان؟)) ، قال: لا، قال: ((قم فاركع ركعتين)) ، وفي رواية: ((فصلِّ ركعتين)) .
فيه دليلٌ على استحباب صلاة تحية المسجد حالَ الخطبة، وفي الحديث الآخَر: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوَّز فيهما)) ؛ رواه مسلم.
وفيه أن التحية لا تفوت بالقعود، وأن للخطيب أن يأمر في خطبته وينهي

(1/106)


ويبيِّن الأحكام المحتاج إليها.
وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا، فجاء الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله ورسوله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما)) ؛ رواه الخمسة.
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين وهو قائم يفصل بينهما بجلوس".
فيه دليلٌ على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، ولفظ الحديث في البخاري عن عبد الله بن عمر قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب خطبتين يقعد بينهما".
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت، يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) .
(اللغو) : ما لا يحسن من الكلام، وفيه دليل على وجوب الإنصات حال الخطبة، فإن احتاج إلى ما لا بُدَّ منه فبالإشارة.
* * *
الحديث السادس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرَّب

(1/107)


بدَنَة، ومَن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقَرَة، ومَن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرن، ومَن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومَن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) .
قوله: ((ثم راح)) ؛ أي: ذهب، وابتداء الساعات بعد ارتفاع الشمس، وفيه من الفوائد الحضُّ على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفصل التبكير إليها.
* * *
الحديث السابع
عن سلمة بن الأكوع - وكان من أصحاب الشجرة، رضي الله عنه - قال: "كنَّا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به".
وفي لفظ: "كنَّا نجمع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبَّع الفيء".
قوله: "نجمع"؛ أي: نصلي الجمعة.
قوله: "وليس للحيطان ظل يستظل به" لا ينفي أصل الظل، ولكن ينفي الظل الكثير الذي يستظلُّون به، وفيه دليلٌ على مشروعية التبكير بصلاة الجمعة في أوَّل الوقت بعد الزوال.
قال الموفق في "المغني": المستحَبُّ إقامة الجمعة بعد الزوال؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك، ولأن في ذلك خروجًا من الخلاف، فإن علماء الأمة اتَّفقوا على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة، وإنما الخلاف فيما قبله، انتهى.
وقال النووي: وقد قال مالك وأبو حنيفة

(1/108)


والشافعي وجماهير العلماء: لا تجوز الجمعة إلا بعد زوال الشمس، ولم يخالف في هذا إلا أحمد بن حنبل وإسحاق فجوَّزاها قبل الزوال، انتهى.
وقال البخاري: "وقت الجمعة إذا زالت الشمس)) .
* * *
الحديث الثامن
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: آلم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان".
فيه دليلٌ على استحباب قراءة هاتين السورتين في صلاة الفجر يوم الجمعة، وقيل: إن الحكمة في ذلك الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة؛ لأن ذلك كان وسيقع يوم الجمعة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم - عليه السلام - وفيه أُدخِل الجنة، وفيه أُخرِج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) ؛ رواه مسلم.
* * *
باب صلاة العيدين
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة".
الأصل في صلاة العيد: الكتاب والسنة والإجماع.
قال الله - تعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] ، وفي الحديث دليل على مشروعية صلاة العيد قبل الخطبة.
* * *

(1/109)


الحديث الثاني
عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الأضحى بعد الصلاة قال: ((مَن صلى صلاتنا ونسَك نسكنا فقد أصاب النسك، ومَن نسَك قبل الصلاة فلا نسك له)) ، فقال أبو بردة بن نِيَار خال البراء بن عازب: يا رسول الله، إني نسكت شاتي قبل الصلاة، وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب، وأحببت أن تكون شاتي أوَّل ما يُذبَح في بيتي، فذبحت شاتي وتغدَّيت قبل أن آتي الصلاة، قال: ((شاتك شاة لحم)) ، قال: يا رسول الله، فإن عندنا عناقًا وهي أحب إلينا من شاتين، أفتجزي عنِّي؟ قال: ((نعم، ولن تجزي عن أحد بعدك)) .
قوله: ((تجزي)) ؛ أي: تقضي، ومنه قوله - تعالى -: {لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] ، وفي الحديث دليلٌ على مشروعية الصلاة يوم العيد قبل الخطبة، وأمَّا ما ذبح قبل الصلاة لا تجزي عن الأضحية، وأن العناق لا تجزي في الأضحية.
قال ابن دقيق العيد: وفيه دليلٌ على أن المأمورات إذا وقعتْ على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، وقد فرَّقوا في ذلك بين المأمورات والمنهيَّات
فعذَرُوا في المنهيَّات بالنسيان والجهل، كما جاء في حديث معاوية بن الحكم حين تكلم في الصلاة، انتهى.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم، أن المرجع في الأحكام إنما هو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن خطابه للواحد يعمُّ جميع المكلَّفين حتى يظهر دليل الخصوصية، وفيه أن الإمام يعلِّم الناس في خطبة العيد أحكام النحر، وفيه جواز الاكتفاء في الأضحية بالشاة الواحدة عن الرجل وعن أهل بيته.
قال الشيخ

(1/110)


أبو محمد بن أبي جمرة: وفيه أن العمل وإن وافق نية حسنة لم يصح إلا إذا وقع على وفق الشرع، وفيه جواز أكل اللحم يوم العيد مع ما لهم فيها من الشهوة بالأكل والادِّخار، ومع ذلك ثبت لهم الأجر في الذبح، وفي الحديث أن الجذع من المعز لا يجزي وهو قول الجمهور، وفيه تأكيد أمر الأضحية، وأن المقصود منها طيب اللحم وإيثار الجار على غيره، وأن المفتي إذا ظهرت له من المستفتي أمارة الصدق كان له أن يسهل عليه حتى لو استفتاه اثنان في قضية واحدة جاز أن يفتي كلا منهما بما يناسب حاله، وجواز إخبار المرء عن نفسه بما يستحق به الثناء عليه بقدر الحاجة، انتهى ملخصًا.
قوله: "وتغديت قبل أن آتي الصلاة" فيه جواز الأكل قبل صلاة الأضحى.
قال ابن القيم في "إعلام الموقعين": وتختلف الفتوى باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن جندب بن عبد الله البَجَلي - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر، ثم خطب وقال: ((مَن ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها، ومَن لم يذبح فليذبح باسم الله)) .
قوله: ((فليذبح بسم الله)) ؛ أي: فليذبح قائلاً: بسم الله، وفيه دليل على أن وقت الأضحية بعد صلاة العيد.
* * *
الحديث الرابع
عن جابر - رضي الله عنه - قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان ولا إقامة،

(1/111)


ثم قام متوكئًا على بلال، فأمَر بتقوى الله وحثَّ على الطاعة، ووعَظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكَّرهن، فقال: ((تصدَّقن فإنكنَّ أكثر حطب جهنم)) ، فقامت امرأة من سِطَة النساء سفعاء الخدَّين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: ((لأنكن تكثرن الشِّكَاية، وتكفرن العشير)) ، قال: فجعلن يتصدَّقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتيمهن".
قوله: "فقامت امرأة من سِطَة النساء"؛ أي: من وسطهن في المجلس.
قوله: "سفعاء الخدَّين" (الأسفع) و (السفعاء) : مَن أصاب خدَّه لونٌ يخالف لونه الأصلي من سواد أو خضرة أو غيره، والحديث يدلُّ على عدم مشروعية الأذان والإقامة لصلاة العيد وهو بإجماع العلماء.
قال ابن دقيق العيد: وكان تخصيص الفرائض بالأذان تمييزًا لها بذلك عن النوافل، وإظهارًا لشرفها، وهذه المقاصد التي ذكرها الراوي من الأمر بتقوى الله والحث على طاعته، والموعظة والتذكير، هي مقاصد الخطبة، انتهى.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد أيضًا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام، وتذكيرهن بما يجب عليهن، وحثهن على الصدقة، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحلُّ ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة، وفيه خروج النساء إلى المصلى، واستدلَّ به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقُّف على إذن زوجها أو على مقدار معيَّن، وفيه أن الصدقة من دوافع العذاب، وفيه بذل النصيحة والإغلاظ بها لِمَن احتِيج في حقِّه إلى ذلك، وفيه جواز طلَب الصدقة للمحتاجين ولو كان الطالب غير محتاج، وفي مبادرة تلك النسوة على الصدقة بما يعزُّ عليهن من حليِّهن مع ضيق الحال في ذلك الوقت دلالة على رفيع
مقامهن في الدين وحرصهن على امتثال أمر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم، ورضي عنهن.
* * *

(1/112)


الحديث الخامس
عن أم عطية نسيبة الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: "أمرنا - تعني: النبي، - صلى الله عليه وسلم - أن نُخرِج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين"
وفي لفظ: "كنَّا نُؤمَر أن نخرج يوم العيد، حتى تخرج البكر من خدرها، وحتى تخرج الحُيَّض، فيكبِّرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم، يرجون بركة ذلك اليوم وطُهرَتَه".
"العواتق": جمع عاتق، وهي مَن بلغت الحلم، أو قاربت، أو استحقَّت التزويج، أو هي الكريمة على أهلها، أو التي عتقت عن الامتهان في الخروج للخدمة.
"والخدور": جمع خدر، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه، وبين العاتق والبكر عموم وخصوص وجهي.
وفي الحديث مشروعية صلاة العيدين في الصحراء، واستحباب خروج النساء يوم العيد، وحضور الحيَّض واعتزالهن المصلى، والله أعلم.
* * *
باب صلاة الكسوف
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن الشمس خسفت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث مناديًا ينادي: الصلاة جامعة فاجتمعوا، وتقدَّم فكبَّر وصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات.

(1/113)


(الكسوف والخسوف) : شيء واحد، وكلاهما قد وردت به الأخبار، وقال - تعالى -: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 7- 8] ، وفي الحديث مشروعية صلاة الكسوف جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجدتان.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي مسعود عقبة بن عامر الأنصاري البدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحدٍ من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منها شيئًا فصلُّوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم)) .
فيه دليل على مشروعية الصلاة لكسوف الشمس أو القمر، وعلى مشروعيتها في أيِّ وقت حدث فيه الكسوف، وفيه الأمر بالدعاء والتضرُّع إلى الله - تعالى - قوله: ((وأنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته)) .
قال الحافظ: وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث الآخر: ((يقولون: مُطِرنا بنوء كذا)) .
قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يُوجِب حدوث تغيُّر في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخَّران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما.
قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) قال الحافظ: فيه ردٌّ على مَن يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادي لا يتأخر ولا يتقدم؛ إذ لو كان كما يقولون لم يكن ذلك تخويف ويصير بمنزلة الجزر والمد في البحر.
وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوِّف الله بهما عباده)) وليس

(1/114)


بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كلِّ سبب، فله أن يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت فالعلماء بالله لقوَّة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة، وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدَث عندهم الخوف لقوَّة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلا أن يشاء الله خرقها.
وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقًّا في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوِّفًا لعباد الله - تعالى - والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خُسِفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فصلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثلما فعَل في الركعة الأولى، ثم انصرف وقد تجلَّت الشمس، فخطَب الناس فحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبِّروا وصلُّوا وتصدَّقوا)) ، ثم قال: ((يا
أمة محمد، والله ما من أحد أَغْيَر من الله - سبحانه - أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد،

(1/115)


والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا)) .
وفي لفظ: "فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات".
هذا الحديث مشتمِل على صفة صلاة الكسوف، وفيه دليلٌ على مشروعية الخطبة والموعظة بعدها، وفيه الأمر بالصدقة وكثرة الذكر والدعاء والاستغفار.
قوله: "ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول"، في رواية: "ثم قال: ((سمع الله لِمَن حمده، ربنا ولك الحمد)) ".
قوله: ((ما من أحد أَغْيَر من الله - سبحانه - أن يزني عبده أو تزني أمته)) ، وقيل: غيرة الله - تعالى - ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه، ومنه قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] .
وقال ابن دقيق العيد: أهل الشريعة في مثل هذا على قولين: إمَّا ساكت، وإما مؤوِّل، على أن المراد بالغَيْرَة شدَّة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة التي قلت، والسكوت في هذا المقام ونحوه أسلم من الخوض في ذلك، فتفسيرها إمرارها كما وردت، ولما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيرًا في إثارة النفوس وغلَبَة الغضب، ناسَب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة مَن حرَّم الفواحش وحماها.
قال ابن دقيق العيد: فيه دليل على غلَبَة مقتضى الخوف، وترجيح الخوف في الموعظة على الإشاعة بالرخص؛ لما في ذلك من التسبُّب إلى تسامح النفوس لما جُبِلت عليه من الإخلاد إلى الشهوات وذلك مرضها الخطر، والطبيب الحاذق يقابل العلة بضدِّها لا بما يزيدها، انتهى.
قال الحافظ: وفي حديث عائشة من الفوائد غير ما تقدَّم المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر عند الكسوف، والزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء، والتحقُّق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على مَن زعم أن للكواكب تأثيرًا في الأرض؛ لانتفاء ذلك عن الشمس
والقمر فكيف بما دونهما؟ وبيان ما يُخشَى اعتقاده على غير الصواب، ومن حكمة وقوع الكسوف تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب مَن لم يذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقوع الكسوف بالكوكب، ثم كشف ذلك عنه ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء.
وفي الكسوف إشارة إلى تقبيح رأي مَن يعبد

(1/116)


الشمس أو القمر، وحمل بعضهم الأمر في قوله: {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] على صلاة الكسوف؛ لأنه الوقت الذي يناسب الإعراض عن عبادتها، لما يظهر فيهما من التغيير والنقص المنزَّه عنه المعبود - جلَّ وعلا وسبحانه وتعالى.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاته قطُّ، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسلها الله - تعالى - لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوِّف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئًا فافزعوا إلى ذكره وإلى دعائه واستغفاره)) .
فيه دليلٌ على مشروعية تطويل صلاة الكسوف، وفيه الندب إلى الذكر والدعاء والاستغفار؛ لأنه مما يدفع به البلاء.
قوله: "فقام فزعًا يخشى أن تكون الساعة" قدر - صلى الله عليه وسلم - وقوعها لولا ما أعلمه الله - تعالى - بأنها لا تقع قبل الأشراط تعظيمًا منه لأمر الكسوف؛ ليبين لِمَن يقع له من أمته ذلك كيف يخشى ويفزع.
قوله: ((فافزعوا إلى ذكره)) ؛ أي: التجئوا وتوجَّهوا، وفيه أن الالتجاء إلى الله عند المخاوف بالدعاء والاستغفار سببٌ لمحو ما فرط من العصيان يرجى به زوال
المخاوف، وأن الذنوب سببٌ للبلايا والعقوبة العاجلة والآجلة، نسأل الله - تعالى - رحمته وعفوه وغفرانه.
* * *

(1/117)


باب الاستسقاء
الحديث الأول
عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجَّه إلى القبلة يدعو وحوَّل رداءه، ثم صلَّى ركعتين جهر فيهما بالقراءة"، وفي لفظ: "أتى المصلى".
فيه دليلٌ على مشروعية صلاة الاستسقاء، وهي سنَّة مؤكدة، وفيه دليلٌ على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلَّى، وفيه استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، واستقبال القبلة عند تحويل الرداء والدعاء.
وعن أبي هريرة قال: "خرج نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا يستسقي، فصلى ركعتين بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا)) ؛ رواه أحمد وابن ماجه.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ بالدعاء، ثم صلى ركعتين، ثم خطب، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب، فاستقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائمًا، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يغيثنا، قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا،

(1/118)


اللهم أغثنا، اللهم أغثنا)) ، قال أنس: فلا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل التُّرْسِ، فلمَّا توسَّطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتًا، قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب
بالناس، فقال: يا رسول الله، هلك الأموال، وانقطعت السبل، فادعُ الله يمسكها عنَّا، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكَام والظِّرَاب وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، قال: فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: فسألت أنس بن مالك أهو الرجل الأول؟ قال: لا أدري.
قال - رضي الله عنه -: الظراب الجبال الصغار.
((الآكام)) : جمع أكمة، وهي أعلى من الرابية ودون الهضبة، ودار القضاء: دار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سُمِّيت بذلك لأنها بيعت في قضاء دينه.
قوله: "سبتًا" المراد به الأسبوع، وهو من تسمية الشيء باسم بعضه كما يقال: جمعة.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد جواز مكالمة الإمام في الخطبة للحاجة، وفيه القيام في الخطبة وأنها لا تنقطع بالكلام ولا بالمطر، وفيه قيام الواحد بأمر الجماعة وإنما لم يباشر ذلك بعض أكابر الصحابة؛ لأنهم كانوا يسلكون الأدب بالتسليم وترك الابتداء بالسؤال، ومنه قول أنس: كان يعجبنا أن يجيء الرجل من البادية، فيسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيه سؤال الدعاء من أهل الخير ومَن يُرجَى منه القبول وإجابتهم لذلك، وفيه تكرار الدعاء ثلاثًا وإدخال

(1/119)


دعاء الاستسقاء في خطبة الجمعة والدعاء به على المنبر ولا تحويل فيه، ولا استقبال والاجتزاء بصلاة الجمعة عن صلاة الاستسقاء، وليس في السياق ما يدلُّ على أنه نواها مع الجمعة، وفيه علَم من أعلام النبوة في إجابة الله دعاء نبيه - عليه الصلاة والسلام - عقبه أو معه ابتداء في الاستسقاء وانتهاء في الاستصحاء، وفيه الأدب في الدعاء؛ حيث لم يدعُ برفع المطر مطلقًا؛ لاحتمال الاحتياج إلى استمراره فاحترز فيه بما يقتضي دفع الضرر وإبقاء النفع.
ويستنبط منه أن مَن أنعم الله عليه بنعمة لا ينبغي له أن يتسخَّطها لعارض يعرض فيها، بل يسأل الله رفع ذلك العارض وإبقاء النعمة، وفيه أن الدعاء برفع الضرر لا ينافي التوكُّل وإن كان مقام الأفضل التفويض؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان عالمًا بما
وقع لهم من الجدب وأخر السؤال في ذلك تفويضًا لربه، ثم أجابهم إلى الدعاء لما سألوه في ذلك بيانًا للجواز وتقريرًا لسنة هذه العبادة الخاصة، انتهى.
وقال البخاري: "باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء"، وساق حديث أنس قال: "أتى رجل أعرابي من أهل البدو إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلكت الماشية، هلك العيال، هلك الناس، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه يدعو، ورفع الناس أيديهم معه يدعون، قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطِرنا، فما زلنا نمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول، بَشِق المسافر ومنع الطريق ... الحديث.
قوله: "بَشِق"، بفتح الموحدة وكسر المعجمة بعدها قاف؛ أي: ملَّ واشتدَّ عليه الضرر، والله أعلم.
* * *
باب صلاة الخوف
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف في بعض أيامه التي لقي

(1/120)


فيها العدو، فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلَّى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا، وجاء الآخَرون فصلى بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعة ركعة".
صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة؛ قال الله - تعالى -: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 102] .
سبب نزول هذه الآية ما قال مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: "كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر فقال: ((لقد أصبنا غرَّة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة)) ، فنزلت الآية بين الظهر والعصر".
قال الخطَّابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أيام مختلفة وبأشكال متباينة، يتحرَّى في كلها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ في الحراسة، فهي على اختلاف صورها متفِقة المعنى، انتهى.
قوله: "في بعض أيامه التي لقي فيها العدو" وفي رواية: "غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَل نجد".
قوله: "فقامت طائفة معه وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم ذهبوا" وفي "الموطأ": "ثم استأخروا مكان الذين لم يصلوا ولا يسلمون".
قوله: "وجاء الآخَرون فصلى بهم ركعة وقضت الطائفتان ركعة ركعة"، ولأبي داود من حديث ابن مسعود: "ثم سلم فقام هؤلاء - أي: الطائفة الثانية - فقضَوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلُّوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا".
قال الحافظ:

(1/121)


واستدلَّ به على عظم أمر الجماعة، بل على ترجيح القول بوجوبها لارتكاب أمور كثيرة لا تُغتَفَر في غيرها، ولو صلَّى كلُّ امرئ منفردًا لم يقع الاحتياج إلى معظم ذلك، انتهى.
* * *
الحديث الثاني
عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات بن جبير، عمَّن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفَّت مع الإمام وطائفة وجاه العدو فصلَّى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وِجَاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم الرجل الذي صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو سهل بن أبي حثمة.
الفرق بين هذا الحديث وحديث ابن عمر: أن الطائفة الأولى أتمَّت لأنفسها مع بقاء صلاة الإمام وتوجَّهت للحراسة فارغة من الصلاة، والذي في حديث ابن عمر أن الطائفة الأولى توجَّهت للحراسة مع كونها في الصلاة.
قوله: "ثم سلم بهم" ظاهره أنه انتظرهم في التشهد ليسلموا معه، فالطائفة الأولى أحرموا معه، والأخرى سلموا معه.
قال البخاري، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف؛ يعني: حديث سهل.
* * *
الحديث الثالث
عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنهما - قال: "شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف والعدو بيننا وبين القبله،

(1/122)


فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفَع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو، فلمَّا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدَّم الصف المؤخَّر وتأخَّر الصف المقدَّم، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخَّر في نحر العدو، فلمَّا قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا.
قال جابر: "كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم"؛ ذكره مسلم بتمامه، وذكر البخاري طرفًا منه: وأنه صلى صلاة الخوف مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغزوة السابعة غزوة ذات الرقاع.
هذا الحديث فيه صفة ثالثة لصلاة الخوف، قال النووي: وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو يوسف وابن أبي ليلى إذا كان العدو في جهة القبلة، انتهى.
وقال الإمام أحمد: ثبت في صلاة الخوف ستة أحاديث أو سبعة أيها فعل المرء جاز، ومال إلى ترجيح حديث سهل بن أبي حثمة.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "كنَّا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع وأُقِيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي - صلى الله عليه وسلم -

(1/123)


أربع وللقوم ركعتان"؛ متفق عليه.
وللشافعي والنسائي عن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بطائفة من أصحابه ركعتين ثم سلم، ثم صلى بآخرين ركعتين ثم سلم".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف عام غزوة نجد، فقام إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورها إلى القبلة، فكبر فكبروا جميعًا الذين معه والذين مقابل العدو، ثم ركع ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيامًا مقابلي العدو، ثم قام وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم، وأقبلت الطائفة التي كانت مقابل العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما هو، ثم قاموا فركع ركعة أخرى وركعوا معه، وسجد وسجدوا معه، ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد ومَن معه، ثم كان السلام فسلم وسلموا جميعًا، فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتان ولكل طائفة ركعتان"؛ رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وعن ثعلبة بن زَهْدَم - رضي الله عنه - قال "كنَّا مع سعيد بن العاص بطبرستان، فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا"؛ رواه أبو داود والنسائي.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "فرض الله الصلاة على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة"؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
وعن ابن عمر: أنه وصف صلاة الخوف ثم قال: "فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا رجالاً قيامًا على أقدامهم أو ركبانًا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها".
قال مالك، قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلاَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ رواه البخاري.
قال الشوكاني: وقد أخذ بكلِّ نوع من أنواع صلاة الخوف الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة من أهل العلم؛ والحق الذي لا محيصَ عنه أنها جائزة على كلِّ نوع من الأنواع الثابتة، وقد قال أحمد بن حنبل: لا أعلم في هذا الباب حديثًا إلا صحيحًا انتهى، والله أعلم.
* * *

(1/124)