خلاصة
الكلام شرح عمدة الأحكام كتاب الصيام
الحديث الأول
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه)) .
صوم رمضان أحد أركان الإسلام، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والإجماع؛ قال
الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 183- 184] الآيات.
و (الصيام) في اللغة: الإمساك، وفي الشرع: الإمساك في النهار عن الأكل
والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع.
وفي الحديث دليلٌ على النهي عن الصيام قبل رمضان بيوم أو يومين إلا لِمَن
له عادة فوافَق صومه ذلك.
قال الحافظ: قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية
الاحتياط لرمضان.
قال الترمذي لمَّا أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجَّل
الرجل بصيامٍ قبل دخول رمضان لمعنى رمضان، انتهى.
قال الحافظ: والحكمة في ذلك أن الحكم علق بالرؤية فمَن تقدَّمه بيومٍ أو
يومين فقد حاوَل الطعن في ذلك الحكم، وهذا هو المعتمَد.
ومعنى الاستثناء: أن مَن كان له ورد فقد أذن له فيه؛ لأنه اعتاده وألِفَه
وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء، ويلتحق بذلك القضاء
والنذر لوجوبهما، وفي الحديث ردٌّ على مَن يرى تقديم الصوم على الرؤية
كالرافضة، وردٌّ على مَن قال بجواز صوم النفل المطلق، وفيه بيان لمعنى قوله
(1/145)
في
الحديث الآخر: ((صوموا لرؤيته)) فإن اللام فيه للتوقيت لا للتعليل، وفيه
منع إنشاء الصوم قبل رمضان إذا كان لأجل الاحتياط، انتهى ملخصًا.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يقول: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ
ليكم فاقدِروا له)) .
قوله: ((فاقدِروا له)) ؛ أي: انظروا في أوَّل الشهر واحسبوا تمام الثلاثين
كما في رواية البخاري: ((فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العِدَّة ثلاثين)) .
وله من حديث أبي هريرة: ((فأكمِلوا عِدَّة شعبان ثلاثين)) .
وقال البخاري: "باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الهلال
فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)) ".
وقال صلة عن عمار: "مَن صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم - صلَّى الله عليه
وسلَّم"، انتهى.
واختلفت الروايات عن الإمام أحمد - رحمه الله - فيما إذا حال دون منظر
الهلال غيم أو قتر؛ فعنه يجب صومه، وعنه أن الناس تبع للإمام فإن صام صاموا
وإن أفطر أفطروا، وعنه لا يجب صومه قبل رؤية هلاله أو إكمال شعبان، واختاره
شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وقال هو مذهب أحمد المنصوص الصريح عنه، وعن صومه
منهي عنه، وهذا هو الموافق للأحاديث الصحيحة الصريحة.
* * *
الحديث الثالث
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((تسحَّروا؛ فإن في السحور بركة)) .
(1/146)
فيه دليل على استحباب السحور.
قال الحافظ: البركة في السحور تحصل بجهات متعدِّدة؛ وهي: اتِّباع السنة،
ومخالفة أهل الكتاب، والتقوِّي به على العبادة، والزيادة في النشاط،
ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، والتسبُّب بالصدقة على مَن يسأل إذ
ذاك أو يجتمع معه على الأكل، والتسبُّب للذكر والدعاء وقت مظنَّة الإجابة.
* * *
الحديث الرابع
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال:
"تسحَّرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة، قال
أنس: قلت لزيد: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية".
فيه دليلٌ على استحباب تأخير السحور.
قال الحافظ: قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت
العرب تقدِّر الأوقات بالأعمال كقولهم قدر حلب ناقة، وقدر نحر جزور؛ فعدل
زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت
العبادة بالتلاوة.
قال ابن أبي جمرة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينظر ما هو الأرفق
بأمَّته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحَّر لاتَّبعوه فيشق على بعضهم، ولو تسحَّر
في جوف الليل لشق أيضًا على بعض ممَّن يغلب عليه، فقد يفضي إلى ترك صلاة
الصبح أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر.
وفي الحديث تأنيس الفاضل أصحابه بالمؤاكلة، وجواز المشي بالليل للحاجة؛ لأن
زيد بن ثابت ما كان يبيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه الاجتماع
على السحور، انتهى ملخصًا.
* * *
(1/147)
الحديث الخامس
عن عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم".
فيه دليلٌ على صحة الصوم من الجنب سواء كان عامدًا أو ناسيًا، سواء كان
صيامه فرضًا أو تطوعًا، وفيه دليلٌ على جواز تأخير الغسل إلى بعد طلوع
الفجر، ويقاس على ذلك الحائض والنفساء إذا انقطع دمها ليلاً ثم طلع الفجر
قبل اغتسالها صحَّ صومها.
* * *
الحديث السادس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن
نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليُتِمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) .
فيه دليلٌ على أن الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا لم يفسد صومه، وفيه لطف
الله بعباده والتيسير عليهم ورفع المشقة والحرج عنهم.
* * *
الحديث السابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذا جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلكت، فقال:
(1/148)
((ما لك؟)) ، قال: وقعت على امرأتي وأنا
صائم، وفي رواية: أصبت أهلي في رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((هل تجد رقبة تعتقها؟)) ، قال: لا، قال: ((فهل تستطيع أن تصوم شهرين
متتابعين؟)) ، قال: لا، قال: ((فهل تجد إطعام ستين مسكينًا؟)) ، قال: لا،
قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن على ذلك إذ أُتِي النبي
- صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر - والعرق: المكتل (1) - قال: ((أين
السائل؟)) ، قال: أنا، قال: ((خذ هذا فتصدَّق به)) ، فقال: أعَلَى أفقر
مِنِّي يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت
أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه
الكريمة، ثم قال: ((أطعمه أهلك)) .
(الحرة) : الأرض تركبها حجارة سود.
هذا حديث جليل كثير الفوائد، قال الحافظ: وقد اعتنى به بعض المتأخِّرين
ممَّن أدركه شيوخنا، فتكلَّم عليه في مجلدين جمع فيهما ألف فائدة وفائدة،
انتهى.
والحديث دليلٌ على وجوب الكفارة على المجامع في نهار رمضان وهي عتق رقبة،
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا كما في
آية الظهار.
قال ابن دقيق العيد: استدلَّ بالحديث على أن مَن ارتكب معصية لا حدَّ فيها
وجاء مستفتيًا أنه لا يُعاقَب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه
مع اعترافه بالمعصية، ومن جهة المعنى أن مجيئة مستفتيًا يقتضي الندم
والتوبة، والتعزير استصلاح، ولا استصلاح مع الصلاح، ولأن معاقبة المستفتي
مفسدة تكون سببًا لترك الاستفتاء من الناس عند وقوعهم في مثل ذلك، وهذه
مفسدة عظيمة يجب
_________
(1) أي: الزنبيل، اهـ.
(1/149)
دفعها، انتهى.
وقال الحافظ بعد ما شرح هذا الحديث فأجاد وأفاد: وفي الحديث من الفوائد غير
ما تقدَّم، السؤال عن حكم ما يفعله المرء مخالفًا للشرع، والتحدُّث بذلك
لمصلحة معرفة الحكم، واستعمال الكناية فيما يستقبح ظهوره بصريح لفظه؛
لقوله: وقعت، وأصبت، وفيه الرفق بالمتعلِّم، والتلطُّف في التعليم،
والتألُّف على الدين، والندم على المعصية، واستشعار الخوف، وفيه الجلوس في
المسجد لغير الصلاة من المصالح الدينية كنشر العلم، وفيه جواز الضحك عند
وجود سببه، وإخبار الرجل بما يقع منه مع أهله للحاجة، وفيه الحلف لتأكيد
الكلام، وقبول قول المكلَّف مما لا يطَّلع عليه إلا من قِبَله؛ لقوله في
جواب قوله: "أفقر منَّا": ((وأطعمه أهلك)) ، ويحتمل أن يكون هناك قرينة
لصدقه، وفيه التعاون على العبادة والسعي في خلاص المسلم، وإعطاء الواحد فوق
حاجته الراهنة، وإعطاء الكفَّارة أهل بيت واحد انتهى، والله أعلم.
باب الصوم في السفر وغيره
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي - صلى الله
عليه وسلم -: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، قال: ((إن شئت فصم، وإن شئت
فأفطر)) .
فيه دليلٌ على التخيير بين الصوم والفطر في السفر، وأخرج أبو داود والحاكم
من طريق محمد بن حمزة بن عمرو عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، إني صاحب ظهر
أعالجه أسافر وأَكْرِيه، وإنه ربما صادَفَني هذا الشهر - يعني: رمضان -
وأنا أجد القوَّة، وأجدني أن أصوم أهون عليَّ من أن أؤخِّر فيكون دَيْنًا
علي، فقال: ((أي ذلك شئت يا حمزة)) .
* * *
(1/150)
الحديث الثاني
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنَّا نسافر مع النبي - صلى الله
عليه وسلم - فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم".
فيه دليل على التخيير في رمضان للمسافر بين الإفطار والصوم، وفي حديث أبي
سعيد عند مسلم: "كنَّا نغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجد
الصائم على المفطر والمفطر على الصائم، يرون أن مَن وجد قوة فصام فإن ذلك
حسن، ومَن وجد ضعفًا فأفطر أن ذلك حسن"، قال الحافظ: وهذا التفصيل هو
المعتَمَد وهو نصٌّ رافع للنزاع.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في شهر رمضان في حرٍّ شديد، حتى إذا كان أحدنا لَيضع يده على رأسه
من شدَّة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعبد
الله بن رواحة".
قال الحافظ: فيه ردٌّ على مَن قال: مَن سافر في شهر رمضان امتنع عليه
الفطر، وفيه دليلٌ على أن لا كراهية في الصوم في السفر لِمَن قوي عليه ولم
يصبه منه مشقَّة شديدة.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
على نهرٍ من ماء السماء والناس صيام في يوم صائف مشاة ونبي الله - صلى الله
عليه وسلم - على بغلة له فقال: ((اشربوا أيها الناس)) ، قال: فأبوا، قال:
((إني لست مثلكم، إني آمركم إني راكب)) ، فأبوا، فثنى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فخذه فنزل فشرب وشرب الناس وما كان يريد أن يشرب؛ رواه أحمد.
* * *
(1/151)
الحديث الرابع
عن جابر - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
سفر فرأى زحامًا ورجلاً قد ظلل عليه، فقال: ((ما هذا؟)) ، قالوا: صائم،
قال: ((ليس من البر الصيام في السفر)) .
وفي لفظٍ لمسلم: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) .
قوله: ((ليس من البر الصيام في السفر)) ، قال ابن دقيق العيد: أُخِذ من هذه
القصة أن كراهة الصوم في السفر مختصَّة بِمَن هو في مثل هذه الحالة ممَّن
يجهده الصوم ويشقُّ عليه، أو يؤدِّي به إلى ترك ما هو أَوْلَى من الصوم من
وجوه القُرَب.
وقوله: ((عليكم برخصة الله التي رخَّص لكم)) دليلٌ على أنه يستحب التمسُّك
بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها، ولا تترك على وجه التشديد والتنطُّع والتعمق
انتهى، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الخامس
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في سفر، فمنَّا الصائم ومنَّا المفطر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم
حار، وأكثرنا ظلاًّ صاحب الكساء، فمنَّا مَن يتَّقي الشمس بيده، قال: فسقط
الصوَّامون وقام المفطِرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: ((ذهب المفطرون اليوم بالأجر)) .
فيه دليلٌ على جواز الصوم في السفر وفضيلة الإفطار لِمَن يخدم أصحابه.
* * *
(1/152)
الحديث السادس
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما
أستطيع أن أقضي إلا في شعبان".
فيه دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان إلى شعبان، وقال ابن عباس: لا بأس أن
يفرق لقوله - تعالى -: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] .
قال الحافظ: وفي الحديث دليلٌ على جواز تأخير قضاء رمضان مطلقًا سواء كان
لعذر أو لغير عذر، ويؤخَذ من حرصها على ذلك في شعبان أنه لا يجوز تأخير
القضاء حتى يدخل رمضان آخر، انتهى.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "مَن فرَّط في صيام رمضان حتى أدركه
رمضان آخر فليصم هذا الذي أدركه ثم ليصم ما فاته ويطعم مع كل يوم مسكينًا"؛
رواه الدارقطني.
* * *
الحديث السابع
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) .
وأخرجه أبو داود وقال: هذا في النذر خاصة وهو قول أحمد بن حنبل.
* * *
الحديث الثامن
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: ((جاء رجل إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر،
(1/153)
أفأقضيه؟ قال: ((لو كان على أمك دين أكنت
قاضيه عنها؟)) ، قال: نعم، قال: ((فدين الله أحق أن يُقضَى)) .
وفي رواية: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - - فقالت: يا رسول
الله، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ قال: ((أفرأيت لو كان على
أمك دين فقضيتيه أكان يؤدِّي ذلك عنها؟)) ، قالت: نعم، قال: ((فصومي عن
أمك)) .
قوله: ((مَن مات وعليه صيام صام عنه وليُّه)) ، قال الحافظ: خبر بمعنى
الأمر تقديره فليصم عنه وليه، وليس هذا الأمر على الوجوب عند الجمهور.
وقد اختلف السلف في هذه المسألة؛ فأجاز الصيامَ عن الميت أصحابُ الحديث،
وعلَّق الشافعي في القديم القول به على صحَّة الحديث وهو قول أبي ثور
وجماعة من محدثي الشافعية.
وقال البيهقي في "الخلافيات": هذه المسألة ثابتة لا أعلم خلافًا بين أهل
الحديث في صحتها فوجب العمل بها، ثم ساق بسنده إلى الشافعي قال: كل ما قلت
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه فخذوا بالحديث ولا تقلِّدوني،
وقال الشافعي في الجديد ومالك وأبو حنيفة: لا يُصام عن الميت.
وقال الليث وأحمد وإسحاق وأبو عبيد: لا يُصام عنه إلا النذر؛ حملاً للعموم
الذي في حديث عائشة على المقيد في حديث ابن عباس، وليس بينهما تعارض حتى
يجمع بينهما؛ فحديث ابن عباس صورة مستقلَّة سأل عنها مَن وقعت له، وأمَّا
حديث عائشة فهو تقرير قاعدة عامة، وقد وقعت الإشارة في حديث ابن عباس إلى
نحو هذا العموم حيث قال في آخره: ((فدين الله أحق أن يُقضَى)) .
وأمَّا رمضان فيطعم عنه، ومعظم المجيزين للصيام لم يوجبوه، وإنما قالوا:
يتخيَّر الولي بين الصيام والإطعام، انتهى ملخصًا.
وقال النووي: اختلف العلماء فيمَن مات وعليه صوم واجب من رمضان أو قضاء أو
نذر أو غيره هل يقضى عنه؛ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران:
(1/154)
أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم
أصلا، والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه ويبرأ به الميت ولا يحتاج إلى
إطعام، وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صحَّحه محققو
أصحابنا الجامعون بين الفقه والحديث لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، انتهى.
وقال الشوكاني: ظاهر الأحاديث أنه يصوم عنه وليُّه وإن لم يوصِ بذلك، وأن
مَن صدق عليه اسم الولي لغةً أو شرعًا أو عرفًا صام عنه، ولا يصوم عنه مَن
ليس بولي، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث التاسع
عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال: ((لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر وأخَّروا السحور)) .
فيه دليلٌ على استحباب تعجيل الإفطار بعد تحقُّق غروب الشمس، وتأخير
السحور.
قوله: ((ما عجَّلوا الفطر)) (ما) ظرفية؛ أي: لا يزال الناس بخير مُدَّة
فعلهم ذلك امتثالاً للسنة واقفين عند حدِّها غير متنطِّعين بعقولهم ما يغير
قواعدها، وزاد أبو هريرة في هذا الحديث: "لأن اليهود والنصارى يؤخِّرون"؛
أخرجه أبو داود.
ولابن حبان والحاكم من حديث سهل: ((ولا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر
بفطرها النجوم)) .
قال الحافظ: من البدع المنكرة ما أحدث في هذا الزمان من إيقاع الأذان
الثاني قبل الفجر بنحو ثلث ساعة في رمضان، وإطفاء المصابيح التي جعلت علامة
لتحريم الأكل والشرب على مَن يريد الصيام زعما ممَّن أحدثه أنه للاحتياط في
العبادة ولا يعلم بذلك إلا آحاد الناس، وقد جرَّهم ذلك إلى أن صاروا لا
يؤذِّنون إلا بعد الغروب بدرجةٍ لتمكين الوقت - زعموا - فأخَّروا الفطر
وعجَّلوا السحور وخالَفوا السنة؛ فلذلك قلَّ عنهم الخير وكثر فيهم الشر،
والله المستعان.
* * *
(1/155)
الحديث العاشر
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - ((إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر
الصائم)) .
فيه دليل على استحباب تعجيل الفطر إذا تحقَّق غروب الشمس.
قوله: ((إذا أقبل الليل من ها هنا)) ؛ أي: من جهة المشرق ((وأدبر النهار من
ها هنا)) ؛ أي: من جهة المغرب، وعند البخاري: ((وغربت الشمس فقد أفطر
الصائم)) ؛ أي: قد حلَّ له الفطر.
قال ابن دقيق العيد: الإقبال والإدبار مثلا زمان؛ أعني: إقبال الليل وإدبار
النهار، وقد يكون أحدهما أظهر للعين في بعض المواضع فيستدلُّ بالظاهر على
الخفي، كما لو كان في جهة المغرب ما يستر البصر عن إدراك الغروب وكان
المشرق ظاهرًا بارزًا فيستدلُّ بطلوع الليل على غروب الشمس، انتهى.
* * *
الحديث الحادي عشر
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن الوصال، قالوا يا رسول الله: إنك تواصل، قال: ((إني لست مثلكم؛
إني أطعم وأسقى)) ؛ رواه أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك - رضي الله عنهم.
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: ((فأيكم أراد أن يواصل
فليواصل إلى السحر)) .
(1/156)
في الحديث دليلٌ على كراهة الوصال، وهو ألا
يفطر بين اليومين، وفيه دليل على جوازه إلى السحر إذا لم يشقَّ عليه ولم
يضعفه عن العبادة.
قوله: ((إني أُطعَم وأُسقَى)) ؛ أي: يعطيني الله قوة الآكل والشارب ويفيض
عليَّ ما يسد مسد الطعام والشراب، ومَن له أدنى ذوق وتجربة بعبادة الله
والاستغراق في مناجاته، والإقبال عليه ومشاهدته، يعلم استغناء الجسم بغذاء
القلب والروح عن كثيرٍ من الغذاء الجسماني، ولا سيما الفرح المسرور بمطلوبه
الذي قرَّت عينه بمحبوبه.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد استواء المكلَّفين في الأحكام، وأن كل
حكم ثبت في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت في حق أمته إلا ما استثني
بدليل، وفيه جواز معارضة المفتي فيما أفتى به إذا كان بخلاف حاله ولم يعلم
المستفتي بسرِّ المخالفة، وفيه الاستكشاف عن حكمة النهي، وفيه ثبوت خصائصه
- صلى الله عليه وسلم - وأن عموم قوله - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] مخصوص، وفيه أن الصحابة
كانوا يرجعون إلى فعله المعلوم صفته ويبادرون إلى الائتساء به إلاَّ فيما
نهاهم عنه، وفيه أن خصائصه لا يتأسَّى به في جميعها، وفيه بيان قدرة الله -
تعالى - على إيجاد المسببات العاديات من غير سبب ظاهر، انتهى، والله أعلم.
* * *
باب أفضل الصيام وغيره
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: أُخبِر النبي - صلى
الله عليه وسلم - أني أقول: والله لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشتُ،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنت الذي قلت ذلك؟)) ، فقلت له:
قد قلته، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك، فصم
وأفطر، ونم وقم، وصم من الشهر ثلاثة
(1/157)
أيام، فإن الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل
صيام الدهر)) ، قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر
يومين)) ، قلت: إني لأطيق أفضل من ذلك، قال: ((فصم يومًا وأفطر يومًا، فذلك
صيام داود - عليه السلام - وهو أفضل الصيام)) ، قلت: إن لأطيق أفضل من ذلك،
فقال: ((لا أفضل من ذلك)) .
وفي رواية: قال: ((لا صوم فوق صوم داود - عليه السلام - شطر الدهر، صم
يومًا وأفطر يومًا)) .
هذا الحديث يدلُّ على أن أفضل الصيام صوم يوم وإفطار يوم، وفيه دليلٌ على
كراهية الزيادة على ذلك، وفيه استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
قال الخطابي: محصَّل قصة عبد الله بن عمرو، أن الله - تعالى - لم يتعبَّد
عبده بالصوم خاصة، بل تعبَّده بأنواع من العبادات، فلو استفرغ جهده لقصَّر
في غيره، فالأَوْلَى الاقتصاد فيه؛ ليستبقي بعض القوة لغيره.
قال الحافظ: وفي قصة عبد الله بن عمرو من الفوائد غير ما تقدَّم، بيان رفق
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمته وشفقته عليهم، وإرشاده إياهم إلى
ما يصلحهم، وحثه إياهم على ما يطيقون الدوام عليه، ونهيهم عن التعمُّق في
العبادة؛ لما يخشى من إفضائه إلى الملل أو ترك البعض، وقد ذمَّ الله -
تعالى - قومًا لازموا العبادة ثم فرَّطوا فيها، وفيه الندب على الدوام على
ما وظَّفه الإنسان على نفسه من العبادة، وفيه جواز
الإخبار عن الأعمال الصالحة والأوراد ومحاسن الأعمال، ولا يخفى أن محل ذلك
عند أمن الرياء، وفيه الإشارة إلى الاقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة
والسلام.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول
(1/158)
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أحب
الصيام إلى الله صيام داود، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود؛ كان ينام نصف
الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا)) .
قال الحافظ: قال المهلب: كان داود - عليه السلام - يجمُّ نفسه بنوم أول
الليل ثم يقوم في الوقت الذي ينادي الله فيه: ((هل من سائل فأعطيه سؤله)) ،
ثم يستدرك بالنوم ما يستريح به من نصَب القيام في بقية الليل، وإنما صارت
هذه الطريقة أحب من أجل الأخذ بالرفق للنفس التي يخشى منها السآمة، وقد قال
- صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يملُّ حتى تملُّوا، والله يحبُّ أن
يديم فضله ويوالي إحسانه)) ، وإنما كان ذلك أرفق لأن النوم بعد القيام يريح
البدن ويذهب ضرر السهر وذبول الجسم، بخلاف السهر إلى الصباح، وفيه من
المصلحة أيضًا استقبال صلاة الصبح وأذكار النهار بنشاط وإقبال، انتهى،
وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني "خليلي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أُوتِر
قبل أن أنام".
فيه استحباب صلاة الضحى، واستحباب صيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، واستحباب
الإيتار قبل النوم لِمَن لم يَثِقْ بالقيام آخر الليل.
قال الحافظ: (الخليل) الصديق الخالص، الذي تخلَّلت محبَّته القلب فصارت في
خلاله؛ أي: في باطنه.
واختلف هل الخلة أرفع من المحبة أو بالعكس، وقول أبي هريرة هذا لا يعارض
قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر
خليلاً)) ؛ لأن الممتنع
(1/159)
أن يتَّخذ هو - صلى الله عليه وسلم - غيره
خليلاً لا العكس، ولا يُقال: إن المخاللة لا تتمُّ حتى تكون من الجانبين؛
لأنَّا نقول: إنما نظر الصحابي إلى أحد الجانبين فأطلق ذلك، أو لعلَّه أراد
مجرَّد الصحبة أو المحبة، قال: والحكمة في الوصية على المحافظة على ذلك
تمرين النفس على جنس الصلاة والصيام ليدخل في الواجب منها بانشراح، ولينجبر
ما لعله يقع فيه من نقص.
ومن فوائد ركعتي الضحى أنها تجزى عن الصدقة التي تصبح على مفاصل الإنسان في
كلِّ يوم، وهي ثلاثمائة وستون مفصلاً، كما أخرجه مسلم من حديث أبي ذر، وقال
فيه: ((ويجزي من ذلك ركعتا الضحى)) ، انتهى.
* * *
الحديث الرابع
عن محمد بن عباد قال: "سألت جابر بن عبد الله: أنهى النبي - صلى الله عليه
وسلم - عن صوم يوم الجمعة؟ قال: نعم".
وزاد مسلم: "ورب الكعبة".
* * *
الحديث الخامس
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: ((لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يومًا قبله أو يومًا بعده))
.
حديث جابر مطلق في النهي عن صوم يوم الجمعة، وهو محمول على صومه مفردًا،
كما بيَّن في حديث أبي هريرة فهو مقيَّد به.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعًا: ((يوم الجمعة يوم عيد، فلا تجعلوا
يوم عيدكم يوم صيامكم إلا أن تصوموا قبله أو بعده)) ؛ رواه الحاكم وغيره،
والأحاديث تدلُّ على كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم.
* * *
(1/160)
الحديث السادس
عن أبي عبيدة مولى بن أزهر - واسمه سعد بن عبيد - قال: "شهدت العيد مع عمر
بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر الذي تأكلون من
نُسُكِكم".
قال الحافظ: وفي الحديث تحريم صوم يومي العيد سواء النذر والكفارة
والتطوُّع والقضاء والتمتُّع، وهو بالإجماع، انتهى.
* * *
الحديث السابع
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - عن صوم يومين: النحر، والفطر، وعن اشتمال الصَّمَّاء، وأن يحتبي
الرجل في ثوبٍ واحد، وعن الصلاة بعد الصبح والعصر"؛ أخرجه مسلم بتمامه،
وأخرج البخاري الصوم فقط.
هذا الحديث أخرجه البخاري في هذا الباب بتمامه، وأخرجه في (باب ما يستر من
العورة) ، ولفظه: عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن اشتمال الصَّمَّاء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على
فرجه منه شيء".
قال الحافظ: قوله: "عن اشتمال الصَّمَّاء" قال أهل اللغة: هو أن يجلل جسده
بالثوب لا يرفع منه جانبًا ولا يبقي ما يخرج منه يده.
قال ابن قتيبة: سميت صمَّاء
(1/161)
لأنه يسد المنافذ كلها فتصير كالصخرة
الصمَّاء التي ليس فيها خرق.
وقال الفقهاء: هو أن يلتحف بالثوب ثم يرفعه من أحد جانبيه فيضعه على منكبيه
فيصير فرجه باديًا.
قال النووي: فعلى تفسير أهل اللغة يكون مكروهًا؛ لئلا يعرض له حاجة فيتعسر
عليه إخراج يده فيلحقه الضرر، وعلى تفسير الفقهاء يحرم؛ لانكشاف العورة.
قال الحافظ: ظاهر سياق المصنف من رواية يونس في اللباس، أن التفسير المذكور
فيها مرفوع وهو موافق لما قاله الفقهاء، ولفظه: و (الصمَّاء) أن يجعل ثوبه
على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقَّيه، وعلى تقدير أن يكون موقوفًا فهو حجَّة
على الصحيح؛ لأنه تفسيرٌ من الراوي لا يخالف ظاهر الخبر.
قوله: "وأن يحتبي" (الاحتباء) أن يقعد على أليتيه وينصب ساقيه ويلف عليه
ثوبًا، ويقال له: الحبوة، وكانت من شأن العرب، وفسَّرها في رواية يونس
المذكورة بنحو ذلك، انتهى.
* * *
الحديث الثامن
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((مَن صام يومًا في سبيل الله بَعَّدَ الله وجهه عن النار سبعين
خريفًا)) .
(الخريف) : زمانٌ معلوم من السنة، والمراد به هنا العام، والفضل المذكور
محمولٌ على مَن لم يضعفه الصوم عن الجهاد، قال ابن الجوزي: إذا أطلق ذكر في
سبيل الله فالمراد به الجهاد، وقال القرطبي: (سبيل الله) طاعة الله،
فالمراد: مَن صام قاصدًا وجه الله.
* * *
(1/162)
باب ليلة القدر
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرى رؤياكم قد تواطَأت في السبع الأواخر،
فمَن كان منكم متحرِّيها فليتحرَّها في السبع الأواخر)) .
(ليلة القدر) : هي الليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن؛ قال الله -
تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] .
قال ابن عباس وغيره: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت
العزَّة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع.
وقال البغوي: سميت ليلة القدر لأنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، يقدِّر
الله فيها أمر السنة في عباده وبلاده إلى السنة المقبلة كقوله - تعالى -:
{فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] ، انتهى.
وفي حديث أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا كانت ليلة
القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبدٍ قائم أو
قاعد يذكر الله - عزَّ وجلَّ)) ؛ ذكره ابن الجوزي.
وقد قال الله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ} الْفَجْرِ}
[القدر: 1 - 5] .
قوله: "أروا ليلة القدر في المنام"؛ أي: قيل لهم في المنام: إنها في السبع
الأواخر؛ يعني: أواخر الشهر.
قوله: ((تواطأت)) ؛ أي: توافقت وزنًا ومعنًى، قال الحافظ: وفي هذا الحديث
دلالةٌ على عظيم قدر الرؤيا، وجواز الاستناد إليها في الاستدلال على الأمور
الوجودية بشرط أن لا يخالف القواعد الشرعية.
* * *
(1/163)
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)) .
قال الحافظ: ليلة القدر منحصرة في رمضان، ثم في العشر الأخير منه، ثم في
أوتاره لا في ليلة بعينها، وهذا هو الذي يدلُّ عليه مجموع الأخبار الواردة
فيها.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عامًا حتى إذا كانت ليلة
إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: ((مَن
اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر؛ فقد رأيت هذه الليلة ثم أُنسِيتها، وقد
رأيتُني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتَمِسوها في العشر الأواخر،
والتَمِسوها في كل وتر)) ، فمطرت السماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش
فوكَف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه أثر
الماء والطين من صبح إحدى وعشرين".
قوله: "الأوسط" قال الحافظ: هكذا وقع في أكثر الروايات، والمراد العشر
الليالي، وكان من حقِّها أن توصَف بلفظ التأنيث، لكن وصفت بالمذكر على
إرادة
(1/164)
الوقت أو الزمان، والتقدير الثلث كأنه قال:
الليالي العشر التي هي الثلث الأوسط من الشهر، انتهى.
قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ لِمَن يرجح ليلة إحدى وعشرين في طلب
ليلة القدر، ومَن ذهب إلى أن ليلة القدر تنتقل في الليالي فله أن يقول:
كانت في تلك السنة ليلة إحدى وعشرين، ولا يلزم من ذلك أن تترجَّح هذه
الليلة مطلقًا، والقول بتنقُّلها حسن؛ لأن فيه جمعًا بين الأحاديث، وحثًّا
على إحياء جميع تلك الليالي، انتهى.
وقال الحافظ بعدما ذكر الاختلاف فيها على ستة وأربعين قولاً، وأرجحها كلها
أنها في وترٍ من العشر الأخير، وأنها تنتقل، وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع
وعشرين.
قال العلماء: الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسِها
بخلاف ما لو عُيِّنت لها ليلة لاقتصر عليها كما تقدَّم نحوه في ساعة
الجمعة.
قال: وفي حديث أبي سعيد من الفوائد تركُ مسح جبهة المصلِّي، وفيه جواز
السجود في الطين، وفيه الأمر بطلَب الأَوْلَى والإرشاد إلى تحصيل الأفضل،
وأن النسيان جائزٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا نقصَ عليه في ذلك
لا سيَّما فيما لم يؤذَن له في تبليغه، وقد يكون في ذلك مصلحة تتعلَّق
بالتشريع؛ كما في السهو في الصلاة، أو بالاجتهاد في العبادة؛ كما في هذه
القصة، وفيه استعمال رمضان بدون شهر، واستحباب الاعتكاف فيه وترجيح اعتكاف
العشر الأخير، وأن من الرؤيا ما يقع تعبيره مطابقًا، وترتُّب الأحكام على
رؤيا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام.
* * *
باب الاعتكاف
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله - تعالى - ثم
(1/165)
اعتكف أزواجه من بعده.
وفي لفظ: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف في كلِّ رمضان، فإذا
صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه.
(الاعتكاف) : هو المقام في المسجد لطاعة الله - تعالى - على صفة مخصوصة،
وهو قربة وطاعة؛ قال الله - تعالى -: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، وقال - تعالى -:
{وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] .
وهو في اللغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه، برًّا كان أو غيره، ومنه قوله -
تعالى -: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
[الأنبياء: 52] .
قال ابن دقيق العيد: وحديث عائشة فيه استحباب مطلق الاعتكاف، واستحبابه في
رمضان بخصوصه، وفي العشر الأواخر بخصوصها، وفيه تأكيد هذا الاستحباب بما
أشعر به اللفظ من المداوَمَة، وبما صرَّح به في الرواية الأخرى من قولها:
"في كل رمضان"، وبما دلَّ عليه من عمل أزواجه من بعده، وفيه دليلٌ على
استواء الرجل والمرأة في هذا الحكم، انتهى.
قوله: "فإذا صلى الغداة جاء مكانه الذي اعتكف فيه" فيه أن أوَّل الوقت الذي
يدخل فيه المعتكف بعد صلاة الصبح، وهو قول الأوزاعي والليث والثوري، ورواية
عن الإمام أحمد، وبه قال الأوزاعي وإسحاق، وقال الجمهور: يدخل قبل غروب
الشمس.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتَكَفه، وأنه أمر بخِبَاء فضُرِب
لمَّا أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها
فضُرِب، وأمرت غيرها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبائها
فضُرِب، فلمَّا صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفجر نظر فإذا
الأخبية فقال: ((البر يردن)) ، فأمر بخبائه ففوض وترك الاعتكاف في شهر
رمضان حتى اعتكف في العشر الأواخر من شوال"؛ رواه
(1/166)
الجماعة إلا الترمذي، لكن له منه: "كان إذا
أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه".
وفي اعتكافه - صلى الله عليه وسلم - في شوال دليلٌ على استحباب قضاء
النوافل المعتادة إذا فاتت، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - أنها كانت تُرَجِّل النبي - صلى الله عليه وسلم
- وهي حائض وهو معتكِف في المسجد وهي في حجرتها يناولها رأسه، وفي رواية:
وكان لا يدخل البيت إلا لحاجه الإنسان، وفي رواية: أن عائشة قالت: "إني كنت
لا أدخل البيت إلا للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه إلا وأنا مارَّه".
في الحديث دليلٌ على أن خروج رأس المعتكف من المسجد لا يُبطِل اعتكافه،
وفيه دليلٌ على طهارة بدن الحائض، وفيه دليلٌ على عدم خروج المعتكِف إلاَّ
لما لا بُدَّ منه، وفيه جواز عيادة المريض على وجه المرور من غير تعريج.
قوله: "تُرَجِّل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ أي: تمشِّط رأسه
وتدهنه.
قال الحافظ: وفي الحديث جواز التنظُّف والتطيُّب والغسل والحلق والتزيُّن
إلحاقًا بالترجُّل، والجمهور على أنه لا يُكرَه في المسجد.
قوله: "وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" قال الحافظ: وفسَّرها الزهري
بالبول والغائط، وقد اتَّفقوا على استثنائهما، واختلفوا في غيرهما من
الحاجات كالأكل والشرب، ولو خرج لهما فتوضَّأ خارج المسجد لم يبطل، ويلتحق
بهما القيء والفصد لِمَن احتاج إليه.
* * *
(1/167)
الحديث الثالث
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إني كنت نذرت
في الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية: يومًا - في المسجد الحرام، قال:
((فأوفِ بنذرك)) ، ولم يذكر بعض الرواة يومًا ولا ليلة.
استدل بالحديث على أن الصوم ليس بشرطٍ في الاعتكاف؛ لأن الليل ليس وقتًا
للصوم، فلو كان شرطًا لأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيه دليلٌ على
لزوم الوفاء بنذر القربة، وفيه أنه لا يشترط للاعتكاف حدٌّ معين.
* * *
الحديث الرابع
عن صفية بنت حيي - رضي الله عنها - قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - معتكِفًا، فأتيته أزوره ليلاً، فحدثته، ثم قمت لأنقلب، فقام معي
ليقلبني، وكان مسكنها في بيت أسامة بن زيد، فمرَّ رجلان من الأنصار، فلمَّا
رأَيَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرَعَا في المشي، فقال: ((على
رِسْلِكُمَا، إنها هي صفية بنت حُيَيٍّ)) ، فقالا: سبحان الله يا رسول
الله، فقال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خفتُ أن يقذف في
قلوبكما شرًّا - أو قال: شيئًا)) ، وفي رواية: أنها جاءت تزوره في اعتكافه
في المسجد في العشر
(1/168)
الأواخر من رمضان، فتحدَّثت عنده ساعة، ثم
قامت تنقلب، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - معها يقلبها حتى إذا بلغ
باب المسجد عند باب أم سلمة ... ثم ذكره بمعناه.
فيه دليلٌ على جواز زيارة المرأة للمعتكِف، وجواز التحدُّث معه، والمشي مع
الزائر.
قولها: "يقلبني"؛ أي: يردُّها إلى منزلها.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكِف بالأمور المباحة؛
من تشييع زائره، والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف
بالزوجة، وزيارة المرأة للمعتكف، وبيان شفَقَتِه - صلى الله عليه وسلم -
على أمته، وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم، وفيه التحرُّز من التعرُّض
لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار.
قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكِّد في حق العلماء ومَن يقتدي به، فلا يجوز
لهم أن يفعلوا فعلاً يوجِب سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مخلص؛ لأن ذلك سبب
إلى إبطال الانتفاع يعلمهم، ومن ثَمَّ قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن
يبيِّن للمحكوم عليه وجهَ الحكم إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، ومن هنا
يظهر خطأ مَن يتظاهر بمظاهر السوء ويعتذر بأنه يجرِّب بذلك على نفسه، وقد
عَظُم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم.
وفيه إضافة بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهن، وفيه جواز خروج
المرأة ليلاً، وفيه قول: سبحان الله عند التعجُّب، وقد وقعت في الحديث
لتعظيم الأمر وتهويله وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم، انتهى وبالله
التوفيق.
* * *
(1/169)
|