خلاصة الكلام شرح عمدة الأحكام

كتاب الطهارة
الحديث الأول
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إنما الأعمال بالنيات - وفي رواية: بالنية - وإنما لكلِّ امرئ ما نوى؛ فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوَّجها فهجرته إلى ما هاجَر إليه)) .
الطهارة في اللغة: التنزُّه عن الأدناس والأقذار، وفي الشرع: رفع ما يمنع الصلاة - من حدث أو نجاسة - بالماء أو التراب عند عدم الماء.
قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات ... )) إلى آخره: هذا حديث عظيم جليل القدر، كثير الفائدة، قال عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله تعالى -: ينبغي لكلِّ مَن صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النية.
وقال الشافعي - رحمه الله تعالى -: يدخل في سبعين بابًا من العلم.
وقال ابن مهدي أيضًا: ينبغي أن يُجعَل هذا الحديث رأس كلِّ باب.
وقال البخاري - رحمه الله تعالى -: "باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكلِّ امرئ ما نوى"، فدخل فيه الإيمان والوضوء

(1/10)


والصلاة والزكاة والحج والصوم والأحكام.
ولفظة (إنما) للحصر؛ أي: لا يُعتَدُّ بالأعمال بدون النية.
قوله: ((إنما لكلِّ امرئ ما نوى)) قال ابن عبد السلام: الجملة الأولى لبيان ما يُعتَبَر من الأعمال، والثانية لبيان ما يترتَّب عليها، والنية هي القصد، ومحلُّها القلب، ولم يُنقَل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة، قول: نويت أتوضأ، ونويت أصلي، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد قال الله - تعالى -: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16] .
ووجه إدخال هذا الحديث في كتاب الطهارة الإشارة إلى أنها لا تصحُّ إلا بالنية.
قوله: ((فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)) ؛ أي: مَن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا.
و (الهجرة) : الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، وفي الحديث الصحيح: ((المسلم مَن سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هَجَر ما نهى الله عنه)) .
قوله: ((مَن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) ، قال الحافظ العسقلاني - رحمه الله تعالى -: مَن نوى بهجرته مفارقةَ دار الكفر وتزوُّج المرأة معًا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة، بل هي ناقصة بالنسبة إلى مَن كانت هجرته خالصة.
وقال ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجَر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأةً تسمى أم قيس، فلهذا خصَّ في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به، قال ابن مسعود: فكنَّا نسمِّيه مهاجر أمِّ قيس، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضَّأ)) .
(الحَدَث) : هو الخارج من أحد السبيلين.
والحديث يدلُّ على بطلان الصلاة بالحدث، وأنها لا تصحُّ إلا من متطهِّر، وعلى أن الوضوء لا يجب لكلِّ صلاة ولكنه

(1/11)


مستحب؛ لما روى الترمذي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن توضَّأ على طُهْرٍ كُتِب له عشر حسنات)) ، والخارج من أحد السبيلين ناقض بالإجماع، فأمَّا غيره من النواقض فمختَلَف فيها، وقد ورد في ذلك أحاديث والعمل بها أحوط، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهم - قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) .
هذا الحديث دليلٌ على وجوب غسل الرجلين، وتعميم أعضاء الوضوء بالغسل، قال البخاري: "باب غسل الرجلين، ولا يمسح القدمين"، وساق حديث عبد الله بن عمرو قال: "تخلَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - عنَّا في سفرة فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضَّأ ونمسح على أرجلنا فنادَى بأعلى صوته: ((ويلٌ للأعقاب من النار)) مرتين أو ثلاثًا".
وفيه دليلٌ على رفع الصوت بالإنكار، وتكرار المسألة لتُفهَم، وتعليم الجاهل.
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً توضَّأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ارجع فأحسن وضوؤك)) ، فرجع ثم صلَّى.
قال الحافظ: وإنما خُصَّت الأعقاب بالذكر لصورة السبب، كما تقدَّم في حديث عبد الله بن عمرو فيلتحق بها ما في معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهُل في إسباغها.
وفي الحاكم وغيره من حديث عبد الله بن الحارث: ((ويلٌ للأعقاب وبطون الأقدام من النار)) .
قال ابن خزيمة: لو كان الماسح مؤدِّيًا للفرض لما تُوُعِّد بالنار.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين"؛ رواه سعيد بن منصور، وبالله التوفيق.
* * *

(1/12)


الحديث الرابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا توضَّأ أحدكم فليجعل على أنفه ماءً ثم ليَنثُر، ومَن استجمر فليُوتِر، وإذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثًا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده)) ، وفي لفظٍ لمسلم: ((فليستنشق بمنخريه من الماء)) ، وفي لفظ: ((مَن توضأ فليستنشق)) .
الاستنثار: هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق، والأمر به دليل على وجوبه0
قوله: ((ومَن استجمر فليوتر)) ؛ أي: ليستجمر بثلاثة أحجار أو خمسة أو أكثر منها إن رأى ذلك، و (الاستجمار) : استعمال الأحجار أو ما يقوم مقامها في الاستطابة.
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: "لقد نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم"؛ رواه مسلم.
وفي الحديث دليلٌ على مشروعية غسل اليدين بعد النوم، قال الحافظ: وفيه الأخذ بالوثيقة، والعمل بالاحتياط في العبادة، والكناية عمَّا يُستَحيَا منه إذا حصل الإفهام بها، واستحباب غسل النجاسة ثلاثًا؛ لأنه أمر بالتثليث عند توهُّمها فعند تيقُّنها أَوْلَى، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه)) ، ولمسلم: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) .
فيه دليل على النهي عن البول في الماء الراكد؛ لأنه ينجسه إن كان قليلاً، ويقذره إن كان كثيرًا، وقوله: ((لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب)) ؛ أي: لأنه يقذره، قال الحافظ: النهي عن البول في الماء لئلاَّ ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلاَّ يسلبه الطهورية، وهذا محمول على الماء القليل كما في حديث القلتين، والله أعلم.
* * *

(1/13)


الحديث السادس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله قال: ((إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا)) ، ولمسلم: ((أولاهن بالتراب)) .
وله في حديث عبد الله بن مغفل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبعًا، وعفِّروه الثامنة بالتراب)) .
هذا الحديث يدلُّ على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا وتتريبه، وفيه دليلٌ على نجاسة الكلب ونجاسة سؤره، وفي رواية لمسلم: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليُرِقه ثم ليغسله سبع مرات)) .
قال النووي - رحمه الله تعالى -: "ولو ولغ

(1/14)


في إناء فيه طعام جامد ألقى ما أصابه وما حوله وانتفع بالباقي على طهارته السابقة".
قوله: ((وعفروه الثامنة بالتراب)) : لما كان التراب جنسًا غير الماء جعل اجتماعها في المرة الواحدة معدودًا باثنتين، وفيه جمع المطهِّرَين؛ وهما الماء والتراب.
* * *
الحديث السابع
عن حمران مولى عثمان: "أن عثمان - رضي الله عنه - دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديه إلى المرفقين ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثًا، ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم قال: ((مَن توضَّأ نحو وضوئي هذا، ثم صلَّى ركعتين لا يُحَدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) .
اشتمل هذا الحديث والذي بعده على صفة الوضوء من ابتدائه إلى انتهائه.
قال النووي: هذا الحديث أصلٌ عظيم في صفة الوضوء، وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرَّة مرَّة، وعلى أن الثلاث سنة.
وفيه دليل على أن غسل الكفين في أوَّل الوضوء سنة باتفاق العلماء.
قوله: ((ثم تمضمض واستنشق واستنثر)) : اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في وجوب المضمضة والاستنشاق؛ فمذهب مالك والشافعي أنهما سنتان، وذهب أحمد في المشهور عنه إلى أنهما واجبتان لمداومته - صلى الله عليه وسلم - على ذلك.
قوله: "ويديه إلى المرفقين"؛ أي: مع المرفقين، والمرفقان والكعبان تدخل في المغسول كما في حديث جابر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه".
قوله: "ثم مسح برأسه"؛ أي: كله؛ كما

(1/15)


في الحديث الذي بعده: "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه"، وفي
حديث عبد الله بن عمرو: "ثم مسح برأسه وأدخل إصبعيه السبابتين في أذنيه، ومسح بإبهاميه ظاهر أذنيه".
وفي الحديث التعليم بالفعل؛ لكونه أبلغ وأضبط، والترتيب في الوضوء كما في الآية، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ابدؤوا بما بدأ الله به)) .
قوله: ((مَن توضَّأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) : فيه الحثُّ على دفع الخواطر المتعلِّقة بأشغال الدنيا، وجهاد النفس في ذلك، فإن الإنسان يحضُره في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها.
وفيه الترغيب في الإخلاص، وقد قال الله - تعالى -: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر)) .
* * *
الحديث الثامن
عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه قال: "شهدت عمرو بن أبي الحسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكفأ على يديه من التَّوْرِ فغسل يديه ثلاثًا، ثم أدخل يده في التَّوْرِ فتمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات، ثم أدخل يده في التَّوْرِ فغسل وجهه ثلاثًا، ثم أدخل يديه فغسلهما مرَّتين إلى المرفقين، ثم أدخل يديه فمسَح بهما رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه".
وفي رواية: "بدأ بمُقدَّم رأسه ذهب بهما إلى

(1/16)


قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه".
وفي رواية: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجنا له ماء في تَوْرٍ من صفر".
(التور) : شبه الطَّسْتِ.
في هذا الحديث جواز الوضوء من الأواني الطاهرة كلها إلا الذهب والفضة؛ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)) .
وفيه أن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرَّة وبعضه بمرَّتين وبعضه بثلاث، وفيه أن اغتراف المتطهِّر بيده لا يضرُّ الماء سواء أدخل واحدة أو اثنتين.
قوله: "ثم أدخل يديه فمسح بهما رأسه": فيه دليل على أن المتطهِّر يأخذ ماء جديدًا لرأسه، كما روى مسلم عن عبد الله بن زيد في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومسح برأسه بماء غير فضل يديه".
* * *
الحديث التاسع
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره، وفي شأنه كله".
قولها: "يعجبه التيمُّن في تنعُّله وترجُّله وطهوره"، زاد أبو داود: "وسواكه".
(التنعُّل) : لبس النعل ونحوه، والترجُّل: مشط الشعر، وفيه البداءة بالميامن في الوضوء والغسل، وقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم)) .
قولها: "وفي شأنه كله": هذا عام مخصوص؛ فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد وخلع النعل ونحوه يبدأ فيه باليسار.
قال النووي: "قاعدة الشرع المستمرَّة استحباب البداءة باليمين في كلِّ ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدِّهما استُحِبَّ فيه التياسر"، انتهى.

(1/17)


وروى أبو داود عن حفصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل شماله لما سوى ذلك.
قال الحافظ: السواك من باب التنظيف والتطييب لا من باب إزالة القاذورات، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق، انتهى.
قلت: فيستحب السواك باليمين لا باليسار.
* * *
الحديث العاشر
عن نعيم المجمر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يطيل غرَّته فليفعل)) .
وفي لفظ آخر: رأيت أبا هريرة يتوضَّأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن أمتي يُدعَون يوم القيامة غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يطيل غرَّته وتحجيله فليفعل)) .
وفي لفظٍ لمسلم: سمعت خليلي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)) .
قوله: "عن نعيم المجمر" وُصِف بذلك لأنه كان يبخر مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قوله: ((غرًّا محجلين)) : الغرَّة في الوجه، والتحجيل في اليدين والرجلين.
قال الحافظ: وأصل الغرَّة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استُعمِلت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النوع الكائن في وجوه أمة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وقوله: ((محجلين)) : من التحجيل وهو بياض يكون في قوائم الفرس،

(1/18)


والمراد به هنا النور أيضًا.
قوله: "رأيت أبا هريرة يتوضَّأ فغسل وجهه ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين، ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين"، في روايةٍ لمسلم: قال أبو هريرة: "هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ".
تتمَّة:
تُشرَع التسمية في الوضوء؛ لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا صلاة لِمَن لا وضوء له، ولا وضوء لِمَن لم يذكر اسم الله عليه)) .
ويسنُّ تخليل أصابع اليدين والرجلين لما روى الأربعة عن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أسبِغ الوضوء، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما)) .
وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخلِّل لحيته في الوضوء؛ رواه الترمذي.
وعن أبي رافع - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا توضَّأ حرَّك خاتمه؛ رواه ابن ماجه.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد يتوضَّأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إلا فُتِحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيِّها شاء)) ؛ رواه مسلم، والترمذي وزاد: ((اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين)) .
وفي روايةٍ لأحمد وأبي داود: ((مَن توضَّأ فأحسن الوضوء، ثم رفع بصره إلى السماء وقال: ... )) فذكر الحديث.
* * *
باب دخول الخلاء والاستطابة
الحديث الأول
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء قال: ((اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث)) .
((الخُبُث)) : بضم الخاء والباء وهو جمع خبيث، و ((الخبائث)) : جمع خبيثة، استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.

(1/19)


((الخلاء)) هنا: موضع قضاء الحاجة، والاستطابة: إزالة الأذى عن المخرَجَين بالماء أو بالأحجار.
قوله: "إذا دخل الخلاء"؛ أي: إذا أراد أن يدخل كما في رواية عند البخاري، وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول: بسم الله)) ؛ رواه ابن ماجه.
ويُكرَه دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله إلا لحاجة، وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه؛ رواه أهل السنن.
قال أحمد: الخاتم إذا كان فيه اسم الله يجعله في باطن كفِّه ويدخل الخلاء.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء قال: ((الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافانى)) ؛ رواه ابن ماجه.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ولكن شرِّقوا أو غربوا)) ، قال أبو أيوب: فقدِمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنِيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله - عزَّ وجلَّ.
((الغائط)) : الموضع المطمئن من الأرض كانوا ينتابونه للحاجة، فكنَّوا به عن نفس الحديث كراهيةً لذكره بخاص اسمه، و"المراحيض" جمع مرحاض: وهو المغتَسَل، وهو أيضًا كناية عن موضع التخلِّي.
* * *

(1/20)


الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رقيت يومًا على بيت حفصة فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة".
حديث أبي أيوب يدلُّ على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وحديث ابن عمر يدلُّ على جواز ذلك في البنيان، وعن مروان الأصفر قال: "رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، أليس قد نُهِى عن هذا؟ قال: بلى، إنما نُهِيَ عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس؛ رواه أبو داود.
قوله: ((ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا)) المراد بذلك أهل المدينة ومَن على سمتها، ولا يدخل في ذلك من الأمكنة ما كانت القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب.
* * *
الحديث الرابع
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلامٌ نحوي معي إداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء".
و"العنزة": الحربة الصغيرة، و"الإداوة": إناء صغير من جلد.
والحديث يدلُّ على مشروعية الاستنجاء بالماء، قال أحمد: إن جمع بين الحجارة والماء فهو أحبُّ إليَّ؛ لحديث عائشة وهو ما رواه الترمذي وصححه أنها قالت للنساء:

(1/21)


"مُرْنَ أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء، ثم أثر الغائط والبول، فإني استحييهم، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله".
وفي الحديث جواز استخدام الأحرار إذا رضوا، وفيه أن في خدمة العالم شرفًا للمتعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يمسَّن أحدكم ذكَرَه بيمينه وهو يبول، ولا يتمسَّح من الخلاء بيمينه، ولا يتنفَّس في الإناء)) .
الحديث يدلُّ على النهى عن إمساك الذكر باليمين عند البول وعن إزالة الأذى باليمين.
قوله: ((ولا يتنفس في الإناء)) ؛ أي: داخله؛ لأن التنفُّس فيه مستقذَر وربما أفسده على غيره، وأمَّا إذا أبان الإناء وتنفَّس خارجه فهي السنة.
* * *
الحديث السادس
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: مَرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: ((إنهما ليُعَذَّبان وما يعذبان في كبير؛ أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأمَّا الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ، فأخذ جريدة رطبة فشقَّها نصفين فغرز في كلِّ قبر واحدة، فقالوا: يا رسول الله، لِمَ فعلت هذا؟ قال: ((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) .

(1/22)


قوله: ((وما يُعَذَّبان في كبير)) ؛ أي: الاحتراز منه سهل، وقيل: ليس بكبير في اعتقادهما وهو عند الله كبير، كما قال - تعالى -: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15] ، وفي روايةٍ: ((وما يُعذَّبان في كبير ولكنه كبير)) .
قوله: ((أمَّا أحدهما فكان لا يستتر من البول)) ؛ أي: من بوله، قال البخاري: "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب القبر: ((كان لا يستتر من بوله)) ، ولم يذكر سوى بول الناس"، انتهى.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((استنزهوا من البول؛ فإن عامة عذاب القبر منه)) ؛ رواه الدارقطني، وقد استدلَّ بعض العلماء بقوله: ((من البول)) على نجاسة الأبوال كلها من الآدميين والبهائم مأكولة اللحم وغيرها، والحديث خاصٌّ ببول الآدميين؛ فأمَّا أبوال ما يُؤكَل لحمه فطاهرة؛ والدليل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر العرنيين أن يلحقوا بإبل الصدقة ويشربوا من أبوالها وألبانها، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلُّوا في مرابض الغنم)) .
وفي الحديث إثبات عذاب القبر ووجوب إزالة النجاسة مطلقًا والتحذير من ملابستها، وفيه أن النميمة من الكبائر، وهي نقل كلام الناس بقصد الإضرار.
قوله: "فأخذ جريدة رطبة" أخذ بعض العلماء من هذا الحديث استحباب وضع الجريد الرطب ونحوه على القبور؛ لأنه يسبح ما دام رطبًا فيحصل التخفيف ببركة التسبيح، وأنكره بعضهم، وقال: هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه أمر مغيب.
تتمَّة:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقوا اللاعنين)) ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس أو في ظلِّهم)) ؛ رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يبولن أحدكم في مستحمِّه ثم يتوضَّأ منه؛ فإن عامة الوسواس فيه)) ؛ رواه أحمد وأبو داود.
وقال ابن ماجه: سمعت علي بن محمد يقول: إنما هذا في الحفيرة، فأمَّا اليوم فمغتسلات الجص والصاروج والقير فإذا بال وأرسل عليه الماء فلا بأس به.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تغوَّط الرجلان فليتوارَ كلُّ واحد منهما عن صاحبه ولا يتحدَّثا؛ فإن الله يمقت على ذلك)) ؛ رواه أحمد.
* * *

(1/23)


باب السواك
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) .
((السواك)) : يُطلَق على الفعل، وعلى العود الذي يُتسَوَّك به، وهو مسنون في كلِّ وقت، ويتأكَّد عند الصلاة والوضوء وقراءة القرآن، وتغير الفم والاستيقاظ من النوم، وفي السواك فوائد دينية ودنيوية.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السواك مَطْهَرة للفم مَرْضَاة للرب)) ؛ رواه أحمد والنسائي.
وذكر بعض العلماء أن السواك يُورِث السعة والغنى، ويطيب النكهة ويشد اللثة، ويسكن الصداع ويذهب وجع الضرس.
وعن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لا أحصي يتسوَّك وهو صائم"؛ رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الشافعي: لا بأس بالسواك للصائم أول النهار وآخره0
قوله: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) ؛ أي: لأوجبته عليهم، وفي بعض النسخ: ((مع كل وضوء عند كل صلاة)) ، وللنسائي: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لفرضت عليهم السواك مع كل وضوء)) .
وعند أحمد: ((لأمرتهم بالسواك عند كلِّ صلاة كما يتوضؤون)) ، وله أيضًا: ((لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، ومع كل وضوء بسواك)) .
* * *
الحديث الثاني
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يَشُوصُ فاه بالسواك".

(1/24)


قال المؤلف: معناه: يغسل أو يدلك، يُقَال: شَاصَه يَشُوصُه ومَاصَه يَمُوصُه إذا غسله.
في هذا الحديث استحباب السواك عند القيام من النوم؛ لأنه مقتضٍ لتغيُّر الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه.
* * *
الحديث الثالث
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا مُسنِدتُه إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنُّ به، فأَبَدَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيَّبته، ثم رفعته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستنَّ به، فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنَّ استنانًا أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع يده أو أصبعه ثم قال: ((في الرفيق الأعلى)) ثلاثًا ثم قضَى"، وكانت تقول: "مات بين حاقنتي وذاقنتي".
وفي لفظ: "فرأيته ينظر إليه وعرفت أنه يحبُّ السواك فقلت: آخُذه؟ فأشار برأسه أن نعم"؛ هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه.
"القضم": الأخذ بطرف الأسنان، ونفَضته بالفاء والضاد المعجمة، و"الحاقنة": الوهدة المنخفضة بين الترقوتين، و"الذاقنة": هي الذقن.
قولها: "فأَبَدَّه" بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال المهملة؛ أي: مدَّ نظره إليه.
وفي الحديث إصلاح السواك

(1/25)


وتهيئته، والاستياك بسواك الغير، والعمل بما يُفهَم من الإشارة.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الرفيق الأعلى)) إشارة إلى قوله - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أسمع أنه لا يموت نبيٌّ حتى يخيَّر بين الدنيا والآخرة، فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في مرضه الذي مات فيه وأخذته بَحَّة يقول: ((مع الذين أنعم الله عليهم ... )) الآية، فظننت أنه خُيِّر".
* * *
الحديث الرابع
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: "أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يستاك بسواك رطب، قال: وطرف السواك على لسانه وهو يقول: ((أع أع)) ، والسواك في فيه كأنه يتهوَّع".
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: ويُستَفاد منه مشروعية السواك على اللسان طولاً، أمَّا الأسنان فالأحبُّ فيها أن تكون عرضًا.
وفيه تأكيد السواك، وأنه لا يختصُّ بالأسنان، وأنه من باب التنظيف والتطييب، لا من باب إزالة القاذورات؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يكتفِ به، وبوَّبوا عليه "استياك الإمام بحضرة رعيته".
[تتمة] وعن شريح قال: قلت لعائشة بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت بالسواك" رواه مسلم. وعن أنس مرفوعا: "يجزي من السواك الأصابع" رواه الدارقطني والبيهقي. قال الموفق في "المغني": وإن استاك بإصبعه أو خرقة فالصحيح أنه يصيب السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء، ولا يترك القليل من السنة للعجز عن كثيرها، والله أعلم.

(1/26)


باب المسح على الخفين
الحديث الأول
عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأهويت لأنزع خفيه. فقال: ((دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين فمسح عليهما)) .
المسح على الخفين جائز عند عامة أهل العلم. قال أحمد: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رفعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما وقفوا. وعن الحسن قال: ((حدثني سبعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين)) .
وعن جرير ((أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه. فقيل له: تفعل هكذا؟ قال: نعم رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه)) قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة؛ متفق عليه.
(قوله كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر) هي غزوة تبوك.
(قوله: فأهويت لأنزع خفيه فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين) ؛ أي: القدمين فمسح عليهما.
وللحميدي في مسنده: ((قلت يا رسول الله: أيمسح أحدنا على خفيه؟ قال: نعم، إذا أدخلهما وهما طاهرتان)) . وفي الحديث اشتراط كمال الطهارة قبل لبس الخفين.

الحديث الثاني
عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنهما - قال: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فبال وتوضأ ومسح على خفيه)) مختصرا.

(1/27)


(قوله: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -) وللبيهقي أن ذلك كان بالمدينة، وقد وقع في بعض النسخ: ((كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر)) وهو غلط.
قال البخاري "باب البول قائما وقاعدا" وساق الحديث، ولفظه: ((أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائما، ثم دعا بماء فجئته بماء فتوضأ)) ولمسلم ((ومسح على خفيه)) . قال بعض العلماء: إنما بال - صلى الله عليه وسلم - قائما لأنه لم يجد مكانا يصلح للقعود. قال الحافظ: والأظهر أنه فعل ذلك لبيان الجواز، وكان أكثر أحواله البول عن قعود، والله أعلم.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ((ما بال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما منذ أنزل عليه القرآن)) رواه أبو عوانة في "صحيحه" والحاكم. وفي الحديث دليل على إثبات المسح على الخفين وجواز المسح في الحضر.
تتمَّة:
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم؛ يعني: في المسح على الخفين"؛ أخرجه مسلم.
وعن صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا إذا كنَّا سَفْرًا ألا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط وبول ونوم؛ أخرجه النسائي والترمذي واللفظ له.
وعن علي - رضي الله عنه - قال: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أَوْلَى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح على ظاهر خفَّيه"؛ أخرجه أبو داود.
وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ ومسح بناصيته وعلى العمامة والخفين؛ أخرجه مسلم.
قال في "المغنى": وإذا كان بعض الرأس مكشوفًا مما جرَت العادة بكشفه استحبَّ أن يمسح عليه مع العمامة، نصَّ عليه أحمد.
وقال أيضًا: وإن تطهَّرت المستحاضة ومَن به سلَس البول وشبههما ولبسوا خفافًا فلهم المسح، نصَّ عليه لأن طهارتهم كاملة في حقهم، انتهى.
وقال الشافعي: ولا يجوز مسح الجوربين إلا أن يكونا منعلين يمكن متابعة المشي فيهما، والله أعلم.
* * *

(1/28)


باب في المذي وغيره
الحديث الأول
عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "كنت رجلاً مذَّاء، فاستحييت أن أسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكان ابنته مِنِّي، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: ((يغسل ذكره ويتوضَّأ)) ، وللبخاري: ((اغسل ذكرك وتوضأ)) ، ولمسلم: ((توضَّأ وانضح فرجك)) .
"المذي": ماء رقيق يخرج عند الملاعبة أو تذكُّر الجماع، وهو نجسٌ، ولا يجب الاغتسال منه، بل يكفيه غسل ذكره والوضوء، وفي روايةٍ لأبي داود والنسائي: "كنت رجلاً مذَّاء فجعلت أغتسل منه في الشتاء حتى تشقَّق ظهري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تفعل)) .
وفي الحديث جواز الاستنابة في الاستفتاء، وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يُستَحيَا منه عرفًا، وحسن المعاشرة مع الأصهار.
* * *
الحديث الثاني
عن عباد بن تميم، عن عبد الله بن زيد بن عاصم المازني - رضي الله عنه - قال: "شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا)) .
فيه دليلٌ على النهي عن إبطال الصلاة بالشك حتى يتيقَّن الحدَث، قال النووي: هذا الحديث أصلٌ في حكم بقاء الأشياء على أصولها حتى يتيقَّن خلافَ ذلك، ولا يضرُّ الشك الطارئ عليها.
* * *

(1/29)


الحديث الثالث
عن أم قيس بنت محصن الأسدية أنها أتتْ بابنٍ لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأجلسه في حجره، فبالَ على ثوبه فدعا بماء فنضَحَه على ثوبه ولم يغسله.
وفي حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه إياه.
ولمسلم: فأتبعه بوله ولم يغسله.
فيه دليل على تخفيف نجاسة بول الصبي، وأنه يكتفي في تطهيره بالنضح، وعن أبي السمح - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يغسل من بول الجارية ويرشُّ من بول الغلام)) ؛ رواه أبو داود والنسائي.
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بول الغلام الرضيع يُنضَح، وبول الجارية يُغسَل)) ، قال قتادة: وهذا ما لم يطعما، فإذا طعما غُسِلا جميعًا؛ رواه أحمد والترمذي.
وفي الحديث من الفوائد: الندب إلى حسن المعاشرة، والتواضع، والرفق بالصغار، وتحنيك المولود، وحمل الأطفال إلى أهل الفضل، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد، فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا قضى بولَه أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذَنُوبٍ من ماء فأُهرِيق عليه".

(1/30)


"الذنوب": الدلو فيها ماء.
والحديث دليلٌ على أن الأرض تطهر بصب الماء عليها ولا يشترط حفرها.
قال الحافظ: وفيه أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة، ويلتحق بها غير الواقعة؛ لأن البلة الباقية على الأرض غسالة نجاسة، وفيه الرفق بالجاهل
وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، وفيه رأفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحسن خلقه، وفيه تعظيم المساجد وتنزيهها عن الأقذار، وفيه دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما؛ لأنه لو قطع عليه بوله لأدَّى ذلك إلى ضرر بدنه أو تكثير النجاسة في المسجد، وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقصُّ الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الآباط)) .
((الفطرة)) : الجبلة التي خلق الله الناس عليها وجبل طباعهم على فعلها، وهي السنة القديمة التي اختارها الأنبياء، وقوله - تعالى -: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ} [الروم: 30] ؛ أي: دين الله، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلُّ مولود يُولَد على الفطرة فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه)) ؛ أي: لو تُرِك لأدَّاه نظره إلى الدين الحق وهو التوحيد.
قوله: ((الفطرة خمس ... )) إلى آخره، الحصر مبالغة لتأكيد أمر الخمس المذكورة، كقوله: ((الدين النصيحة)) ، و ((الحج عرفة)) ، وفي رواية ((خمس من الفطرة)) ، وقد ثبت في أحاديث أُخَر زيادة على الخمس.
((الختان)) واجب على الذكور ومستحب للنساء، وروى: ((الختان سنة في الرجال مَكْرُمَة في النساء)) ؛ أخرجه أحمد والبيهقي.
قال في "المدخل": إن السنة إظهار ختان الذكر، وإخفاء ختان الأنثى.
و ((الاستحداد)) هو: إزالة شعر العانة بالحديد، ويجوز بغير ذلك كالنتف والنورة.
و ((قص الشارب)) :

(1/31)


أخذه حتى يبدو حرف الشفة.
وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لم يأخذ من شاربه فليس مِنَّا)) ؛ رواه أحمد والنسائي والترمذي، وعن أبي هريرة -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((جُزُّوا الشوارب وأَرْخُوا اللِّحَى، خالفوا المجوس)) ؛ رواه مسلم.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خالفوا المشركين وفِّرُوا اللِّحَى، وأحفوا الشوارب)) ؛ متفق عليه، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه.
وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر رجلاً وشاربه طويل فقال: ((ائتوني بمقص وسواك)) ، فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه.
((وتقليم الأظفار)) : قطع ما طال منها على اللحم، وفي ذلك تحسين الهيئة وكمال الطهارة.
قال الحافظ: ولم يثبت في ترتيب الأصابع عند القص شيء من الأحاديث.
قوله: ((ونتف الآباط)) : إزالة ما نبت عليها من الشعر بالنتف وهو السنة، ويجوز إزالته بغير ذلك.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "وقَّت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصِّ الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة"؛ رواه الخمسة إلا ابن ماجه.
* * *
باب الغسل من الجنابة
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب: "فانخنست منه، فذهبت فاغتسلت ثم جئت فقال: ((أين كنت يا أبا هريرة؟)) ، قال: كنت جنبًا، فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: ((سبحان الله، إن المسلم لا ينجس)) .

(1/32)


قوله: "باب الغسل من الجنابة": قال الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] .
قوله: "فانخنست": الانخناس: الانقباض والرجوع، وفي الحديث دليل على طهارة عرق الجنب، وعلى جواز تصرُّفه في حوائجه قبل أن يغتسل، وفيه استحباب الطهارة عند ملابسة الأمور العظيمة، واحترام أهل الفضل وتوقيرهم ومصاحبتهم على أكمل الهيئات، وفيه استحباب استئذان التابع للمتبوع إذا أراد أن يفارقه.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتسل من الجنابة غسل يديه ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم يغتسل، ثم يخلل بيديه شعره حتى إذا ظن أنه قد أروى بشرته أفاض الماء عليه ثلاث مرات، ثم غسل سائر جسده".
وكانت تقول: "كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء واحد نغترف منه جميعًا".
اشتمل هذا الحديث والذي بعده على بيان كيفية الغسل من ابتدائه إلى انتهائه.
وفي هذا الحديث البداءة بغسل اليدين، وتقديم الوضوء قبل الاغتسال، وتخليل الشعر، وجواز اغتسال الزوجين جميعًا واغترافهما من إناء واحد، وجواز نظر كلٍّ منهما إلى الآخر وهو عريان.
وروى أبو داود والنسائي عن رجل صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يغتسل الرجل بفضل المرأة أو المرأة بفضل الرجل وليغترفا جميعًا"، وهذا النهي محمول على التنزيه جمعًا بين الأدلة؛

(1/33)


لما روى مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسل بفضل ميمونة - رضي الله عنها.
ولأصحاب السنن: اغتسل بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في جفنة فجاء ليغتسل منها فقالت له: إني كنت جنبًا فقال: ((إن الماء لا يجنب)) .
* * *
الحديث الثالث
عن ميمونة بنت الحارث - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: "وضعت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضوء الجنابة فأكفأ بيمينه على يساره مرتين أو ثلاثًا ثم غسل فرجه، ثم ضرب يده بالأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثًا، ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفاض على رأسه الماء ثم غسل سائر جسده، ثم تنحَّى فغسل رجليه فأتيته بخرقة فلم يردَّها فجعل ينفض الماء بيديه".
في هذا الحديث دليل على تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لِمَن يريد الاغتراف، وفيه استحباب مسح اليد بالتراب بعد غسل الأذى وتكرير ذلك، وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في الغسل، وفيه جواز تأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل، وفيه خدمة الزوجات لأزواجهن.
وعن يعلى بن أمية - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يغتسل بالبَرَاز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((إن الله - عزَّ وجلَّ - حييٌّ سِتِّير يحبُّ الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)) ؛ رواه أبو داود والنسائي.
* * *

(1/34)


الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: ((نعم، إذا توضأ أحدكم فليرقد)) .
في هذا الحديث دليلٌ على استحباب الوضوء للجنب قبل النوم؛ لأنه يخفف الجنابة، وفيه أن غسل الجنابة ليس على الفور وإنما يتضيَّق عند القيام إلى الصلاة، وفيه استحباب التنظُّف عند النوم، قال ابن الجوزي - رحمه الله تعالى -: والحكمة فيه أن الملائكة تبعد عن الوسخ والريح الكريهة، بخلاف الشياطين فإنها تقرب من ذلك، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن أم سلمة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: جاءت أم سليم امرأة أبي طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم، إذا هي رأت الماء)) .
قولها: "إن الله لا يستحي من الحق": قدَّمت هذا تمهيدًا لعذرها في ذكر ما يُستَحيَا منه.

(1/35)


قال البغوي في قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] ؛ أي: لا يترك تأديبكم وبيان الحق حياء.
قولها: "فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت": (الاحتلام) : الجماع يراه النائم في نومه، والحديث يدلُّ على وجوب الغسل على المرأة بالإنزال وكذلك الرجل لحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "سُئِل رسول الله عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا، فقال: ((يغتسل)) ، وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل، فقال: ((لا غسل عليه)) ، فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها
الغسل؟ قال: ((نعم، إنما النساء شقائق الرجال)) ، قال ابن رسلان: أجمَع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المني.
* * *
الحديث السادس
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أغسل الجنابة من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيخرج إلى الصلاة وإن بقع الماء في ثوبه".
وفي لفظٍ لمسلم: "لقد كنت أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركًا فيصلي فيه".
قولها: "كنت أغسل الجنابة"؛ أي: المني، والحديث يدلُّ على غسل المني إذا كان رطبًا، وفركه إذا كان يابسًا.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب؟ فقال: إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذْخِرَة)) .
* * *
الحديث السابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

(1/36)


((إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ثم جهَدَها فقد وجب الغسل)) ، وفي لفظٍ لمسلم: ((وإن لم ينزل)) .
((شُعَبها الأربع)) : يداها ورجلاها.
قوله: ((جهدها)) ؛ أي: جامَعَها.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا جاوَز الختانُ الختانَ وجب الغسل)) ؛ رواه الترمذي.
وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "إن الفُتيَا التي كانوا يقولون: الماء من الماء، رخصة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رخَّص بها في أول الإسلام، ثم أمرنا بالاغتسال بعد"؛ رواه أحمد وأبو داود.
وعن ابن عباس أنه حمل حديث: ((الماء من الماء)) على صورة مخصوصة؛ وهي ما يقع في المنام من رؤية الجماع.
* * *
الحديث الثامن
عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي - رضي الله عنهم -: أنه كان هو وأبوه عند جابر بن عبد الله وعنده قوم فسألوه عن الغسل فقال: يكفيك صاعٌ، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي مَن هو أوفى منك شعرًا أو خير منك، يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أمَّنا في ثوب.
وفي لفظ: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفرغ الماء على رأسه ثلاثًا".
قال - رضي الله عنه -: الرجل الذي قال ما يكفيني هو: الحسن بن محمد بن أبي طالب - رضي الله عنه - أبوه: محمد بن الحنفية.

(1/37)


في هذا الحديث استحباب الغسل بالصاع اقتداءً بالنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ بالمُدِّ ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد"؛ متفق عليه.
وفي الحديث ما كان عليه السلف من الاحتجاج بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - والانقياد إلى ذلك، وفيه جواز الردِّ بعنف على مَن يُمارِي بغير علم، وتحذير السامعين من مثل ذلك، وفيه كراهية التنطُّع والإسراف في الماء.
قوله: ((ثم أمَّنا في ثوب)) ؛ يعني: صلَّى بنا في إزار بغير رداء، وقد روى البخاري ومسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان الثوب واسعًا فالتحف به)) ؛ يعني: في الصلاة.
ولمسلم: ((فخالِف بين طرفيه، وإن كان ضيقًا فاتَّزر به)) .
* * *
باب التيمم
الحديث الأول
عن عمران بن حصين - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ في القوم، فقال: ((يا فلان، ما منعك أن تصلي في القوم؟)) ، فقال: يا رسول الله، أصابتني جنابة ولا ماء، فقال: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) .
(التيمم) في اللغة: القصد، وفي الشرع: مسح الوجه واليدين بشيء من الصعيد؛ والأصل فيه قوله - تعالى -: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] .
وفي الحديث سؤال العالم عن الفعل المحتمل ليوضح وجه الصواب، وفيه التحريض على الصلاة في الجماعة، وفيه حسن الملاطفة والرفق في الإنكار.
قوله: ((عليك بالصعيد فإنه يكفيك)) يدلُّ على أن المتيمِّم لا يلزمه القضاء.
* * *

(1/38)


الحديث الثاني
عن عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - قال: "بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرَّغت في العصيد كما تَمَرَّغ الدابة، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال: ((إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه.
قوله: ((إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا)) فيه دليلٌ على أن الواجب في التيمُّم هي الصفة المذكورة، وفيه أن الترتيب غير مشتَرَط في التيمُّم، وفي الحديث أن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لم يصب الحق، وأنه إذا عمل بالاجتهاد لا تجب عليه الإعادة، وفيه التعليم بالفعل.
* * *
الحديث الثالث
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أُعطِيت خمسًا لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصِرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعِلت لي الأرض مسجًدا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّت لي المغانم ولم تحلَّ لأحد قبلي، وأُعطِيت الشفاعة، وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصَّة وبُعِثت إلى الناس عامة)) .

(1/39)


قوله: ((وجُعِلت لي الأرض مسجدًّا وطهورًا)) فيه دليلٌ على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمَّم للصلاة الأخرى)) ؛ رواه الدارقطني.
قال شيخ الإسلام بن تيميَّة: التيمم لوقت كلِّ صلاة إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى كمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه، هو أعدل الأقوال.
قوله: ((وأُحِلَّت لي المغانم، ولم تحلَّ لأحدٍ قبلي)) كان مَن قبلنا إذا غنموا شيئًا لم يحل لهم أن يأكلوه وجاءت نار فأحرقته، وقد قال الله - تعالى -: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا} [الأنفال: 69] .
قوله: ((وأُعطِيت الشفاعة)) ؛ أي: الشفاعة العظمى في إراحة الناس من هول الموقف بتعجيل حسابهم، وهو المقام المحمود المذكور في قوله - تعالى -: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] .
قال ابن دقيق العيد: والشفاعات خمس: أحدها: هذه وهي مختصَّة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والثانية: الشفاعة في إدخال قومٍ الجنة من دون حساب، والثالثة: قوم قد استوجبوا النار فيشفع في عدم دخولهم، والرابعة: قوم أدخلوا النار فيشفع في خروجهم
منها، والخامسة: الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها، انتهى ملخصًا.
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامَّة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) ؛ أخرجه البخاري والأربعة، زاد البيهقي: ((إنك لا تخلف الميعاد)) .
* * *
باب الحيض
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة؟

(1/40)


قال: ((لا، إن ذلك دم عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلِّي)) .
وفي رواية: ((وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) .
((الحيض)) : دم طبيعة وجبلة يُرخِيه الرحم إذا بلغت المرأة، ثم يعتادها في أوقات معلومة لحكمة تربية الولد، يخرج في الغالب في كلِّ شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك وينقص.
قال الله - تعالى -: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] .
قولها: "إني أستحاض فلا أطهر" (الاستحاضة) : جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه.
قوله: ((إن ذلك دم عِرق)) بكسر العين يسمونه العاذل.
قوله: ((ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي)) فيه دليل على أن المستحاضة تبنى على عادتها.
قوله: وفي رواية: ((وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة فيها، فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي)) فيه دليلٌ على أن المرأة إذا ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة تعتبر دم الحيض وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا انقضى قدره اغتسلت عنه ثم صار حكم دم الاستحاضة حكم الحدث تتوضَّأ لكلِّ صلاة، وروى أبو داود والنسائي عن عائشة - رضي الله عنها -: أن فاطمة
بنت أبي حبيش كانت تستحاض، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن دم الحيض دم أسود يُعرَف، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضَّئي وصلِّي)) ، انتهى.
وإذا كان للمستحاضة عادة وتمييز قدَّمت التمييز فعملتْ به وتركت العادة، وهو ظاهر كلام الخرقي ورواية عن الإمام أحمد، وإن كانت لا تمييز لها ولا عادة فإنها تقعد ستة أيام أو سبعة في كل شهر ثم تغتسل وتصلي؛ لحديث حمنة - رضي الله عنها - قالت: كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أستفتيه

(1/41)


فقال: ((إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي)) الحديث.
والمبتدِئَة تجلس عادة نسائها، قال في "المغني": روى صالح قال: قال أبي: "أوَّل ما يبدأ الدم بالمرأة تقعد ستة أيام أو سبعة وهو أكثر ما تجلسه النساء"، على حديث حمنة.
وفي الحديث جواز استفتاء المرأة بنفسها ومشافهتها للرجل فيما يتعلق بأحوال النساء وجواز سماع صوتها للحاجة.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن أم حبيبة استحيضت سبع سنين فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل لكل صلاة.
قال الحافظ: قوله: "فأمرها أن تغتسل" زاد الإسماعيلي: "وتصلي"، وهذا الأمر بالاغتسال مطلق فلا يدلُّ على التكرار، وقال الليث بن سعد في روايته عند مسلم: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تغتسل لكلِّ صلاة، ولكنه شيء فعلته هي، انتهى.
وللمستحاضة أحكامٌ تخالف الحائض: منها جواز وطئها، وكونها لا تترك الصلاة والصيام والطواف، والحائض بضد ذلك.
قوله: "فكانت تغتسل لكلِّ صلاة" فيه دليلٌ على استحباب الغسل للمستحاضة عند كل صلاة، والواجب عليها الوضوء كما في رواية للبخاري: ((وتوضيء لكل صلاة)) ، انتهى.
فإذا دخل الوقت غسلت المستحاضة فرجها وعصبته وصلت؛ لقوله في حديث أم سلمة: ((ولتستثفر ثم تصلي)) ؛ رواه أبو داود.
* * *
الحديث الثالث
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت اغتسل أنا ورسول الله

(1/42)


- صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد كلانا جنب، وكان يأمرني فأتَّزر فيباشرني وأنا حائض، وكان يُخرِج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض".
فيه جواز مباشرة الحائض فيما فوق الإزار، وفيه دليل على طهارة بدن الحائض وعرقها، وفيه أن الحائض لا تدخل المسجد، وفيه جواز اغتسال الزوجين من إناء واحد، وقد تقدم.
* * *
الحديث الرابع
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن".
فيه جواز ملامسة الحائض، وفيه إشارة إلى أن الحائض لا تقرأ القرآن، وقال البخاري "باب قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض"، وكان أبو وائل يرسل خادمة وهي حائض إلى أبي رزين فتأتيه بالمصحف فتُمسِكه بعلاقته وساق الحديث.
* * *
الحديث الخامس
عن معاذة قالت: "سألت عائشة - رضي الله عنها - فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت؟ فقلت: لست بحرورية، ولكني أسأل، فقالت: كان يصيبنا ذلك فنُؤمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة".

(1/43)


قال ابن دقيق العيد: (الحروري) نسبة إلى حروراء، وهو موضع بظاهر الكوفة اجتمع فيه أوائل الخوارج ثم كثر استعماله حتى استُعمِل في كل خارجي، ومنه قول عائشة لمعاذة: أحرورية أنت؟ وإنما قالت ذلك لأن مذهب الخوارج أن الحائض تقضي الصلاة.
قال الحافظ: والخوارج فِرَق كثيرة، لكن من أصولهم المتَّفق عليها بينهم الأخذ بما دلَّ عليه القرآن، وردُّ ما زاد عليه من الحديث مطلقًا.
قولها: "ولكني أسأل"؛ أي: سؤالاً مجرَّدًا لطلب العلم لا للتعنُّت، وفي الحديث الجواب بالنص لأنه أبلغ وأقوى وأقطع لِمَن يعارض، وبالله التوفيق.
* * *

(1/44)