خلاصة
الكلام شرح عمدة الأحكام كتاب البيوع
الحديث الأول
عن عبد اله بن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: ((إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا
وكانا جميعًا، أو يخبر أحدهما الآخر)) ، قال: ((فإن خير أحدهما الآخر
فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع)) .
وما في معناه من حديث حكيم بن حزام وهو:
* * *
الحديث الثاني
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البيِّعان بالخيار ما لم
يتفرَّقا)) ، أو قال: ((حتى يتفرَّقا، فإن صدَقا وبينا بُورِك لهما في
بيعهما، وإن كتما وكذبا مُحِقت بركة بيعهما)) .
البيع جائز بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقال - عزَّ وجلَّ -:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] .
والبيوع: جمع بيع، وجمع لاختلاف أنواعه، قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة:
وكلُّ ما عدَّه الناس بيعًا أو هبةً من متعاقب أو متراخٍ من قول أو فعل
انعقد به البيع والهبة.
(1/236)
قوله: ((إذا تبايع الرجلان فكلُّ واحد
منهما بالخيار ما لم يتفرَّقا)) ؛ أي: فينقطع الخيار.
وقوله: ((وكانا جميعًا)) تأكيد لذلك.
قوله: ((أو يخير أحدهما الآخر)) ؛ أي: إذا اشترط أحدهما الخيار مدَّة
معلومة فإن الخيار لا ينقضي بالتفرُّق بل يبقى حتى تنقضي مدَّة الخيار التي
شرطها، فالبيع جائز والشرط لازم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
((والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالاً أو أحلَّ حرامًا)) والخيار
طلب أحد الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، والحديث دليلٌ على ثبوت خيار
المجلس للبائع والمشتري، فلكلِّ واحدٍ منهما فسخ البيع ما داما في مجلس
العقد، فإذا تفرَّقا لزم البيع، وفيه دليل على خيار الشرط.
قال شيخ الإسلام: ويثبت خيار المجلس في البيع وفي كل العقود ولو طالت
المدَّة، فإن أطلقا الخيار ولم يؤقتا بمدَّة توجَّه أن يثبت ثلاثًا لخبر
حبان بن منقذ: وللبائع الفسخ في مدَّة الخيار إذا ردَّ الثمن وإلا فلا،
انتهى.
وخبر حبان أخرجه أصحاب السنن، عن ابن عمر: أن حبان بن منقذ سفع في رأسه في
الجاهلية مأمومة فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((بايع وقل لا خلابة ثم أنت بالخيار ثلاثًا))
، قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة.
قوله: ((فإن صدقًا وبيّنًا)) ؛ أي: إن صدقا في قولهما وبيَّن البائع عيب
السلعة وبيَّن المشتري عيب الثمن ((بُورِك لهما في بيعهما، وإن كتما)) : أي
العيب ((وكذبا)) في قولهما ((مُحِقت بركة بيعهما)) ، وفي الحديث فضل الصدق
والحث عليه، وذم الكذب والتحذير منه، وأنه سبب لذهاب البركة، وأن العمل
الصالح يحصل حيري الدنيا والآخرة، والله المستعان.
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": والصحيح في مسألة البيع بشرط البراءة من كلِّ عيب،
والذي قضى به الصحابة وعليه أكثر أهل العلم: أن البائع إذا لم يكن علم بذلك
العيب فلا رد للمشتري، لكن إذا ادَّعى أن البائع علم بذلك فأنكر البائع حلف
أنه لم يعلم، فإن نكل قضى عليه، وإذا اشترى شيئًا فظهر به على عيب فله أرشه
إن تعذَّر رده وإلا فلا، وهو روايةٌ عن أحمد ومذهب أبي حنيفة والشافعي،
وكذا
في نظائره كالصفقة إذا تفرقت، والبيع بالصفة السليمة صحيح وهو مذهب أحمد،
وإن باعه لبنًا موصوفًا في الذمة واشتراط كونه من هذه الشاة أو البقرة
صحَّ، انتهى.
* * *
(1/237)
باب ما نهى الله عنه
من البيوع
الحديث الأول
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
نهى عن المنابذة؛ وهي طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو
ينظر إليه، ونهى عن الملامسة؛ والملامسة لمس الرجل الثوب لا ينظر إليه.
قوله: "باب ما نهى الله عنه من البيوع"؛ أي: على لسان رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال الله - تعالى -: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ
وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] ، قال ابن رشد في "بداية
المجتهد": وإذا اعتبرت الأسباب التي من قِبَلها ورد النهي الشرعي في
البيوع، وهي أسباب الفساد العامة وجدت أربعة: أحدها تحريم عين المبيع،
والثاني: الربا، والثالث: الغرر، والرابع: الشروط التي تؤول إلى أحد هذين
أو مجموعهما.
قوله: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المنابذة، وهي طرح الرجل
ثوبه ... إلى آخره، (المنابذة) و (الملامسة) و (الحصاة) : بيوع كانوا
يتبايعون بها في الجاهلية وهي من القمار ومن بيوع الغرر.
ولأحمد: والمنابذة أن يقول: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب البيع، والملامسة:
أن يلمس بيده ولا يشره ولا يقلبه، إذا مسه وجب البيع.
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": يصحُّ بيع الحيوان المذبوح مع جلده وهو قول جمهور
العلماء، وكذا لو أفرد أحدهما بالبيع، ويصحُّ بيع المغروس في الأرض الذي
يظهر ورقه: كالقت والجوز والقلقاس والفجل والبصل وشبه ذلك، وقاله
(1/238)
بعض أصحابنا، ويصحُّ البيع بالرقم، وبما
ينقطع به السعر، وكما يبيع الناس، وهو أحد القولين في مذهب أحمد، ولو باع
ولم يسمِّ الثمن صحَّ بثمن المثل كالنكاح، انتهى.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((لا تلقوا الركبان، ولا يَبِع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبيع
حاضر لبادٍ، ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم، ومَن ابتاعها فهو بخير النظرين
بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردَّها وصاعًا من تمرٍ)) ، وفي
لفظ: ((وهو بالخيار)) ثلاثًا.
قوله: ((لا تلقوا الركبان)) ظاهرٌ في النهي عن ذلك؛ لما يحصل به من الغرر
على الجالب والضرر على أهل السوق.
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا
تلقوا الجلب، فمَن تلقى فاشترى، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار)) .
قوله: ((ولا يبع بعضكم على بيع بعض)) ، وللنسائي ((لا يبيع الرجل على بيع
أخيه حتى يبتاع أو يذر)) .
ولمسلم: ((لا يسومن المسلم على سوم المسلم)) ، قال العلماء: البيع على
البيع حرام، وكذلك الشراء على الشراء، وهو أن يقول لِمَن اشترى سلعة في زمن
الخيار: افسخ لأبيعك بأنقص، أو يقول للبائع: افسخ لأشتري منك بأَزْيَد، قال
الحافظ: وهو مُجمَع عليه.
وأمَّا السوم فصورته: أن يأخذ شيئًا ليشتريه فيقول له: ردَّه لأبيعك خيرًا
منه بثمنه أو مثله بأرخص، أو يقول للمالك: استرده لأشتريه منك بأكثر،
ومحلُّه بعد استقرار الثمن وركون أحدهما إلى الآخر، اهـ.
وعن أنس - رضي الله عنه -: أنه - صلى الله عليه وسلم - باع حلسًا وقدحًا
وقال: ((مَن يشتري هذا الحلس والقدح؟)) ، فقال رجل: أخذتهما بدرهم، فقال:
((مَن يزيد على
(1/239)
درهم؟)) ، فأعطاه الرجل درهمين فباعهما
منه؛ رواه أحمد وأصحاب السنن.
قوله: ((ولا تناجشوا)) (النجش) : هو الزيادة في ثمن السلعة ممَّن لا يريد
شراءها ليقع غيره فيها، فإن كان ذلك بمواطأة البائع فيشتركان في الإثم،
وإلا
فيختصُّ بذلك الناجش، قال البخاري: وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكِل ربا
خائن، وهو خداع باطل لا يحلُّ.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الخديعة في النار، ومَن عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو ردّ)) ، اهـ.
قوله: ((ولا يبيع حاضر لبادٍ)) ، في رواية لمسلم: ((لا يبيع حاضر لبادٍ،
دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
وقال البخاري: باب هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر؟ وهل يعينه أو ينصحه؟ وقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) ، اهـ.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لبادٍ)) ، قال: فقلت لابن عباس: ما
قوله: ((لا يبيع حاضر لبادٍ)) ؟ قال: لا يكون له سمسارًا، وقوله: ((ولا
يبيع)) نفي بمعنى النهي.
وصورة بيع الحاضر للبادي أن يحمل البدوي أو القروي متاعه إلى البلد ليبيعه
بسعرِ يومِه ويرجع فيأتيه البلديُّ فيقول: ضعه عندي لأبيعه على التدريج
بزيادة سعر وذلك إضرار بأهل البلد.
قوله: ((ولا تُصَرُّوا الإبل والغنم)) بضم التاء من صرَّى يصرِّي تصرية،
والمصراة هي التي صرى لبنها وجمع، فلم يُحلَب أيامًا، وهو حرام؛ لأنه غش
وخديعة، وفي رواية: ((مَن اشترى غنمًا مصراة فاحتلبها فإن رضيها أمسكها،
وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر)) .
قوله: ((فهو بخير النظرين)) ؛ أي: الرأيين.
قوله: ((إن رضيها أمسكها)) ؛ أي: أبقاها على ملكه، قال الحافظ: وهو يقتضي
صحة بيع المصراة وإثبات الخيار للمشتري، وحكى البغوي أن لا خلاف في المذهب
أنهما لو تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره كفى.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصلٌ في النهي عن الغش، وأصلٌ في ثبوت الخيار
لِمَن دلَّس عليه بعيب، وأصلٌ في أنه لا يفسد أصل البيع، وأصلٌ في أن
مُدَّة الخيار ثلاثة أيام، وأصلٌ في تحريم التصرية وثبوت الخيار فيها.
* * *
(1/240)
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل
يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، قيل إنه كان يبيع
الشارف وهي الكبيرة المسنة بنتاج الجنين الذي في بطن ناقته.
قوله: "كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في
بطنها"؛ أي: ثم تعيش المولودة حتى تكبر ثم تلد، والمنع في ذلك للجهالة في
الأجل، والمنع في التفسير الثاني من جهة أنه بيع معدوم ومجهول وغير مقدور
على تسليمه فيدخل في بيوع الغرر.
ولأحمد عن ابن عمر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر
قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتبايعون ذلك البيع يبتاع الرجل بالشارف حبل
الحبلة، فنهوا عن ذلك.
قال ابن التين: محصل الخلاف هل المراد البيع إلى أجل أو بيع الجنين؟ وعلى
الأول هل المراد بالأجل ولادة الأم أو ولادة ولدها، وعلى الثاني هل المراد
بيع الجنين الأول أو بيع جنين الجنين، فصارت أربعة أقوال، اهـ، وكل هذه
الصور داخلة في النهي، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: "نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهي البائع والمشتري".
ومثل هذا حديث أنس، وهو الذي بعده:
* * *
(1/241)
الحديث الخامس
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى
عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمرَّ أو تصفرَّ، قال:
أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه؟
سبب هذا النهي ما قال البخاري: وقال الليث: عن أبي الزناد وكان عروة بن
الزبير يحدث عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري قال: كان الناس في عهد رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار فإذا جاذَّ الناس وحضر تقاضيهم قال
المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان أصابه مرض أصابه قشام عاهات يحتجُّون بها،
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك:
فإمَّا لا فلا تتبايعوا كالمشورة يشير بها لكثرة خصومتهم، وأخبرني خارجة بن
زيد بن ثابت أن زيد بن ثابت لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا
فيتبيَّن الأصفر من الأحمر.
قوله: "حتى يبدو صلاحها"؛ أي: يظهر، وفي حديث جابر نهى النبي - صلى الله
عليه وسلم - أن تُباع الثمرة حتى تشقح، فقيل: ما تشقح؟ قال: تحمار وتصفار
ويُؤكَل منها؛ متفق عليه.
قوله: "نهى البائع والمشتري" قال الحافظ: أمَّا البائع فلئلاَّ يأكل مال
أخيه بالباطل، وأمَّا المشتري فلئلاَّ يضيع ماله ويساعد البائع على الباطل،
وفيه أيضًا قطع النزاع والتخاصم، ومقتضاه جواز بيعها بعد بُدُوِّ الصلاح
مطلقًا، سواء اشترط الإبقاء أم لم يشترط؛ لأن ما بعد الغاية مُخالِف لما
قبلها، وقد جعل النهي ممتدًّا إلى غاية بُدُوِّ الصلاح، والمعنى فيه أن
تؤمن فيها العاهة، وتغلب السلامة، فيَثِق المشتري بحصولها بخلاف ما قبل
بُدُوِّ الصلاح فإنه بصدد الغرر، وسبب النهي عن ذلك خوف الغرر لكثرة
الجوائح فيها.
وفي حديث أنس: ((فإذا احمرَّت وأُكِل منها أُمِنت العاهة عليها)) ؛ أي:
غالب.
قوله: "نهى عن بيع الثمار حتى تزهى"، في رواية:
(1/242)
أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها،
وعن النخل حتى يزهو.
قوله: "أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه؟ وفي رواية:
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أرأيت إذا منع الله الثمرة بِمَ
يأخذ أحدكم مال أخيه؟)) .
وعن ابن شهاب قال: لو أن رجلاً ابتاع ثمرًا قبل أن يبدو صلاحه ثم أصابته
عاهة كان ما أصابه على ربه.
وروى مسلم عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو بعت من
أخيك ثمرًا فأصابته عاهة فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا، بِمَ تأخذ مال
أخيك بغير حق؟)) ، قال الحافظ: واستدلَّ بهذا على وضع الجوائح في الثمر
يشترى بعد بُدُوِّ صلاحه، ثم تصيبه جائحة، فقال مالك: يضع عنه الثلث، وقال
أحمد وأبو عبيد: يضع الجميع، وقال الشافعي والليث والكوفيون: لا يرجع على
البائع بشيء، وقالوا: إنما ورد وضع الجائحة فيما إذا بيعت الثمرة قبل
بُدُوِّ صلاحها بغير شرط القطع، فيحمل مطلق الحديث في رواية جابر على ما
قيد به في حديث أنس، والله أعلم.
واستدلَّ الطحاوي بحديث أبي سعيد: أصيب رجل في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((تصدَّقوا عليه)) ، فتصدَّق الناس عليه،
فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال: ((خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك)) ؛ أخرجه
مسلم وأصحاب السنن، قال: فلمَّا لم يبطل دين الغرماء بذهاب الثمار وفيهم
باعتها ولم يُؤخَذ الثمن منهم دلَّ على أن الأمر بوضع الجوائح ليس على
عمومه، والله أعلم.
قوله: ((بِمَ يستحلُّ أحدكم مال أخيه)) ؛ أي: لو تلف الثمر لانتفى في
مقابلته العِوَض، فكيف يأكله بغير عوض؟ وفيه إجراء الحكم على الغالب؛ لأن
تطرُّق التلف إلى ما بدا صلاحه ممكن، وعدم التطرُّق إلى ما لم يبدُ صلاحه
ممكن، فأُنِيط الحكم بالغالب في الحالتين، انتهى.
تتمَّة:
قال في "الاحتيارات": والصحيح أنه يجوز بيع المقاثي جمة بعروقها، سواء بدا
صلاحها أو لا، وهذا القول له مأخذان: أحدهما: أن العروق كأصول الشجر، فبيع
الخضروات قبل بُدُوِّ صلاحها كبيع الشجر بثمره قبل بُدُوِّ صلاحه يجوز
تبعًا، والمأخذ الثاني وهو الصحيح أن هذه لم تدخل في نهي النبي - صلى الله
عليه وسلم - بل يصحُّ العقد على اللقطة الموجودة واللقطة المعدومة إلى أن
يبس
(1/243)
المقثأة؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك، ويجوز
بيع المقاثي دون أصولها، وقال بعض أصحابنا: وإذا بدا صلاح بعض الشجرة جاز
بيعها وبيع ذلك الجنس، وهو رواية عن أحمد وقول الليث بن سعد، انتهى.
* * *
الحديث السادس
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - أن تُتَلقَّى الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، قال: فقلت لابن
عباس ما قوله حاضر لبادٍ، قال: لا يكون له سمسارًا".
(السمسار) : متولِّي البيع والشراء لغيره وهو الدلاَّل، قال البخاري: باب
هل يبيع حاضر لبادٍ بغير أجر، وهل يعينه أو ينصحه، وقال النبي - صلى الله
عليه وسلم -: ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) .
قال الحافظ: قال ابن المنير وغيره: حمل البخاري النهي عن بيع الحاضر للبادي
على معنى خاص وهو البيع بالأجر أخذًا من تفسير ابن عباس، وقوي ذلك بعموم
أحاديث ((الدين النصيحة)) ؛ لأن الذي يبيع بالأجرة لا يكون غرضه نصح البائع
غالبًا، وإنما غرضه تحصيل الأجرة، فاقتضى ذلك إجازة بيع الحاضر للبادي بغير
أجرة من باب النصيحة، انتهى.
وعن جابر مرفوعًا: ((دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح الرجل
فلينصح له)) ؛ رواه البيهقي.
* * *
الحديث السابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن المزابنة؛ وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلاً
(1/244)
بتمرٍ كيلاً، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب
كيلاً، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كلِّه".
قوله: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة"، وفي رواية: "إن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه
ولا تبيعوا الثمر بالتمر)) .
قال سالم: وأخبرني عبد الله عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - رخَّص بعد ذلك في بيع العرايا بالرطب أو بالتمر، ولم يرخص في غيره))
، وحقيقة المزابنة بيع مجهول بمعلوم من جنسه، ومن صورها أيضًا ما روى
البخاري عن ابن عمر، والمزابنة أن يبيع الثمر بكيل إن زاد لي وإن نقص
فعليَّ.
قال الحافظ: ولا يلزم من كونها ثمارًا ألاَّ تسمى مزابنة؛ واستدلَّ بأحاديث
الباب على تحريم بيع الرطب باليابس ولو تساويا في الكيل والوزن؛ لأن
الاعتبار بالتساوي إنما يصحُّ حالة الكمال، والرطب قد ينقص إذا جفَّ عن
اليابس نقصًا لا يتقدَّر وهو قول الجمهور، وأصرح من ذلك حديث سعد بن أبي
وقاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن بيع الرطب بالتمر فقال:
((أينقص الرطب إذا جفَّ؟)) ، قالوا: نعم، قال: ((فلا إذًا)) ؛ أخرجه مالك
وأصحاب السنن وصحَّحه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم، انتهى.
قوله: ((كيلاً)) ذكر الكيل ليس بقيد هنا؛ لأن المسكوت عنه أَوْلَى بالمنع
من المنطوق، والله اعلم.
* * *
الحديث الثامن
عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن".
* * *
(1/245)
الحديث التاسع
عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وكسب الحجام خبيث)) .
قوله: "نهى عن ثمن الكلب" قال الحافظ: ظاهر النهي تحريم بيعه، وهو عام في
كل كلب معلَّمًا كان أو غيره ممَّا يجوز اقتناؤه أو لا يجوز، ومن لازم ذلك
أن لا قيمة على متلفه وبذلك قال الجمهور، انتهى.
وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره؛ لما روى النسائي عن جابر
قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب إلا كلب صيد"،
قال الحافظ: أخرجه النسائي بإسناد رجال ثقات إلا أنه طُعِن في صحته.
قوله: "ومهر البغي" هو ما تُعطَاه على الزنا، وسُمِّي مهرًا على سبيل
المجاز، وهو حرام لأنه في مقابلة حرام.
قوله: "وحلوان الكاهن" هو ما يُعطَاه على كهانته، قال الحافظ: وهو حرام
بالإجماع؛ لما فيه من أخذ العِوَض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب
بالحصا وغير ذلك مما يتعاطاه العرَّافون من استطلاع الغيب، والكهانة
ادِّعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب،
والأصل فيه استراق الجني السمعَ من كلام الملائكة فيلقيه في أذن الكاهن.
والكاهن لفظٌ يُطلَق على العراف، والذي يضرب بالحصا، والمنجم؛ ويطلق على
مَن يقوم بأمرٍ آخر ويسعى في قضاء حوائجه، وقال الخطابي: الكهَنَة قومٌ لهم
أذهان حادَّة، ونفوس شرِّيرة، وطباع ناريَّة، فألِفَتهم الشياطين لما بينهم
من التناسب في هذه الأمور وساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه.
قوله: ((وكسب الحجام خبيث)) وفي حديث ابن عباس: "احتجم النبي - صلى الله
عليه وسلم - وأعطى الحجام أجره، ولو كان حرامًا لم يعطه"، قال الحافظ:
واختلف العلماء في كسب الحجام؛ فذهب الجمهور إلى أنه حلال، واحتجُّوا بحديث
ابن عباس قالوا:
(1/246)
هو كسب فيه دناءة وليس بمحرَّم، فحملوا
الزجر عنه على التنزيه، ومنهم مَن ادَّعى النسخ وأنه كان حرامًا ثم أُبِيح،
وجنح إلى ذلك الطحاوي، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، وذهب أحمد وجماعة إلى
الفرق بين الحر والعبد، فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة، ويحرم عليه الإنفاق
على نفسه منها، ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب منها، وأباحوها للعبد
مطلقًا، وعمدتهم حديث محيصة: أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كسب
الحجام فنهاه، فذكر له الحاجة فقال: ((أعلفه نواضحك)) ؛ أخرجه مالك وأحمد
وأصحاب السنن ورجاله ثقات، انتهى.
قال في "الاختيارات": وإذا كان الرجل محتاجًا إلى هذا الكسب ليس له ما
يغنيه عنه إلا المسألة للناس فهو خيرٌ له من مسألة الناس، كما قال بعض
السلف: كسبٌ فيه دناءة خيرٌ من مسألة الناس.
* * *
باب العرايا وغير ذلك
الحديث الأول
عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رخَّص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها تمرًا يأكلونها رطبًا".
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رخَّص في بيع العرايا في خمسة أَوْسُق أو دون خمسة أَوْسُق)) .
(العرايا) ، جمع عرية: وهي في الأصل عطية ثمر النخل دون الرقبة، كان العرب
في الجدب يتطوَّع أهل النخل بذلك على مَن لا ثمر له، كما يتطوَّع صاحب
الشاء
(1/247)
أو الإبل بالمنيحة، وصورة العرية المرخَّص
فيها: أن يشتري ثمرَ نخلاتٍ بأعيانها بخرصها من التمر خمسة أَوْسُق أو
دونها فيخرصها ويبيعه ويقبض منه التمر ويسلم له النخلات بالتخلية فينتفع
برطبها.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((مَن باع نخلاً قد أبرَّت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع)) .
ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع)) .
(التأبير) : التشقيق والتلقيح، قال القرطبي: إبار كل شيء بحسب ما جرت
العادة أنه إذا فعل فيه ثبتت ثمرته وانعقدت فيه، ثم قد يعبر به عن ظهور
الثمرة وعن انعقادها وإن لم يفعل فيها شيء.
قال الحافظ: وقد استدلَّ بمنطوقه على أن مَن باع نخلاً وعليها ثمرة مؤبرة
لم تدخل الثمرة في البيع، بل تستمرُّ على ملك البائع وبمفهومه على أنها إذا
كانت غير مؤبرة أنها تدخل في البيع وتكون للمشتري وبذلك قال الجمهور.
قوله: "إلا أن يشترط المبتاع"؛ أي: المشتري، قال الحافظ: وقد استدلَّ بهذا
الإطلاق على أنه يصحُّ اشتراط بعض الثمرة كما يصحُّ اشتراط جميعها،
ويُستَفاد من الحديث أن الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد لا يُفسِد البيع
فلا يدخل في النهي عن بيع وشرط، انتهى.
قوله: "ولمسلم: ((مَن ابتاع عبدًا فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع))
وهو في البخاري أيضًا، قال ابن دقيق العيد: استدلَّ به لمالك على أن العبد
يملك لإضافة الملك إليه باللام، وقال غيره: يؤخذ منه أن العبد إذا ملكه
سيده مالاً فإنه يملكه، وبه قال مالك وكذا الشافعي في القديم، لكنه إذا
باعه بعد ذلك رجع المال لسيده إلا أن يشترط المبتاع، وقال الكرماني: قوله:
وله مال، إضافة المال إلى العبد مجاز كإضافة الثمرة إلى النخلة.
* * *
(1/248)
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) ، وفي لفظ: ((حتى
يقبضه)) ، وعن ابن عباس مثله.
قال البخاري: باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، وذكر حديث ابن
عباس بلفظ: "أمَّا الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام
أن يباع حتى يقبض"، قال ابن عباس: ولا أحسب كل شيء إلا مثله، ثم ذكر حديث
ابن عمر وفي رواية: "قال طاوس قلت لابن عباس: كيف ذاك؟ قال: ذاك دراهم
بدراهم والطعام مرجًا".
قوله: ((مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه)) هذا نصٌّ في المنع عن بيع
الطعام قبل أن يستوفيه.
قوله: ((حتى يقبضه)) فيه زيادة في المعنى؛ لأنه قد يستوفيه بالكيل ولا
يقبضه.
وروى الدارقطني عن جابر: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع
الطعام حتى يجري فيه الصاعان: صاع البائع، وصاع المشتري"، وروى الجماعة إلا
الترمذي عن ابن عمر: "كنَّا نشتري الطعام من الركبان جزافًا فنهانا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - أن نبيعه حتى ننقله"، قال في "الاختيارات":
ويملك المشتري المبيع بالعقد، ويصحُّ عتقه قبل القبض إجماعًا فيهما، ومَن
اشترى شيئًا لم يبعه قبل قبضه سواء المكيل والموزون وغيرهما، وهو رواية عن
أحمد اختارها ابن عقيل ومذهب الشافعي.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "وسواء كان البيع من ضمان المشتري أو
لا"، وعلى ذلك تدلُّ أصول أحمد، انتهى.
* * *
الحديث الخامس
عن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/249)
يقول عام الفتح: ((إن الله ورسوله حرَّم
بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم
الميتة فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهَن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟
فقال: ((لا، هو حرام)) ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك:
((قاتَل الله اليهود، إن الله لمَّا حرَّم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه
فأكلوا ثمنه)) .
((جملوه)) ؛ أي: أذابوه.
الميتة ما زالت عنه الحياة بغير ذكاة شرعية، وهي حرام بالكتاب والسنة
والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى
النُّصُبِْ} [المائدة: 3] .
ويُستَثنى من الميتة السمك والجراد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
((أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان؛ فأمَّا الميتتان فالجراد والحوت، وأمَّا
الدمان فالطحال والكبد)) .
قوله: "فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة فإنها يطلى بها السفن، ويدهن
بها الجلود، ويستصبح بها الناس"؛ أي: فهل يحلُّ بيعها، فقال: ((لا، هو
حرام)) ؛ أي: البيع، قال في "الاختيارات": وقرن الميتة وعظمها وظفرها وما
هو من جنسه كالحافر ونحوِه طاهرٌ، وقال غير واحد من العلماء: ويجوز
الانتفاع بالنجاسات، وسواء في ذلك شحم الميتة وغيرُه وهو قول الشافعي،
وأومأ إليه أحمد في رواية ابن منصور، ويطهُر جلد الميتة الطاهرة حال الحياة
بالدباغ، وهو روايةٌ عن أحمد، انتهى.
قال الحافظ: والظاهر أن النهي عن بيع الأصنام للمبالغة في التنفير عنها،
ويلتحق بها في الحكم الصلبان التي تعظِّمها النصارى، ويحرم نحت جميع ذلك
وصنعته، انتهى.
قوله: ((قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليم شحومها جملوه ثم باعوه
فأكلوا ثمنه)) فيه إبطال الحِيَل والوسائل إلى المحرم.
* * *
(1/250)
باب السَّلَم
الحديث الأول
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "قَدِم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال:
((مَن أسلف في شيء فليسلف في كيلٍ معلومٍ ووزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ)) .
(السَّلَم) : هو السَّلَف وزنًا ومعنًى، وقيل: السَّلَف لغة أهل العراق،
والسَّلَم لغة أهل الحجاز، وهو بيع موصوف في الذمة، واتَّفق العلماء على
أنه يشترط له ما يشترط للبيع وعلى تسليم رأس المال في المجلس، إلا مالكًا
فإنه أجاز تأخير اليومين والثلاثة.
والسَّلَم جائز بالكتاب والسنة والإجماع، قال الله - تعالى -: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
قوله: ((في شيء)) قال الحافظ: أُخِذ منه جواز السلم في الحيوان إلحاقًا
للعدد بالكيل، والعدد والذرع ملحق بالكيل والوزن للجامع بينهما وهو عدم
الجهالة بالمقدار، انتهى.
وقال مالك: يجوز السَّلَم في المكيل وزنًا وفي الموزون كيلاً إذا كان الناس
يتبايعون التمر وزنًا، قال الموفق: وهذا أصحُّ إن شاء الله تعالى؛ لأن
الغرض معرفة قدره وخروجه من الجهالة وإمكان تسليمه من غير تنازُع فبأي قدر
قدَّره جاز، انتهى.
وقال مالك أيضًا: يجوز السَّلَم إلى الحصاد وقدوم الحاج.
وعن عبد الله بن أبزى وعبد الله بن أبي أوفى قالا: "كنَّا نصيب المغانم مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يأتينا أنباط من أنباط الشام
فنسلقهم في الحنطة والشعير والزبيب - وفي رواية: والزيت - إلى أجل مسمى،
قيل: أكان لهم زرع؟ قالا: ما كنَّا نسألهم عن ذلك"؛ رواه البخاري.
ويجوز الرهن في السلم والكفيل به، وهو قول مالك والشافعي وأهل الرأي ورواية
عن أحمد؛
(1/251)
لقوله الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قوله {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة:
283] ، قال في "الاختيارات": ويصحُّ السَّلَم حالاً إن كان المسلم فيه
موجودًا في ملكه وإلاَّ فلا، ويجوز بيع الدَّين في الذمَّة من الغريم وغيره
ولا فرق بين دين السلم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عباس، لكنَّه
بقدر القيمة فقط لئلاَّ يربح فيما لم يضمن، وقال أيضًا: ويصحُّ الصلح عن
المؤجَّل ببعضه حالاً وهو روايةٌ عن أحمد وحكى قولاً للشافعي، انتهى، والله
أعلم.
* * *
باب الشروط في البيع
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع
أواقٍ في كلِّ عام أوقية، فأعينيني، فقالت: إنْ أحبَّ أهلك أن أعدَّها لهم
ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت
من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت إني عرضت ذلك
عليهم فأبوا إلا أن يكون لهم الولاء، فأخبرت عائشة النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لِمَن أعتق)) ،
ففعلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد، فما بالُ رجالٍ يشترطون شروطًا ليست في كتاب
الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء
الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لِمَن أعتق)) .
(1/252)
هذا الحديث جليل كثير الفوائد، قال النووي:
صنَّف ابن خزيمة وابن جرير في قصة بريرة تصنيفين كبيرين، وقال الحافظ:
استنبط بعضهم منه أربعمائة فائدة.
قولها: "كاتبت أهلي" (المكتابة) بيع العبد نفسه بمال في ذمته؛ قال الله -
تعالى -: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ
مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33] .
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء
لِمَن أعتق)) كان - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم الناس بأن اشتراط الولاء
باطل.
قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط)) قال
ابن بطال: المراد بكتاب الله هنا حكمه من كتابه أو سنة رسوله أو إجماع
الأمة، انتهى.
ويُستَفاد منه أن الشروط التي لم تخالف الشرع صحيحة ولو تعدَّدت، كما قال -
صلى الله عليه وسلم -: ((والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرّم حلالاً أو
أحلَّ حرامًا)) .
قوله: ((قضاء الله أحق)) ؛ أي: بالاتِّباع من الشروط المخالفة له ((وشرط
الله أوثق)) ؛ أي: باتِّباع حدوده التي حدَّها ((وإنما الولاء لمن أعتق))
(إنما) للحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قال الحافظ: وفي حديث بريرة من الفوائد جواز كتابه الأمَة كالعبد، وجواز
كتابة المتزوِّجة ولو لم يأذن الزوج، وفيه جواز السؤال لِمَن احتاج إليه من
دين أو غرم أو نحو ذلك، وفيه أن المرأة الرشيدة تتصرَّف لنفسها في البيع
وغيره ولو كانت مزوجة، وفيه جواز رفع الصوت عن إنكار المنكر، وأنه لا بأس
لِمَن أراد أن يشتري للعتق أن يُظهِر ذلك لأصحاب الرقبة ليتساهلوا له في
الثمن ولا يُعَدُّ ذلك من الرياء، وفيه أن الشيء إذا بِيعَ بالنقد كانت
الرغبة فيه أكثر ممَّا لو بِيعَ بالنسيئة، وفيه جواز الشراء بالنسيئة، وفيه
جواز البيع على شرط العتق بخلاف البيع بشرط أن لا يبيعه لغيره مثلاً ولا
يهبه، وأن من الشروط في البيع ما لا يبطل ولا يضرُّ البيع، وفيه جواز بيع
المُكاتِب إذا رضِي وإن لم يكن عاجزًا عن أداء نجم قد حلَّ، وأنه لا بأس
للحاكم أن يحكم لزوجته بالحق، وأن بيع الأمَة ذات الزوج ليس بطلاق، وفيه
البداءة في الخطبة بالحمد والثناء، وقوله: أمَّا بعد فيها، وجواز تعدُّد
الشروط؛ لقوله: ((مائة شرط)) ، وفيه أن لا كراهة في السجع في الكلام إذا لم
يكن عن قصد ولا متكلفًا،
(1/253)
وفيه جواز شراء السلعة للراغب في شرائها
بأكثر من ثمن مثلها؛ لأن عائشة بذلت ما قرر نسيئة على جهة النقد مع اختلاف
القيمة بين النقد والنسيئة، وفيه جواز استدانة مَن لا مال له عند حاجته
إليه، وفيه مشاورة المرأة زوجها في التصرُّفات، وسؤال العالم عن الأمور
الدينية، وإعلام العالم بالحكم لِمَن رآه يتعاطى أسبابه ولو لم يسأل، وفيه
أن المدين يبرأ أداء غيره عنه، وفيه أن الأيدي ظاهرة في الملك، وأن مشتري
السلعة لا يسأل عن أصلها إذا لم تكن ريبة، وفيه جواز عقد البيع بلا كتابة،
وفيه جواز اليمين فيما لا تجب فيه ولا سيَّما عند العزم على فعل الشيء، وأن
لغو اليمين لا كفارة فيه؛ لأن عائشة حلفت أن لا تشترط، ثم قال لها النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((اشترطي)) ولم ينقل كفارة، وفيه ثبوت الولاء للمرأة
المعتقة، فيستثنى من عموم: ((الولاء لحمة كلحمة النسب)) ؛
فإن الولاء لا ينتقل إلى المرأة بالإرث بخلاف النسب، وفيه أن حق الله
مقدَّم على حق الآدمي لقوله: ((شرط الله أحقُّ وأوثق)) ، ومثله الحديث
الآخر: ((دين الله أحق أن يُقضَى)) .
وفيه أن البيان بالفعل أقوى من القول، وجواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة،
وفيه أن الحاجة إذا اقتضت بيان حكم عام وجب إعلانه أو ندب بحسب الحال،
انتهى ملخصًا، وسيأتي بعض الكلام على فوائده في الفرائض - إن شاء الله
تعالى.
* * *
الحديث الثاني
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أنه كان يسير على جملٍ له فأعيا
فأراد أن يسيبه فلحقني النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا لي وضربه فسار
سيرًا لم يسر مثله قط، فقال: ((بعنيه بأوقية)) ، قلت: لا، ثم قال:
((بعنيه)) ، فبعته بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلمَّا بلغت أتيتُه
بالجمل فنَقَدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: ((أتُراني ماكستك لآخُذ
جملك، خُذْ جملك ودراهمك فهو لك)) .
(1/254)
(المماكسة) : المناقصة في الثمن، وفي
الحديث جوازُ اشتراط مثل هذا في البيع؛ كسكنى الدار وخدمة العبد مُدَّة
معلومة ونحو ذلك، وفيه جواز الاستثناء في البيع إذا لم يكن المستثنى
مجهولاً، قال الحافظ: وفي الحديث جواز المساومة لِمَن يعرض سلعته للبيع،
والمماكسة في المبيع قبل استقرار العقد، وأن القبض ليس شرطًا في صحة البيع،
وأن إجابة الكبير بقول: (لا) جائزٌ في الأمر الجائز، وفيه توقير التابع
لرئيسه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى ملخصًا.
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": سأل أبو طالب الإمام أحمد عمَّن اشترى أمَة يشترط أن
يتسرَّى بها لا للخدمة، قال: لا بأس به، وهذا من أحمد يقتضي أنه إذا شرط
على البائع فعلاً أو تركًا في البيع ممَّا هو مقصود للبائع أو للمبيع نفسه
صحَّ البيع
والشرط كاشتراط العتق، وكما اشترط عثمان لصهيب وقف داره عليه، انتهى، والله
أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أن يبيع حاضرٌ لبادٍ ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب
على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في إنائها.
قوله: "ولا يبيع ولا يخطب" بإثبات التحتانية في يبيع وبالرفع فيهما على أنه
نفي، وسياق ذلك بصيغة الخبر أبلغ في المنع، وفي حديث ابن عمر: ((لا يخطب
الرجل على خطبة الرجل حتى يترك الخاطب قبلُ أو يأذن له الخاطب)) .
(1/255)
قوله: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ
ما في إنائها"، وفي حديث آخر: ((لا يحلُّ لامرأة تسأل طلاق زوجة الرجل)) ؛
أي: سواء كانت ضرتها أو أجنبية.
قال الطيبي: هذه استعارة مستملحة تمثيلية شبَّه النصيب والبخت بالصحفة
وحظوظها وتمتعاتها بما يُوضَع في الصحفة من الأطعمة اللذيذة، وشبَّه
الافتراق المسبَّب عن الطلاق باستفراغ الصحفة من تلك الأطعمة.
* * *
باب الربا والصرف
الحديث الأول
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة ربًا إلا هاء
وهاء، والبُرُّ بالبُرِّ ربًا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلا هاء
وهاء)) .
الربا حرامٌ بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} [البقرة: 275] الآيات، وقال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آَمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 130] .
قال مالك: عن زيد بن أسلم، كان الربا في الجاهلية أن يكون للرجل على الرجل
حق إلى أجل، فإذا حلَّ قال: أتقضي أم تُربِي؟ فإن قضاه أخذ وإلا زاد في حقه
وزاد الآخر في الأجل.
والربا في اللغة: الزيادة، وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة.
وأمَّا الصرف: فهو دفع ذهب وأخذ فضة وعكسه، وله شرطان: منع النسيئة مع
اتِّفاق النوع واختلافه، ومنع التفاضل في النوع الواحد منهما.
(1/256)
وقوله: ((الذهب بالذهب ربًا إلا هاء وهاء))
الذي في البخاري: ((الذهب بالورق)) ، ورواية مسلم: ((الورق بالذهب)) ،
ولفظه عن ابن شهاب عن مالك بن أوس: أخبره أنه التمس صرفًا بمائة دينار،
فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مِنِّي، فأخذ الذهب يقلِّبها
في يده ثم قال: حتى يأتي خازني من الغابة، وعمر يسمع ذلك، فقال: والله لا
تفارقه حتى تأخذ منه، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الذهب
بالورق ربًا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء والشعير بالشعير
ربًا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربًا إلا هاء وهاء)) .
ولمسلم: قال عمر بن الخطاب: كلاَّ والله لتعطينه ورقه أو لتردن إليه ذهبه،
فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الورق بالذهب ربًا إلا هاء
وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاء وهاء)) ، فذكره.
قال الحافظ: قوله: ((الذهب بالورق ربًا)) قال ابن عبد البر: لم يختلف على
مالك فيه وحمله عنه الحفَّاظ، وكذلك رواه الحفاظ عن ابن عيينة، وشذَّ أبو
نعيم عنه فقال: "الذهب بالذهب".
قال الحافظ: الذهب يُطلَق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق الفضة،
والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة، انتهى.
قوله: ((إلا هاء وهاء)) ؛ أي: يعطيه ما في يده ويأخذ ما في يد صاحبه،
كالحديث الآخر: ((إلا يدًا بيد)) ؛ يعني: مقابضة في المجلس.
قوله: ((والبُرُّ بالبُرِّ، والشعير بالشعير)) قال الحافظ: واستدلَّ به على
أن البر والشعير صنفان وهو قول الجمهور، قال ابن عبد البر: فيه أن النسيئة
لا تجوز في بيع الذهب بالورق، وإذا لم يجز فيهما مع تفاضلهما بالنسيئة
فأحرى ألا يجوز في الذهب بالذهب وهو جنس واحد، وكذا الورق بالورق، قال
الحافظ: وقد نقل ابن عبد البر وغيره الإجماع على هذا الحكم، انتهى.
وروى مسلم عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ،
والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء،
يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ،
قال النووي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يدًا بيد)) حجة للعلماء كافَّة
في وجوب التقابض وإن اختلف الجنس.
* * *
(1/257)
الحديث الثاني
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض،
ولا تبيعوا الورق
بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا
بناجز)) ، وفي لفظ: ((إلا يدًا بيد)) ، وفي لفظ: ((إلا وزنًا بوزنٍ، مثلاً
بمثلٍ، سواء بسواء)) .
قوله: ((لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)) ، وفي رواية: ((الذهب
بالذهب مثلاً بمثل والورق بالورق مثلاً بمثل)) ، قال الحافظ: ويدخل في
الذهب جميع أصنافه من مضروب ومنقوش، وجيد ورديء، وصحيح ومكسر، وحلى وتبر،
وخالص ومغشوش، ونقل النووي تبعًا لغيره في ذلك الإجماع.
قوله: ((ولا تشفوا)) ؛ أي: لا تفضلوا، قال الحافظ: والشف الزيادة، وتطلق
على النقص.
قوله: (ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) ؛ أي: مؤجلاً بحالٍّ، قال الحافظ:
البيع كله إمَّا بالنقد أو بالعرض حالاًّ أو مؤجلاً؛ فهو أربعة أقسام: بيع
النقد إمَّا بمثله وهو المراطلة، أو بنقد غيره وهو الصرف، وبيع العرض بنقد
يسمى النقد ثمنًا والعرض عِوَضًا، وبيع العرض بالعرض يسمى مقابضة والحلول
في جميع ذلك جائز، وأمَّا التأجيل فإن كان النقد بالنقد مؤخرًا فلا يجوز
وإن كان العرض جاز، وإن كان العرض مؤخرًا فهو السَّلَم وإن كانا مؤخَّرَين
فهو بيع الدين بالدين، وليس بجائز إلا في الحوالة عند مَن يقول إنها بيع،
والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: جاء بلال إلى النبي -
(1/258)
صلى الله عليه وسلم - بتمر برني، فقال له
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أين هذا؟)) ، قال بلال: كان عندنا تمر
رديء فبعت منه صاعين بصاع ليطعم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم - عند ذلك: ((أوَّه عين الربا عين الربا لا تفعل، ولكن
إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشترِ به)) .
قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن التمر بالتمر لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا
مثلاً بمثل، وسواء فيه الطيب والدون، وأنه كله على اختلاف أنواعه جنس واحد.
قال الحافظ: وفي الحديث قيام عذر مَن لا يعلم التحريم حتى يعلمه، وفيه جواز
الرفق بالنفس، وترك الحمل على النفس لاختيار أكل الطيب على الرديء خلافًا
لِمَن منع ذلك من المتزهِّدين، وفيه أن البيوع الفاسدة تُرَدُّ، انتهى
ملخصًا.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي المنهال قال: "سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم - رضي الله عنهم -
عن الصرف فكلٌّ واحدٍ منهما يقول: هذا خيرٌ مِنِّي، وكلاهما يقول: نهى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينًا".
الصرف: بيع الدراهم بالذهب أو عكسه، وفي رواية: "سألت البراء بن عازب وزيد
بن أرقم عن الصرف؟ فقالا: كُنَّا تاجرين على عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف؟ فقال: ((إن كان
يدًا
(1/259)
بيد فلا بأس، وإن كان نسيئًا فلا يصلح)) .
قال الحافظ: وفي الحديث ما كان عليه الصحابة من التواضع وإنصاف بعضهم
بعضًا، ومعرفة أحدهم حقَّ الآخر، واستظهار العالم في الفتيا بنظيره في
العلم.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
عن الفضة بالفضة والذهب بالذهب إلا سواءً بسواءٍ، وأمرنا أن نشتري الفضة
بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا، قال: فسأله رجلٌ فقال:
يدًا بيدٍ؟ فقال: هكذا سمعت".
قال الحافظ: اشتراط القبض في الصرف متَّفق عليه، واستدلَّ به على بيع
الربويات بعضها ببعض إذا كان يدًا بيد، وأصرح منه حديث عبادة بن الصامت:
((فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ، انتهى.
وقال ابن دقيق العيد: قوله: "ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا" بالنسبة إلى
التفاضل والتساوي، لا إلى الحلول أو التأجيل، انتهى.
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": العلة في تحريم ربا الفضل الكيل أو الوزن مع الطعم
وهو رواية عن أحمد، ويحرم بيع اللحم بحيوان من جنسه مقصود اللحم، ويجوز بيع
الموزونات الربوية بالتحرِّي وقاله مالك: وما لا يختلف فيه الكيل والوزن
مثل الأدهان يجوز بيع بعض ببعض كيلاً ووزنًا، وظاهر مذهب أحمد جواز بيع
السيف المحلَّى بجنس حليته؛ لأن الحلية ليست بمقصودة، ولا يُشتَرَط الحلول
والتقابض في صرف الفلوس النافقة بأحد النقدين وهو رواية عن أحمد، وإن
اصطَرَفَا دينًا في ذمَّتهما جاز، ومَن باع ربويًّا نسيئة حرم أخذه عن ثمنه
ما لا يباع
(1/260)
به نسيئة ما لم تكن حاجة، والتحقيق في عقود
الربا إذا لم يحصل فيها القبض أن لا عقد، والكيمياء باطلة محرَّمة،
وتحريمها أشدُّ من تحريم الربا، ولا يجوز بيع الكتب التي تشتمل على معرفة
صناعتها، وأفتى بعض ولاة الأمور بإتلافها، ويجوز قرض الخبز وردُّ مثله
عددًا بلا وزن من غير قد الزيادة، وهو مذهب أحمد، ولو أقرضه في بلد آخر جاز
على الصحيح، ويجوز قرض المنافع مثل أن يحصد معه يومًا، ويحصد معه الآخر
يومًا، أو يسكنه دارًا ليسكنه الآخر بدلها، انتهى، والله أعلم.
* * *
باب الرهن وغيره
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى
من يهودي طعامًا ورهنه درعًا من حديد".
(الرهن) : هو المال الذي يُجعَل وثيقة بالدين ليستوفى من ثمنه إن تعذَّر
استيفاؤه من الغريم، وهو جائزٌ بالكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - تعالى
-: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي
اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] .
قال الحافظ: وإنما قيَّده بالسفر لأنه مظنَّة فَقْدِ الكاتب فأخرجه مخرَج
الغالب، قال: وفي الحديث جواز معاملة الكفار فيما لم يتحقق تحريم عين
المتعامل فيه، وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم، واستنبط
منه جواز معاملة مَن أكثر ماله حرام، وفيه جواز بيع السلاح ورهنه وإجارته
وغير ذلك من الكافر ما لم يكن حربيًّا، وفيه ثبوت أملاك أهل الذمة في
أيديهم، وجواز الشراء بالثمن المؤجَّل، واتِّخاذ الدروع والعدد وغيرها من
آلات الحرب، وأنه غير قادح في التوكُّل، وفيه ما كان عليه النبي - صلى الله
عليه وسلم - من التواضع والزهد في الدنيا والتقلُّل منها مع قدرته عليها،
والكرم الذي أفضى به إلى عدم
(1/261)
الادِّخار حتى احتاج إلى رهن درع والصبر
على ضيق العيش والقناعة باليسير، وفيه فضيلة لأزواجه لصبرهن معه على ذلك.
قال العلماء: الحكمة في عدوله - صلى الله عليه وسلم - عن معاملة مياسير
الصحابة إلى معاملة اليهود إمَّا لبيان الجواز، أو لأنهم لم يكن عندهم إذ
ذاك طعام فاضل عن حاجة غيرهم، أو خشي أنهم لا يأخذون منه ثمنًا أو عوضًا
فلم يرد التضييق عليهم، والله أعلم.
وفي الحديث الردُّ على مَن قال: إن الرهن في السلم لا يجوز، انتهى.
وقال مالك: يلزم الرهن بمجرَّد العقد قبل القبض؛ لأنه عقد يلزم بالقبض فلزم
قبله كالبيع وهو روايةٌ عن أحمد.
قال الزجاج في قول الله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] : أي: العقود التي عقد الله عليكم
وعقدتم بعضكم على بعض، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((مطل الغني ظلم، إذا أُتبِع أحدكم على مَلْْءٍ فليَتْبع)) .
(المطل) : المدافعة، والمراد تأخير ما استحقَّ أداؤه بغير عذر.
قوله: ((وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع)) ؛ أي: إذا أُحِيل فليحتل، قال
الحافظ: ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها أنه لمَّا دلَّ على أن مطل الغني
ظلم عقبه بأنه ينبغي قبول الحوالة على المليء؛ لما في قبولها من دفع الظلم
الحاصل بالمطل، فإنه قد تكون مطالبة المحال عليه سهلة على المحتال دون
المحيل، ففي قبول الحوالة إعانة على كفِّه عن الظلم.
وفي الحدث الزجر عن المطل، واختُلِف هل يُعَدُّ فعله عمدًا كبيرة أم لا؟
فالجمهور على أن فاعله يفسق، لكن هل يثبت فسقه بمطله مرَّة واحدة أم لا؟
قال: ويدخل في المطل كلُّ مَن لزمه حقٌّ؛ كالزوج لزوجته، والسيد لعبده،
والحاكم لرعيته وبالعكس، واستدلَّ به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في
الظلم وهو بطريق
(1/262)
المفهوم، انتهى.
وقال البخاري: باب الحوالة، وهل يرجع في الحوالة؟ وقال الحسن وقتادة: إذا
كان يوم أحال عليه مليًّا جاز، وقال ابن عباس: يتخارج الشريكان وأهل
الميراث فيأخذ هذا عينًا وهذا دينًا، فإن تَوِيَ لأحدهما لم يَرجِع على
صاحبه، انتهى.
قال في "الاختيارات": والحوالة على ماله في الديوان إذن في الاستيفاء فقط،
والمختار الرجوع ومطالبته، انتهى، والله أعلم.
قال الحافظ: واستدلَّ بالحديث على ملازمة المماطل وإلزامه بدفع الدين،
والتوصُّل إليه بكل طريق وأخذه منه قهرًا، واستدلَّ به على اعتبار رضا
المحيل والمحتال دون المحال عليه؛ لكونه لم يذكر في الحديث، وبه قال
الجمهور، وفيه الإرشاد إلى ترك الأسباب القاطعة لاجتماع القلوب؛ لأنه زجر
عن المماطلة وهي تؤدِّي إلى ذلك، انتهى، وبالله التوفيق.
* * *
الحديث الثالث
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أو قال: سمعت رسول الله، - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن أدرك ماله
بعينه عند رجلٍ أو إنسانٍ قد أفلس فهو أحقُّ به من غيره)) .
قوله: ((مَن أدرك ماله بعينه)) ؛ أي: لم يتغيَّر ولم يتبدَّل سواء كان
بيعًا أو قرضًا أو وديعة.
قوله: ((عند رجل أو إنسان)) شكٌّ من الراوي.
قوله: ((قد أفلس)) ؛ أي: تبيَّن إفلاسه، والمفلس مَن تزيد ديونه على
موجوده، وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: "قضى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحقُّ بمتاعه إذا
وجده"، زاد بعضهم: "إلا أن يترك صاحبه وفاء".
فائدة:
روى أحمد وأبو داود والنسائي من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -: ((مَن وجد عين ماله عند رجل فهو أحقُّ به ويتبع
البيع مَن باعه)) ، وفي لفظ: ((إذا سرق من الرجل متاع أو ضاع منه فوجده بيد
رجل بعينه فهو أحقُّ به، ويرجع المشتري على البائع بالثمن)) ؛ رواه أحمد
وابن ماجه.
(1/263)
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": والدين الحالُّ يتأجَّل بتأجيله سواء كان الدين قرضًا
أو غيره، وهو قول مالك، ووجه في مذهب أحمد، وإذا كان الذي عليه الحق قادرًا
على الوفاء ومطل صاحب الحق حتى أحوجه إلى الشكاية، فما غرمه بسبب ذلك فهو
على الظالم المبطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد، انتهى.
* * *
الحديث الرابع
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "جعل - وفي لفظ: قضى - النبي
- صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كلِّ مالٍ لم يقسم، فإذا وقعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة".
الشفعة ثابتة بالسنة والإجماع، وهي استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد
مشتريها ولا يحلُّ الاحتيال لإسقاطها.
وروى الخمسة عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجار
أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا)) ،
والحكمة في مشروعية الشفعة دفع الضرر.
وقد روى الطحاوي من حديث جابر: "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة
في كل شيء".
قوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق"؛ أي: بينت مصارف الطرق وشوارعها "فلا
شفعة" قال في "المقنع": ولا شفعة فيما لا تجب قسمته في إحدى الروايتين،
انتهى.
واختار ابن عقيل وشيخ الإسلام الشفعة فيه، قال الحارثي: وهو أحق، والله
أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى
النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت
أرضًا بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه،
(1/264)
فما تأمرني به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها
وتصدَّقت بها)) ، قال: فتصدَّق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا
يوهب، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وفي القربى وفي سبيل الله وابن السبيل
والضيف، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقًا غير
متمولٍ فيه"، وفي لفظ: "غير متأثل".
هذا الحديث أصلٌ في مشروعية الوقف، وهو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة في طرق
الخير.
قوله: "أنفس"؛ أي: أجود، والنفيس: الجيد المغتبط به.
قوله: "فتصدق بها عمر غير أنه لا يباع أصلها" في لفظ: فقال النبي - صلى
الله عليه وسلم -: ((تصدق بأصله لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث ولكن يُنفق
ثمره)) .
قوله: "وفي القربى"؛ يعني: قربى الواقف.
قوله: "لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف"؛ يعني: بالقدر الذي
جرت به العادة، قال القرطبي: جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف،
حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل يستقبح ذلك منه.
قوله: "غير متموِّل فيه"؛ أي: غير متَّخذ مالاً، و (التأثل) : اتخاذ أصل
المال حتى كأنه عند قديم، وكتب عمر هذا الوقف في خلافته، ونصه: "هذا ما كتب
عبد الله أمير المؤمنين في ثمغ، أنه إلى حفصة ما عاشت تنفق ثمره حيث أراها
الله، فإن توفيت فإلى ذوي الرأي من أهلها، والمائة وسق الذي أطعمني النبي -
صلى الله عليه وسلم - فإنها مع ثمغ على سنته الذي أمرت به إن شاء ولي ثمغ
أن يشتري من ثمره رقيقًا يعملون فيه فعل، وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن
الأرقم".
وفيه من الفوائد جواز إسناد الوصية والنظر على الوقف للمرأة، وإسناد النظر
إلى مَن لم يسمَّ إذا وصف بصفة تميِّزه، وأن الواقف له النظر على وقفه،
وفيه استشارة أهل العلم والدين والفضل، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر، وفيه فضل
الصدقة الجارية، وفيه صحة شروط الواقف إذا لم تخالف الشرع، وفيه جواز الوقف
(1/265)
على الأغنياء، وفيه أن للواقف أن يشترط
لنفسه جزءًا من ريع الموقوف، وفيه جواز وقف المشاع، وفيه دليل على المسامحة
في بعض الشروط؛ حيث علق الكل بالمعروف وهو غير منضبط.
* * *
الحديث السادس
عن عمر - رضي الله عنه - قال: "حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه الذي كان
عنده، فأردت أن أشتريه، وظننت أنه يبيعه برخص، فسألت النبي - صلى الله عليه
وسلم - فقال: ((لا تشترِه ولا تَعُد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم فإن العائد
في هبته كالعائد في قيئه)) ، وفي لفظ: ((فإن الذي يعود في صدقته كالكلب
يقيء ثم يعود في قيئه)) .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((العائد في هبته كالعائد في قيئه)) .
الحديث دليلٌ على تحريم الرجوع في الصدقة والهبة، وفي لفظ: ((ليس لنا مثل
السوء: الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه)) ، وهذا أبلغ في الزجر عن
ذلك.
قوله: "حملت على فرس في سبيل الله"؛ أي: حمل تمليك ليجاهد به، فأضاعه الذي
كان عنده، وفي رواية: "وكان قليل المال".
قوله: ((لا تشتره ولا تعد في صدقتك وإن أعطاكه بدرهم)) سمي الشراء عودًا في
الصدقة لأن العادة جرت بالمسامحة من البائع في ذلك، قال الطبري: يخصُّ من
عموم هذا الحديث مَن وهب بشرط الثواب،
(1/266)
ومَن كان والدًا، والموهوب ولده،
والهبة التي لم تقبض، والتي ردَّها الميراث إلى الواهب لثبوت الأخبار
باستثناء كلِّ ذلك، وفي الحديث جواز إذاعة عمل البر للمصلحة.
تتمَّة:
قال في "الاختيارات": وتصحُّ هبة المعدوم كالثمر واللبن، واشتراط القدرة
على التسليم هنا فيه نظر بخلاف البيع، وتصحُّ هبة المجهول كقوله: ما أخذت
من مالي فهو لك، أو مَن وجد شيئًا من مالي فهو له، وفي جميع هذه الصور يحصل
الملك بالقبض ونحوه، وللمبيح أن يرجع فيما قال قبل التملُّك، وهذا نوعٌ من
الهبة يتأخَّر القبول فيه عن الإيجاب كثيرًا وليس بإباحة، انتهى.
* * *
الحديث السابع
عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: "تصدق عليَّ أبي ببعض ماله،
فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى يشهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - فانطلق أبي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي،
فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) ،
قال: لا، قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) ، فرجع أبي فرد تلك
الصدقة"، وفي لفظ: قال: ((فلا تشهدني؛ إذًا فإني لا أشهد على جور)) ، وفي
لفظ: ((فأشهد على هذا غيري)) .
الحديث دليلٌ على وجوب التسوية بين الأولاد.
وفي رواية لمسلم: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل، كما تحبون أن يعدلوا
بينكم في البر)) ، وفيه الندب إلى التآلف بين الإخوة، وترك ما يورث العقوق
للآباء، وفيه مشروعية استفصال الحاكم والمفتي، وجواز تسمية الهبة صدقة،
وفيه أن للأم كلامًا في مصلحة الولد، وفيه
(1/267)
أمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال،
وفيه إشارة إلى سوء حال عاقبة الحرص والتنطُّع؛ لأن عمرة لو رضيت بما وهبه
زوجها لولده لما رجع فيه، فلمَّا اشتدَّ حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى
بطلانه.
قوله: ((فأشهد على هذا غيري)) المراد به التوبيخ، وفي حديث جابر عند مسلم:
((فليس يصلح هذا، وإني لا أشهد إلا على حق)) ، وفيه كرامة تحمل الشهادة
فيما ليس بمباح، وأن للإمام أن يتحمل الشهادة.
* * *
الحديث الثامن
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
عامَل أهل خيبر شطر ما يخرج منها من ثمرٍ أو زرعٍ".
الحديث دليلٌ على جواز المساقاة في النخل وجميع الشجر وعلى جواز المزارعة
بجزء معلوم، وقد عامَل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر،
وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، وفي الحديث جواز دفع النخل مساقاة والأرض
مزراعة من غير ذكر سنين معلومة، وقال أبو ثور: إذا أطلقا حمل على سنة
واحدة.
* * *
الحديث التاسع
عن رافع بن خديج قال: "كنَّا أكثر الأنصار حقلاً، وكنَّا نكري الأرض على أن
لنا هذه ولهم هذه، وربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك، فأمَّا
الذهب والورق فلم ينهنا".
ولمسلم عن حنظلة بن قيس قال: "سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب
والورق فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون
(1/268)
على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بما على الماذِيانَات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم
هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه،
فأمَّا شيء معلوم مضمون فلا بأس به.
الماذيانات: الأنهار الكبار، والجدول: النهر الصغير.
النهي عن كراء الأرض محمول على الوجه المُفضِي إلى الضرر والمجادلة
والمخاطرة، وفي الحديث جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة.
وفي الصحيحين على أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: ((مَن كانت له أرض فليزرعها أو ليحرثها أخاه، فإن أبي
فليمسك أرضه)) ، قال المجد: وبالإجماع تجوز الإجارة ولا تجب الإعارة، فعلم
أنه أراد الندب.
* * *
الحديث العاشر
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "قضى النبي - صلى الله عليه
وسلم - بالعُمرَى لِمَن وهبت له"، وفي لفظ: "مَن أعمر عمرى فهي له ولعقبه،
فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاءً وقعت فيه
المواريث، وقال جابر: إنما العمرى التي أجازها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع
إلى صاحبها".
وفي رواية لمسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها فإنه مَن أعمر عمرى
فهي للذي أعمرها حيًّا وميتًا ولعقبه".
(1/269)
"العمرى": مأخوذة من العمر؛ لأنهم كانوا
يفعلون ذلك في الجاهلية، يعطى الرجل الدار ويقول له: أعمرتك إياها؛ أي:
أبحتها لك مدَّة عمرك؛ وكذا قيل لها: رقبى؛ لأن كلاً منهما يرقب متى يموت
الآخر لترجع إليه، وإذا وقعت كانت ملكًا للآخِذ ولا ترجع إلى الأوَّل إلا
إن صرح باشتراط ذلك، وهي كسائر الهبات.
والحاصل أن للعمرى ثلاثة أحوال: أحدها أن يقول: هي لك ولعقبك، فهذا صريح في
أنها للموهوب له ولعقبه، الثاني أن يقول: هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت
إليَّ، فهذه عارية مؤقتة وهي صحيحة، فإذا مات رجعت إلى الذين أعطى، الثالث
أن يقول أعمرتكها ويطلق فحكمها حكم الأولى ولا ترجع إلى الواهب، وهذا قول
الجمهور.
وعن ابن عباس يرفعه: ((العمرى لِمَن أعمرها، والرقبى لِمَن أرقبها، والعائد
في هبته كالعائد في قيئه)) .
وعن جابر: "أن رجلاً من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت، فجاء
إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء، قال: فأبى، فاختصموا إلى النبي - صلى الله
عليه وسلم - فقسمها بينهم ميراثًا"؛ رواه أحمد، والله أعلم.
* * *
الحديث الحادي عشر
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم
عنها معرِضين، والله لأضربن بها بين أكتافكم".
قوله: "خشبة" روى بالإفراد والجمع والمعنى واحد؛ لأن المراد الجنس، والحديث
دليل على أن الجار إذا طلب إعارة حائط جاره ليضع خشبة عليه، وجب ذلك على
المالك إذا لم يتضرَّر به.
وروى مالك أن الضحاك بن خليفة سأل محمد
(1/270)
بن مسلمة أن يسوق خليجًا له فيمرُّ به في
أرض محمد بن مسلمة فامتنع، فكلَّمه عمر في ذلك فأبى، فقال: والله ليمرَّن
به ولو على بطنك، فحمل عمر الأمر على ظاهره وعداه إلى كل ما يحتاج الجار
إلى الانتفاع به من دار جاره وأرضه.
قوله: "ما لي أراكم عنها معرضين"؛ أي: عن هذه السنَّة "والله لأضربن بها
بين أكتافكم"، روى بالمثناة وبالنون، قال في "الاختيارات": وإذا كان الجدار
مختصًّا بشخص لم يكن له أن يمنع جاره من الانتفاع بما يحتاج إليه الجار،
ولا يضرُّ بصاحب الجدار، ويجب على الجار تمكين جاره من إجراء مائه في أرضه
إذا احتاج إلى ذلك ولم يكن على صاحب الأرض ضرر، وحكم به عمر بن الخطاب -
رضي الله عنه.
* * *
الحديث الثاني عشر
عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((مَن ظلم من الأرض قِيدَ شبرٍ طُوِّقه من سبع أرضين)) .
قوله: ((قِيدَ شبر)) ؛ أي: قدر شبر، وهو إشارة إلى الوعيد في قليل ظلم
الأرض وكثيره، وفي الحديث تحريم الظلم والغصب وتغليظ عقوبته وأنه من
الكبائر، وأن مَن ملك أرضًا ملك أسفلها بما فيه من حجارة ومعادن وغير ذلك،
وفيه أن الأرضيين السبع طباق كالسموات.
وروى البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أخذ
من الأرض شيئًا بغير حقِّه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضيين)) .
* * *
(1/271)
باب اللقطة
الحديث الأول
عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال: "سُئِل رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن لقطة الذهب والورق، فقال: ((اعرف وكاءها وعفاصها ثم عرِّفها
سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من
الدهر فأدِّها إليه)) ، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: ((ما لك ولها، دعها فإن
معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها)) ، وسأله عن
الشاة، فقال: ((خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) .
"اللقطة": المال الضائع من ربه.
قوله: "عن لقطة الذهب والورق" هو كالمثال وإلا فلا فرق بينهما وبين غيرهما
في الحكم.
قوله: ((اعرف وكاءها وعفاصها)) (الوكاء) : ما يُربَط به الشيء، و (العفاص)
: الوعاء الذي تكون فيه.
قوله: ((ثم عرفها سنة)) ؛ أي: اذكرها للناس، ومحلُّ ذلك المحافل؛ كالأسواق،
وأبواب المساجد خارجها، ونحو ذلك من مجامع الناس، يقول: من ضاعت له نفقة،
ونحو ذلك من العبارات، ولا يذكر شيئًا من الصفات.
قوله: ((فإن لم تعرف فاستنفقها)) فيه دليلٌ على أن الملتقط يتصرَّف فيها
بعد الحول سواء كان غنيًّا أو فقيرًا.
قوله: ((ولتكن وديعة عندك)) ؛ أي: في وجوب أدائها إذا عرفها صاحبها بعد
الحول.
قوله: ((فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه)) ؛ أي: بعد معرفة
صفتها ولا يحتاج إلى بينة، فإن كان قد استنفقتها غرمها، وإن كان أبقاها على
حكم الأمانة أدَّاها.
وقد روى الخمسة إلا الترمذي عن عياض بن جابر - رضي الله عنه - قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
(1/272)
((مَن وجد لُقَطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ
عفاصها ووكاءها ثم لا يكتم ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحقُّ بها، وإلا فهو
مال الله يؤتيه مَن يشاء)) .
قوله: "وسأله عن ضالة الإبل" الضالة لا تقع إلا على الحيوان، وما سواه يقال
له: لقطة، ويقال للضوالِّ: الهوامي والهوامل، قال العلماء: حكمة النهي عن
التقاط الإبل أن بقاءها حيث ضلَّت أقرب إلى وجدان مالكها لها من تطلبه في
رحال الناس، وقالوا: في معنى الإبل كلُّ ما امتنع بقوَّته من صغار السباع.
قوله: "وسأله عن الشاة فقال: ((خذها؛ فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب)) "
فيه جواز التقاطها لأنها ضعيفة، قال في "الاختيارات": ولا تُمَلَّك لقطة
الحرم بحال، انتهى.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: "رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
في العصا والسوط والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به"؛ رواه أحمد وأبو
داود، وعن عبيد الله بن حميد عن الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: ((مَن وجد دابة قد عجز عنها أهلها أن يعلفوها فسيَّبوها فأخذها
فأحياها فهي له)) ؛ رواه أبو داود والدارقطني، والله أعلم.
* * *
باب الوصايا وغير ذلك
الحديث الأول
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة
عنده)) ، زاد مسلم: "قال ابن عمر: فوالله ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إلا ووصيتي عندي".
الوصية نوعان: أحدهما: الوصية بالحقوق الواجبة على الإنسان وذلك واجب،
الثاني: الوصية بالتطوُّعات في القربات وذلك مستحب، والحديث محمول على
النوع
(1/273)
الأول، وتُطلَق الوصية أيضًا على ما يقع به
الزجر عن المنهيَّات والحث على المأمورات، ويشترط لصحة الوصية العقل
والحرية، ولا تندب الوصية بالمال لِمَن كان له ورثة وماله قليل.
قوله: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه)) ، ولأحمد: ((حقٌّ على كلِّ مسلم
ألاَّ يبيت ليلتين وله ما يوصى فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده)) ، وفي الحديث
من الفوائد: التأهُّب للموت والحزم قبل الفوت، واستدلَّ به على جواز
الاعتماد على الكتابة والخط إذا عرف ولو لم يقترن ذلك بالشهادة، ويُستفاد
منه أن الأشياء المهمَّة ينبغي أن تضبط بالكتابة؛ لأنها أثبت من الضبط
بالحفظ لأنه يخون غالبًا.
* * *
الحديث الثاني
عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: "جاءني رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - يعودني عام حجة الوداع من وجع اشتدَّ بي، فقلت: يا رسول الله،
قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي
مالي؟ قال: ((لا)) ، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: ((لا)) ، قلت: فالثلث،
قال: ((الثلث، والثلث
كثير، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس،
وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت بها حتى ما تجعل في في
امرأتك)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، أخلف بعد أصحابي؟ قال: ((إنك لن تخلف
فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخلف حتى
ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون، اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على
أعقابهم)) .
(1/274)
لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - أن مات بمكة.
قوله: ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت بها)) كأنه قيل
له: لا توصِ بأكثر من الثلث، فإنك إن متَّ تركت ورثتك أغنياء، وإن عشت
تصدَّقت وأنفقت، فالأجر حاصل لك في الحالتين.
قوله: ((ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون)) وقع كما قال -
صلى الله عليه وسلم - فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، وانتفع به
المسلمون بالغنائم ممَّا فتح الله على يديه من بلاد الشرك وضُرَّ به
المشركون الذين هُتكوا على يديه.
قال بعض العلماء: (لعلَّ) وإن كانت للترجي لكنها من الله للأمر الواقع،
وكذلك إذا وردت على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غالبًا.
قوله: "لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أن مات بمكة"، "البائس": الذي اشتدَّ بؤسه، والبؤس: شدة الفقر.
قوله: "يرثي له" أن يتوجَّع له لكونه مات في البلد التي هاجر منها.
وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعيةُ عيادة المريض للإمام فمَن دونه،
واستحباب الفسح للمريض في طول العمر، وجواز إخبار المريض بشدَّة مرضه لطلب
دعاء أو دواء، وأن ذلك لا يُنافِي الصبر المحمود، وفيه إباحة جمع المال
بشروطه، وفيه الحثُّ على صلة الرحم والإحسان إلى الأقارب، وأن صلة الأقرب
أفضل من صلة الأبعد، وفيه الإنفاق على مَن تلزمه مؤنتهم والحث على الإخلاص
في ذلك، وفيه منع نقل الميت من بلد إلى بلد، وفيه النظر في مصالح الورثة،
وفيه أن مَن ترك مالاً قليلاً فالاختيار له ترك الوصية وإبقاء المال
للورثة، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: لو أن الناس غضُّوا من الثلث
إلى الربع فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الثلث والثلث
كثير)) .
(1/275)
قوله: "غضوا"؛ أي: نقصوا، وعند الإسماعيلي
"لو غض الناس إلى الربع كان أحب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم"،
وفيه دليل على استحباب النقص من الثلث في الوصية.
وعند النسائي في حديث سعد: "عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
مرضي فقال: ((أوصيت؟)) ، قلت: نعم، قال: ((بكم؟)) ، قلت: بمالي كله في سبيل
الله، قال: ((فما تركت لولدك؟)) ، قلت: هم أغنياء، قال: ((أوصِ بالعشر)) ،
فما زال يقول وأقول حتى قال: ((أوصِ بالثلث، والثلث كثير - أو: كبير)) .
* * *
باب الفرائض
الحديث الأول
عن عبد الله الله بن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: ((ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ، وفي
رواية: ((اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله، فما تركت الفرائض
فلأولى رجلٍ ذكر)) .
(الفرائض) : هي قسمة المواريث: جمع فريضة بمعنى مفروضة، وخصَّت المواريث
باسم الفرائض لقوله - تعالى -: {نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] .
وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((العلم
ثلاثة، وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة)) ؛ رواه
أبو داود وابن ماجه.
وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تعلَّموا
القرآن وعلِّموه الناس، وتعلَّموا الفرائض وعلِّموها، فإني امرؤ مقبوض
والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدًا
يخبرهما)) ؛ ذكره أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله.
(1/276)
قوله: (ألحقوا الفرائض بأهلها)) المراد
بالفرائض هنا: الأنصباء المقدَّرة في كتاب الله - تعالى - وهي النصف والربع
والثمن والثلثان والثلث والسدس، والمراد بأهلها مَن يستحقها بنصِّ القرآن.
قوله: ((فما بقي فلأولى رجل ذكر)) ؛ أي: فما بقي من المال بعد ذوي الفروض
فهو لأقرب رجل من العصبة، وأقربهم البنوَّة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأب،
ثم الجد وإن علا، ثم الإخوة من الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام ثم
بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الأب ثم بنوهم، ثم أعمام الجد لا يرث بنو أبٍ
أعلى مع بني أب أقرب وإن نزلوا، ومَن أدلى بأبوين يُقدَّم على مَن أدلى
بأب، ويُقدَّم الأخ من الأب على ابن الأخ لأبوين، وإذا انقرض العصبة من
النسب ورث المولى
المعتق ثم عصباته من بعده، ولا يرث النساء بالولاء إلا مَن أُعتِقن أو
أعتقه مَن أعتقن.
وجهات العصوبة ست: البنوة، الأبوة، ثم الأخوة، ثم بنو الإخوة، ثم العمومة،
ثم الولاء، فإذا اجتمع عاصبان فأكثر قُدِّم الأقرب جهةً، فإن استووا فيها
فالأقرب درجة، فإن استووا فيها قُدِّم مَن لأبوين على مَن لأبٍ، وهذا كقول
الجعبري - رحمه الله تعالى -:
فَبِالْجِهَةِ التَّقْدِيمُ ثُمَّ بِقُرْبِهِ = وَبَعْدَهُمَا التَّقْدِيمُ
بِالْقُوَّةِ اجْعَلاَ
وإذا لم تستوعب الفروض المال ولم يكن عصبة رُدَّ على ذوي الفروض بقدر
فروضهم إلاَّ الزوجين، فإن لم يكن ذو فرض ولا عصبة ورث أولو الأرحام
بالتنزيل؛ وهو أن تجعل كل شخص بمنزلة مَن أدلى به، وهم أحق بالميراث من بيت
المال؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ((الخال وارثُ مَن لا وارث له))
، وفي الحديث دليلٌ على أن ابن الابن يحوز المال إذا لم يكن دونه ابن، وأن
الجد يرث جميع المال إذا لم يكن دونه أبٌ، وأن الأخ من الأم إذا كان ابن عم
يرث بالفرض والتعصيب، وكذا الزوج إذا كان ابن عم، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، أتنزل
(1/277)
غدًا في دارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك لنا
عقيل من رباعٍ أو دور؟)) ، ثم قال: ((لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر
المسلم)) .
الحديث دليلٌ على انقطاع التوارث بين المسلم والكافر بالنسب، وكذا بالولاء،
وهو قول جمهور العلماء ورواية عن أحمد.
قوله: أتنزل غدًا في دارك بمكة؟ فقال: ((وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور))
(الرباع) جمع ربع: وهو المنزل المشتمل على أبيات، وكان عقيل ورث أبا
طالب هو وطالب، ولم يرث عليٌّ ولا جعفر - رضي الله عنهما - شيئًا؛ لأنهما
كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين.
قال الحافظ: وأخرج هذا الحديث الفاكهي من طريق محمد بن أبي حفصة، وقال في
آخره: ويُقال إن الدار التي أشار إليها كانت دار هاشم بن عبدمناف، ثم صارت
لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمر فمن ثَمَّ صار للنبي - صلى الله
عليه وسلم - حق أبيه عبد الله، وفيها وُلِد النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم.
قال الحافظ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر استولى عقيل وطالب
على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما؛ لكونهما كانا لم يسلما،
وباعتبار ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - لحقه منها بالهجرة وفقد طالب
ببدر فباع عقيل الدار كلها، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
نهى عن بيع الولاء وهبته".
(الولاء) : حقٌّ ثبت بوصفٍ وهو الإعتاق، فلا يقبل النقل إلى الغير بوجهٍ من
الوجوه؛ فلهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الولاء لحمة كلحمة
النسب لا يُباع ولا يُوهَب)) .
قال الموفق: والولاء لا يورث وإنما يورث به، ولا يُباع ولا يُوهَب وهو
للكبر، فإذا مات المعتق وخلف عتيقه وابنين فمات أحد الابنين بعده عن
(1/278)
ابن ثم مات العتيق فالميراث لابن المعتق،
فإن مات الابنان بعده وقبل المولى وخلف أحدهما ابنا والآخر تسعة فولاؤه
بينهم على عددهم لكلِّ واحد عشرة، انتهى.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رجلاً مات على عهد النبي - صلى الله
عليه وسلم - ولم يترك وارثًا إلا عبدًا هو أعتقه فأعطاه ميراثه"؛ رواه
الخمسة إلا النسائي.
قال في "الاختيارات": أسباب التوارث: رحم ونكاح وولاء عتق إجماعًا، وذكر
عند عدم ذلك كله موالاته ومعاقدته وإسلامه على يديه والتقاطه كونهما من أهل
الديوان، وهو رواية عن الإمام أحمد، ويرث مولى من أسفل عند عدم الورثة
وقاله بعض العلماء، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كانت في بريرة ثلاث سنن: خيرت على زوجها
حين عتقت، وأهدى لها لحم فدخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والبرمة على النار، فدعا بطعام، فأتي بخبز وإدام من إدام البيت، فقال:
((ألم أرَ البرمة على النار فيها لحم؟)) ، فقالوا: بلى يا رسول الله، ذلك
لحم تصدق به على بريرة فكرهنا أن نطعمك منه، فقال: ((هو عليها صدقة، وهو
لنا منها هدية)) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الولاء لِمَن
أعتق)) .
فيه دليل على حصر الولاء لِمَن أعتق، وفي رواية للبخاري: ((الولاء لِمَن
أعطى الورق وولى النعمة)) .
قولها: "كانت في بريرة ثلاث سنن"، وفي رواية: ثلاث قضيات والمراد ما وقع من
الأحكام فيها مقصودًا، وإلا ففي قصتها فوائد كثيرة تُؤخَذ بطريق التنصيص أو
الاستنباط، وفي الحديث دليل على أن الأمة إذا عتقت تحت
(1/279)
عبد فلها الخيار، فإن مكنته من وطئها عالمة
سقط خيارها، وأن بيعها لا يكون طلاقًا ولا فسخًا، وفيه ثبوت الولاء للمرأة
المعتقة، وفيه أن المرء إذا خير بين مباحين فاختار ما ينفعه لم يُلَم ولو
أضرَّ ذلك برفيقه، وفيه اعتبار الكفاءة في الحرية وسقوطها بالرضا، وفيه
جواز أكل الغني ما تصدق به على الفقير إذا أهداه له، وجواز أكل الإنسان من
طعامِ مَن يسرُّ بأكله ولو لم يأذن له فيه بخصوصه، وفيه جواز الصدقة على
مَن
يمونه غيره، وفيه أن مَن حَرُمت عليه الصدقة جاز له أكل عينها إذا تغيَّر
حكمها، وفيه أن الهدية تُمَلَّك بوضعها في بيت المهدي له ولا يحتاج إلى
التصريح بالقبول، وفيه أنه لا يجب السؤال عن أصل المال الواصل إذا لم يكن
فيه شبهة، ولا عن الذبيحة إذا ذُبِحت بين المسلمين، وفيه تسمية الأحكام
سننًا وإن كان بعضها واجبًا، وفي قصة بريرة من الفوائد أيضًا استحباب شفاعة
الحاكم في الرفق بالخصم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: ((زوجك
وأبو ولدك)) ، وفيها غير ذلك، والله أعلم.
* * *
(1/280)
|