خلاصة
الكلام شرح عمدة الأحكام كتاب الحج
باب المواقيت
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وقَّت لأهل المدينة ذا الحُلَيفة، ولأهل الشام الجُحْفَة، ولأهل نجد
قَرْنَ المنازل، ولأهل اليمن يَلَمْلَم، هن لهن ولِمَن أتى عليهن من غير
أهلهن ممَّن أراد الحج أو العمرة، ومَن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهلُ
مكة من مكة.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((يُهَلِّل أهل المدينة من ذي الحُلَيْفَة، وأهل الشام من
الجُحْفَة، وأهل نجد من قَرْن)) ، قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قال: ((ويُهِلُّ أهل اليمن من يَلَمْلَم)) .
الحج أحد أركان الإسلام الخمسة؛ قال الله - تعالى -: {وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، و (السبيل)
: الزاد
(1/170)
والراحلة، وقال - تعالى -: {وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، والحج في اللغة: القصد،
وهو في الشرع: القصد إلى البيت الحرام بأعمال مخصوصة.
قوله: "باب المواقيت" هي جمع ميقات، قوله: "وقَّت لأهل المدينة ذا الحليفة
... " إلى آخره؛ أي: حدَّد هذه المواضع للإحرام، والتوقيت: التحديد
والتعيين، وقوله في حديث ابن عمر: ((يُهِلُّ)) ؛ أي: يحرم، قال الحافظ:
المُهَلُّ موضع الإهلال، وأصله رفع الصوت؛ لأنهم كانوا يرفعون أصواتهم
بالتلبية عند الإحرام، ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا.
قوله: ((هن لهن)) ؛ أي: المواقيت للجماعات، وفي رواية: ((هن لهم)) ؛ أي:
المواقيت المذكورة لأهل البلاد المذكورة، قال الحافظ: ويدخل في ذلك مَن دخل
بلدًا ذات ميقات ومَن لم يدخل، فالذي لا يدخل لا إشكال فيه إذا لم يكن له
ميقات معين، والذي يدخل فيه خلافٌ كالشامي إذا أراد الحج فدخل المدينة،
فميقاته ذو الحليفة لاجتيازه عليها، ولا يؤخر حتى يأتي الجُحْفَة التي هي
ميقاته الأصلي، فإن أخَّر أساء ولزمه دم عند الجمهور.
قوله: ((ممن أراد الحج أو العمرة)) قال الحافظ: فيه دلالة على جواز دخول
مكة بغير إحرام.
قوله: ((ومَن كان دون ذلك)) ؛ أي: بين الميقات ومكة، ((فمن حيث أنشأ)) ؛
أي: فميقاته من حيث إنشاء الإحرام؛ إذ السفر من مكانه إلى مكة.
قال الحافظ: ويؤخذ منه أن مَن سافَر غير قاصد للنسك فجاوَز الميقات ثم بدَا
له بعد ذلك النُّسُك أنه يُحرِم من حيث تجدَّد له القصد ولا يجب عليه
الرجوع إلى الميقات؛ لقوله: ((فمن حيث أنشأ)) .
قوله: ((حتى أهل مكة من مكة)) قال الحافظ: أي: لا يحتاجون إلى الخروج إلى
الميقات للإحرام منه، بل يحرمون من مكة كالآفاقي الذي بين الميقات ومكة
وهذا خاصٌّ بالحاج، وأمَّا المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل،
واختلف فيمن جاوز الميقات مريدًا للنسك فلم يحرم، فقال الجمهور: يأثم
ويلزمه دم، قال الجمهور: لو رجع إلى الميقات قبل التلبُّس بالنُّسُك سقط
عنه الدم، انتهى ملخَّصًا.
فائدة:
قال الحافظ: الأفضل في كلِّ ميقات أن يحرم من طرفه الأبعد من مكة، فلو أحرم
من طرفه الأقرب جاز.
(1/171)
تتمَّة:
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لما فُتِح هذان المصران أتوا عمر،
فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّ لأهل
نجد قرنًا وهو جور عن
طريقنا، وإنَّا إن أردنا قرنًا شقَّ علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم،
فحدَّ لهم ذات عرق".
قال الحافظ: والمصران: الكوفة، والبصرة، وهما سرتا العراق، والمراد بفتحهما
غلَبَة المسلمين على مكان أرضهما، وإلاَّ فهما من تمصير المسلمين، انتهى.
قال ابن عبد البر: أجمع أهل العلم على أن إحرام أهل العراق من ذات عرق
إحرام من الميقات.
قال الموفق: ومَن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذَى أقرب المواقيت إليه
أحرم، انتهى، والله أعلم.
* * *
باب ما يلبس المحرم من ثياب
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما
يلبس المحرم من الثياب؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص ولا
العمائم ولا السراويل ولا البرانس ولا الخفاف، إلا مَن لا يجد نعلين فليلبس
خفَّين وليقطعهما من أسفل الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئًا مسَّه زعفران
أو وَرْسٌ)) ، وللبخاري: ((ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفَّازين)) .
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: سمعت النبي - صلى الله
(1/172)
عليه وسلم - يخطب بعرفات: ((مَن لم يجد
نعلَين فليلبس الخفَّين، ومَن لم يجد إزارًا فليلبس السراويل)) .
قوله: "أن رجلاً قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال - صلى
الله عليه وسلم -: ((لا يلبس القُمُص ... )) إلى آخره"، قال النووي، قال
العلماء: هذا الجواب من بديع الكلام وأجزله؛ لأن ما لا يلبس منحصِر فحصَل
التصريح به، وأمَّا الملبوس الجائز فغير منحصِر، فقال: لا يلبس كذا؛ أي:
ويلبس ما سواه، انتهى.
قال عياض: أجمع المسلمون على أن ما ذكر في هذا الحديث لا يلبسه المحرم،
وأنه نبَّه بالقميص والسراويل على كلِّ مَخِيط، وبالعمائم والبرانس على
كلِّ ما يغطِّي الرأس بهم خيطًا أو غيره، وبالخفاف على كلِّ ما يستر الرجل.
قال الحافظ: والمراد بتحريم المَخِيط ما يلبس على الموضع الذي جعل له ولو
في بعض البدن، فأمَّا لو ارتدى بالقميص مثلاً فلا بأس.
وقال ابن المنذر: أجمعوا على أن للمرأة لبس جميع ما ذكر، وإنما تشترك مع
الرجل في منع الثوب الذي مسَّه الزعفران أو الوَرْسُ.
قال الحافظ: ومما لا يضرُّ الانغماس في الماء، فإنه لا يسمى لابسًا، وكذا
ستر الرأس باليد.
قوله: ((إلا مَن لا يجد نعلين فليلبس خفَّين)) ، وفي رواية: ((وليُحرِم
أحدكم في إزار ورداء ونعلَين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفَّين)) .
قوله: ((وليقطعهما من أسفل الكعبين)) ، وفي رواية: ((حتى يكونا تحت
الكعبين)) ، قال الحافظ: والمراد كشف الكعبين في الإحرام وهما العظمان
الناتئان عند مِفْصَل الساق والقدَم، وظاهر الحديث على أنه لا فدية على مَن
لبسهما إذا لم يجد النعلين، واستدلَّ به على اشتراط القطع، خلافًا للمشهور
عن أحمد؛ فإنه أجاز لبس الخفين من غير قطع لإطلاق حديث ابن عباس، وتُعُقِّب
بأنه موافق على قاعدة حمل المطلق على المقيَّد فينبغي أن يقول بها هنا.
وقال الشافعي: زيادة ابن عمر لا تخالف ابن عباس؛ لاحتمال أن تكون عزَبَت
عنه، أو شك، أو قالها فلم ينقلها عنه بعض رواته، انتهى.
وقال الموفق: حديث ابن عمر متضمِّن لزيادةٍ على حديث ابن عباس والزيادة من
الثقة مقبولة، والأَوْلَى قطعهما؛ عملاً بالحديث الصحيح وخروجًا من الخلاف
وأخذًا بالاحتياط، انتهى.
قال الحافظ: قال العلماء:
(1/173)
والحكمة في منع المحرم من اللباس والطيب
البعدُ عن الترفُّه والاتِّصاف بصفة الخاشع، وليتذكَّر بالتجرُّد القدوم
على ربه؛ فيكون أقرب إلى مراقبته وامتناعه من ارتكاب المحظورات.
قوله: ((ولا يلبس من الثياب شيئًا مسه زعفران أو وَرْسٌ)) قال الحافظ: هو
نبتٌ أصفر طيِّب الريح يُصبَغ به.
قال ابن العربي: ليس الوَرْسُ بطيب ولكنه نبَّه به على اجتناب الطيب وما
يشبهه في ملاءمة الشمِّ، فيُؤخَذ منه تحريم أنواع الطيب على المحرِم وهو
مجمَع عليه فيما يقصد به التطيُّب، انتهى.
قال مالك في "الموطأ": إنما يُكرَه لبس المصبغات؛ لأنها تنفض.
وقال الشافعية: إذا صار الثوب بحيث لو أصابه الماء لم تَفُحْ له رائحة لم
يمنع.
قال الحافظ: والحجَّة فيه حديث ابن عباس بلفظ: "ولم ينهَ عن شيء من الثياب
إلا المزعفرة التي تردع الجلد"؛ رواه البخاري.
وأمَّا المغسول فقال الجمهور: إذا ذهبت الرائحة جاز، انتهى.
وقال البخاري: (باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجَّل
ويدهن) .
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة،
ويتداوَى بما يأكل الزيت والسمن.
وقال عطاء: يتختَّم ويلبس الهِمْيَان، وطاف ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو
محرِم وقد حزم على بطنه بثوب، ولم ترَ عائشة - رضي الله عنها - بالتبان
بأسًا للذين يرحلون هودجها، ثم ذكر حديث عائشة: "كنت أطيِّب رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت".
قال الحافظ: واختلف في الريحان؛ فقال إسحاق: يباح، وتوقَّف أحمد، وقال
الشافعي: يحرم، وكرهه مالك والحنفية.
ومنشأ الخلاف أن كل ما يُتَّخذ منه الطيب يحرم بلا خلاف، وأما غيره فلا.
قال: و (الهِمْيَان) يشبه تكة السراويل، يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط،
قال ابن عبد البر: أجاز ذلك فقهاء الأمصار، وأجازوا عقده إذا لم يمكن إدخال
بعضه في بعض.
قال الحافظ: والتُّبَّان: سراويل قصيرة بغير أكمام، وكأنه هذا رأي رأتْه
عائشة، وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم،
انتهى.
وعن يعلى بن أمية أنه قال لعمر - رضي الله عنه -: "أرِني النبي حين يُوحَى
إليه، قال: فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجِعْرَانة ومعه نفرٌ من
أصحابه، جاءه رجل فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف ترى في
رجل أحرم بعمرة وهو متضمِّخ بطيب؟ فسكت النبي
(1/174)
-صلى الله عليه وسلم - ساعة، فجاءه الوحي،
فأشار عمر - رضي الله عنه - إلى يعلى، فجاء يعلى وعلي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ثوب قد أظلَّ به، فأدخل رأسه، فإذا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - محمر الوجه وهو يغطُّ، ثم سُرِّي عنه، فقال: ((أين الذي سأل عن
العمرة؟)) ، فأتى بالرجل فقال: ((اغسل الطِّيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك
الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجَّتك)) ، قلت لعطاء: أراد الإنقاء حين
أمره أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم"؛ رواه البخاري.
قال الحافظ: واستدلَّ بحديث يعلى على منع استدامة الطيب بعد الإحرام للأمر
بغسل أثره من الثوب والبدن، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن، وأجاب الجمهور
بأن قصة يعلى كانت بالجِعْرَانة، وهي في سنة ثمانٍ بلا خلاف، وقد ثبت عن
عائشة أنها طيَّبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديها عند إحرامه،
وكان ذلك في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من
الأمر، وبأن المأمور بغسله في قصة يعلى إنما هو الخلوق لا مطلق الطيب،
فلعلَّ علة الأمر فيه ما خالَطَه من الزعفران، وقد ثبت النهي عن تَزَعْفُر
الرجل مطلقًا، محرمًا أو غير محرم، انتهى.
قال الموفق: وإن طيَّب ثوبه فله استدامة لبسه ما لم ينزعه، فإن نزعه لم يكن
له أن يلبسه، فإن لبسه افتدى؛ لأن الإحرام يمنع ابتداء الطيب ولبس المطيب
دون الاستدامة، وكذلك إن نقل الطيب من موضع من بدنه إلى موضع آخر افتدى؛
لأنه تطيب في إحرامه، وكذا إن تعمَّد مسَّه بيده أو نحَّاه من موضعه ثم
ردَّه إليه، انتهى.
قلت: وما ذكره العلماء - رحمهم الله تعالى - من تعمُّد مس الطيب الذي ببدنه
وهو محرم لا يحترز منه كثيرٌ من الناس، وقد لا يتطيَّب بعض الجَهَلة حتى
يحرم، فإذا كان المقصود من ترك الطيب للمحرم عدم الترفُّه فالأولى عندي ترك
استدامته كما قال مالك خصوصًا لراكبي السيارات، فإنهم يقطعون الطريق في
مسافة قليلة، والطيب عند الإحرام إنما يُقصَد به دفع الرائحة الكريهة بعد
ذلك، والله أعلم.
وقد روى ابن ماجه في "سننه" والبغوي في "شرح السنة" عن ابن عمر قال: سأل
رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما الحاج؟ قال: ((الشَّعِثُ
التَّفِلُ)) .
وعن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان يوم عرفة
إن الله
(1/175)
ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم
الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كل فجٍّ
عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم)) ؛ الحديث رواه في "شرح السنة".
قوله: ((ولا تنتقب المرأة ولا تلبس القفَّازين)) النقاب عند العرب هو الذي
يبدو منه محجر العين، والقفَّازان: تثنيه قفَّاز؛ شيء يعمل لليدين يحشى
بقطن تلبسهما المرأة للبرد.
قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المرأة تلبس المخيط كله والخفاف، وأن لها أن
تغطي رأسها وتستر شعرها، إلا وجهها فتسدل عليه الثوب سدلاً خفيفًا تستر به
عن نظر الرجال ولا تخمره، إلا ما روي عن فاطمة بنت المنذر قالت: "كنَّا
نخمِّر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر"؛ تعني: جدتها.
قال: ويحتمل أن يكون ذلك التخمير سدلاً، كما جاء عن عائشة قالت: "كنَّا مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا مرَّ بنا ركب سدلنا الثوب على وجوهنا
ونحن محرمات فإذا جاوزنا رفعناه"، انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: ويجوز للمرأة المحرمة أن تغطي وجهها بملاصق
خلا النقاب والبرقع، ويجوز عقد الرداء في الإحرام ولا فدية عليه فيه،
انتهى.
تتمَّة:
عن جابر - رضي الله عنه - قال: "حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
معنا النساء والصبيان، فلبَّينا عن الصبيان ورمينا عنهم"؛ رواه أحمد وابن
ماجه.
قال الشوكاني، قال ابن بطال: أجمع أئمَّة الفتوى على سقوط الفرض عن الصبي
حتى يبلغ، إلا أنه إذا حج كان له تطوُّعًا عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إحرامه، ولا يلزمه شيء من محظورات الإحرام، وإنما
يحجُّ به على جهة التدريب، وقد احتج أصحاب الشافعي بحديث ابن عباس على أن
الأم تُحرِم عن الصبي، وقال ابن الصباغ ليس في الحديث دلالة على ذلك،
انتهى.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لقي
ركبًا بالروحاء، فقال: ((مَن القوم؟)) ، قالوا: المسلمون، قالوا: مَن أنت؟
فقال: ((رسول الله)) ، فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال:
((نعم، ولك أجر)) ؛ رواه مسلم.
* * *
(1/176)
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن تلبية رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة
لك والملك لا شريك لك)) ، قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها ((لبيك
وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل)) ؛ معنى (التلبية) : الإجابة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لما فرغ إبراهيم - عليه السلام - من
بناء البيت قيل له: أذِّن في الناس بالحج، قال: ربِّ، وما يبلغ صوتي؟ قال:
أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس، كُتِب عليكم الحج
إلى البيت العتيق، فسمعه مَن بين السماء والأرض، أفلا ترون أن الناس يجيئون
من أقصى الأرض يلبون"؛ رواه ابن أبي حاتم.
وفي رواية: "فأجابوا بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأوَّل مَن
أجابه أهل اليمن، فليس حاجٌّ يحجُّ من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا مَن
كان أجاب إبراهيم يومئذ".
قال ابن المنير: وفي مشروعية التلبية تنبيهٌ على إكرام الله - تعالى -
لعباده، بأن وفودهم على بيته إنما كان باستدعاءٍ منه - سبحانه وتعالى.
قوله: "وكان ابن عمر يزيد فيها ... " إلى آخره، فيه دليلٌ على جواز الزيادة
على ما وَرَد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال الشافعي: ولا
ضيق على أحد في قول ما جاء عن ابن عمر وغيره من تعظيم الله ودعائه، غير أن
الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
قال الحافظ: وهو شيبهٌ بحال الدعاء في التشهُّد فإنه قال فيه: ((ثم
ليتخيَّر من المسألة والثناء ما شاء)) ؛ أي: بعد أن يفرغ من المرفوع،
انتهى.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان من تلبية رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((لبيك إله الحق لبيك)) ؛ أخرجه النسائي وابن ماجه.
قوله: ((لبيك وسعديك)) ؛ أي: إجابة بعد إجابة، وإسعادًا بعد إسعاد.
* * *
(1/177)
الحديث الرابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((لا يحلُّ لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا
ومعها ذو محرم)) .
قوله: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)) خصَّ المؤمنة بالذكر لأن
صاحب الإيمان هو الذي ينتفع بخطاب الشارع وينقاد له.
قوله: ((أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم)) وفي حديث ابن عباس،
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا
يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم)) ، فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن
أخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج، فقال: ((أخرج معها)) .
قال الموفق: و (المحرم) : زوجها، أو مَن تحرم عليه على التأييد، بنَسَب أو
سبب مباح.
قال الحافظ: واستدلَّ به على عدم جواز السفر للمرأة بلا محرم، وهو إجماعٌ
في غير الحج والعمرة والخروج من دار الشرك، ومنهم مَن جعل ذلك من شرائط
الحج.
قال أبو الطيب الطبري: الشرائط التي يجب بها الحج على الرجل يجب بها على
المرأة، فإذا أرادت أن تؤدِّيه فلا يجوز لها إلا من محرم أو زوج أو نسوة
ثقات، انتهى، والله أعلم.
* * *
باب الفدية
الحديث الأول
عن عبد الله بن مغفل قال: "جلست إلى كعب بن عجرة فسألته عن الفدية فقال:
نزلت فيَّ خاصة وهي لكم عامة، حملت إلى رسول
(1/178)
الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر
على وجهي، فقال: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى - أو ما كنت أرى الجهد
بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟)) ، فقلت: لا، قال: ((فصُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم
ستة مساكين، لكلِّ مسكين نصف صاع)) ، وفي رواية: "أمره رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - أن يطعم فرقًا بين ستة مساكين أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة
أيام".
قال الله - تعالى -: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ
أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا
رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ
مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ
صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] .
قال مجاهد وغيره: الإحصار من عدو أو مرض أو كسر.
قال البغوي: قوله - تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] ؛ معناه: لا تحلقوا رؤوسكم في حال
الإحرام إلا أن تضطرُّوا إلى حلقه لمرض أو لأذًى في الرأس من هوام أو صداع،
انتهى.
قال الموفق: ومَن أحصر بمضر أو ذهاب نفقة لم يكن له التحلُّل، فإن فاته
الحج تحلَّل بعمرة، ويحتمل أنه يجوز له التحلُّل كمَن حصره العدو، انتهى.
قوله: "ويحتمل أنه يجوز له التحلل، هو رواية عن أحمد، وروى عن ابن مسعود
وهو قول عطاء والنخعي والثوري وأصحاب الرأي وشيخ الإسلام ابن تيميَّة.
قال الزركشي: ولعله أظهر؛ لظاهر قوله - تعالى -: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ}
[البقرة: 196] ، ولحديث الحجاج بن عمرو، انتهى.
والحديث رواه أحمد عن عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه -
قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن كسر أو وجع أو عرج
فقد حلَّ وعليه حجة أخرى)) ، قال فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا:
صدق.
قوله: ((ما كنت أرى الوجع بلغ بك ما أرى)) ، أو: ((ما كنت أرى الجهد بلغ
منك ما أرى)) ، شكٌّ من الراوي، هل قال: الوجع أو الجهد.
و (الجَهْد) بالفتح: المشقَّة.
(1/179)
قوله: ((أتجد شاة)) ، فقلت: لا، قال ابن
عبد البر: فيه الإشارة إلى ترجيح الترتيب لا إيجابه.
قوله: ((فصُمْ ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع)) ؛ أي: من
كل شيء، ولأحمد: ((لكل مسكين نصف صاع من طعام)) .
قوله: "نزلت في خاصة وهي لكم عامة"، في رواية عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،
عن كعب بن عجرة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رآه وأنه يسقط على
وجهه، فقال: ((أيؤذيك هوامك؟)) ، قال: نعم، فأمره أن يحلق وهو بالحديبية،
ولم يتبيَّن لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله
الفدية، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقًا بين ستة، أو
يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام"، قال الحافظ: والصيام المطلق في الآية مقيد
بما ثبت في الحديث بالثلاثة.
قال ابن التين وغيره: جعل الشارع هنا صوم يوم معادلاً بصاع.
وفي الفطر في رمضان عدل مُدٍّ، وكذا في الظهار والجماع رمضان، وفي كفارة
اليمين بثلاثة أمداد وثلث، وفي ذلك أقوى دليل على أن القياس لا يدخل في
الحدود والتقديرات.
قال: وفي حديث كعب بن عجرة من الفوائد أن السنة مبيِّنة لمجمل الكتاب
لإطلاق الفدية في القرآن وتقييدها بالسنَّة، وتحريم حلق الرأس على المحرم،
والرخصة له في حلقه إذا آذَاه القمل أو غيره من الأوجاع، وفيه تلطُّف
الكبير
بأصحابه وعنايته بأحوالهم وتفقُّده لهم، وإذا رأى ببعض أتباعه ضررًا سأل
عنه وأرشده إلى المخرج منه، انتهى.
واستدلَّ به على أن الفدية لا يتعيِّن لها مكان، وبه قال أكثر التابعين.
قال الموفَّق: وكلُّ هدى أو إطعام فهو لمساكين الحرم إذا قدر على إيصاله
إليهم إلا فدية الأذى واللبس ونحوهما إذا وجد سببها في الحلِّ فيفرقها حيث
وجد سببها، ودم الإحصار يخرجه حيث أحصر، وأمَّا الصيام فيجزيه بكل مكان،
انتهى، والله أعلم.
* * *
باب حرمة مكة
الحديث الأول
عن أبي شريح خويلد بن عمرو الخزاعي العدوي - رضي الله عنه - أنه
(1/180)
قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث
البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدِّثك قولاً قام به رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - الغد من يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته
عيناي حين تكلم به، أنه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((إن مكة حرَّمها
الله يوم خلق السموات والأرض ولم يحرمها الناس، فلا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله
واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا، ولا يعضد بها شجرة، فإنْ أحدٌ ترخَّص بقتال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن
لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس،
فليبلغ الشاهد الغائب)) .
فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن
الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدمٍ ولا فارًّا بخربة)) ، ((الخربة)) :
بالخاء المعجمة والراء المهملة، قيل: الجناية، وقيل: البلية، وقيل: التهمة،
وأصلها في سرقة الإبل، قال الشاعر:
وَالْخَارِبُ اللِّصُّ يُحِبُّ الْخَارِب
قوله: "وهو يبعث البعوث إلى مكة"؛ أي: يرسل الجيوش إلى مكة لقتال عبد الله
بن الزبير؛ لكونه امتنع عن مبايعة يزيد بن معاوية واعتصم بالحرم، وكان عمرو
والي يزيد على المدينة.
قال الحافظ: عمرو ليست له صحبة، ولا كان من التابعين بإحسان، وهو المعروف
بالأشدق.
قوله: "ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - الغد من يوم الفتح"؛ أي: ثاني يوم الفتح.
(1/181)
قال الحافظ: يُستَفَاد منه حسن التلطُّف في
مخاطبة السلطان؛ ليكون أدعى لقبوله النصيحة، وأن السلطان لا يُخاطَب إلا
بعد استئذانه، ولا سيَّما إذا كان في أمرٍ يعترض به عليه، فترك ذلك والغلظة
له يكون سببًا لإثارة نفسه ومعاندة مَن يخاطبه.
قوله: "فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به" فيه إشارة إلى
بيان حفظه له من جميع الوجوه.
قوله: "أنه حمد وأثنى عليه" قال الحافظ: ويؤخذ منه استحباب الثناء بين يدي
تعليم العلم وتبيين الأحكام والخطبة في الأمور المهمة.
قوله: ((إن مكة حرَّمها الله)) قال الحافظ: أي: حكَم بتحريمها وقضاه،
وظاهره أن حكم الله - تعالى - في مكة أن لا يقاتل أهلها، ويؤمن مَن استجار
بها ولا يتعرَّض له، وهو أحد الأقوال المفسِّرين في قوله - تعالى -:
{وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67] .
قوله: ((ولم يحرمها الناس)) ؛ أي: إن تحريمها ثابتٌ بالشرع لا مدخل للعقل
فيه، أو المراد أنها من محرَّمات الله فيجب امتثال ذلك، وليس من محرَّمات
الناس؛ يعني: في الجاهلية كما حرَّموا أشياء من عند أنفسهم.
قوله: ((فلا يحلُّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر)) قال الحافظ: فيه تنبيهٌ
على الامتثال؛ لأن مَن آمَن بالله لزمته طاعته، ومَن آمَن باليوم الآخر
لزِمَه امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه؛ خوف الحساب عليه.
قوله: ((أن يسفك بها دمًا)) ، استدلَّ به على تحريم القتل والقتال بمكة.
قوله: ((ولا يعضد بها شجرة)) ؛ أي: لا يقطع.
قال القرطبي: خصَّ الفقهاء الشجر المنهي عن قطعه بما ينبته الله - تعالى -
من غير صنع آدمي؛ فأمَّا ما ينبت بمعالجة آدمي فاختلف فيه والجمهور على
الجواز، انتهى.
واختلفوا في جزاء ما قطع من النوع الأول؛ فقال مالك: لا جزاء فيه بل يأثم،
وقال عطاء: يستغفر، وقال أبو حنيفة: يؤخذ بقيمته هدي، وقال الشافعي: في
العظيمة بقرة، وفيما دونها شاة، وقال الموفق: ومَن قلعه ضَمِن الشجرة
الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والحشيش بقيمته، والغصن بما نقص، وقال
أيضًا: ولا بأس بالانتفاع بما انكسر من الأغصان وانقطع من الشجر بغير صنع
آدمي ولا بما يسقط من الورق، نص عليه أحمد، ولا نعلم فيه خلافًا.
قوله: ((فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن
الله أذن لرسوله ولم يأذن
(1/182)
لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار)) قال
الحافظ: مقدارها ما بين طلوع الشمس إلى صلاة العصر، ولفظ الحديث عند أحمد
من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: لما فتحت مكة قال: "كفوا السلاح
إلا خزاعة عن بني بكر فأَذِن لهم حتى صلى العصر، ثم قال: كفوا السلاح، فلقي
رجل من خزاعة رجلاً من بني بكر من غَدٍ بالمزدلفة فقتله، فبلغ ذلك رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فقام خطيبًا فقال - ورأيته مسندًا ظهره إلى
الكعبة ... فذكر الحديث.
قوله: ((وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس)) ، في رواية: ((ثم هي حرام
إلى يوم القيامة)) .
قوله: ((فليبلغ الشاهد الغائب)) فيه دليلٌ على وجوب تبليغ العلم، وعلى قبول
خبر الواحد.
قوله: "أنا أعلم بذلك يا أبا شريح" قال ابن حزم: لا كرامة للطيم الشيطان
يكون أعلم من صاحب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قوله: ((إن الحرم لا يعيذ عاصيًا)) ؛ أي: لا يجيره ولا يعصمه.
قوله: ((ولا فارًّا)) ؛ أي: هاربًا بدم.
قال الحافظ: والمراد: مَن وجوب عليه حدُّ القتل فهرب إلى مكة مستجيرًا
بالحرم، وهي مسألة خلاف بين العلماء، وأغرب عمرو بن سعيد في سياقه الحكم
مساق الدليل وفي تخصيصه العموم بلا مستند، انتهى.
قوله: ((ولا فارًّا بخربة)) قال ابن بطال: الخربة بالضم الفساد، وبالفتح
السرقة، وقد تصرَّف عمرو في الجواب وأتى بكلام ظاهره حق، لكن أراد به
الباطل، فإن الصحابي أنكر عليه نصب الحرب على مكة، فأجابه بأنها لا تمنع من
إقامة القصاص وهو صحيح، إلا أن ابن الزبير لم يرتكب أمرًا يجب عليه فيه شيء
من ذلك، انتهى.
وعند أحمد: قال أبو شريح: "فقلت لعمرو: قد كنت شاهدًا وكنت غائبًا، وقد
أمرنا أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك".
قال الحافظ: وفي حديث أبي شريح من الفوائد غير ما تقدَّم: إخبار المرء عن
نفسه بما يقتضي ثقته وضبطه لما سمعه ونحو ذلك، وإنكار العالم على الحاكم ما
يغيره من أمر الدين والموعظة بلطف وتدريج، والاقتصار في الإنكار على اللسان
إذا لم يستطع باليد، ووقوع التأكيد في الكلام للتبليغ، وجواز المجادلة في
الأمور الدينية، وفيه الخروج عن عهدة التبليغ والصبر على المكاره لِمَن لا
يستطيع بدًّا من ذلك، وفيه شرف مكة، وتقديم الحمد والثناء على القول
المقصود؛ وفضل أبي شريح لاتِّباعه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالتبليغ عنه وغير ذلك.
* * *
(1/183)
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يوم فتح مكة: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا
استُنفِرتم فانفروا)) .
وقال يوم فتح مكة: ((إن هذا البلد حرَّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو
حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحلَّ القتال فيه لأحد قبلي، ولم
يحلَّ لي إلا ساعةً من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد
شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا مَن عرفها ولا يختلى خلاه)) ، فقال
العباس: يا رسول الله، إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال: ((إلا
الإذخر)) ، والقين: الحداد.
قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)) ؛ أي: فتح مكة، قال الخطابي وغيره: كانت
الهجرة فرضًا في أول الإسلام على مَن أسلم؛ لقلَّة المسلمين بالمدينة
وحاجتهم إلى الاجتماع، فلمَّا فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجًا،
فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على مَن قام به أو
نزل به عدو.
قال الحافظ وكانت الحكمة في وجوب الهجرة على مَن أسلم ليسلم من أذى ذَوِيه
من الكفار؛ فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه، وفيهم
نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}
[النساء: 97] الآية.
وهذه الهجرة باقية الحكم في حق مَن أسلم في دار الكفر وقدَر على الخروج
منها.
وقد روى النسائي من طريق بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: ((لا يقبل
الله
(1/184)
من مشرك عملاً بعد ما أسلم أو يفارق
المشركين)) .
ولأبي داود في حديث سمرة مرفوعا ((أنا برئ من كلِّ مسلم يقيم بين أظهر
المشركين)) وهذا محمولٌ على مَن لم يأمن على دينه، انتهى.
وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت
البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول
غيره في الإسلام، انتهى.
قوله: ((ولكن جهاد ونية)) قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة
حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت
مطلوبة على الأعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد
باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة كالفرار من دار الكفر، والخروج في
طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن، والنية في جميع ذلك.
قال الحافظ: وتضمَّن الحديث بشارة من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن مكة
تستمرُّ دار إسلام.
قوله: ((وإذا استُنفِرتم فانفروا)) ؛ أي: إذا أمركم الإمام بالخروج إلى
الجهاد فاخرجوا، قال الحافظ: وفي الحديث وجوب تعين الخروج في الغزو على مَن
عيَّنه الإمام، وأن الأعمال تعتبر بالنيات، انتهى.
قوله: ((إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة
الله)) ؛ أي: بتحريمه، واستدلَّ به على تحريم القتل والقتال بالحرم.
فأمَّا القتل فنقل بعضهم الاتِّفاق على جواز إقامة حدِّ القتل فيها على مَن
أوقعه فيها، وخص الخلاف بِمَن قتل في الحل ثم لجأ إلى الحرم، وممَّن نقل
الإجماع على ذلك ابن الجوزي.
وأمَّا القتال فقال الماوردي: من خصائص مكة أن لا يحارب أهلها، فلو بغوا
على أهل العدل، فإن أمكن ردهم بغير قتال لم يجز، وإن لم يمكن إلا بالقتال؛
فقال الجمهور: يقاتلون؛ لأن قتال البغاة من حقوق الله - تعالى - فلا يجوز
إضاعتها، وقال آخَرون: لا يجوز قتالهم، بل يضيق عليهم إلى أن يرجعوا إلى
الطاعة.
قال الطبري من الشافعية: مَن أتى حدًّا في الحل واستجار بالحرم فللإمام
إلجاؤه إلى الخروج منه، وليس للإمام أن ينصب عليه الحرب بل يحاصره ويضيِّق
عيه حتى يذعن للطاعة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وإنما أُحِلَّت لي
ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس)) ، فعلم أنها لا
تحلُّ لأحدٍ بعده بالمعنى الذي
(1/185)
حلَّت له به، وهو محاربة أهلها والقتل
فيها.
وقال ابن المنير: قد أكَّد النبي - صلى الله عليه وسلم - التحريم بقوله:
((حرمه الله)) ، ثم قال: ((فهو حرام بحرمة الله)) ، ثم قال: ((ولم تحلَّ لي
إلا ساعة من نهار)) ، وكان إذا أراد التأكيد وذكر الشيء ثلاثًا، قال: فهذا
نصٌّ لا يحتمل التأويل.
وقال القرطبي: ظاهر الحديث يقتضي تخصيصه - صلى الله عليه وسلم - لاعتذاره
عمَّا أُبِيح له من ذلك، مع أن أهل مكة كانوا إذ ذاك مستحقِّين للقتال
والقتل؛ لصدِّهم عن
المسجد الحرام وإخراجهم منه وكفرهم، وهذا الذي فهمه أبو شريح وقال به غير
واحد من أهل العلم.
وقال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ
فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 191] ، يقول -
تعالى -: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه، فلكم
حينئذ قتالهم وقتلهم دفعًا للصائل، كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم -
أصحابه يوم الحديبية.
قوله: ((لا يعضد شوكه)) ؛ أي: لا يقطع.
قوله: ((ولا ينفر صيده)) ، قال النووي: يحرم التنفير وهو الإزعاج عن موضعه،
فإن نفره عصى سواء تلف أو لا، فإن تلف في نفاره قبل سكوته ضمن وإلا فلا،
قال العلماء: يستفاد من النهي عن التنفير تحريم الإتلاف بأولى.
قوله: ((ولا يلتقط لقطته إلا مَن عرفها)) ، وفي حديث أبي هريرة: ((ولا
تحلُّ ساقطتها إلا المنشد)) ؛ أي: معرف.
قال الحافظ: واستدلَّ بحديثي ابن عباس وأبي هريرة على أن لقطة مكة لا تلتقط
للتمليك بل للتعريف خاصة، وهو قول الجمهور.
قوله: ((ولا يختلى خلاء)) الخلا: هو الرطب من النبات، واختلاؤه قطعه
واحتشاشه.
قال الشافعي: لا بأس بالرعي لمصلحة البهائم وهو عمل الناس، بخلاف الاحتشاش
فإنه المنهي عنه، فلا يتعدَّى ذلك إلى غيره.
قال ابن قدامة: وأجمعوا على إباحة أخذ ما استنبَتَه الناس في الحرم من بقل
وزرع ومشموم، فلا بأس برعيه واختلائه.
قوله: فقال العباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم فقال:
((إلا الإذخر)) ، وفي رواية: ((فإنه لصاغتنا وقبورنا)) ، كان أهل مكة
يسقفون البيوت
بالإذخر بين الخشب، ويسددون به الخلل بين اللبنات في القبور، ويستعلمونه
بدلاً من الحلفاء في الوقود.
(1/186)
قال الحافظ: في تقريره - صلى الله عليه
وسلم - للعباس على ذلك دليلٌ على جواز تخصيص العام.
وقال الطبري: ساغَ للعباس أن يستثنى الإذخر؛ لأنه احتمل عنده أن يكون
المراد بتحريم مكة تحريم القتال دون ما ذكر من تحريم الإختلاء فإنه من
تحريم الرسول باجتهاده، فساغ له أن يسأله استثناء الإذخر.
وقال ابن المنير: الحق أن سؤال العباس كان على معنى الضراعة، وترخيص النبي
- صلى الله عليه وسلم - كان تبليغًا عن الله إمَّا بطريق الإلهام أو بطريق
الوحي.
قال الحافظ: وفي الحديث بيان خصوصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ذكر
في الحديث، وجواز مراجعة العالم في المصالح الشرعية، والمبادرة إلى ذلك في
المجامع والمشاهد، وعظيم منزلة العباس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -
وعنايته بأمر مكة؛ لكونه كان بها أصله ومنشؤه، وفيه رفع وجوب الهجرة من مكة
إلى المدينة وإبقاء حكمها من بلاد الكفر إلى يوم القيامة، وأن الجهاد يشترط
أن يقصد به الإخلاص، ووجوب النفير مع الأئمة.
* * *
باب ما يجوز قتله
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((خمسٌ من الدواب كلهن فواسق يُقتَلن في الحرم: الغراب، والحِدَأَة،
العقرب، والفأرة، والكلب العقور)) ، ولمسلم: ((خمس فواسق يُقتَلن في الحل
والحرم)) .
قوله: ((خمس من الدواب كلهن فواسق يُقتَلن في الحرم)) ، وفي حديث ابن عمر:
((خمسٌ من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح)) .
قال الحافظ: وعرف بذلك
(1/187)
أن لا إثم في قتلها على المحرم ولا في
الحرم، ويؤخذ من جواز ذلك للحلال وفي الحل من باب الأَوْلَى.
قوله: ((الغراب)) في رواية عند مسلم: ((الأبقع)) وهو الذي في ظهره أو بطنه
بياض، قال الحافظ، قال ابن قدامة: يلتحق بالأبقع ما شارَكَه في الإيذاء
وتحريم الأكل، وقد اتَّفق العلماء على إخراج الغراب الصغير الذي يأكل الحب،
ويقال له: غراب الزرع، ويقال له: الزاغ، وأفتوا بجواز أكله، فبقي ما عداه
من الغربان ملتحِق بالأبقع.
قوله: ((والحدأة)) ، وفي رواية: ((والحُدَيَّا)) ، قال الحافظ: ومن خواص
الحدأة أنها تقف في الطيران، ويقال: إنها لا تختطف إلا من جهة اليمين.
قوله: ((والعقرب)) وفي حديث ابن عمر عند أحمد: ((والحية)) بدل: ((والعقرب))
، قال ابن المنذر: لا نعلمهم اختلفوا في جواز قتل العقرب، وقال نافع لما
قيل له: فالحية؟ قال: لا يختلف فيها.
قوله: ((والفأرة)) قال الحافظ: بهمزة ساكنة ويجوز فيها التسهيل، ولم يختلف
العلماء في جواز قتلها للمحرم إلا ما حُكِي عن إبراهيم النخعي، فإنه قال:
فيها جزاء إذا قتلها المحرم؛ أخرجه ابن المنذر، وقال هذا خلاف السنة وخلاف
قول
جميع أهل العلم، والفأر أنواع: منها الجرذ، والخلد وفأرة الإبل، وفأرة
المسك، وفأرة الغيط وحكمها في تحريم الأكل وجواز القتل سواء، انتهى.
قوله: ((والكلب العقور)) قال مالك في "الموطأ": كل ما عقر الناس وعدا عليهم
وأخافهم؛ مثل: الأسد والنمر، والفهد والذئب، هو العقور، وكذا نقل أبو عبيد
عن سفيان، وهو قول الجمهور.
وقال بعض العلماء: أنواع الأذى مختلفة، وكأنَّه نبَّه بالعقرب على ما
يُشارِكها في الأذى باللسع ونحوه من ذوات السموم؛ كالحية، والزنبور،
وبالفأرة على ما يشاركها في الأذى بالنقب والقرض كابن عرس، وبالغراب
والحدأة على ما يشاركها في الأذى بالاختطاف كالصقر، وبالكلب العقور على ما
يشاركه في الأذى بالعدوان والعقر كالأسد والفهد، انتهى.
قال في "القاموس": ابن عرس دُوَيبة أشتر أصلم أسك.
تتمَّة:
عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((الوزع فويسق)) ، ولم أسمعه أمر بقتله"؛ رواه البخاري.
قال الحافظ: وقضية تسميته إيَّاه فويسقًا أن يكون قتله مباحًا، وكونها لم
تسمعه لا يدلُّ على منع ذلك فقد سمعه
(1/188)
غيرها، انتهى.
ونقل ابن عبد البر: الاتِّفاق على جواز قتله في الحل والحرم، وروى ابن أبي
شيبة: أن عطاء سُئِل عن قتل الوزغ في الحرم، فقال: إذا آذاك فلا بأس بقتله،
والله أعلم.
* * *
باب دخول مكة وغيره
الحديث الأول
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل
مكة عام الفتح وعلى رأسه المِغْفَر، فلمَّا نزعه جاء رجل فقال: ابن خطل
متعلِّق بأستار الكعبة، فقال: ((اقتلوه)) .
قال الحافظ: "المغفر" هو زرد من الدرع على قدر الرأس، وقيل: هو رفرف
البيضة، قاله في "المحكم"، وفي "المشارق": هو ما يجعل من فضل دروع الحديد
على الرأس مثل القلنسوة، والسبب في قتل ابن خطل وعدم دخوله في قوله - صلى
الله عليه وسلم -: ((مَن دخل المسجد فهو آمِن)) ، ما روى ابن إسحاق في
"المغازي": حدثني عبد الله بن أبي بكر وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - حين دخل مكة قال: ((لا يقتل أحدٌ إلا مَن قاتل)) ، إلا نفرًا سماهم
فقال: ((اقتلوهم وإن وجدتموهم تحت أستار الكعبة)) ، منهم عبد الله بن خطل،
وعبد الله بن سعد، وإنما أمر بقتل ابن خطل لأنه كان مسلمًا، فبعثه رسول
الله مصدقًا، وبعث معه رجلاً من الأنصار، وكان معه مولى يخدمه، وكان
مسلمًا، فنزل منزلاً فأمر المولى أن يذبح تيسًا ويصنع له طعامًا، فنام
واستيقظ ولم يصنع له شيئًا، فعدا عليه فقتله، ثم ارتدَّ مشركًا، وكانت له
قينتان تغنِّيان بهجاء رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم، انتهى.
واستدلَّ بالحديث على جواز دخول مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو العمرة
قال البخاري: "باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام ودخل ابن عمر، وإنما أمر
النبي - صلى الله
(1/189)
عليه وسلم - بالإهلال لِمَن أراد الحج أو
العمرة ولم يذكر الحطابين وغيرهم"، وذكر حديث ابن عباس في المواقيت وحديث
الباب، واستدلَّ بالحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة.
قال الحافظ: وفيه مشروعية لبس المِغْفَر وغيره من آلات السلاح حال الخوف من
العدو، وأنه لا ينافي التوكُّل، وفيه جواز رفع أخبار أهل الفساد إلى ولاة
الأمر، ولا يكون ذلك من الغيبة المحرمة ولا النميمة.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - دخل مكة من كداء من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية
السفلى".
قوله: "دخل مكة من كداء من الثنية العليا" وفي حديث عروة عن عائشة - رضي
الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عام الفتح من كداء أعلى
مكة"، قال عروة: وكان هشام يدخل على كلتيهما من كداء وكدا وأكثر ما يدخل من
كدا، وكانت أقربهما إلى منزله.
قال الحافظ: كداء هي الثنية التي ينزل منها إلى المعلى مقبرة أهل مكة، وهي
التي يقال لها: الحجون، وكدا عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية
قعيقعان.
واختلف في المعنى الذي لأجله خالَف - صلى الله عليه وسلم - بين طريقيه؛
فقيل: الحكمة في ذلك المناسبة بجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم
المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل: لأنه -
صلى الله عليه وسلم - خرج منها مختفيًا في الهجرة فأراد أن يدخلها ظاهرًا
عاليًا، وقيل: لأن مَن جاء من تلك الجهة كان مستقبِلاً للبيت، ويحتمل أن
يكون ذلك لكونه دخل منها يوم الفتح فاستمرَّ على ذلك، والسبب في ذلك قول
أبي سفيان بن حرب للعباس: لا أسلم
(1/190)
حتى أرى الخيل تطلع من كداء، فقلت: ما هذا؟
قال: شيء طلع بقلبي، وإن الله لا يطلع الخيل هناك أبدًا، قال العباس: فذكرت
أبا سفيان بذلك.
وللبيهقي من حديث ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر:
((كيف قال حسان؟)) ، فأنشده:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إِنْ لَمْ تَرَوْهَا = تُثِيرُ النَّقْعَ مَطْلَعُهَا
كَدَاءُ
فتبسَّم وقال: ((ادخلوها من حيث قال حسان)) ، انتهى.
وفي "السيرة"؛ لابن إسحاق:
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إِنْ لَمْ تَرَوْهَا = تُثِيرُ النَّقْعَ مَوْعِدُهَا
كَدَاءُ
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "دخل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - البيت وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم
الباب، فلمَّا فتحوا الباب كنت أوَّل داخل، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى
فيه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ قال: نعم، بين العمودين
اليمانيين".
قوله: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت"، في رواية: "أقبل
النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته ومعه بلال
وعثمان بن طلحة حتى أناخ في المسجد"، وفي روايةٍ: "عند البيت وقال لعثمان:
ائتنا بالمفتاح، ففتح له الباب، فدخل".
قال الحافظ: وعثمان المذكور هو عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزي بن
عبد الدار بن قصي بن كلاب، ويقال له: الحجبي، ولآل بيته: الحجبة لحجبهم
(1/191)
الكعبة، ويعرفون الآن بالشيبيين، نسبة إلى
شيبة بن عثمان بن أبي يطلحة، وهو ابن عمِّ عثمان هذا لا ولده، وله أيضًا
صحبة.
قوله: "فأغلقوا عليهم الباب"، وعند أبي عوانة من داخل قوله: "فلما فتحو
الباب"، في رواية "فلبث فيه ساعة ثم خرجوا".
قوله: "فلمَّا فتحوا الباب كنت أول داخل"، في رواية: "ثم خرج فابتدر الناس
الدخول فسبقتهم".
قوله: "فلقيت بلالاً"، في رواية: "فأقبلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد
خرج، وأجد بلالاً قائمًا بين البابين، فسألت بلالاً فقلت: أَصَلَّى النبي -
صلى الله عليه وسلم - في الكعبة؟ قال: نعم،
ركعتين بين الساريتين اللتين على يساره إذا دخلت، ثم خرج فصلى في وجه
الكعبة ركعتين".
قوله: "بين العمودين اليمانيين"، في رواية: "جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا
عن يساره"، وفي رواية: "بين ذينك العمودين المقدمين"، وكان البيت على ستة
أعمدة سطرين، صلى بين العمودين من السطر المقدَّم وجعل باب البيت خلف
ظهره".
وفي روايةٍ عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أنه كان إذا دخل
الكعبة مشى قبل الوجه حين يدخل، ويجعل الباب قبل الظهر، يمشي حتى يكون بينه
وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبًا من ثلاث أذرع فيصلي، يتوخَّى المكان الذي
أخبره بلال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى فيه، وليس على أحد
بأسٌ أن يصلي في أيِّ نواحي البيت شاء"، وفي الحديث استحباب دخول الكعبة،
والصلاة فيها، وليس ذلك بواجب.
قال البخاري: وكان ابن عمر يحجُّ كثيرًا ولا يدخل.
قال النووي: لا خلاف أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل في يوم الفتح لا في
حجة الوداع.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد رواية الصحابية عن الصحابي، وسؤال
المفضول مع وجود الأفضل، والاكتفاء به، والحجة بخبر الواحد، وفيه اختصاص
السابق بالبقعة الفاضلة، وفيه السؤال عن العلم والحرص فيه، وفضيلة ابن عمر؛
لشدَّة حرصه على تتبُّع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها؛ وفيه
أن الفاضل من الصحابة قد كان يغيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض
المشاهد الفاضلة ويحضره مَن هو دونه فيطَّلع على ما لم يطَّلع عليه؛ لأن
أبا بكر وعمر وغيرهما ممَّن هو أفضل من بلال ومَن ذكر معه لم يشاركوهم في
ذلك، وفيه أن السترة إنما تشرع حيث
(1/192)
يخشى المرور، فإنه - صلى الله عليه وسلم -
صلى بين العمودين ولم يصلِّ إلى أحدهما، والذي يظهر أنه ترك ذلك للقرب من
الجدار، وفيه استحباب دخول الكعبة، ومحل استحبابه ما لم يؤذِ أحدًا بدخوله،
انتهى.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كنت أحبُّ أن أدخل البيت أصلِّي فيه
فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي فأدخلني الحجر، فقال لي:
((صلِّي في الحجر إذا أردت دخول البيت فإنما هو قطعة من البيت، ولكن قومك
استقصروا حين بنوا الكعبة فأخرجوه من البيت)) ؛ رواه الخمسة إلا ابن ماجه،
وصحَّحه الترمذي.
* * *
الحديث الرابع
عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبَّله، وقال: إني
لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه
وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك".
قوله: "جاء إلى الحجر الأسود فقبله"، في رواية: أن عمر بن الخطاب - رضي
الله عنه - قال للركن: "أمَا والله إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع،
ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلمك ما استلمتك"،
فاستَلَمه.
وفي حديث ابن عمر: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستلمه
ويقبِّله"، ولابن المنذر عن نافع: "رأيت ابن عمر استَلَم الحجر وقبَّل يده
وقال: ما تركته منذ رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله".
قال الحافظ: ويستفاد منه الجمع بين الاستلام والتقبيل، بخلاف الركن اليماني
فيستَلَمه فقط، انتهى.
وعن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: ((يا
عمر، إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه،
وإلا فاستقبله وهلِّل وكبِّر)) ؛ رواه أحمد.
قوله: "إني لأعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى
الله عليه وسلم - يقبِّلك ما قبَّلتك".
(1/193)
قال الطبري: إنما قال ذلك عمر لأن الناس
كانوا حديثي عهدٍ بعبادة الأصنام؛ فخشي عمر أن يظنَّ الجهَّال أن استلام
الحجر من باب تعظيم لهذه الأحجار كما كانت العرب تفعل في الجاهلية، فأراد
عمر أن يعلم الناس أن استلامه اتِّباعٌ
لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا لأن الحجر ينفع ويضرُّ بذاته، كما
كان الجاهلية تعتقده في الأوثان، انتهى.
وعن ابن عباس مرفوعًا: ((إن لهذا الحجر لسانًا وشفتين يشهدان لِمَن استلمه
يوم القيامة بحق)) ؛ رواه ابن خزيمة في "صحيحه"، وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
قال الحافظ: وفي قول عمر هذا التسليمُ للشارع في أمور الدين وحسن الاتِّباع
فيما لا يكشف عن معانيها، وهو قاعدة عظيمة في اتِّباع النبي - صلى الله
عليه وسلم - فيما يفعله ولو لم يعلم الحكمة، وفيه دفع ما وقع لبعض
الجهَّال، أن في الحجر الأسود خاصية ترجع إلى ذاته، وفيه بيان السنن بالقول
والفعل، وأن الإمام إذا خشي على أحدٍ من فعله فساد اعتقاد أن يبادر إلى
بيان الأمر ويوضح ذلك.
قال شيخنا في "شرح الترمذي": فيه كراهة تقبيل ما لم يَرِد الشرع بتقبيله.
وأمَّا قول الشافعي: ومهما قبَّل من البيت فحسن فلم يرد به الاستحباب؛ لأن
المباح من جملة الحسن عند الأصوليين انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم
حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة،
وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء
عليهم".
* * *
(1/194)
الحديث السادس
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "رأيت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود، أوَّل ما يطوف يَخُبُّ
ثلاثة أشواط".
قوله في حديث ابن عباس: "قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه
مكة"؛ أي: في عمرة القضاء.
قوله: "فقال المشركون إنه يقدم عليكم قومٌ قد وهنتهم حمى يثرب"؛ أي:
أضعفتْهم، و (يثرب) اسم المدينة النبوية في الجاهلية، ونهي النبي - صلى
الله عليه وسلم - عن تسميتها بذلك، وإنما ذكر ابن عباس ذلك حكاية لكلام
المشركين.
قوله: "فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة"
(الرمل) : هو الإسراع في المشي، و (الأشواط) جمع شوط، وهو الجري مرة إلى
الغاية، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة.
قوله: "وأن يمشوا ما بين الركنين"؛ أي: اليمانيين، وعند أبي داود: "وكانوا
إذا تواروا عن قريش بين الركنين مشوا وإذا طلعوا عليهم رملوا"، وللبخاري:
"لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامه الذي استأمن قال: ((ارملوا))
؛ ليرى المشركون قوتهم، والمشركون من قِبَل قعيقعان)) .
قال الحافظ: وهو يُشرِف على الركنين الشاميين، ومَن كان به لا يرى مَن بين
الركنين اليمانيين، ولمسلم: "فقال المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى
وهنتهم، لهؤلاء أجلد من كذا".
قال الحافظ: ويؤخذ منه جواز إظهار القوة بالعدَّة والسلاح ونحو ذلك للكفار
إرهابًا لهم، ولا يُعَدُّ ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض
بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أَوْلَى.
قوله في حديث ابن عمر: "يَخُبُّ ثلاثة أشواط"، في رواية: "يَخُبُّ ثلاثة
أطواف من السبع"؛ أي: يسرع في مشيه.
قال الحافظ: اقتصروا عند مراءاة المشركين على الإسراع إذا مرُّوا من جهة
الركنين الشاميين؛ لأن المشركين كانوا بإزاء تلك الناحية،
(1/195)
فإذا مرُّوا بين الركنين اليمانيين مشوا
على هيئتهم كما هو بيِّن في حديث ابن عباس، ولما رملوا في حجة الوداع
أسرعوا في جميع كلِّ طوفة فكانت سنة مستقلَّة.
قال الموفق: ثم يبتدئ بطواف العمرة إن كان معتمرًا، أو طواف القدوم إن كان
مفردًا أو قارنًا، ويطوف سبعًا يرمل في الثلاثة الأولى منها وهو إسراع
المشي مع تقارب الخُطَا ولا يثب وثبًا ويمشي أربعًا، انتهى.
قال الحافظ: لا يشرع تدارك الرَّمَل، فلو تركه في الثلاث لم يقضه في
الأربع؛ لأن هيئتها السكينة فلا تغير، ويختصُّ بالرجال فلا رَمَل على
النساء، ويختصُّ بطواف يعقبه سعي على المشهور، ولا فرق في استحبابه بين
ماشٍ وراكب، ولا دم بتركه عند الجمهور.
* * *
الحديث السابع
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "طاف النبي - صلى الله عليه
وسلم - في حجة الوداع على بعيرٍ يستلم الركن بمحجن".
(المحجن) : عصى محنية الرأس، وفي رواية لمسلم: "يستلم الركن بمحجن معه
ويقبل المحجن".
وله من حديث ابن عمر: أنه استلم الحجر بيده ثم قبله، ورفع ذلك، قال الحافظ:
وبهذا قال الجمهور إن السنة أن يستلم الركن ويقبِّل يده، فإن لم يستطع
أن يستلمه بيده استلَمَه بشيء في يده وقبَّل ذلك الشيء، فإن لم يستطع أشار
إليه واكتفى بذلك، انتهى.
وقال البخاري: باب المريض يطوف راكبًا؛ وأورد فيه حديث ابن عباس، وحديث أم
سلمة قالت: "شكوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني اشتكي، قال:
((طوفي من وراء الناس وأنت راكبة)) ، فطفت ورسول الله يصلي إلى البيت يقرأ
بالطور وكتاب مسطور".
قال ابن بطال: في هذا الحديث جواز دخول الدواب التي يُؤكَل لحمها المسجد
إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب.
* * *
(1/196)
الحديث الثامن
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "لم أرَ النبي - صلى الله عليه
وسلم - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين".
روى أحمد عن أبي الطفيل قال: "كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا
يمرُّ بركن إلا استَلَمه، فقال ابن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - لم يستلم إلا الحجر اليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت
مهجورًا، فقال له ابن عباس: لقد كان لكم في رسول أسوة حسنة، فقال معاوية:
صدقت".
قال الداودي: ظنَّ معاوية أنهما ركنَا البيت، وليس كذلك لحديث عائشة؛ يعني:
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - - لها: ((ألم ترَيْ أن قومك لما بنوا
الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم)) ، فقلت: يا رسول الله: ألا تردها على
قواعد إبراهيم؟ قال: ((لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت)) .
فقال عبد الله بن عمر: "لئن كانت عائشة - رضي الله عنها - سمعتْ هذا من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
ترَك استلام الركنَين اللذَين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمَّم على
قواعد إبراهيم"؛ متفق عليه.
قال الشافعي: إنَّا لم ندع استلامهما؛ يعني: الركنين الشاميين هجرًا للبيت،
وكيف يهجره وهو يطوف به، ولكنَّا نتبع السنة فعلاً وتركًا.
* * *
باب التمتع
الحديث الأول
عن أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي قال: "سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني
بها، وسألته عن الهدي فقال: فيه جزور أو بقرة
(1/197)
أو شاة أو شرك في دم، قال: وكأن أناسًا
كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا ينادي: حج مبرور ومتعة متقبلة،
فأتيت ابن عباس فحدَّثته فقال: الله أكبر، سنَّة أبي القاسم - صلَّى الله
عليه وسلَّم".
التمتُّع: هو الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلُّل من تلك العمرة، والإهلال
بالحج في تلك السنة؛ قال الله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ
تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، قال ابن عبد البر: لا خلاف بين
العلماء أن التمتُّع المراد بقوله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أنه الاعتمار في أشهر الحج
قبل الحج، قال: ومن التمتع القِرَان؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من
بلده، ومن التمتُّع أيضًا فسخ الحج إلى العمرة، انتهى.
قوله: "سألت ابن عباس عن المتعة فأمرني بها"، وفي رواية: "تمتَّعت فنهاني
ناسٌ، فسألت ابن عباس - رضي الله عنهما - فأمرني بها"، قال الحافظ: وكان
ذلك في زمن ابن الزبير، وكان ينهى عن المتعة.
قوله: "وسألته عن الهدي"؛ أي: المذكور في قوله - تعالى -: {فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .
قوله: "فيه جزور"؛ أي: في المتعة؛ يعني: يجب على مَن تمتَّع دمٌ، والجزور
البعير ذكرًا كان أو أنثى.
قوله: "أو شرك في دم"؛ أي: مشاركة في الجزور والبقرة.
قال الحافظ: وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال: "خرجنا مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّين بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منَّا في بدنة"، وبهذا قال
الشافعي والجمهور سواء كان الهدي تطوعًا أو واجبًا، وسواء كانوا كلهم
متقرِّبين بذلك، أو كان بعضهم يريد التقرُّب وبعضهم يريد اللحم، وأجمعوا
على أن الشاة لا يصحُّ الاشتراك فيها.
قوله: "وكأن أناسًا كرهوها، فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا ينادي: حج
مبرور ومتعة متقبلة"، وفي رواية: "كأن رجلاً يقول لي: حج مبرور وعمرة
متقبَّلة"، وفي رواية: "عمرة متقبَّلة وحج مبرور"، والحج المبرور
(1/198)
هو الذي لا يخالطه شيء من الإثم.
ولأحمد من حديث جابر: قالوا: يا رسول الله، ما بر الحج؟ قال: ((إطعام
الطعام وإفشاء السلام)) .
قوله: "فأتيت ابن عباس فحدَّثته فقال: الله أكبر سنة أبي القاسم - صلَّى
الله عليه وسلَّم"، وفي رواية: "ثم قال لي: أقم عندي فأجعل لك سهمًا من
مالي، قال شعبة: فقلت: لِمَ؟ فقال: للرؤيا التي رأيت".
قال الحافظ: ويؤخذ منه إكرام من أخبر المرء بما يسرُّه، وفرح العالم
بموافقته الحق، والاستئناس بالرؤيا لموافقته الدليل الشرعي، وعرض الرؤيا
على العالم، والتكبير عند المسرَّة، والعمل بالأدلة الظاهرة، والتنبيه على
اختلاف أهل العلم ليعمل بالراجح منه الموافق للدليل، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "تمتَّع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فسَاقَ الهدي من ذي
الحُلَيْفَة، وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة ثم
أهلَّ بالحج، فتمتَّع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ
بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس مَن تمتَّع فسَاقَ الهدي من ذي
الحُلَيْفَة، ومنهم مَن لم يهدِ،
فلمَّا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: مَن يكن منكم قد
أهدى فإنه لا يحلُّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومَن لم يكن أهدى فليَطُف
بالبيت وبالصفا والمروة، ليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهدِ، ومَن لم يجد
هديًا فليَصُم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى
(1/199)
أهله، فطاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- حين قَدِم إلى مكة واستلم الركن أول شيء، ثم خبَّ ثلاثة أشواط من السبع،
ومشى أربعًا، وركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم سلَّم
وانصرف فأتى الصفا، فطاف بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ثم لم يحلَّ من شيء
حرم منه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حلَّ من
كل شيء حرم منه، وفعل مثلما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن أهدى
فساق الهدي من الناس.
قوله: "تمتَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى
الحج"، قال الحافظ: يحتمل أن يكون معنى قوله: "تمتِّع" محمولاً على مدلوله
اللغوي، وهو الانتفاع بإسقاط عمل العمرة والخروج إلى ميقاتها وغير ذلك، بل
قال النووي: إن هذا هو المتعين.
قال الحافظ: وقوله: "بالعمرة إلى الحج"؛ أي: بإدخال العمرة على الحج.
قوله: "وأهدى فساق الهدي من ذي الحُلَيْفَة" قال الحافظ: وفيه الندب إلى
سَوْقِ الهدي من المواقيت ومن الأماكن البعيدة، وهي من السنن التي أغفلها
كثير من الناس.
قوله: "وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة ثم أهلَّ
بالحج"، قيل: المراد به صورة الإهلال؛ أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى
بهما، فقال: لبيك بعمرة وحجة، وفي الصحيحين من حديث أنس: سمعت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لبيك عمرة وحجًّا)) .
قال ابن القيم: الذي صنعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو متعة
القِرَان بلا شكٍّ كما قطع به أحمد.
قوله: "فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأهلَّ بالعمرة
إلى الحج"، هذا محمولٌ على التمتُّع اللغوي؛ فإنهم لم يكونوا متمتِّعين
بمعنى التمتُّع المشهور، قال الحافظ: الذين تمتَّعوا إنما بدؤوا بالحج، لكن
فسخوا
(1/200)
حجهم إلى العمرة حتى حلُّوا بعد ذلك بمكة
ثم حجوا من عامهم.
قوله: "فلمَّا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للناس: ((مَن يكن منكم
أهدى فإنه لا يحلُّ من شيء حرم منه حتى يقضى حجه)) قال ابن دقيق العيد: هو
موافق لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، فلا يجوز أن يحلَّ المتمتُّع الذي
ساق الهدي حتى يبلغ الهدي محلَّه.
قوله: ((ومَن لم يكن منكم أهدى فليَطُف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر
وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهدِ)) قال النووي: معناه: أنه يفعل الطواف والسعي
والتقصير ويصير حلالاً، وهذا دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح،
وإنما أمَرَه بالتقصير دون الحلق مع أن الحلق أفضل؛ ليبقى له شعر يحلقه في
الحج.
قال الحافظ: وقوله: ((وليحلل)) هو أمرٌ معناه الخبر؛ أي: قد صار حلالاً فله
فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، وقوله: ((ثم ليهلَّ بالحج)) ؛ أي:
يحرم وقت خروجه إلى عرفة، ولهذا أتى بـ (ثم) الدالَّة على التراخي، وقوله:
((وليهدِ)) ؛ أي: هدي التمتُّع.
قوله: ((ومَن لم يجد هديًا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى
أهله)) ؛: أي مَن لم يجد الهدي بذلك المكان ويتحقَّق ذلك بأن يعدم الهدي أو
يعدم ثمنه حينئذ، أو يجد ثمنه لكن يحتاج إليه لأهم من ذلك فينتقل إلى الصوم
كما هو نص القرآن.
قال الحافظ: والمراد بقوله: ((في الحج)) ؛ أي: بعد الإحرام به.
وقال النووي: هذا هو الأفضل، فإن صامها قبل الإهلال بالحج أجزأ على الصحيح،
وأمَّا قبل التحلُّل من العمرة فلا على الصحيح، فإن فاته الصوم قضاه،
وفي صوم أيام التشريق لهذا قولان للشافعية أظهرهما: لا يجوز، وأصحهما من
حيث الدليل: الجواز.
قوله: "ثم سلم وانصرف فأتى الصفا" في حديث جابر عند مسلم: "ثم رجع إلى
الحجر فاستَلَمَه، ثم خرج من باب الصفا".
قوله: ((ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجه)) ، قال الحافظ: سبب عدم
إحلاله كونه ساق الهدي وإلا لكان يفسخ الحج إلى العمرة ويتحلَّل منها كما
أمر به أصحابه.
قوله: "وفعل مثلما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن أهدى فساق
الهدي من الناس"، قال الحافظ: إشارة إلى عدم خصوصيته - صلى الله عليه وسلم
- بذلك، وفيه مشروعية طواف القدوم والرَّمَل فيه إن عقبه بالسعي، وتسمية
السعي طوافًا، وطواف الإفاضة يوم النحر.
* * *
(1/201)
الحديث الثالث
عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن
الناس حلُّوا من العمرة ولم تحلَّ أنت من عمرتك؟ قال: ((إني لبَّدت رأسي
وقلَّدت هديي، فلا أحلُّ حتى أنحر)) .
قوله: ((إني لبَّدت رأسي)) قال الحافظ: هو أن يجعل فيه شيء ليلتصق به،
ويُؤخَذ منه استحباب ذلك للمحرم؛ أي: لئلاَّ يتشعَّث شعره في الإحرام.
قوله: ((فلا أحلُّ حتى أنحر)) ؛ يعني: يوم النحر، وفي رواية: ((فلا أحلُّ
حتى أحلَّ من الحج)) ، قال الحافظ: استدلَّ به على أن مَن ساق الهدي لا
يتحلَّل من عمل العمرة حتى يهلَّ بالحج ويفرغ منه؛ لأنه جعل العلَّة في
بقائه على إحرامه كونه أهدى، وكذا وقع في حديث جابر، وأخبر أنه لا يحلُّ
حتى ينحر الهدي، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ومَن وافَقَهما، ويؤيِّده قوله في
حديث عائشة: ((فأمَّا مَن لم يكن ساق الهدي فليحل) ، والأحاديث بذلك
متضافرة؛ والذي تجتمع به
الروايات أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنًا؛ بمعنى: أنه أدخل العمرة
على الحج بعد أن أهلَّ به مفردًا، لا أنه أوَّل ما أهل أحرم بالحج والعمرة
معًا.
وقال النووي: الصواب الذي نعتقده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان
قارنًا، وقال عياض: وأمَّا إحرامه - صلى الله عليه وسلم - فقد تضافرت
الروايات الصحيحة بأنه كان مفردًا، وأمَّا رواية مَن روى: ((متمتعًا))
فمعناه أمر به؛ لأنه صرَّح بقوله: ((ولولا أن معي الهدي لأحللت)) فصحَّ أنه
لم يحلَّ، وأمَّا رواية مَن روى القِرَان فهو إخبار عن آخر أحواله؛ لأنه
أدخل العمرة على الحج لما جاء إلى الوادي، وقيل له: قل عمرة في حجة.
قال الحافظ: وهذا الجمع هو المعتمَد، ويترجَّح رواية مَن روى القِرَان
بأمور منها: أن معه زيادة علمٍ على مَن روى الإفراد وغيره، وبأن مَن روى
الإفراد والتمتُّع اختلف عليه في ذاك.
إلى أن قال: ومقتضى ذلك أن يكون القِرَان أفضل من الإفراد والتمتُّع،
(1/202)
وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه
قال الثوري وأبو حنيفة وإسحاق بن راهويه، واختاره من الشافعية المزني وابن
المنذر وأبو إسحاق المروزي، وذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم
إلى أن التمتُّع أفضل؛ لكونه - صلى الله عليه وسلم - تمناه، فقال: ((لولا
أني سقت الهدي لأحلت)) ولا يتمنَّى إلا الأفضل، وهو قول أحمد بن حنبل
المشهور عنه، انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: إن ساق الهدي فالقِرَان أفضل، وإن لم يَسُقْ
فالتمتُّع أفضل، ومَن أراد أن ينشئ لعمرته من بلده سفرًا فالإفراد أفضل له،
وهذا أعدل المذاهب وأشبهها بموافقة الأحاديث الصحيحة، انتهى ملخصًا.
* * *
الحديث الرابع
عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: "أنزلت آية المتعة في كتاب الله
ففعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل قرآن بحرمتها ولم
ينهَ عنها حتى مات، فقال رجل برأيه ما شاء".
قال البخاري: يُقال: إنه عمر، ولمسلم: "نزلت آية المتعة؛ يعني: متعة الحج،
وأمرنا بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل آية تنسخ آية متعة
الحج، ولم ينهَ عنه حتى مات"، ولهما بمعناه.
قوله: "أنزلت آية المتعة"؛ يعني: قوله - تعالى -: {فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] الآية.
قوله: "ولم ينهَ عنها"؛ أي: المتعة، وفي الرواية الأخرى: "ولم ينه عنه"؛
أي: التمتع.
قوله: "فقال رجل برأيه ما شاء، قال البخاري: يُقال: إنه عمر"، وعند مسلم:
أن ابن الزبير كان ينهى عنها، وابن عباس يأمر بها، فسألوا جابرًا فأشار إلى
أن أوَّل مَن نهى عنها عمر، قال الحافظ: استقرَّ الأمر بعد على الجواز: وفي
الصحيحين عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانوا يرون أن العمرة في
أشهر الحج من أفجر
(1/203)
الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا
ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلَّت العمرة لِمَن اعتمر،
فقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه صبيحة رابعة مهلِّين بالحج،
فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظَم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله، أي
الحل؟ قال: ((حل كله)) .
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز نسخ القرآن بالقرآن ولا خلاف فيه،
ونسخه بالسنة، وفيه اختلاف شهير، ووجه الدلالة منه قوله: "ولم ينهَ عنها"
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن مفهومه أنه لو نهى عنها لامتنعت،
ويستلزم رفع الحكم، ومقتضاه جواز النسخ، وقد يُؤخَذ منه أن الإجماع لا
يُنسَخ به؛ لكونه حصَر وجوه المنع في نزولِ آيةٍ أو نهيٍّ من النبي - صلى
الله عليه وسلم - وفيه وقع الاجتهاد في الأحكام بين الصحابة، وإنكار بعض
المجتهدين على بعض بالنص، والله الموفق.
باب الهدي
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - بيدي، ثم أشعَرَها وقلَّدها أو قلَّدتها، ثم بعث بها إلى البيت
وأقام بالمدينة، فما حرم عليه شيء كان له حلالاً".
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة
غنمًا".
(1/204)
الأصل في مشروعية الهدي الكتاب والسنة
والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ
دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا
لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36- 37] ، وقال - تعالى -: {ذَلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ * لَكُمْ
فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 32- 33] .
قال البخاري: قال مجاهد: سميت (البدن) : لبدنها، و (القانع) : السائل، و
(المعتر) : الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير، و (شعائر الله) : استعظام
البدن واستحسانها، و (العتق) : عتقه من الجبابرة، ويقال: (وجبت) : سقطت إلى
الأرض، ومنه: وجبت الشمس.
قولها: "فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم أشعرها"،
قال الحافظ: فيه مشروعية الإشعار، وهو أن يكشط جلد البدنة حتى يسيل دم ثم
يسلت، فيكون ذلك علامة على كونها هديًا، وبذلك قال الجمهور.
وقال الخطابي وغيره: اعتلال مَن كره الإشعار بأنه من المثلة مردودٌ، بل هو
باب آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علاَمة، وقال الترمذي: "سمعت أبا
السائب يقول: كنَّا عند وكيع، فقال له رجل: روي عن إبراهيم النخعي أنه قال:
الإشعار مثلة، فقال له: أقول لك: أشعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -
وتقول: قال إبراهيم! ما أحقك بأن تُحبَس.
قال الحافظ: اتَّفق مَن قال بالإشعار بإلحاق البقر في ذلك بالإبل إلا سعيد
بن جبير، واتفقوا على أن الغنم لا تشعر لضعفها، ولكون صوفها أو شعرها يستر
موضع الإشعار.
وأخرج مسلم من حيث جابر قال: "صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي
الحُلَيْفَة، ثم دعا بناقته فأشعرها في سنامها الأيمن، وسلت الدم، وقلَّدها
نعلين، ثم ركب راحلته، فلمَّا استوت به على البيداء أهلَّ بالحج"، وفي
"الموطأ" عن نافع، عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا أهدى هديًا من المدينة -
على ساكنها الصلاة والسلام - قلَّده بذي الحُلَيْفَة، يقلِّده قبل أن
يشعره، وذلك في مكان واحد، وهو متوجِّه إلى القبلة، يقلِّده بنعلين، ويشعره
من الشق
(1/205)
الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس
بعرفة، ثم يدفع به، فإذا قدم غداة النحر نحره.
وعن نافع عن ابن عمر: "كان إذا طعن في سنام هديه بالشفرة قال: بسم الله
الله أكبر".
قال الحافظ: وفي الحديث مشروعية الإشعار، وفائدته الإعلام بأنها صارت هديًا
ليتبعها مَن يحتاج إلى ذلك، وحتى لو اختلطت بغيرها تميَّزت أو ضلَّت عرفت
أو عطبت عرفها المساكين بالعلامة فأكلوها، مع ما في ذلك من تعظيم شعائر
الشرع وحث الغير عليه.
وقال ابن دقيق العيد: في الحديث دليلٌ على استحباب بعث الهدي من البلاد
لِمَن لا يسافر بها معه، وفيه دليلٌ على استحباب تقليده للهدي، وإشعاره من
بلده بخلاف ما إذا سافر مع الهدي فإنه يؤخِّر الإشعار إلى حين الإحرام،
وفيه دليلٌ
على استحباب الإشعار في الجملة خلافًا لِمَن أنكره، وهو شق صفحة السنام
طولاً وسلت الدم عنه.
واختلف الفقهاء هل يكون في الأيمن أو الأيسر، ومَن أنكره قال: إنه مثلة،
والعمل بالسنة أَوْلَى، وفيه دليلٌ على أن مَن بعث بهدي لا يحرم عليه
محظورات الإحرام، وفيه دليلٌ على استحباب فتل القلائد، انتهى.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد تناولُ الكبير الشيء بنفسه وإن كان له
مَن يكفيه إذا كان مما يهتم به، ولا سيما ما كان من إقامة الشرائع وأمور
الديانة، وأن الأصل في أفعاله - صلى الله عليه وسلم - التأسِّي به حتى تثبت
الخصوصية.
قولها: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنمًا"، وفي رواية: "كنت
أفتل القلائد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيقلد الغنم ويقيم في أهله
حلالاً"، وفي رواية: "كنت أفتل قلائد الغنم للنبي - صلى الله عليه وسلم -
فيبعث بها ثم يمكث حلالاً"، وفي رواية: "فتلت قلائدها من عهن كان عندي"،
قال الحافظ، قال ابن المنذر: أنكر مالك وأصحاب الرأي تقليدها، زاد غيره:
وكأنهم لم يبلغهم الحديث، ولم نجد لهم حجة إلا قول بعضهم: إنها تضعف عن
التقليد، وهي حجة ضعيفة؛ لأن المقصود من التقليد العلامة، وقد اتَّفقوا على
أنها لا تشعر لأنها تضعف عنه فتقليدها لا يضعفها انتهى، والله أعلم.
* * *
(1/206)
الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى
رجلاً يسوق بدنة، فقال: ((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها)) ،
فرأيته راكبها يساير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"، وفي لفظ: قال في
الثانية أو الثالثة: ((اركبها، ويلك - أو: ويحك)) .
قوله: "فرأيته راكبها يساير النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم" في رواية:
"والنعل في عنقها"، ولمسلم: "بينا رجل يسوق بدنة مقلدة".
قوله: "قال في الثانية أو الثالثة: ((اركبها ويلك - أو ويحك)) "، في حديث
أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة، فقال:
((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها)) ، قال: إنها بدنة؟ قال:
((اركبها)) ثلاثًا، وللنسائي: "وقد جهده المشي".
قوله: ((ويلك - أو: ويحك)) ، وعند مسلم: ((ويلك اركبها، ويلك اركبها)) ،
ولأحمد قال: ((اركبها ويحك)) ، قال: إنها بدنة؟ قال: ((اركبها ويحك)) ، قال
الهروي: (ويل) تقال لِمَن وقع في هلَكَة يستحقُّها، وويح: لِمَن وقع في
هلَكَة لا يستحقُّها، قال القرطبي، قال له: ويلك تأديبًا له؛ لأجل مراجعته
له مع عدم خفاء الحال عليه.
قال الحافظ: واستدلَّ به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبًا أو متطوعًا
به، لكنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك، فدلَّ على
أن الحكم لا يختلف بذلك، وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث علي: "أنه
سُئِل: هل يركب الرجل هديَه؟ فقال: لا بأس، قد كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - يمرُّ بالرجال يمشون، فيأمرهم يركبون هديه؛ أي: هدي النبي - صلَّى
الله عليه وسلَّم" إسناده صالح، انتهى.
وأخرج مسلم من حديث جابر مرفوعًا: ((اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى
تجد ظهرًا)) .
وروى أبو داود في "المراسيل" عن عطاء: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم -
يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها"،
قلت: ماذا؟ قال: الراجل والمتيع اليسير، وهذا قول الجمهور، ونقل عياض
الإجماع على أنه لا يؤجرها.
(1/207)
قال الحافظ: وفي الحديث تكرير الفتوى،
والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر، وزجر مَن لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه،
وجواز مسايرة الكبار في السفر، وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن
إرشاده إليها، واستنبط منه البخاري
جواز انتفاع الواقف بوقفه، وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة، أمَّا
الخاصة فالوقف على النفس لا يصحُّ عند الشافعية ومَن وافقهم، والله أعلم.
تتمَّة:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أهدى عمر نجيبًا، فأُعطِي بها
ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله،
إني أهديت نجيبًا، فأُعطِيت بها ثلاثمائة دينار، فأبيعها واشتري بثمنها
بدنًا؟ قال: انحرها إياها"؛ رواه أحمد وأبو داود والبخاري في "تاريخه".
* * *
الحديث الرابع
عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: أمرني النبي - صلى الله عليه
وسلم - أن أقوم على بدنِه، وأن أتصدَّق بلحمها وجلودها وأجلتها، ولا أعطي
الجزار منها شيئًا، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا)) .
قوله: "أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه"، قال الحافظ:
أي: عند نحرها للاحتفاظ بها، ويحتمل أن يريد ما هو أعمُّ من ذلك؛ أي: على
مصالحها في علفها ورعيها وسقيها وغير ذلك.
وفي رواية: "أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة بدنة، فأمرني بلحومها
فقسمتها، ثم أمرني بجلالها فقسمتها، ثم بجلودها فقسمتها".
وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: "ثم انصرف - صلى الله عليه وسلم - إلى
المنحر فنحر ثلاثًا وسبعين بدنة، ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر وأشركه في
هديه، ثم أمر من كل بدَنَة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلاَ من لحمها
وشربَا من مرقها".
قوله: "وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها" (الأجلة) : جمع جل، وهو ما يطرح
على ظهر البعير من كساء ونحوه، قال البخاري: "وكان ابن عمر -
(1/208)
رضي الله عنهما - لا يشق من الجلال إلا
موضع السنام، وإذا نحرها نزع جلالها مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدَّق بها".
قال المهلب: ليس التصدُّق بجلال البدن فرضًا، وإنما صنع ذلك ابن عمر لأنه
أراد أن لا يرجع في شيء أهلَّ به لله، ولا في شيء أُضِيف إليه.
وروى ابن المنذر عن نافع: أن ابن عمر كان يجلل بدنه الأنماط والبرود
والحِبَر حتى يخرج من المدينة ثم ينزعها فيطويها حتى يكون يوم عرفة فيلبسها
إياها حتى ينحرها ثم يتصدق بها، قال نافع: وربما دفعها إلى بني شيبة".
قال الحافظ: واستدلَّ به على منع بيع الجلد قال القرطبي: فيه دليلٌ على أن
جلود الهدي وجلالها لا تباع لعطفها على اللحم وإعطائها حكمه، وقد اتَّفقوا
على أن لحمها لا يُباع فكذلك الجلود والجلال، وأجازه الأوزاعي وأحمد وإسحاق
وأبو ثور وهو وجهٌ عند الشافعية، قالوا: ويُصرَف ثمنه مصرف الأضحية،
واستدلَّ أبو ثور على أنهم اتَّفقوا على جواز الانتفاع به، وكل ما جاز
الانتفاع به جاز بيعه، وعُورِض باتفاقهم على جواز الأكل من لحم هدي التطوع،
ولا يلزم من جواز أكله جواز بيعه، وأقوى من ذلك في ردِّ قوله ما أخرجه أحمد
في حديث قتادة بن النعمان مرفوعًا: ((لا تبيعوا لحوم الأضاحي والهدي،
وتصدَّقوا وكلوا واستمتعوا بجلودها، ولا تبيعوا، وأن أطعمتم من لحومها
فكلوا إن شئتم)) .
قوله: ولا أعطي الجزار منها شيئًا، وقال: ((نحن نعطيه من عندنا)) ،
وللنسائي: ((ولا يعطى في جزارتها منها شيئًا)) .
قال الحافظ: والمراد منع عطية الجزار من الهدي عوضًا عن أجرته، قال ابن
خزيمة: والنهي عن إعطاء الجزار المراد به: أن لا يعطى منها عن أجرته، وكذا
قال البغوي في "شرح السنة"، قال: وأمَّا إذا أعطي أجرته كاملة، ثم تصدَّق
عليه إذا كان فقيرًا كما يتصدَّق على الفقراء فلا بأس بذلك.
وقال غيره: إعطاء الجزار على سبيل الأجرة ممنوع لكونه معاوضة، وأمَّا
إعطاؤه صدقة أو هدية أو زيادة على حقِّه فالقياس الجواز، ولكن إطلاق الشارع
ذلك قد يفهم منه منع الصدقة لئلاَّ تقع مسامحة في الأجرة لأجل ما يأخذه
فيرجع إلى المعاوضة.
قال: وفي حديث عليٍّ من الفوائد سَوْقُ الهدي، والوكالة في نحر الهدي،
والاستئجار عليه، والقيام عليه وتفرقته والاشتراك فيه، وأن مَن وجب عليه
شيء لله فله تخليصه، ونظيره الزرع يعطي عشرة ولا يحسب شيئًا من نفقته على
المساكين، والله أعلم.
* * *
(1/209)
الحديث الخامس
عن زياد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر قد أتى على رجل قد أناخ بدنه ينحرها،
فقال: ابعثها قيامًا مقيَّدة سنة محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم".
قوله: "مقيدة"؛ أي: معقولة.
وعن سعيد بن جبير قال: "رأيت ابن عمر ينحر بدنته وهي معقولة إحدى يديها"؛
رواه سعيد بن منصور.
ولأبي داود من حديث جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا
ينحرون البدنة معقولة اليسرى، قائمة على ما بقى من قوائمها"، وقال ابن عباس
في قوله - تعالى -: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:
36] قال: قيامًا.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث استحباب نحر الإبل على الصفة المذكورة، وفيه
تعليم الجاهل، وعدم السكوت على مخالفة السنة وإن كان مباحًا، وفيه أن قول
الصحابي: من السنة كذا مرفوع عند الشيخين؛ لاحتجاجهما بهذا الحديث في
صحيحيهما.
تتمَّة:
قال البخاري: "وقال عبيد الله: أخبرني نافع عن ابن عمر - رضي الله عنهما -:
لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك، وقال عطاء: يأكل ويطعم
من المتعة"، انتهى.
وروى سعيد بن منصور عن عطاء: "لا يؤكل من جزاء الصيد ولا مما يجعل للمساكين
من النذر"، قال ابن مفلح في "الفروع": واختار أبو بكر والقاضي والشيخ الأكل
من أضحية النذر كالأضحية على رواية وجوبها في الأصح انتهى.
وقال ابن رجب في القاعدة المائة: الواجب بالنذر هل يلحق بالواجب بالشرع أو
بالمندوب؟ فيه خلاف يتنزَّل عليه مسائل كثيرة: منها الأكل من أضحية النذر،
وفيه وجهان، اختار أبو بكر الجواز انتهى، والله أعلم.
* * *
(1/210)
باب الغسل للمحرم
الحديث الأول
عن عبد الله بن حنين: "أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - والمسور بن
مخرمة اختلفا بالأبواء؛ فقال ابن عباس: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور: لا
يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني ابن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري، فوجدته
يغتسل بين القرنين وهو يستتر بثوبٍ، فسلَّمت عليه فقال: مَن هذا؟ فقلت: أنا
عبد الله بن حنين، أرسَلَني إليك ابن عباس يسألك: كيف كان رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يغسل رأسه وهو محرم؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب، فطأطأه
حتى بدا لي رأسه، ثم قال لإنسان يصبُّ عليه الماء: اصبب، فصبَّ على رأسه،
ثم حرَّك رأسه بيديه، ثم أقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيته - صلى الله
عليه وسلم - يفعل"، وفي رواية: "فقال المسور لابن عباس: لا أماريك بعدها
أبدًا".
(القرنان) : العمودان اللذان يُشَدُّ فيهما الخشبة التي تعلق عليها البكرة.
قوله: "باب الغسل للمحرم"، قال البخاري: "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما
-: يدخل المحرم الحمام، ولم يرَ ابن عمر وعائشة بالحكِّ بأسًا".
قال الموفق: فإن حكَّ فرأى في يده شعرًا أحببنا أن يفديه احتياطًا، ولا يجب
عليه حتى يستيقن أنه قلعة.
وقال أيضًا: ويكره له غسل رأسه بالسدر والخطمي ونحوهما؛ لما فيه من إزالة
(1/211)
الشعث والتعرُّض لقلع الشعر.
قوله: "اختلفا بالأبواء"؛ أي: وهما نازلان بها.
قوله: "لا أماريك"؛ أي: لا أجادلك، قال ابن عبد البر: الظاهر أن ابن عباس
كان عنده في ذلك نصٌّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَذَه عن أبي أيوب
أو غيره؛ ولهذا قال عبد الله بن حنين لأبي أيوب: كيف كان يغسل رأسه ولم
يَقُل: هل كان يغسل رأسه.
قال الحافظ: وفي هذا الحديث من الفوائد مناظرة الصحابة في الأحكام ورجوعهم
إلى النصوص، وفيه اعتراف للفاضل بفضله، وإنصاف الصحابة بعضهم بعضًا، وفيه
استتار الغاسل عند الغسل، والاستعانة في الطهارة، وجواز الكلام والسلام
حالة الطهارة، وجواز غسل المحرم وتشريبه شعره بالماء، ودلكه بيده إذا أمن
تناثره، والله أعلم.
* * *
باب فسخ الحج إلى العمرة
الحديث الأول
عن جابر - رضي الله عنه - قال: "أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه بالحج وليس مع أحدٍ منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم -
وطلحة، وقَدِم علي - رضي الله عنه - من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي
- صلى الله عليه وسلم - فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن
يجعلوها عمرةً فيطوفوا، ثم يقصروا ويحلوا، إلاَّ مَن كان معه الهدي،
فقالوا: ننطلق إلى منًى، وذكر أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي
الهدي لأحللت)) ، وحاضت عائشة فنسكت المناسك
(1/212)
كلها، غير أنها لم تَطُف بالبيت، فلمَّا
طهرت طافت بالبيت، قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة، وأنطلق بحج،
فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج.
"فسخ الحج إلى العمرة" هو الإحرام بالحج، ثم يتحلَّل منه بعمل عمرة فيصير
متمتعًا.
قوله: "أهلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالحج"، (الإهلال) أصله
رفع الصوت، والمراد به هنا التلبية.
قوله: "وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلحة" في
حديث عائشة عند مسلم: "كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر
وذوي اليسار"، وفي حديث ابن عباس: "وكان طلحة ممن ساق الهدي ولم يحلَّ".
قوله: "وقدم عليٌّ - رضي الله عنه - من اليمن فقال: أهللت بما أهل به النبي
- صلَّى الله عليه وسلَّم"، ولمسلم في حديث ابن عباس فقال: "لبيك بما أهلَّ
به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يقيم على إحرامه وأشركه في
الهدي".
قوله: "فقالوا ننطلق إلى منًى وذكَر أحدِنا يقطر"؛ أي: لقرب ملامستهم
النساء.
قوله: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي
لأحللت)) قال ابن دقيق العيد: معلل بقوله: {وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، انتهى.
وفيه جواز استعمال (لو) في تمنِّي القربات والعلم والخير.
قوله: "وحاضت عائشة فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، فلما طهرت
طافت بالبيت"، وفي حديث عائشة: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:
((افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري)) ، قال الحافظ:
والحديث ظاهر في نهي الحائض عن الطواف حتى ينقطع دمها وتغتسل؛ لأن النهي في
العبادات يقتضي الفساد، وذلك يقتضي بطلان الطواف لو فعلته، وفي معنى الحائض
الجنب والمحدِث وهو قول الجمهور، وذهب جمعٌ من الكوفيين إلى عدم الاشتراط،
وعند أحمد رواية: أن الطهارة للطواف واجبة تجبر بالدم، وعند المالكية قول
يوافق هذا، انتهى.
(1/213)
قال ابن مفلح في "الفروع": وتشترط الطهارة
من حدث، قال القاضي وغيره: الطواف كالصلاة في جميع الأحكام إلا في إباحة
النطق، وعنه: يجبره بدم، وعنه: إن لم يكن بمكة، وعنه: يصحُّ من ناسٍ ومعذور
فقط، وعنه: يجبره بدم، وعنه: وكذا حائض، وهو ظاهر كلام القاضي وجماعة،
واختاره شيخنا؛ يعني: شيخ الإسلام ابن تيميَّة، وأنه لا دم لعذر، ونقل أبو
طالب: والتطوُّع أيسر وإن طاف فيما لا يجوز له لبسه صحَّ وفدى، ذكره
الآجرِّي، انتهى.
قوله: "قالت: يا رسول الله، تنطلقون بحجة وعمرة وأنطلق بحج، فأمر عبد
الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج"، وفي
رواية: "في ذي الحجة، وأن سراقة بن مالك بن جعشم لقي النبي - صلى الله عليه
وسلم - وهو بالعقبة وهو يرميها، فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ قال:
((لا، بل للأبد)) .
قال الحافظ: الظاهر أن السؤال وقع عن الفسخ، والجواب وقع عمَّا هو أعمُّ من
ذلك؛ أي: فيتناول جواز العمرة في أشهر الحج، وجواز القِرَان، وجواز فسخ
الحج إلى العمرة، انتهى.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
في حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن
كان معه هدي فليهلَّ بالحج، ثم لا يحلُّ حتى يحلَّ منهما جميعًا، فقدمت مكة
وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فشكوت ذلك للنبي - صلى
الله عليه وسلم - فقال: ((انقضى رأسك وامتشطي وأهلِّي بالحج ودعي العمرة))
، ففعلت، فلمَّا قضينا الحج أرسلني النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عبد
الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم فاعتمرت، فقال: هذه مكان عمرتك، قالت: فطاف
الذين كانوا أهلُّوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة ثم حلُّوا ثم طافوا
طوافًا آخر بعد أن رجعوا من منًى، وأمَّا الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما
طافوا طوافًا واحدًا"؛ متفق عليه.
قال الحافظ: وفي الحديث جواز الخلوة بالمحارم سفرًا وحضرًا، وإرداف المحرم
محرمه معه، واستدلَّ به على تعيُّن الخروج إلى الحلِّ لِمَن أراد العمرة
ممَّن كان بمكة.
* * *
(1/214)
الحديث الثاني
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: "قدمنا مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - ونحن نقول: لبيك بالحج، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فجعلناها عمرة".
قال الحافظ: يؤخذ من هذا الحديث فسخ الحج إلى العمرة، وقد ذهب الجمهور إلى
أنه منسوخ، وذهب ابن عباس إلى أنه محكم، وبه قال أحمد وطائفة يسيرة، انتهى.
قال الموفق: ومَن كان مفرِدًا أو قارِنًا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى
ويجعلها عمرة؛ لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك، إلا أن
يكون معه هدي فيكون على إحرامه انتهى، والله أعلم.
وقال البخاري: "باب التمتع والقران والإفراد بالحج وفسخ الحج لِمَن لم يكن
معه هدي"، ثم ذكر حديث جابر وعائشة وغيرهما.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قدم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأصحابه صبيحة أربعة من ذي الحجة مهلِّين بالحج، فأمرهم أن
يجعلوها عمرة، فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال: ((الحلُّ كله)) .
هذا آخر الحديث، وأوَّله: "كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر
الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر
(1/215)
وانسلخ صفر حلت العمرة لِمَن اعتمر، قدم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وأصحابه ... " الحديث، وفيه دليلٌ على
مشروعية فسخ الحج إلى العمرة.
قوله: فقالوا: يا رسول الله، أيُّ الحل؟ قال: ((الحل كله)) قال الحافظ:
كأنهم يعرفون أن للحج تحلُّلَين فأرادوا بيان ذلك فبيَّن لهم أنهم
يتحلَّلون الحلَّ كله؛ لأن العمرة ليس لها إلا تحلُّل واحد، انتهى.
والمراد: إباحة الجماعة وغيره من محظورات الإحرام.
* * *
الحديث الرابع
عن عروة بن الزبير - رضي الله عنه - قال: "سُئِل أسامة بن زيد وأنا جالس:
كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حين دفع؟ فقال: كان يسير
العنق، فإذا وجد فجوة نص"، العنق: انبساط السير، والنص: فوق ذلك.
قوله: "حين دفع"؛ أي: من عرفة، و (الفجوة) : المتَّسع، وفي رواية "فرجة".
قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة
لأجل الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلَّى إلا مع العشاء بالمزدلفة،
فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم
الزحام،
وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله - صلى الله عليه
وسلم - في جميع حركاته وسكونه؛ ليقتدوا به في ذلك.
تتمَّة:
عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "غدَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- من منًى حين صلَّى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي
منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة، حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - مهجِّرًا، فجمَع بين الظهر والعصر، ثم خطَب الناس
ثم راح فوقف على الموقف من عرفة"؛ رواه أحمد وأبو داود.
قوله: "حين صلى الصبح"
(1/216)
في حديث جابر عند مسلم: "ثم مكث قليلاً حتى
طلعت الشمس"، واختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في جواز الجمع والقصر
بعرفة لأهل مكة، فلم يجوِّزه الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه، وجوَّزه
مالك وأحمد في الرواية الأخرى عنه، واختارَه شيخ الإسلام ابن تيميَّة وأبو
الخطاب.
وقال ابن القيم: "خطب - صلى الله عليه وسلم - واحدة، فلمَّا أتمَّها أمر
بلالاً فأذَّن، ثم أقام الصلاة فصلَّى الظهر ركعتين، ثم أقام فصلى العصر
ركعتين أيضًا، ومعه أهل مكة وصلُّوا بصلاته قصرًا وجمعًا بلا ريب، ولم
يأمرهم بالإتمام ولا بترك الجمع"، ومَن قال: إنه قال لهم: ((أتموا صلاتكم
فإنا قوم سفر)) فقط غلط، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة حيث
كانوا في ديارهم مقيمين، ولهذا كان أصحُّ أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون
ويجمعون بعرفة كما فعلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى.
وقال الموفق في "المغني": والحجة مع مَن أباح القصر لكلِّ مسافر إلا أن
ينعقد الإجماع على خلافه، انتهى.
وعن عروة بن مضرِّس بن أوس بن حارثة بن لامٍ الطائي قال: أتيت رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت: يا رسول الله،
إني جئت من جبلي طيِّئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا
وقفت عليه،
فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن شهد صلاتنا
هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفه ليلاً أو نهارًا، فقد تمَّ
حجُّه وقضى تفَثَه)) ؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي.
قال المجد: وهو حجَّة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف.
وعن عبد الرحمن بن يعمر: "أن ناسًا من أهل نجد أتَوْا رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وهو واقف بعرفة فسألوه، فأمر مناديًا ينادي: ((الحج عرفة، مَن
جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر أدرك أيام منًى ثلاثة أيام، فمَن تعجَّل في
يومين فلا إثم عليه، ومَن تأخر فلا إثم عليه)) ، وأردف رجلاً ينادي بهن"؛
رواه الخمسة.
قال الشوكاني: وقد أجمع العلماء على أن مَن وقف في أيِّ جزء كان من عرفات
صحَّ وقوفه، ولها أربعة حدود: حد إلى جادة طريق المشرق، والثاني إلى حافات
الجبل الذي وراء أرضها، والثالث إلى البساتين التي تلي قرنيها على يسار
مستقبِل الكعبة، والرابع وادي عرنة، وليست هي ولا نمرة من عرفات ولا من
الحرم،
(1/217)
انتهى.
وعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((نحرت ها هنا ومني كلها منحر فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها
موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف)) ؛ رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ولابن
ماجه وأحمد أيضًا نحوه، وفيه: كل فِحَاجِ مكة طريق ومنحر.
وعن أسامة بن زيد قال: "كنت ردف النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات، فرفع
يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه وهو
رافع يده الأخرى"؛ رواه النسائي.
قال الموفق: والمستحبُّ أن يقف عند الصخرات وجبل الرحمة ويستقبِل القبلة؛
لما جاء في حديث جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل بطن ناقته
القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة"، انتهى.
تنبيه:
ما يفعله العوامُّ من استقبال قرن عرفة واستدبار القبلة عند الدعاء بدعة
مخالفة للسنة، ولا أعلم لذلك أصلاً من كتاب الله - تعالى - ولا سنة رسوله -
صلى الله عليه وسلم - ولا قول مَن يقتدي به، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الخامس
عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر، فحلقت قبل أن
أذبح، قال: ((اذبح ولا حرج)) ، وقال الآخر: لم أشعر، فنحرت قبل أن أرمي،
فقال: ((ارمِ ولا حرج)) ، فما سُئِل يومئذٍ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال:
((افعل ولا حرج)) .
قوله: "عن عبد الله بن عمر"، قال الحافظ: هو ابن العاص، بخلاف ما وقع في
بعض نسخ "العمدة"، وشرح عليه ابن دقيق العيد ومَن تبعه على أنه ابن عمر.
قوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع"؛ أي: بمنًى
"فجعلوا يسألونه"، وفي رواية: "رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - عند
الجمرة وهو يسأل"،
(1/218)
وفي رواية: "وقف رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - على ناقته"، وفي رواية: "أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب
يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: كنت أحسب أنَّ كذا قبل كذا، ثم قام آخر
فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا، حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي،
وأشباه ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((افعل ولا حرج)) لهن
كلهن، فما سُئِل يومئذ عن شيء إلا قال: ((افعل ولا حرج)) .
قال الحافظ: كان ذلك يوم النحر بعد الزوال وهو على راحلته يخطب عند الجمرة،
ولا يلزم من وقوفه عند الجمرة أن يكون حينئذ رماها، ففي حديث ابن عمر: أنه
- صلى الله عليه وسلم - وقف يوم النحر بين الجمرات فذكر خطبته، فلعل ذلك
وقع بعد أن أفاض ورجع إلى منى.
قوله: "فقال رجل لم أشعر أي لم أفطن"، ولمسلم: "لم أشعر أن الرمي قبل
النحر، فنحرت قبل أن أرمي"، وقال آخر: "لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت
قبل أن أنحر"، ولمسلم: "إني حلقت قبل أن أرمي"، وقال آخر: "أفضت إلى البيت
قبل أن أرمي".
قوله: ((أذبح ولا حرج)) ؛ أي: لا ضيق عليك في ذلك، قال الحافظ: أي: لا شيء
عليك مطلقًا من الإثم، لا في الترتيب ولا في ترك الفدية، هذا ظاهره، وقال
بعض الفقهاء: المراد نفي الإثم فقط، وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات
الصحيحة: "ولم يأمر بكفارة"، وقال الحافظ أيضًا: وظائف يوم النحر بالاتفاق
أربعة أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير،
ثم طواف الإفاضة.
وفي حديث أنس في الصحيحين: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى منًى،
فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنًى فنحر وقال للحلاق: ((خذ)) ، ولأبي
داود: "رمى ثم نحر ثم حلق".
وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، واختلفوا في جواز تقديم بعضها
على بعض؛ فأجمعوا على الإجزاء في ذلك، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في
بعض المواضع.
وقال القرطبي: ذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء أصحاب الحديث إلى
الجواز وعدم وجوب الدم؛ لقوله للسائل: ((لا حرج)) ، فهو ظاهر في رفع الإثم
والفدية معًا؛ لأن اسم الضيق يشملها، انتهى.
ولمسلم: فما سمعته سُئِل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجعل من تقديم بعض
الأمور على بعض وأشباهها إلا قال: ((افعلوا ولا حرج)) ،
(1/219)
قال الموفق في "المغني": قال الأثرم عن
أحمد: إن كان ناسيًا أو جاهلاً فلا شيء عليه، وإن كان عالمًا فلا؛ لقوله في
الحديث: ((لم أشعر)) .
وقال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دلَّ على وجوب
اتِّباع الرسول في الحج بقوله: ((خذوا عني مناسككم)) ، وهذه الأحاديث
المرخِّصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قُرِنت بقول السائل: لم أشعر،
فيختصُّ الحكم بهذه الحالة وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج.
قال الحافظ: وفي الحديث من الفوائد جواز القعود على الراحلة للحاجة، ووجوب
اتباع أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون الذين خالفوها لمَّا علموا
سألوه عن حكم ذلك، واستدلَّ به البخاري على أن مَن حلف على شيء ففعله
ناسيًا أو جاهلاً أن لا شيء عليه.
* * *
الحديث السادس
عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي: "أنه حجَّ مع ابن مسعود - رضي الله عنه -
فرآه يرمي الجمرة الكبرى بسبع حصياتٍ فجعل البيت عن يساره ومنًى عن يمينه،
ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلَّى الله عليه وسلَّم".
قال الأعمش: سمعت الحجاج يقول على المنبر: السورة التي يذكر فيها البقرة
والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء، قال:
فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود -
رضي الله عنه - حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي حتى إذا حاذَى بالشجرة
اعترَضَها فرمى بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة، ثم قال: من ها هنا، والذي لا
إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال الحافظ: تمتاز جمرة العقبة عن
(1/220)
الجمرتين الأُخرَيَيْن بأربعة أشياء:
اختصاصها بيوم النحر، وأن لا يوقف عندها، وترمي ضحى، ومن أسفلها استحبابًا.
قال: وليست من منًى بل هي حد مني من جهة مكة، وهي التي بايَع النبي - صلى
الله عليه وسلم - الأنصار عندها على الهجرة، و (الجمرة) : اسم لمجتمع
الحصى.
قال: وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن
يمينه، أو عن يساره، أو من فوقها، أو من أسفلها، أو وسطها، والاختلاف في
الأفضل، انتهى.
وخصَّ ابن مسعود سورة البقرة لأنها التي ذكر الله فيها كثيرًا من أفعال
الحج، وقيل: خص البقرة بذلك لطولها وعظم قدرها وكثرة ما فيها من الأحكام.
قال الحافظ: واستدلَّ بهذا الحديث على اشتراط رمي الجمرات واحدة واحدة؛
لقوله: "يكبر مع كل حصاة"، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا
عنِّي مناسككم)) ، وفيه ما كان الصحابة عليه من مراعاة حال النبي - صلى
الله عليه وسلم - في كلِّ حركة وهيئة، ولا سيَّما في أعمال الحج، وفيه
التكبير عند رمي حصى الجمار، وأجمعوا على أن مَن لم يكبر فلا شيء عليه.
فائدة:
زاد محمد بن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن أبيه في هذا الحديث عن ابن
مسعود: أنه لما فرغ من رمي جمرة العقبة قال: "اللهم اجعله حجًا مبرورًا
وذنبًا مغفورًا"، انتهى.
تتمَّة:
عن الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - وكان رديف النبي - صلى الله عليه
وسلم -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في عشية عرفة وغداةَ جمع
للناس حين دفعوا: ((عليكم السكينة)) ، وهو كافٌّ ناقته حتى دخل محسِّرًا
وهو من منى، قال: ((وعليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة)) ؛ رواه أحمد
ومسلم.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن
لضَعَفة الناس من المزدلفة بليل"؛ رواه أحمد.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمرة
يوم النحر ضحى، وأمَّا بعد فإذا زالت الشمس"؛ أخرجه الجماعة.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا
رمى الجمار مشى إليها ذاهبًا وراجعًا"؛ رواه الترمذي وصحَّحه، وفي لفظٍ
عنه: أنه كان يرمي الجمرة يوم النحر راكبًا، وسائر ذلك ماشيًا، ويخبرهم أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك؛
(1/221)
رواه أحمد.
وعن سالم عن ابن عمر: أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبِّر مع كل
حصاة، ثم يتقدَّم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلاً ويدعو ويرفع يديه، ثم
يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو
ويرفع يديه ويقوم طويلاً، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف
عندها، ثم ينصرف ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله؛
رواه أحمد والبخاري.
وعن سعد بن مالك - رضي الله عنه - قال: "رجعنا في الحجة مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - وبعضنا يقول: رميت بسبع حصيات، وبعضنا يقول: رميت بست
حصيات، فلم يعب بعضهم على بعض"؛ رواه أحمد والنسائي.
وعن وبرة قال: "سألت ابن عمر - رضي الله عنهما -: متى أرمي الجمار؟ قال:
إذا رمى إمامك فارمِه، فأعدت عليه المسألة، قال: كنَّا نتحيَّن فإذا زالت
الشمس رمينا"؛ رواه البخاري.
قال الحافظ: فيه دليلٌ على أن السنة أن يرمي الجمار في غير يوم الأضحى بعد
الزوال، وبه قال الجمهور، وخالَف فيه عطاء وطاوس فقالا: يجوز قبل الزوال
مطلقًا، ورخَّص الحنفية في الرمي في يوم النفر قبل الزوال، وقال إسحاق: إن
رمى قبل الزوال أعاد، إلاَّ في اليوم الثالث فيجزئه، انتهى.
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى الظهر
والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به؛ رواه
البخاري.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "إنما كان منزلاً ينزله النبي - صلى
الله عليه وسلم - ليكون أسمح لخروجه"؛ تعني: بالأبطح، متفق عليه.
وعن عبد العزيز ابن رفيع قال: "سألت أنس بن مالك: أخبِرني بشيء عقلتَه عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أين صلى الظهر يوم التروية؟ قال: بمنًى، قلت:
فأين صلى العصر يوم النفر؟ قال: بالأبطح، افعل كما يفعل أمراؤك"؛ متفق
عليه.
* * *
الحديث السابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا: والمقصِّرين يا رسول الله؟
(1/222)
قال: ((اللهم ارحم المحلِّقين)) ، قالوا:
يا رسول الله، والمقصِّرين؟ قال: ((والمقصِّرين)) .
الحلق أو التقصير: نسك من مناسك الحج والعمرة؛ قال الله - تعالى -: {لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] .
قوله: ((اللهم ارحم المحلقين)) في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((اللهم اغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قال:
((اللهم أغفر للمحلِّقين)) ، قالوا: وللمقصِّرين، قالها ثلاثًا، قال:
((وللمقصرين)) .
وعن ابن عمر قال: "حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع وأناس
من أصحابه وقصر بعضهم".
وزاد فيه مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يرحم الله
المحلِّقين)) .
قوله: "قالوا: والمقصرين يا رسول الله" قال الحافظ: الواو في قوله:
((والمقصرين)) معطوفة على شيء محذوف تقديره: قل: والمقصرين، أو: قل: وأرحم
المقصرين، وهو يسمى العطف التلقيني، انتهى.
وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يستغفر لأهل الحديبية، للمحلِّقين ثلاثًا وللمقصِّرين مرَّة"؛ رواه أحمد،
قال الحافظ: ظاهر الروايات أن ذلك كان بالحديبية وفي حجة
(1/223)
الوداع، إلاَّ أن السبب في الموضعين
مختلف؛ فالذي بالحديبية كان بسبب توقُّف مَن توقَّف من الصحابة عن الإحلال
لما دخل عليهم من الحزن لكونهم مُنِعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في
أنفسهم على ذلك، فحالَفَهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وصالَح قريشًا على
أن يرجع من العام المُقبِل، فلمَّا أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
بالإحلال توقَّفوا، فأشارت أم سلَمَة أن يحلَّ هو - صلى الله عليه وسلم -
قبلهم ففعل فتبعوه، فحلق بعضهم وقصَّر بعض، وكان مَن بادر إلى الحلق أسرع
إلى امتثال الأمر ممَّن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في
حديث ابن عباس؛ فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره: أنهم قالوا: يا رسول الله،
ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالرحمة؟ قال: ((لأنهم لم يشكُّوا)) ، وأمَّا
السبب في تكرير الدعاء للمحلِّقين في حجة الوداع، فالأَوْلَى ما قاله
الخطابي وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحبُّ توفير الشعر والتزيُّن به،
وكان الحلق فيهم قليلاً، وربما كانوا يرَوْنَه من الشهرة ومن زيِّ الأعاجم،
فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير.
قال: وفي الحديث من الفوائد أن التقصير يجزى عن الحلق، وفيه أن الحلق أفضل
من التقصير، ووجهه أنه أبلغ في العبادة وأَبْيَن للخضوع والذلَّة وأدلُّ
على صدق النية، والذي يقصر يبقى على نفسه شيئًا مما يتزيَّن به بخلاف
الحالق فإنه يشعر بأنه ترك ذلك لله - تعالى - واستدلَّ بقوله: ((المحلقين))
على مشروعية حلق جميع الرأس؛ لأنه الذي تقتضيه الصيغة، وقال بوجوب حلق
جميعه مالك وأحمد، واستحبَّه الكوفيون والشافعي، والتقصير كالحلق، فالأفضل
أن يقصر من جميع شعر رأسه، ويستحب أن لا ينقص عن قدر الأنملة، وهذا كله في
حق الرجال، وأما النساء: فالمشروع في حقِّهن التقصير بالإجماع، وفيه حديثٌ
لابن عباس عند أبي داود، ولفظه: ((ليس على النساء حلق، وإنما على النساء
التقصير)) ، وللترمذي من حديث عليٍّ: "نهى أن تحلق المرأة رأسها".
وفي الحديث أيضًا مشروعيةُ الدعاء لِمَن فعل ما شرع له وتكرير الدعاء لِمَن
فعل الراجح من الأمرين المخيَّر فيهما، والتنبيه بالتكرار على الرجحان،
وطلب الدعاء لِمَن فعل الجائز وإن كان مرجوحًا، انتهى ملخصًا.
* * *
الحديث الثامن
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما
يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله، إنها حائض، فقال: ((أحابِسَتَنا
هي؟)) ، قالوا: يا رسول الله، إنها قد أفاضت يوم النحر،
(1/224)
قال: ((اخرجوا)) ، وفي لفظ: قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((عَقْرَى حَلْقَى، أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم،
قال: ((فانفري)) .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((عَقْرَى حَلْقَى)) ؛ أي: عقرها الله وحلق
شعرها، والعرب تدعو على الرجل ولا تريد وقوع الأمر به، كما قالوا: قاتَلَه
الله، وترِبت يداه، ونحو ذلك.
قوله: ((أحابستنا هي؟)) قال الحافظ: أي: مانعتنا من التوجُّه من مكة في
الوقت الذي أردنا التوجُّه فيه ظنًّا منه - صلى الله عليه وسلم - أنها ما
طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك لأنه كان لا يتركها ويتوجَّه، ولا يأمرها
بالتوجُّه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف
وتحل الحل الثاني.
قوله: ((أفاضت يوم النحر؟)) ، قيل: نعم، قال: ((فانفري)) قال ابن المنذر:
قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع،
انتهى.
وعن عكرمة: "أن أهل المدينة سألوا ابن عباس - رضي الله عنهما - عن امرأة
طافت ثم حاضت، قال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد، قال: إذا
قدمتم المدينة فسلوا، فقدموا المدينة فسألوا: فكان فيمَن سألوا أم سليم،
فذكرت حديث صفية"؛ متفق عليه.
قال الحافظ: وفي الحديث أن طواف الإفاضة ركن، وأن الطهارة شرطٌ لصحة
الطواف، وأن طواف الوداع واجب، وقد ذكر مالك في "الموطأ": أنه يلزم الجمال
أن يحبس لها؛ أي: لِمَن لم تَطُفْ طواف الإفاضة إلى انقضاء أكثر مُدَّة
الحيض، وكذا على النفساء، واستشكله ابن المواز بأن فيها تعريضًا للفساد
كقطع الطريق، وأجاب عياض بأن محلَّ ذلك مع أمن الطريق، كما أن محلَّه أن
يكون مع المرأة محرم، انتهى.
وقال ابن مفلح في "الفروع": ويلزم الناس في الأصحِّ وجزَم به ابن شهاب
انتظارها إن أمكن، ونقل المروذي في المريض ببلد العدو يقيمون عليه، قال: لا
ينبغي للوالي أن يقيم عليه، انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: والمحصَر بمرض أو ذهاب نفقة كالمحصَر
بعدوٍّ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ومثله حائض تعذَّر مقامها وحرم طوافها
أو رجعت ولم تَطُفْ لجهلها بوجوب طواف الزيارة، أو لعجزها
(1/225)
عنه، أو لذهاب الرفقة، والمحصَر يلزمه دم
في أصح الروايتين، ولا يلزمه قضاء حجه إن كان تطوعًا، وهو إحدى الروايتين
انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث التاسع
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "أُمِر الناس أن يكون آخر
عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض".
طواف الوداع واجب، ويلزم بتركه دمٌ، وهو قول أكثر العلماء.
قوله: "أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت"؛ أي: أمرهم النبي - صلى الله
عليه وسلم - وفي رواية لمسلم قال: "كان الناس ينصرفون في كلِّ وجه، فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده
بالبيت)) .
قال الحافظ: وفيه دليل على وجوب طواف الوداع للأمر المؤكَّد به وللتعبير في
حق الحائض بالتخفيف، والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكَّد، واستدلَّ به على
أن الطهارة شرط لصحة الطواف، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث العاشر
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "استأذن العباس بن عبد المطلب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته،
فأذن له".
قال الحافظ: في الحديث دليلٌ على وجوب المبيت بمنًى، وأنه من مناسك الحج؛
لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة، وأن الإذن وقَع للعلة
المذكورة وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن، وبالوجوب قال
الجمهور، وفي الحديث
(1/226)
أيضًا استئذان الأمراء والكبراء فيما يطرأ
من المصالح والأحكام، وبدار مَن استؤمر إلى الإذن عند ظهور المصلحة،
والمراد بليالي منًى ليلة الحادي عشر واللتين بعدها، انتهى.
قال الأزرقي: "كان عبدمناف يحمل الماء في الروايا والقرب إلى مكة ويسكبه في
حياض من أدم بفناء الكعبة للحجاج، ثم فعله ابنه هاشم بعده ثم عبد المطلب،
فلمَّا حفر زمزم كان يشتري الزبيب فينبذه في ماء زمزم ويسقي الناس.
قال ابن إسحاق: ثم ولي السقاية من بعد عبد المطلب ولده العباس وهو يومئذ من
أحدث إخوته سنًّا، فلم تزل بيده حتى قام الإسلام وهي بيده، فأقرَّها رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - معه، فهي اليوم إلى بني العباس، روى الفاكهي
عن ابن عباس: أن العباس لما مات أراد عليٌّ أن يأخذ السقاية، فقال له طلحة:
أشهد لَرَأيت أباه يقوم عليها، وإن أباك أبا طالب لنازل في إبله بالأراك
بعرفة، قال: فكف علي عن السقاية".
ومن طريق ابن جريج قال: "قال العباس: يا رسول الله، لو جمعت لنا الحجابة
والسقاية، فقال: ((إنما أعطيتكم ما تُرزؤون ولم أعطكم ما تَرزؤون)) ؛ أي:
أعطيتكم ما ينقصكم لا ما تنقصون به الناس.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جاء إلى السقاية فاستسقى، فقال العباس: يا فضل، أذهب إلى أمك فائت رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها، فقال: ((اسقني)) ، قال يا
رسول الله، إنهم يجعلون أيديهم فيه، قال: ((اسقني)) ، فشرب منه، ثم أتى
زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: ((اعملوا
فإنكم على عمل صالح)) ، ثم قال: ((لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على
هذه)) ؛ يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه"؛ رواه البخاري.
تتمَّة:
عن عاصم بن عدي - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منًى، يرمون يوم النحر ثم يرمون الغداة ومن
بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر"؛ رواه الخمسة وصحَّحه الترمذي.
وفي رواية: "رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا"؛ رواه أبو داود
والنسائي، وللترمذي: "ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر يرمون في أحدهما".
قال الشوكاني في قوله: "ويدعوا يومًا": أي: يجوز لهم أن يرموا الأوَّل من
أيام التشريق ويذهبوا
(1/227)
إلى إبلهم فيبيتوا عندها، ويدعوا يوم النفر
الأول ثم يأتوا في اليوم الثالث فيرموا ما فاتهم في اليوم الثاني مع الثاني
مع رمي اليوم الثالث، وفيه تفسير ثانٍ: وهو أنهم يرمون جمرة العقبة ويدعون
رمي ذلك اليوم ويذهبون، ثم يأتون في اليوم الثاني من التشريق فيرمون ما
فاتهم، ثم يرمون ذلك اليوم كما تقدَّم وكلاهما جائز، انتهى.
وقال الموفق: وإن أخَّر الرمي كله فرماه في آخر أيام التشريق أجزأه ويرتبه
بنيته، وإن أخَّره عن أيام التشريق أو ترك المبيت بمنًى في لياليها فعليه
دم، وفي حصاة واحدة أو ليلة واحدة ما في حلق شعرة، وليس على أهل سقاية
الحاج والرعاء مبيت بمنى، انتهى.
وعن أبي نضرة قال: "حدثني من سمع خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في
أوسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم
واحد، ألاَ لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على
أسود، ولا لأسود على
أحمر - إلا بالتقوى، أبلغت؟)) ، قالوا: بلغ رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم"؛ رواه أحمد.
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: "دخلت مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - البيت، فحمد الله وأثنى عليه، وكبر وهلل، ثم قام إلى ما بين
يديه من البيت فوضع صدره عليه وخده ويديه، ثم هلل وكبر ودعا، ثم فعل ذلك
بالأركان كلها، ثم خرج فأقبل على القبلة وهو على الباب فقال: ((هذه القبلة،
هذه القبلة)) ، مرتين أو ثلاثًا"؛ رواه أحمد والنسائي.
وعن عبد الرحمن بن صفوان - رضي الله عنه - قال: "لما فتح رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - مكة انطلقت فوافقته قد خرج من الكعبة وأصحابه قد استلموا
البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله - صلى
الله عليه وسلم - وسطهم"؛ رواه أحمد وأبو داود، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الحادي عشر
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "جمع النبي - صلى الله عليه
وسلم - بين المغرب والعشاء بجمعٍ يجعل لكلِّ واحدة منهما إقامة ولم يسبِّح
بينهما، ولا على أثر واحدة منهما".
(1/228)
قوله: "بجمع"؛ أي: المزدلفة، وفي حديث
أسامة: "دفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عرفة، فنزل الشِّعْبَ
فبَالَ، ثم توضَّأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: ((الصلاة
أمامك)) ، فجاء المزدلفة فتوضَّأ فأسبغ، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم
أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أُقِيمت الصلاة فصلى العشاء ولم يصلِّ
بينهما"؛ متفق عليه.
ولمسلم: "فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلُّوا حتى أقام العشاء، فصلُّوا
ثم حلُّوا"، قال الحافظ: وكأنهم صنعوا ذلك رفقًا بالدواب أو للأمن من
تشوُّشِهم بها، وفيه إشعارٌ بأنه خفَّف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا
بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع،
انتهى.
وعن جابر: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة فصلَّى بها
المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئًا ثم اضطجع حتى
طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبيَّن له الصبح بأذان وإقامة"؛ رواه مسلم.
وفي حديث ابن مسعود: فلمَّا طلع الفجر قال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم
- كان لا يصلي هذه الساعة، إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال
عبد الله: هما صلاتان يحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعدما يأتي الناس
المزدلفة، والفجر حين يبزغ الفجر"؛ رواه البخاري.
قوله: "ولم يسبح بينهما ولا على أثر واحدة منهما"، قال الحافظ: ويستفاد منه
أنه ترك التنفُّل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء
مهلة، صرح بأنه لم يتنفَّل بينهما بخلاف العشاء، فإنه يحتمل أن يكون أنه لم
يتنفَّل بعدها، لكن تنفَّل بعد ذلك في أثناء الليل، انتهى.
وقال ابن رشد في "بداية المجتهد": واختلفوا إذا كان الإمام مكيًّا، هل يقصر
بمنًى الصلاة يوم التروية، وبعرفة يوم عرفة، وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان
من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير
سواء كان من أهلها أو لم يكن.
وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر مَن كان
من أهل تلك المواضع.
وحجة مالك: أنه لم يروَ أن أحدًا أتمَّ الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم -
أعني بعد سلامه منها.
وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر
حتى يدل الدليل على التخصيص، انتهى.
قال شيخ الإسلام
(1/229)
ابن تيميَّة: ويجمع ويقصر بمزدلفة وعرفة
مطلقًا، وهو مذهب مالك وغيره من السلف، وقول طائفة من أصحاب الشافعي،
واختاره أبو الخطاب في عباداته، ولا يشترط للقصر والجمع نية، واختاره أبو
بكر عبد العزيز بن جعفر وغيره، انتهى، وبالله التوفيق.
* * *
باب الحرم يأكل من صيد الحلال
الحديث الأول
عن أبي قتادة الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - خرج حاجًّا فخرجوا معه، فصرف طائفة منهم أبو قتادة وقال: خذوا على
ساحل البحر حتى نلتقي، فأخذوا ساحل البحر، فلمَّا انصرفوا أحرموا كلهم إلا
أبا قتادة لم يحرم، فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش، فحمل أبو قتادة على
الحمر فعقر منها أتانًا فنزلنا وأكلنا من لحمها، ثم قلنا: نأكل من لحم صيد
ونحن محرمون؟ فحملنا ما بقي من لحمها، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فسألناه عن ذلك، فقال: ((أمنكم أحدٌ أمَرَه أن يحمِل عليها أو أشار
إليها؟)) ، قالوا: لا، قال: ((فكلوا ما بقي من لحمها)) ، وفي رواية: ((هل
معكم منه شيء؟)) ، فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها.
قوله: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حاجًّا فخرجوا معه"، في
رواية: "انطلقنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية فأحرم
أصحابه ولم أحرم فأنبئنا بعدو بغسيقة فتوجَّهنا نحوهم فبصر أصحابي بحمار
وحشي، فجعل بعضهم يضحك إلى بعض، فنظرت فرأيته، فحملت عليه الفرس فطعنته
فأثبتُّه فاستعنتهم فأبَوْا أن
(1/230)
يعينوني فأكلنا منه"، وفي رواية عند
البيهقي: "خرج حاجًا أو معتمرًا".
قوله: "فلمَّا انصرفوا أحرموا كلهم إلا أبا قتادة لم يحرم"، في حديث أبي
سعيد: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحرمنا، فلمَّا كنا
بمكان كذا إذا نحن بأبي قتادة وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في
وجه ... )) الحديث.
قوله: "فبينما هم يسيرون رأوا حمر وحش"، في رواية: "فأبصروا حمارًا وحشيًّا
وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به وأحبُّوا لي أني أبصرته والتفتُّ
فأبصرته"، وفي رواية: "فقلت ما هذا؟ فقالوا: لا ندري، فقلت: هو حمار وحش،
فقالوا: هذا ما رأيت".
قال الحافظ: وفي حديث أبي قتادة من الفوائد أن تمني المحرم أن يقع من
الحلال الصيد ليأكل المحرم منه لا يقدح في إحرامه، وأن الحلال إذا صاد
لنفسه جاز للمحرم الأكل من صيده، وهذا يقوي من حمل الصيد في قوله - تعالى
-: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:
96] ، على الاصطياد، وفيه الاستيهاب من الأصدقاء وقبول الهدية من الصديق.
وقال عياض: عندي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب من أبي قتادة ذلك
تطييبًا لقلب مَن أكل منه بيانًا للجواز بالقول والفعل لإزالة الشبهة التي
حصلت لهم، وفيه إمساك نصيب الرفيق الغائب ممَّن يتعيَّن احترامه أو تُرجَى
بركته، أو يتوقَّع منه ظهور حكم تلك المسألة بخصوصها، وفيه تفريق الإمام
أصحابه للمصلحة واستعمال الطليعة في الغزو، وفيه أن عقر الصيد ذكاته، وفيه
استعمال الكناية في الفعل كما تُستَعمل في القول؛ لأنهم استعملوا الضحك في
موضع الإشارة لما اعتقدوه من أن الإشارة لا تحلُّ، وفيه ذكر الحكم مع
الحكمة في قوله: ((إنما هي طعمة أطعمكموها الله)) .
تكملة:
لا يجوز للمحرم قتل الصيد إلا إن صالَ عليه فقتله دفعًا فيجوز، ولا ضمان
عليه، والله أعلم، اهـ.
* * *
الحديث الثاني
عن الصعب بن جثامة الليثي - رضي الله عنه -: "أنه أهدى إلى النبي
(1/231)
- صلى الله عليه وسلم - حمارًا وحشيًّا وهو
بالأبواء أو بوَدَّانَ فردَّه عليه، فلمَّا رأى ما في وجهه قال: ((إنا لم
نردَّه عليك إلا أنا حرم)) ، وفي لفظ لمسلم: "رجل حمار"، وفي لفظ: "شق
حمار"، وفي لفظ: "عجز حمار".
قال الشافعي في "الأم": إن كان الصعب أهدى له حمارًا حيًّا، فليس للمحرم أن
يذبح حمار وحش حي، وإن كان أهدى له لحمًا، فقد يحتمل أن يكون أنه صيد له.
قوله: "فلمَّا رأى ما في وجهه"؛ أي: من الكراهية، وفي رواية: "فلمَّا عرف
في وجهي رده هديتي".
قوله: قال: ((إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم)) ، في رواية: ((لولا أنا
مُحرِمون لقبلناه منك)) .
قوله: وفي لفظٍ لمسلم: "رجل حمار"، في روايةٍ له أيضًا عن ابن عباس قال:
"قدم زيد بن أرقم فقال له عبد الله بن عباس يستذكره كيف: أخبرني عن لحم صيد
أُهدِي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حرام قال: أهدي له عضو من
لحم صيد فرده وقال: ((إنا لا نأكله، إنا حرم)) ، قال الحافظ: جمع الجمهور
بين ما اختلف من ذلك بأن أحاديث القبول محمولة على ما يصيده الحلال لنفسه
ثم يهدي منه للمحرم، وأحاديث الرد محمولة على ما صاده الحلال لأجل المحرم،
قالوا: والسبب في الاقتصار على الإحرام عند الاعتذار للصعب أن الصيد لا
يحرم على المرء إذا صيد له إلا إذا كان محرمًا، فبيَّن الشرط الأصلي وسكت
عمَّا عداه فلم يدلَّ على نفيه، وقد بينه في الأحاديث الأخر، ويؤيِّد هذا
الجمع حديث جابر مرفوعًا: ((صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصاد لكم))
؛ أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة.
وفي حديث الصعب الحكمُ بالعلامة لقوله: "فلمَّا رأى ما في وجهي"، وفيه جواز
رد الهدية لعلَّة، وفيه الاعتذار عن ردِّ الهدية تطييبًا لقلب المهدي، وأن
الهبة لا تدخل في الملك إلا بالقبول، وأن قدرته على تملكها لا تصيِّره
مالكًا لها، وأن على المحرم أن يرسل ما في يده من الصيد الممتنع عليه
اصطياده، والله أعلم، اهـ.
تتمَّة:
قال الموفق: وإن أحرم وفي يده صيد، أو دخل الحرم بصيد لزمه إزالة يده
المشاهدة دون الحكمية عنه، فإن لم يفعل فتلف ضَمِنَه، وإن أرسله إنسان
(1/232)
من يده قهرًا فلا ضمان على المرسل.
قوله: "لزمه إزالة يده المشاهدة"؛ أي: مثلما إذا كان في قبضته أو خيمته أو
قفصه ونحوه، قال في "الشرح الكبير": إذا أحرم وفي ملكه صيد لم يزل ملكه عنه
ولا يده الحكمية مثل أن يكون في بلده، أو في يد نائب له في غير مكانه، ولا
شيء عليه إن مات، وله التصرُّف فيه بالبيع والهبة وغيرهما، وإن غصبه غاصب
لزمه ردُّه، ويلزمه إزالة يده المشاهدة عنه، ومعناه إذا كان في قبضته أو
خيمته أو رحله أو قفص معه أو مربوط بحبل معه لزمه إرساله، وبه قال مالك
وأصحاب الرأي.
وقال الثوري: هو ضامن لما في بيته أيضًا، وحُكِي نحو ذلك عن الشافعي، وقال
أبو ثور: ليس عليه إرسال ما في يده وهو أحد قولي الشافعي؛ لأنه في يده ولم
يجب إرساله كما لو كان في يده الحكمية، ولأنه لا يلزم منع ابتداء الصيد
المنع من استدامته بدليل الصيد في الحرم، ولنا على أنه لا يلزمه إزالة يده
الحكمية أنه لم يفعل في الصيد فعلاً فلم يلزمه شيء كما لو كان في ملك غيره،
وعكس هذا إذا كان في يده المشاهدة، لأنه فعل الإمساك في الصيد فكان ممنوعًا
منه، وكحالة الابتداء فإن استدامة الإمساك إمساك، بدليل أنه لو حلف لا يملك
شيئًا فاستدام إمساكه حنث، والأصل المقيس عليه ممنوع والحكم فيه ما ذكرنا
قياسًا عليه إذا ثبت هذا فإنه متى أرسله لم يزل ملكه عنه، ومَن أخذه رده
عليه إذا حلَّ، ومَن قتله ضَمِنَه له؛ لأن ملكه كان عليه، وإزالة يده لا
تزيل الملك بدليل الغصب والعارية، فإن تلف في يده قبل إرساله مع إمكانه
ضمنه، اهـ.
وقال ابن مفلح في "الفروع": وإن ملك صيدًا في الحل فأدخله الحرم لزمه رفع
يده وإرساله، فإن أتلفه أو تلف ضمنه كصيد الحلِّ في حق المحرم، نقله
الجماعة وعليه الأصحاب وفاقًا لأبي حنيفة، ويتوجَّه أنه لا يلزمه إرساله
وله ذبحه، ونقل الملك فيه وفاقًا لمالك والشافعي؛ لأن الشارع إنما نهى عن
تنفير صيد مكة، ولم
يبيِّن مثل هذا الحكم الخفي مع كثرة وقوعه والصحابة مختلفون، وقياسه على
الإحرام فيه نظر؛ لأنه آكد لتحريمه ما لا يحرم، اهـ.
تكميل:
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي
هذا، والمسجد الأقصى)) .
قال الحافظ: قوله: ((لا تُشَدُّ الرحال)) بضم أوَّله بلفظ النفي،
(1/233)
والمراد النهي عن السفر إلى غيرها، قال
الطيبي: هو أبلغ من صريح النهي فإنه قال لا يستقيم أن يقصد بالزيارة إلا
هذه البقاع لاختصاصها بما اختصَّت به، والرِّحال بالمهملة جمع رحل وهو
للبعير كالسرج للفرس، وكني بشدِّ الرحال عن السفر لأنه لازِمه، وخرج ذكرها
مخرج الغالب في ركوب المسافر، وإلا فلا فرق بين ركوب الرواحل والخيل
والبغال والحمير والمشي في المعنى المذكور، ويدلُّ عليه قوله في بعض طرقه:
((إنما يسافر)) ؛ أخرجه مسلم من طريق عمران بن أبي أويس عن سليمان الأغر عن
أبي هريرة، اهـ.
وقال الصنعاني في "سبل السلام": والحديث دليلٌ على فضيلة هذه المساجد،
ودلَّ بمفهوم الحصر أنه يحرم شد الرحال لقصد غير الثلاثة، كزيارة الصالحين
أحياءً وأمواتًا لقصد التقرُّب ولقصد المواضع الفاضلة لقصد التبرُّك بها
والصلاة فيها، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو محمد الجويني، وبه قال القاضي
عياض وطائفة، ويدلُّ عليه ما رواه أصحاب السنن من إنكار أبي بصرة الغفاري
على أبي هريرة خروجه إلى الطور، وقال: لو أدركتك قبل أن تخرج ما خرجت،
واستدلَّ بهذا الحديث ووافَقَه أبو هريرة.
وذهب الجمهور إلى أن ذلك غير محرَّم، واستدلُّوا بما لا ينهض، وتأوَّلوا
أحاديث الباب بتآويل بعيدة، ولا ينبغي التأويل إلا بعد أن ينهض على خلاف ما
أوَّلوه الدليل.
وقد دلَّ الحديث على فضل المساجد الثلاثة، وأن أفضلها المسجد الحرام؛ لأن
التقديم ذكرًا يدلُّ على مزيَّة المقدَّم، ثم مسجد المدينة، ثم المسجد
الأقصى، وقد دلَّ لهذا أيضًا ما أخرجه البزار وحسَّن إسناده من حديث أبي
الدرداء مرفوعًا: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في
مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) ، وفي معناه
أحاديث أُخَر، اهـ.
وقال الشوكاني في "شرح المنتقى": وقد اختلف أقوال أهل العلم في زيارة قبر
النبي - صلى الله عليه وسلم - فذهب الجمهور إلى أنها مندوبة، وذهب بعض
المالكية وبعض الظاهرية إلى أنها واجبة، وقالت الحنفية: إنها قريبة من
الواجبات، وذهب ابن تيميَّة الحنبلي حفيد المصنف المعروف بشيخ الإسلام إلى
أنها غير مشروعة، وتبعه على ذلك بعض الحنابلة، وروى ذلك عن مالك والجويني
والقاضي عياض، اهـ.
وقال ابن القيم: فصل في هديه - صلى الله عليه وسلم - في زيارة
(1/234)
القبور، كان إذا زار قبور أصحابه يزورها
للدعاء لهم، والترحُّم عليهم، والاستغفار لهم، وهذه هي الزيارة التي سنَّها
لأمَّته وشرعها لهم، وأمرهم أن يقولوا إذا زاروها: "السلام عليكم أهل
الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله
لنا ولكم العافية"، وكان هديه أن يقول ويفعل عند زيارتها من جنس ما يقوله
عند الصلاة عليه من الدعاء والترحُّم والاستغفار، فأبى المشركون إلا دعاء
الميت والإشراك به، والإقسام على الله به، وسؤاله الحوائج، والاستعانة به،
والتوجُّه إليه بعكس هديه - صلى الله عليه وسلم - فإنه هدي توحيد وإحسان
إلى الميت، وهدي هؤلاء شرك وإساءة إلى نفوسهم وإلى الميت، وهم ثلاثة أقسام:
إمَّا أن يدعوا الميت، أو يدعوا به، أو عنده، ويرون الدعاء عنده أوجَب
وأَوْلَى من الدعاء في المساجد، ومَن تأمَّل هدي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه تبيَّن له الفرق بين الأمرين، وبالله التوفيق، اهـ.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان إذا دخل المسجد قال: السلام عليك
يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتِ، ثم ينصرف؛
رواه مالك في الموطأ.
قال الموفق في "المغني": ولا يستحب التمسُّح بحائط قبر النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولا تقبيله، قال أحمد: ما أعرف هذا، قال الأثرم: رأيت أهل
العلم من أهل المدينة لا يمسُّون قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - يقومون
من ناحية فيسلمون، قال أبو عبد الله: وهكذا كان ابن عمر يفعل، اهـ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((ما منكم من أحد يسلم علي إلا ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه
السلام)) ؛ رواه أبو داود بإسناد صحيح.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة: وإذا سلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم -
استقبل القبلة ودعا في المسجد ولم يدعُ مستقبلاً للقبر كما كان الصحابة
يفعلونه وهذا بلا نزاع، وما نقل عن مالك فيما يخالف ذلك مع المنصور فليس
بصحيح وإنما تنازعوا في وقت التسليم هل يستقبل القبر أو القبلة؟ فقال أصحاب
أبي حنيفة: يستقبل القبلة، والأكثرون على أنه يستقبل القبر، انتهى، وبالله
التوفيق، والله أعلم.
* * *
(1/235)
|