رسالة في الفقه الميسر

 [تقديم مكانة التراث الفقهي وتأصيل احترامه في نفوس المسلمين]
[أهمية التراث الفقهي]
رسالة
في الفقه الميسر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العليم الأكرم، الذي علم بالقلم، علم اٌلإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على معلم الخير للبشر، الشافع المشفع في المحشر، وعلى آله وصحابته الغرر، أما بعد:
فإن المؤمن مأمور بأن يتزود من العلم الشرعي المستند إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما فيه إقامة دينه وحياة قلبه، وسعادته في الدارين، ويكفي في فضل طلب العلم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة» .
وطالب العلم يدرك أهمية الازدياد من العلم؛ فهو يعرف أن العلم بحر لا ساحل له، كما يدرك أنه كلما ازداد علما ازداد هدى وبصيرة وخشية لله تعالى كما قال سبحانه: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] وهو يدرك أيضا أنه مأمور بطلب الازدياد من العلم كما قال تعالى: {وقل رب زدني علما} [طه: 114]
من هنا. . . وانطلاقا من واجب وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد في تيسير أسباب العلم الشرعي، ورفع مستويات التأهيل العلمي لمنسوبيها من الدعاة والأئمة والخطباء؛ فقد نظمت الوزارة دورات تدريبية شرعية لمن يحتاجها منهم، وذلك ضمن برنامج العناية بالمساجد ومنسوبيها.
وهذا الكتاب هو في أصله ثمرة جهد مبارك قام به مشايخ فضلاء من أساتذة الجامعات كانت الوزارة قد عهدت إليهم بإعداد مناهج في مواد العلم الشرعي لمعهد الأئمة والخطباء، والوزارة الآن تعيد طباعته ليكون ضمن مقررات دورات برنامج العناية بالمساجد ومنسوبيها.
وفق الله الجميع لطاعته وزادهم علما وعملا وهدى وتقى، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
وكالة المطبوعات والبحث العلمي

(1/3)


تقديم
مكانة التراث الفقهي وتأصيل
احترامه في نفوس المسلمين أهمية التراث الفقهي: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده (أما بعد) :
فإن من نافلة القول أن نقرر أن علم الفقه كان أوفر العلوم الإسلامية حظا؛ ذلك لأنه الأصل الذي يزن به المسلم عمله أحلال أم حرام؟ أصحيح أم فاسد؟ والمسلمون في جميع العصور حريصون على معرفة الحلال والحرام والصحيح والفاسد من تصرفاتهم سواءً ما يتصل بعلاقتهم بالله أو بعباده: قريبا كان أو بعيدا عدوا كان أو صديقا، حاكما كان أو محكوما، مسلما كان أو غير مسلم ولا سبيل إلى معرفة ذلك إلا من علم الفقه الذي يبحث فيه عن حكم الله على أفعال العباد طلبا أو تخييرا أو وضعا.
ولما كان الفقه كغيره من العلوم ينمو باستعماله ويضمر بإهماله مرت به أطوار نما فيها وترعرع وتناول كل مناحي الحياة ثم عَدت عليه عوادي الزمن فوقف نموه أو كاد لأنه أبعد إما عن عمد أو إهمال عن كثير من جوانب الحياة، لاستبدال أكثر دول الإسلام قوانين أخرى وضعية به لا تمت إلى معتقداتهم وعاداتهم وبيئتهم بصلة أعجبوا ببريقها فأفسدت عليهم الحياة؛ وتعقدت بهم المشكلات. وبالرغم من توالي الضربات على هذا العلم الجليل فإنه لقوة أساسه وإحكام بنيانه لا يزال صامدا على

(1/5)


مر العصور وقد أذن الله تعالى لهذه الأمة أن تصحوَ بعد غفوتها وتعلن عن رغبتها في العودة إلى حظيرة الإسلام تشريعا وتطبيقا.
ورأينا الكثرة الكاثرة من الشعوب الإسلامية تنادي بوجوب الرجوع إلى شريعة الله ولم يبق متعلقا بالقوانين الوضعية إلا شرذمة ترى أن حياتها مرتبطة بحياته وسعة أرزاقها منوطة ببقائه ولكن الله سيظهر دينه ولو كره المشركون!! .
ولكن متى بدأت نشأة الفقه؟ وما سبب نشأته؟ وما هي خصائصه ومزاياه؟ وما واجب المسلمين تجاهه؟ إليك بيان ذلك مفصلا:
بدأت نشأة الفقه تدريجيا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي عصر الصحابة، وكان سبب نشوئه وظهوره المبكر بين الصحابة هو حاجة الناس الماسة إلى معرفة أحكام الوقائع الجديدة، وظلت الحاجة إلى الفقه قائمة في كل زمان لتنظيم علاقات الناس الاجتماعية، ومعرفة الحقوق لكل إنسان، وإيفاء المصالح المتجددة، ودرء المضار والمفاسد المتأصلة والطارئة.

[مكانة التراث الفقهي ومزاياه]
(مكانة التراث الفقهي ومزاياه) يمتاز الفقه الإسلامي بعدة مزايا أو خصائص أهمها ما يأتي:
1 - أن أساسه الوحي الإلهي: نعم يتميز الفقه الإسلامي بأن مصدره وحي الله تعالى المتمثل في القرآن والسنة النبوية، فكل مجتهد مقيد في استنباطه الأحكام الشرعية بنصوص هذين المصدرين، وما يتفرع عنهما مباشرة، وما ترشد إليه روح الشريعة، ومقاصدها العامة، وقواعدها الكلية، فكان بذلك كامل النشأة، سوي البنية، وطيد الأركان لاكتمال مقاصده، وإتمام قواعده، وإرساء

(1/6)


أصوله في زمن الرسالة وفترة الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ولم يبق بعدئذ إلا التطبيق العملي وفق المصالح البشرية التي تنسجم مع مقاصد الشريعة.
2 - شموله كل متطلبات الحياة: يمتاز الفقه الإسلامي بأنه يتناول علاقات الإنسان الثلاث: علاقته بربه، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بمجتمعه؛ لأنه للدنيا والآخرة، ولأنه دين ودولة، وعام للبشرية وخالد إلى يوم القيامة، فأحكامه كلها تتآزر فيها العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، لتحقق- بيقظة الضمير، والشعور بالواجب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، واحترام الحقوق- غاية الرضا والطمأنينة والإيمان والسعادة والاستقرار، وتنظيم الحياة الخاصة والعامة وإسعاد العالم كله.
ومن أجل تلك الغاية: كانت الأحكام العملية (الفقه) وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات شاملة نوعين:
الأول: أحكام العبادات: من طهارة وصلاة وصيام وحج وزكاة ونذر ويمين ونحو ذلك مما يقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه.
الثاني: أحكام المعاملات: من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وضمانات، وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم ببعض، سواء أكانوا أفرادا أم جماعات، وهذه الأحكام تتفرع إلى ما يلي:
أ- الأحكام التي تسمى حديثًا بالأحوال الشخصية: وهي أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها من زواج وطلاق ونسب ونفقة

(1/7)


وميراث، ويقصد بها تنظيم علاقة الزوجين والأقارب بعضهم ببعض.
ب- الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإجارة ورهن وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام، ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ الحقوق.
ج- الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر من المكلف من جرائم، وما يستحقه عليها من عقوبات، ويقصد بها حفظ حياة الناس وأموالهم وأعراضهم وحقوقهم، وتحديد علاقة المجني بالجاني وبالأمة، وضبط الأمن.
د- أحكام المرافعات أو الإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والدعوى وطرق الإثبات بالشهادة واليمين والقرائن وغيرها، ويقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة العدالة بين الناس.
هـ- الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق، وما عليهم من واجبات.
و الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بتنظيم علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المقيمين بالدولة، وتشمل الجهاد والمعاهدات، ويقصد بها تحديد نوع العلاقة والتعاون والاحترام المتبادل بين الدول.
ز- الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية والتزاماتهم في نظام المال، وحقوق الدولة وواجباتها المالية، وتنظيم موارد الخزينة ونفقاتها. ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد.

(1/8)


وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة، كالغنائم والأنفال والعشور (ومنها الجمارك) والخراج (ضريبة الأرض) والمعادن الجامدة والسائلة وموارد الطبيعة المخلوقة، وأموال المجتمع: كالزكاة والصدقات والنذور والقروض، وأموال الأسرة: كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد: كأرباح التجارة، والأجرة، والشركات، وكل مرافق الاستغلال المشروع، والإنتاج، والعقوبات المالية: كالكفارات والديات والفدية.
ح- الأخلاق والآداب: وهي التي تحد من جموح الإنسان، وتشيع أجواء الفضيلة والتعاون والتراحم بين الناس.
وكان سبب اتساع الفقه هو ما جاء في السنة النبوية من الأحاديث الكثيرة في كل باب من هذه الأبواب.
3 - من مميزات الفقه الإسلامي اتصافه بالصفة الدينية حلا وحرمة: يفترق الفقه عن القانون الوضعي في أن كل فعل أو تصرف مدني في المعاملات يتصف بوجود قاعدة الحلال والحرام فيه، مما يؤدي إلى اتصاف أحكام المعاملات بوصفين:
أحدهما: دنيوي على ظاهر الفعل أو التصرف، ولا علاقة له بالأمر المستتر الباطني (وهو الحكم القضائي) لأن القاضي يحكم بما هو مستطاع.
وحكمه لا يجعل الباطل حقا، والحق باطلا في الواقع، ولا يحل الحرام ولا يحرم الحلال في الواقع، ثم إن القضاء ملزم، بعكس الفتوى.
والثاني: حكم أخروي يبنى على حقيقة الشيء والواقع، وإن كان خفيا عن الآخرين، ويعمل به فيما بين الشخص وبين ربه تعالى. وهو

(1/9)


الحكم (الدياني) وهذا ما يعتمده المفتي في فتواه.
4 - مما يميز الفقه الإسلامي ارتباطه بالأخلاق: يختلف الفقه عن القانون الوضعي في تأثره بقواعد الأخلاق، فليس للقانون الوضعي إلا غاية نفعية وهي العمل على حفظ النظام واستقرار المجتمع، وإن أهدرت بعض مبادئ الدين والأخلاق.
أما الفقه فيحرص على رعاية الفضيلة والمثل العليا والأخلاق القويمة، فتشريع العبادات من أجل تطهير النفس وإبعادها عن المنكرات، وتحريم الربا بقصد نشر روح التعاون والتعاطف بين الناس، وحماية المحتاجين من جشع أصحاب المال، والمنع من التغرير والغش في العقود وأكل المال بالباطل، وإفساد العقود بسبب الجهالة ونحوها من عيوب الرضا، من أجل إشاعة المحبة وتوفير الثقة، ومنع المنازعة بين الناس، والسمو عن أدران المادة، واحترام حقوق الآخرين.
وإذا تآزر الدين والخُلق مع التعامل: تحقق صلاح الفرد والمجتمع وسعادتهما معا، وتهيأ سبيل الخلود في جنة النعيم في الآخرة؛ وبذلك تكون غاية الفقه هي خير الإنسان حقا في الحال والمآل، وإسعاده في الدنيا والآخرة. لهذا: كان الفقه صالحا للبقاء والتطبيق الدائم: ففقه القواعد الأصلية لا يتغير كالتراضي في العقود، وضمان الضرر، وقمع الإجرام وحماية الحقوق، والمسؤولية الشخصية، أما الفقه المبني على القياس ومراعاة المصالح والأعراف، فيقبل التغير والتطور بحسب الحاجات الزمنية، وخير البشرية، والبيئات المختلفة زمانا ومكانا، مادام الحكم في نطاق مقاصد الشريعة وأصولها الصحيحة، وذلك في دائرة المعاملات لا في العقائد والعبادات، وهذا هو المراد بقاعدة "تتغير

(1/10)


الأحكام بتغير الأزمان ".
إذن فالعمل بالفقه واجب إلزامي:
نعم:
لأن المجتهد يجب عليه أن يعمل بما أداه إليه اجتهاده، وهو بالنسبة إليه حكم الله تعالى. وعلى غير المجتهد أن يعمل بفتوى المجتهد، إذ ليس أمامه طريق آخر لمعرفة الحكم الشرعي سوى الاستفتاء: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] وإنكار حكم من أحكام الشريعة التي تثبت بدليل قطعي، أو زعم قسوة حكم ما كالحدود مثلا، أو ادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، يعتبر كفرا وردة عن الإسلام. أما إنكار الأحكام الثابتة بالاجتهاد المبني على غلبة الظن فهو معصية وظلم، لأن المجتهد بذل أقصى جهده لمعرفة الحق وبيان حكم الله تعالى، بعيدا عن أي هوى شخصي، أو مأرب نفعي، أو طلب سمعة أو شهرة زائفة، وإنما مستنده الدليل الشرعي، ورائده الحق، وشعاره الأمانة والصدق والإخلاص.
المؤلف
د. صالح بن غانم السدلان

(1/11)