فقه السنة

الزواج

الزوجية سنة من سنن الله في الخلق والتكوين، وهي عامة مطردة، لا يشذ عنها عالم الانسان، أو عالم الحيوان أو عالم النبات: (من كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) .
(سبحان الذي خلق الازواج كلها، مما تنبت الارض، ومن أنفسهم، ومما لا يعلمون) .
وهي الاسلوب الي اختاره الله للتوالد والتكاثر، واستمرار الحياة، بعد أن أعد كلا الزوجين وهيأهما.
بحيث يقوم كل منهما بدور إيجابي في تحقيق هذه الغاية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) .
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) .
ولم يشأ الله أن يجعل الانسان كغيره من العوالم، فيدع غرائزه تنطلق دون وعي، ويترك اتصال الذكر بالانثى فوضى لا ضابط له.
بل وضع النظام الملائم لسيادته، والذي من شأنه أن يحفظ شرفه، ويصون كرامته.
فجعل اتصال الرجل بالمرأة اتصالا كريما، مبنيا على رضاهما.
وعلى إيجاب وقبول، كمظهرين لهذا الرضا.
وعلى إشهاد، على أن كلا منهما قد أصبح للاخر.
وبهذا وضع للغريزة سبيلها المأمونة، وحمى النسل من الضياع، وصان المرأة عن أن تكون كلاء مباحا لكل راتع.
ووضع نواة الاسرة التي تحوطها غريزة الامومة وترعاها عاطفة الابوة.
فتنبت نباتا حسنا، وتثمر ثمارها اليانعة.

(2/7)


وهذا النظام هو الذي ارتضاه الله، وأبقى عليه الاسلام، وهدم كل ما عداه.
الانكحة التي هدمها الاسلام فمن ذلك: نكاح الخدن: كانوا يقولون: ما استتر فلا بأس به وما ظهر فهو لؤم.
وهو المذكور في قول الله تعالى: (ولا متخذات أخدان) .
ومنها: نكاح البدل: وهو أن يقول الرجل للرجل: أنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي وأزيدك.
رواه الدارقطني عن أبي هريرة بسند ضعيف جدا.
وذكرت عائشة غير هذين النوعين فقالت: كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء (1) : (1) نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.
(2) ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها (2) ،
أرسلي إلى فلان فاستضعي منه (3) ، ويعتزلها زوجها حتى يتبين حملها.
فإذا تبين، أصاب إذا أحب.
وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.
ويسمى هذا النكاح الاستبضاع.
(3) ونكاح آخر: يجتمع الرهط (ما دون العشرة) على المرأة فيدخلون، كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت، ومر عليها ليال، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: قد عرفتم ما كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
__________
(1) انحاء: انواع.
(2) طمثها: حيضها.
(3) استبضعي: اطلبي منه المباضعة، أي الجماع لتنالي به الولد فقط.

(2/8)


(4) ونكاح رابع: يجتمع ناس كثير، فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها - وهن البغايا (1) - ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن.
فإذا حملت إحداهن ووضعت، جمعوا لها، ودعوا لهم القافة (2) ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به (3) ودعي ابنه، لا يمتنع من ذلك.
فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم.
وهذا النظام الذي أبقى عليه الاسلام، لا يتحقق إلا بتحقق أركانه من الايجاب والقبول، وبشرط الاشهاد.
وبهذا يتم العقد الذي يفيد حل استمتاع كل من الزوجين بالاخر على الوجه
الذي شرعه الله.
وبه تثبت الحقوق والواجبات التي تلزم كلا منها.

الترغيب في الزواج:
وقد رغب الاسلام في الزواج بصور متعددة الترغيب. فتارة يذكر أنه من سنن الانبياء وهدى المرسلين.
وأنهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم: (ولقد أرسلنا مرسلا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجا وذرية) .
وفي حديث الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من سنن المرسلين: الحناء (4) ، والتعطر، والسواك، والنكاح) .
__________
(1) البغايا: الزواني.
(2) القافة: جمع قائف وهو من يشبهه بين الناس، فيلحق الولد بالشبيه.
(3) التاط به: التصق به وثبت النسب بينهما.
(4) وقال بعض الرواة: الحياء بالياء.

(2/9)


وتارة يذكر في معرض الامتنان: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة، ورزقكم من الطيبات) .
وأحيانا يتحدث عن كونه آية من آيات الله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) .
وقد يتردد المرء في قبول الزواج، فيحجم عنه خوفا من الاضطلاع
بتكاليفه، وهروبا من احتمال أعبائه.
فيلفت الاسلام نظره إلى أن الله سيجعل الزواج سبيلا إلى الغنى، وأنه سيحمل عنه هذه الاعباء ويمده بالقوة التي تجعله قادرا على التغلب على أسباب الفقر: (وأنكحوا الأيامى (1) منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم (2) ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم) وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الاداء، والناكح الذي يريد العفاف) .
والمرأة خير كنز يضاف إلى رصيد الرجل.
روى الترمذي وابن ماجه عن ثوبان رضي الله عنه، قال لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فبشرهم بعذاب أليم) .
قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه: أنزلت في الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير فنتخذه؟ فقال: (لسان ذاكر، وقلب شاكر، وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه) .
__________
(1) الأيامى: جمع أيم، وهو الذي لا زوجة له، أو التي لا زوج لها.
(2) العباد: العبيد.

(2/10)


وروى الطبري بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع من أصابهن فقد أعطي خير الدنيا والاخرة: قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وبدنا على البلاء صابرا، وزوجة لا تبغيه حوبا في نفسها وماله) .
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الدنا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة) .
وقد يخيل للانسان في لحظة من لحظات يقظته الروحية، أن يتبتل وينقطع عن كل شأن من شؤون الدنيا، فيقوم الليل، ويصوم النهار، ويعتزل النساء، ويسير في طريق الرهبانية المنافية لطبيعة الانسان.
فيعلمه الاسلام أن ذلك مناف لفطرته، ومغاير لدينه، وأن سيد الانبياء - وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له - كان يصوم ويفطر، ويقوم وينام، ويتزوج النساء.
وأن من حاول الخروج عن هديه فليس له شرف الانتساب إليه.
روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا - كأنهم تقالوها (1) - فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟.
أما والله إني لاخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) .
والزوجة الصالحة فيض من السعادة يغمبر البيت ويملؤه سرورا وبهجة وإشراقا.
__________
(1) عدوها قليلة.

(2/11)


فعن أبي أمامة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما استفاد المؤمن - بعد تقوى الله عز وجل - خيرا له من زوجة صالحة: إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله) .
رواه ابن ماجه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة ابن آدم ثلاثة، ومن شقاوة ابن آدم ثلاثة: من سعادة ابن آدم: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الصالح، ومن شقاوة ابن آدم: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء) .
رواه أحمد بسند صحيح.
ورواه الطبراني، والبزاز، والحاكم وصححه، وقد جاء تفسير هذا الحديث في حديث آخر رواه الحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة، تراها تعجبك، وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة (1) تلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق، وثلاث من الشقاء: المرأة تراها فتسوءك، وتحمل لسانها عليك، وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون قطوفا (2) فان ضربتها أتعبتك، وإن تركتها لم تلحقك بأصحابك، والدار تكون ضيقة قليلة المرافق) .
والزواج عبادة يستكمل الانسان بها نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والنقاء.
فعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الباقي) .
رواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح الاسناد.
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر) .
رواه ابن ماجه وفيه ضعف.
__________
(1) وطيئة: ذلول سريعة السير.
(2) قطوفا: بطيئة.

(2/12)


قال ابن مسعود: (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام، وأعلم أني أموت في آخرها، ولي طول النكاح فيهن، لتزوجت مخافة الفتنة) .
حكمة الزواج:
وإنما رغب الاسلام في الزواج على هذا النحو، وحبب فيه لما يترتب عليه من آثار نافعة على الفرد نفسه، وعلى الامة جميعا، وعلى النوع الانساني عامة:
1 - فإن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها، وهي تلح على صاحبها دائما في إيجاد مجال لها، فما لم يكن ثمة ما يشبعها، انتاب الانسان الكثير من القلق والاضطراب، ونزعت به إلى شر منزع.
والزواج هو أحسن وضع طبيعي، وأنسب مجال حيوي لارواء الغريزة وإشباعها.
فيهدأ البدن من الاضطراب، وتسكن النفس من الصراع، ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام، وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله.
وهذا هو ما أشارت إليه الاية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، أن في ذلك لايات لقوم يتفكرون) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يعجبه فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه) .
رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
2 - والزواج هو أحسن وسيلة لانجاب الاولاد وتكثير النسل، واستمرار الحياة مع المحافظة على الانساب التي يوليها الاسلام عناية فائقة، وقد تقدم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الانبياء يوم القيامة) .
وفي كثرة النسل من المصالح العامة والمنافع الخاصة، ما جعل الامم تحرص أشد الحرص على تكثير سواد أفرادها بإعطاء المكافات التشجيعية لمن كثر نسله

(2/13)


وزاد عدد أبنائه، وقديما قيل: إنما العزة للكاثر. ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقضها.
دخل الاحنف بن قيس على معاوية - ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا به - فقال: يا أبا بحر ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا، وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف منا لمن بعدنا فكن لهم أرضا ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم، وان استعتبوك (1) فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك (2) فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك. فقال: لله درك يا أبا بحر، هم كما وصفت (3) .
3 - ثم أن غريزة الابوة والامومة تنمو وتتكامل في ظلال الطفولة، وتنمو مشاعر العطف والود والحنان، وهي فضائل لا تكمل إنسانية إنسان بدونها.
4 - الشعور بتبعة الزواج، ورعاية الاولاد يبعث على النشاط وبذل الوسع في تقوية ملكات الفرد ومواهبه.
فينطلق إلى العمل من أجل النهوض بأعبائه،
والقيام بواجبه.
فيكثر الاستغلال وأسباب الاستثمار مما يزيد في تنمية الثروة وكثرة الانتاج، ويدفع إلى استخراج خيرات الله من الكون وما أودع فيه من أشياء ومنافع للناس.
5 - توزيع الاعمال توزيعا ينتظم به شأن البيت من جهة، كما ينتظم به العمل خارجه من جهة أخ رى، مع تحديد مسؤولية كل من الرجل والمرأة فيما يناط به من أعمال.
فالمرأة تقوم على رعاية البيت وتدبير المنزل، وتربية الاولاد، وتهيئة الجو الصالح للرجل ليستريح فيه ويجد ما يذهب بعنائه، ويجدد نشاطه، بينما يسعى الرجل وينهض بالكسب، وما يحتاج إليه البيت من مال ونفقات.
وبهذا التوزيع العادل يؤدي كل منهما وظائفه الطبيعية على الوجه الذي
__________
(1) استعتبوك: طلبوا منك الرضى.
(2) رفدك: عطاءك.
(3) الامالي لابي علي القالي.

(2/14)


يرضاه الله ويحمده الناس، ويثمر الثمار المباركة.
6 - على أن ما يثمره الزواج من ترابط الاسر، وتقوية أواصر المحبة بين العائلات، وتوكيد الصلات الاجتماعية مما يباركه الاسلام ويعضده ويسانده.
فإن المجتمع المترابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد.
7 - جاء في تقرير هيئة الامم المتحدة الذي نشرته صحيفة الشعب الصادرة يوم السبت 6 / 6 / 1959 م أن المتزوجين يعيشون مدة أطول مما يعيشها غير المتزوجين سواء كان غير المتزوجين أرامل أم مطلقين أم عزابا من الجنسين.
وقال التقرير: إن الناس بدءوا يتزوجون في سن أصغر في جميع أنحاء
العالم، وان عمر المتزوجين أكثر طولا.
وقد بنت الامم المتحدة تقريرها على أساس أبحاث وإحصائيات تمت في جميع أنحاء العالم خلال عام 1958 بأكمله، وبناء على هذه الاحصاءات قال التقرير: انه من المؤكد أن معدل الوفاة بين المتزوجين - من الجنسين - أقل من معدل الوفاة بين غير المتزوجين، وذلك في مختلف الاعمار.
واستطرد التقرير قائلا: وبناء على ذلك فإنه يمكن القول بأن الزواج شئ مفيد صحيا للرجل والمرأة على السواء.
حتى ان أخطار الحمل والولادة قد تضاءلت فأصبحت لا تشكل خطرا على حياة الامم.
وقال التقرير: إن متوسط سن الزواج في العالم كله اليوم هو 24 للمرأة و 27 للرجل.
وهو سن أقل من متوسط سن الزواج منذ سنوات.
حكم الزواج (1) :
الزواج الواجب: يجب الزواج على من قدر عليه وتاقت نفسه إليه وخشي العنت (2) .
لان صيانة النفس وإعفافها عن الحرام واجب، ولا يتم ذلك إلا بالزواج.
__________
(1) حكمه: وصفه الشرعي من الوجوب أو الحرمة..الخ.
(2) العنت: الزنا.
ويطبق على الاثم والفجور والامر الشاق.

(2/15)


قال القرطبي: المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزوبة لا يرتفع عن ذلك إلا بالتزوج، لا يختلف في وجوب التزويج عليه.
فإن قلت نفسه إليه وعجز عن الانفاق على الزوجة فانه يسعه قول الله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) .
وليكثر من الصيام، لما رواه الجماعة عن ابن مسعود رضي الله عنه: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر (1) الشباب، من استطاع منكم الباءة (2) فليتزوج، فإنه (3) أغض للبصر. وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء) (4) .
من استطاع منكم الجماع لقدرته على مؤنه. فليتزوج. ومن لم يستطع الجماع لعجزه عن مؤنه فعليه بالصوم ليدفع شهوته ويقطع شر منيه كما يقطعه الوجاء.

الزواج المستحب:
أما من كان تائقا له وقادرا عليه ولكنه يأمن على نفسه من اقتراف ما حرم الله عليه الزواج يستحب له، ويكون أولى من التخلي للعبادة، فإن الرهبانية ليست من الاسلام في شئ.
روى الطبراني عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة) (5) .
وروى البيهقي من حديث أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تزوجوا فإني مكاثر بكم الامم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى) (6) .
وقال عمر لابي الزوائد: إنما يمنعك من التزوج عجز أو فجور.
__________
(1) المعشر: الطائفة يشملهم وصف، فالانبياء معشر، والشيوخ معشر، والشباب معشر، والنساء معشر ... وهكذا.
(2) الباءة: الجماع.
(3) اغض واحصن: أشد غضا للبصر، واشد إحصانا للفرج ومنعا من الوقوع في الفاحشة.
(4) الوجاء: رض الخصيتين، والمراد هنا أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء.
(5) إذ انها مخالفة لطبيعة الانسان، وما كان الله ليشرع إلاما يتفق وطبيعته.
(6) في مسنده محمد بن ثابت وهو ضعيف.

(2/16)


وقال ابن عباس: لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج.
الزواج الحرام: ويحرم في حق من يخل بالزوجة في الوطء والانفاق، مع عدم قدرته عليه وتوقانه إليه.
قال الطبري: فمتى علم الزواج أنه يعجز عن نفقة زوجته، أو صداقها أو شئ من حقوقها الواجبة عليه، فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها.
وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع، كان عليه أن يبين كيلا يغر المرأة من نفسه.
وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها.
وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أو كان بها علة تمنع الاستمتاع، من جنون، أو جذام، أو برص، أو داء في الفرج، لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها في ذلك.
كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب.
ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد.
فإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج وأخذ ما كان أعطاها من الصداق.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها (1) برصا فردها وقال: (دلستم علي) .
واختلف الرواية عن مالك في امرأة العنين (2) إذا أسلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة فقال مرة: لها جميع الصداق.
وقال مرة: لها نصف الصداق.
وهذا ينبني على اختلاف قوله.
بم تستحق الصداق؟ بالتسليم أو بالدخول؟ قولان (3) .
__________
(1) أي خاصرتها.
(2) أي العاجز عن اتيان النساء.
(3) سيأتي ذلك مفصلا.

(2/17)


الزواج المكروه:
ويكره في حق من يخل بالزوجة في الوطء والانفاق، حيث لا يقع ضرر بالمرأة، بأن كانت غنية وليس لها رغبة قوية في الوطء.
فان انقطع بذلك عن شئ من الطاعات أو الاشتغال بالعلم اشتدت الكراهة.
الزواج المباح:
ويباح فيما إذا انتفت الدواعي والموانع.
النهي عن التبتل (1) للقادر على الزواج:
1 - عن ابن عباس: أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العزوبة فقال: ألا أختصي؟ فقال: (ليس لنا من خصى أو اختصى) . رواه الطبراني.
2 - وقال سعد بن أبي وقاص: رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا.
رواه البخاري.
أي لو أذن له بالتبتل لبالغنا في التبتل حتى يفضي بنا الامر إلى الاختصاء.
قال الطبري: التبتل الذي أراده عثمان بن مظعون تحريم النساء والطيب وكل ما يتلذذ به فلهذا أنزل في حقه: (يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين) .
تقديم الزواج على الحج:
وان احتاج الانسان إلى الزواج وخشي العنت بتركه، قدمه على الحج الواجب، وإن لم يخف قدم الحج عليه.
وكذلك فروض الكفاية - كالعلم والجهاد - تقدم على الزواج إن لم يخش العنت.
__________
(1) التبتل: الانقطاع عن الزواج وما يتبعه من الملاذ الى العبادة.

(2/18)


الاعراض عن الزوجة وسببه تبين مما تقدم أن الزواج ضرورة لا غنى عنها، وأنه لا يمنع منه إلا العجز أو الفجور كما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وأن الرهبانية ليست من الاسلام في شئ، وأن الاعراص عن الزواج يفوت على الانسان كثيرا من المنافع والمزايا.
وكان هذا كافيا في دفع الجماعة المسلمة إلى العمل على تهيئة أسباب وتيسير وسائله حتى ينعم به الرجال والنساء على السواء.
ولكن على العكس من ذلك.
خرج كثير من الاسر عن سماحة الاسلام وسمو تعاليمه، فعقدوا الزواج ووضعوا العقبات في طريقه، وخلقوا بذلك التعقيد أزمة تعرض بسببها الرجال والنساء لالام العزوبة وتباريحها، والاستجابة إلى العلاقات الطائشة والصلات الخليعة.
وظاهرة أزمة الزواج لا تبدو في مجتمع القرية كما تبدو في مجتمع المدينة.
إذ أن القرية لا تزال الحياة فيها بعيدة عن الاسراف وأسباب التعقيد، - إذا استثنينا بعض الاسر الغنية - بينما تبدو الحياة في المدينة معقدة كل التعقيد.
ومعظم أسباب هذه الازمة ترجع إلى التغالي في المهور (1) وكثرة النفقات التي ترهق الزوج ويعيابها. هـ
ذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان تبذل المرأة وخروجها بهذه الصورة المثيرة، ألقى الريبة والشك في مسلكها، وجعل الرجل حذرا في اختيار شريكة حياته.
بل ان بعض الناس أضرب عن الزواج، إذ لم يجد المرأة التي تصلح - في نظره - للقيام بأعباء الحياة الزوجية.
ولابد من العودة إلى تعاليم الاسلام فيما يتصل بتربية المراة وتنشئتها على الفضيلة والعفاف والاحتشام وترك التغالي في المهر وتكاليف الزوج.
__________
(1) راجع فصل التغالي في المهور.

(2/19)


اختيار الزوجة:
الزوجة سكن للزوج، وحرث له، وهي شريكة حياته، وربة بيته، وأم أولاده، ومهوى فؤاده، وموضع سره ونجواه.
وهي أهم ركن من أركان الاسرة، إذ هي المنجبة للاولاد، وعنها يرثون كثيرا من المزايا والصفات، وفي أحضانها تتكون عواطف الطفل، وتتربى ملكاته ويتلقى لغته، ويكتسب كثيرا من تقاليده وعاداته، ويتعرف دينه، ويتعود السلوك الاجتماعي.
من أج ل هذا عني الاسلام باختيار الزوجة الصالحة، وجعلها خير متاع ينبغي التطلع إليه والحرص عليه.
وليس الصلاح إلا المحافظة على الدين، والتمسك بالفضائل، ورعاية حق الزوج، وحماية الابناء، فهذا هو الذي ينبغي مراعاته.
وأما ما عدا ذلك من مظاهر الدنيا، فهو ما حظره الاسلام ونهى عنه إذا
كان مجردا من معاني الخير والفضل والصلاح.
وكثيرا ما يتطلع الناس إلى المال الكثير، أو الجمال الفاتن، أو الجاه العريض، أو النسب، أو إلى ما بعد من شرف الاباء، غير ملاحظين كمال النفوس وحسن التربية. فتكون ثمرة الزواج مرة، وتنتهي بنتائج ضارة.
لهذا يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من التزوج على هذا النحو، فيقول 0 إياكم وخضراء الدمن، قيل: يا رسول الله وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء) (1) .
ويقول: (لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لاموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين ولامة خرماء (2) ذات دين أفضل) (3)
__________
(1) رواه الدارقطني وقال: تفرد به الواقدي وهو ضعيف والدمن ما بقي من آثار الديار ويستعمل سمادا.
(2) الخرماء: المشقوقة الانف والاذن.
(3) هذا الحديث رواه عبد بن حميد. وفيه عبد الرحمن بن زياد الافريقي، وهو ضعيف.

(2/20)


ويخبر أن الذي يريد الزواج مبتغيا به غير ما يقصد منه من تكوين الاسرة ورعاية شؤونها، فانه يعامل بنقيض مقصوده، فيقول: (من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لحسبها لم يزده إلا دناءة، ومن تزوج امرأة ليغض بها بصره، ويحصن فرجه، أو يصل رحمه، بارك الله له فيها وبارك لها فيه) . رواه ابن حبان في الضعفاء.
والقصد من هذا الخطر ألا يكون القصد الاول من لازواج هو هذا الاتجاه
نحو هذه الغايات الدنيا، فإنها لا ترفع من شأن صاحبها ولا تسمو به، بل الواجب أن يكون الدين متوفرا أولا، فان الدين هداية العقل والضمير.
ثم تأتي بعد ذلك الصفات التي يرغب فيها الانسان بطبعه، وتميل إليها نفسه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (تنكح المرأة لاربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) (1) .
رواه البخاري ومسلم.
ويضع تحديدا للمرأة الصالحة، وأنها الجميلة المطيعة البارة الامينة، فيقول: (خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك) .
رواه النسائي وغيره بسند صحيح.
ومن المزايا التي ينبغي توفرها في المرأة المخطوبة أن تكون من بيئة كريمة معروفة باعتدال المزاج، وهدوء الاعصاب، والبعد عن الانحرافات النفسية، فانها أجدر أن تكون حانية على ولدها، راعية لحق زوجها.
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم (أم هانئ) فاعتذرت إليه بأنها صاحبة أولاد، فقال، (خير نساء ركبن الابل صالح نساء قريش، أحناه (2) على ولد في صغره. وأرعاه (3) على زوج في ذات يده) (4) .
__________
(1) تربت يداك: التصقت بالتراب، وهو دعاء بالفقر على من لم يكن الدين من أهدافه.
(2) أحناء: أكثره شفقة، والحانية على ولدها: هي التي تقوم عليهم في حال يتمهم، فإذا تزوجت فليست بحانية.
(3) أرعاه: أحفظه واصون لما له بالامانة فيه والصيانة له وترك التبذير في الانفاق.
(4) ذات اليد: المال. يقال فلان قليل ذات اليد: أي قليل المال.

(2/21)


وطبيعة الاصل الكريم أن يتفرع عنه مثله، يقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: (الناس معدن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا) .
وهل ينتج الحطي إلا وشيجة - ويغرس إلا في منابته النخل خطب رجل امرأة لا يدانيها في شرفها فأنشدت: بكى الحسب الزاكي بعين غزيرة - من الحسب المنقوص أن يجمعا معا ومن مقاصد الزواج الاولى إنجاب الاولاد، فينبغي أن تكون الزوجة منجبة، ويعرف ذلك بسلامة بدنها، وبقياسها على مثيلاتها من أخواتها وعماتها وخالاتها.
خطب رجل امرأة عقيما لا تلد، فقال: يا رسول الله، إني خطبت امرأة ذات حسب، وجمال وانها لا تلد، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة) .
والودود هي المرأة التي تتودد إلى زوجها وتتحبب إليه، وتبذل طاقاتها في مرضاته.
والانسان بطبيعته يعشق الجمال ويهواه، ويشعر دائما في قراره نفسه بأنه فاقد لشئ من ذاته إذا كان الشئ الجميل بعيدا عنه.
فإذا أحرزه واستولى عليه شعر بسكن نفسي، وارتواء عاطفي وسعادة، ولهذا لم يسقط الاسلام الجمال من حسابه عند اختيار الزوجة، ففي الحديث الصحيح: (إن الله جميل يحب الجمال) .
وخطب المغيرة بن شعبة امرأة، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: (إذهب فانظروا إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما) .
أي تدوم بينكما المودة والعشرد.
ونصح الرسول رجلا خطب امرأة من الانصار وقال له: (انظر إليها فان في أعين الانصار شيئا) .

(2/22)


وكان جابر بن عبد الله يختبئ لمن يريد التزوج بها، ليتمكن من رؤيتها، والنظر إلى ما يدعوه إلى الاقتران بها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل بعض النسوة ليتعرفن بعض ما يخفى من العيوب، فيقول لها: (شمي فمها، شمي إبطيها، انظري إلى عرقوبيها) .
ويستحسن أن تكون الزوجة بكرا، فإن البكر ساذجة لم يسبق لها عهد بالرجال، فيكون التزويج بها أدعى إلى تقوية عقدة النكاح، ويكون حبها لزوجها ألصق بقلبها (فما الحب إلا للحبيب الاول) .
ولما تزوج جابر بن عبد الله ثيبا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك؟) ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أباه قد ترك بنات صغارا، وهن في حاجة إلى رعاية امرأة تقوم على شؤونهن، وأن الثيب أقدر على هذه الرعاية من البكر التي لم تدرب على تدبير المنزل.
ومما ينبغي ملاحظته أن يكون ثمة تقارب بين الزوج والزوجة من حيث السن والمركز الاجتماعي، والمستوى الثقافي والاقتصادي، فإن التقارب في هذه النواحي مما يعين على دوام العشرة، وبقاء الالفة.
وقد خطب أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (إنها صغيرة) . فلما خطبها علي زوجها إياه.
هذه بعض المعاني التي أرشد الاسلام إليها، ليتخذها مريدو الزواج نبراسا يستضيئون به، ويسيرون على هداه.
لو أننا لاحظنا هذه المعاني عند اختيارنا للزوجة لامكن أن نجعل من بيوتنا جنة ينعم فيها الصغير، ويسعد بها الزوج، وتعد للحياة أبناء صالحين، تحيا بهم أممهم حياة طيبة كريمة.

(2/23)


اختيار الزوج:
وعلى الولي أن يختار لكريمته، فلا يزوجها إلا لمن له دين وخلق وشرف وحسن سمت، فان عاشرها عاشرها بمعروف، وإن سرحها سرحها بإحسان.
قال الامام الغزالي في الاحياء: والاحتياط في حقها أهم، لانها رقيقة بالنكاح لا مخلص لها، والزوج قادر على الطلاق بكل حال.
ومهما زوج ابنته ظالما أو فاسقا أو مبتدعا أو شارب خمر، فقد جنى على دينه وتعرض لسخط الله لما قطع من الرحم وسوء الاختيار.
قال رجل للحسن بن علي: إن لي بنتا، فمن ترى أن أزوجها له؟ قال: زوجها لمن يتقي الله، فان أحبها أكرمها، وإن أبغضها لم يظلمها.
وقالت عائشة: النكاح رق، فلينظر أحدكم أين يضع كريمته.
وقال صلى الله عليه وسلم: 0 من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها) .
رواه ابن حبان في الضعفاء من حديث أنس، ورواه في الثقات من قول الشعبي باسناد صحيح.
قال ابن تيمية: ومن كان مصرا على الفسوق لا ينبغي أن يزوج.
الخطبة:
الخطبة: فعلة كقعدة وجلسة، يقال: خطب المرأة يخطبها خطبا وخطبة، أي طلبها للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس، ورجل خطاب: كثير التصرف في الخطبة، والخطيب، والخاطب، والخطب، الذي يخطب المرأة، وهي خطبه وخطبته.
وخطب يخطب، قال كلاما يعظ به، أو يمدح غيره ونحو ذلك.
والخطبة من مقدمات الزواج.
وقد شرعها الله قبل الارتباط بعقد الزوجية ليعرف كل من الزوجين صاحبه، ويكون الاقدام على الزواج على هدى وبصيرة.

(2/24)


من تباح خطبتها:
لا تباح خطبة امرأة إلا إذا توافر فيها شرطان: (الاول) أن تكون خالية من الموانع الشرعية التي تمنع زواجه منها في الحال.
(الثاني) ألا يسبقه غيره إليها بخطبة شرعية.
فإن كانت ثمة موانع شرعية، كأن تكون محرمة عليه بسبب من أسباب التحريم المؤبدة أو المؤقتة، أو كان غيره سبقه بخطبتها، فلا يباح له خطبتها.
خطبة معتدة الغير: تحرم خطبة المعتدة.
سواء أكانت عدتها عدة وفاة أم عدة طلاق، وسواء أكان الطلاق طلاقا رجعيا أم بائنا.
فإن كانت معتدة من طلاق رجعي حرمت خطبتها، لانها لم تخرج عن عصمة زوجها.
وله مراجعتها في أي وقت شاء.
وإن كانت معتدة من طلاق بائن حرمت خطبتها بطريق التصريح، إذ حق الزوج لا يزال متعلقا بها، وله حق إعادتها بعقد جديد.
ففي تقدم رجل آخر لخطبتها اعتداء عليه.
واختلف العلماء في التعريض بخطبتها، والصحيح جوازه.
وإن كانت معتدة من وفاة فانه يجوز التعريض لخطبتها أثناء العدة دون التصريح، لان صلة الزوجيد قد انقطعت بالوفاة، فلم يبق للزوج حتى يتعلق بزوجته التي مات عنها.
وإنما حرمت خطبتها بطريق التصريح، رعاية لحزن الزوجة وإحدادها من جانب، ومحافظة على شعور أهل الميت وورثته من جانب آخر.
يقول الله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم، علم الله أنكم ستذكرونهن، ولكن لا تواعدوهن سرا، إلا أن تقولوا قولا معروفا، ولا

(2/25)


تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله. واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه.
والمراد بالنساء، المعتدات لوفاة أزواجهن، لان الكلام في هذا السياق.
ومعنى التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به علي شئ لم يذكره.
مثل أن يقول: (إني أريد التزوج) و (لوددت أن ييسر الله لي امرأة صالحة) ، أو يقول: (إن الله لسائق لك خيرا) .
والهدية إلى المعتدة جائزة، وهي من التعريض.
وجائز أن يمدح نفسه، ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين.
قالت سكينة بنت حنظلة: استأذن علي بن محمد علي ولم تنقض عدتي من مهلك (1) زوجي ز فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرابتي من علي، وموضعي في العرب.
قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي؟ قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن علي.
وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة (2) من أبي سلمة، فقال: (لقد علمت أني رسول الله وخيرته، وموضعي في قومي) . وكانت تلك خطبة. رواه الدارقطني (3) .
وخلاصة الاراء أن التصريح بالخطبة حرام لجميع المعتدات، والتعريض مباح للبائن وللمعتدة من الوفاة، وحرام في المعتدة من طلاق رجعي.
وإذا صرح بالخطبة في العدة ولكن لم يعقد عليها إلا بعد انقضاء عدتها فقد اختلف العلماء في ذلك.
قال مالك: يفارقها، دخل بها أم لم يدخل.
__________
(1) مهلك: أي هلاك.
(2) متأيمة: أي انها أيم.
(3) الحديث المنقطع، لان محمد بن علي الباقر لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم.

(2/26)


وقال الشافعي: صح العقد وان ارتكب النهي الصريح المذكور لاختلاف لجهة.
واتفقوا على أنه يفرق بينهما لو وقع العقد في العدة ودخل بها.
وهل تحل له بعد أم لا؟ قال مالك، والليث، والاوزاعي: لا يحل له زواجها بعد.
وقال جمهور العلماء: بل يحل له إذا انقضت العدة أن يتزوجها إذا شاء.
الخطبة على الخطبة: يحرم على الرجل أن يخطب على خطبة أخيه، لما في ذلك من اعتداء على حق الخاطب الاول وإساءة إليه، وقد ينجم عن هذا التصرف الشقاق بين الاسر، والاعتداء الذي يروع الامنين.
فعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل له أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه (1) حتى يذر (2)) .
رواه أحمد ومسلم.
ومحل التحريم ما إذا صرحت المخطوبة بالاجابة، وصرح وليها الذي أذنت له، حيث يكون إذنه معتبرا.
وتجوز الخطبة وقع التصريح بالرد، أو وقعت الاجابة بالتعريض، كقولها: لا رغبة عنك.
أو لم يعلم الثاني بخطبة الاول، أو لم تقبل وترفض، أو أذن الخاطب الاول للثاني.
وحكى الترمذي عن الشافعي في معنى الحديث: إذا خطب المرأة فرضيت به وركنت إليه؟ فليس لاحد أن يخطب على خطبته.
فإذا لم يعلم برضاها ولا ركونها، فلا بأس أن يخطبها.
__________
(1) مفهوم لفظ الاخ معطل: لانه خرج مخرج الغالب، فتحرم الخطبة على خطبة الكافر والفاسق. وأخذ بالمفهوم بعض الشافعية والاوزاعي، وجوزوا الخطبة على خطبة الكافر، قال الشوكاني: وهو الظاهر.
(2) يذر: يترك.

(2/27)


وإذا خطبها الثاني بعد إجابة الاول وعقد عليها أثم والعقد صحيح لان النهي عن الخطبة، وليست شرطا في صحة الزواج، فلا يفسخ بوقوعها غير صحيحة.
وقال داود: إذا تزوجها الخاطب الثاني فسخ العقد قبل الدخول وبعده.
النظر إلى المخطوبة:
مما يرطب الحياة الزوجية ويجعلها محفوفة بالسعادة محوطة بالهناء، أن ينظر الرجل إلى المرأة قبل الخطبة ليعرف جمالها الذي يدعوه إلى الاقدام على الاقتران بها، أؤ قبحها الذي يصرف عنها إلى غيرها.
والحازم لا يدخل مدخلا حتى يعرف خيره من شره قبل الخول فيه،
قال الاعمش: كل تزويج يقع على غير نظر فآخره هم وغم.
وهذا النظر ندب إليه الشرع، ورغب فيه:
1 - فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خطب أحدكم المرأة، فان استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل) .
قال جابر: فخطبت امرأة من بني سلمة، فكنت أختبئ لها (1) حتى رأيت منها بعض ما دعاني إليها. رواه أبو داود.
2 - وعن المغيرة بن شعبة: أنه خطب امرأة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها؟) قال: لا، قال: (أنظر إليها، فانه أحرى أن يؤدم بينكما) ، أي أجدر أن يدوم الوفاق بينكما. رواه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسنه.
3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلا خطب امرأة من الانصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنظرت إليها) ؟ قال: لا، قال: (فاذهب فانظر إليها، فان في أعين الانصار شيئا) (2) .
__________
(1) فيه دليل على أنه ينظر إليها على غفلتها وان لم تأذن له.
(2) قيل صغر أو عمش.

(2/28)


المواضع التي ينظر إليها:
ذهب الجمهور من العلماء إلى أن الرجل ينظر إلى الوجه والكفين لا غير، لانه يستدل بالنظر إلى الوجه على الجمال أو الدمامة، وإلى الكفين على خصوبة البدن أو عدمها.
وقال داود: ينظر إلى جميع البدن.
وقال الاوزاعي: ينظر إلى مواضع اللحم.
والاحاديث لم تعين مواضع النظر، بل أطلقت لينظر إلى ما يحصل له المقصود بالنظر إليه (1) .
والدليل على ذلك ما رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور: أن عمر خطب إلى علي ابنته أم كلثوم، فذكر له صغرها، فقال: أبعث بها إليك، فإن رضيت فهي امرأتك، فأرسل إليها، فكشف عن ساقها، فقالت: لولا أنك أمير المؤمنين لصككت عينيك.
وإذا نظر إليها ولم تعجبه فليسكت ولا يقل شيئا، حتى لا تتأذى بما يذكر عنها، ولعل الذي لا يعجبه منها قد يعجب غيره.
نظر المرأة إلى الرجل:
وليس هذا الحكم مقصورا على الرجل، بل هو ثابت للمرأة أيضا.
فلها أن تنظر إلى خاطبها فانه يعجبها منه مثل ما يعجبه منها.
قال عمر: لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فانه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن.
التعرف على الصفات: هذا بالنسبة للنظر الذي عرف به الجمال من القبح، وأما بقية الصفات الخلقية فتعرف بالوصف والاستيصاف، والتحري ممن خالطوهما بالمعاشرة أو الجوار، أو بواسطة بعض أفراد ممن هم موضع ثقته من الاقرباء كالام، والاخت.
__________
(1) فتح الام ج 2 ص 89.

(2/29)


وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم أم سليم إلى امرأة فقال: (انظري إلى
عرقوبها وشمي معاطفها) (1) وفي رواية (شمي عوارضها) (2) رواه أحمد والحاكم والطبراني والبيهقي.
قال الغزالي في الاحياء: ولا يستوصف في أخلاقها وجمالها إلا من هو بصير صادق، خبير بالظاهر والباطن.
ولا يميل إليها فيفرط في الثناء، ولا يحسدها فيقصر، فالطباع مائلة في مبادئ الزواج، ووصف المزوجات إلى الافراط أو التفريط.
وقل من يصدق فيه ويقتصد، بل الخداع والاغراء أغلب.
والاحتياط فيه مهم لمن يخشى على نفسه التشوف إلى غير زوجته.

حظر الخلوة بالمخطوبة:
يحرم الخلو بالمخطوبة، لانها محرمة على الخاطب حتى يعقد عليها.
ولم يرد الشرع بغير النظر، فبقيت على التحريم، ولانه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة ما نهى الله عنه.
فإذا وجد محرم جازت الخلوة، لامتناع وقوع المعصية مع حضوره.
فعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الاخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فان ثالثهما الشيطان) .
وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له، فان ثالثهما الشيطان إلا محرم) . رواهما أحمد.
خطر التهاون في الخلوة وضرره:
درج كثير من الناس على التهاون في هذا الشأن، فأباح لابنته أو قريبته.
__________
(1) معاطفها ناحيتا العنق.
(2) العوارض: الاسنان في عرض الفم، وهي ما بين الاسنان والاضراس وواحدها عارض. والمراد اختبار رائحة الفم.

(2/30)


أن تخالط خطيبها وتخلو معه دون رقابة، وتذهب معه حيث يريد من غير إشراف.
وقد نتج عن ذلك أن تعرضت المرأة لضياع شرفها وفساد فعافها وإهدار كرامتها.
وقد لا يتم الزواج فتكون قد أضافت إلى ذلك فوات الزواج منها.
وعلى النقيض من ذلك طائفة جامدة لا تسمح للخاطب أن يرى بناتها عند الخطبة، وتأبى إلا أن يرضى بها، ويعقد عليها دون أن يراها أو تراه إلا ليلة الزفاف.
وقد تكون الرؤية مفاجئة لهما غير متوقعة، فيحدث ما لم يكن مقدرا من الشقاق والفراق.
وبعض الناس يكتفي بعرض الصورة الشمسية، وهي في الواقع لا تدل على شئ يمكن أن يطمئن، ولا تصور الحقيقة تصويرا دقيقا.
وخير الامور هو ما جاء به الاسلام، فإن فيه الرعايد لحق كلا الزوجين في رؤية كل منهما الاخر، مع تجنب الخلوة، حماية للشرف، وصيانة للعرض.
العدول عن الخطبة وأثره:
الخطبة مقدمة تسبق عقد الزواج، وكثيرا ما يعقبها تقديم المهر كله أو بعضه، وتقديم هدايا وهبات (1) ، تقوية للصلات، وتأكيدا للعلاقة الجديدة.
وقد يحدث أن يعدل الخاطب، أو المخطوبة، أو هما معا عن إتمام العقد، فهل يجوز ذلك؟ وهل يرد ما أعطي للمخطوبة؟ إن الخطبة مجرد وعد بالزواج، وليست عقدا ملزما، والعدول عن إنجازه حق من الحقوق التي يملكها كل من المتواعدين.
ولم يجعل الشارع لا خلاف الوعد عقوبة مادية يجازي بمقتضاها المخلف،
__________
(1) الشبكة.

(2/31)


وإن عد ذلك خلقا ذميما، ووصفه بأنه من صفات المنافقين، إلا إذا كانت هناك ضرورة ملزمة تقتضي عدم الوفاء.
ففي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) .
ولما حضرت الوفاة (عبد الله بن عمر) قال: انظروا فلانا (لرجل من قريش) ، فإني قلت له في ابنتي قولا كشبه العدة، وما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق، وأشهدكم أني قد زوجته (1) .
وما قدمه الخاطب من المهر فله الحق في استرداده، لا لانه دفع في مقابل الزواج، وعوضا عنه.
وما دام الزواج لم يوجد، فإن المهر لا يستحق شئ منه، ويجب رده إلى صاحبه، إذ أنه حق خالص له.
وأما الهدايا فحكمها حكم الهبة، والصحيح أن الهبة لا يجوز الرجوع فيها إذا كانت تبرعا محضا لا لاجل العوض.
لان الموهوب له حين قبض العين الموهوبة دخلت في ملكه، وجاز له التصرف فيها، فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه.
وهذا باطل شرعا وعقلا (2) .
فإذا وهب ليتعوض من هبته ويثاب عليها فلم يفعل الموهوب له، جاز له الرجوع في هبته، وللواهب هنا حق الرجوع فيما وهب، لان هبته على جهة المعاوضة، فلما لم يتم الزواج كان له حق الرجوع فيما وهب، والاصل في ذلك: 1 - ما رواه أصحاب السنن، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لرجل أن يعطي عطية، أو يهب هبة فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده) .
2 - ورووا عنه أيضا، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (العائد في هبته كالعائد في قيئه) .
__________
(1) تذكرة الحفاظ.
(2) اعلام الموقعين جزء 2 ص 50.

(2/32)


3 - وعن سالم عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من وهب هبة فهو أحق بها ما لم يثب منها) أي يعوض عنها.
وطريقة الجمع بين هذه الاحاديث هي ما ذكره (اعلام الموقعين) قال: ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع هو من وهب تبرعا محضا لا لاجل العوض، والواهب الذي له الرجوع هو من وهب ليتعوض من هبته، ويثاب منها، فلم يفعل الموهوب له، وتستعمل سنن رسول الله كلها، ولا يضرب بعضها ببعض.
رأي الفقهاء: إلا أن العمل الذي جرى عليه القضاء بالمحاكم: تطبيق المذهب الحنفي الذي يرى أن ما أهداه الخاطب لمخطوبته له الحق في استرداده إن كان قائما على حالته لم يتغير.
فالاسورة، أو الخاتم، أو العقد، أو الساعة، ونحو ذلك يرد إلى الخاطب إذا كانت موجودة.
فإن لم يكن قائما على حالته، بأن فقد أو بيع أو تغير بالزيادة، أو كان طعاما فأكل، أو قماشا فخيط ثوبا، فليس للخاطب الحق في استرداد ما أهداه أو استرداد بدل منه.
وقد حكمت محكمة طنطا الابتدائية الشرعية حكما نهائيا بتاريخ 13 يوليو سنة 1933.
وقررت فيه القواعد الاتية:
1 - ما يقدم من الخاطب لمخطوبته، مما لا يكون محلا لورود العقد عليه، يعتبر هدية.
2 - الهدية ك الهبة، حكما ومعنى.
3 - الهبة عقد تمليك يتم بالقبض.
وللموهوب له أن يتصرف في العين الموهوبة بالبيع ولاشراء وغيره، ويكون تصرفه نافذا.
4 - هلاك العين أو استهلاكها مانع من الرجوع في الهبة.
5 - ليس للواهب إلا طلب رد العين إن كانت قائمة.
وللمالكية في ذلك تفصيل بين أن يكون العدول من جهته أو جهتها:

(2/33)


فإن كان العدول من جهته فلا رجوع له فيما أهداه، وإن كان العدول من جهتها فله الرجوع بكل ما أهداه، سواء أكان باقيا على حاله، أو كان قد هلك، فيرجع ببدله إلا إذا كان عرف أو شرط، فيجب العمل به.
وعند الشافعية ترد الهدية سواء أكانت قائمة أم هالكة، فإن كانت قائمة
ردت هي ذاتها، وإلا ردت قيمتها.
وهذا المذهب قريب مما ارتضيناه.
عقد الزواج:
الركن الحقيقي للزواج هو رضا الطرفين، وتوافق ارادتهما في الارتباط.
ولما كان الرضا ونوافق الارادة من الامور النفسية التي لا يطلع عليها، كان لابد من التعبير الدال على التصميم على إنشاء الارتباط وايجاده.
ويتمثل التعبير فيما يجري من عبارات بين المتعاقدين.
فما صدر أولا من أحد المتعاقدين للتعبير عن ارادته في إنشاء الصلة الزوجية يسمى إيجابا، ويقال: أنه أوجب.
وما صدر ثانيا من المتعاقد الاخر من العبارات الدالة على الرضا والموافقة يسمى قبولا.
ومن ثم يقول الفقهاء: إن أركان الزواج (الايجاب، والقبول) .
شروط الإيجاب والقبول (1) :
ولا يحقق العقد وتترتب عليه الاثار الزوجية، إلا إذا توافرت فيه الشروط الاتية:
1 - تمييز المتعاقدين: فإن كان أحدهما مجنونا أو صغيرا لا يميز فان الزواج لا ينعقد.
2 - اتجاد مجلس الايجاب والقبول، بمعنى ألا يفصل بين الايجاب والقبول بكلام أجنبي، أو بما يعد في العرف إعراضا وتشاغلا عنه بغيره.
__________
(1) وتسمى شروط الاعتقاد.

(2/34)


ولا يشترط أن يكون القبول بعد الايجاب مباشرة.
فلو طال المجلس وتراخى القبول عن الايجب، ولم يصدر بينهما ما يدل على الاعراض، فالمجلس متحد.
وإلى هذا ذهب الاحناف والحنابلة.
وفي المغني: إذا تراخى القبول عن الايجاب صح، ماداما في المجلس، ولم يتشاغلا عنه بغيره.
لان حكم المجلس حكم حالة العقد، بدليل القبض فيما يشترط القبض فيه، وثبوت الخيار في عقود المعاوضات.
فإن تفرقا قبل القبول بطل الايجاب، فانه لا يوجد معناه، فان الاعراض قد وجد من جهته بالتفرق، فلا يكون مقبولا.
وكذلك أن تشاغلا عنه بما يقطعه: لان معرض عن العقد أيضا بالاشتغال عن قبوله.
روي عن أحمد، في رجل مشى إليه قوم، فقالوا له: زوج فلانا.
قال: قد زوجته على ألف.
فرجعوا إلى الزوج فأخبروه، فقال: قد قبلت، هل يكون هذا نكاحا.
قال: نعم.
ويشترط الشافعية الفور.
قالوا: فان فصل بين الايجاب والقبول بخطبة بأن قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، قبلت نكاحها، ففيه وجهان: (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي حامد الاسفراييني، أنه يصح، لان الخطبة مأمور بها للعقد، فلم تمنع صحته: كالتيمم بين صلاتي الجمع.
(والثاني) لا يصح، لانه فصل بين الايجاب والقبول.
فلم يصح.
كما لو فصل بينهما بغير الخطبة.
ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد.
وأما مالك، فأجاز التراخي والسير بين الايجاب والقبول.
وسبب الخلاف، هل من شرط الانعقاد وجود القبول من المتعاقدين في وقت واحد معا؟ أم ليس ذلك من شرطه؟

(2/35)


3 - ألا يخالف القبول الايجاب إلا إذا كانت المخالفة إلى ما هو أحسن للموجب، فانها تكون أبلغ في الموافقة.
فإذا قال الموجب: زوجتك ابنتي فلانة، على مهر قدره مائة جنيه، فقال القابل: قبلت زواجها على مائتين، انعقد الزواج، لاشتمال القبول على ما هو أصلح.
4 - سماع كل من المتعاقدين بعضهما من بعض ما يفهم أن المقصود من الكلام هو إنشاء عقد الزواج، وإن لم يفهم منه كل منهما معاني مفردات العبارة، لان العبرة بالمقاصد والنيات.
ألفاظ الإنعقاد:
(1) ينعقد الزواج بالالفاظ التي تؤدي إليه باللغة التي يفهمها كل من المتعاقدين، متى كان التعبير الصادر عنهما دالا على إرادة الزواج، دون لبس أو إبهام.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية: وينعقد النكاح بما عده الناس نكاحا بأي لغة ولفظ وفعل كان ومثله كل عقد (2) .
وقد وافق الفقهاء على هذا بالنسبة للقبول، فلم يشترطوا اشتقاقه من مادة خاصة، بل يتحقق بأي لفظ يدل على الموافقة أو الرضا، مثل: قبلت، وافقت، أمضيت، نفذت.
أما الايجاب فإن العلماء متفقون على أنه يصح بلفظ النكاح والتزويج، وما اشتق منهما مثل: زوجتك، أو أنكحتك: لدلالة هذين اللفظين صراحة على المقصود.
واختلفوا في انعقاده بغير هذين اللفظين، كلفظ الهبة أو البيع أو التمليك أو الصدقة.
فأجازه الاحناف (3) و (الثوري) و (أبو ثور) و (أبو داود) .
__________
(1) الايجاب والقبول.
(2) الاختيارات العلمية ص 119.
(3) قاعدة الاحناف ان عقد الزواج ينعقد بكل لفظ موضوع لتمليك العين في الحال بصفة دائمة فلا ينعقد بلفظ الاحلال أو الاباحة.
لانه ليس فيهما ما يدل على التمليك ولا بلفظ الاعارة والاجارة، لان الحاصل بكل منهما تمليك منفعة العين.
ولا بلفظ الوصية لانها موضوعة لافادة المك بعد الموت.

(2/36)


لانه عقد يعتبر فيه النية، ولا يشترط في صحته اعتبار اللفظ المخصوص، بل المعتبر فيه أي لفظ اتفق إذا فهم المعنى الشرعي منه: أي إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة، لان النبي صلى الله عليه وسلم زوج رجلا امرأة فقال: (قد ملكتكها بما معك من القرآن) .
رواه البخاري.
ولان لفظ الهبة انعقد به زواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكذلك ينعقد به زواج أمته، قال الله تعالى: (يأيها النبي إنا أح للنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) إلى قوله: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) .
ولانه أمكن تصحيحه بمجازه، فوجب تصحيحه، كايقاع الطلاق بالكنايات.
وذهب الشافعي وأحمد وسعيد بن المسيب وعطاء إلى أنه لا يصح إلا بلفظ التزويج أو الانكاح وما اشتق منهما، لان ما سواهما من الالفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى الزواج، ولان الشهادة عندهم شرط في
الزواج، فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع على الزواج.
العقد بغير اللغة العربية:
اتفق الفقهاء على جواز الزواج بغير اللغة العربية إذا كان العاقدان أو أحدهما لا يفهم العربية.
واختلفوا فيما إذا كانا يفهمان العربية ويستطيعان العقد بها: قال ابن قدامة في المغني: ومن قدر على لفظ النكاح بالعربية لم يصح بغيرها، وهذا أحد قولي الشافعي.
وعند أبي حنيفة ينعقد، لانه أتى بلفظه الخاص فانعقد به، كما ينعقد بلفظ العربية.

(2/37)


ولنا: انه عدل عن لفظ الانكاح والتزويج مع القدرة فلم يصح كلفظ الاحلال.
فأما من لا يحسن العربية فيصح منه عقد النكاح بلسانه، لانه عاجز عما سواه فسقط عنه: كالاخرس، ويحتاج أن يأتي بمعناهما الخاص بحيث يشتمل على معنى اللفظ العربي، وليس على من لا يحسن العربية تعلم ألفاظ النكاح بها.
وقال أبو الخطاب: عليه أن يتعلم، لان ما كانت العربية شرطا فيه لزمه أن يتعلمها مع القدرة، كالتكبير.
ووجه الاول أن النكاح غير واجب، فلم يجب تعلم أركانه بالعربية كالبيع بخلاف التكبير.
فان كان أحد المتعاقدين يحسن العربية دون الاخر أتى الذي يحسن العربية بها، والاخر يأتي بلسانه.
فان كان أحدهما لا يحسن لسان الاخر احتاج أن يعلم أن اللفظة التي أتى
بها صحبه لفطة الانكاح ان يخبره بذلك ثقة يعرف اللسانين جميعا.
والحق الذي يبدو لنا أن هذا تشدد، ودين الله يسر، وسبق أن قلنا: إن الركن الحقيقي هو الرضا.
والايجاب والقبول ما هما إلا مظهران لهذا الرضا ودليلان عليه.
فإذا وقع الايجاب والقبول كان ذلك كافيا، مهما كانت اللغة التي أديا بها.
قال ابن تيمية: انه (أي النكاح) وان كان قربة، فانما هو كالعتق والصدقة، لا يتعين له لفظ عربي ولا عجمي.
ثم ان الاعجمي إذا تعلم العربية في الحال ربما لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ، كما يفهم من اللغة التي اعتادها.
نعم لو قيل: تكره العقود بغير العربية لغير حاجة، كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة، لكان متوجها.
كما روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهية اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة.

(2/38)


زواج الاخرس: ويصح زواج الاخرس باشارته إن فهمت كما يصح بيعه، لان الاشارة معنى مفهم.
وإن لم تفهم إشارته لا يصح منه، لان العقد بين شخصين، ولا بد من فهم كل واحد منهام ما يصدر من صاحبه (1)
عقد الزواج للغائب:
إذا كان أحد طرفي العقد غائبا وأراد أن يعقد الزواج فعليه أن يرسل رسولا أو يكتب كتابا إلى الطرف الاخر يطلب الزواج.
وعلى الطرف الاخر - إذا كان له رغبة في القبول - أن يحضر الشهود ويسمعهم عبارة الكتاب أو رسالة الرسول، ويشهدهم في المجلس على أنه قبل الزواج.
ويعتبر القبول مقيدا بالمجلس.
شروط صيغة العقد:
اشترط الفقهاء لصيغة الايجاب والقبول: أن تكون بلفظين وضعا للماضي، أو وضع أحدهما للماضي والاخر للمستقبل.
فمثال الاول: أن يقول العاقد الاول: زوجتك ابنتي.
ويقول القابل: قبلت.
ومثال الثاني: أن يقول الخاطب أزوجك ابنتي، فيقول له: قبلت.
وإنما اشترطوا ذلك، لان تحقق الرضا من الطرفين وتوافق ارادتهما هو الركن الحقيقي لعقد الزواج، والايجاب والقبول مظهر ان لهذا الرضا كما تقدم.
ولابد فيهما من أن يدلا دلالة قطعية على حصول الرضا وتحققه فعلا وقت العقد.
والصيغة التي استعملها الشارع لانشاء العقود هي صيغة الماضي، لان دلالتها على حصول الرضا من الطرفين قطعية.
ولا تحتمل أي معنى آخر.
__________
(1) جاء في لائحة ترتيب المحاكم الشرعة والاجراءات المتعلقة بها مادة 128 اقرار الاخرس يكون باشارته المعهودة.
ولا يعتبر إقراره بالاشارة إذا كان يمكنه الاقرار بالكتابة.

(2/39)


بخلاف الصيغ الدالة على الحال أو الاستقبال، فانها لا تدل قطعا على حصول الرضا وقت التكلم.
فلو قال أحدهما: أزوجك ابنتي.
وقال الاخر: أقبل، فإن الصيغة منهما لا ينعقد بها الزواج، لاحتمال أن يكون المراد من هذه الالفاظ مجرد الوعد.
والوعد بالزواج مستقبلا ليس عقدا له في الحال، ولو قال الخاطب: زوجني ابنتك، فقال الاخر: زوجتها لك، انعقد الزواج، لان صيغة (زوجني) دالة على معنى التوكيل، والعقد يصح أن يتولاه واحد عن الطرفين.
فإذا قال الخاطب: زوجني، وقال الطرف الاخر: قبلت، كان مؤى ذلك أن الاول وكل الثاني، والثاني أنشأ العقد عن الطرفين بعبارته.
اشتراط التنجيز في العقد:
كما اشترطوا أن تكون منجزة: أي أن الصيغة التي يعقد بها الزواج يجب أن تكون مطلقة غير مقيدة بأي قيد من القيود، مثل أن يقول الرجل للخاطب: زوجك ابنتي، فيقول الخاطب: قبلت.
فهذا العقد منجز.
ومتى استوفى شروطه وصح ترتبت عليه آثاره.
ثم ان صيغة العقد قد تكون معلقة على شرط، أو مضافة إلى زمن مستقبل أو مقرونة بوقت معين، أو مقترنة بشرط، فهي في هذه الاحوال لا ينعقد بها العقد.
واليك بيان كل على حدة.
(10) الصيغة المعلقة على شرط: وهي أن يجعل تحقق مضمونها معلقا على تحقق شئ آخر بأداة من أدوات التعليق: مثل أن يقول الخاطب: ان التحقت بالوظيفة تزوجت ابنتك، فيقول الاب: قبلت، فإن الزواج بهذه الصيغة لا ينعقد، لان انشاء العقد معلق على شئ قد يكون، وقد لا يكون في المستقبل.
وعقد الزواج يفيد ملك المتعة في الحال، ولا يتراخى حكمه عنه، بينما

(2/40)


الشرط - وهو الالتحاق بالوظيفة - معدوم حال التكلم، والمعلق على المعدوم معدوم.
فلم يوجد زواج.
أما إذا كان التعليق على أمر محقق في الحال فان الزواج ينعقد، مثل أن يقول: إن كانت ابنتك سنها عشرون سنة تزوجتها.
فيقول الاب: قبلت.
وسنها فعلا عشرون سنة.
وكذلك إن قالت: إن رضي أبي تزوجتك، فقال الخاطب، قبلت، وقال أبوها في المجلس: رضيت.
إذ أن التعليق في هذه الحال صوري، والصيغة في الواقع منجزة.
(2) الصيغة المضافة إلى زمن مستقبل: مثل أن يقول الخاطب: تزوجت ابنتك غدا أو بعد شهر: فيقول الاب: قبلت، فهذه الصيغة لا ينعقد بها الزواج، لا في الحال، ولا عند حلول الزمن المضاف إليه، لان الاضافة إلى المستقبل تنافي عقد الزواج الذي يوجب تمليك الاستمتاع في الحال.
(3) الصيغة المقترنة بتوقيت العقد بوقت معين: كأن يتزوج مدة شهر، أو أكثر، أو أقل فان الزواج لا يحل، لان المقصود من الزواج دوام المعاشرة للتوالد، والمحافظة على النسل، وتربية الاولاد.
ولهذا حكم الفقهاء على زواج المتعة والتحليل بالبطلان، لانه يقصد بالاول مجرد الاستمتاع الوقتي، ويقصد بالثاني تحليل الزوجة الاول.
وإليك تفصيل القول في كل منهما:
زواج المتعة: ويسمى الزواج المؤقت، والزواج المنقطع، وهو أن يعقد الرجل على المرأة يوما أو اسبوعا أو شهرا وسمي بالمتعة.
كأن لرجل ينتفع ويتبلغ بالزواج ويتمتع إلى الاجل الذي

(2/41)


وقته.
وهو زواج متفق على تحريمه بين أئمة المذاهب.
وقالوا: انه إذا انعقد يقع باطلا (1) واستدلوا على هذا: (أولا) : إن هذا الزواج لا تتعلق به الاحكام الواردة في القرآن بصدد الزواج، والطلاق، والعدة، والميراث، فيكون باطلا كغيره من الانكحة الباطلة.
(ثانيا) : أن الاحاديث جاءت مصرحة بتحريمه.
فعن سبرة الجهني: أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في متعة النساء.
قال: فلم يخرج منها حتى حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي لفظ رواه ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم المتعة فقال: (يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وان الله قد حرمها إلى يوم القيامة) .
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الاهلية) (2) .
(ثالثا) : أن عمر رضي الله عنه حرمها وهو على المنبر أيام خلافته، وأقره الصحابة رضي الله عنهم وما كانوا ليقروه على خطأ لو كان مخطئا.
(رابعا) : قال الخطابي: تحريم المتعة كالاجماع إلا عن بعض الشيعة،
__________
(1) ويرى زفر إذا نص على توقيته بمدة. فالنكاح صحيح ويسقط شرط التوقيت. هذا إذا حصل العقد بلفظ التزويج فان حصل بلفظ المتعة فهو موافق للجماعة على البطلان.
(2) الصحيح ان المتعة انما حرمت عام الفتح لانه قد ثبت في صحيح مسلم انهم استمتعوا عام الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم باذنه ولو كان التحريم زمن، خيبر للزم النسخ مرتين. وهذا لا عهد بمثله في الشريعة البتة ولا يقع مثله فيها.
ولهذا اختلف أهل العلم في هذا الحديث فقال قوم فيه تقديم وتأخير وتقديره: ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الاهلية يوم خيبر وعن متعة النساء ولم يذكر الوقت الذي نهى عنها فيه، وقد بينه حديث مسلم، وانه كان عام الفتح. اما الامام الشافعي فقد حمل الامر على ظاهره فقال: لا أعلم شيئا أحله الله ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة.

(2/42)


ولا يصح على قاعدتهم في الرجوع في المخالفات إلى علي، فقد صح عن علي أنها نسخت.
ونقل البيهقي عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة، فقال: هي الزنا بعينه.
(خامسا) : ولانه يقصد به قضاء الشهوة، ولا يقصد به التناسل، ولا المحافظة على الاولاد، وهي المقاصد الاصلية للزواج، فهو يشبه الزنا من حيث قصد الاستمتاع دون غيره.
ثم هو يضر بالمرأة، إذ تصبح كالسلعة التي تنتقل من يد إلى يد، كما يضر بالاولاد، حيث لا يجدون البيت الذي يستقرون فيه، ويتعهدهم بالتربية والتأديب.
وقد روي عن بعض الصحابة وبعض التابعين أن زواج المتعة حلال، واشتهر ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه، وفي تهذيب السنن: وأما ابن عباس فانه سلك هذا المسلك في إباحتها عند الحاجة والضرورة، ولم يبحها مطلقا، فلما بلغه إكثار الناس منها رجع.
وكان يحمل التحريم على من لم يحتج إليها.
قال الخطابي: ان سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: هل تدري ما صنعت، وبم أفتيت؟ قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيه الشعراء.
قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال محبسه - يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟ هل لك في رخصة الاطراف آنسة - تكون مثواك حتى رجعة الناس؟ فقال ابن عباس: (إنا لله وإنا إليه راجعون) ! والله ما بهذا أفتيت، ولا هذا أردت، ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم ولحم الخنزير، وما تحل إلا للمضطر، وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير.

(2/43)


وذهبت الشيعة الامامية إلى جوازه، وأركانه عندهم:
1 - الصيغة: أي أنه ينعقد بلفظ (زوجتك) و (أنكحتك) و (متعتك)
2 - الزوجة: ويشترط كونها مسلمة أو كتابية، ويستحب اختيار المؤمنة العفيفة، ويكره بالزانية.
3 - المهر: وذكره شرط ويكفي فيه المشاهدة ويتقدر بالتراضي ولو بكف من بر.
4 - الاجل: وهو شرط في العقد.
ويتقرر بتراضيهما، كاليوم والسنة والشهر، ولا بد من تعيينه.
ومن أحكام هذا الزواج عندهم:
1 - الاخلال بذكر المهر مع ذكر الاجل يبطل العقد، وذكر المهر من دون ذكر الاجل يقلبه دائما ز 2 - ويلحق به الولد.
3 - لا يقع بالمتعة طلاق، ولا لعان.
4 - لا يثبت به ميراث بين الزوجين.
5 - أما الولد فإنه يرثهما ويرثانه.
6 - تنقضي عدتها إذا انقضى أجلها بحيضتين، إن كانت ممن تحيض، فإن كانت ممن تحيض ولم تحض فعدتها خمسة وأربعون يوما.
تحقيق الشوكاني: قال الشوكاني: وعلى كل حلا فنحن متعبدون بما بلغنا عن الشارع، وقد صح لنا عنه التحريم المؤبد.
ومخالفة طائفة من الصحابة له غير قادحة في حجيته، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، كيف والجمهور من الصحابة قد حفظوا التحريم وعملوا به، ورووه لنا؟ حتى قال ابن عمر - فيما أخرجه عنه ابن ماجه باسناد صحيح -: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أذن لنا في المتعة ثلاثا تم حرمها، والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة) .

(2/44)


وقال أبو هريرة فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (هدم المتعة الطلاق والعدة والميراث) .
أخرجه الدارقطني، وحسنه الحافظ.
ولا يمنع من كونه حسنا كون في إسناده مؤمل بن اسماعيل، لان الاختلاف فيه لا يخرج حديثه عن حد الحسن إذا انضم إليه من الشواهد ما يقويه كما هو شأن الحسن لغيره.
وأما ما يقال من أن تحليل المتعة مجمع عليه، والمجمع عليه قطعي، وتحريمها مختلف فيه، والمختلف فيه ظني، والظني لا ينسخ القطعي، فيجاب عنه: أولا: بمنع هذه الدعوى (أعني كون القطعي لا ينسخه الظني) فما الدليل
عليها؟ ومجرد كونها مذهب الجمهور غير مقنع لمن قام في مقام المنع يسائل خصمه عن دليل العقل والسمع باجماع المسلمين.
وثانيا: بأن لانسخ بذلك الظني إنما هو لاستمرار الحل، والاستمرار ظني لا قطعي.
وأما قراءة ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وسعيد بن جبير (فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى) ، فليست بقرآن عند مشترطي التواتر، ولا سنة لاجل روايتها قرآنا، فيكون من قبيل التفسير للاية، وليس ذلك بحجة.
وأما من لم يشترط التواتر فلا مانع من نسخ ظني القرآن بظني السنة كما تقرر في الاصول. انتهى.
العقد على المرأة وفي نية الزوج طلاقها:
اتفق الفقهاء على أن من تزوج امرأة دون أن يشترط التوقيت وفي نيته أن يطلقها بعد زمن، أو بعد انقضاء حاجته في البلد الذي هو مقيم به، فالزواج صحيح.
وخالف الاوزاعي فاعتبره زواج متعة.
قال الشيخ (رشيد رضا) تعلقا على هذا في تفسير المنار: هذا وان تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي مع النكاح بنية الطلاق، وإن كان

(2/45)


الفقهاء يقولون: إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزواج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد.
ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا.
وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزواج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات.
وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشا وخداعا تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته، وهو احصان كل من الزوجين للاخر، واخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الامة.
زواج التحليل:
وهو أن يتزوج المطلقة ثلاثا بعد انقضاء عدتها، أو يدخل بها ثم يطلقها ليحلها للزوج الاول.
وهذا النوع من الزواج كبيرة من كبائر الاثم والفواحش، حرمه الله، ولعن فاعله.
1 - فعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله المحلل والمحلل له) .
رواه أحمد بسند حسن.
2 - وعن عبد الله بن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له) ..رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه.
والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن عمر وغيرهم.
وهو قول الفقهاء من التابعين.
3 - وعن عقبة بن عامر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم بالتيس المستعار) ؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: (هو المحلل،

(2/46)


لعن الله المحلل والمحلل له) .
رواه ابن ماجه، والحاكم، وأعله أبو زرعة وأبو حاتم بالارسال.
واستنكره البخاري، وفيه يحيى بن عثمان، وهو ضعيف.
4 - وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المحلل، فقال: (لا.
إلا نكاح رغبة، لا دلسة، ولا استهزاء بكتاب الله عزوجل، حتى تذوق عسيلته) .
رواه أبو اسحاق الجوزجاني.
5 - وعن عمر رضي الله عنه قال، (لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا جمتهما) .
فسئل ابنه عن ذلك فقال: كلاهما زان.
رواه ابن المنذر، وابن رأبي شيبة، وعبد الرزاق.
6 - وسأل رجل ابن عمر فقال: ما تقول في امرأة تزوجتها لاحلها لزوجها، ولم يأمرني ولم يعلم؟ فقال له ابن عمر: (لا، إلا نكاح رغبة، ان أعجبتك أمسكتها، وان كرهتها فارقتها، وإن كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
وقال: لا يزالان زانيين وان مكثا عشرين سنة إذا علم أنه يريد أن يحلها.
حكمه:
هذه النصوص صريحة في بطلان هذا الزواج وعدم صحته (1) ، لان اللعن لا يكون إلا على أمر غير جائز في الشريعة، وهو لا يحل المرأة للزوج الاول.
ولو لم يشترط التحليل عند العقد مادام قصد التحليل قائما، فان العبرة بالمقاصد والنوايا.
قال ابن القيم: ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين
اشترط ذلك بالقول، أو بالتواطؤ والقصد.
فإن المقصود في العقود عندهم معتبرة، والاعمال بالنيات.
والشرط المتوطأ عليه الذي دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم.
والالفاظ لا تراد لعينها، بل للدلالة على المعاني: فإذا ظهرت المعاني
__________
(1) ثبت فيه جميع أحكام العقود الفاسدة ولا يثبت به الاحصان والا الاباحة للزوج الاول.

(2/47)


والمقاصد، فلا عبرة بالالفاظ لانها وسائل، وقد تحققت غاياتها فترتب عليها أحكامها.
وكيف يقال: إن هذا زواج تحل به الزوجة لزوجها الاول، مع قصد التوقيت، وليس له غرض في دوام العشرة ولا ما يقصد بالزواج من التناسل وتربية الاولاد وغير ذلك من المقاصد الحقيقية لتشريع الزواج.
إن هذا الزواج الصوري كذب وخداع لم يشرعه الله في دين، ولم يبحه لاحد، وفيه من المفاسد والمضار ما لا يخفى على أحد.
قال ابن تيمية: دين الله أزكى وأطهر من أن يحرم فرجا من الفروج حتى يستعار له تيس من التيوس، لا يرغب في نكاحه ولا مصاهرته، ولا يراد بقاؤه مع المرأة أصلا، فينزو عليها، وتحل بذلك فان هذا سفاح وزنا، كما سماه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكيف يكون الحرام محللا؟ أم كيف يكون الخبيث مطيبا؟ أم كيف يكون النجس مطهرا؟! وغير خاف على من شرح الله صدره للاسلام، ونور قلبه بالايمان، أن هذا من أقبح القبائح التي لا تأتي بها سياسة عاقل، فضلا عن شرائع الانبياء لا سيما أفضل الشرائع وأشرف المناهج. انتهى.
هذا هو الحق، وإليه ذهب مالك وأحمد، والثوري، وأهل الظاهر، وغيرهم من الفقهاء، منهم الحسن، والنخعي، وقتادة، والليث وابن المبارك.
وذهب آخرون إلى أنه جائز إذا لم يشترط في العقد. لان القضاء بالظواهر لا بالمقاصد والضمائر، والنيات في العقود غير معتبرة.
قال الشافعي: المحلل الذي يفسد نكاحه هو من يتزوجها ليخلها ثم يطلقها، فأما من لم يشترط ذلك في عقد النكاح فعقده صحيح.
وقال ابن حنيفية وزفر: ان اشترط ذلك عند انشاء العقد، بأن صرح أنه يحلها للاول تحل للاول ويكره، لان عقد الزواج لا يبطل بالشروط الفاسدة فتحل للزواج الاول بعد طلاقها من الزوج الثاني أو موته عنها وانقضاء عدتها.
وعند أبي يوسف هو عقد فاسد، لانه زواج مؤقت، ويرى محمد بصحة العقد الثاني، ولكنه لا يحلها للزوج الاول.

(2/48)


الزواج الذي تحل به المطلقة للزوج الأول:
إذا طلق الرجل زوجته ثلاث تطليقات فلا تحل له مراجعتها حتى تتزوج بعد انقضاء عدتها زوجا آخر زواجا صحيحا لا بقصد التحليل.
فإذا تزوجها الثاني زواج رغبة، ودخل بها دخولا حقيقيا حتى ذاق كل منهما عسيلة الاخر، ثم فارقها بطلان أو موت، حل للاول أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها.
روى الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم عن عائشة: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني: فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن زبير، وما معه إلا مثل هدبة الثوب، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (أتريدين أن ترجعي إلى (1) رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) .
وذوق العسيلة كناية عن الجماع.
ويكفي في ذلك التقاء الخنانين الذي يوجب الحد والغسل.
ونزل في ذلك قول الله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظلنا أن يقيما حدود الله) .
وعلى هذا فان المرأة لا تحل للاول إلا بهذه الشروط:
1 - أن يكون زواجها بالزوج الثاني صحيحا (2) .
2 - أن يكون زواج رغبة.
3 - أن يدخل بها دخولا حقيقيا بعد العقد، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته.
__________
(1) استدل العلماء بهذا على أن نية المرأة التحليل ليست بشئ. فلو قصدت التحليل أو قصد وليها ولم يقصد الزوج لم يؤثر ذلك في العقد. وكذلك الزوج الاول فانه لا يملك شيئا من العقد ولا من رفعه، فهو أجنبي، وإنما لمن إذا رجع الى المرأة بذلك التحليل، لانها لم تحل له، فكان زانيا.
(2) الزواج الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا.

(2/49)


حكمة ذلك:
قال المفسرون والعلماء في حكمة ذلك: انه إذا علم الرجل ان المرأة لا تحل له بعد أن يطلقها ثلاث مرات إلا إذا نكحت زوجا غيره فانه يرتدع، لانه مما تأباه غيرة الرجال وشهامتهم، ولا سيما إذا كان الزوج الاخر عدوا أو مناظرا للاول.
وزاد على ذلك صاحب المنار فقال في تفسيره (1) :
إن الذي يطلق زوجته، ثم يشعر بالحاجة إليها فيرتجعها نادما على طلاقها، ثم يمقت عشرتها بعد ذلك فيطلقها، ثم يبدو له ويترجح عنده عدم الاستغناء عنها، فيرتجعها ثانية، فانه يتم له بذلك اختبارها.
لان الطلاق الاول ربما جاء عن غير روية تامة ومعرفة صحيحة منه بمقدار حاجته إلى امرأته.
ولكن الطلاق الثاني لا يكون كذلك، لانه لا يكون إلا بعد الندم على ما كان أولا، والشعور بأن كان خطأ، ولذلك قلنا ان الاختبار يتم به.
فإذا هو راجعها بعده كان ذلك ترجيحا لامساكها على تسريحها.
ويبعد أن يعود إلى ترجيح التسريح بعد أن رآه بالاختبار التام مرجوحا.
فإذا هو عاد وطلق ثالثة، كان ناقص العقل والتأديب، فلا يستحق أن تجعل المرأة كرة بيده يقذفها متى شاء تقلبه ويرتجعها متى شاء هواه، بل يكون من الحكمة أن تبين منه، ويخرج أمرها من يده، لانه علم أن لا ثقة بالتثامهما واقامتهما حدود الله تعالى.
فان اتفق بعد ذلك أن تزوجت برجل آخر عن رغبة، واتفق أن طلقها الاخر أو مات عنها، ثم رغب فيها الاول وأحب أن يتزوج بها - وقد علم أنها صارت فراشا لغيره - ورضيت هي بالعودة إليه فان الرجاء في التئامهما، واقامتهما حدود الله تعالى، يكون حينئذ قويا جدا، ولذلك أحلت له بعد العدة.
صيغة العقد المقترنة بالشرط:
إذا قرن عقد الزواج بالشرط، فإما أن يكون هذا الشرط من مقتضيات
__________
(1) جزء 2 ص 392.

(2/50)


العقد أو يكون منافيا له، أو يكون ما يعود نفعه على المرأة، أو يكون شرطا نهى الشارع عنه.
ولكل حالة من هذه الحالات حكم خاص بها نجمله فيما يلي:
(1) الشروط التي يجب الوفاء بها: من الشروط ما يجب الوفاء به، وهي ما كانت من مقتضيات العقد ومقاصده (1) ولم تتضمن تغييرا لحكم الله ورسوله، كاشتراط العشرة بالمعروف والانفاق عليها وكسوتها وسكناها بالمعروف، وأنه لا يقصر في شئ من حقوقها ويقسم لها كغيرها، وأنها لا تخرج من بيته إلا باذنه، ولا تنشز عليه ولا تصوم تطوعا بغير إذنه، ولا تأذن في بيته إذا بإذنه، ولا تتصرف في متاعه إلا برضاه ونحو ذلك.
(2) الشروط التي لا يجب الوفاء بها: ومنها ما لا يجب الوفاء به مع صحة العقد، وهو ما كان منافيا لمقتضى العقد (2) كاشتراط ترك الانفاق والوطء أو كاشتراط أن لا مهر لها، أو يعزل عنها، أو اشتراط أن تنفق عليه، أو تعطيه شيئا، أو لا يكون عندها في الاسبوع إلا ليلة، أو شرط لها النهار دون الليل.
فهذه الشروط كلها باطلة في نفسها، لانها تنافي العقد.
ولانها تتضمن إسقاط حقوق تجب بالعقد قبل انعقاده، فلم يصح، كما لو أسقط الشفيع شفعته قبل البيع.
أما العقد في نفسه فهو صحيح، لان هذه الشروط تعود إلى معنى زائد في العقد لا يشترط ذكره ولا يضر الجهل به، فلم يبطل، كما لو شرط في العقد صداقا محرما، ولان الزواج يصح مع الجهل بالعوض، فجاز أن ينعقد مع الشرط الفاسد.
(3) الشروط التي فيها نفع للمرأة: ومن الشروط ما يعود نفعه وفائدته الى المرأة، مثل أن يشترط لها ألا
__________
(1) النووي: شرح مسلم.
(2) زاد المعاد ج 4، 5 وانظر المغني.

(2/51)


يخرجها من دارها أو بلدها، أو لا يسافر بها أو لا يتزوج عليها ونحو ذلك.
فمن العلماء من رأي أن الزواج صحيح وأن هذه الشروط ملغاة ولا يلزم الزوج الوفاء بها.
ومنهم من ذهب الى وجوب الوفاء بما اشترط للمرأة، فان لم يف لها فسخ الزواج.
والاول مذهب أبي حنيفة والشافعي وكثير من أهل العلم، واستدلوا بما يأتي:
1 - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) .
قالوا وهذا الشرط الذي اشترط يحرم الحلال، وهو التزوج والتسري والسفر. وهذه كلها حلال.
2 - وقوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط) . قالوا: وهذا ليس في كتاب الله لان الشرع لا يقتضيه.
3 - قالوا: إن هذه الشروط ليست من مصلحة العقد ولا مقتضاه، والرأي الثاني مذهب عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز وجابر بن زيد وطاووس والاوزاعي واسحاق والحنابلة، واستدلوا بما يأتي:
1 - يقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) .
2 - وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (المسلمون على شروطهم) .
3 - روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) (1)
4 - روى الاثرم بإسناده: أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموه إلى عمر بن الخطاب فقال لها شرطها (مقاطع الحقوق عند الشروط) .
__________
(1) أي أحق الشروط بالوفاء شروط الزواج، لان أمره أحوط وبابه أضيق.

(2/52)


5 - ولانه شرط لها فيه منفعة ومقصود، لا يمنع المقصود من الزواج فكان لازما كما لو شرطت عليه زيادة المهر.
قال ابن قدامة مرجحا هذا الرأي ومفندا الرأي الاول: ان قول من سمينا من الصحابة، لا نعلم له مخالفا في عصرهم، فكان اجماعا.
وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (كل شرط ... الخ) .
أي ليس في حكم الله وشرعه، وهذا مشروع، وقد ذكرنا ما دل على مشروعيته، على أن الخلاف في مشروعيته، ومن نفى ذلك فعليه الدليل.
وقولهم: إن هذا يحرم الحلال، قلنا: لا يحرم حلالا، وانما يثبت للمرأة خيار الفسخ ان لم يف لها به.
وقولهم: ليس من مصلحته، قلنا: لا نسلم بذلك.
فانه من مصلحة المرأة، وما كان من مصلحد العاقد كان من مصلحة عقده.
وقال ابن رشد (1) : وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فأما العموم فحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال في خطبته: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط) .
وأما الخصوص، فحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) .
والحديثان صحيحان، خرجهما البخاري ومسلم.
إلا أن المشهور عند الاصوليين القضاء بالخصوص على العموم، وهو (لزوم الشروط) .
وقال ابن تيمية (2) : ومقاصد العقلاء إذا دخلت في العقود، وكانت من الصلاح الذي هو المقصود لم تذهب عفوا ولم تهدر رأسا، كالاجال في الاعواض، ونقود الاثمان المعينة ببعض البلدان، والصفات في المبيعات، والحرفة المشروطة في أحد الزوجين.
وقد تفيد الشروط ما لا يفيده الاطلاق، بل ما يخالف الاطلاق.
__________
(1) بداية المجتهد ج 2 ص 55.
(2) نظرية العقد ص 211.

(2/53)


(4) الشروط التي نهى الشارع عنها: ومن الشروط ما نهى الشارع عنها ويحرم الوفاء بها: وهي اشتراط المرأة عند الزواج طلاق ضرتها.
فعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام: (نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه أو يبيع على بيعه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفئ ما في صحفتها أو إنائها (1) فإنما رزقها على الله تعالى) متفق عليه.
وفي لفظ متفق عليه: نهى أن تشترط المرأة طلاق أختها..وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله عليه السلام قال: (لا يحل أن تنكح امرأة بطلاق أخرى) رواه أحمد.
فهذا النهي يقتضي فساد المنهي عنه، ولانها شرطت عليه فسخ عقده وإبطال حقه وحق امرأته، فلم يصح، كما لو شرطت عليه فسخ بيعه.
فان قيل: فما الفارق بين هذا وبين اشتراطها أن لا يتزوج عليها، حتى صححتم هذا، وأبطلتم شرط طلاق الضرة.
أجاب ابن القيم عن هذا فقال: قيل: الفرق بينهما أن في اشتراط طلاق الزوجة من الاضرار بها وكسر قلبها وخراب بيتها وشماتة أعدائها ما ليس في اشتراط عدم نكاحها ونكاح غرها، وقد فرق النص بينهما، فقياس أحدهما على الاخر فاسد.
ومعنى الحديث: نهي المرأة الاجنبية أن تسأل رجلا طلاق زوجته، وإن يتزوجها فيصير لها من نفقته ومعونته ومعاشرته ما كان للمطلقة.
(5) ومن صور الزواج المقترن بشرط غير صحيح زواج الشغار: وهو أن يزوج الرجل وليته رجلا، على أن يزوجه الاخر وليته، وليس بينهما صداق، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الزواج فقال: (لا شغار (2) في الاسلام) .
رواه مسلم عن ابن عمر، ورواه (2) الشغار أصله الخلو، يقال: بلدة شاغرة إذا خلت عن السلطان، والمراد به هنا الخلو عن المهر.
وقيل: إنما سمي شغارا لقبحه، تشبيها برفع الكلب رجله ليبول في القبح. يقال شغر الكلب إذا رفع رجله ليبول.
وكان هذا النوع من الزواج معروفا زمن الجاهلية.
__________
(1) تكفئ: تميل.

(2/54)


ابن ماجه من حديث أنس بن مالك.
قال في الزوائد: اسناده صحيح، ورجاله ثقات، وله شواهد صحيح.
2 - وعن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار) .
والشغار: أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك أو أختك، على أن أزوجك ابنتي أو أختي، وليس بينهما صداق (1)) رواه ابن ماجه.
رأي العلماء فيه: استدل جمهور العلماء بهذين الحديثين على أن عقد الشغار لا ينعقد أصلا وأنه باطل.
وذهب أبو حنيفة الى أنه يقع صحيحا، ويجب لكل واحدة من البنتين مهر مثلها على زوجها، إذ أن الرجلين سميا ما لا تصلح تسميته مهرا، إذ جعل المرأة مقابل المرأة ليس بمال.
فالفساد فيه من قبل المهر، وهو لا يوجب فساد العقد، كما لو تزوج على خمر أو خنزير.
فان العقد لا يفسخ، ويكون فيه مهر المثل.
علة النهي عن نكاح الشغار: واختلف العلماء في علة النهي: فقيل: هي التعليق والتوقيف، كأنه يقول (لا ينعقد زواج ابنتي حتى ينعقد زواج ابنتك) .
وقيل: ان العلة التشريك في البضع، وجعل بضع كل واحدة مهرا للاخرى.
وهي لا تنتفع به، فلم يرجع إليها المهر، بل عاد المهر إلى الولي، وهو ملكه لبضع زوجته بتمليكه لبضع موليته.
وهذا ظلم لكل واحدة من المرأتين وخلاء لنكاحها عن مهر تنتفع به.
قال ابن القيم: وهذا موافق للغة العرب.
__________
(1) قال النووي: اجمعوا على أن غير البنات من الاخوات وبنات الاخ وغيرهن كالبنات في ذلك.

(2/55)


شروط صحة الزواج:
شروط صحة الزواج هي الشروط التي يتوقف عليها صحته، بحيث إذا وجدت يعتبر عقد الزواج موجودا شرعا، وتثبت له جميع الاحكام والحقوق المترتبة عليه.
وهذه الشروط اثنان: (الشرط الاول) حل المرأة للتزوج بالرجل الذي يريد الاقتران بها.
فيشترط ألا تكون محرمة عليه بأي سبب من أسباب التحريم المؤقت أو المؤبد.
وسيأتي ذلك مفصلا في بحث (المحرمات من النساء) .
(الشرط الثاني) الاشهاد على الزواج، وهو ينحصر في المباحث الاتية:
1 - حكم الاشهاد.
2 - شروط الشهود.
3 - شهادة النساء.
حكم الاشهاد على الزواج:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الزواج لا ينعقد إلا ببينة، ولا ينعقد حتى يكون الشهود حضورا حالة العقد ولو حصل إعلان عنه بوسيلة أخرى.
وإذا شهد الشهود وأوصاهم المتعاقدان بكتمان العقد وعدم إذاعته كان العقد صحيحا (1) واستدلوا على صحته بما يأتي: (أولا) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة) رواه الترمذي.
واحتجوا لمذهبهم بأن البيوع التي ذكرها الله تعالى فيها الاشهاد عند العقد. وقد قامت الدلالة بأن ذلك ليس من فرائض البيوع.
والنكاح الذي لم يذكر الله تعالى فيه الاشهاد أخرى بأن لا يكون الاشهاد فيه من شروطه وفرائضه وانما الغرض الاعلان والظهور لحفظ الانساب.
والاشهاد يصلح بعد العقد للتداعي والاختلاف فيما ينعقد بين المتناكحين، فان عقد العقد ولم يحضره شهود ثم أشهد عليه قبل الدخول لم يفسخ العقد، وان دخلا ولم يشهدا فرق بينهما.
__________
(1) مذهب مالك وأصحابه ان الشهادة على النكاح ليست بفرض، ويكفي من ذلك شهرته والاعلان به.

(2/56)


(ثانيا) وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) رواه الدارقطني.
وهذا النفي يتوجه الى الصحة، وذلك يستلزم أن يكون الاشهاد شرطا، لانه قد استلزم عدمه عدم الصحة، وما كان كذلك فهو شرط.
(ثالثا) وعن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة.
فقال: (هذا نكاح السر، ولا أجيزه، ولو كنت تقدمت فيه لرجمت) . رواه مالك في الموطأ.
والاحاديث وإن كانت ضعيفة الا أنه يقوي بعضها بعضا.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين وغيرهم، قالوا: (لا نكاح إلا بشهود) لم يختلف في ذلك من مضى منهم إلا قوم من المتأخرين من أهل العلم.
(رابعا) ولانه يتعلق به حق غير المتعاقدين، وهو الولد، فاشترطت الشهادة فيه، لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه.
ويرى بعض أهل العلم أنه يصح بغير شهود: منهم الشيعة، وعبد الرحمن ابن مهدي، ويزيد بن هارون، وابن المنذر، وداود، وفعله ابن عمر، وابن الزبير.
وروي عن الحسن بن علي أنه تزوج بغير شهادة، ثم أعلن النكاح.
قال ابن المنذر: لا يثبت في الشاهدين في النكاح خبر.
وقال يزيد بن هارون: أمر الله تعالى بالاشهاد في البيع دون النكاح، فاشترط أصحاب الرأي الشهادة للنكاح، ولم يشترطوها للبيع.
وإذا تم العقد فأسروه وتواصوا بكتمانه صح مع الكراهة، لمخالفته الامر بالاعلان، وإليه ذهب الشافعي، وأبو حنيفة، وابن المنذر.
وممن كره ذلك عمر، وعروة، والشعبي، ونافع. وعند مالك أن العقد يفسخ.
روى ابن وهب عن مالك في الرجل يتزوج المرأة بشهادة رجلين ويستكتمهما؟ قال يفرق بينهما بتطليقة، ولا يجوز النكاح، ولها صداقها إن أصابها، ولا يعاقب الشاهدان.

(2/57)


ما يشترط في الشهود:
يشترط في الشهود: العقل، والبلوغ، وسماع كلام المتعاقدين مع فهم أن المقصود به عقد الزواج (1) .
فلو شهد على العقد صبي، أو مجنون، أو أصم، أو سكران، فان الزواج لا يصح، إذ أن وجوه هؤلاء كعدمه.
اشتراط العدالة في الشهود: وأما اشتراط العدالة في الشهود، فذهب الاحناف الى أن العدالة لا تشترط، وأن الزواج ينعقد بشهادة الفاسقين، وكل من يصلح أن يكون وليا في زواج يصلح أن يكون شاهدا فيه، ثم ان المقصود من الشهادة الاعلان.
والشافعية قالوا، لابد من أن يكون الشهود عدولا للحديث المتقدم: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) .
وعندهم أنه إذا عقد الزواج بشهادة مجهولي الحال ففيه وجهان.
والمذهب أنه يصح.
لان الزواج يكون في القرى والبادية وبين عامة الناس، ممن لا يعرف حقيقة العدالة، فاعتبار ذلك يشق فاكتفي بظاهر الحال، وكون الشاهد مستورا لم يظهر فسقه.
فإذا تبين بعد العقد أنه كان فاسقا لم يؤثر ذلك في العقد، لان الشرط في العدالة من حيث الظاهر ألا يكون ظاهر الفسق، وقد تحقق ذلك.
شهادة النساء:
والشافعية والحنابلة يشترطون في الشهود الذكورة، فان عقد الزواج بشهادة رجل وامرأتين لا يصح، لما رواه أبو عبيد عن الزهري أنه قال: (مضت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن لا يجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق) .
ولان عقد الزواج عقد ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويحضره الرجل غالبا، فلا يثبت بشهادتهن كالحدود.
__________
(1) وإذا كان الشهود عميانا يشترط فيهم تيقن الصوت ومعرفة صوت المتعاقدين على وجه لا يشك فيهما.

(2/58)


والاحناف لا يشترطون هذا الشرط، ويرون أن شهادة رجلين أو رجل وامرأتين كافية، لقول الله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) .
ولانه مثل البيع في أنه عقد معارضة فينعقد بشهادتهن مع الرجال.
اشتراط الحرية: ويشترط أبو حنيفة والشافعي أن يكون الشهود أحرارا.
وأحمد لا يشترط الحرية، ويرى أن شهادة العبدين ينعقد بها الزواج، تقبل في سائر الحقوق، وأنه ليس فيه نص من كتاب ولا سنة يرد شهادة العبد، ويمن عمن قبولها ما دام أمينا صادقا تقيا.
اشتراط الاسلام: والفقهاء لم يختلفوا في اشتراط الاسلام في الشهود إذا كان العقد بين مسلم ومسلمة.
واختلفوا في شهادة غير المسلم فيما إذا كان الزوج وحده مسلما.
فعند أحمد والشافعي ومحمد بن الحسن أن الزواج لا ينعقد، لانه زواج مسلم، لا تقبل فيه شهادة غير المسلم.
وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف شهادة كتابيين إذا تزوج مسلم كتابية.
وأخذ بهذا مشروع قانون الاحوال الشخصية.
عقد الزواج شكلي:
عقد الزواج يتم بتحقيق أركانه، وشرائط انعقاده، الا أنه لا تترتب عليه آثاره الشرعية إلا بشهادة الشهود، وحضور الشهود شئ خارج عن رضا الطرفين، فهو من هذه الوجهة عقد شكلي، وهو يخالف العقد الرضائي الذي يكفي في انعقاده اقتران القبول بالايجاب، ويكون الرضا من المتعاقدين وحده منشئا للعقد ومكونا له كعقد الاجارة ونحوه، فهو في هذه الحالة تترتب عليه أحكامه، ويظله القانون بحماية دون الاحتياج لشئ.

(2/59)


شروط نفاذ العقد:
إذا تم العقد ووقع صحيحا، فانه يشترط لنفاذه وعدم توقفه على إجازة أحد: 1 - أن يكون كل من العاقدين اللذين توليا انشاء العقد تام الاهلية، أي عاقلا بالغا حرا.
فان كان أحد العاقدين ناقص الاهلية بأن كان معتوها أو صغيرا مميزا،
أو عبدا، فان عقده الذي يعقد بنفسه ينعقد صحيحا موقوفا على اجازة الولي، أو السيد، كان أجازه نفذ، وإلا بطل.
2 - وأن يكون كل من العاقدين ذا صفة، تجعل له الحق في مباشرة العقد.
فلو كان العاقد فضوليا، باشر العقد لا بوكالة ولا بولاية، أو كان وكيلا ولكن خالف فيما وكل فيه، أو كان وليا ولكن يوجد ولي أقرب منه مقدم عليه، فان عقد أي واحد من هؤلاء إذا استوفى شروط الانعقاد والصحة ينعقد صحيحا موقوفا على اجازة صاحب الشأن.
شروط لزوم عقد الزواج:
يلزم عقد الزواج إذا استوفى أركانه وشروط صحته وشروط نفاذه.
وإذا لزم فليس لاحد الزوجين ولا لغيرهما حق نقض العقد ولا فسخه، ولا ينتهي الا بالطلاق أو الوفاة، وهذا هو الاصل في عقد الزواج.
لان المقاصد التي شرع من أجلها - من دوام العشرة الزوجية وتربية الاولاد والقيام على شؤونهم - لا يمكن أن تتحقق إلا مع لزومه.
ولهذا قال العلماء: شروط لزوم الزواج يجمعها شرط واحد.
وهو ألا يكون لاحد الزوجين حق فسخ العقد بعد انعقاده وصحته ونفاذه، فلو كان لاحد حق فسخه كان عقدا غير لازم.
متى يكون العقد غير لازم:
لا يكون العقد لازما فيما يأتي من الصور: إذا تبين أن الرجل غرر بالمرأة أو أن المرأة غررت بالرجل.
مثال ذلك أن يتزوج الرجل المرأة وهو عقيم، لا يولد له ولم تكن تعلم

(2/60)


بعقمه، فلها في هذه الحال حق نقض العقد وفسخه متى علمت، الا إذا اختارته زوجا لها، ورضيت معاشرته.
قال عمر رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له، أخبرها انك عقيم وخيرها (1) .
ومن صور التغرير أن يتزوجها على انه مستقيم، ثم يتبين أنه فاسق، فلها كذلك حق فسخ العقد.
ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية: إذا تزوج امرأة على أنها بكر فبانت ثيبا فله الفسخ، وله أن يطالب بأرش الصداق - وهو تفاوت ما بين مهر البكر والثيب - وإذا فسخ قبل الدخول سقط المهر.
وكذلك لا يكون العقد لازما إذا وجد الرجل بالمرأة عيبا ينفر من كمال الاستمتاع.
كأن تكون مستحاضة دائما، فان الاستحاضة عيب يثبت به فسخ النكاح (2) وكذلك إذا وجد بها ما يمنع الوطء كانسداد الفرج.
ومن العيوب التي تجيز للرجل فسخ العقد: الامراض المنفرة: مثل البرص والجنون والجذام، وكما يثبت حق الفسخ للرجل فكذلك يثبت للمرأة إذا كان الرجل أبرص، أو كان مجنونا أو مجذوما أو مجبوبا أو عنينا (3) أو صغيرا.
رأي الفقهاء في الفسخ بالعيب:
وقد اختلف الفقهاء في ذلك:
1 - فمنهم من رأى أن الزواج لا يفسخ بالعيوب مهما كانت هذه العيوب، ومن هؤلاء الفقهاء داود وابن حزم (4) .
قال صاحب الروضة الندية: اعلم أن الذي ثبت بالضرورة الدينية أن عقد النكاح لازم تثبت به أحكام الزوجية من جواز الوطء، ووجوب النفقة ونحوها، وثبوت الميراث، وسائر الاحكام.
__________
(1) أي خيرها بين البقاء على العقد وبين فسخه.
(2) الاختيارات العلمية ومختصر الفتاوى لابن تيمية. الاستحاضة: لنزيف.
(3) المجبوب المقطوع الذكر. العنين الذي لا يصل الى النساء من الارتخاء.
(4) سيأتي عن ابن حزم أن للزوج الفسخ إذا اشترط شرطا فلم يجده عند الزواج.

(2/61)


وثبت بالضرورة الدينية أن يكون الخروج منه بالطلاق أو الموت.
فمن زعم أنه يجوز الخروج من النكاح بسبب من الاسباب، فعليه الدليل الصحيح المقتضي للانتقال عن ثبوته بالضرورة الدينية.
وما ذكروه من العيوب لم يأت في الفسخ بها حجة نيرة ولم يثبت شئ منها.
وأماق وله صلى الله عليه وسلم: (الحقي بأهلك) فالصيغة صيغة طلاق.
وعلى فرض الاحتمال فالواجب الحمل على المتيقن دون ما سواه.
وكذلك الفسخ بالعنة لم يرد به دليل صحيح، والاصل البقاء على النكاح حتى يأتي ما يوجب الانتقال عنه.
ومن أعجب ما يتعجب منه تخصيص بعض العيوب بذلك دون بعض.
2 - ومنهم من رأى أن الزواج يفسخ ببعض العيوب دون بعض، وهم جمهور أهل العلم، واستدلوا لمذهبهم هذا بما يأتي: (أولا) ما رواه كعب بن زيد، أو زيد بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها، ووضع ثوبه، وقعد على الفراش أبصر بكشحها (1) بياضا فانحاز (2) عن الفراش، ثم قال: (خذي عليك ثيابك، ولم يأخذ مما آتاها شيئا) .
رواه أحمد وسعيد بن منصور.
(ثانيا) عن عمر أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل، بها جنون أو جذام، أو برص، فلها مهرها بما أصاب منها.
وصداق الرجل على من غر ... ) رواه مالك والدارقطني.
وهؤلاء اختلفوا في العيوب التي يفسخ بها النكاح.
فخصها أبو حنيفة بالجب والعنة.
وزاد مالك والشافعي الجنون والبرص والجذام.
والقرن (انسداد في الفرج) .
وزاد أحمد على ما ذكره الائمة الثلاثة أن تكون المرأة فتقاء (منخرقة ما بين السبيلين) .
التحقيق في هذه القضية: والحق أن كلا من الاراء المتقدمة غير جدير بالاعتبار، وأن الحياة
__________
(1) الكشح: ما بين الخاصرتين الى الضلع.
(2) انحاز: تنحى.

(2/62)


الزوجية التي بنيت على السكن والمودة والرحمن لا يمكن أن تتحقق وتستقر مادام هناك شئ من العيوب والامراض ينفر أحد الزوجين من الاخر.
فان العيوب والامراض المنفرة لا يتحقق معها المقصود من النكاح.
ولهذا أذن الشارع بتخيير الزوجين في قبول الزواج أو رفضه.
وللامام ابن القيم تحقيق جدير بالنظر والاعتبار: قال: فالعمى، والحرس والطرش، وكونها مقطوعة اليدين أو الرجلين أو احداهما، أو كون الرجل كذلك، من أعظم المنفرات، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش، وهو مناف للدين.
وقد قال أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لمن تزوج امرأة وهو لا يولد له: (أخبرها أنك عقيم وخيرها) .
فماذا يقول رضي الله عنه في العيوب التي هي عندها كمال بلا نقص.
قال: والقياس أن كل عيب ينفر الزوج الاخر منه، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة، يوجب الخيار، وهو أولى من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع.
وما ألزم الله ورسوله مغرورا قط، ولا مغبونا بما غر وغبن به.
ومن تدبر مقاصد الشرع في مصادره، وموارده، وعدله وحكمته، وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول وقربه من قواعد قواعد الشريعة.
وقد روى يحيى بن سعيد الانصاري عن ابن المسيب رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: أيما امرأة تزوجت وبها جنون أن جذام أو برص، فدخل بها ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي الصداق بما دلس، كما غره.
وروى الشعبي عن علي كرم الله وجهه، أيما امرأة نكحت، وبها برص، أو جنون، أو جذام، أو قرن فزوجها بالخيار ما لم يمسها، ان شاء أمسك، وان شاء طلق، وان مسها فلها المهر بما استحل من فرجها.
وقال وكيع: عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن

(2/63)


المسيب، عن عمر رضي الله عنه قال: (إذا تزوجها برصاء أو عمياء، فدخل بها فلها الصداق، ويرجع به على من غره) .
قال: وهذا يدل على أن عمر لم يذكر تلك العيوب المتقدمة على وجه الاختصاص والحصر دون ما عداها.
وكذلك حكم قاضي الاسلام شريح رضي الله عنه الذي يضرب المثل بعلمه ودينه وحكمه.
قال عبد الرازق: عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين رضي الله عنه، خاصم رجل رجلا الى شريح فقال: ان هذا قال لي: إنا نزوجك أحسن الناس فجاءني بامرأة عمياء. فقال شريح: إن كان دلس عليك بعيب لم يجز.
فتأمل هذا القضاء وقوله: (إن كان دلس عليك بعيب) كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به.
قال الزهري رضي الله عنه: يرد النكاح من كل داء عضال قال: ومن تأمل فتاوى الصحابة والسلف علم أنهم لم يخصوا الرد بعيب دون عيب، إلا رواية رويت عن عمر: " لا ترد النساء إلا من العيوب الاربعة: الجنون، والجذام، والبرص، والداء في الفرج ".
وهذه الرواية لا نعلم لها اسنادا أكثر من أصبغ وابن وهب عن عمر وعلي رضي الله عنهما.
وقد روي ذلك عن ابن عباس باسناد متصل.
هذا كله إذا أطلق الزوج.
وأما إذا اشترط السلامة، أو اشترط الجمال فبانت شوهاء أو شرطها شابة حديثة السن فبانت عجوزا شمطاء.
أو شرطها بيضاء فبانت سوداء، أو بكرا ببانت ثيبا فله الفسخ في ذلك.
فان كان قبل الدخول فلا مهر، وان كان بعده فلها المهر.
وهو غرم على وليها ان كان غره.
وان كانت هي الغارة سقط مهرها، أو رجع عليها به إن كانت قبضته.
ونص على هذا أحمد في إحدى الروايتين عنه.

(2/64)


وهو أقيسهما وأولاهما بأصوله فيما إذا كان الزوج هو المشترط.
وقال أصحابه إذا شرطت فيه صفة فبان بخلافها فلا خيار لها، إلا في شرط الحرية إذا بان عبدا فلها الخيار.
وفي شرط النسب إذا بن بخلافه وجهان.
والذي يقتضيه مذهبه وقواعده أنه لا فرق بين اشتراطه واشتراطها.
بل إثبات الخيار لها إذا فات ما اشترطته أولى، لانها لا تتمكن من المفارقة بالطلاق.
فإذا جاز له الفسخ مع تمكنه من الفراق بغيره فلان يجوز لها الفسخ مع عدم تمكنها أولى.
وإذا جاز لها أن تفسخ إذا ظهر الزوج ذا صناعة دنيئة، لا تشينه في دينه ولا في عرضه، وإنما تمنع كمال لذتها واستمتاعها به.
فإذا شرطته شابا جميلا صحيحا فبان شيخا مشوها أعمى، أطرش، أخرس، أسود، فكيف تلزم به وتمنع من الفسخ؟ هذا في غاية الامتناع والتناقض والبعد عن القياس وقواعد الشرع.
قال: وكيف يمكن أحد الزوجين من الفسخ بقدر العدسة من البرص ولا يمكن منه بالجرب المستحكم المتمكن وهو أشد إعداء من ذلك البرص اليسير.
وكذلك غيره من أنواع الداء العضال.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته، وحرم على من علمه أن يكتمه على المشتري، فكيف بالعيوب في النكاح؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ".
فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب.
فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سببا للزومه؟ وجعل ذي العيب غلا لازما في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه، ولا سيما مع شرط السلامة منه وشرط خلافه؟

(2/65)


وهذا ما يعلم يقينا أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه، والله أعلم. انتهى.
وذهب أبو محمد بن حزم الى أن الزوج إذا شرط السلامة من العيوب فوجد أي عيب كان، فالنكاح باطل من أصله غير منعقد، ولا خيار له فيه، ولا اجازة، ولا نفقة، ولا ميراث.
قلت: إن التي أدخلت عليه غير التي تزوج، إذ السالمة غير المعيبة بلا شك، فإذا لم يتزوجها فلا زوجية بينهما.
ما جرى عليه العمل بالمحاكم: وقد جرى العمل الان بالمحاكم حسب ما جاء بالمادة التاسعة من قانون سنة 1920.
" أنه يثبت للمرأة هذا الحق (1) إذا كان العيب مستحكما لا يمكن البرء منه، أو يمكن بعد زمن، ولا يمكنها المقام معه إلا بضرر أيا كان هذا العيب، كالجنون، والجذام والبرص، سواء أكان ذلك بالزوج قبل العقد ولم تعلم به، أم حدث بعد العقد ولم ترض به، فان تزوجته عالمة بالعيب، أو حدث العيب بعد العقد، ورضيت صراحة أو دلالة بعد علمها، فلا يجوز طلب التفريق، واعتبر التفريق في هذا الحال طلاقا بائنا، ويستعان بأهل الخبرة في معرفة العيب ومداه من الضرر.
ومما يدخل في هذا الباب - عند الاحناف - تزويج الكبيرة العاقلة نفسها من كفء بمهر أقل من مهر مثلها بدون رضا أقرب عصبتها.
وكذلك إذا زوج الصغير أو الصغيرة غير الاب والجد من الاولياء - عند عدمهما - وكان الزوج كفئا، وكان المهر مهر المثل كان الزواج غير لازم، وسيأتي ذلك مفصلا في مبحث الولاية.
شروط سماع الدعوى بالزواج قانونا:
رأى المشرع الوضعي شروطا لسماع الدعوى بالزواج من جهة،
__________
(1) حق التفريق

(2/66)


وشروطا أخرى لمباشرة عقد الزواج رسميا من جهة أخرى، نجملها فيما يلي اتماما للفائدة: المسوغ الكتابي لسماع دعوى الزواج: جاءت الفقرات الاربع من المادة 99 من المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 الخاص بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية والاجراءات المتعلقة بها: " لا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الطلاق أو الاقرار بهما، بعد وفاة أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة 1911 أفرنكية، سواء أكانت مقامة من أحد الزوجين أم من غيرهما، الا إذا كانت مؤيدة بأوراق خالية من شبهة التزوير على صحتها.
ومع ذلك، يجوز سماع دعوى الزوجية، أو الاقرار بها، المقامة من أحد الزوجين في الحوادث السابقة على سنة ألف وثمانمائة وسبع وتسعين فقط، بشهادة الشهود وبشرط أن تكون الزوجية معروفة بالشهرة العامة.
ولايجوز سماع دعوى ما ذكر كله من أحد الزوجين أو غيره في الحوادث الواقعة من سنة ألف وتسعمائة واحدى عشرة الا إذا كانت ثابتة بأوراق رسمية أو مكتوبة كلها بخط المتوفى وعليها امضاؤه كذلك.
ولا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الاقرار بها الا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1921 م ".
وجاء في المذكرة التفسرية لهذه المواد ما يأتي: " ومن القواعد الشرعية أن القضاء يتخصص بالزمان والمكان والحوادث والاشخاص، وأن لولي الامر أن يمنع قضاته عن سماع بعض الدعاوى، وأن يقيد السماع بما يراه من القيود تبعا لاحوال الزمان وحاجة الناس، وصيانة للحقوق من العبث والضياع.
وقد درج الفقهاء من سالف العصور على ذلك، وأقروا هذا المبدأ في أحكام كثيرة، واشتملت لائحتا سنة 1897 وسنة 1910 للمحاكم الشرعية على كثير من مواد التخصيص وخاصة فيما يتعلق بدعاوى الزوجية والطلاق والاقرار بهما.

(2/67)


وألف الناس هذه القيود واطمأنوا إليها بعد ما تبين مالها من عظيم الاثر في صيانة حقوق الاسر.
إلا أن الحوادث قد دلت على أن عقد الزواج - وهو أساس رابطة الاسرة - لا يزال في حاجة الى الصيانة والاحتياط في أمره.
فقد يتفق اثنان على الزواج بدون وثيقة ثم يجحده أحدهما ويعجز الاخر عن إثباته أمام القضاء.
وقد يدعى الزوجية بعض ذوي الاغراض زورا وبهتانا أو نكاية وتشهيرا، أو ابتغاء غرض آخر، اعتمادا على سهولة اثباتها.
خصوصا وأن الفقه يجيز الشهادة بالتسامع في الزواج، وقد تدعى الزوجية بورقة إن ثبتت صحتها مرة لا تثبت مرارا.
وما كان لشئ من ذلك أن يقع لو أثبت هذا العقد دائما بوثيقة رسمية، كما في عقود الرهن وحجج الاوقاف، وهي أقل منه شأنا وهو أعظم منها خطرا.
فحملا للناس على ذلك، واظهارا لشرف هذا العقد، وتقديسا عن الجحود والانكار، ومنعا لهذه المفاسد العديدة، واحتراما لروابط الاسرة، زيدت الفقرة الرابعة في المادة " 99 " التي نصها: " ولا تسمع عند الانكار دعوى الزوجية أو الاقرار بها إلا إذا كانت ثابتة بوثيقة زواج رسمية في الحوادث الواقعة من أول أغسطس سنة 1931 م ".
تحديد سن الزوجين لسماع دعوى الزواج:
نصت الفقرة الخامسة من المادة 99 من لائحة الاجراءات الشرعية على أنه " لا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة هجرية، أو سن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنة هجرية إلا بأمر منا ".
وقد جاء في المذكرة الايضاحية بشأن هذه الفقرة ما نصه: " كانت دعوى الزوجية لا تسمع إذا كانت سن الزوجين وقت العقد أقل من ست عشرة سنة للزوجة وثماني عشرة للزوج. سواء أكانت سنهما كذلك وقت الدعوى أم جاوزت هذا الحد.

(2/68)


فرئي تيسيرا على الناس، وصيانة للحقوق، واحتراما لاثار الزوجية، أن يقصر المنع من السماع على حالة واحدة، وهي مااذا كانت سنهما أو سن أحدهما وقت الدعوى أقل من السن المحددة ".
تحديد سن الزواج لمباشرة عقد الزواج رسميا:
نصت الفقرة الثانية من المادة 366 من لائحة الاجراءات على أنه " لا يجوز مباشرة عقد الزواج، ولا المصادقة على زواج مسند الى ما قبل العمل بهذا القانون، ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة سنة، وسن الزواج ثماني عشرة وقت العقد ".
ومما جاء في المذكرة الايضاحية بشأن هذه الفقرة: " ان عقد الزواج له من الاهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمي من جهة سعادة المعيشة المنزلية أو شقائها، والعناية بالنسل أو اهماله.
وقد تطورت الحال بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادا كبيرا لحسن القيام بها ولا تستأهل الزوجة والزوج لذلك غالبا قبل سن الرشد المالي (1) .
غير أنه لما كانت بنية الانثى تستحكم وتقوى قبل استحكام بنية الصبي، كان من المناسب أن يكون سن الزواج للفتى ثماني عشرة، وللفتاة ست عشرة.
فلهذه الاغراض الاجتماعية حدد الشارع المصري سن الزواج لمباشرة العقد رسميا، كما حدد سنا لسماع دعوى الزوجية قانونا ".
وصيانة لقانون تحديد السن لمباشرة العقد صدر قانون رقم 44 من السنة 1933 ونص المادة الثانية منه ما يأتي: مادة (2) - يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنتين أو بغرامة لا تزيد على مائة جنيه كل من أبدى أمام السلطة المختصة - بقصد اثبات بلوغ أحد الزوجين السن المحددة قانونا لضبط عقد الزواج - أقوالا يعلم أنها غير صحيحة، أو حرر، أو قدم لها أوراقا كذلك، متى ضبط عقد الزواج على أساس هذه الاقوال، أو الاوراق.
ويعاقب بالحبس أو بغرامة لا تزيد عن مائتي جنيه كل شخص خوله
__________
(1) سن الرشد المالي احدى وعشرون سنة ميلادية

(2/69)


القانون سلطة ضبط عقد الزواج وهو يعلم أن أحد طرفيه لم يبلغ السن المحددة في القانون.
المحرمات من النساء:
ليست كل امرأة صالحة للعقد عليها، بل يشترط في المرأة التي يراد العقد عليها أن تكون غير محرمة على من يريد التزوج بها، سواء أكان هذا التحريم مؤبدا أم مؤقتا.
والتحريم المؤبد يمنع المرأة أن تكون زوجة للرجل في جميع الاوقات.
والتحريم المؤقت يمنع المرأة من التزوج بها مادامت على حالة خاصة قائمة بها، فان تغير الحال وزال التحريم الوقتي صارت حلالا.
وأسباب التحريم المؤبدة هي:
1 - النسب.
2 - المصاهرة.
3 - الرضاع.
وهي المذكورة في قول الله تعالى: " حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الاخ، وبنات الاخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة، وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فلا جناح عليكم، وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم، وأن تجمعوا بين الاختين، إلا ما قد سلف ".
والمؤقتة تنحصر في أنواع.
وهذا بيان كل منها: المحرمات من النسب هن:
1 - الامهات.
2 - البنات.

(2/70)


3 - الاخوات.
4 - العمات.
5 - الخالات.
6 - بنات الاخ.
7 - بنات الاخت.
والام اسم لكل أنثى لها عليك ولادة.
فيدخل في ذلك الام، وأمهاتها، وجداتها، وأم الاب، وجداته، وإن علون.
البنت اسم لكل أنثى لك عليها ولادة، أو كل أنثى يرجع نسبها اليك بالولادة بدرجة أو درجات.
فيدخل في ذلك بنت الصلب وبناتها.
والاخت: اسم لكل أنثى جاورتك في أصليك أو في أحدهما.
والعمة: اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدك في أصليه.
أو في احدهما.
وقد تكون العمة من جهة الام، وهي أخت أبي أمك.
والخالة: اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما.
وقد تكون من جهة الاب.
وهي أخت أم أبيك.
وبنت الخ: اسم لكل أنثى لاخيك عليها ولادة بواسطة أو مباشرة، وكذلك بنت الاخت.
المحرمات بسبب المصاهرة:
المحرمات بسبب المصاهرة (1) هن:
1 - أم زوجته، وأم أمها، وأم أبيها، وان علت.
لقول الله تعالى " وأمهات نسائكم ".
ولا يشترط في تحريمها الدخول بها، بل مجرد العقد عليها يحرمها (2) .
2 - وابنة زوجته التي دخل بها.
__________
(1) المصاهرة، القرابة الناشئة بسبب الزواج.
(2) روي عن ابن عباس وزيد بن ثابت أن من عقد على امرأة ولم يدخل بها جاز له ان يتزوج بأمها

(2/71)


ويدخل في ذلك بنات بناتها، وبنات أبنائها، وان نزلن، لانهن من بناتها لقول الله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ".
والربائب: جمع ربيبة، وربيب الرجل ولد امرأته من غيره.
سمي ربيبا له، لانه يربه كما يرب ولده (أي يسوسه) .
وقوله: " اللاتي في حجوركم " وصف لبيان الشأن الغالب في الربيبة، وهو أن تكون في حجر زوج أمها، وليس قيدا.
وعند الظاهرية أنه قيد، وأن الرجل لا تحرم عليه ربيبته - أي ابنة امرأته - إذا لم تكن في حجره.
وروي هذا عن بعض الصحابة.
فعن مالك بن أوس قال: " كان عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي.
فوجدت (1) فلقيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: مالك؟ فقلت: توفيت المرأة.
فقال: ألها بنت؟ قلت: نعم، وهي بالطائف.
قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا.
قال: " انكحها ".
قلت: فأين قول الله تعالى: " وربائبكم اللاتي في حجوركم "؟! قال: انها لم تكن في حجرك، انما ذلك إذا كانت في حجرك.
ورد جمهور العلماء هذا الرأي وقالوا: ان حديث علي هذا لا يثبت، لان رواية ابراهيم بن عبيد، عن مالك بن أوس، عن علي رضي الله عنه. وابراهيم هذا لايعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف.
3 - زوجة الابن، وابن ابنه، وابن بنته وان نزل لقول الله تعالى: " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ".
__________
(1) حزنت

(2/72)


و " الحلائل " جمع حليلة، وهي الزوجة، و " الزوج حليل ".
4 - زوجة الاب: يحرم على الابن التزوج بحليلة أبيه، بمجرد عقد الاب عليها، ولم يدخل بها.
وكان هذا النوع من الزواج فاشيا في الجاهلية، وكانوا يسمونه زواج المقت (1) وسمي الولد منها مقيتا، أو مقتيا، وقد نهى الله عنه وذمه ونفر منه.
قال الامام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي.
وقد وصف الله هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: " فاحشة " إشارة الى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: " ومقتا " إشارة الى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله تعالى: " وساء سبيلا " اشارة الى مرتبة قبحه العادي.
وقد روى ابن سعد عن محمد بن كعب سبب نزول هذه الاية، قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته، كان ابنه أحق بها أن ينكحها ان شاء، ان لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء.
فلما مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: " ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا " فنزلت الاية: " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ".
ويرى الاحناف أن من زنى بامرأة، أو لمسها، أو قبلها، أو نظر الى فرجها بشهوة، حرم عليه أصولها وفروعها، وتحرم هي على أصوله وفروعه إذ أن حرمة المصاهرة تثبت عندهم بالزنا، ومثله مقدماته ودواعيه، قالوا: " ولو زنا الرجل بأم زوجته، أو بنتها حرمت عليه حرمة مؤبدة.
ويرى جمهور العلماء أن الزنا لا تثبت به حرمة المصاهرة، واستدلوا على هذا بما يأتي: 1 - قول الله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم " فهذا بيان
__________
(1) اصل المقت البغض من مقته يمقته مقتا فهو ممقوت ومقيت

(2/73)


عما يحل من النساء بعد بيان ما حرم منهن، ولم يذكر أن الزنا من أسباب التحريم.
2 - روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل زنى بامرأة.
فأراد أن يتزوجها أو ابنتها. فقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحرم الحرام الحلال، إنما يحرم ما كان بنكاح " رواه ابن ماجه عن ابن عمر.
3 - ان ما ذكروه من الاحكام في ذلك هو مما تمس إليه الحاجة، وتعم به البلوى أحيانا، وما كان الشارع ليسكت عنه، فلا ينزل به قرآن، ولا تمضي به سنة، ولا يصح فيه خبر، ولا أثر عن الصحابة، وقد كانوا قريبي عهد بالجاهلية التي كان الزنا فيها فاشيا بينهم.
فلو فهم أحد منهم أن لذلك مدركا في الشرع أو تدل عليه علة وحكمة لسألوا عن ذلك، وتوفرت الدواعي على نقل ما يفتنون به (1) .
4 - ولانه معنى لا تصير به المرأة فراشا، فلم يتعلق به تحريم المصاهرة، كالمباشرة بغير شهوة.
المحرمات بسبب الرضاع:
يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، والذي يحرم من النسب: الام، والبنت، والاخت، والعمة، والخالة، وبنات الاخ، وبنات الاخت.
وهي التي بينها الله تعالى في قوله: " حرمت عليكم أمهاتكم، وبناتكم، وأخواتكم وعماتكم، وخالاتكم، وبنات الاخ وبنات الاخت، وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة ".
وعلى هذا، فتنزل المرضعة منزلة الام، وتحرم على المرضع، هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب فتحرم: 1 - المرأة المرضعة، لانها بارضاعها تعد أما للرضيع.
2 - أم المرضعة، لانها جدة له.
__________
(1) المنار.
جزء 4 ص 479

(2/74)


3 - أم زوج المرضعة - صاحب اللبن - لانها جدة كذلك.
4 - أخت الام، لانها خالة الرضيع.
5 - أخت زوجها - صاحب اللبن - لانها عمته.
6 - بنات بنيها وبناتها، لانهن بنات اخوته وأخواته.
7 - الاخت، سواء أكانت أختا لاب وأم.
أو أختا لام، أو أختا لاب (1) .
الرضاع الذي يثبت به التحريم:
الظاهر أن الارضاع الذي يثبت به التحريم، هو مطلق الارضاع.
ولا يتحقق إلا برضعة كاملة، وهي أن يأخذ الصبي الثدي ويمتص اللبن منه، ولا يتركه إلا طائعا من غير عارض يعرض له، فلو مص مصة أو مصتين، فان ذلك لا يحرم لانه دون الرضعة، ولا يؤثر في الغذاء.
قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحرم المصة ولا المصتان " رواه الجماعة إلا البخاري.
والمصة هي الواحدة من المص.
وهو أخذ اليسير من الشئ، يقال أمصه ومصصته، أي شربته شربا رقيقا. هذا هو الامر الذي يبدو لنا راجحا.
وللعلماء في هذه المسألة عدة آراء نجملها فيما يأتي:
1 - أن قليل الرضاع وكثيره سواء في التحريم أخذا بإطلاق الارضاع في الاية.
ولما رواه البخاري، ومسلم، عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب فجرت أمة سوداء فقالت: " قد أرضعتكما ".
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك فقال: " وكيف، وقد قيل؟ دعها عنك ".
فترك الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال عن عدد الرضعات، وأمره
__________
(1) الاخت الاب وأم: وهي التي ارضعتها الام بلبان الاب، سواء أرضعت مع الطفل الرضيع أو رضعت قبله أو بعده..والاخت من الاب، وهي التي أرضعتها زوجة الاب..والاخت من الام، وهي التي أرضعتها الام بلبان رجل آخر

(2/75)


بتركها دليل على أنه لا اعتبار إلا بالارضاع، فحيث وجد اسمه وجد حكمه.
ولانه فعل يتعلق به التحريم، فيستوي قليله وكثيره، كالوطء الموجب له.
ولان إنشاز العظم، وإنبات اللحم، يحصل بقليله وكثيره.
وهذا مذهب " علي "، و " ابن عباس "، و " سعيد بن المسيب "، و " الحسن البصري " و " الزهري " و " قتادة " و " حماد " و " الاوزاعي " و " الثوري " و " أبي حنيفة " و " مالك " ورواية عن " أحمد ".
2 - أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات متفرقات.
لما رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، عن عائشة قالت: " كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن فيما يقرأ من القرآن ".
وهذا تقييد لاطلاق الكتاب والسنة، وتقييد المطلق بيان، لانسخ ولا تخصيص.
ولو لم يعترض على هذا الرأي، بأن القرآن لا يثبت الا متواترا، وأنه لو كان كما قالت عائشة لما خفي على المخالفين.
ولاسيما الامام علي وابن عباس، نقول: لو لم يوجه إلى هذا الرأي هذه الاعتراضات لكان أقوى الاراء، ولهذا عدل الامام البخاري عن هذه الرواية.
وهذا مذهب عبد الله بن مسعود، وإحدى الروايات عن عائشة، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاووس، والشافعي، وأحمد في ظاهر مذهبه، وابن حزم، وأكثر أهل الحديث.
3 - أن التحريم يثبت بثلاث رضعات فأكثر لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحرم المصة ولا المصتان ".
وهذا صريح في نفي التحريم بما دون الثلاث، فيكون التحريم منحصرا فيما زاد عليهما.
وإلى هذا ذهب أبو عبيد، وأبو ثور، وداود الظاهري، وابن المنذر، ورواية عن أحمد.

(2/76)


لبن المرضعة يحرم مطلقا: التغذية بلبن المرضعة محرم، سواء أكان شربا أو وجورا (1) أو سعوطا (2) ، حيث كان يغذي الصبي ويسد جوعه، ويبلغ قدر رضعة، لانه يحصل به ما يحصل بالارضاع من انبات اللحم، وانشاز العظم، فيساويه في التحريم.
اللبن المختلط لبن المرأة بطعام، أو شراب، أو دواء، أو لبن شاة أو غيره، وتناوله الرضيع فان كان الغالب لبن المرأة حرم، وان لم يكن غالبا فلا يثبت به التحريم.
وهذا مذهب الاحناف، والمزني، وأبي ثور قال ابن القاسم من المالكية: " إذا استهلك اللبن في ماء أو غيره، ثم سقيه الطفل لم تقع به الحرمة ".
ويرى الشافعي، وابن حبيب، ومطرف، وابن الماجشون من أصحاب مالك: انه تقع به الحرمة بمنزلة مالو انفرد اللبن، أو كان مختلطا لم تذهب عينه.
قال ابن رشد.
وسبب اختلافهم: هل يبقى للتبن حكم الحرمة إذا اختلط بغيره، أم لا يبقى به حكمها؟ كالحال في النجاسة إذا خالطت الحلال الطاهر.
والاصل المعتبر في ذلك انطلاق اسم اللبن عليه كالماء، هل يطهر إذا خالطه شئ من الطاهر (3) ؟.
صفة المرضعة: والمرضعة التي يثبت بلبنها التحريم، هي كل امرأة در اللبن من ثدييها،
__________
(1) الوجور: أن يصب اللبن في حلق الصبي من غير ثدي.
(2) السعوط: أن يصب اللبن في أنفه.
(3) أي أنه إذا اختلط اللبن بغيره هل يبقى اطلاق اسم اللبن عليه أم لا؟! فان كان يطلق اسم اللبن عليه كان محرما وإلا فلا

(2/77)


سواء أكانت بالغة أم غير بالغة، وسواء أكانت يائسة من المحيض أم غير يائسة، وسواء أكان لها زوج أم لم يكن.
وسواء أكانت حاملا أم غير حامل.
سن الرضاع: الرضاع المحرم للزواج ما كان في الحولين.
وهي المدة التي بينها الله تعالى وحددها في قوله: " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ".
لان الرضيع في هذه المدة يكون صغيرا يكفيه اللبن، وينبت بذلك لحمه، فيصير جزءا من المرضعة.
فيشترك في الحرمة مع أولادها.
روى الدارقطني، وابن عدي، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
" لارضاع إلا في الحولين ".
وروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: " لا رضاع إلا ما أنشز (1) العظم، وأنبت اللحم " رواه أبو داود.
وإنما يكون ذلك لمن هو في سن الحولين، ينمو باللبن عظمه، وينبت عليه لحمه.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق (2) الامعاء، وكان قبل الفطام ".
رواه الترمذي وصححه.
وقال ابن القيم: هذا حديث منقطع.
ولو فطم الرضيع قبل الحولين واستغنى بالغذاء عن اللبن.
ثم أرضعته امرأة، فان ذلك الرضاع تثبت به الحرمة عند أبي حنيفة والشافعي، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الرضاعة من المجاعة ".
وقال مالك: ما كان من الرضاعة بعد الحولين كان قليله وكثيره لا يحرم شيئا، إنما هو بمنزلة الماء.
وقال: إذا فصل (3) الصبي قبل الحولين، أو استغنى بالفطام عن الرضاع، فما ارتضع بعد ذلك لم يكن للارضاع حرمة ".
__________
(1) انشز: قوى وشد.
(2) فتق الامعاء: أي وصلها وغذاها واكتفت به عن غيره.
(3) فصل: أي فطم

(2/78)


رضاع الكبير:
وعلى هذا فرضاع الكبير لا يحرم في رأي جماهير العلماء للادلة المتقدمة.
وذهبت طائفة من السلف والخلف إلى أنه يحرم - ولو أنه شيخ كبير - كما يحرم رضاع الصغير، وهو رأي عائشة رضي الله عنها.
ويروى عن علي كرم الله وجهه، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح وهو قول الليث ابن سعد، وابن حزم، واستدلوا على ذلك بما رواه مالك عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاع الكبير فقال: أخبرني عروة بن الزبير بحديث: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل برضاع سالم ففعلت، وكانت تراه ابنا لها ".
قال عروة: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين رضيا لله عنها، فيمن كانت تحت أن يدخل عليها من الرجال.
فكانت تأمر أختها أم كلثوم وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال.
وروى مالك، وأحمد: أن أبا حذيفة تبنى (1) سالما.
وهو مولى لامرأة من الانصار، كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيدا.
وكان من تبنى رجلا في الجاهلية دعاه الناس ابنه وورث من ميراثه، حتى أنزل الله عز وجل ": ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ".
فردوا الى آبائهم. فمن لم يعلم له أب، فمولى وأخ في الدين، فجاء، سهلة.
فقالت: يارسول الله كنا نرى سالما ولدا يأوي معي ومع أبي حذيفة، ويراني فضلا (2) ، وقد أنزل الله عز وجل فيهم ما قد علمت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه خمس رضعات "، فكان بمنزلة ولده من الرضاعة.
وعن زينب بنت أم سلمة رضي الله عنها قالت: قالت أم سلمة لعائشة رضي الله عنها.
" انه يدخل عليك الغلام الايفغ الذي ما أحب أن يدخل علي "
__________
(1) تبنى: اتخذه ابنا له.
(2) فضلا: يعني متبذلة في ثياب المهنة أو في ثوب واحد.

(2/79)


فقالت عائشة رضيا لله عنها: أما لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة؟.
فقالت: إن امرأة أن حذيفة قالت: يا رسول الله صلى ان سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شئ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضعيه حتى يدخل عليك ".
والمختار من هذين القولين ما حققه ابن القيم.
قال: إن حديث سهلة ليس بمنسوخ ولا مخصوص ولاعام في حق كل واحد، وإنما هو رخصة للحاجة، لمن لا يستغنى عن دخوله على المرأة، ويشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة.
فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثر رضاعه، وأما من عداه فلا يؤثر إلا رضاع الصغير، وهذا مسلك شيخ الاسلام ابن تيمية رحمة الله عليه، والاحاديث النافية للرضاع في الكبير: [إما مطلقة فتفيد بحديث سهلة، أو عامة في كل الاحوال فتخصص هذه الحال من عمومها.
وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص لشخص بعينه، وأقرب الى العمل بجميع الاحاديث من الجانبين وقواعد الشرع تشهد له.
انتهى.
الشهادة على الرضاع:
شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع - إذا كانت مرضية - لما رواه عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء فقالت: " قد أرضعتكما "، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: " وكيف وقد زعمت أنها
أرضعتكما؟ " فنهاه عنها.
احتج بهذا الحديث: طاووس، والزهري، وابن أبي ذئب، والاوزاعي، ورواية عن أحمد، على أن شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع.
وذهب الجمهور الى أنه لا يكفي في ذلك شهادة المرضعة، لانها شهادة على فعل نفسها.
وقد أخرج أبو عبيد عن عمر، والمغيرة بن شعبة، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس انهم امتنعوا من التفرقة بين الزوجين بذلك.

(2/80)


فقال عمر رضي الله عنه: " ففرق بينهما ان جاءت بينة، وإلا فخل بين الرجل وامرأته، إلا أن ينتزها (1) .
ولو فتح هذا الباب لم تشأ امرأة أن تفرق بين زوجين إلا فعلت.
ومذهب الاحناف أن الشهادة على الرضاع لابد فيها من شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين، ولا يقبل فيها شهادة النساء وحدهن، لقول الله عزوجل: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ".
وروى البيهقي: أن عمر رضي الله عنه أتي بامرأدة شهدت على رجل وامرأته أنها أرضعتهما، فقال: لا: حتى يشهد رجلان أو رجل وامرأتان.
وعن الشافعي رضي الله عنه: أنه يثبت بهذا، وبشهادة أربع من النساء، لان كل امرأتين كرجل، ولان النساء يطلعن على الرضاع غالبا كالولادة.
وعند مالك: تقبل فيه شهادة امرأتين بشرط فشو قولهما بذلك قبل الشهادة.
قال ابن رشد: وحمل بعضهم حديث عقبة بن الحارث على الندب جمعا بينه وبين الاصول، وهو أشبه،] وهي رواية عن مالك.
أبوة زوج الموضع للرضيع:
إذا أرضعت امرأة رضيعا صار زوجها أبا للرضيع وأخوه عما له، لما تقدم من حديث حذيفة، ولحديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ائذني لافلح أخي أبي القعيس فانه عمك ".
وكانت امرأته أرضعت عائشة رضي الله عنها.
وسئل ابن عباس عن رجل له جاريتان أرضعت احداهما جارية والاخرى غلاما: أيحل للغلام أن يتزوج الجارية؟ قال: " لا " اللقاح واحد.
وهذا رأي الائمة الاربعة: والاوزاعي، والثوري.
وممن قال به من الصحابة علي، وابن عباس رضي الله عنهما.
التساهل في أمر الرضاع: كثير من النساء يتساهل في أمر الرضاع فيرضعون الولد من امرأة، أو من
__________
(1) يتنزها: يتورعا.

(2/81)


عدة نسوة، دون عناية بمعرفة أولاد المرضعة واخوانها، ولا أولاد زوجها - من غيرها - واخوته، ليعرفوا ما يترتب عليهم في ذلك من الاحكام، كحرمة النكاح، وحقوق هذه القرابة الجديدة التي جعلها الشارع كالنسب.
فكثيرا ما يتزوج الرجل أخته، أو عمته، أو خالته من الرضاعة، وهو لا يدري (1) .
والواجب الاحتياط في هذا الامر، حتى لا يقع الانسان في المحظور.
حكمة التحريم: قال في تفسير المنار (2) : إن الله تعالى جعل بين الناس ضروبا من الصلة يتراحمون بها، ويتعاونون على دفع المضار وجلب المنافع، وأقوى هذه الصلات صلة القرابة وصلة الصهر، ولكل واحدة من هاتين الصلتين درجات متفاوتة.
فأما صلة القرابة فأقواها ما يكون بين الاولاد والوالدين من العاطفة والاريحية.
فمن اكتنه السر في عطف الاب على ولده يجد في نفسه داعية فطرية تدفعه الى العناية بتربيته الى أن يكون رجلا مثله.
فهو ينظر إليه كنظره الى بعض أعضائه، ويعتمد عليه في مستقبل أيامه، ويجد في نفس الولد شعورا بأن أباه كان منشأ وجوده، وممد حياته وقوام تأديبه، وعنوان شرفه.
وبهذا الشعور يحترم الابن أباه، وبتلك الرحمة والاريحية يعطف الاب على ابنه، وبساعده.
هذا ماقاله الاستاذ الامام محمد عبده.
ولا يخفى على انسان أن عاطفة الام الوالدية أقوى من عاطفة الاب، ورحمتها أشد من رحمته، وحنانها أرسخ من حنانه، لانها أرق قلبا، وأدق شعورا.
وأن الولد يتكون جنينا من دمها الذي هو قوام حياتها.
ثم يكون طفلا يتغذى من لبنها، فيكون له مع كل مصة من ثديها عاطفة
__________
(1) المنار ص 470 ج.
(2) ج 5 ص 29 من تفسير المنار.

(2/82)


جديدة، يستلها من قلبها، والطفل لا يحب أحدا في الدنيا قبل أمه.
ثم انه يحب أباه، ولكن دون حبه لامه، وان كان يحترمه أشد مما يحترمها.
أفليس من الجنابة على الفطرة أن يزاحم هذا الحب العظيم بين الوالدين والاولاد حب استمتاع الشهوة - فيزحمه ويفسده - وهو خير ما في هذه الحياة!!
بلى: ولاجل هذا كان تحريم نكاح الامهات هو الاشد المقدم في الآية، ويليه تحريم البنات.
ولولا ما عهد في الانسان من الجناية على الفطرة والعبث بها والافساد فيها، لكان لسليم الفطرة أن يتعجب من تحريم الامهات والبنات، لان فطرته تشعر أن النزوع الى ذلك من قبيل المستحيلات.
وأما الاخوة والاخوات، فالصلة بينهما تشبه الصلة بين الوالدين والاولاد من حيث أنهم كأعضاء الجسم الواحد، يفان الاخ والاخت من أصل واحد يستويان في النسة إليه من غير تفاوت بينهما.
ثم انهما ينشآن في حجر واحد، على طريقة واحدة في الغالب، وعاطفة الاخوة بينهما متكافئة، ليست أقوى في إحداهما منها في الاخرى، كقوة عاطفة الامومة والابوة على عاطفة البنوة.
فلهذه الاسباب يكون أنس أحدهما بالآخر أنس مساواة لا يضاهيه أنس لآخر.
إذ لا يوجد بين البشر صلة أخرى فيها هذا النوع من المساواة الكاملة، وعواطف الود والثقة المتبادلة.
ويحكى أن امرأة شفعت عند الحجاج في زوجها وابنها وأخيها، وكان يريد قتلهم، وفشفعها في واحد مبهم منهم، وأمرها أن تختار من يبقى، فاختارت أخاها، فسألها عن سبب ذلك فقالت: " ان الاخ لاعوض عنه، وقد مات الوالدان، وأما الزوج والولد فيمكن الاعتياض عنهما بمثلهما ".
فأعجبه هذا الجواب وعفا عن الثلاثة.
وقال: " لو اختارت الزوجة غير الاخ لما أبقيت لها أحدا ".
وجملة القول: إن صلة الاخوة صلة فطرية قوية، وأن الاخوة والاخوات

(2/83)


لا يشتهي بعضهم التمتع ببعض، لان عاطفة الاخوة تكون هي المسؤولية على النفس بحيث لا يبقى لسواها معها موضع ما سلمت الفطرة.
فقضت حكمة الشريعة بتحريم نكاح الاخت حتى يكون لمعتلي الفطرة منفذ لاستبدال داعية الشهوة بعاطفة الاخوة.
وأما العمات والخالات فهن من طينة الاب والام.
وفي الحديث " عم الرجل صنو أبيه ".
أي هما كالصنوان يخرجان من أصل النخلة.
ولهذا المعنى - الذي كانت به صلة العمومة من صلة الابوة، وصلة الخؤولة من صلة الامومة - قالوا: إن تحريم الجدات مندرج في تحريم الامهات وداخل فيه، فكان من محاسن دين الفطرة المحافة على عاطفة صلة العمومة والخؤولة، والتراحم والتعاون بها، وأن لاتنزو الشهوة عليها، وذلك بتحريم نكاح العمات والخالات.
وأما بنات الاخ وبنات الاخت، فهما من الانسان بمنزلة بناته، حيث أن أخاه وأخته كنفسه، وصاحب الفطرة السليمة يجد لهما هذه العاطفة يمن نفسه، وكذا صاحب الفطرة السقيمة، إلا أن عاطفة هذا تكون كفطرته في سقهما.
نعم إن عطف الرجل على بنته يكون أقوى لكونها بضعة منه، نمت وترعرعت بعنايته ورعايته.
وأنسه بأخيه وأخته يكون أقوى من أنسه ببناتهما لما تقدم.
وأما الفرق بين العمات والخالات، وبين بنات الاخوة والاخوات، فهو أن الحب لهؤلاء حب عطف وحنان، والحب لاولئك حب تكريم واحترام.
فهما - من حيث البعد عن مواقع الشهوة - متكافآن.
وانما قدم في النظم الكريم ذكر العمات والخالات، لان الادلاء بهما من الآباء والامهات، فصلتهما أشرف وأعلى من صلة الاخوة والاخوات.
هذه أنواع القرابة القريبة التي يتراحم الناس ويتعاطفون ويتوادون ويتعاونون بها وبما جعل الله لها في النفوس من الحب والحنان والعطف والاحترام! فحرم الله فيها النكاح لاجل أن تتوجه عاطفة الزوجية ومحبتها الى من

(2/84)


ضعفت الصلة الطبيعية أو النسبة بينهم، كالغرباء والاجانب، والطبقات البعيدة من سلالة الاقارب، كأولاد الاعمام والعمات والاخوال والخالات.
وبذلك تتجدد بين البشر قرابة الصهر التي تكون في المودة والرحمة كقرابة النسب، فتتسع دائرة المحبة والرحمة بين الناس.
فهذه حكمة الشرع الروحية في محرمات القرابة.
ثم قال: إن هنالك حكمة جسدية حيوية عظيمة جدا.
وهي أن تزوج الاقارب بعضهم ببعض يكون سببا لضعف النسل.
فإذا تسلسلت واستمرت بتسلسل الضعف والضوى فيه إلى أن ينقطع، ولذلك سببان: (أحدهما) وهو الذي أشار إليه الفقهاء - أن قوة النسل تكون على قدر قوة داعية التناسل في الزوجين، وهي الشهوة.
وقد قالوا: إنها تكون ضعيفة بين الاقارب.
وجعلوا ذلك علة لكراهية تزوج بنات العم وبنات العمة، الى آخره.
وسبب ذلك، أن هذه الشهوة شعور في النفس، يزاحمه شعور عواطف
القرابة المضاد له، فإما أن يزيله، وإما أن يزلزله ويضعفه.
(والسبب الثاني) يعرفه الاطباء، وإنما يظهر للعامة بمثال تقريبي معروف عند الفلاحين، وهو أن الارض التي يتكرر زرع نوع واحد من الحبوب فيها، يضعف هذا الزرع فيها مرة بعد أخرى، الى أن ينقطع، لقلة المواد التي هي قوام غذائه، كثرة المواد الاخرى التي لا يتغذى منها، ومزاحمتها لغذائه أن يخلص له.
ولو زرع ذلك الحب في أرض أخرى وزرع في هذه الارض نوع آخر من الحب لمناكل منهما.
بل ثبت عند الزراع أن اختلاف الصنف من النوع الواحد من أنواع البذار يفيد.
فإذا زرعوا حنطة في أرض، وأخذوا بذرا من غلتها فزرعوه في تلك الارض يكون نموه ضعيفا وغلته قليلة.

(2/85)


وإذا أخذوا البذر من حنطة أخرى وزرعوه في تلك الارض نفسها يكون أنمى وأزكى.
كذلك النساء حرث - كالارض - يزرع فيهن الولد.
وطوائف الناس كأنواع البذار وأصنافه.
فينبغي أن يتزوج أفراد كل عشيرة من أخرى ليزكو الولد وينجب.
فان الولد يرث من مزاج أبويه ومادة أجسادهما، ويرث من أخلاقهما وصفاتهما الروحية وبياينهما في شئ من ذلك.
فالتوارث والتباين سنتان من سنن الخليقة، ينبغي أن تأخذ كل واحدة منهما حظها لاجل أن ترتقي السلائل البشرية ويتقارب الناس بعضهم من بعض، ويستمد بعضهم القوة والاستعداد من بعض، والتزوج من الاقربين ينافي ذلك.
فثبت بما تقدم كله أنه ضار بدنا ونفسا، مناف للفطرة، مخل بالروابط الاجتماعية، عائق لارتقاء البشر.
وقد ذكر " الغزالي " في الاحياء: أن الخصال التي تطلب مراعاتها في المرأة، ألا تكون من القرابة القريبة.
قال: فان الوليد يخلق ضاويا (1) .
وأورد في ذلك حديث لا يصح.
ولكن روى ابراهيم الحربي في غريب الحديث أن عمر قال لآل السائب: " اغتربوا لاتضووا " أي تزوجوا الغرائب لئلا تجئ أولادكم نحافا ضعافا.
وعلل الغزالي ذلك بقوله: " إن الشهوة إنما تنبعث بقوة الاحساس بالنظر أو اللمس وانما يقوي الاحساس بالامر الغريب الجديد.
فأما المعهود الذي دام النظر إليه، فانه يضعف الحس عن تمام ادراكه والتأثر به، ولا ينبعث به الشهوة ".
قال: وتعليله لا ينطبق على كل صورة، والعمدة ما قلنا.
حكمة التحريم بالرضاع:
وأما حكمة التحريم بالرضاعة، فمن رحمته تعالى بنا أن وسع لنا دائرة
__________
(1) ضاويا: أي نحيفا.

(2/86)


القرابة بإلحاق الرضاع بها، وأن بعض بدن الرضيع يتكون من لبن المرضع، وأنه بذلك يرث منها كما يرث ولدها الذي ولدته (1) .
حكمة التحريم بالمصاهرة:
وحكمة تحريم المحرمات بالمصاهرة أن بنت الزوجة وأمها أولى بالتحريم،
لان زوجة الرجل شقيقة روحه، بل مقومة ماهيته الانسانية ومتممتها.
فينبغي أن تكون أمها بمنزلة أمه في الاحترام.
ويقبح جدا أن تكون ضرة لها فإن لحمة المصاهرة كلحمة النسب.
فإذا تزوج الرجل من عشيرة صار كأحد أفرادها، وتجددت في نفسه عاطفة مودة جديدة لهم.
فهل يجوز أن يكون سببا للتغاير والضرار بين الام وبنتها؟ كلا.
إن ذلك ينافي حكمة المصاهرة والقرابة ويكون سبب فساد العشيرة.
فالموافق للفطرة، الذي تقوم به المصلحة، هو أن تكون أم الزوجة كأم الزوج، وبنتها التي في حجره كبنته من صلبه.
وكذلك ينبغي أن تكون زوجة ابنه بمنزل ابنته، ويوجه إليها العاطفة يالتي يجدها لبنته، كما ينزل الابن امرأة أبيه منزلة أمه.
وإذا كان من رحمة الله وحكمته أن حرم الجمع بين الاختين وما في معناهما لتكون المصاهرة لحمة مودة غير مشوبة بسبب من أسباب الضرار والنفرة، فكيف يعقل أن يبيح نكاح من هي أقرب إلى الزوجة، كأمها أو بنتها، أو زوجة الوالد للولد، وزوجة الولد للوالد؟ وقد بين لنا أن حكمة الزواج هي سكون نفس كل من الزوجين إلى الآخره، والمودة والرحمة بينهما وبين من يلتحم معهما بلحمة النسب فقال: " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة ".
فقيد سكون النفس الخاص بالزوجية، ولم يقيد المودة والرحمة، لانها تكون بين الزوجين ومن يلتحم معهما بلحمة النسب، وتزداد وتقوى بالولد. اه.
__________
(1) يرث منها: أي من طباعها وأخلاقها.

(2/87)


المحرمات مؤقتا (1) :
الجمع بين المحرمين: يحرم الجمع بينا الأختين (1) ، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، كما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة، لو كانت إحداهما رجلا لم يجزله التزوج بالاخرى.
ودليل ذلك:
1 - قول الله تعالى: " وأن تجمعوا بين الاختين إلاما قد سلف " (2) .
2 - وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها.
3 - وما رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه، عن فيروز الديلمي أنه أدركه الاسلام وتحته أختان.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طلق أيتهما شئت ".
4 - عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج الرجل المرأة على العمة أو على الخالة وقال: " إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ". قال القرطبي: ذكره أبو محمد الاصيلي في فوائده، وابن عبد البر، وغيرهما.
5 - ومن مراسيل بي داود، عن حسين بن طلحة، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة على أخواتها مخافة القطيعة.
وفي حديث ابن عباس، وحسين بن طلحة التنبيه على المعنى الذي من أجله حرم هذا الزواج، وهو الاحتراز عن قطع الرحم بين الاقارب، فان
__________
(1) سواء أكان ذلك بعقد زواج أو بملك يمين.
(2) أي وحرم عليكم الجمع بين الاختين معا، في التزوج وفي ملك اليمين، الا ماكان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه.

(2/88)


الجمع بينهما يولد التحاسد ويجر الى البغضاء، لان الضرتين قلما تسكن عواصف الغيرة بينهما.
وهذا الجمع بين المحارم كما هو ممنوع في الزواج فهو ممنوع في العدة.
فقد أجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا فلا يجوز له أن يتزوج أختها، أو أربعا سواها حتى تنقضي عدتها، لان الزواج قائم وله حق الرجعة في أي وقت.
واختلفوا فيما إذا طلقها طلاقا بائنا لا يملك معه رجعتها.
فقال علي، وزيد بن ثابت، ومجاهد، والنخعي، وسفيان الثوري، والاحناف وأحمد: ليس له أن يتزوج أختها ولا أربعة حتى تنقضي عدتها، لان العقد أثناء العدة باق حكما حتى تنقضي، بدليل أن لها نفقة العدة.
قال ابن المنذر،: ولا أحسبه إلا قول مالك، وبه نقول، أن له أن يتزوج أختها أو أربعا سواها.
وقال سعيد بن المسيب، والحسن، والشافعي: لان عقد الزواج قد انتهى بالبينونة، فلم يوجد الجمع المحرم.
ولو جمع رجل بين المحرمات فتزوج الاختين مثلا، فاما أن يتزوجهما بعقد واحد أو بعقدين، فان تزوجهما بعقد واحد وليس بواحدة منهما مانع فسد عقده عليهما، وتجري على هذا العقد أحكام الزواج الفاسد.
فيجب الافتراق عن المعاقدين، وإلا فرق بينهما القضاء.
وإذا حصل التفريق قبل الدخول فلا مهر لواحدة منهما، ولا يترتب على مجرد هذا العقد أثر.
وان حصل بعد الدخول فللمدخول بها مهر المثل، أو الاقل من مهر المثل، والمسمى.
ويترتب على الدخول بها سائر الآثار التي تترتب على الدخول بعد الزواج الفاسد.
أما إذا كان باحداهما مانع شرعي، بأن كانت زوجة غيره، أو معتدته مثلا، والاخرى ليس بها مانع، فان العقد بالنسبة للخالية من المانع صحيح، وبالنسبة للاخرى فاسد تجري عليه أحكامه.

(2/89)


وان تزوجهما بعقدين متعاقبين، واستوفى كل واحد من العقدين أركانه وشروطه، وعلم أسقهما فهو الصحيح، واللاحق فاسد.
وان استوفى أحدهما فقط شروط صحته فهو الصحيح سواء كان السابق أو اللاحق.
وان لم يعلم أسبقهما، أو علم ونسي، كأن يوكل رجلين بتزويجه فيزوجانه من اثنتين، ثم يتبين أنهما أختان، ولا يعلم أسبق العقدين، أو علم ونسي، فالعقدان غير صحيحين لعدم المرجح، وتجري عليهما أحكام الزواج الفاسد (1) .
(2 و 3) زوجة الغير ومعتدته: يحرم على المسلم أن يتزوج زوجة الغير، أو معتدته رعاية لحق الزوج، لقول الله تعالى: " والمحصنات من النساء يإلا ما ملكت أيمانكم ".
أي حرمت عليكم المحصنات من النساء، أي المتزوجات منهن إلا
المسبيات، فان المسبية تحل لسابيها بعد الاستبراء، وإن كانت متزوجة، لما رواه مسلم وابن أبي شيبة، عن أبي سعيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه سولم بعث جيشا الى لوطاس، فلقي عدوا فقاتلوهم، فظهروا عليهم وأصابوا سبايا، وكان ناس من أصحاب رسول الله عليه وسلم تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: " والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم " أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن، والاستبراء يكون بحيضة.
قال الحسن: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبرئون المسبية بحيضة، وأما المعتدة فقد سبق الكلام عليها في باب " الخطبة ".
(4) المطلقة ثلاثا: المطلقة ثلاثا لا تحل لزوجها الاول حتى تنكح زوجا غيره نكاحا صحيحا (2)
__________
(1) أحكام الاحوال الشخصية للاستاذ عبد الوهاب خلاف.
(2) يراجع فصل التحليل من هذا الكتاب.

(2/90)


(5) عقد المحرم: يحرم على المحرم، أن يعقد النكاح لنفسه أو لغيره بولاية، أو وكالة، ويقع العقد باطلا، لاتترتب عليه آثاره الشرعية.
لما رواه مسلم وغيره، عن عثمان بن عفان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " رواه الترمذي وليس فيه ولا يخطب.
وقال حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وبه يقول الشافعي، وأحمد، واسحق، ولا يرون أن يتزوج المحرم، وإن
نكح فنكاحه باطل، وما ورد من أن النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة، لانه صلى الله عليه وسلم تزوجها في طريق مكة وذهب الاحناف إلى جواز عقد النكاح للمرحم.
لان الاحرام لايمنع صلاحية المرأة للعقد عليه، وإنما يمنع صحية الجماع لاصحية العقد.
(6) زواج الامة مع القدرة على الزواج بالحرة: اتفق العلماء على أنه يجوز للعبد أن يتزوج الامة، وعلى أنه يجوز للحرة أن تتزوج العبد إذا رضيت بذلك هي وأولياؤها كما اتتفقوا على أنه لا يجوز أن تتزوج من ملكته، وأنه إذا ملكت زوجها انفسخ النكاح.
واختلفوا في زواج الحر بالامة.
فرأي الجمهور أنه لا يجوز زواج الحر بالامة إلا بشرطين: (أولهما) عدم القدرة على نكاح الحرة.
(وثانيهما) خوف العنت.
__________
(1) سرف: أسم لمكان.

(2/91)


واستدلوا على هذا بقول الله تعالى: " ومن لم يستطع منكم طولا (1) أن ينكح المحصنات (2) المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم (3) المؤمنات ".
إلى قوله تعالى: " ذلك لمن خشي العنت (4) منكم، وأن تصبروا خير لكم ".
قال القرطبي: الصبر على العزبة خير من نكاح الامة، لانه يفضي إلى إرقاق الولد، والغض من النفس، والصبر على مكارم الاخلاق أولى من البذالة
روي عن عمر أنه قال: أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه (5) وعن الضحاك بن مزاحم قال سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ".
رواه ابن ماجه، وفي إسناده ضعف.
وذهب أبو حنيفة إلى أن للحر أن يتزوج أمة، ولو مع طول حرة، إلا أن يكون تحته حرة.
فان كان في عصمته زوجة حرة حرم عليه أن يتزوج عليها محافظة على كرامة الحرة.
(7) زواج الزانية: لا يحل للرجل أن يتزوج بزانية، ولا يحل للمرأة أن تتزوج بزان، إلا أن يحدث كل منهما توبة.
ودليل هذا:
1 - أن الله جعل العفاف شرطا يجب توفره في كل من الزوجين قبل الزواج.
فقال تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم.
وطعامكم حل لهم، والمحصنات، من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتو الكتاب من قبلكم.
__________
(1) طولا: سعة وقدرة.
(2) المحصنات: الحرائر العفائف.
(3) فتيات: إماء.
(4) العنت: الزنا (5) أرق نصفه: يعني يصير ولده رقيقا.

(2/92)


إذا آتيتموهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " (1) .
أي أن الله كما أحل الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، أحل زواج العفيفات من المؤمنات، والعفيفات من أهل الكتاب، في حال كون الازواج أعفاء غير مسافحين ولا متخذي أخدان (2) .
2 - وذكر ذلك في زواج الاماء عند العجز عن طول الحرة فقال: " فالنكحوهن باذن أهلهن، وآتوهن أجورهن (3) بالمعروف محصنا ت غير مسافحات (4) ولا متخذات أخذان " (5) .
3 - يؤيد هذا ما جاء صريحا في قول الله تعالى: " الزاني لا ينكح الا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين " (6) .
ومعنى ينكح: يعقد.
وحرم ذلك، أي وحرم على المؤمنين أن يتزوجوا من هو متصف بالزنا أو بالشرك، فانه لا يفعل ذلك إلا زان أو مشرك.
4 - ما رواه عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الاسارى بمكة، وكان بمكة يبغي يقال لها عناق، وكانت صديقته.
قال: فجئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أأنكح عناقا؟ قال: فسكت عني.
فنزلت: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ".
فدعاني فقرأها علي وقال: " لا تنكحها " رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
5 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " رواه أحمد وأبو داود.
__________
(1) سورة المائدة آية 5
(2) أخدان " جمع خدن وخدين ": أصدقاء.
(3) أجورهن: مهورهن.
(4) مسافحات: زوان.
(5) سورة النساء آية: 25 (6) سورة النور آية: 3

(2/93)


قال الشوكاني: هذا الوصف خرج مخرج الغالب باعتبار من ظهر منه الزنا.
وفيه دليل على أنه لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنا.
وكذلك لا يحل للمرأة أن تتزوج بمن ظهر منه الزنا.
ويدل على ذلك الآية المذكورة في الكتاب الكريم، لان في آخرها: " وحرم ذلك على المؤمنين " فانه صريح في التحريم.
الزنا والزواج:
وثمة فرق كبير بين الزواج، والعملية التناسلية، فان الزواج هو نواة المجتمع، وأصل وجوده، وهو القانون الطبيعي الذي يسير العالم على نظامه، والسنة الكونية التي تجعل للحياة قيمة وتقديرا.
وأنه هو الحنان الحقيقي والحب الصحيح، وهو التعاون في الحياة والاشتراك في بناء الاسرة وعمار العالم.
غاية الاسلام من تحريم نكاح الزنا: والاسلام لم يرد للمسلم أن يلقى بين أنياب الزانية، ولا للمسلمة أن تقع في يد الزاني، وتحت تأثير روحه الدنيئة، وأن تشاركه تلك النفس السقيمة، وأن تعاشر ذلك الجسم الملوث بشتى الجراثيم، المملوء بمختلف العلل والامراض.
والاسلام - في كل أحكامه وأوامره وفي كل محرماته ونواهيه - لا يريد غير إسعاد البشر والسمو بالعالم الى المستوى الاعلى الذي يريد الله أن يبلغه الجنس البشري.
الزناة ينبوع لاخطر الامراض:
وكيف يسعد الزناة في دنياهم وهم ينبوع لاخطر الامراض وأشدها فتكا بهم، وأكثرها تغلغلا في جميع أعضائهم؟!! ولعل الزهري والسيلان من الامراض التناسلية التي تجعل - وحدها - الزناة شرا مستطيرا يجب اقتلاعه من العالم وخلعه من الارض.
وكيف تسعد انسانية فيها مثل هؤلاء الزناة.
ينقلون أمراضهم النفسية إلى
__________
(1) من كتاب الاسلام والطب الحديث.

(2/94)


نسلهم، وينقلون مع هذه الامراض النفسية أمراض الزهري الوراثي؟ بل كيف تسعد عائلة تلد أطفالا مشوهي الخلق والخلق بسبب الالتهابات التي تصيب الاعضاء التناسلية، والعلل التي تطرأ عليها.
وجه الشبه بين الزناة والمشركين: والمسلم المتأدب بأدب القرآن الكريم، المتبع لسنة أفضل الخلق سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمكن أن يعيش مع زانية لا تفكر تفكيره، ولا يستطيع أن يعاشر امرأة لاتحيى حياته المستقيمة، ولا يستطيع الارتباط برابطة الزواج مع كائنة لا تشعر شعوره، وهو يعلم أن الله تعالى قال عن الزواج: " خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة ".
فأين المودة التي تحصل بين المسلم والزانية؟ وأين نفس الزانية من تلك النفس التي تسكن إليها نفس المؤمن الصحيح الايمان؟.
وأن المسلم الذي لايستطيع نكاح الزانية - كما بينا لفساد نفسها وشذوذ عاطفتها - لا يمكن كذلك أن يعيش مع مشركة لا تعتقد اعتقاده، ولا تؤمن إيمانه، ولا ترى في الحياة ما يراه. لا تحرم ما يحرمه عليه دينه من الفسق والفجور. ولا تعترف بالمبادئ الانسانية السامية التي ينص عليها الاسلام. لها عقيدتها الضالة واعتقاداتها الباطلة. لها التفكير البعيد عن تفكيره، والعقل الذي لايمت الى عقله بصلة.
ولذلك قال الله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك، ولو أعجبكم.
أولئك يدعون إلى النار، والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه، ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ".

(2/95)


التوبة تجب ما قبلها:
فان تاب كل من الزاني والزانية توبة نصوحا بالاستغفار والندم والاقلاع عن الذنب، واستأنف كل منهما حياة نظيفة مبرأة من الاثم ومطهرة من الدنس، فان الله يقبل توبتهما ويدخلهما برحمته في عباده الصالحين: " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما ".
سأل رجل ابن عباس فقال: إني كنت ألم بامرأة، آتي منها ما حرم الله علي، فرزق الله عز وجل من ذلك توبة، فأردت أن أتزوجها.
فقال أناس: " إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ".
فقال ابن عباس: ليس هذا في هذا، انكحها، فما كان من إثم فعلي. رواه بن أبي حاتم.
وسئل ابن عمر عن رجل فجر بامرأة، أيتزوجها؟ قال: إن تابا وأصلحا.
وأجاب بمثل هذا جابر بن عبد الله، وروى ابن جرير أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها، فأدركت، فداووها حتى برأت. ثم ان عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونسكت، حتى كانت من أنسك نسائهم.
فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلسها، ويكره أن يغش على ابنة أخيه. فأتى عمرا فذكر ذلك له. فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه.
وفي رواية أن عمر قال: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه، والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لاجعلنك نكالا لاهل الامصار، بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة.

(2/96)


وقال عمر: لقد هممت ألا أدع أحدا أصاب فاحشة في الاسلام أن يتزوج محصنة.
فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب.
ويرى أحمد أن توبة المرأة تعرف بأن تراود عن لفسها، فان أجابت، فتوبتها غير صحيحة، وان امتنعت فتوبتها صحيحة.
وقد تابع في ذلك ما روي عن ابن عمر.
ولكن أصحابه قالوا (1) : لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا ويطلبه منها.
لان طلبه ذلك منها يكون في خلوة، ولا تحل الخلوة بأجنبية، ولو كان في تعليمها القرآن، فكيف يحل في مراودتها على الزنا؟.
ثم لا يأمن إن أجابته الى ذلك أن تعود الى المعصية، فلا يحل التعرض لمثل هذا.
لان التوبة من سائر الذنوب، وفي حق سائر الناس، وبالنسبة إلى سائر الاحكام على غير هذا الوجه، فكذلك يكون هذا.
وإلى هذا (2) ذهب الامام أحمد، وابن حزم، ورجحه ابن تيمية وابن القيم.
إلا أن الامام أحمد ضم الى التوبة شرطا آخر، وهو انقضاء العدة.
فمتى تزوجها قبل التوبة أو انقضاء عدتها، كان الزواج فاسدا ويفرق بينهما.
وهل عدتها ثلاث حيض، أو حيضة؟.
روايتان عنه.
ومذهب الحنفية، والشافعية، والمالكية، أنه يجوز للزاني أن يتزوج الزانية، والزانية يجوز لها أن تتزوج الزاني، فالزنا لايمنع عندهم صحة العقد.
قال ابن رشد: وسبب اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: " والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ".
هل خرج مخرج الذم أو مخرج التحريم؟ وهل الاشارة في قوله تعالى: " وحرم ذلك على المؤمنين " الى الزنا أو النكاح؟.
__________
(1) المغني لابن قدامة.
(2) اي الى أنه لا يحل زواج الزانية أو الزاني قبل التوبة.

(2/97)


وإنما صار الجمهور لحمل الآية على الذم لاعلى التحريم، لما جاء في الحديث أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم في زوجته: انها لا ترد يد لامس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " طلقها " فقال له: إني أحبها. فقال له: " أمسكها " (1) .
ثم ان المجوزين اختلفوا في زواجها في عدتها.
فمنعه " مالك " احتراما لماء الزوج وصيانة لاختلاط النسب الصريح بولد الزنا.
وذهب أبو حنيفة، والشافعي، إلى أنه يجوز العقد عليها من غير انقضاء عدة.
ثم ان الشافعي يجوز العقد عليها وان كانت حاملا لانه لاحرمة لهذا الحمل.
وقال أبو يوسف، ورواية عن أبي حنيفة: لا يجوز العقد عليها حتى تضع الحمل لئلا يكون الزوج قد سقى ماؤه زرع غيره.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن توطأ المسبية الحامل حتى تضع) ، مع أن حملها مملوك له.
فالحامل من الزنا أولى ألا توطأ حتى تضع. لان ماء الزاني وان لم يكن له حرمة، فماء الزوج محترم، فكيف يسوغ له أن يخلطه بماء الفجور؟.
ولان النبي صلى الله عليه وسلم هم بلعن الذي يريد أن يطأ أمته الحامل من غيره وكانت مسبية، مع انقطاع الولد عن أبيه وكونه مملوكا له.
وقال أبو حنيفة في الرواية الاخرى يصح العقد عليها، ولكن لا توطأ حتى تضع (2) .
اختلاف حالة الابتداء عن حالة البقاء: ثم ان العلماء قالوا ان المرأة المتزوجة إذا زنت لا ينفسخ النكاح، وكذلك
__________
(1) قال أحمد: هذا الحديث منكر، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات.
وأورد أبو عبيد على هذا الحديث انه خلاف الكتاب والسنة المشهورة، لان الله انما أذن في نكاح المحصنات خاصة، ثم انزل في القاذف آية اللعان، وسن رسول الله التفريق بينهما فلا يجتمعان أبدا. فكيف يأمر بالاقامة على عاهر لا تمتنع ممن أرادها، والحديث مرسل. وقال ابن القيم عورض بهذا الحديث المتشابه الاحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزوج البغايا.
(2) تهذيب السنة: جزء 3.

(2/98)


الرجل، لان حالة الابتداء تفارق حالة البقاء.
وروي عن الحسن، وجابر بن عبد الله: أن المرأة المتزوجة إذا زنت يفرق بينهما.
واستحب أحمد مفارقتها وقال: لا أرى أن يمسك مثل هذه، فتلك لا تؤمن أن تفسد فراشه، وتلحق به ولدا ليس منه.
(8) زواج الملاعنة: لا يحل للرجل أن يتزوج المرأة التي لاعنها، فانها محرمة عليه حرمة دائمة بعد اللعان.
يقول الله تعالى: " والذين يرمون أزواجهم، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.
والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين.
ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين.
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " (1) .
(9) زواج المشركة: اتفق العلماء على أنه لا يحل للمسلم أن يتزوج الوثنية، ولاالزنديقة، ولاا لمرتدة عن الاسلام، ولا عابدة البقر، ولا المعتقدة لمذهب الاباحة - كالوجودية ونحوها من مذاهب الملاحدة - ودليل ذلك قول الله تعالى: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم.
ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا، ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون الى النار، والله يدعو الى الجنة والمغفرة بإذنه " (2) .
__________
(1) سورة النور آية 6، 7، 8، 9.
(2) سورة البقرة آية 221.

(2/99)


سبب نزول هذه الآية:
1 - قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي مرثد الغنوي، وقيل: في مرثد بن أبي مرثد، واسمه كناز بن حصين الغنوي.
بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة سرا ليخرج رجلا من أصحابه، وكانت له بمكة امرأة يحبها في الجاهلية، يقال لها " عناق " فجاءته فقال لها: إن الاسلام حرم ماكان في الجاهلية، قالت: فتزوجني. قال: حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتى رسول الله فاستأذنه، فنهاه عن التزوج بها لانه مسلم، وهي مشركة (1) .
2 - وروى السدي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فالطمها. ثم انه فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " ماهي يا عبد الله؟ ".
قال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فقال: " يا عبد الله هي مؤمنة ".
قال عبد الله فوالذي بعثك بالحق لاعتقنها ولاتزوجنها، ففعل. فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله: " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ". الآية.
قال في المغني: وسائر الكفار غير أهل الكتاب - كمن عبد ما استحسن من الاصنام والاحجار والشجر والحيوان - فلاخلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم.
قال: والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت
زواج نساء أهل الكتاب:
يحل للمسلم أن يتزوج الحرة من نساء أهل الكتاب لقول الله تعالى: " اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل
__________
(1) الجامع لاحكام القرآن ج 3 ص 67.

(2/100)


لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات، والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ".
قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الاوائل أنه حرم ذلك.
وعن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن زواج الرجل بالنصرانية أو
اليهودية، قال: حرم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الاشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله.
قال القرطبي.
قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة.
لانه قد قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان، وطلحة، وابن عباس، وجابر، وحذيفة.
ومن التابعين سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وطاووس، وعكرمة، والشعبي، والضحاك، وفقهاء الامصار.
ولا تعارض بين الآيتين، فان ظاهر لفظ " الشرك " لا يتناول أهل الكتاب لقول الله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ففرق بينهم في اللفظ.
وظاهر العطف يقتضي المغايرة.
وتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت القراقصة الكلبية النصرانية، وأسلمت عنده.
وتزوج حذيفة يهودية من أهل المدائن.
وسئل جابر عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: تزوجنا بهن زمن الفتح مع سعد بن أبي وقاص.
كراهة الزواج منهن: والزواج بهن - وان كان جائزا - إلا أنه مكروه، لانه لا يؤمن أن يميل إليها فتفتنه عن الدين، أو يتولى أهل دينها.

(2/101)


فإن كانت حربية (1) فالكراهية أشد، لانه يكثر سواد أهل الحرب.
ويرى بعض العلماء حرمة الزواج من الحربية.
فقد سئل ابن عباس عن ذلك فقال لا تحل، وتلا قول الله عزوجل: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ".
قال القرطبي: وسمع بذلك ابراهيم النخعي فأعجبه.
حكمة إباحة التزوج منهن:
وإنما أباح الاسلام الزواج منهن ليزيل الحواجز بين أهل الكتاب وبين الاسلام.
فان في الزواج المعاشرة والمخالطة وتقارب الاسر بعضها ببعض، فتتاح الفرص لدراسة الاسلام، ومعرفة حقائقه ومبادئه ومثله.
فهو أسلوب من أساليب التقريب العملي بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، ودعاية للهدى ودين الحق.
فعلى من يبتغي الزواج منهن أن يجعل ذلك غاية من غاياته، وهدفا من أهدافه.
الفرق بين المشركة والكتابية (2) :
والمشركة ليس لها دين يحرم الخيانة، ويوجب عليها الامانة، ويأمرها بالخير، وينهاها عن الشر، فهي موكولة الى طبيعتها وما تربت عليه في عشيرها، وهو خرافات الوثنية وأوهامها وأماني الشياطين وأحلامها، تخون زوجها وتفسد عقيدة ولدها.
فإن ظل الرجل على إعجابه بجمالها كان ذلك عونا لها على التوغل في ضلالها وإضلالها.
وإن نبا طرفه عن حسن الصورة، وغلب على قلبه استقباح تلك السريرة،
__________
(1) الحربية: المقيمة في غير ديار الاسلام.
(2) المنار: ج 2 ص 356، 357.

(2/102)


فقد تنغص عليه التمتع بالجمال، على ما هو عليه من سوء الحال. وأما الكتابية فليس بينها وبين المؤمن كبير مباينة.
فانها تؤمن بالله وتعبده، وتؤمن بالانبياء، وبالحياة الاخرى وما فيها من الجزاء، وتدين بوجوب عمل الخير وتحريم الشر.
والفرق الجوهري العظيم بينهما، هو الايمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. والذي يؤمن بالنبوة العامة لا يمنعه من الايمان بنبوة خاتم النبيين إلا الجهل بما جاء به. وكونه قد جاء بمثل ما جاء به النبيون وزيادة اقتضتها حال الزمان في ترقيه، واستعداده لاكثر مما هو فيه، أو المعاندة والمجاحدة في الظاهر، مع الاعتقاد في الباطن - وهذا قليل - والكثير هو الاول.
ويوشك أن يظهر للمرأة من معاشرة الرجل أحقية دينه وحسن شريعته والوقوف على سيرة من جاء بها، وما أيده الله تعالى به من الآيات البينات، فيكمل إيمانها ويصح إسلامها، وتؤتى أجرها مرتين إن كانت من المحسنات في الحالين. ا. هـ.
زواج الصابئة:
الصابئون هم قوم بين المجوس، واليهود، والنصارى. وليس لهم دين.
قال مجاهد: وقيل هم فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور.
وعن الحسن أنهم قوم يعبدون الملائكة.
وقال عبد الرحمن بن زيد: هم أهل دين من الاديان، كانوا بجزيرة الموصل يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم عمل، ولا كتاب، ولا نبي، إلا قول لا إلا إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول.
فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون لاصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " هؤلاء الصابئون "، يشبهونهم بهم في قول لا إله إلا الله.
قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون، ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة.
واختار الرازي: أنهم قوم يعبدون الكواكب، بمعنى أن الله جعلها قبلة

(2/103)


للعبادة والدعاء، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها.
وبناء على هذا اختلفت أنظار الفقهاء في حكم التزوج منهم.
فمنهم من رأى أنهم أصحاب كتاب دخله التحريف والتبديل، فسوى بينهم وبين اليهود والنصارى، وأنهم بمقتضى هذا يصح الزواج منهم لقول الله عزوجل: " اليوم أجل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " الآية.
وهذا مذهب أبي حنيفة وصاحبيه.
ومنهم من تردد، لعدم معرفة حقيقة أمرهم فقالوا: إن وافقوا اليهود والنصارى في أصول الدين - من تصديق الرسل والايمان بالكتب - كانوا منهم.
وإن خالفوهم في أصول الدين لم يكونوا منهم، وكان حكمهم حكم عباد الاوثان.
وهذا هو المروي عن الشافعية والحنابلة.
زواج المجوسية (1) :
قال ابن المنذر: ليس تحريم نكاح المجوس وأكل ذبائحهم متفقا عليه.
ولكن أكثر أهل العلم عليه، لانه ليس لهم كتاب، ولا يؤمنون بنبوة، ويعبدون النار.
وروى الشافعي أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب (2) ".
فهذا دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب.
وسئل الامام أحمد: أيصح على أن للمجوس كتابا؟ فقال: هذا باطل، وأستعظمه جدا.
__________
(1) المجوس: هم عبدة النار.
(2) اي حقن دمائهم واقرارهم على الجزية.

(2/104)


وذهب أبو ثور الى حل التزوج بالمجوسية، لانهم يقرون على دينهم بالجزية كاليهود والنصارى.
الزواج ممن لهم كتاب غير اليهود والنصارى: ذهبت الاحناف الى أن كل من يعتقد دينا سماويا، وله كتاب منزل، كصحف ابراهيم، وشيت، وزبور داود، عليهم السلام، يصح الزواج منهم وأكل ذبائحهم ما لم يشركوا.
وهو وجه في مذهب الحنابلة، لانهم ممسكوا بكتاب من كتب الله فأشبهوا اليهود أو النصارى.
ومذهب الشافعية، ووجه عند الحنابلة: أنه لا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم لقول الله تعالى: " أن تقولوا انما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا " الآية.
ولان تلك الكتب كانت مواعظ وأمثالا لا أحكام فيها، فلم يثبت لها حكم الكتب المشتملة على الاحكام.
زواج المسلمة بغير المسلم:
أجمع العلماء على أنه لا يحل للمسلمة أن تتزوج غير المسلم، سواء أكان مشركا أو من أهل الكتاب.
ودليل ذلك أن الله تعالى قال: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لاهن حل لهم ولاهم يحلون لهن (1) ".
وحكمة ذلك أن للرجل حق القوامة على زوجته، وأن عليها طاعته فيما يأمرها به من معروف، وفي هذا معنى الولاية والسلطان عليها.
وما كان لكافر أن يكون له سلطان على مسلم أو مسلمة.
__________
(1) في هذه الآية أمر الله المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات ان يمتحنوهن فان علموهن مؤمنات فلايرجعوهن الى الكفار، لاهن حل لهم ولا هم يحلون لهن. ومعنى الامتحان أن يسألوهن عن سبب ما جاء بهن، هل خرجن حبا في الله ورسوله وحرصا على الاسلام؟..فان كان ذلك كذلك قبل ذلك منهن.

(2/105)


يقول الله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ".
ثم ان الكافر لا يعترف بدين المسلمة، بل يكذب بكتابها، ويجحد رسالة نبيها، ولا يمكن لبيت أن يستقر ولا لحياة أن تستمر مع هذا الخلاف الواسع والبون الشاسع.
وعلى العكس من ذلك المسلم إذا تزوج بكتابية، فانه يعترف بدينها، ويجعل الايمان بكتابها وبنبيها جزءا لايتم إيمانه إلا به.
(10) الزيادة على الاربع: يحرم على الرجل أن يجمع في عصمته أكثر من أربع روجات في وقت واحد، إذ أن في الاربع الكفاية، وفي الزيادة عليها تفويت الاحسان الذي شرعه الله لصلاح الحياة الزوجية، والدليل على ذلك قول الله تعالى: " وان خفتم (1) ألا تقسطوا (2) في اليتامى فانكحوا ما (3) طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا (4) ".
سبب نزول هذه الآية: روى البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، عن عروة بن الزبير " أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ".
فقالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر وليها فتشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في
__________
(1) خفتم: أي غلب على ظنكم التقصير في القسط لليتيمة فاعدلوا عنها إلى غيرها، وليس لهذا القيد مفهوم، فقد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى فله ان يتزوج أكثر من واحدة، اثنين أو ثلاثا أو أربعا كمن خاف.
(2) تقسطوا: تعدلوا. من " أقسط " إذا عدل و " قسط " إذا ظلم.
(3) ما: بمعنى من: أي من طاب.
(4) أدنى الا تعولوا: أي أقرب الا تميلوا عن الحق وتجوروا.

(2/106)


صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن من الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: ثم ان الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله عزوجل: " يستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن ".
قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الاولى التي قال الله سبحانه فيها: " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ".
قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الاخرى: " وترغبون أن تنكحوهن ".
هي رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال.
فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء، إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إن كن قليلات المال والجمال.
معنى الآية: ويكون معنى الآية على هذا أن الله سبحانه وتعالى يخاطب أولياء اليتامى فيقول: إذا كانت اليتيمة في حجر أحدكم وتحت ولايته، وخاف ألا يعطيها مهر مثلها، فليعدل عنها إلى غيرها من النساء، فانهن كثيرات، ولم يضيق الله عليه فأحل له من واحدة الى أربع.
فان خاف أن يجور إذا تزوج أكثر من واحدة، فواجب عليه أن يقتصر على واحدة، أو ما ملكت يمينه من الاماء.
افادتها الاقتصار على الاربع:

(2/107)


قال الشافعي: وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لاحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.
وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع نسوة، وقال بعضهم بلا حصر.
وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح.
وقد رد الامام القرطبي على هؤلاء فقال: اعلم أن هذا العدد " مثنى " و " ثلاث " و " رباغ " لا يدل على إباحة تسع كما قاله من بعد فهمه للكتاب والسنة، وأعرض عما كان عليه سلف هذه الامة، وزعم أن الواو جامعة.
وعضد ذلك بأن النبي نكح تسعا، وجمع بينهن في عصمته، والذي صار إلى هذه الجهالة، وقال هذه المقالة، الرافضة وبعض أهل الظاهر، فجعلوا " مثنى " مثل اثنين اثنين. وكذلك ثلاث، ورباع.
وذهب بعض أهل الظاهر أيضا إلى أقبح منها، فقالوا بإباحة الجمع بين ثماني عشرة تمسكا منه بأن العدد في تلك الصيغ يفيد التكرار، والواو للجمع. فجعل مثنى بمعنى اثنين اثنين، وكذلك ثلاث ورباع.
وهذا كله جهل باللسان (1) والسنة، ومخالفة لاجماع الامة، إذ لم يسمع عن أحد من الصحابة ولا التابعين أنه جمع في عصمته أكثر من أربع.
وأخرج مالك في الموطأ، والنسائي، والدارقطني، في سننها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن أمية الثقفي وقد أسلم وتحته عشر نسوة: " اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن ".
وفي كتاب أبي داود عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اختر منهن أربعا ".
وقال مقاتل: ان قيس بن الحارث كان عنده ثماني نسوة حرائر، فلما
__________
(1) اللسان: اللغة.

(2/108)


نزلت الاية أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلق أربعا، ويمسك أربعا، كذا قال قيس بن الحارث.
والصواب أن ذلك كان حارث بن قيس الاسدي كما ذكر أبو داود.
وكذا روى " محمد بن الحسن " في كتاب " السير " الكبير، أن ذلك كان حارث بن قيس، وهو المعروف عند الفقهاء.
وأما ما أبيح من ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فذلك من خصوصياته.
وأما قولهم: ان الواو جامعة، فقد قيل ذلك، لكن الله تعالى خاطب العرب بأفصح اللغات.
والعرب لا تدع أن تقول تسعة، وأن تقول اثنين وثلاثة، وأربعة.
وكذلك تستقبح ممن يقول أعط فلانا أربعة، ستة، ثمانية، ولا يقول، ثمانية عشر.
وإنما الواو في هذا الموضع بدل، أي أنكحوا ثلاثة بدلا من مثنى، ورباعا بدلا من ثلاث، ولذلك عطف بالواو ولم يعطف ب " أو ".
ولو جاء ب " أو " لجاز ألا يكون لصاحب المثنى ثلاث، ولا لصاحب الثلاث رباع.
وأما قولهم: إن مثنى تقتضي اثنين، وثلاث ثلاثا، ورباع أربعا فتحكم بما لا يوافقهم أهل اللسان عليه، وجهالة منهم.
وكذلك جهله الاخرون لان مثنى تقتضي اثنين اثنين، وثلاث: ثلاثا ثلاثا، ورباع: أربعا أربعا.
ولم يعلموا أن اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، حصر للعدد. ومثنى وثلاث ورباع بخلافها.
ففي العدد المعدول عند العرب زيادة معنى ليست في الاصل.
وذلك أنها إذا قالت: جاءت الخيل مثنى، إنما تعني بذلك اثنين اثنين، أي جاءت مزدوجة.
قال الجوهري: وكذلك معدول العدل.
وقال غيره فإذا قالت: جاءني قوم مثنى أو ثلاث، أو آحاد، أو عشار،

(2/109)


فانما تريد أنهم جاءوك واحدا واحدا أو اثنين اثنين، أو ثلاثة ثلاثة، أو عشرة عشرة.
وليس هذا المعنى في الاصل لانك إذا قلت: جاءني قوم ثلاثة ثلاثة، أو قوم عشرة عشرة، فقد حصرت عدة القوم بقولك ثلاثة وعشرة.
فإذا قلت جاءوني ثناء ورباع، فلم تحصر عدتهم، وإنما تريد أنهم جاءوك اثنين اثنين، أو أربعة أربعة، سواء كثر عددهم أو قل في هذا الباب.
فقصرهم كل صيغة على أقل مما تقتضيه بزعمهم تحكم. انتهى.
وجوب العدل بين الزوجات:
أباح الله تعدد الزوجات وقصره على أربع، وأوجب العدل بينهن في الطعام والسكن والكسوة والمبيت (1) ، وسائر ما هو مادي من غير تفرقة بين غنية وفقيرة، وعظيمة وحقيرة، فان خاف الرجل الجور وعدم الوفاء بحقوقهن جميعا حرم عليه الجمع بينهن، فان قدر على الوفاء بحق ثلاث منهن دون الرابعة حرم عليه العقد عليها.
فان قدر على الوفاء بحق اثنتين دون الثالثة حرم عليه العقد عليها.
وكذلك من خاف الجور بزواج الثانية حرمت عليه لقول الله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولوا ".
أي أقرب ألا تجوروا.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي وابن ماجه.
ولا تعارض بين ما أوجبه الله من العدل في هذه الاية وبين ما نفاه الله في الاية الاخرى من سورة النساء وهي: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة "
__________
(1) أي يبيت عند الواحدة مقدار ما يبيت عند الاخرى.

(2/110)


فان العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه وليس هو العدل في المودة والمحبة، فان ذلك لا يستطيعه أحد، بل العدل المبتغى هو العدل في المحبة والمودة والجماع.
قال محمد بن سيرين سألت عبيدة عن هذه الاية فقال هو الحب والجماع.
قال ابو بكر بن العربي: وصدق، فان ذلك لا يملكه أحد إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفه كيف يشاء، وكذلك الجماع فقد ينشط للواحدة مالا ينشط للاخرى، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه، فانه مما لا يستطيعه، فلا يتعلق به تكليف.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: " اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تلك ولا أملك " قال أبو داود: يعني القلب.
رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وقال الخطابي في هذا دلالة على توكيد وجوب القسم بين الضرائر الحرائر، وإنما المكروه في الميل، هو ميل العشرة الذي يكون معه نجس الحق، دون ميل القلوب، فان القلوب لا تملك.
فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوي في القسم بين نسائه ويقول: " اللهم هذا قسمي " الحديث.
وفي هذا نزل قوله تعالى: " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ".
وإذا سافر الزوج فله أن يصطحب من شاء منهن وان أقرع بينهن كان حسنا.
ولصاحبة الحق في القسم أن تنزل عن حقها، إذ أن ذلك خالص حقها، فلها أن تهيه لغيرها.
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه، وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة (1) .
__________
(1) قال الخطابي: فيه اثبات القرعة، وفيه ان القسم قد يكون بالنهار كما يكون بالليل. وفيه أن الهبة قد تجري في حقوق عشرة الزوجية كما تجري في حقوق الاموال. واتفق أكثر أهل العلم على أن المرأة التي يخرج بها في السفر لا تحتسب عليها تلك المدة للبواقي، ولا يقاص بما فاتهن من أيام الغيبة إذا كان خروجها بقرعة.
وزعم بعض أهل العلم ان عليه أن يوفي للبواقي ما فاتهن ايام غيبته حتى يساوينها في الحظ.
والقول الاول أولى لاجتماع عامة أهل العلم عليه، ولانها أنما أرفقت بزيادة الحظ لكان في ذلك مما يلحقها من مشقة السفر وتعب السير: والقواعد خليات من ذلك. فلو سوى بينها وبينهن العدول عن الانصاف

(2/111)


حق المرأة في اشتراط عدم التزوج عليها:
كما أن الاسلام قيد التعدد بالقدرة على العدل، وقصره على أربع، فقد جعل من حق المرأة أو وليها أن يشترط ألا يتزوج الرجل عليها.
فلو شرطت الزوجة في عقد الزواج على زوجها ألا يتزوج عليها صح الشرط ولزم، وكان لها حق فسخ الزواج إذا لم يف لها بالشرط، ولا يسقط حقها في الفسخ إلا إذا أسقطته، ورضيت بمخالفته.
وإلى هذا ذهب الامام أحمد، ورجحه ابن تيمية، وابن القيم.
إذ الشروط في الزواج أكبر خطرا منها في البيع والاجارة، ونحوهما، فلهذا يكون الوفاء بما التزم منها أوجب وآكد.
واستدلوا لمذهبهم هذا بما يأتي:
1 - بما رواه البخاري، ومسلم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحق الشروط أن توفوا ما استحللتم به الفروج ".
2 - ورويا عن عبد الله بن أبي مليكة أن المسور بن مخرمة حدثه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول: " إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم من علي بن أبي طالب، فلا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما
آذاها " وفي رواية: " إن فاطمة مني وأنا أتخوف أن تفتن في دينها ".
ثم ذكر صهرا له من بني عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته إياه، فأحسن، قال: " حدثني فصدقني، ووعدني فوفى لي، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحدا أبدا ".

(2/112)


قال ابن القيم: فتضمن هذا الحكم أمورا: أن الرجل إذا اشترط لزوجته أن لا يتزوج عليها لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ.
ووجه تضمن الحديث لذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن ذلك يؤذي فاطمة رضي الله عنها، ويريبها، وأنه يؤذيه صلى الله عليه وسلم ويريبه.
ومعلوم قطعا أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجه فاطمة رضي الله عنها على ألا يؤذيها، ولا يريبها، ولا يؤذي أباها صلى الله عليه وسلم ولا يريبه، وإن لم يكن هذا مشروطا في صلب العقد، فانه من المعلوم بالضرورة أنه إنما دخل عليه.
وفي ذكره صلى الله عليه وسلم صهره الاخر وثنائه عليه بأنه حدثه فصدقه ووعده فوفى له، تعريض بعلي رضي الله عنه وتهييج له على الاقتداء به، وهذا يشعر بأنه قد جرى منه وعد له بأنه لا يريبها ولا يؤذيها.
فهيجه على الوفاء له، كما وفى له صهره الاخر.
فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفا كالمشروط لفظا، وأن عدمه يملك الفسخ لمشترطه، فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم ولا يمكنون الزوج من ذلك البتة.
واستمرت عادتهم بذلك، كان كالمشروط لفظا، وهو مطرد على قواعد أهل المدينة.
وقواعد أحمد رحمه الله، أن الشرط العرفي كاللفظي سواء، ولهذا أوجبوا الاجرة على من دفع ثوبه الى غسال أو قصار، أو عجينه إلى خباز، أو طعامه إلى طباخ يعملون بالاجرة، أو دخل الحمام واستخدم من يغسله ممن عادته أن يغسل بالاجرة، أنه يلزمه أجرة المثل.
وعلى هذا فلو فرض أن المرأة من بيت لا يتزوج الرجل على نسائهم ضرة، ولا يمكنونه من ذلك، وعادتهم مستمرة بذلك كان كالمشروط لفظا.
وكذلك لو كانت ممن يعلم أنها لا يمكن إدخال الضرة عليها عادة لشرفها، وحسبها، وجلالتها، كان ترك التزوج عليها كالمشروط لفظا.
وعلى هذا فسيدة نساء العالمين، وابنة سيد ولد آدم أجمعين، أحق النساء بهذا، فلو شرطه علي في صلب العقد كان تأكيدا لا تأسيسا، وفي منع علي من

(2/113)


الجمع بين فاطمة رضي الله عنها وبين بنت أبي جهل حكم حكم بديعة، وهي أن المرأة مع زوجها في درجة تبع له، فان كانت في نفسها ذات درجة عالية وزوجها كذلك، كانت في درجة عالية بنفسها وبزوجها، وهذا شأن فاطمة وعلي رضي الله عنهما.
ولم يكن الله عز وجل ليجعل ابنة أبي جهل مع فاطمة رضي الله عنها في
درجة واحدة، لا بنفسها ولا تبعا، وبينهما من الفرق ما بينهما، فلم يكن نكاحها على سيدة نساء العالمين مستحسنا، لا شرعا ولا قدرا، وقد أشار صلى الله عليه وسلم الى هذا بقوله: " والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله في مكان واحدا أبدا ".
فهذا إما أن يتناول درجة الاخر بلفظه أو اشارته. انتهى.
وقد تقدم رأي الفقهاء في اشتراط مثل هذا الشرط ونحوه مما فيه للمرأة، فليرجع إليه.
حكمة التعدد:
1 - من رحمة الله بالانسان وفضله عليه أن أباح له تعدد الزوجات، وقصره على أربع.
فللرجل أن يجمع في عصمته في وقت واحد أكثر من واحدة، بشرط أن يكون قادرا على العدل بينهن في النفقة والمبيت كما تقدم.
فإذا خاف الجور وعدم الوفاء بما عليه من تبعات حرم عليه أن يتزوج بأكثر من واحدة.
بل إذا خاف الجور بعجزه عن القيام بحق المرأة الواحدة حرم عليه أن يتزوج حتى تتحق له القدرة على الزواج (1) .
وهذا التعدد ليس واجبا ولا مندوبا، وإنما هو أمر أباحه الاسلام، لان ثمة مقتضيات عمرانية وضرورات إصلاحية لا يجمل بمشترع إغفالها، ولا ينبغي له التغاضي عنها.
__________
(1) يراجع حكم الزواج من هذا الكتاب.

(2/114)


2 - ذلك أن للاسلام رسالة إنسانية عليا كلف المسلمون أن ينهضوا بها، ويقوموا بتبليغها للناس.
وهم لا يستطيعون النهوض بهذه الرسالة إلا إذا كانت لهم دولة قوية، قد توفر لها جميع مقومات الدولة: من الجندية، والعلم، والصناعة، والزراعة والتجارة، وغير ذلك من العناصر التي يتوقف عليها وجود الدولة وبقاؤها مرهوبة الجانب نافذة الكلمة قوية السلطان.
ولا يتم ذلك إلا بكثرة الافراد، بحيث يوجد في كل مجال من مجالات النشاط الانساني عدد وفير من العاملين، ولهذا قيل: " إنما العزة للكاثر ".
وسبيل هذه الكثرة إنما هو الزواج المبكر من جهة، والتعدد من جهة أخرى.
ولقد أدركت الدول الحديثة قيمة الكثرة العددية وآثارها في الانتاج، وفي الحروب، وفي سعة النفوذ، فعملت على زيادة عدد السكان بتشجيع الزواج ومكافأة من كثر نسله من رعاياها لتضمن القوة والمنعة.
ولقد فطن الرحالة الالماني " بول اشميد " الى الخصوبة في النسل لدى المسلمين، واعتبر ذلك عنصرا من عناصر قوتهم فقال في كتاب " الاسلام قوة الغد " الذي ظهر سنة 1936: " ان مقومات القوى في الشرق الاسلامي، تنحصر في عوامل ثلاثة: (أ) في قوة الاسلام " كدين "، وفي الاعتقاد به، وفي مثله، وفي تأخيه بين مختلفي الجنس، واللون، والثقافة.
(ب) وفي وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الاسلامي الذي يمتد من المحيط الاطلسي، على حدود مراكش غربا إلى المحيط الهادي على حدود أندونيسيا شرقا.
وتمثيل هذه المصادر العديدة لوحدة اقتصادية سليمة قوية ولاكتفاء ذاتي لا يدع المسلمين في حاجة مطلقا الى أوربا أو غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا.
(ج) وأخيرا أشار إلى العامل الثالث وهو: خصوبة النسل البشري لدى المسلمين، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة، ثم قال: " فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث فتأخى المسلمون على وحدة العقيدة

(2/115)


وتوحيد الله، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزايد عددهم، كان الخطر الاسلامي خطرا منذرا بفناء أوربا، وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله ".
ويقترح " بول أشميد " هذا، بعد أن فصل هذه العوامل الثلاثة، عن طريق الاحصاءات الرسمية، وعما يعرفه عن جوهر العقيدة الاسلامية، كما تبلورت في تاريخ المسلمين، وتاريخ ترابطهم وزحفهم لرد الاعتداء عليهم " أن يتضامن الغرب المسيحي - شعوبا وحكومات - ويعيدوا الحرب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر، ولكن في أسلوب نافذ حاسم (1) ".
3 - والدولة صاحبة الرسالة، كثيرا ما تتعرض لاخطار الجهاد، فتفقد عددا كبيرا من الافراد، ولا بد من رعاية أرامل هؤلاء الذين استشهدوا ولا سبيل إلى حسن رعايتهن إلا بتزويجهن.
كما أنه لا مندوحة عن تعويض من فقدوا، وإنما يكون ذلك بالاكثار من النسل، والتعدد من أسباب الكثرة.
4 - قد يكون عدد الاناث في شعب من الشعوب أكثر من عدد الذكور، كما يحدث عادة في أعقاب الحروب، بل تكاد تكون الزيادة في عدد الاناث مطردة في أكثر الامم، حتى في أحوال السلم، نظرا لما يعانيه الرجال غالبا من الاضطلاع بالاعمال الشاقة التي تهبط بمستوى السن عند الرجال أكثر من الاناث.
وهذه الزيادة توجب التعدد، وتفرض الاخذ به لكفالة العدد الزائد
وإحصانه، وإلا اضطرون إلى الانحراف واقتراف الرذيلة، فيفسد المجتمع وتنحل أخلاقه، أو إلى أن يقضين حياتهن في ألم الحرمان وشقاء العزوبة، فيفقدن أعصابهن، وتضيع ثروة بشرية كان يمكن أن تكون قوة للامة، وثروة تضاف إلى مجموع ثرواتها.
ولقد اضطرت بعض الدول التي زاد فيها عدد النساء على الرجال إلى إباحة التعدد، لانها لم ترحلا أمثل منه مع مخالفته لما تعتقده، ومنافاته لما ألفته ودرجت عليه.
__________
(1) ترجمة الاستاذ الدكتور محمد البهي.

(2/116)


قال الدكتور " محمد يوسف موسى ": أذكر أني وبعض اخواني المصريين دعينا عام 1948 - ونحن في باريس - لحضور مؤتمر الشباب العالمي بمدينة " ميونخ " بألمانيا.
وكان من نصيبي أن اشتركت أنا وزميل لي من المصريين في الحلقة التي كانت تبحث مشكلة زيادة عدد النساء بألمانيا أضعافا مضاعفة عن عدد الرجال بعد الحرب، وتستعرض ما يمكن أن يكون حلا طيبا لها.
وبعد استعراض سائر الحلول التي يعرفونها هناك ورفضها جميعا تقدمت وزميلي بالحل الطبيعي الوحيد، وهو إباحة تعدد الزوجات.
فقوبل هذا الرأي أولا بشئ من الدهشة والاشمئزاز، ولكنه بعد بحثه بحثا عادلا عميقا رأى المؤتمرون أنه لا حل غيره، وكانت النتيجة اعتباره توصية من التوصيات التي أقرها المؤتمر.
وكان مما سرني كثيرا بعد عودتي الى الوطن عام 1949 ما عرفته من أن بعض الصحف المصرية نشرت أن أهالي مدينة " بون: عاصمة ألمانيا الغربية " طلبوا أن ينص في الدستور على إباحة تعدد الزوجات.
5 - ثم إن استعداد الرجل للتناسل أكثر من استعداد المرأة، فهو مهيأ للعملية الجنسية منذ البلوغ إلى سن متأخرة.
بينما المرأة لا تتهيأ لذلك مدة الحيض (وهو دورة شهرية قد تصل إلى عشرة أيام) ولا تتهيأ كذلك مدة النفاس والولادة (وقد تصل هذه المدة الى أربعين يوما) يضاف الى ذلك ظروف الحمل والرضاع. واستعداد المرأة للولادة ينتهي بين الخامسة والاربعين والخمسين، بينما يستطيع الرجل الاخصاب إلى ما بعد الستين، ولا بد من رعاية مثل هذه الحالات ووضع الحلول السليمة لها.
فإذا كانت الزوجة في هذه الحالة عاجزة عن أداء الوظيفة الزوجية، فماذا يصنع الرجل أثناء هذه الفترة؟ وهل الافضل له أن يضم إليه حليلة تعف نفسه وتحصن فرجه يتخذ خليلة لا تربطه بها رابطة إلا الرابطة التي تربط الحيوانات بعضها ببعص؟! مع ملاحظة أن الاسلام يحرم الزنا أشد تحريم:.

(2/117)


" ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ".
ويقرر لمقترفه عقوبة رادعة: " الزانية والزاني، فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (1) ".
6 - وقد تكون الزوجة عقيما لا تلد، أو مريضة مرضا لا يرجى شفاؤها منه، وهي مع ذلك راغبة في استمرار الحياة الزوجية، والزوج راغب
في إنجاب الاولاد، وفي الزوجة التي تدبر شؤون بيته.
فهل من الخير للزوج أن يرضى بهذا الواقع الاليم، فيصطحب هذه العقيم دون أو يولد له، وهذه المريضة دون أن يكون له من يدبر أمر منزله، فيحتمل هذا الغرم كله وحده؟!.
أم الخير في أن يفارقها وهي راغبة في المعاشرة فيؤذيها بالفراق؟! أم يوفق بين رغبتها ورغبته، فيتزوج بأخرى ويبقي عليها فتلتقي مصلحته ومصحلتها معا؟! أعتقد أن الحل الاخير هو أهدى الحلول وأحقها بالقبول، ولا يسع صاحب ضمير حي وعاطفة نبيلة إلا أن يتقبله ويرضى به.
7 - وقد يوجد عند بعض الرجال - بحكم طبيعتهم النفسية والبدنية - رغبة جنسية جامحة، إذ ربما لا تشبعه امرأة واحدة، ولا سيما في بعض المناطق الحارة.
فبدلا من أن يتخذ خليلة تفسد عليه أخلاقه، أبيح له أن يشبع غريزته عن طريق حلال مشروع.
8 - هذه بعض الاسباب الخاصة والعامة التي لاحظها الاسلام، وهو يشرع لا لجيل خاص من الناس، ولا لزمن معين محدود، وإنما يشرع للناس جميعا إلى أن يرث الله الارض ومن عليها، فمراعاة الزمان والمكان لها اعتبارها، وتقدير ظروف الافراد لابد وأن يحسب حسابها.
والحرص على مصالح الامة - بتكثير سوادها ليكونوا عدتها في الحرب والسلم - من أهم الاهداف التي يستهدفها المشرع.

(2/118)


9 - ولقد كان لهذا التشريع والاخذ به في العالم الاسلامي فضل كبير
في بقائه نقيا بعيدا عن الرذائل الاجتماعية والنقائص الخلقية التي فشت في المجتمعات التي لا تؤمن بالتعدد ولا تعترف به.
فقد لوحظ في المجتمعات التي تحرم التعدد:
1 - شيوع الفسق، وانتشار الفجور، حتى زاد عدد البغايا عن عدد المتزوجات في بعض الجهات.
2 - وتبع ذلك كثرة المواليد من السفاح إذ بلغت نسبتها في بعض الجهات 50 % من مجموع المواليد هناك.
وفي الولايات المتحدة يولد في كل عام أكثر من مائتي ألف ولادة غير شرعية!!! نشرت جريدة الشعب في شهر أغسطس سنة 1959 ما يلي: " الرقم المذهل للاطفال غير الشرعيين الذي ولدوا في الولايات التحدة، أثار من جديد الجدل حول انحطاط مستوى الاخلاق في أمريكا، والحمل الذي يقع على عاتق دافع الضرائب الامريكي - نتيجة لتحمله نفقات هذا الجيش من الاطفال - ولا غرو فقد تعدى عدد هؤلاء المواليد ال " مائتي ألف " سنويا.
ولمواجهة هذه المشكلة تدرس الجهات الرسمية في بعض المجتمعات إمكانية تعقيم النساء اللاتي يحدن عن التعاليم الدينية.
ويتركز الجدل في أماكن أخرى، حول المقترحات التي تطالب بتخفيض الاعانات للامهات اللاتي يضعن أكثر من مولود واحد غير شرعي.
وتقول وزارات الصحة، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، في الولايات المتحدة: ان دافعي الضرائب في أمريكا سوف يتحملون هذا العام مبلغ 210 مليون دولارا لتغطية نفقات الاطفال غير الشرعيين، وذلك بواقع 27 دولارا و 29
سنتا شهريا لكل طفل.
وتقول الاحصاءات الرسمية ان عدد هؤلاء الاطفال ارتفع من " 87 ألفا و 900 " عام 1938 الى " 201 ألف و 700 " عام 1957.

(2/119)


كما تقدر وزارة الشؤون الاجتماعية عدد هؤلاء الاطفال في عام 1958 - 205 ألف طفل ... ولكن الخبراء يعتقدون أن الرقم الصحيح يتعدى هذا بكثير.
وتدل الاحصاءات الاخيرة على أن معدل هذه الولادات غير الشرعية في كل ألف، قد زاد ثلاثة أضعاف - خلال الجيلين الاخيرين - مع زيادة تنذر بالخطر بين الفتيات المراهقات.
ويعلن علماء علم الاجتماع حقيقة أخرى، وهي أن العلائلات المقتدرة تخفي عادة أن إحدى بناتها حملت بطريقة غير شرعية، وترسل الطفل بهدوء الى أسرة أخرى تتبناه ". انتهى.
3 - وأثمرت هذه الاتصالات الخبيثة الامراض البدنية والعقد النفسية والاضطرابات العصبية.
4 - وتسربت عوامل الضعف والانحلال إلى النفوس.
5 - وانحلت عرى الصلات الوثيقة بين الزوج وزوجته، واضطربت الحياة الزوجية وانفكت روابط الاسرة حتى لم تعد شيئا ذا قيمة.
6 - وضاع النسب الصحيح، حتى أن الزوج لا يستطيع الجزم بأن الاطفال الذين يقوم على تربيتهم هم من صلبه.
فهذه المفاسد وغيرها كانت النتيجة الطبيعية لمخالفة الفطرة والانحراف عن تعاليم الله، وهي أقوى دليل وأبلغ حجة على أن وجهة الاسلام هي أسلم وجهة، وأن تشريعه هو أنسب تشريع لانسان يعيش على الارض، وليس لملائكة يعيشون في السماء.
ولنختم هذه الكلمة بالسؤال والجواب اللذين أوردهما الفونس اتيين دينيه حيث قال: هل في زوال تعدد الزوجات فائدة أخلاقية؟ ثم أجاب: إن هذا أمر مشكوك فيه، فالدعارة التي تندر في أكثر الاقطار الاسلامية سوف تتفشى فيها، وتنشر آثارها المخربة.
وكذلك سوف يظهر في بلاد الاسلام داء لم تعرفه من قبل، هو عزوبة النساء التي تنتشر بآثارها المفسدة في البلاد المقصور فيها الزواج على واحدة،

(2/120)


وقد ظهر ذلك فيها بنسبة مفزعة، وخاصة عقب فترات الحروب (1) تقييد التعدد: ولقد كان سوء التطبيق، وعدم رعاية تعاليم الاسلام حجة ناهضة للذين يريدون أن يقيدوا تعدد الزوجات، وألا يباح للرجل أن يتزوج بأخرى إلا بعد دراسة القاضي أو غيره - من الجهات التي يناط بها هذا الامر - حالته ومعرفة قدرته المالية، والاذن له بالزواج.
ذلك أن الحياة المنزلية تتطلب نفقات باهظة، فإذا كثر أفراد الاسرة بتعدد الزوجات ثقل حمل الرجل، وضعف عن القيام بالنفقة عليهم، وعجز عن تربيتهم التربية التي تجعل منهم أفرادا صالحين، يستطعيون النهوض بتكاليف الحياة وتبعاتها، وبذلك يفشو الجهل، ويكثر المتعطلون، ويتشرد عدد كبير من أفراد الامة، فيشبون وهم يحملون جراثيم الفساد التي تنخر في عظامها.
ثم ان الرجل لا يتزوج في هذه الايام بأكثر من واحدة إلا لقضاة الشهوة أو الطمع في المال، فلا يتحرى الحكمة من التعدد، ولا يبتغي وجه المصلحة فيه، وكثيرا ما يعتدي على حق الزوجة التي تزوج عليها، ويضار أولاده منها، ويحرمهم من الميراث، فتشتعل نيران العداوة بين الاخوة والاخوات من الضرائر، ثم تنتشر هذه العداوة إلى الاسر، فيشتد الخصام، وتسعى كل زوجة للانتقام من الاخرى، وتكبر هذه الصغائر حتى تصل الى حد القتل في بعض الاحايين.
هذه بعض آثار التعدد، والتي اتخذ منها دليل التقييد.
ونبادر فنقول: إن العلاج لا يكون بمنع ما أباحه الله، وإنما يكون ذلك بالتعليم والتربية وتفقيه الناس في أحكام الدين.
ألا ترى أن الله أباح للانسان أن يأكل ويشرب دون أن يتجاوز الحد، فإذا أسرف في الطعام والشراب فأصابته الامراض وانتابته العلل، فليس ذلك راجعا الى الطعام والشراب بقدر ما هو راجع الى النهم والاسراف.
__________
(1) من كتاب " محمد رسول الله ": ترجمة الاستاذ الدكتور عبد الحليم محمود.

(2/121)


وعلاج مثل هذه الحالة لا يكون بمنعه من الاكل والشرب، وإنما يكون بتعليمه الادب الذي ينبغي مراعاته اتقاء لما يحدث من ضرر.
ثم إن الذين ذهبوا إلى حظر التعدد إلا بإذن من القاضي مستدلين بالواقع من أحوال الذين تزوجوا بأكثر من واحدة، جهلوا أو تجاهلوا المفاسد التي تنجم من الحظر، فان الضرر الحاصل من إباحة التعدد أخف من ضرر حظره، والواجب أن يتقى أشدهما باباحة أخفهما - تبعا لقاعدة ارتكاب أخف الضررين - وترك الامر للقاضي مما لا يمكن ضبطه، فليست هناك مقاييس صحيحة يمكن أن يعرف بها ظروف الناس وأحوالهم، وقد يكون ضره أقرب من نفعه.
ولقد كان المسلمون، من العهد الاول إلى يومنا هذا، يتزوجون بأكثر من واحدة، ولم يبلغنا أن أحدا حاول حظر التعدد، أو تقييده على النحو المقترح، فليسعنا ما وسعهم، وما ينبغي لنا أن نضيق رحمة الله الواسعة، وننتقص من التشريع الذي جمع من المزايا والفضائل ما شهد به الاعداء، فضلا عن الاصدقاء.
تاريخ تعدد الزوجات (1) :
الحقيقة أن هذا النظام كان سائدا قبل ظهور الاسلام في شعوب كثيرة.
منها: " العبريون " و " العرب " في الجاهلية، وشعوب " الصقالبة " أو " السلافيون ".
وهي التي ينتمي إليها معظم أهل البلاد التي نسميها الآن: " روسيا، وليتوانيا، وليثونيا، واستونيا، وبولونيا، وتشيكو سلوفاكيا ويوغوسلافيا ".
وعند بعض الشعوب الجرمانية والسكسونية التي ينتمي إليها معظم أهل البلاد التي تسميها الآن " ألمانيا، والنمسا، وسويسرا، وبلجيكا، وهولندا، والدانيمارك، والسويد، والنرويج، وانجلترا ".
فليس بصحيح إذن ما يدعونه من أن الاسلام هو الذي قد أتى بهذا النظام.
__________
(1) من كتاب حقوق الانسان في الاسلام: للاستاذ الدكتور علي عبد الواحد وافي.

(2/122)


والحقيقة كذلك أن نظام تعدد الزوجات لا يزال إلى الوقت الحاضر منتشرا في عدة شعوب لا تدين بالاسلام كأفريقيا، والهند، والصين، واليابان.
فليس بصحيح إذن ما يزعمونه من أن هذا النظام مقصور على الامم التي تدين بالاسلام.
والحقيقة كذلك أنه لا علاقة للدين المسيحي في أصله بتحريم التعدد.
وذلك أنه لم يرد في الانجيل نص صريح يدل على هذا التحريم.
وإذا كان السابقون الاولون إلى المسيحية من أهل أوربا قد ساروا على نظام وحدة الزوجة فما ذاك إلا لان معظم الامم الاوربية الوثنية التي انتشرت فيها المسيحية في أول الامر - وهي شعوب اليونان، والرومان - كانت تقاليدها تحرم تعدد الزوجات المعقود عليهن، وقد سار أهلها، بعد اعتناقهم المسيحية، على ما وجدوا عليه آباءهم من قبل.
إذن فلم يكن نظام وحدة الزوجة لديهم نظاما طارئا جاء به الدين الجديد الذي دخلوا فيه، وإنما كان نظاما قديما جرى عليه العمل في وثنيتهم الاولى، وكل ما هنالك أن النظم الكنسية المستحدثة بعد ذلك قد استقرت على تحريم تعدد الزوجات واعتبرت هذا التحريم من تعاليم الدين، على الرغم من أن أسفار الانجيل نفسها لم يرد فيها شئ يدل على هذا التحريم.
والحقيقة كذلك، أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب المتقدمة في الحضارة، على حين أنه قليل الانتشار أو منعدم في الشعوب البدائية المتأخرة كما قرر ذلك علماء الاجتماع ومؤرخو الحضارات، وعلى رأسهم " وستر مارك، وهو بهوس، وهيلير، وجنربرج ".
فقد لو حظ أن نظام وحدة الزوجية كان النظام السائد في أكثر الشعوب تأخرا وبدائية، وهي الشعوب التي تعيش على الصيد، أو جمع الثمار التي تجود بها الطبيعة عفوا، وفي الشعوب التي تتزحزح تزحزحا كبيرا عن بدائيتها، وهي الشعوب الحديثة العهد بالزراعة.
على حين أن نظام تعدد الزوجات لم يبد في صورة واضحة إلا في الشعوب التي قطعت مرحلة كبيرة في الحضارة، وهي الشعوب التي تجاوزت مرحلة الصيد البدائي إلى مرحلة استئناس الانعام وتربيتها ورعيها واستغلالها، والشعوب
التي تجاوزت جمع الثمار والزراعة البدائية إلى مرحلة الزراعة.

(2/123)


ويرى كثير من علماء الاجتماع ومؤرخي الحضارات أن نظام تعدد الزوجات سيتسع نطاقه حتما، ويكثر عدد الشعوب الآخذة به كلما تقدمت المدنية واتسع نطاق الحضارة.
فليس بصحيح إذن ما يزعمونه من أن نظام تعدد الزوجات مرتبط بتأخر الحضارة، بل عكس ذلك تماما هو المتفق مع الواقع.
هذا هو الوضع الصحيح لنظام التعدد من الناحية التاريخية، وهذا هو موقف المسيحية منه، وهذه هي الحقيقة فيما يتعلق بمدى انتشاره وارتباطه بتقدم الحضارة.
ولم نذكر ذلك لتبرير هذا النظام، وإنما ذكرناه لمجرد وضع الامور في نصابها، ولبيان ما تنطوي عليه حملة الفرنجة من تزييف للحقيقة والتاريخ.

(2/124)


الولاية على الزواج:
معنى الولاية: الولاية حق شرعي، ينفذ بمقتضاه الامر على الغير جبرا عنه.
وهي ولاية عامة، وولاية خاصة.
والولاية الخاصة ولاية على النفس، وولاية على المال.
والولاية على النفس هي المقصودة هنا. أي ولاية على النفس في الزواج.
شروط الولي: ويشترط في الولي: الحرية، والعقل، والبلوغ، سواء كان المولى عليه مسلما أو غير مسلم، فلاولاية لعبد، ولا مجنون، ولا صبي، لانه لا ولاية لواحد من هؤلاء على نفسه، فأولى ألا تكون له ولاية على غيره.
ويزاد على هذه الشروط شرط رابع، وهو الاسلام، إذا كان المولى عليه مسلما.
فإنه لا يجوز أن يكون لغير المسلم ولاية على المسلم لقول الله تعالى: " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (1) ".
عدم اشتراط العدالة:
ولا تشترط العدالة في الولي، إذ الفسق لا يسلب أهلية التزويج إلا إذا خرج به الفسق إلى حد التهتك، فإن الولي في هذه الحالة لا يؤتمن على ما تحت يده، فيسلب حقه في الولاية.
اعتبار ولاية المرأة على نفسها في الزواج: ذهب كثير من العلماء إلى أن المرأة لاتزوج نفسها ولا غيرها، وإلى أن الزواج لا ينعقد بعبارتها، إذ أن الولاية شرط في صحة العقد، وأن العاقد هو الولي، واحتجوا لهذا: 1 - يقول الله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين
__________
(1) سورة النساء آية 141.

(2/125)


من عبادكم وإمائكم " (1) .
2 - وبقوله سبحانه: " ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا (2) " ووجه الاحتجاج بالآيتين: أن الله تعالى خاطب بالنكاح الرجال، ولم يخاطب به النساء، فكأنه قال: " لا تنكحوا أيها الاولياء مولياتكم للمشركين.
3 - وعن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا نكاح إلا بولي ".
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححاه.
والنفي في الحديث يتجه إلى الصحة التي هي أقرب المجازين إلى الذات.
فيكون الزواج بغير ولي باطلا، كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها.
4 - وروى البخاري عن الحسن قال: " فلا تعضلوهن " قال: " حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك، وفرشتك، وأكرمتك، فطلقتها، ثم جئت تخطبها!!.
لا والله لا تعود إليها أبدا، وكان رجلا لا بأس به، وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه، فأنزل الله هذه الآية " فلا تعضلوهن " فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. قال: فزوجتها إياه ".
قال الحافظ في الفتح: ومن أقوى الحجج هذا السبب المذكور في نزول هذه الآية المذكورة، وهي أصرح دليل على اعتبار الولي، وإلا لما كان لعضله معنى، ولانها لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمره إليه لا يقال إن غيره منعه منه.
5 - وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا (3) فالسلطان ولي من لا ولي له ".
رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن.
__________
(1) سورة النور آية 32 (2) سورة البقر آية 222.
(3) أي امتنعوا عن التزويج.

(2/126)


قال القرطبي: وهذا الحديث صحيح.
ولا اعتبار بقول ابن علية عن ابن جريج أنه قال: سألت عنه الزهري، فلم يعرفه، ولم يقل هذا أحد عن ابن جريج غير ابن علية، وقد رواه جماعة عن الزهري ولم يذكروا ذلك، ولو ثبت هذا عن الزهري لم يكن في ذلك حجة.
لانه قد نقله عنه ثقات، منهم سليمان بن موسى، وهو ثقة إمام، وجعفر بن ربيعة، فلو نسيه الزهري لم يضره ذلك لان النسيان لا يعصم منه ابن آدم.
قال الحاكم: وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة وأم سلمة، وزينب، ثم سرد تمام ثلاثين حديثا.
وقال ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من أصحابه خلاف ذلك.
6 - قالوا: ولان الزواج له مقاصد متعددة، والمرأة كثيرا ما تخضع لحكم العاطفة، فلا تحسن الاختيار، فيفوتها حصول هذه المقاصد، فمنعت من مباشرة العقد وجعل إلى وليها، لتحصل على مقاصد الزواج على الوجه الاكمل.
قال الترمذي: والعمل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب (لانكاح إلا بولي) عند أهل العلم من أصحاب النبي: منهم عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وأبو هريرة، وابن عمر، وابن مسعود وعائشة.
وممن ذهب إلى هذا من فقهاء التابعين: سعيد بن المسيب والحسن البصري، وشريح، وإبراهيم النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وغيرهم.
وبهذا يقول سفيان الثوري، والاوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والشافعي وابن شبرمه، وأحمد، وإسحاق، وابن حزم، وابن أبي ليلى، والطبري، وأبو ثور.
وقال الطبري: في حديث حفصة - حين تأيمت، وعقد عليها عمر
النكاح، ولم تعقده هي - إبطال قول من قال: إن من قال: إن للمرأة البالغة المالكة لنفسها تزويج نفسها وعقد النكاح دون وليها، ولو كان ذلك لها لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع خطبة حفصة لنفسها، إذ كانت أولى بنفسها من أبيها وخطبها إلى من لا يملك أمرها ولا العقد عليها.

(2/127)


ويرى أبو حنيفة وأبو يوسف: أن المرأة العاقلة البالغة لها الحق في مباشرة العقد لنفسها.
بكرا كانت أو ثيبا. ويستحب لها أن تكل عقد زواجها لوليها. صونا لها عن التبذل إذا هي تولت العقد بمحضر من الرجال الاجانب عنها.
وليس لوليها العاصب (1) حق الاعتراض عليها، إلا إذا زوجت نفسها من غير الكفء أو كان مهرها أقل من مهر المثل.
فإن زوجت نفسها بغير كفء، وبغير رضا وليها العاصب، فالمروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف، والمفتى به في المذهب عدم صحة زواجها، إذ ليس كل ولي يحسن المرافعة، ولاكل قاض يعدل، فأفتوا بعدم صحة الزواج سدا لباب الخصومة.
وفي رواية أن للولي حق الاعتراض بأن يطلب من الحاكم التفريق، دفعا لضرر العار ما لم تلد من زوجها، أو تحبل حبلا ظاهرا، فإنه حينئذ يسقط حقه في طلب التفريق لئلا يضيع الولد، ومحافظة على الحمل من الضياع.
وإن كان الزوج كفئا، وكان المهر أقل من مهر المثل فإن من حق الولي أن يطالب بمهر مثلها، فإن قبل الزوج لزم العقد، وإن رفض رفع الامر للقاضي ليفسخه.
وإن لم يكن لها ولي عاصب.
بأن كانت لاولي لها أصلا، أولها ولي غير عاصب، فلاحق لاحد في الاعتراض على عقدها.
سواء زوجت نفسها من كفء أوغير كفء، بمهر المثل، أو أقل، لان الامر في هذه الحالة يرجع إليها وحدها، وأنها تصرفت في خالص حقها، وليس لها ولي يناله العار لزواجها من غير كفء، ومهر مثلها قد سقط بتنازلها عنه.
واستدل جمهور الاحناف بما يأتي:
1 - قول الله تعالى: " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (2) ".
2 - وقوله سبحانه: " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن (3) ".
__________
(1) العاصب: الوارث.
(2) سورة البقرة الآية 230.
(3) سورة البقرة الآية 232.

(2/128)


ففي هاتين الآيتين إسناد الزواج إلى المرأة.
والاصل في الاسناد أن يكون إلى الفاعل الحقيقي.
3 - ثم إنها تستقل بعقد البيع وغيره من العقود، فمن حقها أن تستقل بعقد زواجها، إذ لا فرق بين عقد وعقد.
وعقد الزواج وإن كان لاوليائها حق فيه فهو لم يلغ، إذ اعتبر في حالة ما إذا أساءت التصرف، وتزوجت من غير كفء، إذ أن سوء تصرفها يلحق عاره أولياءها.
قالوا: وأحاديث اشتراط الولاية في الزواج تحمل على ناقصة الاهلية، كأن تكون صغيرة، أو مجنونة.
وتخصيص العام، وقصره على بعض أفراده بالقياس جائز عند كثير من أهل الاصول.
وجوب استئذان المرأة قبل الزواج: ومهما يكن من خلاف في ولاية المرأة، فإنه يجب على الولي أن يبدأ بأخذ رأي المرأة.
ويعرف رضاها قبل العقد، إذ أن الزواج معاشرة دائمة، وشركة قائمة بين الرجل والمرأة، ولا يدوم الوثام ويبقى الود والانسجام ما لم يعلم رضاها، ومن ثم منع الشرع إكراه المرأة - بكرا كانت أو ثيبا - على الزواج، وإجبارها على من لارغبة لها فيه، وجعل العقد عليه قبل استئذانها غير صحيح، ولها حق المطالبة بالفسخ إبطالا لتصرفات الولي المستبد إذا عقد عليها:
1 - فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الثيب أحق بنفسها (1) من وليها. والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها (2) " رواه الجماعة إلا البخاري.
وفي رواية لاحمد، ومسلم، وأبي داود، والنسائي (والبكر يستأمرها أبوها) . أي يطلب أمرها قبل العقد عليها.
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أي أنها أحق بنفسها في أن الولي لا يعقد عليها إلا برضاها لا أنها أحق بنفسها أن تعقد على نفسها دون وليها.
(2) أي أن سكوتها إذن

(2/129)


قال: " لا تنكح الايم (1) حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن. قالوا: يا رسول الله: كيف إذنها؟ قال: أن تسكت ".
3 - وعن خنساء بنت خدام " أن أباها زوجها وهي ثيب، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها ".
أخرجه الجماعة إلا مسلما.
4 - وعن ابن عباس: " أن جارية بكرا، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي ". رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والدارقطني.
5 - وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: " جاءت فتاة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الامر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الامر شئ ". رواه ابن ماجه. ورجاله رجال الصحيح.
زواج الصغيرة:
هذا بالنسبة للبالغة، أما الصغيرة، فإنه يجوز للاب والجد تزويجها دون إذنها، إذ لا رأي لها، والاب والجد يرعيان حقها ويحافظان عليها.
وقد زوج أبو بكر رضي الله عنه ابنته عائشة أم المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صغيرة دون إذنها، إذ لم تكن في سن يعتبر فيها إذنها. وليس لها الخيار إذا بلغت.
واستحب الشافعية ألا يزوجها الاب أو الجد حتى تبلغ ويستأذنها، لئلا يوقعها في أسر الزواج وهي كارهة.
وذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز لغير الاب والجد من الاولياء أن يزوج الصغيرة، فإن زوجها لم يصح.
وقال أبو حنيفة والاوزاعي وجماعة من السلف: يجوز لجميع الاولياء ويصح، ولها الخيار إذا بلغت وهو الاصح، لما روي أن النبي صلى الله عليه.
__________
(1) الايم من لا زوج لها ولابد من تصريحها بالرضا بما يدل عليه من نطق أو غيره.

(2/130)


وسلم زوج أمامة بنت حمزة - وهي صغيرة -، وجعل لها الخيار إذا بلغت.
وإنما زوجها النبي صلى الله عليه لقربه منها، وولايته عليها، ولم يزوجها بصفته نبيا، إذ لو زوجها بصفته نبيا لم يكن لها حق الخيار إذا بلغت، لقول الله تعالى: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (1) " وهذا المذهب قال به من الصحابة عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأبو هريرة، رضي الله عنهم أجمعين.
ولاية الاجبار: تثبت ولاية الاجبار على الشخص الفاقد الاهلية مثل المجنون، والصبي غير المميز، كما تثبت هذه الولاية على الشخص الناقص الاهلية مثل الصبي، والمعتوه المميزين.
ومعنى ثبوت ولاية الاجبار، أن للولي حق عقد الزواج لمن له الولاية عليه من هؤلاء دون الرجوع إليهم لاخذ رأيهم.
ويكون عقده نافذا على المولى عليه دون توقف على رضاه.
وقد جعل الشارع هذه الولاية إجبارية للنظر في مصالح المولى عليه، إذ أن فاقد الاهلية، أو ناقصها عاجز عن النظر في مصالح نفسه.
وليس له من القدرة العقلية ما يستطيع بها أن يدرك مصلحته في العقود التي يعقدها، والتصرفات التي تصدر عنه بسبب الصغر أو الجنون أوالعته، ومن ثم فإن تصرفات فاقد الاهلية أو ناقصها ترجع إلى وليه.
إلا أن فاقد الاهلية إذا عقد عقد الزواج، فإن عقده يقع باطلا، إذ لا تعتبر عباراته في إنشاء العقود والتصرفات، لعدم التمييز الذي هو أصل الاهلية.
أما ناقص الاهلية إذا عقد عقد الزواج فإن عقده يقع صحيحا، متى توفرت الشروط اللازمة.
إلا أنه يتوقف على إجازة الولي، فإن شاء أجازه، وإن شاء رده.
__________
(1) سورة الاحزاب آية 36.

(2/131)


وقال الاحناف: إن ولاية الاجبار هذه تثبت للعصبات النسبية على الصغار، والمجانين، والمعتوهين.
أما غير الاحناف، فقد فرقوا بين الصغار وبين المجانين والمعاتهة، فاتفقوا على أن الولاية على المجانين والمعاتهة تثبت للاب، والجد، والوصي، والحاكم.
واختلفوا فيمن تثبت له هذه الولاية على الصغيرة والصغير فقال الامام مالك وأحمد: تثبت للاب، ووصيه فقط، ولا تثبت لغيرهما.
وذهب الشافعي إلى أنها تثبت للاب والجد.
من هم الاولياء؟
ذهب جمهور العلماء، منهم مالك والثوري، والليث والشافعي إلى أن الاولياء في الزواج هم العصبة، وليس للخال ولا للاخوة لام، ولا لولد الام، ولا لاي من ذوي الارحام ولاية.
قال الشافعي: لا ينعقد نكاح امرأة إلا بعبارة الولي القريب، فإن لم يكن فبعبارة الولي البعيد، فإن لم يكن فبعبارة السلطان (1) .
فإن زوجت نفسها بإذن الولي، أو بغير إذنه بطل الزواج، ولم يتوقف.
وعند أبي حنيفة أن لغير العصبة من الاقارب ولاية التزويج.
ولصاحب الروضة الندية تحقيق في هذا الموضوع.
قال: الذي ينبغي التعويل عليه عندي هو أن يقال: " إن الاولياء هم قرابة المرأة: الادنى فالادنى، الذين تلحقهم الغضاضة إذا تزوجت بغير كفء، وكان المزوج لها غيرهم ".
وهذا المعنى لا يختص بالعصبات، بلى قد يوجد في ذوي السهام، كالاخ لام، وذوي الارحام كإبن البنت.
وربما كانت الغضاضة معهما أشد منها مع بني الاعمام ونحوهم، فلا
__________
(1) أي أن الترتيب عنده يجب أن يكون هكذا: الاب، ثم الجد أبو الاب، ثم الاخ للاب والام، ثم الاخ للاب، ثم ابن الاخ للاب والام ثم ابن الاخ، ثم العم، ثم ابنه. على هذا الترتيب، ثم الحاكم. أي أنه لا يزوج أحد وهناك من هو أقرب منه، لانه حق مستحق بالتعصب، فأشبه الارث، فلو زوج احد منهم على خلاف هذا الترتيب المذكور لم يصح الزواج.

(2/132)


وجه لتخصيص ولاية النكاح بالعصابات، كما أنه لاوجه لتخصيصها بمن يرث.
ومن زعم ذلك فعليه الدليل أو النقل، بأن معنى الولي في النكاح شرعا أو لغة هو هذا.
قال: ولا ريب أن بعض القرابة أولى من بعض.
وهذه الاولوية ليست باعتبار استحقاق نصيب من المال، واستحقاق التصرف فيه حتى يكون كالميراث، أو كولاية الصغير، بل باعتبار أمر آخر، وهو ما يجده القريب من الغضاضة التي هي العار اللاصق به.
وهذا لا يختص بالعصبات، بل يوجد في غيرهم، ولاشك أن بعض القرابة أدخل في هذا الامر من بعض.
فالآباء والابناء أولى من غيرهم، ثم الاخوة لابوين، ثم الاخوة لاب، أو لام، ثم أولاد البنين، وأولاد البنات، ثم أولاد الاخوة، وأولاد الاخوات، ثم الاعمام، والاخوال، ثم هكذا من بعد هؤلاء.
ومن زعم الاختصاص بالبعض دون البعض فليأت بحجة.
وإن لم يكن بيده إلا مجرد أقوال من تقدمه فلسنا ممن يعول على ذلك (1) جواز تزويج الرجل نفسه من موليته: يجوز للرجل أن يزوج نفسه من المرأة التي يلي أمرها دون الاحتياج الى ولي آخر، إذا رضيت به زوجا لها.
فعن سعيد بن خالد عن أم حكيم بنت قارظ، قالت لعبد الرحمن بن عوف: إنه خطبني غير واحد، فزوجني أيهم رأيت.
قال: وتجعلين ذلك إلي؟ قالت: نعم.
قال: قد تزوجتك.
وقال مالك: لو قالت الثيب لوليها: زوجني بمن رأيت، فزوجها من نفسه، أو ممن اختار لها، لزمها ذلك، ولو لم تعليم عين الزوج.
وهذا مذهب الاحناف، والليث، والثوري، والاوزاعي.
وقال الشافعي، وداود: يزوجها السلطان، أو ولي آخر مثله، أو أقعد منه، لان الولاية شرط في العقد، فلا يكون الناكح منكحا كما لا يبيع من نفسه.
وناقش ابن حزم رأي الشافعي، وداود، فقال: وأما قولهم: إنه لا
__________
(1) ص 14 الروضة ج 2.

(2/133)


يجوز أن يكون الناكح هو المنكح، ففي هذا نازعناهم، بل جائز أن يكون الناكح هو المنكح، فدعوى كدعوى.
وأما قولهم: كما لا يجوز أن يبيع من نفسه، فهي جملة لا تصح كما ذكروا، بل جائز إن وكل ببيع شئ أن يبتاعه لنفسه إن لم يحابها بشئ، ثم ساق البرهان على صحة ما رجحه من أن البخاري روى عن أنس: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وأولم عليه بحيس ".
قال: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج مولاته من نفسه وهو الحجة على من سواه، ثم قال: قال الله تعالى: " وأنكحوا الايامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم (1) " فمن أنكح أيمة من نفسه برضاها فقد فعل ما أمره الله تعالى به، ولم يمنع الله عز وجل من أن يكون المنكح لايمة هو الناكح لها، فصح أنه الواجب.
غيبة الولي: إذا كان الولي الاقرب المستوفي شروط الولاية موجودا فلا ولاية للبعيد معه، فإذا كان الاب - مثلا - حاضرا لا يكون للاخ ولاية التزويج، ولا للعم، ولا لغيرهما.
فإن باشر واحد منهما زواج الصغيرة ومن في حكمها بغير إذن الاب وتوكيله كان فضوليا، وعقده موقوف على إجازة من له الولاية، وهو الاب.
أما إذا غاب الاقرب بحيث لا ينتظر الخاطب الكفء استطلاع رأيه، فإن الولاية تنتقل إلى من يليه، حتى لا تفوت المصلحة، وليس للغائب بعد عودته أن يعترض على ما باشره من يليه، لانه لغيبته اعتبر كالمعدوم، وصارت حق من يليه.
وهذا مذهب الاحناف وقال الشافعي: إذا زوجها من أولياتها الابعد - والاقرب حاضر -
__________
(1) سورة النور آية 42

(2/134)


فالنكاح باطل: وإذا غاب أقرب أوليائها لم يكن للذي يليه تزويجها، ويزوجها القاضي.
وقال في " بداية المجتهد ": اختلف في ذلك قول مالك، فمرة قال: إن زوج الابعد مع حضور الاقرب فالنكاح مفسوخ.
ومرة قال: النكاح جائز.
ومرة قال: للاقرب أن يجيز أو يفسخ.
قال: وهذا الخلاف كله فيما عدا الاب في ابنته البكر، والوصي في محجورته.
فإنه لا يختلف قوله: " إن النكاح في هذين مفسوخ " أعني تزويج غير الاب البنت البكر مع حضور الاب، أو غير الوصي المحجورة مع حضور الوصي.
ويوافق الامام مالك أبا حنيفة في انتقال الولاية إلى الولي البعيد في حالة ما إذا غاب الولي القريب.
الولي القريب المحبوس مثل البعيد: وفي المغني: " وإذا كان القريب محبوسا أو أسيرا في مسافة قريبة لاتمكن مراجعته فهو كالبعيد، فإن البعد لم يعتبر لعينه، بل لتعذر الوصول إلى التزويج بنظره.
وهذا موجود هاهنا، ولذلك إن كان لا يعلم أقريب أم بعيد، أو يعلم أنه قريب ولم يعلم مكانه فهو كالبعيد.
عقد الوليين: إذا عقد الوليان لامرأة، فإما أن يكون العقدان في وقت واحد، أو يكون أحدهما متقدما والآخر متأخرا.
فإن كان العقدان في وقت واحد بطلا.
وإن كانا مرتبين كانت المرأة للاول منهما، سواء دخل بها الثاني أم لا.
فإن دخل بها مع علمه بأنها معقود لها على غيره قبل عقده هو، كان زانيا مستحقا للحد.
وإن كان جاهلا ردت إلى الاول، ولا يقام عليه الحد لجهله.
فعن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما امرأة زوجها وليان فهي للاول منهما ".

(2/135)


رواه أحمد وأصحاب السنن، وصححه الترمذي.
فعموم هذا الحديث يقتضي أنها للاول، دخل بها الثاني، أم لم يدخل.
المرأة التي لاولي لها، ولا تستطيع أن تصل إلى القاضي: قال القرطبي: وإذا كانت المرأة بموضع لا سلطان فيه، ولا ولي لها، فإنها تصير أمرها إلى من يوثق به من جيرانها، فيزوجها، ويكون هو وليها في هذه الحال، لان الناس لابد لهم من التزويج وإنما يعملون فيه بأحسن ما يمكن (1) .
وعلى هذا قال مالك في المرأة الضعيفة الحال: إنه يزوجها من تسند أمرها إليه، لانها ممن تضعف عن السلطان، فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أن المسلمين أولياؤها.
وقال الشافعي: إذا كان في الرفقة امرأة لاولي لها فولت أمرها رجلا حتى زوجها جاز، لان هذا من قبيل التحكيم والمحكم يقوم مقام الحاكم.
عضل الولي:
اتفق العلماء على أنه ليس للولي أن يعضل موليته، ويظلمها بمنعها من الزواج، إذا أراد أن يتزوجها كفء بمهر مثلها، فإذا منعها في هذه الحال كان من حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليزوجها.
ولا تنتقل الولاية في هذه الحالة إلى ولي آخر يلي هذا الولي الظالم، بل تنتقل إلى القاضي مباشرة، لان العضل ظلم، وولاية رفع الظلم إلى القاضي.
فأما إذا كان الامتناع بسبب عذر مقبول، كأن يكون الزوج غير كفء،
أو المهر أقل من مهر المثل، أو لوجود خاطب آخر أكفأ منه، فإن الولاية في هذه الحال لا تنتقل عنه، لانه لا يعد عاضلا.
عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي، فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا له رجعة، تم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، فقلت: لا، والله لا أنكحها أبدا.
قال: ففي نزلت هذه الآية: " وإذا طلقتم النساء فبلغن
__________
(1) الجامع لاحكام القرآن ص 76 جزء 3

(2/136)


أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن (1) " الآية.
قال: فكفرت عن يميني، فأنكحتها إياه.
زواج اليتيمة:
يجوز تزويج اليتيمة قبل البلوغ.
ويتولى الاولياء العقد عليها، ولها الخيار بعد البلوغ.
وهو مذهب عائشة رضي الله عنها وأحمدو أبي حنيفة.
قال الله تعالى: " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن، وترغبون أن تنكحوهن " (2) .
قالت عائشة رضي الله عنها: " هي اليتيمة تكون في حجر وليها، فيرغب في نكاحها، ولا يقسط لها سنة صداقها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لها سنة صداقهن ".
وفي السنن الاربعة عنه صلى الله عليه وسلم " اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها ".
وقال الشافعي: لا يصح تزويج اليتيمة إلا بعد البلوغ، لقول الرسول
عليه الصلاة والسلام " اليتيمة تستأمر " ولا استئمار إلا بعد البلوغ، إذ لا فائدة من استئمار الصغيرة.
انعقاد الزواج بعاقد واحد:
إذا كان للشخص الواحد ولاية على الزوج والزوجة يجوز له أن يلي العقد، فللجد أن يزوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة، وكما إذا كان وكيلا.
ولاية السلطان (القاضي) : تنتقل الولاية إلى السلطان في حالتين: (الاولى) إذا تشاجر الاولياء.
(الثانية) إذا لم يكن الولي موجودا، ويصدق ذلك بعدمه مطلقا، أو غيبته.
فإذا حضر الكفء، ورضيت المرأة البالغة به، ولم يكن أحد من الاولياء حاضرا، بأن كان غائبا ولو في محل قريب، إذا كان خارجا عن بلد المرأة، ومن يريد زواجها.
فإن للقاضي في هذه الحالة حق العقد إلا أن ترضى
__________
(1) سورة البقرة آية 232 (2) سورة النساء آية 127.

(2/137)


المرأة ومن يريد التزوج بها انتظار قدوم الغائب، فذلك حق لها وإن طالت المدة.
أما مع عدم الرضا فلاوجه لايجاب الانتظار.
ففي الحديث: " ثلاث لا يؤخرن وهن: الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والايم إذا وجدت كفئا ".
رواه البيهقي وغيره عن علي "، وسنده ضعيف وقد ورد في الباب أحاديث كلها واهية، أمثلها هذا.

(2/138)


الوكالة في الزواج:
الوكالة، من العقود الجائزة في الجملة، لحاجة الناس إليها في كثير من معاملاتهم.
وقد اتفق الفقهاء على أن كل عقد جاز أن يعقده الانسان بنفسه، جاز أن يوكل به غيره، كالبيع، والشراء، والاجارة، واقتضاء الحقوق، والخصومة في المطالبة بها، والتزويج، والطلاق، وغير ذلك من العقود التي تقبل النيابة.
وقد كان النبي، صلوات الله وسلامه عليه، يقوم بدور الوكيل في عقد الزواج بالنسبة لبعض أصحابه.
روى أبو داود، عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: أترضى أن أزوجك فلانة؟ قال: نعم.
وقال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا؟ قالت: نعم.
فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها، ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا - وكان ممن شهد الحديبية - وكان من شهد الحديبية لهم سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة، ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر، فأخذت سهمه فباعته بمائة ألف.
وفي هذا الحديث دليل على أنه يصح أن يكون الوكيل وكيلا عن الطرفين.
وعن أم حبيبة: " أنها كانت فيمن هاجر إلى أرض الحبشة، فزوجها النجاشي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي عنده " رواه أبو داود.
وكان الذي تولى العقد عمرو بن أمية الضمري وكيلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكله بذلك.
وأما النجاشي، فهو الذي كان قد أعطى لها المهر فأسند التزويج إليه.

(2/139)


من يصح توكيله ومن لا يصح:
يصح التوكيل من الرجل العاقل البالغ الحر، لانه كامل الاهلية (1) .
وكل من كان كامل الاهلية، فإنه يملك تزويج نفسه بنفسه.
وكل من كان كذلك فإنه يصح أن يوكل عنه غيره.
أما إذا كان الشخص فاقد الاهلية، أو ناقصها، فإنه ليس له الحق في توكيل غيره، كالمجنون، والصبي، والعبد، والمعتوه، فإنه ليس لواحد منهم الاستقلال في تزويج نفسه بنفسه.
وقد اختلف الفقهاء في صحة توكيل المرأة البالغة العاقلة في تزويج نفسها، حسب اختلافهم في انعقاد الزواج بعبارتها.
فقال أبو حنيفة: يصح منها التوكيل كما يصح من الرجل، إذ من حقها أن تنشئ العقد.
وما دام ذلك حقا من حقوقها، فمن حقها أن توكل عنها من يقوم بإنشائه.
أما جمهور العلماء فإنهم قالوا: إن لوليها الحق في أن يعقد عليها من غير توكيل منها له.
وإن كان لابد من اعتبار رضاها كما تقدم.
وفرق بعض علماء الشافعية بين الاب والجد، وبين غيرهما من الاولياء.
فقالوا: إنه لا حاجة إلى توكيل الاب والجد، أو غيرهما فلابد من التوكيل منها له.
التوكيل المطلق والمقيد:
والتوكيل يجوز مطلقا ومقيدا: فالمطلق: أن يوكل شخص آخر في تزويجه دون أن يقيده بامرأة معينة، أو بمهر، أو بمقدار معين من المهر.
والمقيد: أن يوكله في التزويج، ويقيده بامرأة معينة.
أو امرأة من أسرة معيبة، أو بقدر معين من المهر.
وحكم التوكيل المطلق، أن الوكيل لا يتقيد بأي قيد عند أبي حنيفة.
فلو زوج الوكيل موكله بامرأة معيبة أو غير كفء، أو بمهر زائد عن مهر المثل
__________
(1) لابد من اعتبار هذه الشروط في التوكيل.
وقالت الاحناف يصح توكيل الصبي المميز والعبد.

(2/140)


جاز ذلك (1) ، وكان العقد صحيحا نافذا، لان ذلك مقتضى الاطلاق.
وقال أبو يوسف ومحمد: لابد أن يتقيد بالسلامة والكفاءة ومهر المثل.
ويتجاوز عن الزيادة اليسيرة التي يتغابن الناس فيها عادة.
وحجتهما: أن الذي يوكل غيره إنما يوكله ليكون عونا له على اختيار الاصلح بالنسبة إليه.
وترك التقييد لا يقتضي أن يأتي بأي امرأة، لان المفهوم أن يختار له امرأة مماثلة بمهر مماثل، ولابد من ملاحظة هذا المفهوم واعتباره، لان المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
وهذا هو الرأي الذي لا ينبغي التعويل إلا عليه.
وحكم التوكيل المقيد:
أنه لا تجوز فيه المخالفة إلا إذا كانت المخالفة إنى ما هو أحسن.
بأن تكون الزوجة التي اختارها الوكيل أجمل وأفضل من الزوجة التي عينها له، أو يكون المهر أقل من المهر الذي عينه.
فإذا كانت المخالفة إلى غير ذلك، كان العقد صحيحا غير لازم على الموكل.
فإن شاء أجازه، وإن شاء رده.
وقالت الاحناف: إن المرأة إذا كانت هي الموكلة، فإما أن توكله بمعين، أو غير معين.
فإن كان الاول، فلا ينفذ العقد عليها إلا إذا وافقها في كل ما أمرته به، سواء كان من جهة الزوج أو المهر.
وإن كان الثاني - وهو ما إذا أمرته بتزويجها بغير معين، كما إذا قالت له: وكلتك في أن تزوجني رجلا، فزوجها من نفسه، أو لابيه، أو لابنه - لا يلزم العقد، للتهمة.
فإن حصل ذلك توقف نفاذ العقد على إجازتها.
فإن زوجها بغير من ذكر: أي بأجنبي.
فإن كان الزوج كفئا، والمهر مهر المثل، لزم النكاح وليس لهاولا لوليها رده.
وإن كان الزوج كفثا، والمهر أقل من مهر المثل - وكان الغبن فاحشا - فلا ينفذ العقد، بل يكون موقوفا على إجازتها وإجازة وليها، لان كلامنهما له حق في ذلك.
__________
(1) ويستثنى من هذا ما فيه تهمة، كأن يزوجه ابنته، أو امرأة تحت ولايته، فانه لا ينفذ إلا برضا الموكل.

(2/141)


وإن كان الزوج غير كفء وقع العقد فاسدا.
سواء كان المهر أقل من مهر المثل، أو مساويا له، أو أكثر، ولا تلحقه الاجازة، لان الاجازة لا تلحق الفاسد وإنما تلحق الزواج الموقوف.
الوكيل في الزواج سفير ومعبر (1) :
تختلف الوكالة في الزواج عن الوكالة في العقود الاخرى، فالوكيل في الزواج ما هو إلا سفير ومعبر لاغير، فلا ترجع إليه حقوق العقد، فلا يطالب بالمهر (2) ولا بإدخال الزوجة في طاعة زوجها إذا كان وكيل الزوجة، ولا يقبض المهر عن الزوجة إذا كان وكيلا عنها إلا إذا أذنت له، فيكون إذنها توكيلا له بالقبض.
وهو غير توكيل الزواج الذي ينتهي بمجرد إتمام العقد.
__________
(1) أي سفير عن موكله ومعبر عن إرادته.
(2) إلا إذا ضمن المهر عن الزوج، فإنه يطالب به كضامن، لاكوكيل.

(2/142)


الكفاءة في الزواج:
تعريفها: الكفاءة: هي المساواة، والمماثلة.
والكفء والكفاء، والكفء: المثل والنظير.
والمقصود بها في باب الزواج أن يكون الزوج كفئا لزوجته.
أي مساويا لها في المنزلة، ونظير الها في المركز الاجتماعي، والمستوى الخلقي والمالي.
وما من شك في أنه كلما كانت منزلة الرجل مساوية لمنزلة المرأة، كان ذلك أدعى لنجاح الحياة الزوجية، وأحفظ لها من الفشل والاخفاق.
حكمها: ولكن ما حكم هذه الكفاءة؟ وما مدى اعتبارها؟.
أما ابن حزم، فذهب إلى عدم اعتبار هذه الكفاءة، فقال: " أي مسلم - ما لم يكن زانيا - فله الحق في أن يتزوج أية مسلمة، ما لم تكن زانية ".
قال: وأهل الاسلام كلهم إخوة لا يحرم على إبن من زنجية لغية (1) نكاح لابنة الخليفة الهاشمي.
والفاسق المسلم الذي بلغ الغاية من الفسق - ما لم يكن زانيا - كفء للمسلمة الفاسقة ما لم تكن زانية.
قال: والحجة قول الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة (2) " وقوله عز وجل مخاطبا جميع المسلمين: " نانكحوا ما طاب لكم من النساء.
" (3) وذكر عز وجل ما حرم علينا من النساء، ثم قال سبحانه: " وأحل لكم ما وراء ذلكم (4) ".
وقد أنكح رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب أم المؤمنين زيدا مولاه
و
__________
(1) لغية: غير معروفة النسب.
(2) سورة الحجرات آية 10 (3) سورة النساء آية 3.
(4) سورة النساء آية 24

(2/143)


وأنكح المقداد ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب.
قال: وأما قولنا في الفاسق والفاسقة فيلزم من خالفنا ألا يجيز للفاسق أن ينكح إلا فاسقة، وأن لا يجيز للفاسقة أن ينكحها إلا فاسق، وهذا لا يقوله أحد، وقد قال الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " (1) وقال سبحانه: " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض (2) ".
اعتبار الكفاءة بالاستقامة والخلق: وذهب جماعة إلى أن الكفاءة معتبرة، ولكن اعتبارها بالاستقامة والخلق خاصة، فلا اعتبار لنسب، ولا لصناعة، ولا لغنى، ولا لشئ آخر، فيجوز للرجل الصالح الذي لا نسب له أن يتزوج المرأة النسيبة، ولصاحب الحرفة الدنئية أن يتزوج المرأة الرفيعة القدر، ولمن لاجاه له أن يتزوج صاحبة الجاه والشهرة، وللفقير أن يتزوج المثرية الغنية - ما دام مسلما عفيفا - وأنه ليس لاحد من الاولياء الاعتراض، ولاطلب التفريق.
وإن كان غير مستوفي الدرجة مع الولي الذي تولى العقد ما دام الزواج كان عن رضى منها، فإذا لم يتوفر شرط الاستقامة عند الرجل فلا يكون كفئا للمرأة الصالحة، ولها الحق في طلب فسخ العقد إذا كانت بكرا وأجبرها أبوها على الزواج من الفاسق.
وفي بداية المجتهد: ولم يختلف المذهب - المالكية - أن البكر إذا زوجها الاب من شارب الخمر، وبالجملة من فاسق، أن لها أن تمنع نفسها من النكاح، وينظر الحاكم في ذلك، فيفرق بينهما، وكذلك إذا زوجها ممن ماله حرام،
أو ممن هو كثير الحلف بالطلاق، واستدل أصحاب هذا المذهب بما يأتي:
1 - ان الله تعالى قال: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم (3) ".
ففي هذه الآية تقرير أن الناس متساوون في الخلق، وفي القيمة الانسانية، وأنه لا أحد أكرم من أحد إلا من حيث تقوى الله عزوجل، بأداء حق الله وحق الناس.
__________
(1) سورة الحجرات آية 10.
(2) سورة التوبة آية 71.
(3) سورة الحجرات آية 13.

(2/144)


2 - وروى الترمذي بإسناد حسن عن أبي حاتم المزني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الارض وفساد كبير، قالوا يارسول اللهوإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه - ثلاث مرات - " ففي هذا الحديث توجيه الخطاب إلى الاولياء أن يزوجوا مولياتهم من يخطبهن من ذوي الدين والامانة والخلق، وإن لم يفعلوا ذلك بعدم تزويج صاحب الخلق الحسن، ورغبوا في الحسب، والنسب، والجاه، والمال، كانت الفتنة والفساد الذي لا آخر له.
3 - وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا بني بياضة أنكحوا أبا هند، وأنكحوا إليه " (1) وكان حجاما.
قال في معالم السنن: في هذا الحديث حجة لمالك ومن ذهب مذهبه في الكفاءة بالدين وحده دون غيره، وأبو هند مولى بني بياضة، ليس من أنفسهم.
4 - وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة، فامتنعت، وامتنع أخوها عبد الله، لنسبها في قريش، وأنها كانت بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، أمها أميمة بنت عبد المطلب، وأن زيدا كان عبدا، فنزل قول الله عزوجل: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (2) "، فقال أخوها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرني بما شئت. فزوجها من زيد.
5 - وزوج أبو حذيفة سالما من هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى لامرأة من الانصار.
6 - وتزوج بلال بن رباح بأخت عبد الرحمن بن عوف.
7 - وسئل الامام علي كرم الله وجهه عن حكم زواج الاكفاء، فقال: الناس بعضهم أكفاء لبعض، عربيهم وعجميهم، قرشيهم وهاشميهم إذا
__________
(1) أي زوجوه وتزوجوا منه.
(2) سورة الاحزاب آية 36

(2/145)


أسلموا وآمنوا.
وهذا مذهب المالكية.
قال الشوكاني: ونقل عن عمر، وابن مسعود، وعن محمد بن سيرين، وعمر بن عبد العزيز.
ورجحه ابن القيم فقال: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الكفاءة في الدين أصلا وكمالا، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولاعفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمرا وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسبا، ولا صناعة، ولا غنى، ولا حرفة.
فيجوز للعبد القن نكاح المرأة النسيبة الغنية إذا كان عفيفا مسلما.
وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيان، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات (1) .
مذهب جمهور الفقهاء: وإذا كان المالكية وغيرهم من العلماء الذين سبقت الاشارة إليهم، يرون أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والصلاح لا غير، فإن غير هؤلاء من الفقهاء يرون أن الكفاءة معتبرة بالاستقامة والصلاح، وأن الفاسق ليس كفئا للعفيفة، إلا أنهم لا يقصرون الكفاءة على ذلك، بل يرون أن ثمة أمورا أخرى لابد من اعتبارها.
ونحن نشير إلى هذه الامور فيما يأتي:
(أولا) النسب: فالعرب بعضهم أكفاء لبعض، وقريش بعضهم أكفاء لبعض ... فالاعجمي لا يكون كفئا للعربية، والعربي لا يكون كفئا للقرشية. ودليل ذلك:
1 - ما رواه الحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " العرب أكفاء بعضهم لبعض، قبيلة لقبيل، وحي لحي، ورجل لرجل، إلا حائكا أو حجاما ".
2 - وروى البزار عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) زاد المعاد جزء 4 ص 22.

(2/146)


" العرب بعضهم لبعض أكفاء، والموالي بعضهم أكفاء بعض ".
3 - وعن عمر قال: لامنعن تزوج ذوات الاحساب إلا من الاكفاء.
رواه الدارقطني.
وحديث ابن عمر سأل عنه ابن أبي حاتم أباه فقال: هذا كذب لا أصل له.
وقال الدارقطني في الملل: لا يصح.
قال ابن عبد البر: هذا منكر موضوع.
وأما حديث معاذ، ففيه سليمان بن أبي الجون.
قال بن القطان: لا يعرف.
ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ، ولم يسمع منه.
والصحيح أنه لا يثبت في اعتبار الكفاءة والنسب من حديث.
ولم يختلف الشافعية، ولا الحنفية في اعتبار الكفاءة بالنسب على هذا النحو المذكور.
ولكنهم اختلفوا في التفاضل بين القرشيين.
فالاحناف يرون أن القرشي كفء للهاشمية (1) .
أما الشافعية فإن الصحيح من مذهبهم أن القرشي ليس كفئا للهاشمية والمطلبية.
واستدلوا لذلك بما رواه واثلة بن الاسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار، من خيار، من خيار ".
رواه مسلم.
قال الحافظ في الفتح: والصحيح تقديم بني هاشم والمطلب على غيرهم، ومن عدا هؤلاء أكفاء لبعض.
والحق خلاف ذلك.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم زوج ابنتيه عثمان بن عفان، وزوج أبا العاص بن الربيع زينب، وهما من عبد شمس، وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وعمر عدوي.
على أن شرف العلم دونه كل نسب، وكل شرف، فالعالم كفء لاي امرأة، مهما كان نسبها، وإن لم يكن له نسب معروف، لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " الناس معادن، كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في
__________
(1) القرشي من كان من ولد النضر بن كنانة، والهاشمي من كان من ولد هاشم عبد مناف، والعرب من جمعهم أب فوق النضر.

(2/147)


الجاهلية خيارهم في الاسلام إذا فقهوا ".
وقول الله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (1) .
وقوله عزوجل: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (2) .
هذا بالنسبة للعرب، وأما غيرهم من الاعاجم فقيل: لا كفاءة بينهم بالنسب.
وروي عن الشافعي وأكثر أصحابه: أن الكفاءة معتبرة في أنسابهم فيما بينهم قياسا على العرب، ولانهم يعيرون إذا تزوجت واحدة منهم زوجا دونها نسبا، فيكون حكمهم حكم العرب لاتحاد العلة.
(ثانيا) الحرية: فالعبد ليس بكفء للحرة، ولا العتيق كفئا لحرة الاصل، ولا من مس الرق أحد آبائه كفئا لمن لم يمسها رق، ولا أحدا من آبائها، لان الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد، أو تحت من سبق من كان في آبائه مسترق.
(ثالثا) الاسلام: أي التكافؤ في إسلام الاصول.
وهو معتبر في غير العرب، أما العرب فلا يعتبر فيهم، لانهم اكتفوا بالتفاخر بأنسابهم، ولا يتفاخرون بإسلام أصولهم.
وأما غير العرب من الموالي والاعاجم، فيتفاخرون بإسلام الاصول،
وعلى هذا إذا كانت المرأة مسلمة لها أب وأجداد مسلمون، فإنه لا يكافئها المسلم الذي ليس له في الاسلام أب ولاجد، ومن لها أب واحد في الاسلام يكافؤها من له أب واحد فيه، ومن له أب وجد في الاسلام فهو كفء لمن لها أب وأجداد، لان تعريف المرء يتم بأبيه وجده، فلا يلتفت إلى ما زاد.
ورأي أبي يوسف أن من له أب واحد في الاسلام كفء لمن لها آباء، لان التعريف عنده يكون كاملا بذكر الاب، أما أبو حنيفة ومحمد فلا يكون التعريف عندهما كاملا إلا بالاب والحد.
__________
(1) سورة المجادلة: آية 11.
(2) سورة الزمر: آية 10.

(2/148)


(رابعا) الحرفة: إذا كانت المرأة من أسرة تمارس حرفة شريفة، فلا يكون صاحب الحرفة الدنيئة كفئا لها، وإذا تقاربت الحرف فلا اعتبار للتفاوت فيها.
والمعتبر في شرف الحرب ودنائتها العرف، فقد تكون حرفة ما شريفة في مكان ما، أو زمان ما، بينما هي دنيئة في مكان ما، أو زمان ما.
وقد استدل القائلون باعتبار الكفاءة بالحرفة بالحديث المتقدم: " العرب بعضهم أكفاء لبعض، إلى: حائكا أو حجاما ".
وقد قيل لاحمد بن حنبل رحمه الله: وكيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل على هذا.
قال في المغني: يعني أنه ورد موافقا لاهل العرف.
ولان أصحاب الصنائع الجليلة والحرف الشريفة يعتبرون تزويج بناتهم لاصحاب الصنائع الدنيئة - كالحائك، والدباغ، والكناس، والزبال - نقصا يلحقهم، وقد جرى عرف الناس بالتعيير بذلك، فأشبه النقص في النسب.
وهذا مذهب الشافعية، ومحمد وأبي يوسف من الحنفية.
ورواية عن أحمد وأبي حنيفة.
ورواية عن أبي يوسف أنها لا تعتبر إلا أن تفحش.
(خامسا) المال: وللشافعية اختلاف في اعتباره، فمنهم من قال باعتباره، فالفقير عند هؤلاء ليس بكفء للموسرة لما روى سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحسب المال، والكرم التقوى ".
قالوا: ولان نفقة الفقير دون نفقة الموسر.
ومنهم من قال: لا يعتبر، لان المال غاد ورائح، ولانه لا يفتخر به ذوو المروءات، وأنشدوا قول الشاعر: غنينا (1) زمانا بالتصعلك والفقر وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة غنانا، ولا أزرى بأحسابنا الفقر
__________
(1) غنينا رمانا: أي أقمنا، والتصعلك: الفقرو الصعلوك: الفقير، وعروة الصعاليك: رجل عربي كان يجمع الفقراء في مكان ويرزقهم مما يغنم.

(2/149)


وعند الاحناف اعتبار المال، والمعتبر فيه أن يكون مالكا المهر والنفقة، حتى إن من لم يملكهما، أو لا يملك أحدهما لا يكون كفئا.
والمراد بالمهر قدر ما تعارفوا تعجيله، لان ما وراءه مؤجل عرفا.
وعن أبي يوسف أنه اعتبر القدرة على النفقة دون المهر، لانه تجري المساهلة فيه، وبعد المرء قادرا عليه بيسار أبيه.
واعتبار المال في الكفاءة رواية عن أحمد، لان على الموسرة ضررا في إعسار زوجها، لاخلاله بنفقتها ومؤنة أولادها، ولان الناس يعتبرون الفقر نقصا، ويتفاضلون فيه كتفاضلهم في النسب، وأبلغ.
(سادسا) السلامة من العيوب: وقد اعتبر أصحاب الشافعي - وفيما ذكره ابن نصر عن مالك - السلامة من العيوب من شروط الكفاءة.
فمن به عيب مثبت للفسخ ليس كفئا للسليمة منه، فإن لم يكن مثبتا للفسخ عنده وكان منفرا كالعمى، والقطع، وتشويه الخلقة.
فوجهان، واختيار الروياني أن صاحبه ليس بكفء.
ولم يعتبرها الاحناف ولا الحنابلة.
وفي المغني: وأما السلامة من العيوب فليس من شروط الكفاءة، فإنه لا خلاف في أنه لا يبطل النكاح بعدمه، وكلنها تثبت الخيار للمرأة دون الاولياء، لان ضرره مختص بها، ولوليها منعها من نكاح المجذوم، والابرص والمجنون.
فيمن تعتبر؟
والكفاءة في الزواج معتبرة في الزوج دون الزوجة.
أي أن الرجل هو الذي يشترط فيه أن يكون كفئا للمرأة ومماثلا لها، ولا يشترط أن تكون المرأة كفئا للرجل (1) .
__________
(1) يرى الاحناف أن الكفاءة من جانب الزوجة معتبرة في حالتين:
1 - فيما إذا وكل الرجل عنه من يزوجه امرأة غير معيبة، فإنه يشترط لنفاذ تزويج الوكيل على الموكل أن يزوجه ممن تكافئه. كما تقدم في الوكالة.
2 - وفيما إذا كان الولي الذي زوج الصغيرة غير الاب الذي لم يعرف بسوء الاختيار فإنه يشترط لصحة التزويج أن تكون الزوجة كفئا له احتياطا لمصلحته.

(2/150)


ودليل ذلك:
(أولا) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كانت عنده جارية، فعلمها وأحسن تعليمها، وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران ".
رواه البخاري ومسلم.
(ثانيا) أن النبي صلى الله عليه وسلم لا مكافئ له في منزلته، وقد تزوج من أحياء العرب، وتزوج من صفية بنت حيي وكانت يهودية وأسلمت.
(ثالثا) أن الزوجة الرفيعة المنزلة، هي التي تعير هي وأولياؤها عادة، إذا تزوجت من غير الكفء.
أما الزوج الشريف فلا يعير إذا كانت زوجته خسيسة ودونه منزلة.
الكفاءة حق للمرأة والأولياء:
يرى جمهور الفقهاء أن الكفاءة حق للمرأة والاولياء، فلا يجوز للولي أن يزوج المرأة من غير كفء إلا برضاها ورضا سائر الاولياء (1) .
لان تزويجها بغير الكفء فيه إلحاق عار بها وبهم، فلم يجز من غير رضاهم جميعا.
فإذا رضيت، ورضي أولياؤها جاز تزويجها لان المنع لحقهم، فإذا رضوا زال المنع.
وقال الشافعية: هي لمن له الولاية في الحال.
وقال أحمد - في رواية: هي حق لجميع الاولياء: قريبهم وبعيدهم.
فمن لم يرض منهم فله الفسخ.
وفي رواية عن أحمد: أنها حق الله، فلو رضي الاولياء والزوجة بإسقاط الكفاءة لا يصح رضاهم، ولكن هذه الرواية مبنية على أن الكفاءة في الدين لا غير، كما جاء في إحدى الروايات عنه.
وقت اعتبارها: وإنما يعتبر وجود الكفاءة عند إنشاء العقد، فإذا تخلف وصف من أوصافها
__________
(1) إذا زوجت المرأة من غير كفء بغير رضاها وغير رضا الاولياء فقيل إن الزواج باطل، وقيل إنه صحيح، ويثبت فيه الخيار.
هذا عند الشافعية ورأي الاحناف مبين في الولاية.

(2/151)


بعد العقد فإن ذلك لا يضر، ولا يغير من الواقع شيئا، ولا يؤثر في عقد الزواج، لان شروط الزواج إنما تعتبر عند العقد.
فإن كان عند الزواج صاحب حرفة شريفة، أو كان قادرا على الانفاق، أو كان صالحا.
ثم تغيرت الظروف فاحترف مهنة دنيئة، أو عجز عن الانفاق أو فسق عن أمر ربه بعد الزواج.
فإن العقد باق على ما هو عليه ... فإن الدهر قلب، والانسان لا يدوم على حال واحدة.
وعلى المرأة أن تقبل الواقع، وتصبر وتتقي، فإن ذلك من عزم الامور.

(2/152)


الحقوق الزوجية:
إذا وقع العقد صحيحا نافذا ترتبت عليه آثاره، ووجبت بمقتضاه الحقوق الزوجية.
وهذه الحقوق ثلاثة أقسام:
1 - منها حقوق واجبة للزوجة على زوجها.
2 - ومنها حقوق واجبة للزوج على زوجته.
3 - ومنها حقوق مشتركة بينهما.
وقيام كل من الزوجين بواجبه، والاضطلاع بمسؤولياته هو الذي يوفر أسباب الاطمئنان والهدوء النفسي، وبذلك تتم السعادة الزوجية.
وفيما يلي تفصيل وبيان بعض هذه الحقوق: الحقوق المشتركة بين الزوجين:
والحقوق المشتركة بين الزوجين هي:
1 - حل العشرة الزوجية واستمتاع كل من الزوجين بالاخر.
وهذا الحل مشترك بينهما، فيحل للزوج من زوجته ما يحل لها منه..وهذا الاستمتاع حق للزوجين، ولا يحصل إلا بمشاركتهما معا، لانه لا يمكن أن ينفرد به أحدهما.
2 - حرمة المصاهرة: أي أن الزوجة تحرم على آباء الزوج، وأجداده، وأبنائه، وفروع أبنائه وبناته.
كما يحرم هو على أمهاتها، وبناتها، وفروع أبنائها وبناتها.
3 - ثبوت التوارث بينهما بمجرد إتمام العقد.
فإذا مات أحدهما بعد إتمام العقد ورثه الاخر ولو لم يتم الدخول.
4 - ثبوت نسب الولد من الزوج صاحب الفراش.

(2/153)


5 - المعاشرة بالمعروف: فيجب على كل من الزوجين أن يعاشر الاخر بالمعروف حتى يسودهما الوئام، ويظلهما السلام.
قال الله تعالى: " وعاشروهن بالمعروف (1) ".
الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها:
الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها منها:
1 - حقوق مالية: وهي المهر، والنفقة.
2 - وحقوق غير مالية: مثل العدل بين الزوجات إذا كان الزوج متزوجا بأكثر من واحدة، ومثل عدم الاضرار بالزوجة.
ونذكر تفصيل ذلك فيما يلي من صفحات ...
__________
(1) سورة النساء آية 19.

(2/154)


المهر:
من حسن رعاية الاسلام للمرأة واحترامه لها، أن أعطاها حقها في التملك، إذ كانت في الجاهلية مهضومة الحق مهيضة الجناح، حتى ان وليها كان يتصرف في خالص مالها، لا يدع لها فرصة التملك، ولا يمكنها من التصرف.
فكان أن رفع الاسلام عنها هذا الاصر، وفرض لها المهر، وجعله حقا على الرجل لها، وليس لابيها، ولا لاقرب الناس إليها أن يأخذ شيئا منها إلا في حال الرضا والاختيار قال الله تعالى: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (1) ".
: وآتوا النساء مهورهن عطاء مفروضا لا يقابله عوض، فإن أعطين شيئا من المهر بعد ما ملكن من غير إكراه ولا حياء ولا خديعة، فخذوه سائغا، لا غصة فيه، ولا إثم معه.
فإذا أعطت الزوجة شيئا من مالها حياء، أو خوفا، أو خديعة، فلا يحل أخذه.
قال تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟ وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟ (2) ".
وهذا المهر المفروض للمرأة، كما أنه يحقق هذا المعنى.
فهو يطيب نفس المرأة ويرضيها بقوامة الرجل عليها.
قال تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم (3) " مع ما يضاف إلى ذلك من توثيق الصلات، وإيجاد أسباب المودة والرحمة.
__________
(1) سورة النساء آية 4.
(2) سورة النساء آية 20، 21.
(3) سورة النساء الاية 34.

(2/155)


قدر المهر:
لم تجعل الشريعة حدا لقلته، ولا لكثرته، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، ولكل جهة عاداتها وتقاليدها، فتركت التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته، وحسب حالته، وعادات عشيرته، وكل النصوص جاءت تشير إلى أن المهر لا يشترط فيه إلا أن يكون شيئا له قيمة، بقطع النظر عن القلة والكثرة، فيجوز أن يكون خاتما من حديد، أو قدحا من تمر أو تعليما لكتاب الله، وما شابه ذلك، إذا تراضى عليه المتعاقدان.
1 - فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرضيت عن نفسك ومالك بنعلين؟ فقالت: نعم. فأجازه ".
رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي، وصححه.
2 - وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يارسول الله إني وهبت نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل، فقال: يارسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا، فقال: ما أجد شيئا، فقال: التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شئ؟ قال: نعم، سورة كذا، وسورة كذا، لسور يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكها بما معك من القرآن.
رواه البخاري ومسلم.
وقد جاء في بعض الروايات الصحيحة: " علمها من القرآن ".
وفي رواية أبي هريرة: أنه قدر ذلك بعشرين آية.
3 - وعن أنس: أن أبا طلحة خطب أم سليم، فقالت: " والله ما مثلك يرد، ولكنك كافر وأنا مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذلك مهري، ولا أسألك غيره.
فكان ذلك مهرها ".
فدلت هذه الاحاديث على جواز جعل المهر شيئا قليلا، وعلى جواز جعل المنفعة مهرا.
وأن تعلم القرآن من المنفعة.

(2/156)


وقد قدر الاحناف أقل المهر بعشرة دراهم، كما قدره المالكية بثلاثة.
وهذا التقدير لا يستند إلى دليل يعول عليه، ولا حجة يعتد بها.
قال الحافظ: وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شئ، وقال ابن القيم - تعليقا على ما تقدم من الاحاديث - وهذا هو الذي اختارته أم سليم من انتفاعها بإسلام أبي طلحة وبذل نفسها له إن أسلم.
وهذا أحب إليها من المال الذي يبذله الزوج، فإن الصداق شرع في الاصل حقا للمرأة تنتفع به، فإذا رضيت بالعلم والدين، وإسلام الزوج، وقراءته القرآن - كان هذا من أفضل المهور، وأنفعها، وأجلها.
فما خلا العقد عن مهر وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم، أو عشرة من النص، والقياس، إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصا وقياسا.
وليس هذا مستويا بين هذه المرأة وبين الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبة مجردة من ولي وصداق، بخلاف ما نحن فيه فإنه نكاح بولي وصداق، وإن كان غير مالي.
فإن المرأة جعلته عوضا عن المال، لما يرجع إليها من منفعة.
ولم تهب نفسها للزوج هبة مجردة، كهبة شئ من مالها بخلاف الموهوبة التي خص الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا مقتضى هذه الاحاديث.
وقد خالف في بعضه من قال: لا يكون الصداق إلا مالا، ولا يكون منافع أخر، ولا علمه ولا تعليمه صداقا كقول أبي حنيفة، وأحمد رحمهما الله في رواية عنه.
ومن قال: لا يكون أقل من ثلاثة دراهم كمالك رحمه الله وعشرة دراهم كأبي حنيفة رحمه الله.
وفيه أقوال أخرى شاذة لا دليل عليها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا قول صاحب.
ومن ادعى في هذه الاحاديث التي ذكرناها، اختصاصها بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنها منسوخة، أو أن عمل أهل المدينة على خلافها فدعوى لا يقوم عليها دليل. والاصل بردها.
وقد زوج سيد أهل المدينة من التابعين - سعيد بن المسيب - ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، بل عد ذلك

(2/157)


من مناقبه وفضائله.
وقد تزوج عبد الرحمن بن عوف على صداق خمسة دراهم وأقره النبي صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى إثبات المقادير إلا من جهة صاحب الشرع.
أما من حيث الكثرة، فإنه لا حد لاكثر المهر.
فعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى وهو على المنبر، أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم.
ثم نزل، فاعترضته امرأة من قريش، فقالت:
أما سمعت الله يقول: " وآتيتم إحداهن قنطارا "!.
فقال: اللهم عفوا، كل الناس أفقه من عمر، ثم رجع، فركب المنبر، فقال: " إني كنت قد نهيتكم أن تزيدوا في صدقاتهن على أربعمائة درهم، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ".
رواه سعيد بن منصور، وأبو يعلى بسند جيد.
وعن عبد الله بن مصعب أن عمر قال: " لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من فضة، فمن زاد أوقية جعلت الزيادة في بيت المال " فقالت امرأة: ما ذاك لك.
قال: ولم؟.
فقالت: لان الله تعالى يقول: و " آتيتم إحداهن قنطارا ".
فقال عمر: امرأة أصابت، ورجل أخطأ.
كراهة المغالاة في المهور:
ومهما يكن من شئ فإن الاسلام يحرص على إتاحة فرص الزواج لاكثر عدد ممكن من الرجال والنساء، ليستمتع كل بالحلال الطيب. ولا يتم ذلك إلا إذا كانت وسيلته مذللة، وطريقته ميسرة.
بحيث يقدر عليه الفقراء الذين يجهدهم بذل المال الكثير، ولا سيما أنهم الاكثرية، فكره الاسلام التغالي في المهور، وأخبر أن المهر كلما كان قليلا كان الزواج مباركا، وأن قلة المهر من يمن المرأة.
فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة ".
وقال: " يمن المرأة خفة مهرها، ويسر نكاحها، وحسن خلقها.

(2/158)


وشؤمها غلاء مهرها، وعسر نكاحها، وسوء خلقها ".
وكثير من الناس جهل هذه التعاليم، وحاد عنها وتعلق بعادات الجاهلية من التغالي في المهور، ورفض التزويج إلا إذا دفع الزوج قدرا كبيرا من المال يرهقه، ويضايقه، كأن المرأة سلعة يساوم عليها، ويتجر بها.
وقد أدى ذلك إلى كثرة الشكوى، وعانى الناس من أزمة الزواج التي أضرت بالرجال والنساء على السواء، ونتج عنها كثير من الشرور والمفاسد، وكسدت سوق الزواج، وأصبح الحلال أصعب منالا من الحرام.
تعجيل المهر وتأجيله:
يجوز تعجيل المهر وتأجيله، أو تعجيل البعض، وتأجيل البعض الاخر، حسب عادات النساء، وعرفهم.
ويستحب تعجيل جزء منه، لما روى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم منع عليا أن يدخل بفاطمة حتى يعطيها شيئا.
فقال: ما عندي شئ.
فقال: فأين درعك الحطمية؟ فأعطاه إياها.
رواه أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه.
وروى أبو داود، وابن ماجه عن عائشة قالت: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدخل امرأة على زوجها قبل أن يعطيها شيئا ".
فهذا الحديث يدل على أنه يجوز دخول المرأة قبل أن يقدم لها شيئا من المهر.
وحديث ابن عباس يدل على أن المنع كان على سبيل الندب.
قال الاوزاعي: " كانوا يستحسنون ألا يدخل عليها حتى يقدم لها شيئا " وقال الزهري: " بلغنا في السنة ألا يدخل بامرأة حتى يقدم يكسو كسوة. ذلك مما عمل به المسلمون ".
وللزوج أن يدخل على زوجته. وعليها أن تسلم نفسها إليه، ولا تمتنع عليه ولو لم يعطها ما اشترط تعجيله لها من المهر - وإن كان يحكم لها به.
قال ابن حزم: " ومن تزوج فسمى صداقا أو لم يسم فله الدخول بها أحبت أم كرهت مقضي لها بما سمى لها، أحب أم كره، ولا يمنع من

(2/159)


أجل ذلك من الدخول بها، لكن يقضى له عاجلا بالدخول ويقضى لها عليه حسب ما يوجد عنده من الصداق.
فإن كان لم يسم لها شيئا قضي عليه بمهر مثلها، إلا أن يتراضيا بأقل أو أكثر ".
وقال أبو حنيفة: " إن له أن يدخل بها أحبت أم كرهت، إن كان مهرها مؤجلا لانها هي التي رضيت بالتأجيل وهذا لا يسقط حقه.
وإن كان معجلا كله أو بعضه لم يجز له أن يدخل بها حتى يؤذي إليها ما اشترط لها تعجيله، ولها أن تمنع نفسها منه حتى يوفيها ما اتفقوا على تعجيله ".
قال ابن المنذر: " أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهرها " وقد ناقش صاحب المحلى هذا الرأي.
فقال: " لا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه من حين يعقد عليها الزوج فإنها زوجة له.
فهو حلال لها، وهي حلال له.
فمن منعها منه حتى يعطيها الصداق أو غيره، فقد حال بينه وبين امرأته، بلا نص من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم ".
لكن الحق ما قلنا: ألا يمنع حقه منها ولا تمنع هي حقها من صداقها، لكن له الدخول عليها - أحبت أم كرهت - ويؤخذ مما يوجد له صداقها، أحب أم كره..وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تصويب قول القائل: " أعط كل
ذي حق حقه ".
متى يجب المهر المسمى كله:
يجب المهر المسمى كله في إحدى الحالات الاتية:
1 - إذا حصل الدخول الحقيقي لقول الله تعالى: " وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا.
أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا؟ وكيف

(2/160)


تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا؟! " (1)
2 - إذا مات أحد الزوجين قبل الدخول. وهو مجمع عليه.
3 - ويرى أبو حنيفة: أنه إذا اختلى بها خلوة صحيحة، استحقت الصداق المسمى.
وذلك بأن ينفرد الزوجان في مكان يأمنان فيه اطلاع أحد عليهما، ولم يكن بأحد منهما مانع شرعي، مثل أن يكون أحدهما صائما صيام فرض عليه، أو تكون حائضا.
أو مانع حسي، مثل مرض أحدهما مرضا لا يستطيع معه الدخول الحقيقي، أو مانع طبيعي بأن يكون معهما ثالث.
واستدل أبو حنيفة بما رواه أبو عبيدة عن زائدة بن أبي أوفى، قال: " قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أغلق الباب، وأرخى الستر، فقد وجب الصداق ".
وروى وكيع عن نافع بن جبير قال: " كان أصحاب رسول الله يقولون: إذا أرخى الستر وأغلق الباب، فقد وجب الصداق ".
ولان التسليم المستحق وجد من جهتها فيستقر به البدل.
وخالف في ذلك الشافعي، ومالك وداود فقالوا: " لا يستقر المهر كله إلا بالوطء (2) ، ولا يجب بالخلوة الصحيحة إلا نصف المهر، لقول الله تعالى " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم. (3) .
أي ان نصف ما فرض من المهر يجب إذا وقع الطلاق قبل المسيس الذي هو الدخول الحقيقي.
وفي حالة الخلوة لم يقع مسيس، فلا يجب المهر كله.
قال شريح: " لم أسمع الله ذكر في كتابه بابا، ولا سترا.
إذا زعم أنه لم يمسها فلها نصف الصداق ".
__________
(1) سورة النساء آية 20، 21.
(2) إلا أن مالكا قال: إذا بنى عليها وطالت هذه الخلوة - فإن المهر يستقر وإن لم يطأ وحدده ابن قاسم من أتباعه بعام.
(3) سورة البقرة آية 237.

(2/161)


وروى سعيد بن منصور عن ابن عباس أنه كان يقول في رجل دخلت عليه امرأته، ثم طلقها، فزعم أنه لم يمسها: " عليه نصف الصداق ".
وروى عبد الرزاق عنه قال: " لا يجب الصداق وافيا حتى يجامعها ".
وجوب المهر المسمى بالدخول في الزواج الفاسد: إذا عقد الرجل على المرأة، ودخل بها، ثم تبين فساد الزواج لسبب من الاسباب، وجب المهر المسمى كله، لما رواه أبو داود: أن بصرة بن أكثم تزوج امرأة بكرا في كسرها فدخل عليها، فإذا هي حبلى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لها الصداق بما استحللت من فرجها " وفرق بينهما.
ففي هذا الحديث وجوب المهر المسمى في النكاح الفاسد كما أنه تضمن فساد النكاح وبطلانه إذا تزوجها فوجدها حبلى من الزنا.
الزواج بغير ذكر المهر: الزواج بغير ذكر المهر، ويسمى " زواج التفويض " يصح في قول عامة أهل العلم، لقول الله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة (1) ".
ومعنى الاية: أنه لا إثم على من طلق زوجته قبل المسيس، وقبل أن يفرض لها مهرا.
فإذا تزوج بغير ذكر المهر، واشترط أن لا مهر عليه فقيل: إن الزواج غير صحيح، وإلى هذا ذهبت المالكية وابن حزم.
قال: وأما لو اشترط فيه أن لا صداق، فهو مفسوخ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل ".
وهذا شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، بل في كتاب الله عز وجل إبطاله.
قال الله تعالى: " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ".
فإذن هو باطل، فالنكاح المذكور لم تنعقد صحته إلا على تصحيح ما لا يصح، فهو نكاح لا صحة له.
__________
(1) سورة البقرة: الاية 236.

(2/162)


وذهبت الاحناف إلى القول بالجواز، إذ المهر ليس ركنا ولا شرطا في عقد الزواج.
وجوب مهر المثل بالدخول أو بالموت قبله: وإذا دخل بها الزوج، أو مات قبل الدخول بها، في هذه الحال، فللزوجة
مهر المثل والميراث، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود أنه قال في مثل هذه المسألة: " أقول فيها برأيي - فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني -: أرى لها صداق امرأة من نسائها: لاوكس (1) ، ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار، فقال، أشهد لقضيت فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع واشق.
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، وأحمد، وداود، وأصح قولي الشافعي.
مهر المثل:
مهر المثل هو المهر الذي تستحقه المرأة، مثل مهر من يماثلها وقت العقد في السن، والجمال، والمال، والعقل، والدين، والبكارة، والثيوبة، والبلد، وكل ما يختلف لاجله الصداق، كوجود الولد أو عدم وجوده، إذ أن قيمة المهر للمرأة تختلف عادة باختلاف هذه الصفات.
والمعتبر في المماثلة من جهة عصبتها كأختها وعمتها وبنات أعمامها.
وقال أحمد: هو معتبر بقراباتها من العصبات وغيرهم من ذوي أرحامها.
وإذا لم توجد امرأة من أقرباتها من جهة الاب متصفة بأوصاف الزوجة التي نريد تقدير مهر المثل لها، كان المعتبر مهر امرأة أجنبية من أسرة تماثل أسرة أبيها.
زواج الصغيرة بأقل من مهر المثل: ذهب الشافعي، وداود، وابن حزم، والصاحبان، من الاحناف، إلى أنه لا يجوز للاب أن يزوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها، ولا يلزمها
__________
(1) لا وكس: لا نقص عن مهر نسائها ولا شطط ولا زيادة.

(2/163)


حكم أبيها في ذلك، وتبلغ إلى مهر مثلها ولا بد، إذ أن المهر حق لها، ولا
حكم لابيها في مالها..وقال أبو حنيفة: إذا زوج الاب ابنته الصغيرة، ونقص من مهرها، جاز ذلك عليها، ولا يجوز ذلك لغير الاب والجد.
تشطير المهر:
يجب على الزوج نصف المهر إذا طلق زوجته قبل الدخول بها، وكان قد فرض لها قدر الصداق، لقوله تعالى: " وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون (1) أو يعفو الذي بيده عقدة (2) النكاح، وأن تعفوا أقرب للتقوى.
ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (3) ".
وجوب المتعة:
إذا طلق الرجل زوجته قبل الدخول، ولم يفرض لها صداقا، وجب عليه المتعة تعويضا لها عما فاتها.
وهذا نوع من التسريح الجميل، والتسريح بإحسان، قال الله تعالى: " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (4) ".
وقد أجمع العلماء على أن التي لم يفرض لها، ولم يدخل بها، لا شئ لها غير المتعة.
والمتعة تختلف باختلاف ثروة الرجل. وليس لها حد معين، قال الله تعالى: " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة.
ومتعوهن على
__________
(1) يعفون: أي النساء المكلفات.
(2) بيده عقده النكاح: هو الزوج وقيل هو الولي.
(3) سورة البقرة الاية 237.
(4) سورة البقرة الاية: 229.

(2/164)


الموسع (1) قدره (2) وعلى المقتر (3) قدره، متاعا بالمعروف (4) حقا على المحسنين (5) .
سقوط المهر:
ويسقط المهر كله عن الزوج، فلا يجب عليه شئ للزوجة في كل فرقة كانت قبل الدخول من قبل المرأة، كأن ارتدت عن الاسلام.
أو فسخت العقد لاعساره، أو عيبه، أو فسخه هو بسبب عيبها، أو بسبب خيار البلوغ.
ولا يجب لها متعة، لانها أتلفت المعوض قبل تسليمه، فسقط البلد كله كالبائع يتلف المبيع قبل تسليمه.
ويسقط المهر كذلك، إذا أبرأته قبل الدخول بها أو وهبته له، فإنه في هذه الحال يسقط بإسقاطها له.
وهو حق خالص لها.
الزيادة على الصداق بعد العقد: قال أبو حنيفة: إن الزيادة على الصداق بعد العقد ثابتة إن دخل بالزوجة، أو مات عنها، فأما إن طلقها قبل الدخول، فإنها لا تثبت، وكان لها نصف المسمى فقط (6) .
وقال مالك: الزيادة ثابتة إن دخل بها، فإن طلقها قبل الدخول فلها نصفها مع نصف المسمى.
وإن مات قبل الدخول وقبل القبض بطلت، وكان لها المسمى بالعقد.
وقال الشافعي: هي هبة مستأنفة.
إن قبضها جازت وإن لم يقبضها بطلت.
وقال أحمد: حكمها حكم الاصل.
مهر السر ومهر العلانية:
إذا اتفق العاقدان في السر على مهر، ثم تعاقدا في العلانية بأكثر منه.
__________
(1) الموسع: ذو السعة وهى البسطة والغنى.
(2) قدره: طاقته.
(3) المقتر الفقير قليل المال.
(4) متاعا بالمعرو ف: المعروف ما يتعارف عليه الناس بينهم.
(5) سورة البقرة الاية 236.
(6) هذا ما جرى عليه العمل.

(2/165)


ثم اختلفا إلى القضاء فبم يحكم القاضي.
؟ قال أبو يوسف: يحكم بما اتفقا عليه سرا، لانه يمثل الارادة الحقيقية وهو مقصد العاقدين.
وقيل: يحكم بمهر العلانية، لانه هو المذكور في العقد، وما كان سرا فعلمه إلى الله، والحكم يتبع الظاهر.
وهو مذهب أبي حنيفة، ومحمد، وظاهر قول أحمد في رواية الاثرم، وقول الشعبي وابن أبي ليلى، وأبي عبيد.
قبض المهر:
إذا كانت الزوجة صغيرة، فللاب قبض صداقها، لانه يلي مالها، فكان له قبضه كثمن مبيعها.
وإن لم يكن لها أب ولا جد، فلوليها المالي قبض صداقها، ويودعه في المحاكم الحسبية، ولا يتصرف فيه إلا بإذن من المحكمة المختصة.
أما صداق الثيب الكبيرة فلا يقبضه إلا بإذنها، إذا كانت رشيدة، لانها المتصرفة في مالها.
والاب إذا قبض المهر بحضرتها، اعتبر ذلك إجازة منها بالقبض إذا سكتت، وتبرأ ذمة الزوج، لان إذنها في قبض صداقها كثمن مبيعها.
وفي البكر البالغة العاقلة: أن الاب لا يقبض صداقها إلا بإذنها إذا كانت رشيدة (1) ، كالثيب.
وقيل: له قبضه بغير إذنها، لانها العادة، ولانها تشبه الصغيرة.
__________
(1) سن الرشد بمقتضى القوانين المصرية إحدى وعشرون سنة

(2/166)


الجهاز الجهاز هو الاثاث الذي تعده الزوجة هي وأهلها ليكون معها في البيت، إذا دخل بها الزوج.
وقد جرى العرف، على أن تقدم الزوجة، وأهلها، بإعداد الجهاز وتأثيث البيت.
وهو أسلوب من أساليب إدخال السرور على الزوجة بمناسبة زفافها.
وقد روى النسائي عن علي رضي الله عنه قال: " جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة في خميل، وقربة، ووسادة حشوها إذخر ".
وهذا مجرد عرف جرى عليه الناس، وأما المسؤول عن إعداد البيت إعدادا شرعيا، وتجهيز كل ما يحتاج له من الاثاث، والفرش، والادوات، فهو الزوج، والزوجة لا تسأل عن شئ من ذلك، مهما كان مهرها، حتى ولو كانت زيادة المهر من أجل الاثاث، لان المهر إنما تستحقه الزوجة في مقابل الاستمتاع بها، لا من أجل إعداد الجهاز لبيت الزوجية، فالمهر حق خالص لها، ليس لابيها، ولا لزوجها، ولا لاحد حق فيه.
وقد رأى المالكية: أن المهر ليس حقا خالصا للزوجة، ولهذا لا يجوز لها أن تنفق منه على نفسها، ولا تقضي منه دينا عليها، وإن كان للمحتاجة أن تنفق منه، وتلتمس بالشئ القليل بالمعروف، وأن تقضي منه الدين القليل كالدينار إذا كان المهر كثيرا.
وإنما ليس لها شئ من ذلك الذي ذكرناه، لان عليها أن تتجهز لزوجها بالمعروف، أي بما جرت به العادة في جهاز مثلها لمثله بما قبضته من المهر قبل الدخول، إن كان حالا، أو بما تقبضه منه إذا كان مؤجلا، وحل الاجل
__________
(1) الخميل: القطيفة، وهي كل ثوب له خميل ووبر من أي شئ والاذخر نبت طيب الرائحة تحشى به الوسائد

(2/167)


قبل الدخول بها، فإن تأخر قبض شئ من المهر حتى دخل زوجها بها، لم يكن عليها أن تتجهز بشئ مما تقبضه من بعد إلا إذا كان ذلك مشروطا، أو جرى به العرف.
وقد استوحى واضعو مشروع قانون الاحوال الشخصية، مذهب الامام مالك في هذه الناحية، فقد جاء في المادة رقم 66 منه: " أن الزوجة تلتزم بتجهيز نفسها بما يتناسب وما تعجل من مهر قبل الدخول، ما لم يتفق على غير ذلك، فإذا لم يعجل شئ من المهر فلا تلتزم بالجهاز، إلا بمقتضى الاتفاق أو العرف " (1) .
والجهاز إذا اشترته الزوجة بمالها، أو اشتراه لها أبوها فهو ملك خالص لها، ولاحق للزوج ولا لغيره فيه، ولها أن تمكن زوجها وضيوفه من الانتفاع به، كما أن لها أن تمتنع عن التمكين من الانتفاع، وإذا امتنعت لا تجبر عليه.
وقال مالك: يجوز للزوج أن ينتفع بجهاز زوجته الانتفاع الذي جرى به العرف.
__________
(1) ص 214 أحكام الاحوال الشخصية الدكتور يوسف موسى

(2/168)


النفقة:
المقصود بالنفقة هنا: توفير ما تحتاج إليه الزوجة من طعام، ومسكن، وخدمة، ودواء، وإن كانت غنية.
وهي واجبة بالكتاب، والسنة، والاجماع.
أما وجوبها بالكتاب:
1 - فلقول الله تعالى: " وعلى الولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
ولا تكلف نفس إلا وسعها " (1) .
والمراد بالمولود له: الاب.
والرزق في هذا الحكم: الطعام الكافي: والكسوة.
اللباس والمعروف: المتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط.
2 - وقوله سبحانه: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " (2) .
3 - وقوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " (3) .
وأما وجوبها بالسنة:
1 - فقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه
__________
(1) سورة البقرة آية 233.
(2) سورة الطلاق آية 6.
(3) سورة الطلاق آية 7.

(2/169)


فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن، وكسونهن بالمعروف ".
2 - وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: أن هندا بنت عتبة قالت، يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني وولدي إلا أن أخذت منه - وهو لا يعلم - قال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
3 - وعن معاوية القشيري رضي الله عنه قال: قلت: يارسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ".
وأما الاجماع: فقد قال ابن قدامة: اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين، إلا الناشز منهن.
ذكر ابن المنذر وغيره.
قال: وفيه ضرب من العبرة، وهو أن المرأة محبوسة على الزوج يمنعها من النصرف والاكتساب.
فلابد من أن يتفق عليها.
سبب وجوب النفقة:
وإنما أوجب الشارع النفقة على الزوج لزوجته، لان الزوجة بمقتضى عقد
الزواج الصحيح تصبح مقصورة على زوجها، ومحبوسة لحقه، لاستدامة الاستمتاع بها، ويجب عليها طاعته، والقرار في بيته، وتدبير منزله، وحضانة الاطفال وتربية الاولاد، وعليه نظير ذلك أن يقوم بكفايتها والانفاق عليها، مادامت الزوجية بينهما قائمة، ولم يوجد نشوز، أو سبب يمنع من النفقة عملا بالاصل العام: " كل من احتبس لحق غيره ومنفعته، فنفقته على من احتبس لاجله ".
شروط استحقاق النفقة:
ويشترط لاستحقاق النفقة الشروط الاتية:
1 - أن يكون عقد الزواج صحيحا.
2 - أن تسلم نفسها إلى زوجها.
3 - أن تمكنه من الاستمتاع بها.

(2/170)


4 - ألا تمتنع من الانتقال حيث يريد الزوج (1) .
5 - أن يكونا من أهل الاستمتاع.
فإذا لم يتوفر شرط من هذه الشروط، فإن النفقة لا تجب: ذلك أن العقد إذا لم يكن صحيحا، بل كان فاسدا، فإنه يجب على الزوجين المفارقة، دفعا للفساد.
وكذلك إذا لم تسلم نفسها إلى زوجها، أو لم تمكنه من الاستمتاع بها، أو امتنعت من الانتقال إلى الجهة التي يريدها، ففي هذه الحالات لا تجب النفقة حيث لم يتحقق الاحتباس الذي هو سببها، كما لا يجب ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع، أو سلم في موضع دون موضع.
ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين ولم ينفق عليها إلا من حين دخلت عليه، ولم يلتزم نفقتها لما مضى.
وإذا أسلمت المرأة نفسها إلى الزوج، وهي صغيرة لا يجامع مثلها، فعند المالكية والصحيح من مذهب الشافعية أن النفقة لا تجب، لانه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع.
فلا تستحق العوض من النفقة.
قالوا: وإن كانت كبيرة والزوج صغير فالصحيح أنها تجب، لان التمكين وجد من جهتها، وإنما تعذر الاستيفاء من جهته، فوجبت النفقة كما لو سلمت إلى الزوج، وهو كبير فهرب منها.
والمفتى به عند الاحناف: أن الزوج إذا استبقى الصغيرة في بيته، وأسكنها للاستئناس بها، وجبت لها النفقة لرضاه هو بهذا الاحتباس الناقص. وإن لم يمسكها في بيته فلا نفقة لها (2) .
وإذا سلمت الزوجة نفسها وهي مريضة مرضا يمنعها من مباشرة الزوج لها وجبت لها النفقة.
وليس من حسن المعاشرة الزوجية، ولا من المعروف الذي أمر الله به أن يكون المرض مفوتا ما وجب لها من النفقة.
__________
(1) إلا إذا كان الزوج يريد الاضرار بها بالسفر، أو لا تأمن على نفسها أو مالها.
(2) هذا مذهب أبي يوسف، أما مذهب أبي حنيفة ومحمد فهو مثل مذهب الشافعية لان احتباسها كعدمه حيث لا يوصل إلى الغرض المقصود من الزواج فلا تجب لها النفقة

(2/171)


ومثل المريضة الرتقاء (1) ، والنحيفة (2) ، والمعيبة بعيب يمنع من مباشرة الزوج لها.
وكذلك إذا كان الزوج عنينا، أو مجبوبا (3) ، أو خصيا، أو مريضا مرضا يمنعه من مباشرة النساء، أو حبس في دين أو جريمة ارتكبها، لانه وجد التمكين من الاستمتاع من جهتها، وما تعذر فهو من جهته، وهو سبب لا
تنسب فيه إلى التفريط، وإنما هو الذي فوت حقه على نفسه.
ولا تجب النفقة إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوجية إلى منزل آخر بغير إذن الزوج بغير وجه شرعي، أو سافرت بغير إذنه، أو أحرمت بالحج بغير إذنه.
فإن سافرت بإذنه، أو أحرمت بإذنه، أو خرج معها لم تسقط النفقة، لانها لم تخرج عن طاعته وقبضته.
وكذلك لا تجب لها النفقة إذا منعته من الدخول عليها في بيتها المقيم معها فيه، ولم تكن طلبت منه الانتقال إلى غيره فامتنع.
فإن كانت طلبت منه الانتقال فأيى، فمنعته من الدخول، فلا تسقط النفقة.
وكذلك لا تجب النفقة إذا حبست الزوجة في جريمة، أو في دين، أو كان حبسها ظلما، إلا إذا كان هو الذي حبسها في دين له عليها، لانه هو الذي فوت حقه.
وكذلك لو غصبها غاصب، وحال بينها وبين زوجها، فإنها لا تستحق النفقة مدة غصبها.
وكذلك الزوجة المحترفة التي تخرج لحرفتها.
إذا منعها زوجها فلم تمتنع، لا تستحق النفقة.
وكذلك إن منعت نفسها بصوم تطوعا أو باعتكاف تطوعا.
ففي كل هذه الصور لا تستحق الزوجة النفقة، لانها فوتت حتى الزوج في الاستمتاع بها بغير وجه شرعي.
فلو كان تفويتها حقه لوجه شرعي، لم تسقط النفقة.
كما إذا أخرجت من طاعته، لان المسكن غير شرعي أو لان الزوج غير أمين على نفسها.
أو مالها.
__________
(1) الرتقاء: التي سد فرجها.
(2) النحيفة: الهزيلة.
(3) المجبوب: المقطوع الذكر

(2/172)


المرأة تسلم دون زوجها:
وإذا كان الزوجان كافرين، وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم الزوج، لم تسقط النفقة، لانه تعذر الاستمتاع بها من جهته، وهو قادر على إزالته بأن يسلم، فلم تسقط نفقتها، كالمسلم إذا غاب عن زوجته.
ارتداد الزوج لا يمنع النفقة: وإذا ارتد الزوج، بعد الدخول، لم تسقط نفقتها، لان امتناع الوطء بسبب من جهته، وهو قادر على إزالته بالعودة إلى الاسلام بخلاف ما إذا ارتدت الزوجة، فان نفقتها تسقط، لانها منعت الاستمتاع بمعصية من قبلها، فتكون كالناشز.
مذهب الظاهرية في سبب استحقاق النفقة: وللظاهرية رأي آخر في سبب وجوب النفقة.
وهو الزوجية نفسها. فحيث وجدت الزوجية وجبت النفقة.
وبنوا على مذهبهم هذا وجوب النفقة للصغيرة والناشز، دون النظر إلى الشروط التي قال بها غيرهم من الفقهاء.
قال ابن حزم: " وينفق الرجل على امرأته من حين يعقد نكاحها.
دعى إلى البناء، أم لم يدع.
ولو أنها في المهد.
ناشزا كانت أو غير ناشز: غنية كانت أو فقيرة.
ذات أب أو يتيمة.
بكرا كانت أو ثيبا.
حرة كانت أو أمة.
على قدر حاله (1) .
قال: وقال أبو سليمان، وأصحابه، وسفيان الثوري: النفقة واجبة للصغيرة من حين العقد عليها.
وأفتى الحكم بن عتيبة - في امرأة خرجت من بيت زوجها غاضبة - هل لها نفقة؟ قال: نعم.
قال: ولا يحفظ منع الناشز من النفقة عن أحد من الصحابة، إنما هو شئ
روي عن النخعي والشعبي، وحماد بن أبي سليمان، والحسن، والزهري.
وما نعلم لهم حجة، إلا أنهم قالوا: النفقة بإزاء الجماع.
فإذا منعت الجماع منعت النفقة.
انتهى بتصرف قليل.
__________
(1) المحلى ج.
1

(2/173)


تقدير النفقة وأساسه:
إذا كانت الزوجة مقيمة مع زوجها، وكان هو قائما بالنفقة عليها، ومتوليا إحضار ما فيه كفايتها، من طعام، وكسوة، وغيرهما، فليس للزوجة أن تطلب فرض النفقة، حيث أن الزوج قائم بالواجب عليه.
فإذا كان الزوج بخيلا لا يقوم بكفاية زوجته، أو أنه تركها بلا نفقة، بغير حق، فلها أن تطلب فرض نفقة لها من الطعام، والكسوة، والمسكن.
وللقاضي أن يقضي لها بالنفقة، ويلزم الزوج بها متى ثبت لديه صحة دعواها.
كما أن لها الحق أن تأخذ من ماله ما يكفيها بالمعروف (1) ، وإن لم يعلم الزوج، إذ أنه منع الواجب عليه وهي مستحقة له، وللمستحق أن يأخذ حقه بيده متى قدر عليه.
وأصل ذلك ما رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
عن عائشة، رضي الله عنها: أن هندأ قالت: يارسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي.
إلا ما أخذت منه، وهو لا يعلم؟ فقال: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وفي الحديث دلالة على أن النفقة تقدر بكفاية المرأة مع التقييد بالمعروف، أي: المتعارف بين كل حهة باعتبار ما هو الغالب على أهلها، وهذا يختلف باختلاف الازمنة، والامكنة، والاحوال، والاشخاص.
وقد رأى صاحب الروضة الندية: أن الكفاية بالنسبة للطعام تعم جميع ما تحتاج إليه الزوجة، فيدخل فيه الفاكهة وما هو معتاد من التوسعة في الاعياد، وسائر الاشياء التي قد صارت بالاستمرار عليها مألوفة، بحيث يحصل التضرر بمفارقتها أو التضجر، أو التكدر.
قال: ويدخل فيه الادوية ونحوها، وإليه يشير قوله تعالى: " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
"
__________
(1) إذا كانت رشيدة ولم تسرف في الاخذ

(2/174)


فإن هذا نص في نوع من أنواع النفقات: إن الواجب على من عليه النفقة رزق من عليه إنفاقه.
والرزق يشمل ما ذكرناه.
ثم ذكر رأي بعض الفقهاء في عدم وجوب ثمن الادوية، وأجرة الطبيب، لانه يراد لحفظ البدن، كما لا يجب على المستأجر أجرة إصلاح ما انهدم من الدار.
ورجح دخول العلاج في النفقة، وأنه واجب فقال: وقال في الغيث: الحجة أن الدواء لحفظ الروح فأشبه النفقة.
قال: وهو الحق لدخوله تحت عموم قوله صلى الله عليه وسلم: " ما يكفيك ".
وتحت قوله تعالى: " رزقهن ".
فإن الصيغة الاولى عامة باعتبار لفظ " ما ".
والثانية عامة، لانها مصدر مضاف.
وهي من صيغ العموم.
واختصاصه ببعض المستحقين لايمنع من الالحاق.
قال: وبمجموع ما ذكرنا، يقرر لك أن الواجب على من عليه النفقة لمن له النفقة، هو ما يكفيه بالمعروف، وليس المراد تفويض أمر ذلك إلى من له النفقة، وأنه يأخذ ذلك بنفسه حتى يرد ما أورده السائل من خشية السرف في بعض الاحوال، بل المراد تسليم ما يكفي على وجه لاسرف فيه، بعد تبين مقدار ما يكفي بإخبار المخبرين، أو تجريب المجربين.
وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " بالمعروف، أي: لا بغير المعروف وهو السرف والتقتير.
نعم إذا كان الرجل لا يسلم ما يجب عليه من النفقة.
جاز لنا الاذن لمن له النفقة بأن يأخذ ما يكفيه، إذا كان من أهل الرشد، لا إذا كان من أهل السرف والتبذير، فإنه لا يجوز تمكينه من مال من عليه النفقة، لان الله تعالى يقول: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ".
ثم قال: ولكن يجب علينا إذا كان من عليه النفقة متمردا، ومن له النفقة ليس بذي رشد، أن نجعل الاخذ إلى ولي من لارشد له، أو إلى رجل عدل. انتهى.
ومما يجب لها عليه من النفقة ما تحتاج إليه من المشط والصابون والدهن وسائر ما تتنظف به.

(2/175)


وقالت الشافعية: أما الطيب فإن كان يراد لقطع السهوكة (1) ، لزمه لانه يراد للتنظيف، وإن كان يراد للتلذذ والاستمتاع، لم يلزمه، لانه حق له، فلا يجبر عليه.
رأي الاحناف: أن النفقة غير مقدرة بالشرع، وأنه يجب على الزوج لزوجته قدر ما يكفيها من الطعام، والادام، واللحم والخضر، والفاكهة، والزيت، والسمن، وسائر مالابد منه للحياة حسب المتعارف. وأن ذلك يختلف باختلاف الامكنة، والازمنة، والاحوال. كما يجب عليه كسوتها صيفا وشتاء.
ورأوا تقدير نفقة الزوجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرا أو عسرا مهما تكن حالة الزوجة، لقول الله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر (1) عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسرا (2) ".
وقوله سبحانه: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم (4) ".
مذهب الشافعية في تقدير النفقة: والشافعية لم يتركوا تقدير النفقة إلى ما فيه الكفاية، بل قالوا: إنما هي مقدرة بالشرع، وإن اتفقوا مع الاحناف في اعتبار حال الزوج يسرا أو عسرا، وأن على الزوج الموسر وهو الذي يقدر على النفقة بماله وكسبه - في كل يوم مدين، وأن على المعسر الذي لا يقدر على النفقة بمال ولا كسب مدا في كل يوم. وأن على المتوسط مدا ونصفا.
واستدلوا لمذهبهم هذا بقول الله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته.
ومن قدر عليه رزقه فينفق مما آتاه الله ".
قالوا: ففرق بين الموسر والمعسر، وأوجب على كل واحد منهما على
__________
(1) الرائحة الكريهة.
(2) قدر: ضيق.
(3) سورة الطلاق آية.
(4) حسب قدرتكم وحالكم.
الطلاق آية 6

(2/176)


قدر حاله، ولم يبين المقدار فوجب تقديره بالاجتهاد، وأشبه ما تقاس عليه النفقة، الطعام في الكفارة.
لانه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة. وأكثر ما يجب في الكفارة للمسكين مدان في فدية الاذى.
وأقل ما يجب مد وهو في كفارة الجماع في رمضان. فإن كان متوسطا لزمه مد ونصف، لانه لا يمكن إلحاقه بالموسر، وهو دونه، ولا بالمعسر وهو فوقه، فجعل عليه مد ونصف.
قالوا: ولو فتح باب الكفاية للنساء من غير تقدير لوقع التنازع، لا إلى غاية. فتعيين ذلك التقدير اللائق بالمعروف.
وهذا خلاف ما لابد منه في الطعام من الادام واللحم، والفاكهة.
وقالوا: يجب لها الكسوة، مع مراعاة حال الزوج من اليسار والاعسار، فلزوجة الموسر من الكسوة، ما يلبس عادة في البلد من رفيع الثياب. ولامرأة المعسر الغليظ من القطن، والكتان، ونحوهما. ولامرأة المتوسط ما بينهما.
ويجب لها مسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه، مع تأثيث المسكن تأثيثا يتناسب مع حالته.
وقالوا: إذا كان الزوج معسرا، ينفق عليها أدنى ما يكفيها من الطعام، والادام، بالمعروف.
ومن الكسوة أدنى ما يكفيها من الصيفية والشتوية.
وإن كان متوسطا، ينفق عليها أوسع من ذلك بالمعروف ومن الكسوة أرفع من ذلك، كله بالمعروف.
وإنما كانت النفقة والكسوة بالمعروف، لان دفع الضرر عن الزوجة واجب، وذلك بايجاب الوسط من الكفاية، وهو تفسير المعروف.
العمل في المحاكم الان: وما ذهب إليه الشافعية وبعض الاحناف من رعاية حال الزوج المالية، حين فرض النفقة، هو ما جرى به العمل الان في المحاكم، تطبيقا للمادة 16 من القانون رقم 25 لسنة 1929 ونصها: " تقدير نفقة الزجة على زوجها بحسب حال الزوج يسرا، وعسرا، مهما كانت حالة الزوجة ".
وهذا هو العدل، لانه يتفق مع الايتين المتقدمتين.

(2/177)


تقدير النفقة عينا أو نقدا: يصح أن يكون ما يفرض من النفقة من الخبز، والادام والكسوة، أصنافا معينة، كما يصح أن تفرض قيمتها نقدا لتشتري به ما تحتاج إليه.
ويصح أن تفرض النفقة سنوية، أو شهرية، أو أسبوعية، أو يومية، حسب ما هو ميسور للزوج.
والذي يسري عليه العمل الان في المحاكم، هو فرض بدل طعام الزوجة شهريا، وبدل كسوتها عن ستة شهور باعتبار أنها تحتاج في السنة إلى كسوة للصيف، وأخرى للشتاء.
وبعض القضاة يفرض مبلغا شهريا للنفقة بأنواعها الثلاثة بدون تفصيل، مراعيا أن يكون فيما يفرضه لها كفاية لطعامها، وكسوتها، وسكناها، حسب حالة الزوج عسرا ويسرا.
تغير الاسعار أو تغير حال الزوج المالية: إذا تغيرت الاسعار عن وقت الفرض، أو تغيرت حالة الزوج المالية، فإما أن يكون هذا التغير في الاسعار إلى زيادة، أو إلى نقص، أو يكون تغير حالة الزوج المالية إلى ما هو أحسن، أو أسوأ.
ولا بد من رعاية كل حالة من هذه الحالات.
فإن تغيرت الاسعار عن وقت الفرض إلى زيادة، كان للزوجة أن تطالب بزيادة نفقتها.
وإن تغيرت إلى نقص كان للزوج أن يطلب تخفيض النفقة.
وإن تحسنت حالة الزوج المالية عما كان عليه حين تقدير النفقة، كان للزوجة أن تطلب زيادة نفقتها.
وإن تغيرت حالة الزوج المالية إلى أسوأ، كان للزوج الحق في طلب تخفيض النفقة.
الخطأ في تقدير النفقة:
إذا ظهر بعد تقدير النفقة أن التقدير كان خطأ لا يكفي الزوجة - حسب

(2/178)


حالة الزوج - من العسر أو اليسر - كان من حق الزوجة المطالبة بإعادة النظر في التقدير، وعلى القاضي أن يقدر لها ما يكفيها لطعامها، وكسوتها، مع ملاحظة حالة الزوج.
دين النفقة يعتبر دينا صحيحا في ذمة الزوج:
قلنا: إن نفقة الزوجة واجبة على زوجها، متى توفرت الشروط التي تقدم ذكرها.
ومتى وجبت النفقة على الزوج لزوجته، لوجود سببها، وتوفر شروطها، ثم امتنع عن أدائها تصير دينا في ذمته.
شأنها في هذا شأن الديون الثابتة، التي التي لا تسقط إلا بالاداء أو الابراء.
وإلى هذا ذهبت الشافعية، وجرى عليه العمل منذ صدور قانون رقم 25 لسنة 1920 فقد جاء فيه:
مادة 1 - تعتبر نفقة الزوجة التي سلمت نفسها لزوجها، ولو حكما، دينا في ذمته، من وقت امتناع الزوج عن الانفاق مع وجوبه، بلا توقف على قضاء قاض، أو تراض بينهما، ولا يسقط دينها إلا بالاداء أو الابراء.
مادة 2 - المطلقة التي تستحق النفقة.
تعتبر نفقتها دينا، كما جاء في المادة السابقة.
من تاريخ الطلاق.
وقد جاء مع هذا القانون تعليمات من الجهة التي صدر عنها (1) .
وهي: 1 - إن نفقة الزوجة. أو المطلقة، لا يشترط لاعتبارها دينا في ذمة الزوج - القضاء، أو الرضا - بل تعتبر دينا من وقت امتناع الزوج عن الانفاق، مع وجوبه.
2 - إن دين النفقة من الديون الصحيحة، وهي التي لا تسقط إلا بالاداء أو الابراء.
ويترتب على هذين الحكمين:
1 - إن للزوجة، أو المطلقة أن تطلب لها الحكم بالنفقة على زوجها، عن مدة سابقة على الترافع، ولو كانت أكثر من شهر، إذا ادعت أن
__________
(1) وزارة العدل وكانت تسمى وزارة الحقانية

(2/179)


زوجها تركها من غير نفقة، مع وجوب الانفاق عليها في هذه المدة، طالت أم قصرت.
ومتى أثبت ذلك بطريق من طرق الاثبات.
ولو كانت شهادة الاسكتشاف المنصوص عليها في المادة 178 من اللائحة حكم لها بما طلبت.
2 - أن دين النفقة لا يسقط بموت أحد الزوجين، ولا بالطلاق - ولو خلعا - فللمطلقة مطلق الحق فيما تجمد لها من النفقة، حال قيام الزوجية، ما لم يكن عوضا لها عن الطلاق، أو الخلع.
3 - أن النشوز الطارئ لا يسقط متجمد النفقة، وإنما يمنع النشوز مطلقا من وجوبها مادامت الزوجة، أو المعتدة ناشزا.
وبعد صدور هذا القانون، استغلته بعض الزوجات، في ترك المطالبة
بالنفقة، حتى يتجمع منها مبلغ باهظ، ثم يطالبن الزوج بالمتجمد كله، مما يرهق الزوج ويثقل كاهله.
فرؤي تدارك هذا الامر بما يرفع الضرر عن الازواج.
وجاء في الفقرة 6 من المادة 99 من القانون رقم 78 لسنة 1931 بلائحة ترتيب المحاكم الشرعية، ما نصه: " لا تسمع دعوى النفقة عن مدة ماضية، لاكثر من ثلاث سنين ميلادية، نهايتها تاريخ رفع الدعوى ".
وجاء في المذكرة الايضاحية لهذا القانون، بشأن هذه الفقرة ما نصه: " أما النفقة عن المدة الماضية فقد رؤي - أخذا بقاعدة تخصيص القضاء - ألا تسمع الدعوى بها لاكثر من ثلاث سنوات ميلادية. نهايتها تاريخ قيد الدعوى.
ولما كان في إطلاق إجازة المطالبة بالنفقة المتجمدة عن مدة سابقة على رفع الدعوى - احتمال المطالبة بنفقة سنين عديدة ترهق الشخص الملزم بها.
رؤي من العدل دفع صاحب الحق في النفقة إلى المطالبة بها، أولا فأولا، بحيث لا يتأخر أكثر من ثلاث سنوات، وجعل ذلك عن طريق منع سماع الدعوى ".
وليس في ذلك الحكم ضرر على صاحب الحق في النفقة، إذ يمكنه المطالبة بها،

(2/180)


قبل مضي ثلاث سنوات (1) .
ولا زال العمل مستمرا بهذا القانون إلى اليوم: الابراء من دين النفقة والمقاصة به: وإذا كانت النفقة التي تستحقها الزوجة على زوجها تعتبر دينا في ذمته، من الوقت الذي امتنع فيه عن أدائها بغير حق شرعي - فإنه يصح للزوجة أن
تبرئه من هذا الدين، كله أو بعضه.
ولو أبرأته مما يكون لها من النفقة في المستقبل لا يصح، لانه لم يثبت دينا بعد، والابراء لا يكون إلا من دين ثابت فعلا.
ويستثنى من ذلك الابراء عن شهر واحد مستقبل، أو عن سنة واحدة - إن كانت النفقة فرضت مشاهرة، أو مسانهة.
وإذا كانت النفقة معتبرة دينا صحيحا، لا يسقط إلا بالاداء أو الابراء، وكان للزوج دين في ذمتها، وطلب أحدهما مقاصة الدينين، أجيب إلى طلبه لاستواء الدينين في القوة.
وللحنابلة رأي في المقاصة، فهم يفرقون بين أن تكون المرأة موسرة، أو معسرة، فإن كانت موسرة، فله أن يحتسب عليها بدينه مكان نفقتها، لان من عليه حق فله أن يقضيه من أي أمواله شاء، وهذا من ماله.
وإن كانت معسرة لم يكن له ذلك، لان قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوته.
ودين زوجها الذي هو عليها لا يفضل عنها، ولان الله تعالى أمر بإنظار المعسر.
فقال: " وإن كان ذوعسرة فنظرة إلى ميسرة " فيجب إنظاره بما عليها.
تعجيل النفقه وطروء ما يمنع الاستحقاق: إذا عجل الزوج لزوجته نفقة مدة مستقبلة كشهر، أو سنة مثلا، ثم
__________
(1) ويؤخذ على هذا القانون أن التحديد بثلاث سنين لم تعرف حكمته من جهة، ولا دليل يمكن الاستناد إليه من جهة أخرى.
على أن هذه المدة تعتبر مدة طويلة، وقد ترهق الازواج، ولهذا جاء في مشروع قانون الاحوال الشخصية المادة رقم 81 من أنه لا تسمع دعوى النفقة عن مدة تزيد عن سنة سابقة على الدعوى

(2/181)


طرأ في أثناء المدة ما يجعلها لا تستحق النفقة، بأن مات أحد الزوجين أو نشزت الزوجة، فللزوج أن يسترد نفقة ما بقي من المدة التي لا تستحق نفقة عنها، لانها أخذته جزاء احتباسها لحق الزوج، ومتى فات الاحتباس بالموت أو النشوز، فعليها أن ترد النفقة التي عجلت لها بالنسبة للمدة الباقية.
وإلى هذا ذهب الامام الشافعي ومحمد بن الحسن (1) نفقة المعتدة: وللمعتدة الرجعية، والمعتدة الحامل النفقة، لقول الله سبحانه في الرجعيات: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم " (2) .
ولقوله في الحوامل: " وإن كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن (3) ".
وهذه الاية تدل على وجوب النفقة لجامل - سواء أكانت في عدة الطلاق الرجعي، أم البائن، أو كانت عدتها عدة وفاة - أما البائنة فإن الفقهاء اختلفوا في وجوب النفقة لها، إذا لم تكن حاملا على ثلاثة أقوال: 1 - أن لها السكنى ولا نفقة لها، وهو قول مالك والشافعي، واستدلوا بقول الله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم ".
2 - أن لها النفقة والسكنى، وهو قول عمربن الخطاب، وعمر بن عبد العزيز، والثوري، والاحناف، واستدلوا على قولهم هذا بعموم قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ".
فهذا نص في وجوب السكنى، وحيثما وجبت السكنى شرعا وجبت النفقة
__________
(1) يرى الامام أبو حنيفة وأبو يوسف أن الزوج لا يسترد شيئا مما يعجل من النفقة، لانها وإن كانت جزاء احتباس ففيها شبه صلة وقد قبضتها الزوجة والصلة بين الزوجين لا رجوع فيها.
(2، 3) سورة الطلاق آية

(2/182)


لكون النفقة تابعة لوجوب الاسكان في الرجعية، وفي الحامل، وفي نفس الزوجية.
وقد أنكر عمر وعائشة رضي الله عنهما على فاطمة بنت قيس الحديث الذي أوردته، وقال عمر: لانترك كتاب الله (1) وسنة نبينا لقول امرأة، لا ندري لعلها حفظت أم نسيت.
وحين بلغ فاطمة ذلك قالت: " بيني وبينكم كتاب الله ".
قال الله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة، واتقوا الله ربكم، لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ".
فأي أمر يحدث بعد الثلاث!.
3 - أنه لانفقة لها ولاسكنى، وهو قول أحمد، وداود، وأبي ثور، وحكي عن علي، وابن عباس، وجابر، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن أبي ليلى، والاوزاعي، والامامية.
واستدلوا بما رواه البخاري، ومسلم، عن فاطمة بنت قيس قالت: " طلقني زوجي ثلاثا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجعل لي نفقة ولاسكنى ".
وفي بعض الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما السكنى والنفقة لمن لزوجها عليها الرجعة ".
وروى أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي: " أنه قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نفقة لك، إلا أن تكوني حاملة ".
نفقة زوجة الغائب: جاء في القانون رقم (25) لسنة 1920 مادة (5) : " إذا كان الزوج غائبا غيبة قريبة، فإن كان له مال ظاهر نفذ الحكم
__________
(1) يريد قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم، من وجدكم "

(2/183)


عليه بالنفقة في ماله، وإن لم يكن له مال ظاهر أعذر إليه القاضي بالطرق المعروفة وضرب له أجلا، فإن لم يرسل ما تنفق فيه زوجته على نفسها، طلق عليه القاضي بعد مضي الاجل.
فإن كان بعيد الغيبة لا يسهل الوصول إليه، إذ كان مجهول المحل، أو كان مفقودا، وثبت أنه لامال له تنفق منه الزوجة، طلق عليه القاضي

(2/184)


الحقوق غير المادية:
تقدم أن من حقوق الزوجة على زوجها منها ما هو مادي: وهو المهر والنفقة، ومنها ما هو غير مادي وهو ما نذكره فيما يلي:
(1) حسن معاشرتها:
أول ما يجب على الزوج لزوجته إكرامها، وحسن معاشرتها، ومعاملتها بالمعروف، وتقديم ما يمكن تقديمه إليها، مما يؤلف قلبها، فضلا عن تحمل ما يصدر منها والصبر عليه.
يقول الله سبحانه: " وعاشروهن بالمعروف. فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (1) ".
ومن مظاهر اكتمال الخلق، ونمو الايمان أن يكون المرء رقيقا مع أهله، يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم ".
وإكرام المرأة دليل الشخصية المتكاملة، وإهانتها علامة على الخسة واللؤم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم ".
ومن إكرامها التلطف معها، ومداعبتها.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلطف مع عائشة رضي الله عنها فيسابقها، تقول: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم (2) ، سابقته فسبقني. فقال: " هذه بتلك السبقة ". رواه أحمد، وأبو داود.
__________
(1) سورة النساء آية 19 (2) أي امتلا جسمها

(2/185)


وروى أحمد، وأصحاب السنن، أنه صلى الله عليه وسلم قال: " كل شئ يلهو به ابن آدم، فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق ".
ومن إكرامها أن يرفعها إلى مستواه، وأن يتجنب أذاها، حتى ولو بالكلمة النابية.
فعن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال: " قلت يا رسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه "؟ قال:
" أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ".
والمرأة لا يتصور فيها الكمال، وعلى الانسان أن يتقبلها على ماهي عليه.
يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا، المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج ".
رواه البخاري، ومسلم.
وفي هذا إشارة إلى أن في خلق المرأة عوجا طبيعيا، وأن محاولة إصلاحه غير ممكنة، وأنه كالضلع المعوج المتقوس الذي لا يقبل التقويم. ومع ذلك فلابد من مصاحبتها على ماهي عليه، ومعاملتها كأحسن ما تكون المعاملة، وذلك لايمنع من تأديبها وإرشادها إلى الصواب إذا اعوجت في أي أمر من الامور.
وقد يغضي الرجل عن مزايا الزوجة وفضائلها، ويتجسد في نظره بعض ما يكره من خطالها، فينصح الاسلام بوجوب الموازنة بين حسناتها وسيئاتها، وأنه إذا رأى منها ما يكره - فإنه يرى منها ما يحب.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ": لا يفرك (1) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا، رضي منها خلقا آخر ".
(2) صيانتها:
ويجب على الزوج أن يصون زوجته، ويحفظها من كل ما يخدش شرفها،
__________
(1) لا يفرك: لا يبغض

(2/186)


ويثلم عرضها، ويمتهن كرامتها، ويعرض سمعتها لقالة السوء، وهذا من الغيرة التي يحبها الله.
روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم عليه ".
وروى عن ابن مسعود أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: " ما أحد أغير من الله، ومن غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وما أحد إليه المدح من الله، ومن أجل ذلك أثنى على نفسه، وما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ".
وروى أيضا أن سعد بن عبادة قال: " لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح.
فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " أتعجبون من غيرة سعد. لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ".
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يدخلون الجنة: " العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء ".
رواه النسائي والجزار، والحاكم، وقال: صحيح الاسناد.
وعن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا: الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر. قالوا: يارسول الله: أما مدمن الخمر فقد عرفناه. فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تتشبه بالرجال ". رواه الطبراني. قال المنذري: ورواته ليس فيهم مجروح.
وكما يجب على الرجل أن يغار على زوجته، فإنه يطلب منه أن يعتدل في هذه الغيرة، فلا يبالغ في إساءة الظن بها.
ولا يسرف في تقصي كل حركاتها وسكناتها ولا يحصي جميع عيوبها، فإن ذلك يفسد العلاقة الزوجية، ويقطع ما أمر الله به أن يوصل، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو داود، والنسائي، وابن حبان عن جابر بن عنبرة:

(2/187)


" إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، ومن الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الغيرة التي يحبها الله: فالغيرة في الريبة، والغيرة التي يبغضها الله: فالغيرة في غير ريبة (1) .
والاختيال الذي يحبه الله اختيال الرجل بنفسه عند القتال، وعند الصدمة، والاختيال الذي يبغضه الله الاختيال في الباطل ".
وقال علي كرم الله وجهه: لا تكثر الغيرة على أهلك، فترامى بالسوء من أجلك.
إتيان الرجل زوجته:
قال ابن حزم: وفرض على الرجل أن يجامع امرأته، التي هي زوجته، وأدنى ذلك مرة في كل طهر، إن قدر على ذلك.
وإلا فهو عاص لله تعالى.
برهان ذلك قوله عز وجل: " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله (2) ".
وذهب جمهور العلماء الى ما ذهب إليه ابن حزم من الوجوب على الرجل ذا لم يكن له عذر.
وقال الشافعي: لا يجب عليه، لانه حق له، فلا يجب عليه كسائر الحقوق.
ونص أحمد على أنه مقدر بأربعة أشهر، لان الله قدره في حق المولي بهذه المدة، فكذلك في حق غيره.
وإذا سافر عن امرأته، فإن لم يكن له عذر مانع من الرجوع، فإن أحمد ذهب إلى توقيته بستة أشهر.
وسئل: كم يغيب الرجل عن زوجته؟ قال: ستة أشهر.
يكتب إليه، فإن أبى أن يرجع فرق الحاكم بينهما.
وحجته ما رواه أبو حفص باسناده عن زيد بن أسلم قال: بينما عمربن الخطاب يحرس المدينة، فمر بامرأة في بيتها وهي تقول: تطاول هذا الليل واسود جانبه وطال علي أن لا خليل ألاعبه
__________
(1) الريبة: الشك والظن، وإنما كان ذلك بغيضا لانه من سوء الظن، إن بعض الظن إثم.
(2) سورة البقرة آية: 222

(2/188)


والله لولا خشية الله وحده لحرك من هذا السرير جوانبه ولكن ربي والحياء يكفيني وأكرم بعلي أن توطأ مراكبه فسأل عنها عمر، فقيل له: هذه فلانة، زوجها غائب في سبيل الله، فأرسل إليها تكون معه، وبعث إلى زوجها فأقفله (1) ، ثم دخل على حفصة، فقال: يا بنية. كم تصبر المرأة عن زوجها؟.
فقالت: سبحان الله! مثلك يسأل مثلي عن هذا؟.
فقال: لولا أني أريد النظر للمسلمين ما سألتك.
قالت: خمسة أشهر. ستة أشهر.
فوقت للناس في مغازيهم ستة أشهر.
يسيرون شهرا، ويقيمون أربعة أشهر، ويسيرون راجعين شهرا.
وقال الغزالي من الشافعية: وينبغي أن يأتيها في كل أربع ليال مرة، فهو أعدل، لان عدد النساء أربعة، فجاز التأخير إلى هذا الحد.
نعم ينبغي أن يزيد، أو ينقص حسب حاجتها في التحصين، فإن تحصينها واجب عليه، وإن كان لا تثبت المطالبة بالوطء، فذلك لعسر المطالبة والوفاء بها.
وعن محمد بن معن الغفاري قال: " أتت امرأة إلى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فقالت: يا أمير المؤمنين: إن زوجي يصوم النهار، ويقوم الليل، وأنا أكره أن أشكوه - وهو يعمل بطاعة الله عز وجل - فقال لها: نعم الزوج زوجك، فجعلت تكرر هذا القول ويكرر عليها الجواب.
فقال له كعب الاسدي: يا أمير المؤمنين هذه المرأة تشكو زوجها في مباعدته إياها عن فراشه، فقال عمر: كما فهمت كلامها فاقض بينهما.
فقال كعب: علي بزوجها، فأتي به، فقال له: إن امرأتك هذه تشكوك.
قال: أفي طعام، أو شراب؟ وقال: لا، فقالت المرأة: يا أيها القاضي الحكيم رشده ألهى خليلي عن فراشي مسجده زهده في مضجعي تعبده فاقض القضا، كعب، ولا ترده نهاره وليله ما يرقده فلست في أمر النساء أحمده فقال زوجها: زهدني في النساء وفي الحجل أني امرؤ أذهلني ما نزل
__________
(1) أقفله: أرجعه

(2/189)


في سورة النحل وفي السبع الطول وفي كتاب الله تخويف جلل فقال كعب: إن لها عليك حقايا رجل نصيبها في أربع لمن عقل فأعطها ذاك ودع عنك العلل ثم قال: إن الله عز وجل قد أحل لك من النساء مثنى وثلاث ورباع فلك ثلاثة أيام ولياليهن تعبد فيهن ربك، فقال عمر: والله ما أدري من أي أمريك أعجب؟.
أمن فهمك أمرهما، أم من حكمك بينهما؟ اذهب فقد وليتك قضاء البصرة.
وقد ثبت في السنة أن جماع الرجل زوجته من الصدقات التي يثيب الله عليها.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ... ولك في جماع زوجتك أجر.
قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر ".
ويستحب المداعبة، والملاعبة، والملاطفة، والتقبيل، والانتظار حتى تقضي المرأة حاجتها.
روى أبو يعلى عن أنس بن مالك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " إذا جامع أحدكم أهله فليصدقها، فإذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها حتى تقضي حاجتها " وقد تقدم: " هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك ".
التستر عند الجماع: أمر الاسلام بستر العورة في كل حال إلا إذا اقتضى الامر كشفها.
فعن بهزبن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: " يا نبي الله: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يميتك.
قلت: يارسول الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: إن استطعت ألا يراها أحد فلا يراها.
قال: قلت: إذا كان أحدنا خاليا؟ قال: فالله أحق أن يستحيا من الناس ".
رواه الترمذي، وقال حديث حسن.

(2/190)


وفي الحديث جواز كشف العورة عند الجماع، ولكن مع ذلك لا ينبغي أن يتجرد الزوجان تجردا كاملا.
فعن عتبة بن عبد السليمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، ولا يتجردا تجرد العيرين (1) ". رواه ابن ماجه.
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إياكم والتعري، فإن معكم من لا يفارقكم، إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله، فاستحيوهم وأكرموهم ".
رواه الترمذي وقال حديث غريب.
قالت عائشة: " لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ولم أر منه ".
التسمية عند الجماع: يسن أن يسمي الانسان ويستعيذ عند الجماع.
روى البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن أحدكم إذا أتى أهله، قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقنا.
فإن قدر بينهما في ذلك ولد، لن يضر ذلك الولد الشيطان أبدا ".
حرمة التكلم بما يجري بين الزوجين أثناء المباشرة:
ذكر الجماع، والتحدث به مخالف للمروءة، ومن اللغو الذي لا فائدة فيه، ولا حاجة إليه، وينبغي للانسان أن يتنزه عنه ما لم يكن هناك ما يستدعي التكلم به.
ففي الحديث الصحيح: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه ".
وقد مدح الله المعرضين عن اللغو فقال: " والذين هم عن اللغو معرضون ".
فإذا استدعى الامر التحدث به ودعت الحاجة إليه فلا بأس، وقد ادعت امرأة أن زوجها عاجز عن إتيانها.
فقال يا رسول الله: " إني لانفضها نفض الاديم ".
__________
(1) العيرين: الحمارين

(2/191)


فإذا توسع الزوج أو الزوجة في ذكر تفاصيل المباشرة وأفشى ما يجري بينهما من قول أو فعل، كان ذلك محرما.
فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة: الرجل يفضي إلى المرأة، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها ". رواه أحمد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى، فلما سلم، أقبل عليهم بوجهه فقال: " مجالسكم.
هل منكم الرجل إذا أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره، ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت بأهلي كذا؟! فسكتوا، فأقبل على النساء، فقال هل منكن من تحدث؟ فجثت فتاة كعب على إحدى ركبتيها، وتطاولت ليراها الرسول صلى الله عليه وسلم وليسمع كلامها، فقالت: إي والله. إنهم يتحدثوه، وإنهن ليتحدثن.
فقال: هل تدرون ما مثل من فعل ذلك؟ إن مثل من فعل ذلك مثل شيطان وشيطانة.
لقي أحدهما صاحبه بالسكة، فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه ". رواه أحمد، وأبو داود.
إتيان الرجل في غير المأتى:
إتيان المرأة في دبرها تنفر منه الفطرة، ويأباه الطبع، ويحرمه الشرع.
قال الله تعالى: " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم (1) ".
والحرث: موضع الغرس والزرع، وهو هنا محل الولد، إذ هو المزروع.
فالامر بإتيان الحرث أمر بالاتيان في الفرج خاصة.
قال ثعلب: إنما الارحام أرضون لنا محترثات
فعلينا الزرع فيها وعلى الله النبات وهذا كقول الله: " فأتوهن من حيث أمركم الله (2) ".
__________
(1) سورة البقرة آية: 223.
(2) سورة البقرة آية: 222

(2/192)


وكقوله " أنى شئتم " أي كيف شئتم.
وسبب نزول هذه الابة ما رواه البخاري ومسلم: " ان اليهود كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تزعم أن الرجل إذا أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، وكان الانصار يتبعون اليهود في هذا، فأنزل الله عزوجل: " نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم ".
أي أنه لاحرج في إتيان النساء بأي كيفية، مادام ذلك في الفرج، وما دمتم تقصدون الحرث.
وقد جاءت الاحاديث صريحة في النهي عن إتيان المرأة في دبرها.
روى أحمد، والترمذي، وابن ماجه.
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تأتوا النساء في أعجازهن. أو قال: في أدبارهن ". ورواته ثقات.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته في دبرها " هي اللوطية الصغرى ".
وعند أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ملعون من أتى امرأة في دبرها ".
قال ابن تيمية: ومتى وطئها في الدبر، وطاوعته عزرا جميعا، وإلا فرق بينهما كما يفرق بين الفاجر ومن يفجر به.
العزل وتحديد النسل (1) :
تقدم ان الاسلام يرغب في كثرة النسل.
إذ أن ذلك مظهر من مظاهر القوة والمنعة بالنسبة للامم والشعوب. " وإنما العزة للكاثر ". ويجعل ذلك من أسباب مشروعية الزواج: " تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الامم يوم القيامة ".
إلا أن الاسلام مع ذلك لايمنع في الظروف الخاصة من تحديد النسل باتخاذ دواء يمنع من الحمل، أو بأي وسيلة أخرى من وسائل انجع.
__________
(1) العزل: هو أن ينزع الرجل بعد الايلاج لينزل خارج الفرج منعا للحمل

(2/193)


فيباح التحديد في حالة ما إذا كان الرجل معيلا (1) لايستطيع القيام على تربية أبنائه التربية الصحيحة.
وكذلك إذا كانت المرأة ضعيفة، أو كانت موصولة الحمل، أو كان الرجل فقيرا.
ففي مثل هذه الحالات يباح تحديد النسل بل إن بعض العلماء رأى أن التحديد في هذه الحالات لا يكون مباحا فقط، بل يكون مندوبا إليه.
وألحق الامام الغزالي بهذه الحالات حالة ما إذا خافت المرأة على جمالها، فمن حق الزوجين في هذه الحالة أن يمنعا النسل.
بل ذهب كثير من أهل العلم إلى إباحته مطلقا واستدلوا لمذهبهم بما يأتي:
1 - روى البخاري ومسلم عن جابر قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل.
2 - وروى مسلم عنه قال: كنا نعزل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهنا.
وقال الشافعي رحمه الله: ونحن نروي عن عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رخصوا في ذلك ولم يروا به بأسا.
وقال البيهقي: وقد روينا الرخصة فيه عن سعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الانصاري، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وغيرهم.
وهو مذهب مالك والشافعي وقد اتفق عمر وعلي رضي الله عنهما على أنها لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع.
فروى القاضي أبو يعلى وغيره بإسناده عن عبيد بن رفاعة عن أبيه قال: جلس إلى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذاكروا العزل.
فقالوا لا بأس به.
فقال رجل: إنهم يزعمون أنها الموؤودة الصغرى.
فقال على رضي الله عنه: لا تكون موؤودة حتى تمر عليها التارات السبع، حتى تكون من سلالة من طين، ثم تكون نطفة، ثم تكون علقة ثم تكون مضغة.
ثم تكون عظاما ثم تكون لحما ثم تكون خلقا آخر، فقال عمر رضي الله عنه: صدقت أطال الله بقاءك.
__________
(1) المعيل: كثير العيال

(2/194)


ويرى أهل الظاهر أن منع الحمل حرام، مستدلين بما ورته جذامة بنت وهب: أن أناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: " ذلك هو الواد الخفي ".
وأجاب الامام الغزالي عن هذا فقال: " ورد في الصحيح أخبار صحيحة في الاباحة، وقوله: " إنه الوأد الخفي " كقوله " الشرك الخفي " وذلك يوجب كراهيته كراهة لا تحريما.
والمقصود بالكراهة خلاف الاولى، كما يقال: يكره للقاعد في المسجد أن يقعد فارغا لا يشتغل بذكر أو صلاة، وبعض الائمة كالاحناف يرون أنه يباح العزل إذا أذنت الزوجة، ويكره من غير إذنها.
حكم إسقاط الحمل:
بعد استقرار النطفة في الرحم لا يحل إسقاط الجنين بعد مضي مائة وعشرين يوما، فإنه حينئذ يكون اعتداء على نفس يستوجب العقوبة في الدنيا والاخرة (1) أما إسقاط الجنين، أو إفساد اللقاح قبل مضي هذه المدة، فإنه يباح إذا وجد ما يستدعي ذلك، فإن لم يكن ثمة سبب حقيقي فإنه يكره.
قال صاحب سبل السلام: " معالجة المرأة لاسقاط النطفة قبل نفخ الروح يتفرع جوازه وعدمه على الخلاف في العزل، فمن أجازه أجاز المعالجة، ومن حرمه حرم هذا بالاولى.
ويلحق بهذا تعاطي المرأة ما يقطع الحبل من أصله، انتهى.
ويرى الامام الغزالي: أن الاجهاض جناية على موجود حاصل، قال: ولها مراتب، أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة، وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جناية، فإن صارت مضغة وعلقة كانت الجناية أفحش وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة، ازدادت الجناية تفاحشا.
__________
(1) عن عبد الله قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق الصدوق: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح ويأمر بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد

(2/195)


الإيلاء:
تعريفه:
الايلاء (1) في اللغة: الامتناع باليمين: وفي الشرع: الامتناع باليمين من وطء الزوجة.
ويستوي في ذلك اليمين بالله، أو الصوم، أو الصدقة، أو الحج، أو الطلاق.
وقد كان الرجل في الجاهلية يحلف على ألا يمس امرأته السنة، والسنتين، والاكثر من ذلك بقصد الاضرار بها، فيتركها معلقة، لاهي زوجة، ولاهي مطلقة.
فأراد الله سبحانه أن يضع حدا لهذا العمل الضار.
فوقته بمدة أربعة أشهر، يتروى فيها الرجل، عله يرجع إلى رشده، فإن رجع في تلك المدة، أو في آخرها، بأن حنث في اليمين، ولامس زوجته، وكفر عن يمينه فيها، وإلا طلق.
فقال: " للذين يؤلون من نسائهم تربص (2) أربعة أشهر. فإن فاءوا (3) فإن الله غفور رحيم. وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم (4) ".
مدة الايلاء (5) :
اتفق الفقهاء على أن من حلف ألا يمس زوجته أكثر من أربعة أشهر كان موليا.
واختلفوا فيمن حلف ألا يمسها أربعة أشهر:
__________
(1) آلى يولي إيلاء وإلية إذا حلف فهو مول.
(2) التربص: الانتظار.
(3) فاءوا: رجعوا.
(4) سورة البقرة الاية: 227.
(5) تبدأ المدة من وقت اليمين.

(2/196)


فقال أبو حنيفة وأصحابه: يثبت له حكم الايلاء.
وذهب الجمهور ومنهم الائمة الثلاثة: إلى أنه لا يثبت له حكم الايلاء، لان الله جعل له مدة أربعة أشهر، وبعد انقضائها: إما الفئ وإما الطلاق.
حكم الايلاء:
إذا حلف ألا يقرب زوجته، فإن مسها في الاربعة الاشهر، انتهى الايلاء ولزمته كفارة اليمين.
إذا مضت المدة ولم يجامعها، فيرى جمهور العلماء أن للزوجة أن تطالبه: إما بالوطء وإما بالطلاق.
فإن امتنع عنهما فيرى مالك أن للحاكم أن يطلق عليه دفعا للضرر عن الزوجة.
ويرى أحمد والشافعي وأهل الظاهر أن القاضي لا يطلق وإنما يضيق على الزوج ويحبسه حتى يطلقها بنفسه.
وأما الاحناف فيرون أنه إذا مضت المدة ولم يجامعها فإنها تطلق طلقة بائنة بمجرد مضي المدة.
ولا يكون للزوج حق المراجعة لانه أساء في استعمال حقه بامتناعه عن الوطء بغير عذر، ففوت حق زوجته وصار بذلك ظالما لها.
ويرى الامام مالك أن الزوج يلزمه حكم الايلاء إذا قصد الاضرار بترك الوطء وإن لم يحلف على ذلك، لوقوع الضرر في هذه الحال كما هو واقع في حالة اليمين.
الطلاق الذي يقع بالايلاء: والطلاق الذي يقع بالايلاء طلاق بائن، لانه لو كان رجعيا لامكن للزوج أن يجبرها على الرجعة، لانها حق له، وبذلك لا تتحقق مصلحة الزوجة، ولا يزول عنها الضرر.
وهذا مذهب أبي حنيفة.
وذهب مالك والشافعي وسعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن إلى أنه طلاق رجعي، لانه لم يقم دليل على أنه بائن، ولانه طلاق زوجة مدخول بها من غير عوض ولا استيفاء عود.

(2/197)


عدة الزوجة المولى منها:
ذهب الجمهور إلى أن الزوجة المولى منها تعتد كسائر المطلقات لانها مطلقة، وقال جابر بن زيد: لا تلزمها عدة إذا كانت قد حاضت في مدة الاربعة أشهر ثلاث حيض.
قال ابن رشد: وقال بقوله طائفة، وهو مروي عن ابن عباس، وحجته: أن العدة إنما وضعت لبراءة الرحم.
وهذه قد حصلت لها البراءة.

(2/198)


حق الزوج على زوجته من حق الزوج على زوجته أن تطيعه في غير معصية، وأن تحفظه في نفسها وماله، وأن تمتنع عن مقارفة أي شئ يضيق به الرجل، فلا تعبس في وجهه، ولا تبدو في صورة يكرهها، وهذا من أعظم الحقوق.
روى الحاكم عن عائشة قالت: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها.
قالت: فأي الناس أعظم حقا على الرجل؟ قال: أمه ".
ويؤكد رسول الله هذا الحق فيقول: " لو أمرت أحدا أن يسجد لاحد.
لامرت المرأة أن تسجد لزوجها، من عظم حقه عليها ".
رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان.
وقد وصف الله سبحانه الزوجات الصالحات فقال: " فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله (1) ".
والقانتات هن الطائعات، والحافظات للغيب: أي اللائي يحفظن غيبة أزواجهن، فلا يخنه في نفس أو مال.
وهذا أسمى ما تكون عليه المرأة، وبه تدوم الحياة الزوجية، وتسعد.
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير النساء من إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك ".
ومحافظة الزوجة على هذا الخلق يعتبر جهادا في سبيل الله.
روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك: هذا الجهاد كتبه الله على الرجال، فإن يصيبوا أجروا وإن قتلوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون.
ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا
__________
(1) سورة النساء من الاية: 34.

(2/199)


من ذلك؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: " أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافا بحقه يعدل ذلك.
وقليل منكن من يفعله ".
ومن عظم هذا الحق أن قرن الاسلام طاعة الزوج بإقامة الفرائض الدينية وطاعة الله، فعن عبد الرحمن بن عوف، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت " رواه أحمد والطبراني.
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة ماتت، وزوجها عنها راض، دخلت الجنة ".
وأكثر ما يدخل المرأة النار، عصيانها لزوجها، وكفرانها إحسانه إليها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اطلعت في النار فإذا أكثر أهلها النساء.
يكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط ".
رواه البخاري.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجئ، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح ". رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وحق الطاعة هذا مقيد بالمعروف.
فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فلو أمرها بمعصية وجب عليها أن تخالفه.
ومن طاعتها لزوجها ألا تصوم نافلة إلا بإذنه، وألا تحج تطوعا إلا بإذنه، وألا تخرج من بيته إلا بإذنه.
روى أبو داود الطيالسي، عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " حق الزوج على زوجته ألا تمنعه نفسها، ولو كان على ظهر قتب (1) وأن لا تصوم يوما واحدا إلا بإذنه، إلا لفريضة، فإن فعلت
__________
(1) قتب: ظهر بعير.

(2/200)


أثمت، ولم يتقبل منها، وألا تعطي من بيتها شيئا إلا بإذنه، فإن فعلت كان له الاجر، وعليها الوزر، وألا تخرج من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت لعنها الله وملائكة الغضب حتى تتوب أو ترجع، وإن كان ظالما ".
عدم إدخال من يكره الزوج: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تدخل أحدا بيته يكرهه إلا بإذنه.
عن عمرو بن الاحوص الجشمي رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول: بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ. ثم قال: " ألا، واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان (1) عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين بفاحشة مبينة.
فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضربا غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.
ألا إن لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فحقكم عليهن ألا يوطئن فروشكم من تكرهونه، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهونه، ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ".
رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
خدمة المرأة زوجها: أساس العلاقة بين الزوج وزوجته هي المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات.
وأصل ذلك قول الله تعالى: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة (2) ".
فالاية تعطي المرأة من الحقوق مثل ما للرجل عليها، فكلما طولبت المرأة بشئ طولب الرجل بمثله.
والاساس الذي وضعه الاسلام للتعامل بين الزوجين وتنظيم الحياة بينهما، هو أساس فطري وطبيعي.
فالرجل أقدر على العمل والكدح والكسب خارج المنزل، والمرأة أقدر على تدبير المنزل، وتربية الاولاد، وتيسير أسباب الراحة
__________
(1) عوان: بفتح العين وتخفيف الواو: أي أسيرات.
(2) سورة البقرة الاية: 228.

(2/201)


البيتية، والطمأنينة المنزلية، فيكلف الرجل ما هو مناسب له، وتكلف المرأة ما هو من طبيعتها، وبهذا ينتظم البيت من ناحية الداخل والخارج دون أن يجد أي واحد من الزوجين سببا من أسباب انقسام البيت على نفسه.
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها، فجعل على فاطمة خدمة البيت، وجعل على علي العمل والكسب.
روى البخاري ومسلم أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحاء وتسأله خادمة.
فقال: " ألا أدلكم على ما هو خير لكما مما سألتما: إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثا وثلاثين، وكبرا أربعا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم ".
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكان له فرس فكنت أسوسه، وكنت أحش له، وأقوم عليه.
وكانت تعلفه، وتسقي الماء، وتخرز الدلو، وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ.
ففي هذين الحديثين ما يفيد بأن على المرأة أن تقوم بخدمة بيتها، كما أن على الرجل أن يقوم بالانفاق عليها.
وقد شكت السيدة فاطمة رضي الله عنها ما كانت تلقاه من خدمة، فلم يقل الرسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي لا خدمة عليها وإنما هي عليك.
وكذلك لما رأى خدمة أسماء لزوجها لم يقل لا خدمة عليها، بل أقره على استخدامها.
وأقر سائر أصحابه على خدمة أزواجهن. مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية.
قال ابن القيم: هذا أمر لا ريب فيه، ولا يصح التفريق بين شريفة دنيئة، وفقيرة وغنية.
فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءت الرسول صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة، فلم يشكها (1) .
__________
(1) يشكها: أي لم يسمع شكايتها.

(2/202)


قال بعض علماء المالكية: (1) إن على الزوجة خدمة مسكنها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبوة، أو ترفه، فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك.
وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل كلفت ما يكلفه نساؤهم.
وذلك أن الله تعالى قال: " ولهن مثل الذي عليهن، بالمعروف (2) ".
وقد جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الامر وحديثه بما ذكرنا.
ألا ترى أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا يتكلفون الطحين والخبز والطبيخ وفرش الفراش، وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت عن ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذنهن بالخدمة. فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن.
هذا هو المذهب الصحيح خلافا لما ذهب إليه مالك وأبو حنيفة والشافعي من عدم وجوب خدمة المرأة لزوجها، وقالوا إن عقد الزواج إنما اقتضى الاستمتاع لا الاستخدام وبذل المنافع.
والاحاديث المذكورة تدل على التطوع ومكارم الاخلاق.
تجاوز الصدق بين الزوجين:
المحافظة على الانسجام في البيت، وتقوية روابط الاسرة غاية من الغايات التي يستباح من أجل الحصول عليها تجاوز الصدق.
روي أن ابن أبي عذرة الدؤلي - أيام خلافة عمر رضي الله عنه - كان يخلع النساء اللائي يتزوج بهن، فطارت له في النساء من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الارقم حتى أتى به إلا منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله (3) هل تبغضينني؟ قالت: لا تنشدني بالله.
__________
(1) من تفسير القرطبي.
(2) سورة البقرة الاية: 229.
(3) أسألك.

(2/203)


قال: فإني أنشدك بالله. قالت: نعم. فقال لابن الارقم أتسمع؟ ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون أني أظلم النساء، وأخلعهن، فاسأل ابن الارقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة ابن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها، فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه؟ فقالت: إني أول من تاب، وراجع أمر الله تعالى، إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب.
أفأكذب يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم فاكذبي، فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي يبني على الحب. ولكن الناس يتعاشرون بالاسلام والاحساب.
وقد روى البخاري ومسلم عن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا، أو يقول خيرا ".قالت: ولم أسمعه يرخص في شئ مما يقول الناس إلا في ثلاث: يعني الحرب، والاصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها، فهذا حديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة.
إمساك الزوجة بمنزل الزوجية:
من حق الزوج أن يمسك زوجته بمنزل الزوجية، ويمنعها عن الخروج منه (1) إلا بإذنه ويشترط في المسكن أن يكون لائقا بها، ومحققا لاستقرار المعيشة الزوجية، وهذا المسكن، يسمى بالمسكن الشرعي، فإذا لم يكن المسكن لائقا بها ولا يمكنها من استيفاء الحقوق الزوجية المقصودة من الزواج، فإنه لا يلزمها القرار فيه، لان المسكن غير شرعي.
ومثال ذلك، ما إذا كان بالمسكن آخرون يمنعها وجودهم معها من المعاشرة الزوجية، أو كان يلحقها بذلك ضرر، أو تخشى على متاعها.
وكذلك لو كان
__________
(1) وهذا بخلاف زيارة أبويها فلها أن تزورهما كل أسبوع أو بحسب ما جرى به العرف ولو لم يأذن لها، لان ذلك من صلة الرحم الواجبة ولها أن تمرض المريض منهما إذا لم يوجد من يمرضه ولو لم يرض زوجها لان ذلك واجب ولا يجوز أن يمنعها من الواجب.

(2/204)


المسكن خاليا من المرافق الضرورية، أو كان بحال تستوحش منها الزوجة، أو كان الجيران جيران سوء.
الانتقال بالزوجة:
من حق الزوج أن ينتقل وزوجته حيث يشاء لقول الله تعالى: " أسكنوهن
من حيث سكنتم، من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن (1) ".
والنهي عن المضارة يقتضي ألا يكون القصد من الانتقال بالزوجة المضارة بها، بل يجب أن يكون القصد هو المعايشة، وما يقصد بالزواج، فإن كان يقصد المضارة والتضييق عليها في طلبه نقلها كأن تهبه شيئا من المهر، أو تترك شيئا من النفقة الواجبة عليه لها، أو لا يكون مأمونا عليها، فلها الحق في الامتناع.
وللقاضي أن يحكم لها بعدم استجابتها له.
وقيد الفقهاء استعمال هذا الحق أيضا بألا يكون في الانتقال بها خوف الضرر عليها.
كأن يكون الطريق غير آمن، أو يشق عليها مشقة جديدة لا تحتمل في العادة، أو يخاف فيه من عدو.
فإذا خافت الزوجة شيئا من ذلك فلها أن تمتنع عن السفر، وقد جاء في إحدى المذكرات القضائية ما يلي: " ولما كانت مصلحة الزوجين من النقله وعدمها لا تتحدد ولا تضبط أطلقوها من غير بيان وجهها اعتمادا على فطنة القاضي وعدالته وحكمته.
فإن من البين أن مجرد كون الزوج في شخصه مأمونا على زوجته لا يكفي لتحقق المصلحة في الاجبار على النقلة.
بل لا بد من مراعاة أحوال أخرى ترجع إلى الزوج وإلى الزوجة. وإلى البلدان المنقول منها والمنتقل إليها.
كأن يكون الباعث على الانتقال مصلحة يعتد بها، فلما يمكن الحصول عليها بدون الاغتراب، وكأن يكون الزوج قادرا على نفقات ارتحالها كأمثالها، وفي يده فضل يغلب على الظن أنه لو اتجر فيه مثلا لربح ما يعدل نفقته ونفقة عياله، أو صناعة فنية تقوم بمعاشه ومعاشهم.
" وكأن يكون الطريق بين البلدين مأمونا على النفس والعرض والمال.
__________
(1) سورة الطلاق الاية: 6.

(2/205)


وكأن تكون الزوجة بحيث تقول على مشقة السفر من بلدها إلى المكان الذي يريد نقلها إليه.
وكأن لا يكون المحل الذي يريد نقلها إليه بطبيعته منبعا للحميات، والاوبئة، والامراض.
وكأن لا يكون الاختلاف بين البلدين في الحرارة والبرودة مثلا مما لا تحتمله الامزجة والطباع.
وكأن تكون كرامة الزوجة في موضع نقلتها محفوظة ككرامتها في محلها الاصلي.
وكأن لا يلحقها بسبب الانتقال ضرر مادي أو أدبي، إلى كثير من الاعتبارات التي يجب ملاحظتها في مثل هذه الظروف وتختلف باختلاف الاشخاص والمواطن ولا تخفى عن القاضي الفطن ".
وهذا من خير ما يقال تفصيلا في هذا الموضوع.
اشتراط عدم خروج الزوجة من دارها:
من تزوج امرأة، وشرط لها ألا يخرجها من دارها أو لا يخرج بها إلى بلد غير بلدها فعليه الوفاء بهذا الشرط، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن أحق الشروط أن توفوا به، ما استحللتم به الفروج " رواه البخاري، ومسلم، وغيرهما عن عقبة بن عامر.
وهذا مذهب أحمد، وإسحاق بن راهويه، والاوزاعي.
وذهب غير هؤلاء من الفقهاء إلى أنه لا يلزمه الوفاء بهذا الشرط. وله نقلها عن دارها.
وقالوا في الحديث: إن الشرط الواجب الوفاء به هو ما كان خاصا في المهر، والحقوق الزوجية التي هي من مقتضى العقد دون غيرها مما لا يقتضيه.
وقد تقدم في أول هذا المجلد الشروط في الزواج، واختلاف العلماء فيه، مفصلا.
منع الزوجة من العمل:
فرق العلماء بين عمل الزوجة الذي يؤدي إلى تنقيص حق الزوج، أو ضرره، أو خروجها من بيته، وبين العمل الذي لا ضرر فيه، فمنعوا الاول.
وأجازوا الثاني.

(2/206)


قال ابن عابدين، من فقهاء الاحناف: " والذي ينبغي تحريره أن يكون منعها من كل عمل يؤدي إلى تنقيص حقه، أو ضرره، أو إلى خروجها من بيته.
أما العمل الذي لا ضرر فيه فلا وجه لمنعها منه وكذلك ليس له منعها من الخروج إذا كانت تحترف عملا هو من فروض الكفاية الخاصة بالمرأة مثل عمل القابلة ".
خروج المرأة لطلب العلم:
إذا كان العلم الذي تطلبه المرأة مفروضا (1) عليها وجب على الزوج أن يعلمها إياه - إذا كان قادرا على التعليم - فإذا لم يفعل، وجب عليها أن تخرج حيث العلماء ومجالس العلم، لتتعلم أحكام دينها ولو من غير إذنه.
أما إذا كانت الزوجة عالمة بما فرضه الله عليها من أحكام، أو كان الزوج متفقها في دين الله، وقام بتعليمها، فلا حق لها في الخروج إلى طلب العلم إلا بأذنه.
تأديب الزوجة عند النشوز:
قال الله تعالى: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا (2) نشوز الزوجة: هو عصيان الزوج وعدم طاعته أو امتناعها عن فراشه، أو خروجها من بيته بغير إذنه.
وعظتها تذكيرها بالله، وتخويفها به، وتنبيهها للواجب عليها من الطاعة وما لزوجها عليها من حق، ولفت نظرها إلى ما يلحقها من الاثم بالمخالفة والعصيان، وما يفوت من حقوقها من النفقة، والكسوة.
والهجر في المضجع: أي في الفراش، وأما الهجر في الكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ".
ولا تضرب الزوجة لاول نشوزها.
والآية فيها إضمار وتقدير.
أي: " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن ".
__________
(1) العلم الفرض: هو العلم بالعمل الذي فرضه الله لان كل ما فرض الله عمله فرض العلم به.
(1) سورة النساء الاية: 34.

(2/207)


فإن نشزن " فاهجروهن في المضاجع "، فإن أصررن " فاضربوهن ".
أي إذا لم ترتدع بالوعظ والهجر فله ضربها.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه.
فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح " أي غير شديد.
وعليه أن يجتنب الوجه، والمواضع المخوفة، لان المقصود التأديب. لا الاتلاف.
روى أبو داود عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت يارسول الله: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: " أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت ".
تزين المرأة لزوجها:
من المستحسن أن تتزين المرأه لزوجها بالكحل والخضاب والطيب، ونحو ذلك من أنواع الزينة.
روى أحمد عن كريمة بنت همام: " قالت لعائشة رضي الله عنها: ما تقولين يا أم المؤمنين في الحناء؟ فقالت: كان حبيبي صلى الله عليه وسلم يعجبه لونه، ويكره ريحه، وليس بمحرم عليكن بين كل حيضتين، أو عند كل حيضة ".

(2/208)


التبرج:
معناه: التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه وأصله الخروج من البرج، وهو القصر، ثم استعمل في خروج المرأة من الحشمة وإظهار مفاتنها وإبراز محاسنها.
التبرج في القرآن: وقد ورد التبرج في القرآن الكريم في موضعين: (الموضع الاول) في سورة النور.
جاء فيه قول الله سبحانه: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن (1) .
" (والموضع الثاني) ورد في النهي عنه والتشنيع عليه في سورة الاحزاب، في قوله سبحانه: " ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى " (2) .
منافاته للدين والمدنية: إن أهم ما يتميز به الانسان عن الحيوان اتخاذ الملابس وأدوات الزينة.
يقول الله تعالى: " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم
وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون " (3) .
والملابس والزينة هما مظهران من مظاهر المدنية والحضارة، والتجرد عنهما إنما هو ردة إلى الحيوانية، وعودة إلى الحياة البدائية.
__________
(1) آية: 60.
(2) آية: 33.
(3) سورة الاعراف آية: 26.

(2/209)


والحياة، وهي تسير سيرها الطبيعي، لا يمكن أن ترجع إلى الوراء، إلا إذا حدثت لها نكسة تبدل آراءها، وتغير أفكارها، وتجعلها تعود القهقرى ناسية أو متناسية مكأسبها الحضارية ورقيها الانساني.
وإذا كان اتخاذ الملابس لازما من لوازم الانسان الراقي، فإنه بالنسبة للمرأة ألزم، لانه هو الحفاظ الذي يحفظ عليها دينها وشرفها وعفافها وحياءها.
وهذه الصفات ألصق بالمرأة، وأولى بها من الرجل، ومن ثم كانت الحشمة أولى بها وأحق.
إن أعز ما تملكه المرأة، الشرف، والحياء، والعفاف، والمحافظة على هذه الفضائل محافظة على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة، ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام.
ولا سيما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز وأشدها على الاطلاق.
والتبذل مثير لهذه الغريزة ومطلق لها من عقالها.
ووضع الحدود والقيود والسدود أمامها مما يخفف من حدتها ويطفئ من جذوتها ويهذبها تهذيبا جديرا بالانسان وكرامته، ومن أجل هذا عني الاسلام عناية خاصة بملابس المرأة، وتناول القرآن ملابس المرأة مفصلا لحدودها، على غير عادة القرآن في تناوله المسائل الجزئية بالتفصيل، فهو يقول: " يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين (1) ".
وتوجيه الخطاب إلى نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين دليل على أن جميع النساء مطالبات بتنفيذ هذا الامر، دون استثناء واحدة منهن، مهما بلغت من الطهر، ولو كانت في طهارة بنات النبي عليه الصلاة والسلام وطهارة نسائه.
ويولي القرآن هذا الامر عناية بالغة ويفصل ذلك تفصيلا، فيبين ما يحل كشفه وما يجب ستره، فيقول: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن، إلا ما ظهر
__________
(1) سورة الاحزاب الاية: 59.

(2/210)


منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ... الخ " الاية (1) .
حتى ولو كانت المرأة عجوزا لا رغبة لها ولا رغبة فيها: يقول الله تعالى: " والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا، فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير (2) لهن (3) ".
ويهتم الاسلام بهذه القضية، فيحدد السن التي تبدأ بها المرأة في الاحتشام، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح لها أن يرى منها إلا هذا وهذا. وأشار إلى وجهه وكفيه ".
والمرأة فتنة، ليس أضر على الرجال منها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة إذا أقبلت أقبلت ومعها شيطان، وإذا أدبرت أدبرت ومعها شيطان ".
وتجرد المرأة من ملابسها وإبداء مفاتنها يسلبها أخص خصائصها من الحياء والشرف ويهبط بها عن مستواها الانساني.
ولا يطهرها مما التصق بها من رجس سوى جهنم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " صنفان من أهل النار لم أرهما: رجال بأيديهم سياط كأذناب البقر، ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليشم من مسافة كذا وكذا ".
وفي عهد النبوة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بعض مظاهر التبرج، فيلفت نظر النساء إلى أن هذا فسق عن أمر الله، ويردهن إلى الجادة المستقيمة، ويحمل الاولياء والازواج تبعة هذا الانحراف، وينذرهم بعذاب الله.
1 - عن موسى بن يسار رضي الله عنه قال: مرت بأبي هريرة امرأة
__________
(1) سورة النور آية: 31.
(2) يستعففن: أي يستترن.
(3) سورة النور آية: 60.

(2/211)


وريحها تعصف (1) فقال لها أين تريدين (2) يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد. قال: وتطيبت؟ قالت: نعم. قال: فارجعي واغتسلي، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يقبل الله صلاة من امرأة خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع فتغتسل (3) ". وإنما أمرت بالغسل لذهاب رائحتها.
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أصابت بخورا (4) فلا تشهدن العشاء ".
أي: الاخرة. رواه أبو داود والنسائي.
3 - وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد دخلت امرأة من مزينة ترفل (5) في زينة لها في المسجد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس: انهوا (5) نساءكم عن لبس الزينة والتبختر في المسجد، فإن بني اسرائيل لم يلعنوا حتى لبس نساؤهم الزينة وتبختروا في المسجد "، رواه ابن ماجه.
وكان عمر رضي الله عنه يخشى من هذه الفتنة العارمة، فكان يطب لها قبل وقوعها، وعلى قاعدة " الوقاية خير من العلاج "، فقد روى عنه أنه كان يتعسس ذات ليلة فسمع امرأة تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل من سبيل إلى نصر بن حجاج فقال: أما في عهد عمر فلا.
فلما أصبح استدعى نصر بن حجاج فوجده من أجمل الناس وجها، فأمر بخلق شعره فازداد جمالا، فنفاه إلى الشام
__________
(1) يشتد طيبه، من عصفت الريح عصفا وعصوفا.
اشتدت، فهي عاصف وعاصفة.
(2) إلى أي مكان تذهبين يا مخلوقة القهار وأمته.
(3) رواه ابن خزيمة في صحيحه قال الحافظ: إسناده متصل ورواته ثقات، ورواه أبو داود وابن ماجه، من طريق عاصم بن عبيد الله العمري.
(4) عود الطيب أحرقنه.
(5) المشي خيلاه.
(6) امنعوهن وحذروهن.

(2/212)


سبب هذا الانحراف:
وقد سبب الجهل والتقليد الاعمى الانحراف عن هذا الخط المستقيم، وجاء الاستعمار فنفخ فيه وأوصله إلى غايته ومداه، فأصبح من المعتاد أن يجد المسلم المرأة المسلمة، متبذلة، عارضة مفاتنها، خارجة في زينتها، كاشفة عن صدرها ونحرها وظهرها وذراعها وساقها.
ولا تجد أي غضاضة في قص شعرها، بل تجد من الضروري وضع الاصباغ والمساحيق والتطيب بالطيب واختيار الملابس المغرية، وأصبح " لموضات " الازياء مواسم خاصة يعرض فيها كل لون من ألوان الاغراء والاثارة.
وتجد المرأة من مفاخرها ومن مظاهر رقيها أن ترتاد أماكن الفجور والفسق والمراقص والملاهي، والمسارح والسينما، والملاعب والاندية والقهاوي. وتبلغ منتهى هبوطها في المصايف وعلى البلاج.
وأصبح من المألوف أن تعقد مسابقات الجمال تبرز فيها المرأة أمام الرجل، ويوضع تحت الاختبار كل جزء من بدنها، ويقاس كل عضو من أعضائها على مرأى ومسمع من المتفرجين والمفترجات، والعابثين والعابثات.
وللصحف وغيرها من أدوات الاعلام، مجال واسع في تشجيع هذه السخافات، والتغرير بالمرأة للوصول إلى المستوى الحيواني الرخيص، كما أن لتجار الازياء دو خطيرا في هذا الاسفاف.
نتائج هذا الانحراف:
وكان من نتائج هذا الانحراف أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وانهدم كيان الاسرة، وأهملت الواجبات الدينية وتركت العناية بالاطفال، واشتدت أزمة الزواج، وأصبح الحرام أيسر حصبولا من الحلال.
وبالجملة فقد أدى هذا التهتك إلى انحلال الاخلاق وتدمير الاداب التي اصطلح الناس عليها في جميع المذاهب والاديان.
وقد بلغ هذا الانحراف حدا لم يكن يخطر على بال مسلم، وتفنن دعاة التحلل والتفسخ، واتخذوا أساليب للتجميل واستعمال الزينة، ووضعوا لها

(2/213)


منهجا وأعدوا معاهدا لتدريس هذه الاساليب.
نشرت جريدة الاهرام تحت عنوان " مع المرأة " ما يلي " أول معهد لتدريس تصفيف شعر السيدات في الاسكندرية " " خبير ألماني يقوم بالتدريس في المعهد بعد شهر ". لاول مرة تقيم رابطة مصففي شعر السيدات في الاسكندرية معهدا لتصفيف شعر السيدات.
أقيم المعهد من تبرعات أعضاء الرابطة، تبرع أحدهم " بسشوار " وتبرع آخر ببعض المكاوي ودبابيس الشعر والفرش..وهكذا تكون المعهد بعد أن استأجرت له الرابطة شقة صغيرة ليكون نواة معهد كبير في المستقبل. وقد أصدرت الرابطة " أمر تكليف " إلى جميع أعضائها " أصحاب المهنة " بالحضور لالقاء المحاضرات النظرية، والقيام بالتجارب والدروس العملية أمام طلاب المعهد.
افتتح المعهد صباح أمس في مقر الرابطة في كليوباتزه، أحد أعضاء الرابطة بإلقاء محاضرة في كيفية قص الشعر، وبعض الطرق في فن القص، نم قام بعمل تسريحة جديدة لن تصميمه سماها " لشعلة " لاحدى " المنيكانات " وكان يشرح التسريحة وهو يقوم بها. سيد رس في المعهد فن تصفيف الشعر، والصباغة، والالوان، والقص، وتقليم الاظافر، والمسياج، والتدليك، " يقول رئيس الرابطة في القاهرة وضيف رابطة الاسكندرية: إنه أنشأ مثل هذا المعهد في القاهرة منذ 5 أشهر، وزغم قصر المدة أحرز العهد نتيجة مشرفة، إذ أن الطلبة والطالبات يستفيدون من تبادل الافكار بين أعضاء الرابطة، ومن عرض التسريحات وشرحها أمامهم، مما يرفع مستوى المهنة، كما استفادوا أيضا من حضور بعض الخبراء الالمان ومحاضراتهم العلمية والنظرية أمام الطلبة، وسوف يحضر خبير ألماني إلى معهد الاسكندرية في الشهر القادم، كما تعقد الرابطة في الشهر نفسه مسابقة للحصول على جائزة الجمهورية في فن تصفيف الشعر، وستكون الدراسة في المعهد أسبوعية بصفة مبدئية ".
انتهى ما نشر بالاهرام.

(2/214)


هذا فضلا عن الاموال الطائلة التي تستهلك في شراء أدوات التجميل، فقد بلغ عدد الصالونات في القاهرة وحدها ألف صالون لتصفيف وتجميل الشعر، ويوزع في العام 10 ملايين قلم روج وعطر بودرة.
ولم يقتصر هذا الفساد على ناحية دون ناحية، بل تجاوزها إلى دور العلم ومعاهد التربية وكليات الجامعة ... وكان المفروض أن تصان هذه الدور من الهبوط حتى تبقى لها حرمتها وكيانها المقدس، فقد جاء في صحيفة أخبار اليوم بتاريخ 29 / 9 / 1962 ما يلي.
" فتاة الجامعة لا تفرق بين حرم الجامعة وصالة عرض الازياء " في هذه الايام من كل عام، عندما تعلن الجامعة عن افتتاح أبوابها ... تبدأ
الصحف والمجلات في الكتابة عن الفتاة الجامعية وتثار المناقشات حول زيها ومكياجها ... فيطالب البعض بتوحيد زيها، وينادي آخرون بمنعها من وضع المكياج، قالت الكاتبة وأنا لا أؤيد هذه الاراء، لايماني بأن اختيار الفتاة لازيائها ينمي من شخصيتها، ويساعد على تكوين ذوقها ... والفتيات في معظم جامعات الخارج لا ترتدين زيا موحدا.
ولا يحرمن من وضع المكياج، ولكني مع هذا لا ألوم كثيرا أصحاب هذه الاراء المتطرفة ... فالفتاة الجامعية عندنا تدفعهم إلى المطالبة بذلك، لانها لا تعرف كيف تختار الزي والماكياج المناسبين لها كطالبة، ولا تبذل أي مجهود في هذا السبيل ... إنها لا تفرق كثيرا بين حرم الجامعة وصالة عرض الازياء، أو الكرنفال ... فهي تذهب إلى الجامعة في " عز الصباح " بفستان ضيق يكاد ضيقه يمنعها من الحركة، مع الكعب العالي الذي ترتديه..وعندما تغيره تستبدل به فستانا واسعا تحته أكثر من " جيبونة " تشل بدورها حركة صاحبتها، وتجعلها أشبه بالاباجورة المتحركة، وهي فوق هذا - إن نسيت كتبها ومجد محاضراتها - فهي لا تنسى أبدا الحلق، والعقد، والسوار، والبروش، الذي تحلى به أذنيها وصدرها وذراعيها وشعرها في غير تناسق أو ذوق ... ثم مضت الكاتبة تقول: وهذا كله يرجع في رأيي إلى أن الفتاة الجامعية عندنا لا تأخذ الدراسة الجامعية مأخذ الجد..فهي تضع فوقها زينتها

(2/215)


وأناقتها والمفروض أن يكون العكس هو الصحيح، في وقت نالت فيه ثقافة المرأة أعلى تقدير! ليس معنى هذا أنني أطالب الفتاة الجامعية بإهمال ملابسها وزينتها ... إنني أطالب بالاهتمام أولا بدروسها، ثم بتخفيف ماكياج وجهها، إن لم يكن مراعاة لحرم الجامعة، فعلى الاقل مراعاة لبشرتها التي يفسدها كثرة الماكياج، في سن تكون فضارة الوجه فيها أجمل بكثير من الماكياج المصطنع ... ثم بعد ذلك أطالبها بالحد من استعمال الحلي، وبارتداء الملابس البسيطة التي تناسب الفتاة الجامعية كالفستان " الشيزييه " و " التايير " ذي الخطوط البسيطة، والفستان الذي تنسدل جوبته إلى أسفل، في وسع خفيف لا يعرقل حركتها..والجوب والبلوزة، أو الجوب والبلوفر، أو الجوب والجاكت - وأن ترعى في اختيارها لهذه الازياء الالوان الهادثة التي لا تثير " القيل والقال " بين زملائها الطلبة ... " إنني أطالب الفتاة الجامعية باتباع هذه ... وأطالب أولياء أمورها بضرورة الاشراف التام على ثياب بناتهم، فالفتاة في العهد الجديد لم يعد هدفها الاول والاخير في الحياة جلب الانظار إليها " بالدندشة والشخلعة ". " إنها اليوم يجب أن تصقل بالثقافة والعلم والذوق السليم ".
فلم يعد أقصى ما تصبو إليه هو مكتب سكرتيرة تجلس عليه لترد على تليفونات المدير، وإنما المجال قد فتح أمامها وجلست إلى مكتب الوزارة ... " هذا ما قالته إحدى الكاتبات في الاخبار، وهي تعتب على بنات جنسها، وتنعي عليهم هذا التصرف المعيب.
وهذه الحالة قد أثارت اهتمام زائرات القاهرة من الجنبيات، إذ لم تكن المرأة الغربية تفكر في مدى الانحدار الذي تردت فيه المرأة الشرقية ... ففي " أهرام " 27 مارس 1962 جاء فيه في باب " مع المرأة " هذا العنوان: " المرأة الغربية غير راضية عن تقليد المرأة الشرقية لها " وجاء تحت هذا العنوان: " اهتمام المرأة العربية بالمودات الغربية، وحرصها على تقليد المرأة الغربية في تصرفاتها، وفي طباعها، لا تستسيغه السائحات الغربيات اللائي يحضرن لزيارة القاهرة، ولا يرفع من سمعتها في الخارج كما

(2/216)


تظن، أفصحت عن ذلك الرأي صحفية انجليزية زارت القاهرة أخيرا، وكتبت مقالا في مجلتها تقول فيه: " لقد صدمت جدا بمجرد نزولي أرض المطار، فقد كنت أتصور أنني سأقابل المرأة الشرقية بمعنى الكلمة، ولا أقصد بهذا المرأة التي ترتدي الحجاب والحبرة، وإنما المرأة الشرقية المتحضرة التي الازياء العملية التي تتسم بالطابع الشرقي، وتتصرف بطريقة شرقية، ولكنني لم أجد شيئا من هذا، فالمرأة هناك، هي نفسها المرأة التي تجدها عندما تنزل إلى أي مطار أوربي، فالازياء هي نفسها بالحرف الواحد، وتسريحات الشعر هي نفسها، والماكياج هو نفسه، حتى طريقة الكلام والمشية، وفي بعض الاحيان اللغة: إما الفرنسية أو الانجليزية!!! " وقد صدمني من المرأة الشرقية أنها تصورت أن التمدن والتحضر هو تقليد المرأة الغربية ونسيت أنها تستطيع أن تتطور وأن تتقدم كما شاءت، مع الاحتفاظ بطابعها الشرقي الجميل ".
وفي " جمهورية " السبت 9 يونيو 1962 نشر تحت هذا العنوان: " كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية المرأة ".
نقلت الصحيفة، تحت هذا العنوان كلاما ثمينا صريحا، وقد بدأت فقدمت الكاتبة الامريكية للقراء.
فقالت: " غادرت القاهرة الصحفية الامريكية " هيلسيان ستانسبري " بعد أن أمضت عدة أسابيع ها هنا، زارت خلالها المدارس، والجامعات، ومعسكرات الشباب والمؤسسات الاجتماعية، ومراكز الاحداث، والمرأة، والاطفال وبعض الاسر في مختلف الاحياء، وذلك في رحلة دراسية لبحث مشاكل الشباب والاسرة في المجتمع العربي.
" وهيلسيان " صحفية متجولة، تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي، يقرأه الملايين، ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الاذاعة والتيفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاما، وزارت جميع بلاد العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها ".

(2/217)


تقول الصحفية الامريكية بعد أن أمضت شهرا في الجمهورية العربية بعد أن قدمتها الجريدة هذا التقديم: " إن المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشاب في حدود المعقول.
وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الاوربي والامريكي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة، وتحتم احترام الاب والام، وتحتم أكثر من ذلك، عدم الاباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والاسرة في أوربا وأمريكا.
ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة - وأقصد ما تحت سن العشرين - هذه القيود صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوربا وأمريكا. امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الامريكي مجتمعا معقدأ، مليئا بكل صور الاباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين، يملاون السجون والارضفة والبارات والبيوت السرية.
إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات " جيمس دين " وعصابات للمخدرات، والرقيق. إن الاختلاط والاباحية والحرية في المجتمع الاوربي والمريكي هدد الاسر، وزلزل القيم والاخلاق، فالفتاة الصغيرة تحت سن العشرين في المجتمع الحديث تخالط الشبان، وترقص " تشاتشا " وتشرب الخمر والسجاير.
وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والاباحية.
والعجيب في أوربا وأمريكا أن الفتاة الصغيرة تحت سن العشرين تلعب، تلهو تعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والديها ومدرسيها والمشرفين عليها، تتحداهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الاباحية والانطلاق، تتزوج في دقائق.
وتطلق بعد ساعات!! ولا

(2/218)


يكلفها هذا أكثر من إمضاء وعشرين قرشا وعريس ليلة، أو ليضع ليال، وبعدها الطلاق.
وربما الزواج فالطلاق مرة أخرى.
علاج هذا الوضع الشاذ:
ولا مناص من وضع خطة حازمة للخلاص من هذه الموبقات، وذلك باتخاذ ما يأتي:
1 - نشر الوعي الديني وتبصير الناس بخطورة الاندفاع في هذا التيار الشديد.
2 - المطالبة بسن قانون يحمي الاخلاق والاداب، ومعاقبة من يخرج عليه بشدة وحزم.
3 - منع الصحف وجميع أدوات الاعلام من نشر الصور العارية، ووضع رقابة على مصممي الازياء.
4 - منع مسابقات الجمال والرقص الفاجر، وتحقير كل ما يتصل بهذا الامر.
5 - اختيار ملابس مناسبة أشبه بملابس الراهبات، وتكليف كل من يشتغل بعمل رسمي بارتدائها.
6 - يبدأ كل فرد بنفسه، ثم يدعو غيره.
7 - الاشادة بالفضيلة والحشمة والصيانة والتستر.
8 - العمل على شغل أوقات الفراغ حتى لا يبقى متسع من الوقت لمثل هذا العبث.
8 - اعتبار الزمن جزءا من العلاج، إذ أنها تحتاج إلى وقت طويل.
دفع شبهة:
ويحلو لبعض الناس أن يسايروا التيار ويمشوا مع الركب، زاعمين أن ذلك تطور حتمي اقتضته ظروف المدنية الحديثة.
ونحن لا نمنع أن يسير التطور في طريقه، وأن يصل إلى مداه: ولكنا نخشى أن يفسر التطور على حساب الدين والاخلاق والاداب، فإن الدين وما

(2/219)


يتبعه من تعاليم خلقية وأدبية، إنما هو من وحي الله، شرعه لكل عصر ولكل زمان ومكان ... فإذا كان التطور جائزا في أمور الدنيا، وشئون الحياة، فليس ذلك مما يجوز في دين الله.
إن الدين نفسه هو الذي فتح للعقل الانساني آفاق الكون، لينظر فيه، وينتفع بما فيه من قوى وبركات.
ويطور حياته لتصل إلى أقصى ما قدر له من تقدم ورقي ... فثمة فرق كبير بين ما يقبل التطور وبين ما لا يقبله ... والدين ليس لعبة تخضع للاهواء، وتوجهها الشهوات والرغبات (1) .
تزين الرجل لزوجته:
من المستحب أن يتزين الرجل لزوجته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إني لاتزين لامرأتي كما تتزين لي، وما أحب أن أستنظف (2) كل حقي الذي لي عليها، فتستوجب حقها الذي لها علي، لان الله تعالى قال: " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ".
قال القرطبي في قول ابن عباس هذا: قال العلماء: " أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم، فإنهم يعملون ذلك على الليق (3) والوفاق.
فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت، وزينة تليق بالشباب، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ".
قال: " وكذلك في شأن الكسوة، ففي هذا كله ابتغاء الحقوق، فإنما يعمل اللائق والوفاق، ليكون عند امرأته في زينة تسرها، ويعفها عن غيره من الرجال ".
__________
(1) أطلنا القول في هذا الموضوع: لاهميته، ولانه إحدى المشكلات الاجتماعية التي تحتاج إلى المزيد من العناية.
(2) أستنظف: آخذ الحق كله.
(3) الليق: اللياقة والحذق.

(2/220)


قال: " وأما الطيب، والسواك، والخلال، والرمي بالدرن (1) ، وفضول الشعر، والتطهر، وقلم الاظافر، فهو بين موافق للجميع.
والخضاب للشيوخ، والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة، وهو حلى الرجال.
ثم عليه أن يتوخى أوقات حاجتها إلى الرجال فيعفها، ويغنيها عن التطلع إلى غيره ... وإن رأي الرجل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها، أخذ من الادوية التي تزيد في باهه، وتقوي شهوته حتى يعفها (2) .
__________
(1) الدرن: الوسخ.
(2) درج بعض الناس على تعاطي المخدرات كالحشيش والافيون وسواها واستناموا لها استنامة لا إفاقة منها وهم في الحقيقة جانون على أنفسهم وعائلاتهم جناية ليست وراءها جناية. ومن المؤسف أنهم يترخصون في هذا إشباعا لشهواتهم وخضوعا لاهوائهم وقد ذهب العلماء إلى أن الحشيش محرم وأن متعاطيه يستحق حد شارب الخمر وأن مستحله كافر مرتد عن الاسلام، وإن زوجته تبين منه، هذا فضلا عن إضعافه البدن فيفقد نشاطه، وقوته.

(2/221)


حديث أم زرع - عن عائشة قالت: " جلس إحدى عشرة امرأة فتعاهدن، (1) وتعاقدن أن لا يكتمن من أحبار أزواجهن شيئا: قالت الاولى: زوجي لحم جمل غث (2) على رأس جبل (3) لا سهل (4) فيرتقى (5) ولا سمين فينتقل (6) .
وقالت الثانية: زوجي لا أبث (7) خبره. إني أخاف أن لا أذره (8) .
__________
ذكر النسائي أن سبب هذا الحديث أن قالت عائشة: " فخرت بمال أبي في الجاهلية، وكان ألف ألف أوقية.
فقال النبي على الله عليه وسلم " اسكتي يا عائشة، فإني كنت لك كأبي زرع لام زرع "..وقيل سبب الحديث أن عائشة وفاطمة جرى بينهما كلام فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما أنت بمنتهية يا حميراء عن ابنتي. إن مثلي ومثلك كأبي زرع مع أم زرع، فقالت: يا رسول الله حدثنا عنهما.
فقال: كانت قرية فيها إحدى عشرة امرأة، وكان الرجال خلوفا، فقلن، تعلين نتذاكر أزواجنا بما فيهم ولا نكذب..وقيل إن هذه القرية كانت باليمن ... وقيل إنهن كن بمكة ... وقيل: إنهن كن في الجاهلية.
(1) أي الزمن أنفسهن عهدا وتعاقدن على الصدق.
(2) هزيل يستكره.
(3) أي كثير الضجر شديد الغلظة يصعب الرقي إليه كالجبل.
(4) أي لا هو سهل ولا سمين، شبهت شيئين بشيئين: شبهت زوجها باللحم الغث، وشبهت سوء خلقه بالجبل العوعر ثم فسرت ما أجملت: لا الجبل سهل فلا يشق ارتقاؤه لاخذ اللحم ولو كان هزيلا، لان الشئ المزهود فيه قد يؤخذ إذا وجد بغير نصب، ولا اللحم سمين فيتحمل المشقة في صعود الجبل لاجل تحصيله.
(5) وصف للجبل أي لا سهل فيرتقي إليه.
(6) وصف للحم: أي أنه لهزاله لا يرغب أحد فهى ينتقل إليه أي أن زوجها شديد البخل سئ الخلق ميئوس منه.
(7) أي لا أظهر حديثه الذي لا خير فيه.
(8) أي أخاف أن لا أترك من خبره شيئا، فلطوله وكثرته أكتفى بالاشارة إلى معايبه خشية أن يطول الخطب من طولها.

(2/222)


إن أذكره أذكر عجره (1) وبجره (2) .
قالت الثالثة: زوجي العشنق (3) : إن أنطق أطلق (4) ، وإن أسكت أعلق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تهامة (5) ، لا حر ولا قر، ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فهد (6) ، وإن خرج أسد (7) ولا يسأل عما عهد (8) .
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف (9) ، وإن شرب اشتف (10) ، وإن اضطجع التف (11) ولا يولج الكف ليعلم البث (12) .
__________
(1) العجر: تعقد العروق والعصب في الجسد ... (2) والبجر مثلها إلا أنها تكون مختصة بالتي تكون في البطن.
قال الخطابي: أرادت عيوبه الظاهرة وأسراره الكامنة، ولعله كان مستور الظاهر ردئ الباطن، وهي عنت أن زوجها كثير المعايب متعقد النفس عن المكارم ... (3) المذموم الطول - أرادت أن لا منظرا بلا مخبر. وقيل هو السئ الخلق.
(4) أي إن ذكرت عيوبه وبلغه ذلك طلقني، وإن أسكت عنها فأنا عنده معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة مع أنها متعلقة به وتحبه مع سوء خلقه.
(5) تهامة بلاد حارة في معظم الزمان وليس فيها رياح باردة فيطيب الليل لاهلها بالنسبة لما كانوا فيه من أذى حرارتها..فوصفت زوجها بجميل العشرة واعتدال الحال، وسلامة الباطن، فكأنها قالت لا أذى عنده ولا مكروه ... وأنا آمنة منه فلا أخاف من شره ... فليس سئ الخلق فأسأم من عشرته. فأنا لذيذة العيش عنه كلذة أهل تهامة بليلهم المعتدل.
(6) شبهته بالفهد لانه يوصف بالحياء وقلة الشر وكثرة النوم والوثوب، فهي وصفته بالغفلة عند دخول البيت على وجه المدح له.
(7) أسد أي يصير بين الناس مثل الاسد فهي تريد أنه في البيت كالفهد في كثرة النوم والوثوب وفي خارجه كالاسد على الاعداء.
(8) بمعنى أنه شديد الكرم كثير التغاضي لا يتفقد ما ذهب ما ماله فهو كثير التسامح.
(9) المراد باللف الاكثار منه. فعنده نهم وشره.
(10) الاشتفاف في الشرب عدم الابقاء على شئ من المشروب.
(11) أي بكسائه وحده، وانقبض عن أهله إعراضا فهي حزينة بذلك.
(12) البث هو الحزن أي لا يمد يده ليعلم ما هي عليه من حزن فيزيله، ويحتمل أن تكون أرادت أنه ينام نوم العاجز الفشل: أردات أنه لا يسأل عن الامر الذي تهتم به، هو المباشرة الجنسية.

(2/223)


قالت السابعة: زوجي غياباء.
أو عياياء، طباقاء (1) ، كل داء له داء (2) شجك (3) أو قلك (4) أو جمع كلا لك (5) .
قالت الثامنة: زوجي المس مس (6) أرنب، والريح ريح زرنب (7) .
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد (8) طويل النجاد (9) ، عظيم الرماد (10) قريب البيت من الناد (11) .
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك (12) قليلات المسارح (13) وإذا سمعن صوت المزهر (14) أيقن أنهن هوالك (15) .
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع، فما أبو زرع؟ (16)
__________
(1) شك من راوي الحديث والعياباء الذي لا يضرب، ولا يلقح من الابل، وبالمعجمة ليس بشئ، والطباقاء الاحمق..أو هو الثقيل الصدر: فهي تصفه بأنه عاجز عن النساء ثقيل الصدر (2) أي كل داء تفرق في الناس فهو فيه.
(3) شجك: أي جرحك في رأسك وجراحات الرأس تسمى شجاجة.
(4) فلك: أي جرح جسدك.
(5) أي أنه ضروب للنساء، فإذا ضرب إما أن يكسر عظما، أو يشج رأسا أو يجمعهما.
(6) أي ناعم الجلد مثل الارنب.
(7) الززنب نبت طيب الريح.
(8) وصفته بعلو بيته وطوله، فإن بيوت الاشراف كذلك يعلونها ويضربونها في المواضع المرتلعة (9) النجاد: حمالة السيف، وهي تريد أنه أيضا شجاع.
(10) كناية عن الكرم.
(11) أي وضع بيته وسط الناس ليسهل لقاؤه، وهو لا يحتجب عن الناس.
(12) جمع مبرك وهو موضع نزول الابل.
(13) الموضع الذي تطلق لترعى فهى أي لا تخرج إلى المرعى إلا قليلا استعدادا لنحهن للضيوف.
(14) آلة من آلات الطرب والغناء وهو العود.
(15) فإذا رأت الابل ذلك وسمعت ضرب العود أيقنت أنها هوالك، وأنها ستذبح للضيوف.
وقولها مالك وما مالك استفهامية تقال للتعظيم والتعجب.
(16) أي أن شأنه عظيم.

(2/224)


أناس (1) من حلي أذني (2) ، وملا من شحم عضدي (3) وبجحني فبجحت (4) إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمه بشق (5) فجعلني في أهل صهيل (6) وأطيط (7) ودائس (8) ومنق (9) فعنده أقول فلا أقبح (10) ، وأرقد فأتصبح (11) .
وأشرب فأتقمح (12) .
أم أبي زرع، فما أم أبي زرع؟: عكومها (13) رداح (14) ، وبيتها فساح (15) .
ابن أبي زرع، فما ابن أبي زرع؟
مضجعة كمسل (16) شطبة،
__________
(1) أناس، أي حرك وأثقل.
(2) المراد أنه ملا أذنيها من أقراط من ذهب ولؤلؤ.
و3) لم ترد العضد وحده، وإنما أرادت الجسم كله، وخصت العضد لانه أقرب ما يلي بصر الانسان من جسده أي كثرت نعمه عليها حتى سمن جمسها.
(4) المراد أنه فرحها ففرحت، وقيل عظمني فعظمت إلى نفسي.
(5) بشق: أي بشظف وجهد ومنه قول الله تعالى: لم تكونوا بالغيه إلى بشق الانفس) أي بعد جهد ومشقة.
(6) صهيل: أي خيل.
(7) أطيط: أي إبل، وأصل الاطيط صوت أعواد المحامل، ويطلق الاطيط على كل شئ نشأ عن ضغط.
(8) المارد أن عندهم طعاما منتقى من الزرع الذي يداس في بيدره ليتميز الحب من السنبل.
(9) المنق: الالة التي تميز الحب وتنقيه مثل المنخل والغربال.
(10) أي لكثرة إكرامه لها وتدللها عليه لا يرد لها قولا، ولا يقبح عليها ما تأتي به.
(11) أي أنام الصبحة وهي نوم أول النهار، فلا أوقظ، إشارة إلى أن لها من يكفيها مؤنة بيتها ومهنة أهلها.
(12) هو الشرب على مهل حتى تمتلئ، وترتوي وهي تريد أنواع الاشربة من لبن وغير ذلك.
(13) هي نمط تجعل المرأة فيها ذخيرتها ومتاعها - حقيبة -.
(14) يقال للكتيبة الكبيرة رداح إذا كانت بطيئة السير، ويقال للمرأة إذا كانت عظيمة الكفل ثقيلة الوردك رداح.
أي أنها ثقيلة من ملئها.
(15) فساح: واسع.
والمعنى أنها وصفت أم زوجها بأنها كثيرة الالات والاثات والقماش واسعة المال كبيرة البيت، والمرأة التي تكون على هذا الحال يكون ابنها صغيرا لم يطعن في السن غالبا فزوجها صغير.
(16) أرادت بمسل الشطبة سيفا سل من غمده، فمضجعه الذي ينام فيه في الصغر كقدر سل شطبة واحدة: وهي العود المحدود كالمسلة.

(2/225)


ويشبعه ذراع الجفرة (1) .
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها وطوع أمها (2) ، وملء كسائها (3) وغيظ جارتها (4) جارية أبي زرع.
فما جارية أبي زرع؟ لا تبث (5) حديثنا تبثيثا (6) ، ولا تنقث (7) ميراثنا تنقيثا (8) ولا تملا بيتنا تقشيشا (9) .
قالت خرج أبو زرع، والاوطاب (10) تمخض (11) فلقي (12) امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلقيان من تحت خصرها برمانتين (13) فطلقني ونكحها فنكحت بعده رجلا سريا (14) ركب شريا (15)
__________
(1) الجفرة: هي الانثى من ولد المعز إذا كان سن أربعة أشهر، وفصل عن أمه وأخذ في الرعي فهي وصفت ابن زوجها بأنه خفيف الوطأة عليها، فإذا دخل بيتها وقت القيلولة مثلا لم يضطجع إلا قدر ما يسل السيف من غمده، وأنه لا يحتاج طعاما من عندها، فلو طعم لا كتفي باليسير الذي يسد الرمق من المأكول والمشروب فهو ظريف لطيف.
(2) أي أنها بارة بهما.
(3) كناية عن كمال شخصها ونعمة جسمها.
(4) أي أنها تغيظ جارتها لما ترى من نعم وخير، والمراد بجارتها ضرتها أو المراد في الحقيقة شأن أغلب الجارت.
(5) لا تبث أي لا تظهر.
(6) أي لا تفش سرا.
(7) أي لا تسرع فيه بالخيانة ولا تذهبه بالسرقة.
أو تحسن صنع الطعام.
(8) الميرة: هي الزاد وأصله ما يحصله البدوي من الخضر ويحمله إلى منزله.
(9) أي مصلحة للبيت مهتمة بتنظيمه وتنظيفه.
(10) جمع وطب وهو وعاء اللبن.
(11) إخراج الزبد من اللبن والمراد أنه خرج من عندها مبكرا.
(12) سبب رؤية أبي زرع للمرأة وهي على هذه الحالة أنها تعبت من مخض اللبن فاستلقت تستريح فرآها على هذه الحالة، وسبب رغبته في إنكاحها أنهم كانوا يحبون نكاح المرأة المنجبة.
(13) المراد بالرمانة ثديها، وهذا دليل على أن المرأة كانت صغيرة السن وأن ولديها كانا يلعبان وهما في حضنها أو جنبها.
(14) أي من سراة الناس أي شريفا.
(15) فرسا عظيما خيرا، والشرى هو الذي يمضي في السير بلا فتور.

(2/226)


وأخذ خطيا (1) وأراح (2) علي نعما ثريا (3) ، وأعطاني من كل رائحة زوجا (4) ، وقال كلي أم زرع وميري (5) أهلك.
قالت فلو جمعت كل شي أعطانيه ما بلغ أصغر آنية (6) أبي زرع.
قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كنت لك كأبي زرع لام زرع " (7) .
رواه الشيخان والنسائي.
__________
(1) هو الرمح.
(2) أي أتى بها إلى المراح وهو موضع مبيت الحاشية، وقيل معناه غزا فغنم فأتى بالنعم الكثيرة.
(3) أي كثيرة.
(4) المعنى أعطاني من كل شئ يذبح زوجا أي اثنين من كل شئ من الحيوان الذي يرعى. وأرادت كذلك كثرة ما أعطاها.
(5) ميري أهلك. أي صليهم واسعي إليهم بالميرة وهي الطعام.
(6) أي التي كان يطبخ فيها عند أبي زرع على الدوام والاستمرار من غير نفس ولا قطع.
(7) في رواية بزيادة في آخره: إلا أنه طلقها وإني ألا أطلقك. وزاد النسائي في رواية: عائشة يا رسول الله: بل أنت خير من أبي زرع.

(2/227)


الخطبة قبل الزواج:
يستحب أن يقدم العاقد أو غيره بين يدي العقد خطبة.
وأقلها: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
1 - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء (1) ".
رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن غريب.
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله، فهو أقطع ".
رواه أبو داود وابن ماجه.
أي أن كل أمر معتنى به، ومحتاج إلى أن يلقي صاحبه باله له من الاهتمام به لا يبدأ بحمدالله فهو مقطوع من البركة.
وليس المراد خصوص الحمد، بل المقصود ذكر الله عزوجل، ليتفق مع الروايات الاخرى.
والافضل أن يخطب خطبة الحاجة.
فعن عبد الله بن مسعود قال: " أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الخير وخواتيمه، أوقال فواتح الخير، فعلمنا خطبة الصلاة، وخطبة الحاجة، خطبة الصلاة: التحيات لله والصلوات والطيبات.
السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وخطبة الحاجة: إن الحمدلله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهد الله فلامضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ... ثم تصل خطبتك بثلاث آيات من كتاب الله:
__________
(1) اليد التي أصابها الجذام.

(2/228)


1 - " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (1) ".
2 - " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء.
واتقوا الله الذي
تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيبا (2) ".
3 - " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (3) ".
رواه أصحاب السنن وهذا لفظ ابن ماجه: ولو لم يأت بالخطبة صح النكاح.
فعن رجل بن بني سليم قال: خطبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي عرضت نفسها عليه ليتزوجها صلى الله عليه وسلم.
فقال له: " زوجتكها بما معك من القرآن." ولم يخطب
حكمة ذلك: قال في حجة الله البالغة: " كان أهل الجاهلية يخطبون قبل العقد بما يرونه من ذكر فاخر قومهم ونحو ذلك.
يتوسلون بذلك إلى ذكر المقصود والتنويه به، وكان جريان الرسم بذلك مصلحة، فإن الخطبة مبناها على التشهير.
وجعل الشئ بمسمع ومرأى من الجمهور.
والتشهير بما يراد وجوده في النكاح ليتميز من السفاح..وأيضا فالخطبة لا تستعمل إلا في الامور المهمة.
والاهتمام بالنكاح وجعله أمرا عظيما بينهم من أعظم المقاصد، فأبقى النبي صلى الله عليه وسلم أصلها، وغير وصفها.
وذلك أنه ضم مع هذه المصالح مصلحة أخرى وهي: أنه ينبغي أن يضم في كل ارتفاق ذكر مناسب له، وينوه في كل عمل بشعائر الله، ليكون الدين الحق
__________
(1) سورة آل عمران.
آية 102.
(2) سورة النساء آية: 1.
(3) سورة الاحزاب آية: 71.

(2/229)


ناشرا أعلامه وراياته، ظاهرا شعاره وأماراته، فسن فيها أنواعا من الذكر كالحمد والاستعانة والاستغفار والتعوذ والتوكل والتشهد وآيات من القرآن.
وأشار إلى هذه المصلحة بقوله: " وكل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الحذماء ".
وقوله " كل كلام لا يبدأ فيه بحمدالله فهو أجذم ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح " الدعاء بعد العقد يستحب الدعاء لكل واحد من الزوجين بالمأثور:
1 - فعن أبي هريرة: " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الانسان أي إذا تزوج.
قال: بارك الله لك وبارك عليك وجمع بينكما في خير ".
2 - وعن عائشة قالت: " تزوجني النبي صلى الله عليه وسلم، فأتتني أمي فأدخلتني الدار، فإذا نسوة من الانصار في البيت، فقلن: على الخير، والبركة وعلى خير طائر ".
رواه البخاري وأبو داود.
3 - وعن الحسن قال: تزوج عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه امرأة من بني جشم. فقالوا: بالرفاء والبنين.
فقال: قولوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بارك الله فيكم، وبارك عليكم " رواه النسائي.

(2/230)


إعلان الزواج:
يستحسن شرعا إعلان الزواج، ليخرج بذلك عن نكاح السر المنهي عنه، وإظهارا للفرح بما أحل الله من الطيبات.
وإن ذلك عمل حقيق بأن يشتهر، ليعلمه الخاص والعام، والقريب والبعيد، وليكون دعاية تشجع الذين يؤثرون العزوبة على الزواج، فتروج سوق الزواج.
والاعلان يكون بما جرت به العادة، ودرج عليه عرف كل جماعة، بشرط ألا يصحبه محظور نهى الشارع عنه كشرب الخمر، أو اختلاط الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
1 - عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدقوف ". رواه أحمد، والترمذي، وحسنه.
وليس من شك في أن جعله في المساجد أبلغ في إعلانه والاذاعة به، إذ أن المساجد هي المجامع العامة للناس، ولا سيما في العصور الاولى التي كانت المساجد فيه بمثابة المنتديات العامة.
2 - وروى الترمذي، وحسنه، والحاكم وصححه عن يحيى بن سليم قال: قلت لمحمد بن حاطب: تزوجت امرأتين ما كان في واحدة منهما صوت - يعني دفا - فقال محمد رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فصل ما بين الحلال والحرام الصوت بالدف ".
الغناء عند الزواج:
ومما أباحه الاسلام وحبب فيه، الغناء عند الزواج، ترويحا للنفوس وتنشيطأ لها باللهو البرئ.

(2/231)


ويجب أن يخلو من المجون، والخلاعة، والميوعة، وفحش القول وهجره.
1 - فعن عامر بن سعد رضي الله عنه قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود الانصاري في عرس، وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله، ومن أهل بدر - يفعل هذا عندكم!! فقالا: " إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فاذهب، قد رخص لنا في اللهو عند العرس ".
رواه النسائي والحاكم وصححه.
2 - وزفت السيدة عائشة رضي الله عنها الفارعة بنت أسعد، وسارت معها في زفافها إلى بيت زوجها - نبيط بن جابر الانصاري - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا عائشة ما كان معكم لهو؟ فإن الانصار يعجبهم اللهو " رواه البخاري وأحمد وغيرهما.
وفي بعض روايات هذا الحديث أنه قال: " فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدف، وتغني؟ ".
قالت عائشة: تقول ماذا يا رسول الله؟ قال: تقول: أتيناكم أتيناكم - فحيونا نحييكم ولولا الذهب الاحمر - ما حلت بواديكم ولولا الحنطة السمراء - ما سمنت عذاريكم وعن الربيع بنت معوذ قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم حين بني (1) - بي - فجلس على فراشي، فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف.
ويندبن من قتل من آبائي يوم بدر (2) إذ قالت إحداهن: ... وفينا نبي يعلم ما في غد فقال: " دعي هذا وقولي بالذي كنت تقولين (3) ".
رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
__________
(1) تزوجت.
(2) يذكرن صفات الشجاعة والبأس وما تحلوا به من الكرام والمروءة.
وكان أبوها معوذ وعماها
عوف، ومعاذ قتلوا في بدر.
(3) نهاها عن ذلك لانه لا يعلم الغيب إلا الله، وجاء في حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا يعلم ما في غد إلا الله سبحانه " رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم.

(2/232)


وصايا الزوجة:
استحباب وصية الزوجة: قال أنس: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زفوا امرأة على زوجها، يأمرونها بخدمة الزوج ورعاية حقه.
وصية الاب ابنته عند الزواج: وأوصى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ابنته فقال: " إياك والغيرة، فإنها مفتاح الطلاق ".
وإياك وكثرة العتب، فإنه يورث البغضاء ".
" وعليك بالكحل فإنه أزين الزينة ".
" وأطيب الطيب، الماء ".
وصية الزوج زوجته: وقال أبو الدرداء لامرأته: " إذا رأيتني غضبت فرضني.
وإذا رأيتك غضبى رضيتك.
وإلا لم نصطحب ".
وقال أحد الازواج لزوجته " خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
ولا تقريني نقرك الدف مرة فإنك لا تدرين كيف المغيب ولا تكثري الشكوى فتذهب بالقوى ويأباك قلبي، والقلوب تقلب

(2/233)


فإنى رأيت الحب في القلب والاذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب وصية الام ابنتها عند الزواج: خطب عمرو بن حجر ملك كندة، أم إياس بنت عوف بن محلم الشيباني، ولما حان زفافها إليه خلت بها أمها أمامة بنت الحارث، فأوصتها وصية، تبين فيها أسس الحياة الزوجية السعيدة، وما يجب عليها لزوجها فقالت: أي بنية: إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتركت ذلك لك، ولكنها تذكرة للغافل، ومعونة للعاقل.
ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، وشدة حاجتهما إليها - كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال.
أي بنية: إنك فارقت الجو الذي منه خرجت، وخلفت العش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيبا ومليكا، فكوني له أمة يكن لك عبدا وشيكا.
واحفظي له خصالا عشرا، يكن لك ذخرا.
(أما الاولى والثانية) فالخشوع له بالقناعة، وحسن السمع له والطاعة.
(وأما الثالثة والرابعة) فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا يشم منك ألا أطيب ريح.
(وأما الخامسة والسادسة) فالتفقد لوقت منامه وطعامه.
فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
(وأما السابعة والثامنة) فالاحتراس بماله والارعاء (1) على حشمه (2) وعياله، وملاك (3) الامر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
(وأما التاسعة والعاشرة) فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أو غرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتما، والكآبة بين يديه إن كان فرحا.
__________
(1) الارعاء: الرعاية.
(2) حشمه: خدمه.
(3) ملاك: عماد.

(2/234)


الوليمة:
(1) تعريفها: الوليمة مأخوذة من الولم، وهو الجمع، لان الزوجين يجتمعان، وهي الطعام في العرس خاصة.
وفي القاموس: الوليمة طعام العرس، أوكل طعام صنع لدعوة وغيرها.
وأولم: صنعها.
(2) حكمها: ذهب الجمهور من العلماء إلى أنها سنة مؤكدة.
1 - لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف: " أولم. ولو بشاة ".
2 - وعن أنس قال: " ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على
شئ من نسائه، ما أولم على زينب: أولم بشاة ". رواه البخاري ومسلم.
3 - وعن بريدة قال: لما خطب علي فاطمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لابد للعرس من وليمة ".
رواه أحمد بسند لا بأس به كما قال الحافظ.
4 - قال أنس: " ما أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من نسائه، ما أولم على زينب، وجعل يبعثني فأدعو له الناس، فأطعمهم خبزا، ولحما، حتى شبعوا.
5 - وروى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم " أولم على بعص نسائه بمدين من شعير ".
وهذا الاختلاف ليس مرجعه تفضيل بعض نسائه على بعض، وإنما سببه اختلاف حالتي العسر واليسر.

(2/235)


(3) وقتها: وقت الوليمة عند العقد أو عقبه، أو عند الدخول أو عقبه.
وهذا أمر يتوسع فيه حسب العرف والعادة.
وعند البخاري أنه صلى الله عليه وسلم دعا القوم بعد الدخول بزينب.
(4) إجابة الداعي: إجابة الداعي إلى وليمة العرس واجبة على من دعي إليها، لما فيها من إظهار الاهتمام به، وإدخال السرور عليه، وتطييب نفسه:
1 - عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها ".
2 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " ومن ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله ".
3 - وعنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لو دعيت إلى كراع لاجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت ".
روى هذه الاحاديث البخاري.
فإذا كانت الدعوة عامة غير معينة لشخص أو جماعة لم تجب الاجابة، ولم تستحب.
مثل أن يقول الداعي: أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة دون تعيين، أو ادع من لقيت.
كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس ": تزوج النبي صلى الله عليه وسلم فدخل بأهله، فصنعت أمي أم سليم حيسا (1) ، فجعلته في تور (2) ، فقالت: يا أخي اذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبت به، فقال: ضعه.
ثم قال: ادع فلانا، وفلانا، ومن لقيت، فدعوت من سمتى ومن لقيت ". رواه مسلم.
وقيل: إن إجابة الداعي فرض كفاية.
__________
(1) الحيس: تمر يخلط بسمن وأقط: أي كشك.
(2) التور: إناء.

(2/236)


وقيل: إنها مستحبة..والاول أظهر، لان العصيان لا يطلق إلاعلى ترك الواجب.
هذا بالنسبة لوليمة العرس.
أما الاجابة إلى غير وليمة النكاح، فهي مستحبة غير واجبة عند جمهور العلماء.
وذهب بعض الشافعية إلى وجوب الاجابة مطلقا، وزعم ابن حزم أنه قول جمهور الصحابة والتابعين، لان في الاحاديث ما يشعر بالاجابة إلى كل دعوة سواء أكانت دعوة زواج، أم غيره.
(5) شروط وجوب إجابة الدعوة: قال الحافظ في الفتح: إن شروط وجوبها ما يأتي: 1 - أن يكون الداعي مكلفا حرا رشيدا.
2 - وألا يخص الاغنياء دون الفقراء.
3 - وألا يظهر قصد التودد لشخص لرغبة فيه، أو لرهبة منه.
4 - وأن يكون الداعي مسلما على الاصح.
5 - وأن يختص باليوم الاول على المشهور.
6 - وألا يسبق، فمن سبق تعينت الاجابة له، دون الثاني.
7 - وألا يكون هناك ما يتأذى بحضوره من منكر وغيره.
8 - وألا يكون له عذر.
قال البغوي: ومن كان له عذر، أو كان الطريق بعيدا تلحقه المشقة فلا بأس أن يتخلف.
(6) كراهة دعوة الاغنياء دون الفقراء: يكره أن يدعى إلى الوليمة الاغنياء دون الفقراء.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " شر طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله ". رواه مسلم.
وروى البخاري أن أبا هريرة قال: شر الطعام طعام الوليمة: يدعى لها الاغنياء، وتترك الفقراء.

(2/237)


زواج غير المسلمين:
القاعدة العامة في زواج غير المسلمين: " إقرار ما يوافق الشرع منها إذا أسلموا ".
إن أنكحة الكفار لم يتعرض لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف وقعت، وهل صادفت الشروط المعتبرة في الاسلام فتصح، أم لم تصادفها فتبطل؟.
وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج، فإن كان ممن يجوز له المقام مع امرأته أقرهما، ولو كان في الجاهلية وقد وقع على غير شرطه من الولي والشهود وغير ذلك.
وإن لم يكن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه، كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم، أو أختان، أو أكثر، فهذا هو الأصل الذي أصلته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما خالفه فلا يلتفت إليه (1) .
الرجل يسلم وتحته أختان، يخير في إمساك إحداهما وترك الاخرى: عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال: " أسلمت، وعندي امرأتان أختان، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما ".
رواه أحمد وأصحاب السنن والشافعي والدارقطني والبيهقي وحسنه الترمذي وصححه ابن حبان.
الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع يختار أربعا منهن: عن ابن عمر قال: " أسلم غيلان الثقفي، وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا ".
أخرجه أحمدو الترمذي وابن ماجه والشافعي، وابن حبان والحاكم وصححاه.
__________
(1) هذا خلاصة ماقاله ابن القيم.

(2/238)


إسلام أحد الزوجين دون الآخر:
إذا تم العقد بين الزوجين قبل الاسلام، ثم أسلم الزوجان فان كان العقد قد انعقد على من يصح العقد عليها في الاسلام، فحكمه واضح فيما سبق.
فإن أسلم أحد الزوجين دون الآخر: فإن كان الاسلام من المرأة انفسخ النكاح.
وتجب عليها العدة، فإن أسلم هو وهي في عدتها كان أحق بها، لما ثبت أن عاتكة ابنة الوليد بن المغيرة أسلمت قبل زوجها صفوان بن أمية، بنحو شهر، ثم أسلم هو، فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على نكاحه.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجها كافر، مقيم بدار الكفر إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا، قبل أن تقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا قدم وهي في عدتها.
وكذلك الحكم إذا أسلم بعد انقضاء العدة ولو طالت المدة فهما على نكاحهما الاول إذا اختارا ذلك ما لم تتزوج.
وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على زوجها أبي العاص بنكاحها الاول بعد سنتين ولم يحدث شيئا (1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن ليس بإسناده بأس وصححه الحاكم وهومن رواية ابن عباس.
قال ابن القيم: " ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه، بل متى أسلم الآخر.
فالنكاح بحاله ما لم تتزوج.
هذه هي سنته المعلومة، قال الشافعي: أسلم أبو سفيان بن حرب بمر الظهران، وهي وادي خزاعة، وبخزاعة مسلمون قبل الفتح في دار الاسلام، ورجع إلى مكة وهند بنت عتبة مقيمة على غير الاسلام، فأخذت
بلحيته وقالت: اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار إسلام، وأبو سفيان
__________
(1) في بعض الروايات: لم يحدث صداقا وفي بعضها: لم يحدث نكاحا أي عقدا جديدا.

(2/239)


بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت بعد انقضاء العدة واستقرا على النكاح الا أن عدتها لم تنقض حتى أسلمت.
وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية، وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارها دار الاسلام، وظهر حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن، وهي دار حرب وصفوان يريد اليمن، وهي دار حرب، ثم رجع صفوان ألى مكة، ومي دار الاسلام، وشهد حنينا، وهو كافر، ثم أسلم فاستقرت عنده امرأته بالنكاح الاول، وذلك أنه لم تنقض عدتها. وقد حفظ أهل العلم بالمغازي، ان امرأة من الانصار كانت عند زوجها بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة فاستقر على النكاح. انتهى.
قال صاحب الروضة الندبة بعد ما نقل هذا الكلام: أقول: إن إسلام المرأة مع بقاء زوجها في الكفر ليس بمنزلة الطلاق.
إذ لو كان كذلك لم يكن له عليها سبيل بعد انقضاء عدتها إلا برضاها مع تجديد العقد، فالحاصل أن المرأة المسلمة إن حاضت؟ الاسلام، ثم طهرت، كان لها أن تتزوج بمن شاءت، فإذا تزوجت لم يبق للاول عليها سبيل إذا أسلم.
وإن لم تتزوج كانت تحت عقد زوجها الاول، ولا يعتبر تجديد عقد ولا تراض.
هذا ما تقتضيه الادلة وإن خالف أقوال الناس، وهكذا الحكم في ارتداد أحد الزوجين، فإنه إذا عاد المرتد إلى الاسلام كان حكمه حكم إسلام من كان باقيا على الكفر.

(2/240)