خلاصة
الكلام شرح عمدة الأحكام كتاب الأيمان
والنذور
الحديث الأول
عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطِيتها
عن مسألة وُكِلت إليها، وإن أُعطِيتها من غير مسألة أُعِنت عليها، وإذا
حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وأنت الذي هو خير))
.
* * *
الحديث الثاني
عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمينٍ فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت
الذي هو خير منها وتحلَّلتها)) .
الأصل في مشروعية الأيمان وثبوت حكمها الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله -
عزَّ وجلَّ -: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ
أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] وقال - تعالى -: {وَلاَ تَنْقُضُوا
(1/345)
الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:
91] .
والنذور: جمع نذر، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع؛ قال الله - عزَّ
وجلَّ -: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] ، وقال - تعالى -:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] .
وأصل اليمين في اللغة: اليد، وأُطلِقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا
أخذ كلٌّ منهم بيمين صاحبه، وعرفت اليمين في الشرع بأنها: توكيد الشيء بذكر
اسم أو صفة لله.
قوله: ((لا تسأل الإمارة)) يدخل في الإمارة القضاء والحسبة ونحو ذلك، وأن
مَن حرص على ذلك لا يُعان عليه، ومَن وُكِل إلى نفسه هلك.
وعن أنس رفعه: ((مَن طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وُكِل إلى نفسه،
ومَن أُكرِه عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده)) ؛ أخرجه ابن المنذر.
وعن أبي هريرة رفعه: ((مَن طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدلُه جورَه
فله الجنة، ومَن غلب جورُه عدلَه فله النار)) ؛ أخرجه أبو داود.
وفي حديث أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إنَّا لا نولِّي
مَن حرص)) ، قال ابن دقيق العيد: لما كان خطر الولاية عظيمًا بسبب أمور في
الوالي وسبب أمور خارجة عنه، كان طلبها تكلُّفًا ودخولاً في خطر عظيم، فهو
جدير بعدم العون، ولما كانت إذا أتت من غير مسألة لم يكن فيها هذا
التكلُّف، كانت جديرة بالعون على أعبائها وأثقالها.
قوله: ((وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفِّر عن يمينك وائتِ
الذي هو خير)) ، وفي رواية: ((فائتِ الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك)) ،
ولأبي داود: ((كفِّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير)) .
وفي حديث عديِّ بن حاتم عند مسلم: ((فرأى غيرها أتقى لله فليأتِ التقوى)) ،
قال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز تأخيرها بعد
الحنث، وقال المازري: للكفارة ثلاث حالات: أحدها قبل الحلف فلا تجزئ
اتفاقًا، ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقًا، ثالثها بعد الحلف وقبل
الحنث ففيه الخلاف، اهـ، والجمهور على جوازها قبل الحنث.
قوله: ((لا أحلف على يمين)) ، وفي رواية لمسلم: ((على أمر)) ، وفي رواية
للبخاري: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفرٍ من الأشعريين
فوافَقته وهو غضبان
فاستحملناه فحلف أن لا يحملنا"، وفي لفظ له قال: ((والله ما أحملكم، ما
عندي ما أحملكم)) ، قال: فانطلقنا، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بنهب إبل، فقيل:
(1/346)
هؤلاء الأشعريون، فأتيناه فأمر لنا بخمس
ذود غر الذري، فاندفعنا، وفيه: فرجعنا، فقلنا: يا رسول الله، أتيناك
نستحملك فحلفت أن لا تحملنا، ثم حملتنا فظننَّا أو فعرفنا أنك نسيت يمينك،
قال: ((انطلقوا فإنما حملكم الله، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين
فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها)) .
قوله: ((وتحللتها)) ؛ أي: كفرت عنها.
* * *
الحديث الثالث
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)) ، ولمسلم: ((فمَن كان حالفًا
فليحلف بالله أو ليصمت)) ، وفي رواية قال عمر: "فوالله ما حلفت بها منذ
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنها ذاكرًا ولا آثرًا"، يعني:
حاكيًا أنه حلف بها.
الحديث دليلٌ على المنع من الحلف بغير الله - تعالى - قال ابن عبد البر: لا
يجوز الحلف بغير الله بالإجماع، وعن عكرمة قال: قال عمر: "حدثت قومًا
حديثًا، فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي: ((لا تحلفوا بآبائكم)) ،
فالتفتُّ فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لو أن أحدكم حلف
بالمسيح هلك، والمسيح خيرٌ من آبائكم)) ؛ رواه ابن أبي شيبة، قال الحافظ:
وهذا مرسل يتقوَّى بشواهده.
وعن ابن عمر أنه سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله؛
فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن حلف بغير الله فقد
كفر أو أشرك)) ، قال الترمذي حسن.
قال العلماء: السرُّ في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي
تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وقال الماوردي: لا يجوز
لأحدٍ أن
يحلف أحدًا بغير الله، لا بطلاق
(1/347)
ولا عتاق ولا نذر، وإذا أحلف الحاكم أحدًا
بشيء من ذلك وجب عزله لجهله، انتهى.
وفي الحديث الزجر عن الحلف بغير الله - عزَّ وجلَّ - لا نبي ولا غيره، وما
ورد في القرآن من القسم بغير الله فذلك يختصُّ بالله - عزَّ وجلَّ - قال
الشعبي: الخالق يقسم بما شاء من خلقه، والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، وأما
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلح وأبيه إن صدق)) فهذا اللفظ كان يجري
على ألسنة العرب من غير أن يقصدوا به القسم، وقيل: يقع في كلامهم للتأكيد
لا للتعظيم كقول الشاعر:
لَعَمْرُ أَبِي الوَاشِينَ إِنِّي أُحِبُّهَا
فإنه لم يقصد تعظيم والد مَن وشى به، قال الحافظ: وفيه أن مَن حلف بغير
الله مطلقًا لم تنعقد يمينه سواء كان المحلوف به يستحقُّ التعظيم لمعنًى
غير العبادة؛ كالأنبياء والملائكة والعلماء الصُّلَحاء والملوك والآباء
والكعبة، أو كان لا يستحقُّ التعظيم كالآحَاد، أو يستحقُّ التحقير والإذلال
كالشياطين والأصنام وسائر مَن عُبِد من دون الله، انتهى، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قال
سليمان بن داود - عليهما السلام -: لأطوفنَّ الليلة على تسعين امرأة تلد
كلُّ امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل: إن شاء الله، فلم
يقل، فطاف بهنَّ فلم تَلِد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان)) ، قال: فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان ذلك
دركًا لحاجته)) .
قوله: " قل: إن شاء الله"؛ يعني: قال له الملك.
قوله: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة" هو كناية عن الجماع، قال وهب بن
منبه: كان لسليمان ألف امرأة:
(1/348)
ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سريَّة.
قوله: "تلد كلُّ امرأة منهن غلامًا يقاتل في سبيل الله" قال الحافظ: هذا
قاله على سبيل التمنِّي للخير، وإنما جزم به لأنه غلب عليه الرجاء لكونه
قصد به الخير وأمر الآخرة، لا لغرض الدنيا.
قوله: ((فقيل له: قل: إن شاء الله فلم يقل)) ، وفي رواية: ((فنسي)) قال بعض
السلف: نبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على آفة التمنِّي
والإعراض عن التفويض، قال: ولذلك نسي الاستثناء ليمضي فيه القدر.
قوله: ((فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان)) ، في رواية: ((ولم تحمل
منهن شيئًا إلا واحدًا ساقطًا إحدى شقيه)) .
قوله: ((لو قال: إن شاء الله، لم يحنث وكان ذلك دركًا لحاجته)) ، في رواية:
((وكان أرجى لحاجته)) ، وفي رواية: ((لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل
الله فرسانًا أجمعون)) ، وفي رواية: ((لو استثنى لحملت كلُّ امرأة منهن
فولدت فارسًا يُقاتل في سبيل الله)) .
وفي الحديث استحباب الاستثناء لِمَن قال: سأفعل كذا، وأن إتباع المشيئة
اليمينَ يرفع حكمها، وفيه أن الاستثناء لا يكون إلا باللفظ، وفيه أن كثيرًا
من المباح والملاذِّ يصير مستحبًّا بالنيَّة والقصد، وفيه ما خصَّ به
الأنبياء من القوة على الجماع الدال ذلك على صحة البنية وقوة الفحولية
وكمال الرجولية، مع ما هو فيه من الاشتغال بالعبادة والعلوم، ويُقال: إن
كلَّ مَن كان أتقى لله فشهوته أشدُّ؛ لأن الذي لا يتَّقي يتفرَّج بالنظر
ونحوه، وفيه جواز الإخبار عن الشيء ووقوعه في المستقبل بناء على غلبة الظن،
وفيه جواز السهو على الأنبياء وأن ذلك لا يقدح في علوِّ منصبهم، والله
أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: ((مَن حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي
الله وهو عليه
غضبان)) ، ونزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ... } [آل عمران: 77] إلى آخر الآية.
* * *
(1/349)
الحديث السادس
عن الأشعث بن قيس - رضي الله عنه - قال: "كان بيني وبين رجل خصومة في بئر
فاختصمنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((شاهداك أو يمينه)) ، قلت: إذًا يحلف ولا يبالي، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف على يمين صبرٍ يقتطع بها مال امرئ
مسلم لقِي الله وهو عليه غضبان)) .
قوله: ((مَن حلف على يمين صبر)) (يمين الصبر) : هي التي تلزم ويجبر عليها
حالفها، يُقَال: أصبره اليمين أحلفه بها في مقاطع الحق، قال ابن بطال: إن
الله خصَّ العهد بالتقدمة على سائر الأيمان، فدلَّ على تأكُّد الحلف به؛
لأن عهد الله ما أخذه على عباده وما أعطاه عباده.
وقال الراغب: ويطلق عهد الله على ما فطر عليه عباده من الإيمان به عند أخذ
الميثاق، ويُراد به أيضًا ما أمر في الكتاب والسنة مؤكدًا، وما التزمه
المرء من قِبَل نفسه كالنذر، اهـ.
وفي الحديث سماع الحاكم الدعوى فيما لم يره إذا عرفه المتداعيان، وفيه أن
الحاكم يسأل المدَّعي: هل له بينة؟ وفيه بناء الأحكام على الظاهر، وأن حكم
الحاكم لا يُبِيح للإنسان ما لم يكن حلالاً، وفيه أن صاحب اليد أَوْلَى
بالمدَّعى فيه.
قال الحافظ: وفيه التنبيه على صورة الحكم في هذه الأشياء؛ لأنه بدأ بالطالب
فقال: ليس لك إلا يمين الآخَر، ولم يحكم بها للمدعَى عليه إذا حلف، بل إنما
جعل اليمين تصرف دعوى المدعي لا غير، ولذلك ينبغي للحاكم إذا حلف المدعى
عليه أن لا يحكم بملك المدعي فيه ولا بحيازته، بل يقرُّه على حكم يمينه،
وفيه أن يمين الفاجر تسقط عند الدعوى، وأن فجوره لا يُوجِب الحجر عليه،
وفيه
موعظة الحاكم الخصم إذا أراد أن يحلف خوفًا من أن يحلف باطلاً، اهـ، وبالله
التوفيق.
* * *
(1/350)
الحديث السابع
عن ثابت بن الضحاك الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه بايَع رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - تحت لشجرة، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
((مَن حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال، ومَن
قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجلٍ نذر فيما لا يملك)) .
وفي رواية: ((لَعْنُ المؤمن كقتلِه)) ، وفي رواية: ((مَن ادَّعى دعوى كاذبة
ليستكثر بها لم يزده الله إلا قلَّة)) .
قوله: ((مَن حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبًا متعمِّدًا فهو كما قال))
(الملة) : الدين والشريعة، قال عياض: يُستَفاد منها أن الحالف المتعمِّد إن
كان مطمئنَّ القلب بالإيمان وهو كاذبٌ في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم
يكفر، وإن قال معتقدًا لليمين بتلك الملة لكونها حقًّا كفَر، وإن قالها
لمجرَّد التعظيم لها احتمل، اهـ.
وعن الحسين بن واقد عن أبيه رفعه: ((مَن قال: إني برئ من الإسلام، فإن كان
كاذبًا فهو كما قال، وإن كان صادقًا لم يعد إلى الإسلام سالمًا)) ؛ أخرجه
النسائي وصحَّحه.
قوله: ((ومَن قتل نفسه بشيء عُذِّب به يوم القيامة)) قال ابن دقيق العيد:
هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية، ويُؤخَذ منه أن
جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست ملكًا له
مطلقًا، بل هي لله - تعالى - فلا يتصرَّف فيها إلا بما أذن الله له فيه.
قوله: ((وليس على رجل نذر فيما لا يملك)) أخرج مسلم من حديث عمران بن حصين
في قصة المرأة التي كانت أسيرة فهربت على ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم
- فإن الذين
أسروا المرأة
(1/351)
انتهبوها، فنذرت إن سلمت أن تنحرها، فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك
ابن آدم)) .
وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا نذر في معصية،
وكفَّارته كفَّارة يمين)) ؛ رواه الخمسة، واحتجَّ به أحمد وإسحاق.
وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن نذر نذرًا ولم
يسمِّه فكفَّارته كفَّارة يمين، ومَن نذر نذرًا لم يطقه فكفارته كفارة
يمين)) ؛ رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد ((ومَن نذر نذرًا أطاقه فليفِ به))
.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: "أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني
نذرت أن أضرب على رأسك بالدف؟ فقال: ((أوفي بنذرك)) ؛ أخرجه أبو داود، زاد
أحمد والترمذي في حديث بريدة: أن ذلك وقت خروجه في غزوة، فنذرت إن ردَّه
الله - تعالى - سالمًا، وعند أحمد: ((إن كنتِ نذرتِ فاضربي، وإلا فلا)) .
قوله: ((لَعْنُ المؤمن كقتلِه)) ؛ أي: لأنه إذا لعنه فكأنه دعا عليه
بالهلاك، وقيل: يشبهه في الإثم، والله أعلم.
* * *
باب النذر
الحديث الأول
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، إني كنت نذرت في
الجاهلية أن أعتكف ليلة - وفي رواية: يومًا - في المسجد الحرام قال:
((فأوفِ بنذرك)) .
النذر في اللغة: التزام خير أو شر، وفي الشرع: التزام المكلف شيئًا لم يكن
عليه منجزًا أو معلقًا، قال قتادة في قوله - تعالى -: {يُوفُونَ
بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والصيام
والزكاة والحج والعمرة وممَّا افترض عليهم فسمَّاهم الله أبرارًا وقال
القرطبي: النذر من العقود المأمور بالوفاء بها المثنى على فاعلها، وأعلى
أنواعه ما كان غير معلَّق على شيء؛ كمَن يُعافَى من مرض، فقال: لله عليَّ
أن أصوم
(1/352)
كذا أو أتصدَّق بكذا شكرًا لله - تعالى -
ويليه المعلق على فعل طاعة؛ كإن شفى الله مريضِي صمتُ كذا أو صليت كذا، وما
عداهما من أنواعه كنذر اللجاج؛ كمَن يستثقل عبده فينذر أن يعتقه ليتخلَّص
من صحبته فلا يقصد القربة في ذلك أو يحمل على نفسه فينذر صلاة كثيرة أو
صومًا مما يشقُّ عليه فعله، فإن ذكره يكره، وقد يبلغ بعضه التحريم، اهـ.
وفي الحديث لزوم النذر في القربة من كلِّ أحد حتى قبل أن يسلم، قال الحافظ:
أصل الجاهلية ما قبل البعثة، والمراد بقول عمر: "في الجاهلية" ما قبل
إسلامه؛ لأن جاهلية كلِّ أحد بحسبه، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
أنه نهى عن النذر وقال: ((إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستَخرج به من البخيل))
.
قوله: "نهى عن النذر"، في رواية للبخاري: "أو لم ينهوا عن النذر؟ إن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن النذر لا يُقدِّم شيئًا ولا يؤخِّره،
وإنما يُستَخرج به من البخيل)) ، وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: ((فإن النذر
لا يغني من القدر شيئًا)) .
قال الخطابي: هذا بابٌ من العلم غريب، وهو النهي عن فعل شيء حتى إذا فعل
كان واجبًا.
قوله: ((وإنما يستخرج به من البخيل)) في حديث أبي هريرة: ((فيخرج بذلك من
البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج)) ، قال البيضاوي: عادة الناس تعليق
النذر على تحصيل منفعة أو دفع مضرَّة، فنهى عنه لأنه فعل البخلاء؛ إذ السخي
إذا أراد أن يتقرَّب بادَرَ إليه، والبخيل لا تُطاوِعه نفسه بإخراج شيء من
يده إلا في مقابلة عِوَض يستوفيه أولاً فيلتزمه في مقابلة ما يحصل له، وذلك
(1/353)
لا يُغنِي من القدر شيئًا، فلا يسوق إليه
خيرًا لم يقدَّر له ولا يردُّ عنه شرًّا قُضِي عليه، لكن النذر قد يوافق
القدر فيخرج من البخيل ما لولاه لم يكن ليخرجه، اهـ.
وفي الحديث الردُّ على القدرية، وأمَّا ما أخرجه الترمذي من حديث أنس: أن
الصدقة تدفع ميتة السوء؛ فمعناه: أن الصدقة تكون سببًا لدفع ميتة السوء
والأسباب مقدَّرة كالمسببات، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِل عن
الرقي: ((هل تردُّ من قدَر الله شيئًا؟)) ، قال: ((هي من قدر الله)) ؛
أخرجه أبو داود، ونحوه قول عمر: نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله.
وفيه الحثُّ على الإخلاص في عمل الخير وذم البخل، وفيه أن كلَّ شيء يبتدئه
المكلَّف من وجوه البرِّ أفضل ممَّا يلتزم بالنذر، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: "نذرتْ أختي أن تمشي إلى بيت الله
الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فاستفتيته فقال: ((لتمشِ ولتركب)) .
الحديث دليلٌ على صحة النذر بإتيان البيت الحرام، وعن أنس - رضي الله عنه
-: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخًا يهادي بين ابنيه، قال: ((ما
بال هذا؟)) ، قالوا: نذر أن يمشي، قال: ((إن الله عن تعذيب هذا نفسَه
لغني)) ، وأمره أن يركب"، وعن عقبة بن عامر رفعه: ((كفارة النذر كفارة
اليمين)) ؛ أخرجه مسلم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: ((جاء رجل فقال: يا رسول الله، إن أختي
نذرت أن تحجَّ ماشية، فقال: ((إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئًا، لتحجَّ
راكبة ثم لتكفِّر يمينها)) ؛ أخرجه الحاكم.
وعنه: "أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت، فأمرها النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديًا"؛ أخرجه أبو داود، والله أعلم.
* * *
(1/354)
الحديث الرابع
عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: استفتى سعد بن عبادة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كان على أمه، تُوفِّيت قبل أن تقضيه،
قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فاقضيه عنها)) .
فيه دليلٌ على قضاء الحقوق الواجبة على الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن مَن
مات وعليه نذر ماليٌّ أنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوصِ به، إلا إن
وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وفيه فضل برِّ الوالدين بعد الوفاة
والتوصُّل إلى براءة ما في ذمتهم.
وعن عائشة: "أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أمي افتلتت
نفسها، وأراها لو تكلمت تصدقت، أفأتصدق عنها؟ قال: ((نعم، تصدق عنها)) .
وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت، وأن ذلك ينفعه بوصول ثواب الصدقة
إليه، لا سيَّما إن كان من الولد، وهو مخصوص من عموم قوله - تعالى -:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] ، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عن كعب بن مالك - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن
أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمسِك عليك بعض مالك؛ فهو خيرٌ لك)) .
(1/355)
قوله: ((أمسِك عليك بعض مالك)) ، في رواية:
"فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر"، ولأبي داود: ((يجزى عنك الثلث)) ، قال
ابن المنير: لم يبت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أو لا، وقال الفاكهاني:
أورد الاستشارة بصيغة الجزم.
قال الحافظ: الأَوْلَى لِمَن أراد أن ينجز التصدُّق بجميع ماله أو يعلقه أن
يمسك بعضه، ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ، والتصدُّق بجميع المال
يختلف باختلاف الأحوال، فمَن كان قويًّا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم
يُمنَع، وعليه يتنزل فعل أبي بكر الصديق، وإيثار الأنصار على أنفسهم
المهاجرين ولو كان بهم خصاصة، ومَن لم يكن كذلك فلا، وعليه يتنزل ((لا صدقة
إلا عن ظهر غنى)) ، وفي لفظ: ((أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى)) ، اهـ.
وقال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليلٌ على أن الصدقة لها أثر في محو
الذنب، ولأجل هذا شرعت الكفارات المالية، اهـ.
تتمَّة:
وعن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما
صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني فكلُّ مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر:
إن الكعبة غنية عن مالك، كفِّر عن يمينك وكلِّم أخاك، سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول: ((لا يمين عليك، ولا نذر في معصية الرب، ولا في
قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك)) ؛ رواه أبو داود، والله أعلم.
* * *
باب القضاء
الحديث الأول
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) ، وفي لفظ: ((مَن عمل عملاً
ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) .
(1/356)
الأصل في القضاء ومشروعيته: الكتاب والسنة
والإجماع؛ قال الله - تعالى -: {يا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً
فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ
الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ
الْحِسَابِ} [ص: 26] ، وقال - تعالى -: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] ، وقال -
عزَّ وجلَّ -: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
وفي الحديث المتفق عليه: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد
فأخطأ فله أجر)) .
وعن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: ((إن الله مع القاضي ما لم يجر، فإذا جار وَكَلَه إلى نفسه))
؛ رواه ابن ماجه، وفي لفظ: ((فإذا جار تخلَّى عنه ولزمه الشيطان)) ؛ رواه
الترمذي.
وعن بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((القضاة ثلاثة: واحد في
الجنة واثنان في النار؛ فأمَّا الذي في الجنة: فرجلٌ عرف الحق فقضى به،
ورجلٌ عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو
في النار)) ؛ رواه ابن ماجه وأبو داود.
قال مالك: لا بُدَّ أن يكون القاضي عالمًا عاقلاً، وقال البخاري: يستحبُّ
للكاتب أن يكون أمينًا عاقلاً، اهـ.
وعن معاذ بن جبل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه قاضيًا إلى اليمن،
قال له: ((بِمَ تحكم؟)) ، قال: بكتاب الله - تعالى - قال: ((فإن لم تجد)) ،
قال: فبسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فإن لم تجد)) ، قال:
أجتهد رأيي، قال: ((الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول
الله)) ؛ رواه أحمد.
وكتب عمر إلى معاذ بن جبل وأبي عبيدة حين بعثهما إلى الشام: أن انظرَا
رجالاً من صالحي مَن قِبَلَكم فاستعمِلوهم على القضاء، وأوسعوا عليهم
وارزقوهم واكفُوهم من مال الله، وقال علي: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا
حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي
الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم.
قال الموفق: وله أن ينتهر الخصم إذا التوى ويصِيح عليه، وإن استحقَّ
التعزير عزَّره بما يرى من أدب أو حبس.
قوله: ((مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) قال الحافظ: هذا
الحديث معدودٌ من أصول الإسلام، وقاعدة من قواعده، فإن معناه: مَن اخترع في
الدين ما لا يشهد له أصلٌ من أصوله فلا يلتفت إليه.
قال النووي: هذا الحديث ممَّا ينبغي أن يعتنى بحفظه واستعماله في إبطال
المنكرات وإشاعة الاستدلال به كذلك، اهـ.
وقال الطرفي: هذا الحديث نصف أدلة الشرع.
قوله: وفي لفظ: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)) قال الحافظ:
(1/357)
هذا أعمُّ من اللفظ الأول فيحتجُّ به في
إبطال جميع العقود المنهيَّة وعدم وجود ثمراتها المرتبة عليها، وفيه ردُّ
المحدثات، وأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن المنهيات كلها ليست من أمر الدين
فيجب ردُّها، ويُستَفاد منه أن حكم الحاكم لا يغير ما في باطن الأمر؛
لقوله: ((ليس عليه أمرنا)) والمراد به أمر الدين، وفيه أن الصلح الفاسد
منتقض والمأخوذ عليه مستحق الرد، اهـ.
وقال البخاري: باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ خلاف الرسول من غير
علم فحكمه مردود؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن عمل عملاً ليس
عليه أمرنا فهو ردٌّ)) ، وقال أيضًا: ((إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل
العلم فهو رد)) ، وأورد قصة خالد وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
((اللهم إني أبرأ إليك ممَّا صنع خالد بن الوليد)) ، قال ابن بطال: الإثم
إن كان ساقطًا عن المجتهد في الحكم إذا تبيَّن له أنه بخلاف جماعة أهل
العلم لكن الضمان لازمٌ للمخطئ عند الأكثر مع الاختلاف هل يلزم ذلك عاقلة
الحاكم أو بيت المال؟
قال الحافظ: والذي يظهر أن التبرُّؤ من الفعل لا يلزم منه إثم فاعله ولا
إلزامه الغرامة؛ فإن إثم المخطئ مرفوع وإن كان فعله ليس بمحمود اهـ، والله
أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل
شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي
(1/358)
بنيَّ إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل
عليَّ في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذي من
ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفِي بنيك)) .
قولها: "شحيح"، في لفظ: "مسيك" بكسر الميم وتشديد السين، وبالفتح والتخفيف،
والشح: البخل مع حرص وهو أعمُّ من البخل، قال القرطبي: قوله: ((خذي)) ، أمر
إباحة، والمراد بالمعروف القدر الذي عرف بالعادة أنه الكفاية، اهـ.
وفي الحديث جواز ذكر الإنسان بما لا يعجبه إذا كان على وجه الاستفتاء
والاشتكاء ونحو ذلك، وفيه جواز سماع كلام الأجنبية عند الحكم والإفتاء،
وفيه جواز استماع كلام أحد الخصمين في غيبة الآخَر، وفيه وجوب نفقة الزوجة
وأنها مقدَّرة بالكفاية، وهي معتبرة بحال الزوجين معًا؛ لقوله - تعالى -:
{لِيُنْفِقْ ذُو
سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا
آَتَاهُ اللَّهُ ... } [الطلاق: 7] الآية، وفيه وجوب نفقة الأولاد بشرط
الحاجة، واستدلَّ به على أن مَن له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز
له أن يأخذ من ماله قدر حقِّه بغير إذنه، وتسمَّى مسألة الظفر، وأن للمرأة
مدخلاً في القيام على أولادها وكفالتهم والإنفاق عليهم، وفيه اعتماد العرف
في الأمور التي لا تحديد فيها من قِبَل الشرع، وفيه جواز القضاء على
الغائب.
قال ابن بطال: أجاز مالك والليث والشافعي وأبو عبيد وجماعة الحكم على
الغائب واستثنى ابن القاسم عن مالك ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار،
إلا إن طالت غيبته أو انقطع خبرة.
قال الحافظ: واحتج مَن منع بحديث عليٍّ رفعه: ((لا تقضِ لأحد الخصمين حتى
تسمع كلام الآخر)) ، وبحديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، وبأنه لو حضر لم
تسمع بيِّنة المدَّعي حتى يسأل المدَّعى عليه فإذا غاب فلا تسمع، وبأنه لو
جاز الحكم مع غيبته لم يكن الحضور واجبًا عليه، وأجاب مَن أجاز بأن ذلك كله
لا يمنع الحكم على الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع ويعمل بمقتضاها
ولو أدَّى إلى نقض الحكم السابق، وحديث عليٍّ محمول على
(1/359)
الحاضرين.
وقال ابن العربي: حديث عليٍّ إنما هو مع إمكان السماع، فأمَّا مع تعذره
بمغيب فلا يمنع الحكم، كما لو تعذر بإغماء أو جنون أو حجر أو صغر.
قال الحافظ: كلُّ حكم يصدر من الشارع فإنه ينزل منزلة الإفتاء بذلك الحكم
في مثل تلك الواقعة، فيصحُّ الاستدلال بهذه القصة للمسألتين؛ يعني: مسألة
القضاء على الغائب ومسألة الظفر، وقال البخاري: باب مَن رأى للقاضي أن يحكم
بعلمه في أمر الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة، كما قال النبي - صلى الله
عليه وسلم - لهند: ((خُذِي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، وذلك إذا كان أمرًا
مشهورًا، اهـ، والله أعلم.
* * *
الحديث الثالث
عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع
جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم فقال: ((إلا إنما أنا بشر مثلكم، وإنما
يأتيني الخصم، فلعلَّ بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له،
فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو يذرها)) .
"الجلبة": اختلاط الأصوات وارتفاعها.
قوله: ((إنما أنا بشر مثلكم)) أتى به ردًّا على مَن زعم أن مَن كان رسولاً
فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم.
قوله: ((أبلغ)) ، في رواية: ((ألحن)) .
قوله: ((قطعة من النار)) كقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] .
قوله: ((فليحملها أو يذرها)) الأمر فيه للتهديد كقوله - تعالى -: {فَمَنْ
شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ، قال ابن
التين: هو خطاب للمقضيِّ له، ومعناه: أنه يعلم من نفسه هل هو محقٌّ أو
مبطِل، فإن كان محقًّا فليأخذ، وإن كان مبطلاً فليترك، فإن الحكم لا ينقل
الأصل عمَّا كان عليه.
ولأبي داود: فبكى الرجلان وقال كلٌّ منهما: حقِّي لك، فقال لهما النبي -
صلى الله عليه وسلم -: ((أمَا إذا فعلتما فاقتسما وتوخَّيَا الحق ثم
استهِما ثم تحاللا)) .
(1/360)
وفي هذا الحديث من الفوائد إثم مَن خاصم في
باطل حتى استحقَّ به في الظاهر شيئًا هو في الباطن حرام عليه، وفيه أن مَن
ادَّعى مالاً ولم يكن له بيِّنة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة
الحالف أنه لا يبرأ في البطان وأن المدعي لو أقام بيِّنة بعد ذلك تُنافِي
دعواه سُمِعت وبطل الحكم، وفيه أن المجتهد قد يخطئ وأنه ليس كل مجتهد
مصيبًا، وإذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يُؤجَر، وفيه أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شيء.
قال الشافعي: فيه دلالة على أن الأمة إنما كلفوا القضاء على الظاهر، وأن
قضاء القاضي لا يحرم حلالاً ولا يحلُّ حرامًا، اهـ.
وفيه أن التعمُّق في البلاغة بتزيين الباطل في صورة الحق والحق في صورة
الباطل مذموم، وأمَّا البلاغة فلا تذمُّ لذاتها وهي أن يبلغ بعبارة لسانه
كُنْهَ ما في قلبه، وقال أهل المعاني والبيان: البلاغة مطابقة الكلام
لمقتضى الحال مع الفصاحة وهي خلوُّه عن التعقيد، وفيه موعظة الخصوم والعمل
بالنظر الراجح وبناء الحاكم عليه.
فائدة:
قال الحافظ: نقل بعض العلماء الاتِّفاق على أنه لو شهدت البينة بخلاف ما
يعلمه القاضي لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة.
* * *
الحديث الرابع
عن عبد الرحمن بن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: كتب أبي وكتبت له إلى
ابنه عبد الله بن أبي بكرة، وهو قاضٍ بسجستان: لا تحكم بين اثنين وأنت
غضبان، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((لا يحكم أحد
بين اثنين وهو غضبان)) ، وفي رواية: ((لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان))
.
(1/361)
قوله: "كتب أبي"؛ أي: أمره بالكتابة "وكتبت
له"؛ أي: باشرت الكتابة التي أمر بها.
قوله: ((لا يحكم أحدٌ بين اثنين وهو غضبان)) قال المهلب: سبب هذا النهي أن
الحكم حالة الغضب قد يتجاوَز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء
الأمصار، وقال ابن دقيق العيد: فيه النهي عن الحكم حالة الغضب؛ لما يحصل
بسببه من التغيير الذي يختل به النظر فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه،
وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كلِّ ما يحصل به تغيُّر الفكر من الجوع
والعطش المفرطين، وغلبة النعاس وسائر ما يتعلق به القلب تعلقًا يشغله عن
استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة.
قال الحافظ: لو خالف فحكم في حال الغضب صحَّ إن صادَف الحق مع الكراهة،
وهذا قول الجمهور، وفي الحديث ذكر الحكم مع دليله في التعليم وكذلك الفتوى،
وفيه شفقة الأب على ولده وإعلامه بما ينفعه وتحذيره من الوقوع فيما ينكر،
وفيه نشر العلم للعمل به والاقتداء وإن لم يسأل العالم عنه، والله الموفق.
* * *
الحديث الخامس
عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
((ألاَ أنبكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال:
((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألاَ وقول
الزور، وشهادة الزور)) ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
قوله: ((ألاَ أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثًا؛ أي: قال ذلك ثلاث مرات،
كرَّره تأكيدًا لينتبه السامع على إحضار فهمه0.
قوله: ((الإشراك بالله)) تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود، فذكره تنبيهًا
على غيره من أصناف الكفر.
قوله: ((وعقوق الوالدين)) العقوق صدور ما يتأذَّى به الوالد من ولده من قول
أو فعل.
قوله: وكان متكئًا
(1/362)
فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة
الزور)) قال الحافظ: يشعر بأنه اهتمَّ بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئًا،
ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظم قبحه، وسبب الاهتمام بذلك كون قول الزور
وشهادة الزور أسهل وقوعًا على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الإشراك ينبو
عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع، وأمَّا الزور فالحوامل عليه
كثيرة؛ كالعداوة والحسد وغيرهما، فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمه.
قوله: "فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت"؛ أي: شفقةً عليه وكراهيةً لما
يزعجه، وفيه تحريم شهادة الزور، وفي معناها كلُّ ما كان زورًا من تعاطي
المرء ما ليس له أهلاً، قال القرطبي: شهادة الزور هي الشهادة بالكذب
ليتوصَّل بها إلى الباطل من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام أو تحريم
حلال، فلا شيء من الكبائر أعظم ضررًا منها ولا أكثر فسادًا بعد الشرك
بالله، اهـ.
وفيه التحريض على مجانبة كبائر الذنوب ليحصل تكفير الصغائر بذلك، كما وعد
الله - عزَّ وجلَّ - في قوله - تعالى -: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا
تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ
مُدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء: 31] ، وفي الحديث انقسام الذنوب إلى كبير
وأكبر، ويُؤخَذ منه ثبوت الصغائر؛ لأن الكبيرة بالنسبة إليها أكبر منها،
قال الغزالي: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبير لا يليق بالفقيه، اهـ.
وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، وعن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجتنبوا السبع
الموبقات)) ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر،
وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم،
والتولِّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ؛ متفق عليه.
وعن ابن عباس: أنه قيل له: الكبائر سبع، قال: هي إلى السبعين أقرب، قال
القرطبي: كل ذنب أطلق عليه بنص كتاب الله أو سنة أو إجماع أنه كبيرة أو
عظيم أو أخبر فيه بشدَّة العقاب أو علَّق عليه الحد أو شدَّد النكير عليه
فهو كبير، وقال الحليمي ما من ذنب إلا وفيه صغيرة وكبيرة، وقد تنتقل
الصغيرة كبيرة بقرينةٍ تضمُّ إليها وتنقلب الكبيرة فاحشة كذلك، والله اعلم.
* * *
(1/363)
الحديث السادس
عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((لو يعطى الناس بدعاويهم لادَّعى ناس دماء رجالٍ وأموالهم ولكن اليمين على
المدَّعى عليه)) .
هذا الحديث أصلٌ في فصل الخصومات بين الناس.
قوله: ((ولكن اليمين على المدعى عليه)) في حديث ابن عمر عند الطبراني:
((البينة على المدِّعِي واليمين على المدَّعَى عليه)) ، وعند الإسماعيلي:
((ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب)) ، وعند البيهقي: ((لكن
البينة على المدَّعي واليمين على مَن أنكر)) .
قال العلماء: الحكمة في ذلك أن جانب المدَّعِي ضعيف لأنه يقول خلاف الظاهر
فكلف الحجة القوية وهي البيِّنة؛ لأنها لا تجلب لنفسها نفعًا ولا تدفع عنها
ضررًا فيقوى بها ضعف المدَّعي، وجانب المدَّعى عليه قوي فاكتفي منه باليمين
وهي حجة ضعيفة؛ لأن الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع الضرر فكان ذلك في غاية
الحكمة، والمدَّعي مَن إذا سكت ترك وسكوته، والمدَّعَى عليه مَن لا يخلى
إذا سكت، قال الإصطخري: إن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدَّعي لم يتلفت
إلى دعواه، اهـ.
وروى مسلم عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين
وشاهد"، قال ابن عبد البر: لا مطعن لأحدٍ في صحته ولا إسناده.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "قضى الله ورسوله في الحق
بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقَّه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده، قال
الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن؛ لأنه لا يمنع أن يجوز
أقل مما نص عليه، قال الحافظ: لا يلزم من التنصيص على الشيء نفيه عمَّا
عداه.
وقال: تخصيص الكتاب بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه كما في قوله - تعالى
-: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وأجمعوا على
تحريم العمَّة
مع بنت أخيها، وسند الإجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق
(1/364)
في المرَّة الثانية، وأمثلة ذلك كثيرة،
اهـ.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرض على
قوم اليمين فأسرعوا، فأمر أن يُسهِم بينهم في اليمين أيهم يحلف"؛ رواه
البخاري.
وعن أبي موسى - رضي الله عنه -: "أن رجلين ادَّعيا بعيرًا على عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - فبعث كلُّ واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي -
صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين"؛ رواه أبو داود.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
لرجل حلفه: ((احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء)) ؛ يعني:
المدعي؛ رواه أبو داود.
فائدة: في وضع اليد:
كل دعوى يكذبها العرف والعادة غير مسموعة، فإذا رأينا رجلاً حائزًا لدار
متصرِّفًا فيها مدَّة طويلة وهو ينسبها إلى نفسه وملكه، وإنسان حاضر يراه
لا يعارضه، وليس له مانع يمنعه من مطالبته، وليس بينه وبين المتصرِّف قرابة
ولا شركة، ثم جاء بعد طول هذه المدَّة يدَّعيها لنفسه ويريد أن يقيم بيِّنة
بذلك، فدعواه غير مسموعة وتبقى الدار بيد حائزها، هذا مقتضى اختيار شيخ
الإسلام ابن تيميَّة، وشمس الدين ابن القيم، وإمام الدعوة النجدية الشيخ
محمد بن عبد الوهاب وأولاده، وهو مذهب الإمام مالك، واختاره شيخنا محمد بن
إبراهيم بن عبد اللطيف، والله أعلم.
* * *
(1/365)
|