فقه السنة

الحدود:

تعريفها: الحدود جمع حد، والحد في الاصل: الشئ الحاجز بين شيئين.
ويقال: ما ميز الشئ عن غيره.
ومنه: حدود الدار، وحدود الارض.
وهو في اللغة بمعنى المنع.
وسميت عقوبات المعاصي حدودا، لانها في الغالب تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حد لاجلها.
ويطلق الحد على نفس المعصية ومنه:
" تلك حدود الله فلا تقربوها " (1) .
والحد في الشرع عقوبة مقررة لاجل حق الله (2) .
فيخرج التعزير لعدم تقديره إذ أن تقديره مفوض لرأي الحاكم.
ويخرج القصاص لانه حق الادمي.
جرائم الحدود:
وقد قرر الكتاب والسنة عقوبات محددة لجرائم معينة تسمى " جرائم الحدود " وهذه الجرائم هي: " الزنا، والقذف، والسرقة، والسكر، والمحاربة، والردة، والبغي ".
فعلى من ارتكب جريمة من هذه الجرائم عقوبة محددة قررها الشارع.
فعقوبة جريمة الزنا، الجلد للبكر.
والرجم للثيب.
يقول الله سبحانه: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة
__________
(1) سورة البقرة: آية 187.
(2) معنى أن العقوبة مقررة لحق الله: أي أنها مقررة لصالح الجماعة وحماية النظام العام، لان هذا هو الغاية من دين الله.
وإذا كانت حقا لله فهي لا تقبل الاسقاط، لا من الافراد ولا من الجماعة.

(2/355)


منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ".
(1) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم ".
وعقوبة جريمة القذف ثمانون جلدة.
يقول الله سبحانه: " والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون " (2) وعقوبة جريمة السرقة، قطع اليد.
يقول الله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، جزاء بما كسبا نكالا من الله، والله عزيز حكيم ".
وعقوبة جريمة الفساد في الارض: القتل، أو الصلب، أو النفي، أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف، يقول الله سبحانه: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا، أو يصلبوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض. ذلك لهم خزي في الدنيا. ولهم في الاخرة عذاب عظيم " (3) .
وعقوبة جريمة السكر، ثمانون جلدة، أو أربعون على ما سيأتي مفصلا في موضعه.
وعقوبة الردة القتل، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه ".
وعقوبة جريمة البغي: القتل.
لقول الله سبحانه: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الاخرى، فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
__________
(1) سورة النساء: آية 15.
(2) سورة النور: آية 4.
(3) سورة المائدة: آية 33.

(2/356)


الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل، وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " (1) .
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه ستكون بعدي هنات وهنات.
فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ".
عدالة هذه العقوبات:
وهذه العقوبات - بجانب كونها محققة للمصالح العامة وحافظة للامن العام فهي عقوبات عادلة غاية العدل.
إذ أن الزنا جريمة من أفحش الجرائم وأبشعها.
وعدوان على الخلق والشرف والكرامة.
ومقوض لنظام الاسر والبيوت.
ومروج للكثير من الشرور والمفاسد التي تقضي على مقومات الافراد والجماعات، وتذهب بكيان الامة، ومع ذلك فقد احتاط الاسلام في اثبات هذه الجريمة، فاشترط شروطا يكاد يكون من المستحيل توفرها.
فعقوبة الزنا عقوبة قصد بها الزجر والردع والارهاب أكثر مما قصد بها التنفيذ والفعل.
وقذف المحصنين والمحصنات من الجرائم التي تحل روابط الاسرة وتفرق بين الرجل وزوجه، وتهدم أركان البيت، والبيت هو الخلية الاولى في بنية المجتمع، فبصلاحها يصلح، وبفسادها يفسد.
فتقرير جلد مقترف هذه الجريمة ثمانين جلدة بعد عجزه عن الاتيان بأربعة شهداء يؤيدونه فيما يقذف به، غاية في الحكمة وفي رعاية المصلحة، كيلا تخدش كرامة إنسان أو يجرح في سمعته.
والسرقة ما هي إلا اعتداء على أموال الناس وعبث بها.
والاموال أحب الاشياء إلى النفوس.
فتقرير عقوبة القطع لمرتكب هذه الجريمة حتى يكف غيره
عن اقتراف جريمة السرقة، فيأمن كل فرد على ماله، ويطمئن على أحب الاشياء لديه وأعزها على نفسه، مما يعد من مفاخر هذه الشريعة.
__________
(1) سورة الحجرات: آية 9.

(2/357)


وقد ظهر أثر الاخذ بهذا التشريع في البلاد التي تطبقه واضحا في استتباب الامن وحماية الاموال وصيانتها من أيدي العابثين، والخارجين على الشريعة والقانون.
وقد اضطر الاتحاد السوفيتي أخيرا إلى تشديد عقوبة السرقة بعد أن تبين له أن عقوبة السجن لم تخفف من كثرة ارتكاب هذه الجريمة، فقرر إعدام السارق رميا بالرصاص وهي أقسى عقوبة ممكنة (1) .
والمحاربون الساعون في الارض بالفساد المضربون لنيران الفتن، المزعجون للامن، المثيرون للاضطرابات، العاملون على قلب النظم القائمة، لا أقل من أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الارض.
والخمر تفقد الشارف عقله ورشده، وإذا فقد الانسان رشده وعقله ارتكب كل حماقة وفحش، فإذا جلد كان جلده مانعا له من المعاودة من جانب، ورادعا لغيره من اقتراف مثل جريرته من جانب آخر.
وجوب إقامة الحدود: إقامة الحدود فيها نفع للناس، لانها تمنع الجرائم، وتردع؟؟ اة، وتكف من تحدثه نفسه بانتهاك الحرمات، وتحقق الامن لكل فرد، على نفسه، وعرضه وماله، وسمعته، وحريته، وكرامته، وقد روى النسائي وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حد يعمل به في الارض خير لاهل الارض من أن يمطروا أربعين
صباحا (2) ".
وكل عمل من شأنه أن يعطل إقامة.
الحدود فهو تعطيل لاحكام الله، ومحاربة له، لان ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر.
__________
(1) جاء في حريدة الاهرام - 14 \ 8 \ 1963: " إن الاتحاد السوفيتي أعدم ثلاثة أشخاص رميا بالرصاص لاتهامهم بالسرقة، ولا يكاد يمر يوم دون أن ينشر من مثل هذا الكثير ".
(2) في الحديث جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله البجلي وهو ضعيف منكر.

(2/358)


روى أحمد، وأبو داود، والحاكم وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاد الله في أمره ".
وقد يحدث أن يغفل المرء عن الجناية التي يرتكبها الجاني وينظر إلى العقوبة الواقعة عليه، فيرق قلبه له ويعطف عليه، فيقرر القرآن أن ذلك مما يتنافى مع الايمان، لان الايمان يقتضي الطهر والتنزه عن الجرائم والسمو بالفرد والجماعة إلى الادب العالي والخلق المتين.
يقول الله سبحانه: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (1) .
إن الرحمة بالمجتمع أهم بكثير من الرحمة بالفرد.
فقسا ليزدجروا، ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم الشفاعة في الحدود: يحرم أن يشفع أحد أو يعمل على أن يعطل حدا من حدود الله، لان في ذلك تفويتا لمصلحة محققة، وإغراء بارتكاب الجنايات، ورضا بإفلات المجرم من تبعات جرمه.
وهذا بعد أن يصل الامر إلى الحاكم، لان الشفاعة حينئذ تصرف الحاكم عن وظيفته الاولى، وتفتح الباب لتعطيل الحدود (2) .
أما قبل الوصول إلى الحاكم، فلا بأس من التستر على الجاني، والشفاعة عنده.
أخرج أبو داود، والنسائي، والحاكم وصححه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد فقد وجب ".
__________
(1) سورة النساء: آية 2.
(2) ادعى ابن عبد البر الاجماع على أنه يجب على السلطان إقامة الحد إذا بلغه.

(2/359)


وأخرج أحمد، وأهل السنن، وصححه الحاكم من حديث صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما أراد أن يقطع الذي سرق رداءه فشفع فيه: " هلا كان قبل أن تأتيني به "؟! وعن عائشة قالت: " كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه.
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أسامة، لا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل ".
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا.
فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوا.
والذي نفسي بيده، لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها. " فقطع يد المخزومية، رواه أحمد، ومسلم، والنسائي.
سقوط الحدود بالشبهات:
الحد عقوبة من العقوبات التي توقع ضررا في جسد الجاني وسمعته، ولا يحل استباحة حرمة أحد، أو إيلامه إلا بالحق، ولا يثبت هذا الحق إلا بالدليل الذي لا يتطرق إليه الشك، فإذا تطرق إليه الشك كان ذلك مانعا من اليقين الذي تنبني عليه الاحكام.
ومن أجل هذا كانت التهم والشكوك لا عبرة لها ولا اعتداد بها، لانها مظنة الخطأ.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا ".
رواه ابن ماجه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الامام لان يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة ".
رواه الترمذي، وذكر أنه قد روي موقوفا، وأن الوقف أصح، قال: وقد روي عن غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا مثل ذلك.

(2/360)


الشبهات وأقسامها (1) :
تحدت الاحناف والشافعية عن الشبهات، ولكل منهما رأي نجمله فيما يأتي: رأي الشافعية: يرى الشافعية أن الشبهة تنقسم أقساما ثلاثة:
1 - شبهة في المحل: أي محل الفعل - مثل: وطء الزوج الزوجة الحائض أو الصائمة، أو إتيان الزوجة في دبرها، فالشبهة هنا قائمة في محل الفعل المحرم.
إذ أن المحل مملوك للزوج، ومن حقه أن يباشر الزوجة، وإذا لم يكن له أن يباشرها وهي حائض أو صائمة أو أن يأتيها في الدبر، إلا أن ملك الزوج للمحل وحقه عليه يورث شبهة.
وقيام هذه الشبهة يقتضي درء الحد، سواء اعتقد الفاعل بحل الفعل أو بحرمته، لان أساس الشبهة ليس الاعتقاد والظن، وإنما أساسها محل الفعل وتسلط الفاعل شرعا عليه.
2 - شبهة في الفاعل: كمن يطأ امرأة زفت إليه على أنها زوجته، ثم تبين له أنها ليست زوجته.
وأساس الشبهة ظن الفاعل واعتقاده بحيث يأتي الفعل وهو يعتقد أنه لا يأتي محرما، فقيام هذا الظن عند الفاعل يورث شبهة يترتب عليها درأ الحد - أما إذا أتى الفاعل الفعل وهو عالم بأنه محرم فلا شبهة.
3 - شبهة في الجبهة: ويقصد من هذا الاشتباه في حل الفعل وحرمته، وأساس هذه الشبهة الاختلاف بين الفقهاء على الفعل، فكل ما اختلفوا على حله أو جوازه كان الاختلاف فيه شبهة يدرأ بها الحد، فمثلا يجيز أبو حنيفة الزواج بلا ولي ويجيزه مالك بلا شهود، ولا يجيز جمهور الفقهاء هذا الزواج، ونتيجة هذا الزواج أنه لا حد على الوطء في هذا الزواج المختلف في صحته، لان الخلاف يقوم شبهة تدرأ الحد، ولو كان الفاعل يعتقد بحرمة الفعل، لان هذا الاعتقاد في ذاته ليس له أثر ما دام الفقهاء مختلفين على الحل والحرمة.
رأي الاحناف: أما الاحناف فإنهم يرون أن الشبهة تنقسم قسمين:
__________
(1) التشريع الجنائي الاسلامي.

(2/361)


1 - شبهة في الفعل: وهي شبهة في حق من اشتبه عليه الفعل دون من لم يشتبه عليه.
وتثبت هذه الشبهة في حق من اشتبه عليه الحل والحرمة، ولم يكن ثمت دليل سمعي يفيد الحل، بل ظن غير الدليل دليلا، كمن يطء زوجته المطلقة ثلاثا أو بائنا على مال في عدتها، وتعليل ذلك، أن النكاح إذا كان قد زال في حق الحل أصلا لوجود المعطل لحل المحلية، وهو الطلاق، فإن النكاح قد بقي في حق الفراش، والحرمة على الازواج فقط، ومثل هذا الوطء حرام، فهو زنا يوجب الحد - إلا إذا ادعى الواطئ الاشتباه وظن الحل - لانه بنى ظنه على نوع دليل، وهو بقاء النكاح في حق الفراش وحرمة الازواج، فظن أنه بقي في حق الحل أيضا - وهذا وإن لم يصلح دليلا على الحقيقة، لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه درءا لما يندرئ بالشبهات.
ويشترط - لقيام الشبهة في الفعل - ألا يكون هناك دليل على التحريم أصلا، وأن يعتقد الجاني الحل، فإذا كان هناك دليل على التحريم، أو لم يكن الاعتقاد بالحل ثابتا، فلا شبهة أصلا.
وإذا ثبت أن الجاني كان يعلم بحرمة الفعل وجب عليه الحد.
2 - الشبهة في المحل: ويسمونها الشبهة الحكمية، أو شبهة الملك: وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه وتقوم هذه الشبهة على الاشتباه في حكم الشرع بحل المحل، فيشترط في هذه الشبهة أن تكون ناشئة عن حكم من أحكام الشريعة - وهي تتحقق بقيام دليل شرعي ينفي الحرمة - ولا عبرة بظن الفاعل، فيستوي أن يعتقد الفاعل الحل، أو يعلم الحرمة، لان الشبهة ثابتة بقيام الدليل الشرعي، لا بالعلم وعدمه.
من يقيم الحدود؟: اتفق الفقهاء على أن الحاكم أو من ينيبه عنه هو الذي يقيم الحدود.
وأنه ليس للافراد أن يتولوا هذا العمل من تلقاء أنفسهم.
روى الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول:
" الزكاة، والحدود، والفئ، والجمعة إلى السلطان ".
قال الطحاوي: لا نعلم له مخالفا من الصحابة (1) .
__________
(1) تعقبه ابن حزم، فقال: إنه خالفه اثنا عشر صحابيا

(2/362)


وروى البيهقي عن خارجة بن زيد، عن أبيه، وأخرجه أيضا عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى أقوالهم من أهل المدينة أنهم كانوا يقولون: " لا ينبغي لاحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان، إلا أن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده أو أمته ".
وذهب جماعة من السلف، منهم الشافعي، إلى أن السيد يقيم الحد على مملوكه، واستدلوا بما روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن خادمة النبي صلى الله عليه وسلم أحدثت، فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أقيم عليها الحد، فأتيتها فوجدتها لم تجف من دمها فأتيته فأخبرته، فقال: " إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم ".
رواه أحمد وأبو داود، ومسلم، والبيهقي، والحاكم.
وقال أبو حنيفة يرفعه المولى للسلطان. ولا يقيمه هو بنفسه.
مشروعية التستر في الحدود:
قد يكون ستر العصاة علاجا ناجعا للذين تورطوا في الجرائم واقترفوا المآثم، وقد ينهضون بعد ارتكابها فيتوبون توبة نصوحا، ويستأنفون حياة نظيفة.
لهذا شرع الاسلام التستر على المتورطين في الاثام، وعدم التعجيل بكشف أمرهم.
عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرجل من أسلم يقال له هزال، وقد جاء يشكو رجلا بالزنا، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " (1) .
" يا - هزال - لو سترته بردائك كان خيرا لك ".
__________
(1) سورة النور آية: 4.

(2/363)


قال يحيى بن سعيد: فحدثت بهذا الحديث في مجلس فيه يزيد بن نعيم بن هزال الاسلمي، فقال يزيد: " هزال جدي، هذا الحديث حق ".
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه كشف الله عورته حتى يفضحه في بيته ".
وإذا كان الستر مندوبا، ينبغي أن تكون الشهادة به خلاف الاولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه، لانها في رتبة الندب في جانب الفعل، وكراهة التنزيه في جانب الترك، وهذا يجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد الزنا ولم يتهتك به.
أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به، فيجب كون الشهادة به أولى من تركها، لان مطلوب الشارع إخلاء الارض من المعاصي والفواحش وذلك يتحقق بالتوبة من الفاعلين، وبالزجر لهم، فإذا ظهر حال الشره في الزنا وعدم المبالاة به وإشاعته، فإخلاء الارض المطلوب حينئذ بالتوبة، احتمال يقابله ظهور عدمها، فمن اتصف بذلك فيجب تحقيق السبب الاخر للاخلاء، وهو الحدود، بخلاف من زنا مرة أو مرارا، مستترا متخوفا متندما عليه
فإنه محل استحباب ستر الشاهد (1) ".
ستر المسلم نفسه:
بل على المسلم أن يستر نفسه ولا يفضحها بالحديث عما يصدر عنه، من إثم أو إقرار أمام الحاكم لينفذ فيه العقوبة.
روى الامام مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس: قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله ... من أصاب شيئا من هذه القاذورة فليستتر بستر الله، فإنه من يبد لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله ".
__________
(1) انظر ص 164 ج 3 حاشية الشلبي على الزيلعي من كتاب الحدود لمبهنسي.

(2/364)


الحدود كفارة للآثام:
يرى أكثر العلماء أن الحدود إذا أقيمت كانت مكفرة لما اقترف من آثام، وأنه لا يعذب في الاخر.
لما رواه البخاري ومسلم عن عبادة بن الضامت قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: " تبايعوني على أن تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئا من ذلك فعوقب به فهو كفارة له (1) .
ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ".
وإقامة الحد وإن كانت مكفرة للاثام، فإنها مع ذلك زاجرة عن اقترافها.
فهي جوابر وزواجر معا.
إقامة الحدود في دار الحرب:
ذهب فريق من العلماء إلى أن الحدود تقام في أرض الحرب كما تقام في دار الاسلام دون تفرقة بينهما، لان الامر بإقامتهما عام لم يخص دارا دون دار.
وممن ذهب إلى هذا مالك والليث بن سعد.
وقال أبو حنيفة وغيره: إذا غزا أمير أرض الحرب، فإنه لا يقيم الحد على أحد من جنوده في عسكره، إلا أن يكون أمام مصر أو الشام أو العراق أو ما أشبه ذلك، فيقيم الحدود في عسكره.
وحجة هؤلاء أن إقامة الحدود في دار الحرب قد تحمل المحدود على الالتحاق بالكفر.
وهذا هو للراجح.
وذلك أن هذا حد من حدود الله تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو شر منه.
وقد نص أحمد وإسحق بن راهويه، والاوزاعي، وغيرهم من علماء السلام على أن الحدود لا تقام في أرض العدو، وعليه إجماع الصحابة وكان أبو محجن الثقفي رضي الله عنه لا يستطيع صبرا عن شرب الخمر، فشربها في واقعة القادسية،
__________
(1) وهذا فيما عدا الشرك (إن الله لا: فغفرن يشرك به) .

(2/365)


فحبسه أمير الجيش سعد بن أبي وقاص، وأمر بتقييده، فلما التقى الجمعان قال أبو محجن: كفا حزنا أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا ثم قال لامرأة سعد، أطلقيني، ولك علي إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت فقد استرحتم مني، فحلته، فوثب على فرس لسعد يقال لها " البلقاء " ثم أخذ رمحا وخرج للقتال، فأتى بما بهر سعدا وجيش المسلمين حتى ظنوه ملكا من الملائكة جاء لنصرتهم، فلما هزم العدو رجع ووضع رجليه في القيد، فأخبرت سعدا امرأته بما كان من أمره، فخلى سعد سبيله، وأقسم ألا يقيم عليه الحد من أجل بلائه في القتال حتى قوي جيش
المسلمين به، فتاب أبو محجن بعد ذلك عن شرب الخمر.
فتأخر الحد أو إسقاطه كان لمصلحة راجحة، هي خير للمسلمين وله من إقامة الحد عليه.
النهي عن إقامة الحدود في المساجد صيانة لها عن التلوث: روى أبو داود عن حكيم بن حزام رضى الله عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الاشعار، وأن تقام فيه الحدود.
هل للقاضي أن يحكم بعلمه: يرى الظاهرية أنه فرض على القاضي أن يقضي بعلمه في الدماء والقصاص والاموال والفروج والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه، لانه يقين الحق.
ثم بالاقرار، ثم بالبينة، لان الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله (1) " وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ... "
__________
(1) سورة النساء الاية: 35.

(2/366)


" فصح أن القاضي عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم على ظلمه لا يغيره.
وصح أن فرضا على القاضي أن يغير كل منكر علمه بيده، وأن يعطي كل ذي حق حقه، وإلا فهو ظالم.
وأما جمهور الفقهاء، فإنهم يرون أنه ليس للقاضي أن يقضى بعلمه.
قال أبو بكر رضي الله عنه: " لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ".
ولان القاضي كغيره من الافراد، لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة.
ولو رمى القاضي زانيا بما شهده منه وهو لا يملك على قول البينة الكاملة لكان قاذفا يلزمه حد القذف.
وإذا كان قد حرم على القاضي النطق بما يعلم، فأولى أن يحرم عليه العمل به.
وأصل هذا الرأي قول الله سبحانه: " فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ". (1)
__________
(1) سورة النور: آية 63.

(2/367)


الخمر:
التدرج في تحريمها: وقد كان الناس يشربون الخمر حتى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فكثر سؤال المسلمين عنها وعن لعب الميسر، لما كانوا يرونه من شرورهما ومفاسدهما، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما (1) ".
أي أن في تعاطيهما ذنبا كبيرا، لما فيهما من الاضرار والمفاسد المادية والدينية. وأن فيهما كذلك منافع للناس. وهذه المنافع مادية. وهي الربح بالاتجار في الخمر، وكسب المال دون عناء في الميسر.
ومع ذلك فإن الاثم أرجح من المنافع فيهما، وفي هذا ترجيح لجانب التحريم، وليس تحريما قاطعا.
ثم نزل بعد ذلك التحريم أثناء الصلاة تدرجا مع الناس الذين ألفوها وعدوها جزءا من حياتهم: قال الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ... " (2) وكان سبب نزول هذه الاية أن رجلا صلى وهو سكران فقرأ: " قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون " إلى آخر السورة - بدون ذكر النفي - وكان ذلك تمهيدا لتحريمها نهائيا، ثم نزل حكم الله بتحريمها نهائيا.
قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم
__________
(1) سورة البقرة الاية: 219.
(2) سورة النساء: آية 43.

(2/368)


عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون؟ " (1) .
وظاهر من هذا أن الله سبحانه عطف على الخمر، الميسر والانصاب والازلام.
وحكم على هذه الاشياء كلها بأنها:
1 - رجس: أي خبيث مستقذر عند أولي الالباب.
2 - ومن عمل الشيطان وتزيينه ووسوسته.
3 - وإذا كان ذلك كذلك، فإن من الواجب اجتنابها والبعد عنها، ليكون الانسان معدا ومهيئا للفوز والفلاح.
4 - وإن إرادة الشيطان بتزيينه تناول الخمر ولعب الميسر في إيقاع العداوة والبغضاء بسبب هذا التعاطي، وهذه مفسدة دنيوية.
5 - وإن إرادته كذلك في الصد عن ذكر الله، والالهاء عن الصلاة، وهذه مفسدة أخرى دينية.
6 - وأن ذلك كله يوجب الانتهاء عن تعاطي شئ من ذلك.
وهذه الاية آخر ما نزل في حكم الخمر، وهي قاضية بتحريمها تحريما قاطعا.
وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل من تحريم الخمر: " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس، وإثمهما أكبر من نفعهما. " (2) .
فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها، وقال آخرون: لا خير في شئ فيه إثم.
ثم نزلت: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " (3) .
فقال بعض الناس نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون: لا خير في شئ يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين.
فنزلت:
__________
(1) سورة المائدة: آية 91.
(2) سورة البقرة: آية 219.
(3) سورة النساء: الاية 23.

(2/369)


" يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون - إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون " (1) فنهاهم فانتهوا.
وكان هذا التحريم بعد غزوة الاحزاب.
وعن قتادة أن الله حرم الخمر في سورة المائدة بعد غزوة الاحزاب، وكانت غزوة الاحزاب سنة أربع أو خمس هجرية.
وذكر إبن اسحاق أن التحريم كان في غزوة بني النضير وكانت سنة أربع هجرية على الراجح.
وقال الدمياطي في سيرته: كان تحريمها عام الحديبية سنة ست هجرية.
تشديد الإسلام في تحريم الخمر:
وتحريم الخمر يتفق مع تعاليم الاسلام التي تستهدف إيجاد شخصية قوية في جسمها ونفسها وعقلها، وما من شك في أن الخمر تضعف الشخصية وتذهب بمقوماتها، ولا سيما العقل، يقول أحد الشعراء: شربت الخمر حتى ضل عقلي كذاك الخمر تفعل بالعقول وإذا ذهب العقل تحول المرء إلى حيوان شرير، وصدر عنه من الشر والفساد ما لا حد له، فالقتل، والعدوان، والفحش، وإفشاء الاسرار، وخيانة الاوطان من آثاره.
وهذا الشر يصل إلى نفس الانسان، وإلى أصدقائه وجيرانه، وإلى كل من يسوقه حظه التعس إلى الاقتراب منه.
فعن علي كرم الله وجهه: أنه كان مع عمه حمزة وكان له شارفان " أي ناقتان مسنتان " أراد أن يجمع عليهما الاذخر، وهو نبات طيب الرائحة، مع صائغ يهودي ويبيعه للصواغين،
__________
(1) " فهل أنتم منتهون ".
لما علم عمر رضي الله عنه أن هذا وعيد شديد زائد على معنى (انتهوا) ، قال: انتهينا.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديه أن ينادي في سكك المدينة: ألا إن الخمر ققد حرمت.
فكسرت الدنان وأريقت الخمر حتى جرت في سكك المدينة.

(2/370)


ليستعين بثمنه على وليمة فاطمة رضي الله عنها - عند إرادة البناء بها - وكان عمه حمزه يشرب الخمر مع بعض الانصار، ومعه قينة تغنيه، فأنشدت شعرا حثته به على نحر الناقتين، وأخذ أطايبهما ليأكل منها، فثار حمزة وجب (1) أسنمتهما وأخذ من أكبادهما.
فلما رأى علي ذلك تألم ولم يملك عينيه، وشكا حمزة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فدخل النبي على حمزة ومعه علي وزيد بن حارثة فتغيظ عليه وطفق يلومه - وكان حمزة ثملا قد احمرت عيناه.
فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له ولمن معه: وهل أنتم إلا عبيد لابي.
فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ثمل، نكص على عقبيه القهقرى، وخرج هو ومن معه.
هذه هي آثار الخمر حينما تلعب برأس شاربها وتفقده وعيه، ولهذا أطلق عليها الشرع أم الخبائث.
فعن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخمر أم الخبائث.
وعن عبد الله بن عمرو قال: " الخمر أم الفواحش وأكبر الكبائر، ومن شرب الخمر ترك الصلاة، ووقع على أمه وخالته وعمته ".
رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن عمرو، وكذا من حديث ابن عباس بلفظ " من شربها وقع على أمه ".
وكما جعلها أم الخبائث أكد حرمتها، ولعن متعاطيها وكل من له بها صلة، واعتبره خارجا عن الايمان.
فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لعن في الخمر عشرة:
عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشترى له ".
رواه ابن ماجه والترمذي. وقال: حديث غريب.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزني
__________
(1) جب: قطع.

(2/371)


الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن (1) .
رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
وجعل جزاء من يتناولها في الدنيا أن يرحم منها في الاخرة لانه استعجل شيئا فجوزي بالحرمان منه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب، لم يشربها في الاخرة، وإن دخل الجنة ".
تحريم الخمر في المسيحية:
وكما أن الخمر محرمة في الاسلام فهي محرمة في المسيحية كذلك.
وقد استفتت جماعة منع المسكرات رؤساء الديانة المسيحية بالوجه القبلى بالجمهورية العربية المتحدة () فأفتوا بما خلاصته: " أن الكتب الالهية جميعها قضت على الانسان أن يبتعد عن المسكرات " كذلك استدل رئيس كنيسة السوريين الاورثوذكس على تحريم المسكرات بنصوص الكتاب المقدس.
ثم قال: " وخلاصة القول: إن المسكرات إجمالا محرمة في كل كتاب، سواء كانت من العنب أم من سائر المواد كالشعير، والتمر، والعسل، والتفاح، وغيرها.
ومن شواهد العهد الجديد في ذلك: قول بولس في رسالته إلى أهل إفسس (5: 8) : " ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة ".
ونهيه عن مخالطة السكير (إكوه: 11) وجزمه بأن السكيرين لا
__________
(1) أي أن مرتكب ذلك لا يكون حال ارتكابه متصفا بالايمان الاذعاني لحمرة ذلك - وكونه من أسباب سخط الله وعقوبته لان هذا الايمان يستلزم اجتناب المعاصي.
وقيل: إن الايمان يفارق مرتكب أمثال هذه لكبائر مدة ملابسته لها، وقد يعود إليه بعدها.
وقيل: النافي لكمال الايمان.
والرأي الاول أصح، كما حققه الاما الغزالي في الاحياء في كتاب " التوبة " (2) منهم نيافة مطران كرسي أسيوط، ونيافة مطران كرسي البلينا، ونيافة مطران قنا.
بتاريخ 26 / 9 / 1922 م.

(2/372)


لا يرقون ملكوت السموات (غلاه: 21 - إكو 6: 9: 10) .
أضرار الخمر: وقد لخصت مجلة التمدين الاسلامي " بقلم الدكتور عبد الوهاب خليل " ما في الخمر من اضرار نفسية وبدنية وخلقية وما يترتب عليها من آثار سيئة في الفرد والجماعة فقالت: وإذا سألنا جميع العلماء سواء علماء الدين، أو الطب، أو الاخلاق، أو الاجتماع، أو الاقتصاد، وأخذنا رأيهم في تعاطي المسكرات لكان جواب الكل واحدا: وهو منع تعاطيها منعا باتا، لانها مضرة ضررا فادحا.
فعلماء الدين يقولون: أنها محرمة، وما حرمت إلا لانها أم الخبائب.
وعلماء الطب يقولون: إنها من أعظم الاخطار التي تهدد نوع البشر، لا بما تورثه مباشرة من الاضرار السامة فحسب، بل بعواقبها الوخيمة أيضا، إذ أنها تمهد السبيل لخطر لا يقل ضررا عنها، ألا وهو السل..والخمر توهن البدن وتجعله أقل مقاومة وجلدا في كثير من الامراض مطلقا، وهي تؤثر في جميع أجهزة البدن، وخاصة في الكبد، وهي شديدة الفتك بالمجموعة العصبية.
لذلك لا يستغرب أن تكون من أهم الاسباب الموجبة لكثير من الامراض العصبية ومن أعظم دواعي الجنون والشقاوة والاجرام، لا لمستعملها وحده، بل وفي أعقابه من بعده.
فهي إذن علة الشقاء والعوز والبؤس، وهي جرثومة الافلاس والمسكنة والذل، وما نزلت بقوم إلا أودت بهم: مادة ومعنى، بدنها وروحا، جسما وعقلا.
وعلماء الاخلاق يقولون: لكي يكون الانسان محافظا على الرزانة والعفة والشرف والنخوة والمروءة، يلزم عدم تناوله شيئا يضيع به هذه الصفات الحميذة.

(2/373)


وعلماء الاجتماع يقولون: لكي يكون المجتمع الانساني على غاية من النظام والترتيب يلزم عدم تعكيره بأعمال تخل بهذا النظام، وعندنا تصبح الفوضى سائدة - والفوضى تخلق التفرقة - والتفرقة تفيد الاعداء.
وعلماء الاقتصاد يقولون:
إن كل درهم نصرفه لمنفعتنا فهو قوة لنا وللوطن.
وكل درهم نصرفه لمضرتنا، فهو خسارة علينا وعلى وطننا، فكيف بهذه الملايين من الليرات التي تذهب سدى على شرب المسكرات على اختلاف أنواعها.
وتؤخرنا ماليا وتذهب بمروءتنا ونخوتنا؟!.
فعلى هذه الاساس نرى أن العقل يأمرنا بعدم تعاطي الخمر، وإذا أرادت الحكومة أخذ رأى العلماء الخبيرين في هذا المضمار فقد كفيناها مؤنة التعب في هذه السبيل، وأتيناها بالجواب بدون أن تتكبد مشقة أو تصرف فلسا واحدا، إذ جميع العلماء متفقون على ضررها، والحكومة من الشعب، والشعب يريد من حكومته رفع الضرر والاذى، وهي مسئولة عن رعيتها.
وبمنع المسكرات يغدو أفراد الامة أقوياء البنية صحيحي الجسم، أقوياء العزيمة ذوي عقل ناضج، وهذه من أهم الوسائل المؤدية إلى رفع المستوى الصحي في البلاد، وكذلك هي الدعامة الاولى لرفع المستوى الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي.
إذ تخفف العناء عن كثير من الوزارات، وخاصة وزارة العدل - فيصبح رواد القصور العدلية والسجون قليلين، وبعدها تصبح السجود خالية تتحول إلى دور يستفاد منها بشتى الاصلاحات الاجتماعية.
هذه هي الحضارة والمدنية، وهذه هي النهضة.
وهذا هو الرقي والوعي.
وهذا هو المعيار والميزان لرقي الامم.
هذه هي الاشتراكية والتعاونية بعينها وحقيقتها.
أي نشترك ونتعاون على رفع الضرر والاذى.
وباب العمل الجدي المنتج واسع: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " اه.

(2/374)


هذه الاضرار الانفة ثبتت ثبوتا لا مجال فيه لشك أو ارتياب، مما حمل كثرا من الدول الواعية على محاربة تعاطي الخمر وغيرها من المسكرات.
وكان في مقدمة من حاول منع تعاطيها من الدول: أمريكا. فقد نشر في كتاب تنقيحات للسيد أبو الاعلى المودودي ما يأتي: منعت حكومة أمريكا الخمر، وطاردتها في بلادها، واستعملت جميع وسائل المدنية الحاضرة كالمجلات، والمحاضرات، والصور، والسينما لتهجين شربها، وبيان مضارها ومفاسدها.
ويقدرون ما أنفقت الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزد على 60 مليون دولار، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على 10 بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل قانون التحريم في مدة أربعة عشر عاما لا يقل عن 250 مليون جنيها، وقد أعدم فيها 300 نفس، وسجن 335، 532 نفس، وبلغت الغرامات إلى 16 مليون جنيها، وصادرت من الاملاك ما يبلغ 400 مليون وأربعة ملايين جنيها، ولكن كل ذلك لم يزد الامة الامريكية إلا غراما بالخمر وعنادا في تعاطيها، حتى اضطرت الحكومة سنة 1933 إلى سحب هذا القانون وإباحة الخمر في مملكتها إباحة مطلقة. إنتهى.
إن أمريكا قد عجزت عجزا تاما عن تحريم الخمر بالرغم من الجهود الضخمة التي بذلتها، ولكن الاسلام الذي ربى الامة على أساس من الدين، وغرس في نفوس أفرادها غراس الايمان الحق، وأحيا ضميرها بالتعاليم الصالحة والاسوة الحسنة لم يصنعا شيئا من ذلك، ولم يتكلف مثل هذا الجهد، ولكنها كلمة صدرت من الله استجابت لها النفوس استجابة مطلقة.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا الذي تسمونه الفضيخ.
إني لقائم أسقي أبا طلحة وأبا أيوب ورجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في بيتنا، إذ جاء رجل فقال: هل بلغكم الخبر؟.
فقلنا: لا، فقال: إن الخمر قد حرمت.
فقال: يا أنس، أرق هذه القلال.
قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
وهكذا يصنع الايمان بأهله.

(2/375)


ما هي الخمر: الخمر هي تلك السوائل المعروفة المعدة بطريق تخمر بعض الحبوب أو الفواكه، وتحول النشا أو السكر الذي تحتويه إلى غول (1) بواسطة بعض كائنات حية لها قدرة على إفراز مواد خاصة يعد وجودها ضروريا في عملية التخمر.
وقد سميت خمرا لانها تخمر العقل وتستره: أي تغطيه وتفسد إدراكه.
هذا هو تعريف الطب للخمر.
وكل ما من شأنه أن يسكر يعتبر خمرا، ولا عبرة بالمادة التي أخذت منه، فما كان مسكرا من أي نوع من الانواع فهو خمر شرعا، ويأخذ حكمه، ويستوي في ذلك ما كان من العنب أو التمر أو العسل أو الحنطة أو الشعير أو ما كان من غير هذه الاشياء، إذ أن ذلك كله خمر محرم، لضرره الخاص والعام، ولصده عن ذكر الله وعن الصلاة، ولايقاعه العداوة والبغضاء بين الناس.
والشارع لا يفرق بين المتماثلات، فلا يفرق بين شراب مسكر، وشراب آخر مسكر فيبيح القليل من صنف ويحرم القليل من صنف آخر، بل يسوي بينهما، وإذا كان قد حرم القليل من أحدهما فإنه كذلك قد حرم القليل من الآخر، وقد جاءت النصوص صريحة صحيحة، لا تحتمل التأويل ولا التشكيك:
1 - روى أحمد وأبو داود عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ".
2 - وروى البخاري ومسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أما بعد، أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة أشياء: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر ما خامر العقل ".
__________
(1) الغول: الكحول.

(2/376)


هذا الذي قاله أمير المؤمنين وهو القول الفصل، لانه أعرف باللغة وأعلم بالشرع، ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه فيما ذهب إليه.
3 - وروى مسلم عن جابر، أن رجلا من اليمن سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له " المزر " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمسكر هو؟ " قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: " كل مسكر حرام ... ان على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخيال قالوا يا رسول الله: وما طينة الخيال؟ قال: " عرق أهل النار " أو قال: " عصارة أهل النار ".
4 - وفي السنن عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن من العنب خمرا، وإن من التمر خمرا، وإن من العسل خمرا، وإن من البر خمرا، وإن من الشعير خمرا "
5 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق (1) منه فملء الكف منه حرام ".
6 - وروى أحمد والبخاري ومسلم عن أبي موسى الاشعري قال، قلت يا رسول الله: أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن " البتع " وهو من العسل حين يشتد (2) " والمزر " وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أوتي جوامع الكلم بخواتيمه، قال: " كل مسكر حرام ".
7 - وعن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم على الجعة " وهي نبيذ الشعير " " أي البيرة ".
رواه أبو داود والنسائي.
هذا هو رأي جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين.
وفقهاء الامصار، ومذهب أهل الفتول، ومذهب محمد من أصحاب أبي حنيفة، وعليه الفتوي.
ولم يخالف في ذلك أحد سوى فقهاء العراق، وإبراهيم النخعي، وسفيان
__________
(1) الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا.
(2) يشتد: يغلي ويتخمر.

(2/377)


الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين، وأبي حنيفة، فإنهم قالوا: بتحريم القليل والكثير من الخمر التي هي من عصير العنب.
أما ما كان من الانبذة من غير العنب، فإنه يحرم الكثير المسكر منه، أما القليل الذي لا يسكر، فإنه حلال.
وهذا الرأي مخالف تمام المخالفة لما سبق من الادلة.
ومن الامانة العلمية أن نذكر حجج هؤلاء الفقهاء ملخصين ما قاله ابن رشد في بداية المجتهد.
قال: قال جمهور فقهاء الحجاز (1) وجمهور المحدثين: قليل الانبذة وكثيرها المسكرة حرام.
وقال العراقيون، وإبراهيم النخعي من التابعين، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك، وابن شبرمة وأبو حنيفة، وسائر فقهاء الكوفيين، وأكثر علماء البصريين: إن المحرم من سائر الانبذة المسكرة هو السكر نفسه، لا العين.
وسبب اختلافهم تعارض الآثار والاقيسة في هذا الباب.
فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: (الطريقة الاولى) الآثار الواردة في ذلك.
(الطريقة الثانية) تسمية الانبذة بأجمعها خمرا.
فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام ".
أخرجه البخاري، وقال يحيى بن معين هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر.
ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ".
فهذان حديثان صحيحان:
__________
(1) بداية المجتهد ج 1 ص 434 - 437.

(2/378)


أما الاول فاتفق الكل عليه.
وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم.
وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
وهو نص في موضع الخلاف.
وأما الاستدلال الثاني من أن الانبذة كلها تسمى خمرا فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الاسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع.
فأما التي من جهة الاشتقاق، فإنهم قالوا: إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل.
وهذه الطريقة من إثبات الاسماء فيها اختلاف بين الاصوليين وهي غير مرضية عند الخرسانيين.
وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع فإنهم قالوا: إنه وإن لم يسلم لنا بأن الانبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا.
واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ".
وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا ... وأنا أنها كم عن كل مسكر ".
فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الانبذة.
وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا.
" (1)
__________
(1) سورة النحل آية 67.

(2/379)


وباثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي.
أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين، لما سماه الله رزقا حسنا.
وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: " حرمت الخمر لعينها، والسكر من غيرها ".
قالوا: وهذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز، لان بعض رواته روى " والمسكر من غيرها ".
ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني كنت نهيتكم عن الشراب في الاوعية، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا "، خرجها الطحاوي.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: " شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله، فحفظت ونسيتم ".
وروي عن أبي موسى أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا يا رسول الله: إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له: المزر.
والآخر يقال له: البتع.
فما نشرب؟.
فقال عليه الصلاة والسلام: " اشربا ولا تسكرا ".
خرجه الطحاوي أيضا ... إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب.
وأما احتجاجهم من جهة النظر.
فإنهم قالوا: قد نص القرآن على أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى: " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة ... "

(2/380)


وهذه العلة تود في القدر المسكر، لافيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو احرام، إلا ما انعقد عليه الاجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها.
قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص.
وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه.
وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر.
وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الاثر على القياس، أو تغليب القياس على الاثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها.
لكن الحق أن الاثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس.
وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل، فهنا يتردد النظر: هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ؟ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الالفاظ الظاهرة وقوة قياس من القياسات التي تقابلها.
ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي، كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون.
وربما كان الذوقان على التساوي ... ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع، حتى قال كثير من الناس: " كل مجتهد مصيب ".
قال القاضي: والذي يظهر لي - والله أعلم - أن قوله عليه الصلاة والسلام " كل مسكر حرام " وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر، لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير.
وقد ثبت من حال الشرع بالاجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك.

(2/381)


هذا، وإن لم يسلموا لنا بصحة قوله عليه الصلاة والسلام: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " فإنهم إن سلموا لم يجدوا عنه انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف.
ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس.
وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة فقال تعالى:
" قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ".
وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتفاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها.
فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر، ومنع القليل منها والكثير.
وجب أن يكون الامر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي.
واتفقوا على أن الانتباذ حلال، ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية، لقوله عليه الصلاة والسلام: " فانتبذوا، وكل مسكر حرام ".
ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينتبذ وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث.
واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما في الاواني التي ينتبذ فيها.
والثانية في انتباذ شيئين مثل: البسر والرطب، والتمر والزبيب. انتهى.
أهم أنواع الخمور: توجد الخمور في الاسواق بأسماء مختلفة، وقد تقسم إلى أقسام خاصة باعتبار ما تحويه من النسب المئوية من الكحول.
فهناك مثلا: البراندي، والوسكي، والروم، والليكير، وغيرها، وتبلغ نسبة الكحول فيها من 40 / إلى 60 /.
وتبلغ النسبة في الجن، والهولاندي، والجنيفا، من 33 / إلى 40 /.
وتحتوي بعض الاصناف الاخرى، مثل: البورت، والشري، والماديرا، على 15 / - 25 /.

(2/382)


وتحتوي الخمور الخفيفة مثل: الكلارت، والهوك، والشمبانيا، والبرجاندي على 10 / - 15 /.
وأنواع البيرة الخفيفة تحتوي على 2 / - 9 / مثل: الايل، والبورتر، والاستوت، والميونخ وغيرها.
وهنالك أصناف أخرى تحتوي على نفس النسب الاخيرة.
مثل البوظة، والقصب المتخمر وغيرهما.
شرب العصير والنبيذ قبل التخمير: يجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه (1) .
لحديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه.
قال: " علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش (2) فقال: " إضرب بهذا الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ".
وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير قال: " اشربه ما لم يأخذه شيطانه " قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: " في ثلاث ".
وأخرج مسلم وغيره من حديثا بن عباس " أنه كان ينقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، إلى مساء الثالثة.
ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق ".
قال أبو داود: ومعنى يسقى الخادم يبادر به الفساد ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام.
وقد أخرج مسلم وغيره من حديث عائشة " أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان العشي فتعشى، شرب على عشائه، وإن فضل شئ صبته أو أفرغته ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب
على غدائه.
قالت تغسل السقاء غدوة وعشية ".
وهو لا ينافي حديث ابن عباس المتقدم أنه كان يشرب اليوم والغد وبعد
__________
(1) الغليان: الاختمار.
(2) ينش: يغلي.

(2/383)


الغد إلى مساء الثالثة، لان الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في الصحيح (1) .
هذا ومن المعروف من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يشرب الخمر قط، لاقبل البعثة ولابعدها.
وإنما كان شرابه من هذا النبيذ الذي لم يتخمر بعد، كما هو مصرح به في هذه الاحاديث.
الخمر إذا تخللت:
قال في بداية المجتهد: وأجمعوا " أي العلماء " على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها أجاز أكلها " تناولها ".
واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال:
1 - التحريم.
2 - ومكراهية.
3 - والاباحة (2) .
وسبب اختلافهم معارضة القياس للاثر، واختلافهم في مفهوم الاثر.
وذلك أن أبا داود (3) أخرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: " أهرقها ".
قال: أفلا أجعلها خلا؟
قال: " لا ".
(4) فمن فهم من المنع سد الذريعة حمل ذلك على الكراهية.
ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم.
__________
(1) الروضة الندية ص 202 ج 1.
(2) القائلون به: عمر بن الخطاب، والشافعي، وأحمد، وسفيان، وابن المبارك وعطاء ابن أبي رباح، وعمر بن عبد العزيز، وأبو حنيفة.
(3) وأخرجه أيضا مسلم والترمذي.
(4) قال الخطابي: في هذا بيان واضح أن معالجة الخمر حتى تصير خلا غير جائز ولو كان إلى ذلك سبيل لكان مال اليتيم أولى الاموال به لما يجب من حفظه وتثميره، وقد كان نهي رسول اللهعن إضاعة المال وفي إراقته إضاعته فعلم بذلك إن معالجته لا تطهره ولاترده إلى المالية بحال.

(2/384)


ويخرج على هذا ألا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي عنه.
والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم، أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الاحكام المختلفة، إنما هي للذوات المختلفة، وأن ذات الخمر غير ذات الخل، والخل بالاجماع حلال.
فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل، وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل (1) .
المخدرات:
هذا هو حكم الله في الخمر، أما ما يزيل العقل من غير الاشربة، مثل: البنج، والحشيش وغيرهما من المخدرات، فإنه حرام، لانه مسكر.
ففي حديث مسلم الذي تقدم ذكره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ".
وقد سئل مفتي الديار المصرية الشيخ عبد المجيد سليم، رحمه الله، عن حكم الشرع في المواد المخدرة، واشتمل السؤال على المسائل الآتية: 1 - تعاطي المواد المخدرة.
2 - الاتجار بالمواد المخدرة، واتخاذها وسيلة للربح التجاري.
3 - زراعة الخشخاش والحشيش بقصد البيع أو استخراج المادة المخدرة منهما، للتعاطي أو للتجارة.
4 - الربح الناجم من هذا السبيل، أهو ربح حلال أم حرام؟ وقد أجاب فضيلته بما يأتي: (1) تعاطي المواد المخدرة: إنه لا يشك شاك، ولا يرتاب مرتاب في أن تعاطي هذه المواد حرام، لانها تؤدي إلى مضار جسيمة، ومفاسد كثيرة، فهي تفسد العقل، وتفتك
__________
(1) ج 1 ص 438

(2/385)


بالبدن إلى غير ذلك من المضار والمفاسد.
فلا يمكن أن تأذن الشريعة بتعاطيها مع تحريمها لما هو أقل منها مفسدة وأخف ضررا.
ولذلك قال بعض علماء الحنفية: " إن من قال بحل الحشيش زنديق مبتدع ".
وهذا منه دلالة على ظهور حرمتها ووضوحها، ولانه لما كان الكثير من هذه المواد يخامر العقل ويغطيه، ويحدث من الطرب واللذة عند متناوليها ما يدعوهم إلى تعاطيها والمداومة عليها، كانت داخلة فيما حرمه الله تعالى في
كتابه العزيز، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الخمر والمسكر.
قال شيخ الاسلام ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ما خلاصته: " إن الحشيشة حرام، يحد متناولها كما يحد شارب الخمر، وهي أخبث من الخمر من جهة أنها تفسد العقل والمزاج، حتى يصير في الرجل.
تخنث ودياثة، وغير ذلك من الفساد، وأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهي داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والمسكر لفظا أو معنى قال أبو موسى الاشعري رضي الله عنه: يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن: " البتع " وهو العسل ينبذ حتى يشتدو " المزر " وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد.
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطى جوامع الكلم بخواتمه فقال: " كل مسكر حرام ".
رواه البخاري ومسلم.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسل خمرا.
وأنا أنهى عن كل مسكر ".
رواه أبو داوود وغيره.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر.
وكل مسكر حرام ".
وفي رواية: " كل مسكر خمر.
وكل خمر حرام ".
رواهما مسلم.

(2/386)


وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق (1) منه فملء الكف منه حرام ".
قال الترمذي حديث حسن.
وروى ابن السني عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وصححه الحفاظ.
وعن جابر رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر.
قال: " أمسكر هو؟ " قال: نعم.
فقال: " كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ".
قالوا يا رسول الله: وما طينة الخبال؟ قال: " عرق أهل النار " أو قال: " عصارة أهل النار ".
رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال.
" كل مخمر وكل مسكر حرام (2) ".
رواه أبو داود.
والاحاديث في هذا الباب كثيرة مستفيضة.
جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا.
على أن الخمر قد يصطبغ بها: أي تجعل إداما، وهذه الحشيشة قد تذاب بالماء وتشرب، فالخمر يشرب ويؤكل، والحشيشة تؤكل وتشرب، وكل ذلك حرام، وحدوثها بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم والائمة لا يمنع من دخولها في عموم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسكر.
فقد حدثت شربة مسكرة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكلها داخلة في الكلم الجوامع أمن الكتاب والسنة ".
انتهت خلاصة كلام ابن تيمية.
وقد تكلم رحمه الله عنها أيضا غير مرة في فتاواه.
فقال ما خلاصته: " هذه الحشيشة الملعونة هي وآكلوها، ومستحلوها، الموجبة لسخط
__________
(1) تقدم معنى الفرق.
والمعنى: ما أسكر كثيره فقليله حرام.
((2) المخمر: ما يغطي العقل.

(2/387)


الله تعالى، وسخط رسوله، وسخط عباده المؤمنين.
المعرضة صاحبها لعقوبة الله، تشتمل على ضرر في دين المرء وعقله وخلقه وطبعه.
وتفسد الامزجة حتى جعلت خلقا كثيرا مجانين، وتورث من مهانة آكلها ودناءة نفسه وغير ذلك ما لا تورث الخمر.
ففيها من المفاسد ما ليس في الخمر.
فهي بالتحريم أولى.
وقد أجمع المسلمون على أن السكر منها حرام.
ومن استحل ذلك وزعم أنه حلال فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل مرتدا، لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
وإن القليل منها حرام أيضا بالنصوص الدالة على تحريم الخمر وتحريم كل مسكر " اه.
وقد تبعه تلميذ الامام المحقق ابن القيم رحمه الله، فقال في زاد المعاد ما خلاصته: " إن الخمر يدخل فيها كل مسكر: مائعا كان أو جامدا، عصيرا أو مطبوخا.
فيدخل فيها لقمة الفسق والفجور - ويعني بها الحشيشة - لان هذا كله خمر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح الذي لا مطعن في سنده ولا إجمال في متنه، إذ صح عنه قوله: " ... كل مسكر خمر ... ".
وصح عن أصحابه رضي الله عنهم الذين هم أعلم الامة بخطابه ومراده،
بأن الخمر ما خامر العقل.
على أنه لو لم يتناول لفظه صلى الله عليه وسلم كل مسكر، لكان القياس الصحيح الصريح الذي استوى فيه الاصل والفرع من كل وجهة، حاكما بالتسوية بين أنواع المسكر، فالتفريق بين نوع ونوع، تفريق بين متماثلين من جميع الوجوه " اه.
وقال صاحب سبل السلام شرح بلوغ المرام: " إنه يحرم ما أسكر من أي شئ، وإن لم يكن مشروبا، كالحشبشة ".
ونقل عن الحافظ ابن حجر: " ان من قال: إن الحشيشة لا تسكر وإنما هي مخدر، مكابر، فإنها تحدث ما تحدثه الخمر من الطرب والنشوة ".
ونقل عن ابن البيطار - من الاطباء - أن الحشيشة التي توجد في مصر

(2/388)


مسكرة جدا، إذا تناول الانسان منها قدر درهم أو درهمين.
وقبائح خصالها كثيرة.
وعد منها بعض العلماء مائة وعشرين مضرة دينية ودنيوية.
وقبائح خصالها موجودة في الافيون.
وفيه زيادة مضار " اه.
وما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما من العلماء هو الحق الذي يسوق إليه الدليل وتطمئن به النفس.
وإذ قد تبين أن النصوص من الكتاب والسنة تتناول الحشيش، فهي تتناول أيضا الافيون، الذي بين العلماء أنه أكثر ضررا.
ويترتب عليه من المفاسد ما يزيد على مفاسد الحشيش كما سبق عن ابن البيطار.
وتتناول أيضا سائر المخدرات التي حدثت ولم تكن معروفة من قبل، إذ هي كالخمر من العنب مثلا في أنها تخامر العقل وتغطيه.
وفيها ما في الخمر من مفاسد ومضار وتزيد عليها بمفاسد أخرى كما في الحشيش، بل أفظع وأعظم، كما هو مشاهد ومعلوم ضرورة.
ولا يمكن أن تبيح الشريعة الاسلامية شيئا من هذه المخدرات، ومن قال بحل شئ منها فهو من الذين يفترون على الله الكذب، أو يقولون على الله ما لا يعلمون.
وقد سبق أن قلنا: إن بعض علماء الحنفية قال: " إن من قال بحل الحشيشة زنديق مبتدع ".
وإذا كان من يقول بحل الحشيشة زنديقا مبتدعا فالقائل بحل شئ من هذه المخدرات الحادثة التي هي أكثر ضررا وأكبر فسادا زنديق مبتدع أيضا، بل أولى بأن يكون كذلك.
وكيف تبيح الشريعة الاسلامية شيئا من هذه المخدرات التي يلمس ضررها البليغ بالامة أفرادا وجماعات، ماديا، وصحيا، وأدبيا، كما جاء في السؤال.
مع أن مبنى الشريعة الاسلامية على جلب المصالح الخالصة أو الراجحة، وعلى درء المفاسد والمضار كذلك.
وكيف يحرم الله سبحانه وتعالى العليم الحكيم الخمر من العنب مثلا: كثيرها وقليلها، لما فيها من المفسدة، ولان قليلها داع إلى كثيرها وذريعة

(2/389)


إليه.
ويبيح من المخدرات ما فيه هذه المفسدة، ويزيد عليها بما هو أعظم منها وأكثر ضررا للبدن والعقل والدين والخلق والمزاج؟ هذا لا يقوله إلا رجل جاهل بالدين الاسلامي، أو زنديق مبتدع كما سبق القول.
فتعاطي هذه المخدرات على أي وجه من وجوه التعاطي من أكل أو شرب أو شم أو احتقان حرام، والامر في ذلك ظاهر جلي.
(2) الاتجار بالمواد المخدرة، واتخاذها وسيلة للربح التجاري: إنه قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في تحريم الخمر، منها ما روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والاصنام ".
وورد عنه أيضا أحاديث كثيرة مؤداها أن ما حرم الله الانتفاع به يحرم بيعه وأكل ثمنه.
وقد علم من الجواب عن السؤال الاول أن اسم الخمر يتناول هذه المخدرات شرعا، فيكون النهي عن بيع الخمر متناولا لتحريم بيع هذه المخدرات.
كما أن ما ورد من تحريم بيع كل ما حرمه الله، يدل أيضا على تحريم بيع هذه المخدرات.
وحينئذ يتبين جليا حرمة الاتجار في هذه المخدرات واتخاذها حرفة تدر الربح، فضلا عما في ذلك من الاعانة على المعصية التي لاشبهة في حرمتها، لدلالة القرآن على تحريمها بقوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان ".
ولاجل ذلك كان الحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من تحريم بيع عصير العنب لمن يتخذه خمرا، وبطلان هذا البيع لانه إعانة على المعصية.

(2/390)


(3) زراعة الخشخاش والحشيش بقصد البيع واستخراج المادة المخدرة منهما للتعاطي أو للتجارة:
إن زراعة الحشيش والافيون لاستخراج المادة المخدرة منهما لتعاطيها أو الاتجار فيها حرام بلا شك، لوجوه: (أولا) ما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرا فقد تقحم النار ".
فإن هذا يدل على حرمة زراعة الحشيش والافيون للغرض المذكور، بدلالة النص.
(ثانيا) إن ذلك إعانة على المعصية.
وهي تعاطي هذه المخدرات أو الاتجار فيها.
وقد بينا فيما سبق أن الاعانة على المعصية معصية.
(ثالثا) إن زراعتها لهذا الغرض رضا من الزارع بتعاطي الناس لها، واتجارهم فيها، والرضا بالمعصية معصية.
وذلك لان إنكار المنكر بالقلب الذي هو عبارة عن كراهة القلب وبغضه للمنكر، فرض على كل مسلم في كل حال، بل ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من لم ينكر المنكر بقلبه - بالمعنى الذي أسلفنا - ليس عنده من الايمان حبة خردل ".
على أن زراعة الحشيش والافيون معصية من جهة أخرى، بعد نهي ولي الامر عنها بالقوانين التي وضعت لذلك، لوجوب طاعة ولي الامر فيما ليس بمعصية لله ولرسوله بإجماع المسلمين، كما ذكر ذلك الامام النووي في شرح مسلم في باب طاعة الامراء.
وكذا يقال هذا الوجه الاخير في حرمة تعاطي المخدرات والاتجار فيها.
(4) الربح الناجم من هذا السبيل: قد علم مما سبق أن بيع هذه المخدرات حرام فيكون الثمن حراما:

(2/391)


(أولا) لقوله تعالى: " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ".
أي لا يأخذ ولا يتناول بعضكم مال بعض بالباطل.
وأخذ المال بالباطل على وجهين:
1 - أخذه على وجه الظلم، والسرقة، والخيانة، والغصب، وما جرى مجرى ذلك.
2 - أخذه من جهة محظورة كأخذه بالقمار، أو بطريق العقود المحرمة، كما في الربا، وبيع ما حرم الله الانتفاع به، كالخمر المتناولة للمخدرات المذكورة كما بينا آنفا.
فإن هذا كله حرام وإن كان بطيبة نفس من مالكه.
(ثانيا) للاحاديث الواردة في تحريم ثمن ما حرم الله الانتفاع به.
كقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ".
رواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس.
وقد جاء في زاد المعاد ما نصه: قال جمهور الفقهاء: إنه إذا بيع العنب لمن يعصره خمرا حرم أكل ثمنه، بخلاف ما إذا بيع لمن يأكله.
وكذلك السلاح إذا بيع لمن يقاتل به مسلما حرم أكل ثمنه.
وإذا بيع لمن يغزو به في سبيل الله فثمنه من الطيبات.
وكذلك ثياب الحرير: إذا بيعت لمن يلبسها ممن يحرم عليه لبسها، حرم
أكل ثمنها، بخلاف بيعها ممن يجل له لبسها " اه وإذا كانت الاعيان التي يحل الانتفاع بها إذا بيعت لمن يستعملها في معصية الله - على رأي جمهور الفقهاء، وهو الحق - يحرم ثمنها لدلالة ما ذكرنا من الادلة وغيرها عليه، كان ثمن العين التي لا يحل الانتفاع بها - كالمخدرات - حراما من باب أولى.
وإذا كان ثمن هذه المخدرات حراما، كان خبيثا، وكان إنفاقه في القربات - كالصدقات والحج - غير مقبول: أي لا يثاب المنفق عليه.

(2/392)


فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله تعالى أمر بما أمر به المرسلين.
فقال تعالى: " يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا " الآية.
وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون " (1) .
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء..يا رب..يا رب..ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟ ".
وقد جاء في الحديث الذي رواه الامام أحمد في المسند عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لا يكسب عبد مالا من حرام، فينفق منه، فيبارك
له فيه: ولا يتصدق فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده في النار، إن الله لا يمحو السئ بالسئ، ولكن يمحو السئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث ".
وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم، لابن رجب، أحاديث كثيرة وآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الموضوع.
منها ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كسب ما لا حراما فتصدق به لم يكن له أجر، وكان إصره - يعني إثمه وعقوبته - عليه ".
ومنها ما في مراسيل القاسم بن مخيمرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أصاب مالا من مأثم فوصل به رحمه، أو تصدقه به، أو أنفقه في سبيل الله، جمع ذلك جميعا ثم قذف به في نار جهنم ".
__________
(1) سورة البقرة الآية 172.

(2/393)


وجاء في شرح " ملا علي القاري " للاربعين النووية عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه إذا خرج الحاج بالنفقه الخبيثة، فوضع رجله في الغرز - أي الركاب - وقال لبيك، ناداه ملك من السماء: لالبيك ولاسعديك، وحجك مردود عليك ".
فهذه الاحاديث التي يشد بعضها بعضا، تدل على أنه لا يقبل الله صدقة، ولا حجة، ولا قربة أخرى من القرب من مال خبيث حرام.
ومن أجل ذلك نص علماء الحنفية على أن الانفاق على الحج من المال الحرام حرام.
وخلاصة ما قلناه: (أولا) تحريم تعاطي الحشيش والافيون والكوكايين ونحوهما من المخدر.
(ثانيا) تحريم الاتجار فيها، واتخاذها حرفة تدر الربح.
(ثالثا) حرمة زراعة الافيون والحشيش، لاستخلاص المادة المخدرة لتعاطيها أو الاتجار فيها.
(رابعا) ان الربح الناتج من الاتجار في هذه المواد حرام خبيث، وأن إنفاقه في القربات غير مقبول، وحرام.
قد أطلت القول إطالة قد تؤدي إلى شئ من الملل.
ولكني آثرتها تبيانا للحق، وكشفا للصواب، ليزول ما قد عرض من شبهة عند الجاهلين، وليعلم أن القول بحل هذه المخدرات من أباطيل المبطلين وأضاليل الضالين المضلين.
وقد اعتمدت فيما قلت أو اخترت على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أقوال الفقهاء التي تنفق مع أصول الشريعة الغراء ومبادئها القويمة.
انتهت والحمد لله رب العالمين وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(2/394)


حد شارب الخمر:
الفقهاء متفقون على وجوب حد شارب الخمر، وعلى أن حده الجلد.
ولكنهم مختلفون في مقداره: فذهب الاحناف ومالك: إلى أنه ثمانون جلدة.
وذهب الشافعي: إلى أنه أربعون.
وعن الامام أحمد روايتان:
قال في المغني: وفيه روايتان.
(إحداهما) : أنه ثمانون.
وبهذا قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، ومن تبعهم، لاجماع الصحابة، فإنه روي أن عمر استشار الناس في حد الخمر؟ فقال عبد الرحمن ابن عوف: " اجعله - كأخف الحدود - ثمانين ".
فضرب عمر ثمانين، وكتب به إلى خالد وأبي عبيدة بالشام.
وروي أن عليا رضي الله عنه قال في المشورة: " إذا سكر: هذى (1) ، وإذا هذى: افترى (2) ، فحدوده حد المفترى ".
روى ذلك الجوزجاني، والدارقطني وغيرهم.
(والرواية الثانية) أن الحد أربعون، وهو اختيار أبي بكر (3) ، ومذهب الشافعي، لان عليا جلد الوليد بن عقبة أربعين.
ثم قال: " جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين. وكل سنة وهذا أحب إلي ". رواه مسلم.
وعن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر، فضربه بالنعال نحوا من أربعين.
ثم أتي به أبو بكر، فصنع مثل ذلك.
ثم أتي به عمر فاستشار الناس في الحدود.
فقال ابن عوف:
__________
(1) هذى: تكلم بالهذيان: أي تكلم بما لاحقيقة له من الكلام.
(2) افترى: كذب واختلق.
(3) أحد علماء الحنابلة.

(2/395)


" أقل بالحدود ثمانون (1) ".
فضربه عمر (2) .
وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم حجة لا يجوز تركه بفعل غيره، ولا ينعقد الاجماع على ما خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعلي، فتحمل الزيادة من عمر على أنها تعزير يجوز فعله إذا رآه الامام (3) .
ويرجح هذا أن عمر كان يجلد الرجل القوي المنهمك في الشراب ثمانين، ويجلد الرجل الضعيف الذي وقعت منه الزلة أربعين.
وأما الامر بقتل الشارب إذا تكرر ذلك منه فهو منسوخ: فعن قبيص بن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه - في الثالثة أو الرابعة - " فأتي برجل قد شرب فجلده، ثم أتي به، فجلده، ثم أتي به، فجلده، ورفع القتل، وكانت رخصة.
بم يثبت الحد؟
ويثبت هذا الحد بأحد أمرين:
1 - الاقرار: أي اعتراف الشارب بأنه شرب الخمر.
2 - شهادة شاهدين عدلين.
واختلف الفقهاء في ثبوته بالرائحة: فذهبت المالكية إلى أنه يجب الحد إذا شهد بالرائحة عند الحاكم شاهدان عدلان، لانها تدل على الشرب، كدلالة الصوت والخط.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يثبت الحد بالرائحة، لوجود الشبهة والروائح تتشابه، والحدود تدرا بالشبهات.
ولاحتمال كونه مخلوطا أو مكرها على شربه، ولان غير الخمر يشاركها في رائحتها.
__________
(1) يشير إلى حد القذف، فإنه أقل حد.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) وهذا هو الاولى، وأن الحد أربعون، والزيادة تجوز إذا كان ثمة مصلحة.

(2/396)


والاصل براءة الشخص من العقوبة، والشارع متشوف إلى درء الحدود.
شروط إقامة الحد:
يشترط في إقامة حد الخمر الشروط الآتية: 1 - العقل: لانه مناط التكليف، فلا يحد المجنون بشرب الخمر، ويلحق به المعتوه.
2 - البلوغ: فإذا شرب الصبي، فإنه لايقام عليه الحد، لانه غير مكلف.
3 - الاختيار: فإن شربها مكرها فلاحد عليه، سواء أكان هذا الاكراه بالتهديد بالقتل، أو بالضرب المبرح، أو بإتلاف المال كله، لان الاكراه رفع عنه الاثم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
وإذا كان الاثم مرفوعا فلاحد عليه، لان الحد من أجل الاثم والمعصية.
ويدخل في دائرة الاكراه الاضطرار فمن لم يجد ماء وعطش عطشا شديدا يخشى عليه منه التلف، ووجد خمرا، فله أن يشربها.
وكذلك من أصابه الجوع الشديد الذي يخشى عليه منه الهلاك، لان الخمر حينئذ ضرورة يتوقف عليها الحياة، والضرورات تبيح المحظورات.
يقول الله تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد إثم عليه. إن الله غفور رحيم ".
وفي المغني: " أن عبد الله بن حذافة أسره الروم، فحبسه طاغيتهم في بيت فيه ماء ممزوج بخمر، ولحم خنزير مشوي، ليأكل الخنزير، ويشرب الخمر، وتركه ثلاثة أيام، فلم يفعل، ثم أخرجوه خشية موته، فقال: والله لقد كان الله أحله لي، فإني مضطر.
ولكن لم أكن لاشمتكم بدين الاسلام ".
4 - العلم بأن ما يتناوله مسكر.
فلو تناول خمرا مع جهله بأنها خمر،

(2/397)


فإنه يعذر بجهله، ولا يقام عليه الحد.
فلو لفت نظره أحد من الناس، فتمادى في شربه، فإنه لا يكون معذورا حينئذ، لارتفاع الجهالة عنه، وإصراره على ارتكاب المعصية بعد معرفته، فيستوجب العقاب ويقام عليه الحد.
وإذا تناول من الشراب ما هو مختلف في كونه خمرا بين الفقهاء، فإنه لايقام عليه الحد: لان الاختلاف شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
وكذلك لايقام الحد على من تناول النئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالربد، الذي أجمع الفقهاء على تحريمه إذا كان جاهلا بالتحريم، لكونه بدار الحرب أو قريب عهد بالاسلام، لان جهله يعتبر عذرا من الاعذار المسقطة للحد، بخلاف من كان مقيما بدار الاسلام، وليس قريب عهد بالدخول في الاسلام، فإنه يقام عليه الحد، ولا يعذر بجهله، لان هذا مما علم من الدين بالضرورة.
عدم اشتراط الحرية والاسلام في إقامة الحد: والحرية والاسلام ليسا شرطا في إقامة الحد، فالعبد إذا شرب الخمر فإنه
يعاقب، لانه مخاطب بالتكاليف التي أمر الله بها ونهى عنها.
إلا في بعض التكاليف التي يشق عليه القيام بها لانشغاله بأمره سيده، مثل صلاة الجمعة والجماعة.
والله سبحانه أمر باجتناب الخمر، وهذا الامر موجه إلى الحر والعبد، ولا يشق عليه اجتنابها، ويلحقه من ضررها ما يلحق الحر.
وليس ثمة من فرق بينهما إلا في العقوبة، فإن عقوبة العبد على النصف من عقوبة الحر، فيكون حده عشرين جلدة أو أربعين: " حسب الخلاف في تقدير العقوبة ".
وكما لا تشترط الحرية في إقامة الحد، فإنه لا يشترط الاسلام كذلك، فالكتابيون من اليهود والنصارى الذين يتجنسون بجنسية الدولة المسلمة ويعيشون معهم مواطنون (1) ، مثل الاقباط في مصر، وكذلك الكتابيون الذين يقيمون
__________
(1) يسمى هؤلاء بالمذميين بالتعبير الفقهي.

(2/398)


مع المسلمين بعقد أمان إقامة موقوتة (1) مثل الاجانب، هؤلاء يقام عليهم الحد إذا شربوا الخمر في دار الاسلام، لان لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
ولان الخمر محرمة في دينهم، كما سبقت الاشارة إلى ذلك، ولآثارها السيئة وضررها البالغ في الحياة العامة والخاصة.
والاسلام يريد صيانة المجتمع الذي تظله راية الاسلام، ويحتفظ به نظيفا قويا متماسكا، لا يتطرق إليه الضعف من أي جانب، لامن ناحية المسلمين، ولا من ناحية غير المسلمين.
وهذا مذهب جمهور الفقهاء، وهو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه.
ولكن الاحناف - رضي الله عنهم - رأوا أن الخمر، وإن كانت غير مال عند المسلمين لتحريم الاسلام لها، إلا أنها مال له قيمة عند أهل الكتاب، وأن من أهرقها من المسلمين يضمن قيمتها لصاحبها، وإن شربها مباح عندهم.
وإننا أمرنا بتركهم وما يدينون.
وعلى هذا فلا عقوبة على من يشربها من الكتابيين.
وعلى فرض تحريمها في كتبهم، فإننا نتركهم، لانهم لا يدينون بهذا التحريم، ومعاملتنا لهم تكون بمقتضى ما يعتقدون، لا بمقتضي الحق من حيث هو.
التداوي بالخمر: كان الناس في الجاهلية قبل الاسلام يتناولون الخمر للعلاج، فلما جاء الاسلام نهاهم عن التداوي بها وحرمه.
فقد روى الامام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، عن طارق ابن سويد الجعفي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه عنها، فقال: " إنما أصنعها للدواء "، فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ".
وروى أبو داود، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أنزل الداء والدواء، فجعل لكم داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام ".
__________
(1) يسمى هؤلاء بالمستأمنين بالتعبير الفقهي.

(2/399)


وكانوا يتعاطون الخمر في بعض الاحيان قبل الاسلام إتقاء لبرودة الجو، فنهاهم الاسلام عن ذلك أيضا.
فقد روى أبو داود أن ديلم الحميري سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يا رسول الله، إنا بأرض باردة، نعالج فيها عملا شديدا، وإنا نتخذ شرابا من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا؟ قال رسول الله: هل يسكر؟
قال: نعم.
قال: فاجتنبوه.
قال: إن الناس غير تاركيه.
قال: " فإن لم يتركوه فقاتلوهم ".
وبعض أهل العلم أجاز التداوي بالخمر بشرط عدم وجود دواء من الحلال يقوم مقام الحرام، وأن لا يقصد المتداوي به اللذة، والنشوة، ولا يتجاوز مقدار ما يحدده الطبيب، كما أجازوا تناول الخمر في حال الاضطرار.
ومثل الفقهاء لذلك بمن غص بلقمة فكاد يختنق ولم يجد ما يسيغها به سوى الخمر.
أو من أشرف على الهلاك من البرد، ولم يجد ما يدفع به هذا الهلاك غير كوب أو جرعة من خمر.
أو من أصابته أزمة قلبية وكاد يموت، فعلم أو أخبره الطبيب بأنه لا يجد ما يدفع به الخطر سوى شرب مقدار معين بن الخمر.
فهذا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات.

(2/400)


حد الزنا:
1 - دعا الاسلام إلى الزواج وحبب فيه، لانه هو أسلم طريقة لتصريف الغريزة الجنسية، وهو الوسيلة المثلى لاخراج سلالة يقوم على تربيتها الزوجان ويتعهدانها بالرعاية، وغرس عواطف الحب والود، والطيبة، والرحمة، والنزاهة والشرف، والاباء، وعزة النفس.
ولكي تستطيع هذه السلالة أن تنهض بتبعاتها، وتسهم بجهودها في ترقية الحياة وإعلائها.
2 - وكما وضع الطريقة المثلى لتصريف الغريزة منع من أي تصرف في غير الطريق المشروع، وحظر إثارة الغريزة بأي وسيلة من الوسائل، حتى لا تنحرف عن المنهج المرسوم. فنهى عن الاختلاط، والرقص، والصور المثيرة، والغناء الفاحش، النظر المريب، وكل ما من شأنه أن يثير الغريزة أو يدعو إلى الفحش حتى لا تتسرب عوامل الضعف في البيت، والانحلال في الاسرة.
3 - واعتبر الزنا جريمة فانونية تستحق أقصى العقوبة لانه وخيم العاقبة، ومفض إلى الكثير من الشرور والجرائم.
فالعلاقات الخليعة والاتصال الجنسي غير المشروع، مما يهدد المجتمع بالفناء والانقراض، فضلا عن كونه من الرذائل المحقرة. " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ". (1)
4 - لانه سبب مباشر في انتشار الامراض الخطيرة التي تفتك بالابدان، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الابناء، وأبناء الابناء، كالزهري، والسيلان، والقرحة.
5 - وهو أحد أسباب جريمة القتل، إذ أن الغيرة طبيعية في الانسان، وقلما
__________
(1) أي لا تفعلوا ما يقرب إلى الزنا، كالنظرة الفاحشة، واللمس، والقبلة، فالآية تنهي عن مقدمات الزنا، إذا كانت مقدماته محرمة فهو من باب أولى.

(2/401)


يرضى الرجل الكريم، أو المرأة العفيفة بالانحراف الجنسي، بل إن الرجل لا يجد وسيلة يغسل بها العار الذي يلحقه ويلحق أهله إلا الدم.
6 - والزنا يفسد نظام البيت، ويهز كيان الاسرة، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الاولاد لسوء التربية مما يتسبب عنه: التشرد، والانحراف والجريمة.
7 - وفي الزنا ضياع النسب، وتمليك الاموال لغير أربابها عند التوارث.
8 - وفيه تغرير بالزوج: إذ أن الزنا قد ينتج عنه الحمل، فيقوم الرجل بتربية غير ابنه.
9 - إن الزنا علاقة مؤقتة لاتبعة وراءها، فهو عملية حيوانية بحتة ينأى عنها الانسان الشريف.
وجملة القول أنه قد ثبت عمليا ثبوتا لا مجال للشك فيه عظم ضرر الزنا، وأنه من أكبر الاسباب الموجبة للفساد وانحطاط الآداب، ومورث لاقتل الادواء، ومروج للعزوبة واتخاذ الخدينات، ومن ثم كان أكبر باعث على الترف والسرف والعهر والفجور.
لهذا كله وغيره جعل الاسلام عقوبة الزنا أقسى عقوبة.
وإذا كانت هذه العقوبة تبدو قاسية، فإن آثار الجريمة المترتبة عليها أشد ضررا على المجتمع.
والاسلام يوازن بين الضرر الواقع على المذنب، والضرر الواقع على المجتمع، ويقضي بارتكاب أخف الضررين، وهذه هي العدالة.
ولا شك أن ضرر عقوبة الزاني لا توزن بالضرر الواقع على المجتمع من إفشاء الزنا، ورواج المنكر، وإشاعة الفحش والفجور.
إن عقوبة الزنا إذا كان يضار، بها المجرم نفه، فإن في تنفيذها حفظ النفوس، وصيانة الاعراض، وحماية الاسر، التي هي اللبنات الاولى في بناء المجتمع، وبصلاحها يصلح وبفسادها بفسد.
إن الامم بأخلاقها الفاضلة، وبآدابها العالية، ونظافتها من الرجس، والتلوث، وطهارتها من التدلي والتسفل.
على أن الاسلام - من جانب آخر - كما أباح الزواج أباح التعدد حتى

(2/402)


يكون في الحلال مندوحة عن الحرام، ولكي لا يبقي عذر لمتقرف هذه الجريمة.
وقد احتاط في تنفيذ هذه العقوبة بقدر ما أخاف الزناة وأرهبهم:
1 - فمن الاحتياط أنه درأ الحدود بالشبهات، فلا يقام حد إلا بعد التيقن من وقوع الجريمة.
2 - وانه لابد في إثبات هذه الجريمة من أربعة شهود عدل من الرجال، فلا تقبل فيها شهادة النساء، ولا شهادة الفسقة.
3 - وأن يكون الشهود جميعا رأوا عملية الزنا نفسها كالميل في المكحلة، والرشاء (1) في البئر، وهذا مما يصعب ثبوته.
4 - ولو فرض أن ثلاثة منهم شهدوا بهذه الشهادة وشهد الرابع بخلاف شهادتهم، أو رجع أحدهم عن شهادته أقيم عليهم حد القذف.
فهذا الاحتياط الذي وضعه الاسلام في إثبات هذه الجريمة، مما يدفع ثبوتها قطعا.
فهذه العقوبة هي إلى الارهاب والتخويف أقرب منها إلى التحقيق والتنفيذ.
وقد يقول قائل: إذا كان الحد مما يندر إقامته، لتعذر ثبوت الادلة، فلماذا إذن شرعه الاسلام؟ والجواب كما قلنا: أن الاسلام إذا لاحظ قسوة الجريمة وضراوتها فإنه يعمل لها ألف حساب وحساب قبل أن تقترف.
فهذا نوع من الزجر بالنسبة لهذه الجريمة التي تجد من الحوافز والبواعث
ما يدفع إليها، ولا سيما وأن الغريزة الجنسية من أعنف الغرائز، إن لم تكن أعنفها على الاطلاق، ومن المناسب أن يواجه عنف الغريزة عنف العقوبة، فإن ذلك من عوامل الحد من ثورتها.
__________
(1) الرشاء: الحبل.

(2/403)


التدرج في تحريم الزنا:
يرى كثير من الفقهاء أن تقرير عقوبة الزنا كانت متدرجة كما حدث في تحريم الخمر، وكما حصل في تشريع الصيام.
فكانت عقوبة الزنا في أول الامر الايذاء بالتوبيخ والتعنيف.
يقول الله سبحانه: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما.
فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (1) .
ثم تدرج الحكم من ذلك إلى الحبس في البيوت.
يقول الله تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.
فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أن يجعل الله لهن سبيلا (2) ".
ثم استقر الامر، وجعل الله السبيل، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة ورجم الثيب حتى يموت.
وكان هذا التدرج ليرتقي بالمجتمع، ويأخذ به في رفق وهوادة إلى العفاف والطهر، وحتى لا يشق على الناس هذا الانتقال، فلا يكون عليهم في الدين حرج، واستدلوا لهذا بحديث عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: " خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) .
رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
ونرى أن الظاهر أن آيتي النساء المتقدمتين تتحدثان عن حكم السحاق واللواط، وحكمهما يختلف عن حكم الزنا المقرر في سورة النور.
فالآية الاولى في السحاق:
__________
(1، 2) سورة النساء الآية 16.
(2) سورة النساء الآية 15.

(2/404)


" واللاتي ياتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم، فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ".
والثانية في اللواط: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (1) .
1 - أي والنساء اللاتي يأتين الفاحشة وهي السحاق: الذي تفعله المرأة مع المرأة فاستشهدوا عليهن أربعة من رجالكم، فإن شهدوا فاحبسوهن في البيوت بأن توضع المرأة وحدها بعيدة عمن كانت تساحقها، حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا إلى الخروج بالتوبة أو الزواج المغني عن المساحقة.
2 - والرجلان اللذان يأتيان الفاحشة - وهي اللواط - فآذوهما بعد ثبوت ذلك بالشهادة أيضا، فإن تابا قبل إيذائهما بإقامة الحد عليهما، فإن ندما
وأصلحا كل أعمالهما وطهرا نفسيهما فأعرضوا عنهما بالكف عن إقامة الحد عليهما.
الزنا الموجب للحد:
إن كل اتصال جنسي قائم على أساس غير شرعي، يعتبر زنا تترتب عليه العقوبة المقررة من حيث إنه جريمة من الجرائم التي حددت عقوباتها.
ويتحقق الزنا الموجب للحد بتغييب الحشفة (2) - أو قدرها من مقطوعها - في فرج محرم (3) ، مشتهى بالطبع (4) ، من غير شبهة نكاح (5) ، ولو لم يكن معه إنزال.
فإذا كان الاستمتاع بالمرأة الاجنبية فيما دون الفرج، فإن ذلك لا يوجب
__________
(1) سورة النساء الآية 16.
(2) الحشفة: رأس الذكر.
(3) بخلاف فرج الزوجة فإنه حلال.
(4) فتخرج فروج الحيوانات.
(5) فالجماع الذي يحدث بسبب النكاح الذي فيه شبهة لاحد فيه.

(2/405)


الحد المقرر لعقوبة الزنا، وإن اقتضى التعزير.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة من أقصى المدينة فأصبت منها، دون أن أمسها، فأنا هذا، فأقم علي ما شئت.
فقال عمر: سترك الله لو سترت على نفسك، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلق الرجل، فأتبعه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فدعاه، فتلا عليه:
" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل.
إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ".
فقال له رجل من القوم: يا رسول الله أله خاصة، أم للناس عامة؟..فقال: للناس عامة.
رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
أقسام الزناة:
الزاني: إما أن يكون بكرا، أو محصنا - ولكن منهما حكم يخصه.
حد البكر: اتفق الفقهاء على أن البكر الحر إذا زنا فإنه يجلد مائة جلدة، سواء في ذلك الرجال والنساء، لقول الله سبحانه في سورة النور (1) : " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة (2) في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين (3) ".
__________
(1) الآية: 2 (2) في هذا نهي عن تعطيل الحدود، وقيل: هو نهي عن تخفيف الضرب بحيث لا يحصل وجع معتد به.
(2) قيل: يجب حضور ثلاثة فأكثر، وقيل أربعة بعد شهود الزنا.
وقال أبو حنيفة: الامام والشهودإن ثبت الحد بالشهود.

(2/406)


الجمع بين الجلد والتغريب:
والفقهاء، وإن اتفقوا على وجوب الجلد (1) ، فإنهم قد اختلفوا في إضافة التغريب إليه: 1 - قال الشافعي وأحمد: يجمع إلى الجلد التغريب مدة عام، لما رواه
البخاري ومسلم عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلا من الاعراب أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم، فاقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل.
قال إن ابني كان عسيفا (2) على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة.
فسألت أهل العلم، فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة هذا الرجم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لاقضين بينكما بكتاب الله - الوليدة والغنم رد عليك.
وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام - واغد يا أنيس (رجل من أسلم) إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها.
قال: فعدا عليه فاعترفت، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت.
وروى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنا ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد عليه.
وأخرج مسلم عن عبادة بن الصامت، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " (3) .
__________
(1) الجلد مأخوذ من جلد الانسان، وهو الضرب الذي يصل إلى جلده.
(2) عسيفا: أجيرا.
(3) قال الخطابي: " واختلف العلماء في تنزيل هذا الكلام، ووجه ترتيبه على الآية، وهل هو ناسخ للآية أو
مبين لها؟!

(2/407)


وقد أخذ بالتغريب الخلفاء الراشدون - ولم ينكره أحد - فالصديق رضي الله عنه غرب إلى فدك - والفاروق عمر رضي الله عنه إلى الشام - وعثمان رضي الله عنه إلى مصر - وعلي رضي الله عنه إلى البصرة.
ووالشافعية يرون انه لا ترتيب بين الجلد والتغريب فيقدم ما شاء منهما، واشترط في التغريب أن يكون إلى مسافة تقصر فيها الصلاة، لان المقصود به الايحاش عن أهله ووطنه، وما دون مسافة القصر في حكم الحضر، فإن رأى الحاكم تغريبه إلى أكثر من ذلك، فعل.
وإذا غربت المرأة، فإنها لاتغرب إلا بمحرم أو زوج فلو لم يخرج إلا بأجرة لزمت، وتكون من مالها.
2 - وقال مالك والاوزاعي: يجب تغريب البكر الحر الزاني، دون المرأة البكر الحرة الزانية، فإنها لاتغرب، لان المرأة عورة.
3 - وقال أبو حنيفة: لا يضم إلى الجلد التغريب إلا أن يرى الحاكم ذلك مصلحة، فيغربهما على قدر ما يرى.
حد المحصن: وأما المحصن الثيب فقد اتفق الفقهاء على وجوب رجمه (1) إذا زنا حتى يموت، رجلا كان أو امرأة.
واستدلوا بما يأتي:
1 - عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهوفي المسجد، فناداه فقال: يا رسول الله، إني زنيت. فأعرض عنه.
__________
فذهب بعضهم إلى النسخ، وهذا قول من يرى نسخ الكتاب بالسنة.
وقال آخرون: بل هو مبين للحكم الموعود بيانه في الآية، فكأنه قال عقوبتهن إلى أن
يجعل الله لهن سبيلا، فوقع الامر بحبسهن إلى غاية.
فلما انتهت مدة الحبس، وحان وقت مجئ السبيل " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا عني ... خذوا عني " إلى آخره تفسيرا للسبيل وبيانه، ولم يكن ذلك ابتداء حكم منه، وإنما هربيان أمر كان ذكر السبيل منطويا عليه، فابان المبهم منه، وفصل المجمل من لفظه، فكان نسخ الكتاب بالكتاب لا بالسنة.
وهو أصوب القولين، والله أعلم.
(1) الرجم: أصله الرمي بالحجارة، وهي الحجارة الضخام وكل رجم في القرآن معناه القتل.

(2/408)


ردد عليه أربع مرات.
فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أبك جنون "؟ قال: لا.
قال: " فهل أحصنت "؟ قال: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا فارجموه ".
قال ابن شهاب: فأخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجمه، فرجمناه بالمصلى.
فلما أزلقته الحجارة هرب، فأدركناه بالحرة، فرجمناه، متفق عليه، وهو دليل على أن الاحصان يثبت بالاقرار مرة، وأن الجواب ينعم إقرار.
2 - وعن ابن عباس قال: خطب عمر فقال: " إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، وإني خشيت إن طال زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله تعالى، فيضلون بترك فريضة أنزلها الله تعالى فالرجم حق على من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا، إذا قامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، وأيم الله لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبتها ".
رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا.
وفي نيل الاوطار: أما الرجم فهو مجمع عليه، وحكي في البحر عن الخوارج أنه غير واجب، وكذلك حكاه عنهم أيضا ابن العربي.
وحكاه أيضا عن بعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ولامستند لهم إلا أنه لم يذكر في القرآن، وهذا باطل.
فإنه قد ثبت بالسنة المتواترة المجمع عليها.
وهو أيضا ثابت بنص القرآن.
لحديث عمر عند الجماعة أنه قال: كان مما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجمناه بعده.
ونسخ التلاوة لا يستلزم نسخ الحكم، كما أخرج أبو داود من حديث ابن عباس.

(2/409)


وقد أخرج أحمد والطبراني في الكبير من حديث أبي أمامة بن سهل عن خالته العجماء: أن فيما أنزل الله من القرآن: " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة ".
وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي بن كعب بلفظ: كانت سورة الاحزاب توازي سورة البقرة وكان فيها آية " الشيخ والشيخة " إلخ الحديث.
شروط الإحصان:
يشترط في المحصن الشروط الآتية:
1 - التكليف: أي أن يكون الواطئ عاقلا بالغا.
فلو كان مجنونا أو صغيرا فإنه لا يحد. ولكن يعزر.
2 - الحرية: فلو كان عبدا أو أمة فلارجم عليهما لقول الله سبحانه في حد الاماء: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " والرجم لا يتجزأ.
3 - الوطء في نكاح صحيح: أي أن يكون الواطئ قد سبق له أن تزوج زواجا صحيحا ووطء فيه ولو لم ينزل.
ولو كان في حيض أو إحرام يكفي، فإن كان الوطء في نكاح فاسد فإنه لا يحصل به الاحصان ولا يلزم بقاء الزواج لبقاء صفة الاحصان، فلو تزوج مرة زواجا صحيحا، ودخل بزوجته، ثم انتهت العلاقة الزوجية. ثم زنى وهو غير متزوج فإنه يرجم.
وكذلك المرأة إذا تزوجت، ثم طلقت فرنت بعد طلاقها، فإنها تعتبر محصنة وترجم.
__________
(1) الاحصان يأتي في القرآن بمعنى الحرية: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " " سورة النساء " أي الحرائر، ويأتي بمعنى العفة.
" والذين يرمون المحصنات " " سورة النور " أي العفيفات.
ويأتي بمعنى التزوج " والمحصنات من النساء " " سورة النساء " أي المتزوجات ويأتي بمعنى الوطء " محصنين غير مسافين ".
والاصل فيه في اللغة: المنع، ومنه: " لنحصنكم من بأسكم " وأخذ منه الحصن.
وورد في الشرع بمعنى: " الاسلام، بمعنى: البلوغ، وبمعنى: العقل.

(2/410)


المسلم والكافر سواء:
وكما يجب الحد على المسلم إذا ثبت منه الزنا فإنه يجب على الذمي والمرتد، لان الزمي قد التزم الاحكام التي تجري على المسلمين، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا وكانا محصنين.
وأما المرتد فإن جريان أحكام الاسلام تشمله، ولا يخرجه الارتداد عن تنفيذها عليه.
عن ابن عمر: أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم برجل وامرأة منهم قدزنيا.
فقال: " ما تجدون في كتابكم؟ " فقال: تسخم وجوههما ويخزيان.
" قال: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ".
وجاء وابقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له: ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح.
فقال - أو قالوا - يا محمد: " إن فيها الرجم، ولكنا كنانتكاتمه بيننا " فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما.
قال: فلقد رأيته يجنأ عليها يقيها الحجارة بنفسه ".
رواه البخاري ومسلم وفي رواية أحمد: " بقارلهم أعور يقال له ابن صوريا ".
وعن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه رجلا من أسلم ورجلا من اليهود (1) رواه أحمد ومسلم.
وعن البراء بن عازب قال: " مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم.
فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا: نعم.
فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزنى في كتابكم.
؟ قال: لا. ولولا أنك أنشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم.
ولكن كثر في أشرافنا، وكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه
__________
(1) فإن قيل كيف رجم اليهوديان، هل رجما بالبينة أو الاقرار قال النووي - الظاهر أنه بالاقرار

(2/411)


الحد.
فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه ".
فأمر به فرجم. فأنزل الله عزوجل: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأقواههم ولم تؤمن قلوبهم " إلى قوله: " إن أوتيتم هذا فخذوه ".
يقولون: " ائتوا محمدا، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ".
فأنزل الله تبارك وتعالى: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ".
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ".
" ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ".
قال: " هي في الكفار كلها ".
رواه أحمد ومسلم وأبو داود (1) .
رأي الفقهاء: حكى صاحب البحر الاجماع على أنه يجلد الحربي.
وأما الرجم فذهب الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن
__________
(1) نص خاص بحكم الرجم في التوراة.
جاء في سفر التثنية: " إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان.
الرجل المضطجع مع المرأة، والمرأة، فينزع الشر من إسرائيل.
وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل، فوجدها رجل بالمدينة، فاضطجع معها،
فأخرجوهما كليهما من المدينة وارجموهما بالحجارة، حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فينزع الشر من المدينة ".
هذا هو نص التوراة، ولم يأت في الانجيل ما يعارضها وهي واجبة على النصارى بحكم أن ما في العهد القديم - وهو التوراة - حجة على النصارى إذا لم يكن في العهد الجديد - وهو الانجيل - ما يخالفها.
من كتاب فلسفة العقوبة.

(2/412)


من الكفار إذا كان بالغا، عاقلا، حرا، وكان أصاب نكاحا صحيحا في اعتقاده.
وذهب أبو حنيفة، ومحمد، وزيد بن علي، والناصر، والامام يحيى: إلى أنه يجلد ولا يرجم، لان الاسلام شرط في الاحصان عندهم.
ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهوديين إنما كان بحكم التوراة التي يدين بها اليهود.
وقال الامام يحيى: والذمي كالحربي في الخلاف.
وقال مالك: لاحد عليه.
وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد: إلى أنه لا يحد.
وقد بالغ ابن عبد البر فنقل الاتفاق على أن شرط الاحصان الموجب للرجم هو الاسلام.
وتعقب بأن الشافعي وأحمد لا يشترطان ذلك.
ومن جملة من قال بأن الاسلام شرط: ربيعة - شيخ مالك - وبعض الشافعية (1) .
الجمع بين الجلد والرجم: ذهب ابن حزم وإسحاق ببن راهواية ومن التابعين الحسن البصري: إلى أن المحصن يجلد مائة جلدة، ثم يرجم حتى يموت.
فيجمع له بين الجلد والرجم.
واستدلوا بما رواه عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ".
رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
وعن علي كرم الله وجهه: أنه جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة.
فقال: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) نيل الاوطار.

(2/413)


وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يجتمع الجلد والرجم عليهما وإنما الواجب الرجم خاصة.
وعن أحمد، روايتان: إحداهما يجمع بينهما.
وهو أظهر الروايتين واختارها الخرقي.
والاخرى: لا يجمع بينهما، لمذهب الجمهور - واختارها ابن حامد.
واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ما عزا والغامدية واليهوديين - ولم يجلد واحدا منهما.
وقال لانيس الاسلمي " فإن اعترفت فارجمها "، ولم يأمر بالجلد، وهذا آخر الامرين، لان أبا هريرة قد رواه - وهو متأخر في الاسلام - فيكون ناسخا لما سبق من الحدين - الجلد والرجم - ثم رجم الشيخان أبو بكر
وعمر في خلافتهما ولم يجمعا بين الجلد والرجم.
ويرى الشيخ الدهلوي عدم التعارض، وأنه لا ناسخ ولا منسوخ، وإنما الامر يفوض إلى الحاكم قال: الظاهر عندي أنه يجوز للامام " الحاكم " أن يجمع بين الجلد والرجم، ويستحب له أن يقتصر على الرجم، لاقتصار النبي صلى الله عليه وسلم.
والحكمة في ذلك، أن الرجم عقوبة تأتي على النفس، فأصل الزجر المطلوب حاصل به، والجلد زيادة عقوبة مرخص في تركها، فهذا هو وجه الاقتصار على الرجم عندي.
شروط الحد:
يشترط في إقامة حد الزنا ما يلي:
1 - العقل.
2 - البلوغ.
3 - الاختيار.
3 - العلم بالتحريم.
فلا حد على صغير (1) ولا على مجنون، ولا مكره: لما روته عائشة رضي
__________
(1) ويؤدب تأديبا زاجرا.

(2/414)


الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث (1) : عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم (2) وعن المجنون حتى يعقل ".
رواه أحمد وأصحاب السنن والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين وحسنه الترمذي.
وأما العلم بالتحريم فلان الحد يتبع اقتراف الحرام، وهو غير مقترف له، وراجع النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا، فقال له: هل تدري ما الزنا؟ وروي أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل: إنها زنت، فخفقها بالدرة خفقات وقال: " أي لكاع زنيت؟ فقالت: من غوش (3) بدرهمين.
فقال عمر: ما ترون؟ وعنده علي وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف.
فقال علي رضي الله عنه: أرى أن ترجمها.
وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى أخوك.
فقال عثمان: أراها تستسهل (4) بالذي صنعت، لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر الله عزوجل.
فقال صدقت.
بم يثبت الحد:
يثبت الحد بأحد أمرين: الاقرار، أو الشهود.
ثبوته بالاقرار: أما الاقرار فهو كما يقولون " سيد الادلة "، وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ما عز والغامدية، ولم يختلف في ذلك أحد من الائمة، وإن كانوا قد اختلفوا في عدد مرات الاقرار الذي يلزم به الحد.
فقال مالك، والشافعي، وداود، والطبري، وأبو ثور: يكفي في
__________
(1) رفع القلم: كناية عن عدم التكليف.
(2) يحتلم يبلغ.
(3) اسم الرجل الذي زنا بها، والدرهمان: ما أخذ منه.
(4) أي: أظنها ترى هذا الامر سهلا لا بأس به في نظرها.

(2/415)


لزوم الحد اعترافه به مرة واحدة.
لما رواه أبو هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها ".
فاعترفت، فرجمها، ولم يذكر عددا.
وعند الاحناف: أنه لابد من أقارير أربعة مرة بعد مرة في مجالس متفرقة.
ومذهب أحمد وإسحاق مثل الاحناف، إلا أنهم لا يشترطون المجالس المتفرقة، والمذهب الاول هو الارجح.
الرجوع عن الاقرار يسقط الحد: ذهبت الشافعية، والحنفية، وأحمد (1) إلى أن الرجوع عن الاقرار يسقط الحد لما رواه أبو هريرة عند أحمد والترمذي: " أن ما عزا لما وجد مس الحجارة يشتد فر حتى مر برجل معه لحي (2) جمل، فضربه به، وضربه الناس حتى مات. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هلا تركتموه!؟ ". قال الترمذي إنه حديث حسن.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة. انتهى.
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه، وزاد " إنه لما وجد مس الحجارة صرخ: يا قومن ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن قومي قتلوني وغروني من نفسي، وأخبروني أن رسول الله غير قاتلي.
فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال: فهلا تركتموه وجئتموني به!!؟ ".
من أقر بزنا امرأة فجحدت:
إذا أقر الرجل بزنا امرأة معينة، فجحدت فإنه يقام عليه الحد وحده،
__________
(1) وقال مالك: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه، وإن رجع إلى غير شبهة فقيل.
يقبل، وهي الرواية المشهورة عنه، والثانية أنه لا يقبل جوعه.
(2) اللحى: عظم الحنك.

(2/416)


ولاتحد هي.
لما رواه أحمد وأبو داود عن سهل بن سعد: " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه قد زنا بامرأة سماها، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المرأة فدعاها، فسألها فأنكرت، فحده وتركها ".
وهذا الحد هو حد الزنا الذي أقر به، لاحد قذف المرأة كما ذهب إليه مالك والشافعي.
وقال الاوزاعي وأبو حنيفة: يحد للقذف فقط، لان إنكارها شبهة، واعترض على هذا الرأي بأن إنكارها لا يبطل إقراره.
وذهبت الهادوية، ومحمد، ويروى عن الشافعي، أنه يحد للزنا والقذف، لما رواه أبو داود والنسائي عن ابن عباس: " أن رجلا من بكر بن ليث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر أنه زنا بامرأة أربع مرات، فجلده مائة - وكان بكرا - ثم سأله البينة على المرأة.
فقالت: كذب يا رسول الله، فجلده حد الفرية ثمانين (1) ".
ثبوته بالشهود: الاتهام بالزناسئ الاثر في سقوط الرجل والمرأة، وضياع كرامتهما، وإلحاق العار بهما وبأسرتيهما وذريتهما.
ولهذا شدد الاسلام في إثبا ت هذه الجريمة حتى يسد السبيل على الذين يتهمون الابرياء - جزافا أو لادنى حزازة - بعار الدهر وفضيحة الابد، فاشترط في الشهادة على الزنا الشروط الآتية:
(أولا) أن يكون الشهود أربعة - بخلاف الشهادة على سائر الحقوق - قال الله تعالى: " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم.
فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " (2) ولقوله: " والذين يرمون المحصنات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء " (3) فإن كانوا أقل من أربعة لم تقبل.
__________
(1) قال النسائي هذا حديث منكر، وقال ابن حبان بطل الاحتجاج به.
(2) سورة النساء: الآية 15.
(3) سورة النور: الآية 4.

(2/417)


وهل يحدون إذا شهدوا؟: قال الاحناف، ومالك، والراجح من مذهب الشافعي، وأحمد: نعم.
الان عمر حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة.
وهم: أبو بكرة ونافع وشبل ابن معبد.
وقيل لا يحدون حد القذف، لان قصدهم أداء الشهادة لاقذف المشهود عليه.
وهو المرجوح عندالشافعية والحنفية ومذهب الظاهرية.
(ثانيا) البلوغ: لقول الله تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ".
(1) فإن لم يكن بالغا فلا تقبل شهادته، لانه ليس من الرجال، ولا ممن ترضى شهادته، ولو كانت حاله تمكنه من أداء الشهادة على وجهها، ولقول الرسول
صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق ".
لصبي ليس أهلا لان يتولى حفظ ماله، فلا يتولى الشهادة على غيره، لان الشهادة من باب الولاية.
(ثالثا) العقل: فلا تقبل شهادة مجنون ولامعتوه للحديث السابق، وإذا كانت شهادة الصبي لاتقبل لنقصان عقله فأولى ألا تقبل شهادة المجنون والمعتوه.
(رابعا) العدالة: لقول الله تعالى: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " (2) وقوله: " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا، أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " (3) .
__________
(1) سورة البقرة الآية: 282.
(2) سورة الطلاق الآية: 2 (3) سورة الحجرات الآية: 6

(2/418)


(خامسا) الاسلام: سواء كانت الشهادة على مسلم أو غير مسلم، وهذا متفق عليه بين الائمة.
(سادسا) المعاينة: أي أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها كالميل في المكحلة والرشا في البئر لان الرسول صلى الله عليه وسلم قال لما عز: " لعلك قبلت، أو غمزت، أو نظرت "؟ فقال: لا يا رسول الله.
فسأله صلوات الله وسلامه عليه باللفظ الصريح لا يكني.
قال: نعم. قال: " كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر "؟ قال: نعم.
وإنما أبيح النظر في هذه الحالة للحاجة إلى الشهادة، كما أبيح للطبيب، والقابلة ونحوهما.
(سابعا) التصريح: وأن يكون التصريح بالايلاج لا بالكناية كما تقدم في الحديث السابق.
(ثامنا) اتحاد المجلس: ويرى جمهور الفقهاء أن من شرط هذه الشهادة اتحاد المجلس بأن لا يختلف في الزمان ولا في المكان، فإن جاءوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.
ويرى الشافعية، والظاهرية، والزيدية، عدم اشتراط هذا الشرط.
فإن شهدوا مجتمعين أو متفرقين في مجلس واحد أو في مجالس متفرقة، فإن شهادتهم تقبل، لان الله تعالى ذكر الشهود ولم يذكر المجالس، ولان كل شهادة مقبولة تقبل إن اتفقت، ولو تفرقت في مجالس، كسائر الشهادات.
(تاسعا) الذكورة: ويشترط في شهود الزنا أن يكونوا جميعا من الرجال ولاتقبل شهادة النساء في هذا الباب.
ويرى ابن حزم أنه يجوز أن يقبل في الزنا شهادة امرأتين مسلمتين عدل مكان كل رجل، فيكون الشهود ثلاثة رجال وامرأتين - أو رجلين وأربع نسوة - أو رجلا واحدا وست نسوة - أو ثمان نسوة لارجال معهم.
(عاشرا) عدم التقادم: لقول عمر رضي الله عنه: أيما قوم شهدوا على حد، لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن، ولا شهادة لهم.
فإذا شهد الشهود على حادث الزنا بعد أن تقادم فإن شهادتهم لا تقبل عند الاحناف، ويحتجون لهذا بأن الشاهد إذا شهد الحادث مخير بين أداء

(2/419)


الشهادة حسبة، وبين التستر على الجاني، فإذا سكت عن الحادث حتى قدم عليه العهد دل بذلك على اختيار جهة الستر، فإذا شهد بعد ذلك فهو دليل على أن الضغينة هي التي حملته على الشهادة.
ومثل هذا لاتقبل شهادته، للتهمة والضغينة، كما قال عمر، ولم ينقل أن أحدا أنكر عليه هذا القول، فيكون إجماعا.
وهذا ما لم يكن هناك عذر يمنع الشاهد من تأخير الشهادة، فإن كان هناك عذر ظاهر في تأخير الشهادة، كبعد المسافة عن محل التقاضي، وكمرض الشاهد أو نحو ذلك من الموانع، فإن الشهادة تقبل حينئذ ولا تبطل بالتقادم.
والاحناف الذين قالوا بهذا الشرط لم يقدروا له أمدا، بل فوضوا الامر للقاضي يقدره تبعا لظروف كل حالة لتعذر التوقيت، نظرا لاختلاف الاعذار.
وبعض الاحناف قدر التقادم بشهر، وبعضهم قدره بستة أشهر.
أما جمهور الفقهاء من المالكية، والشافعية، والظاهرية، والشيعة الزيدية فإن التقادم عندهم لايمنع من قبول الشهادة مهما كانت متأخرة.
وللحنابلة رأيان: رأي مثل أبي حنيفة، ورأي مثل الجمهور.
هل للقاضي أن يحكم بعلمه؟: يرى الظاهرية أنه فرض على القاضي أن يقضي بعلمه في الدماء، والقصاص والاموال، والفروج، والحدود، سواء علم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته، وأقوى ما حكم بعلمه، لانه يقين الحق، ثم بالاقرار، ثم بالبينة، لان الله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " (1) .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
" من رأى منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ".
فصح أن القاضي عليه أن يقوم بالقسط، وليس من القسط أن يترك الظالم
__________
(1) سورة النساء الآية: 135.

(2/420)


على ظلمه لا يغيره، وصح أن فرضا على القاضي أن يغير كل منكر علمه بيده وأن يعطي كل ذي حق حقه، وإلا فهو ظالم.
وأما جمهور الفقهاء فإنهم يرون أنه ليس للقاضي أن يقضي بعلمه.
قال أبو بكر رضي الله عنه: " لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي "، ولان القاضي كغيره من الافراد لا يجوز له أن يتكلم بما شهده ما لم تكن لديه البينة الكاملة.
ولو رمى القاضي زانيا بما شهده منه، وهو لا يملك على ما يقول البينه الكاملة لكان قاذفا يلزمه حد القذف، وإذا كان قد حرم على القاضي النطق بما يعلم، فأولى أن يحرم عليه العمل به، وأصل هذا الرأي قول الله سبحانه: " فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " (1) هل يثبت الحد بالحبل؟: ذهب الجمهور إلى أن مجرد الحبل لا يثبت به الحد، بل لابد من الاعتراف أو البينة.
واستدلوا على هذا بالاحاديث الواردة في درء الحدود بالشبهات.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال لامرأة حبلى: " استكرهت؟ " قالت: لا.
قال: " فلعل رجلا أتاك في نومك ".
قالوا: وروى الاثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة ادعت أنها ثقيلة النوم
وأن رجلا طرقها ولم تدر من هو بعد.
وأما مالك وأصحابه فقالوا: إذا حملت المرأة ولم يعلم لها زوج ولم يعلم أنها أكرهت فإنها تحد: قالوا: فإن ادعت الاكراه فلابد من الاتيان بأمارة تدل على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمي، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه.
وكذلك إذا ادعت الزوجية، فإن دعواها لاتقبل إلا أن تقيم على ذلك البينة
__________
(1) سورة النور الآية: 13

(2/421)


واستدلوا لمذهبهم بقول عمر: " الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنا: إذا كانت بينة، أو الحمل، أو الاعتراف ". وقال علي. " يا أيها الناس إن الزنا زنيان: زنا سروزنا علانية. فزنا السر أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي. وزنا العلانية أن يظهر الحبل، والاعتراف ". قالوا: هذا قول الصحابة، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعا.
سقوط الحد بظهور ما يقطع بالبراءة: إذا ظهر بالمرأة أو بالرجل ما يقطع بأنه لم يقع من أحد منهما زنا، كأن تكون المرأة عذراء لم تفض بكارتها أو رتقاء مسدودة الفرج، أو يكون الرجل مجبوبا أو عنينا سقط الحد.
وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا لقتل رجل كان يدخل على إحدى النساء، فذهب فوجده يغتسل في ماء، فأخذ بيده فأخرجه من الماء ليقتله، فرآه مجبوبا، فتركه ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك.
الولد يأتي لستة أشهر: إذا تزوجت المرأة وجاءت بولد لستة أشهر منذ تزوجت فلا حد عليها.
قال مالك: بلغني أن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها.
إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". (1)
__________
(1) سورة الاحقاف الآية: 15

(2/422)


وقال: " الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، لمن أراد أن يتم الرضاعة ".
(1) فالحمل يكون ستة أشهر، فلارجم عليها، فبعث عثمان في أثرها، فوجدها قد رجمت.
وقت إقامة الحد:
قال في بداية المجتهد (2) : وأما الوقت فإن الجمهور على أنه لايقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض.
وقال قوم: يقام - وبه قال أحمد وإسحاق - واحتجا بحديثي عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض.
قال: وسبب الخلاف معارضة الظواهر
للمفهوم من الحد، وهو أنه حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود.
فمن نظر إلى الامر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال يحد المريض.
ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الامر في شدة الحر والبرد.
قال الشوكاني: وقد حكي في البحر الاجماع على أنه يمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، والمرض المرجو برؤه، فإن كان ميؤوسا، فقاال الهادي وأصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول (3) إن احتمله.
وقال الناصر والمؤيد بالله: لا يحد في مرضه وإن كان ميئوسا - والظاهر الاول، لحديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف الآتي: وأما المرجوم إذا كان مريضا أو نحوه فذهبت العترة، والشافعية والحنفية ومالك: إلى أنه لا يمهل لمرض ولا لغيره إذ القصد إتلافه.
__________
(1) سورة البقرة الآية: 233.
(2) ج 2 ص 410.
(3) العثكول: العذق من اعذاق النخل.

(2/423)


وقال المروزي: يؤخر لشدة الحر أو البرد أو المرض، سواء ثبت بإقراره أو بالبينة.
وقال الاسفراييني: يؤخر للمرض فقط، وفي الحر والبرد: يرجم في الحال أو حيث يثبت بالبينة لا الاقرار أو العكس.
والحبلى لاترجم حتى تضع وترضع ولدها إن لم يوجد من
يرضعه.
وعن علي قال: " إن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت، فأمرني أن أجلدها، فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت ان أجلدها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنت.
اتركها حتى تماثل ".
رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وصححه.
الحفر للمرجوم: اختلفت الاحاديث الواردة في الحفر للمرجوم فبعضها مصرح فيه بالحفر له، وبعضها لم يصرح به.
قال الامام أحمد: أكثر الاحاديث على أنه لاحفر.
ولاختلاف ما ورد من أحاديث، اختلف الفقهاء.
فقال مالك وأبوحنيفة: لا يحفر للمرجوم.
وقال أبو ثور: يحفر له.
وروي عن علي رضي الله عنه: أنه حين أمر برجم شراحة الهمدانية أخرجها، فحفر لها، فأدخلت فيها، وأحدق الناس بها يرمونها.
وأما الشافعي فخير في ذلك.
وروي عنه أنه يحفر للمرأة خاصة.
وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة، ويستحب جمع ثيابها عليه وشدها بحيث لا تنكشف عورتها في تقلبها وتكرار اضطرابها إذا لم يحفر لها.
واتفق العلماء على أنه لاترجم إلا قاعدة، وأما الرجل فجمهورهم على أنه يرجم قائما.
وقال مالك: قاعدا، وقال غيره: يخير الامام بينهما

(2/424)


حضور الإمام والشهود والرجم:
(1) قال في نيل الاوطار: " حكى صاحب البحر عن العترة، والشافعي، أنه لا يلزم الامام حضور الرجم، وهو الحق، لعدم دليل يدل على الوجوب، ولما تقدم في حديث ماعزأنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز ولم يخرج معهم.
والزنا منه ثبت بإقراره كما سلف، وكذلك لم يحضر في رجم الغامدية كما زعم البعض.
قال في التلخيص: لم يقع في طرق الحديثين أنه حضر، بل في بعض الطرق ما يدل على أنه لم يحضر.
وقد جزم بذلك الشافعي، فقال: وأما الغامدية ففي سنن داود وغيره ما يدل على ذلك.
وإذا تقرر هذا تبين عدم الوجوب على الشهود ولا على الامام.
وأم الاستحباب، فقد حكى ابن دقيق العيد أن الفقهاء استحبوا أن يبدأ الامام بالرجم إذا ثبت الزنا بالاقرار، وتبدأ الشهود به إذا ثبت بالبينة.
شهود طائفة من المؤمنين الحد: قال الله تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " (2) .
استدل العلماء بهذه الآية على أنه يستحب أن يشهد إقامة الحد طائفة من المؤمنين، واختلفوا في عدد هذه الطائفة، فقيل: أربعة، وقيل: ثلاثة، وقيل اثنان.
وقيل: سبعة فأكثر.
الضرب في حد الجلد:
ذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه يضرب سائر الاعضاء ما عدا الفرج
__________
(1) ذهب أبو حنيفة إلى أن الشاهد يجب أن يكون أول من يرمي الزاني المحصن إذا ثبت الحد بالشهادة - وأن الامام يجبره على ذلك، لما فيه من الزجر عن التساهل والترغيب في التثبيت - فإذا كان الثبوت بالاقرار وجب على الامام أو نائبه أن يبدأ بالرجم.
(2) سورة النور الآية: 2

(2/425)


والوجه وما عدا الرأس كذلك عند أبي حنيفة.
وقال مالك: يجرد الرجل في ضرب الحدود كلها، وكذلك عند الشافعي وأبي حنيفة، ما عدا القذف.
ويضرب قاعدا لا قائما (1) .
قال النووي: قال أصحابنا: وإذا ضربه بالسوط يكون سوطا معتدلا في الحجم، بين القضيب والعصا.
فإن ضربه بجريدة، فلتكن خفيفة بين اليابسة والرطبة، ويضربه، ضربا بين ضربين، فلا يرفع يده فوق رأسه، ولا يكتفي بالوضع، بل يرفع ذراعه رفعا معتدلا.
إمهال البكر: تمهل البكر حتى تزول شدة الحر والبرد، وكذلك المرجو الشفاء.
فإن كان ميئوسا من شفائه.
فقال أصحاب الشافعي: إنه يضرب بعثكول إن احتمله.
روى أبو داود وغيره عن رجل من الانصار: أنه اشتكى (2) رجل منهم حتى أضى (3) فعاد جلده على عظم.
فدخلت عليه جارية لبعضهم، فهش لها فوقع عليها (4) .
فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت على جارية دخلت علي.
فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحدمن الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت عظامه، ما هو إلا جلد على عظم.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه به ضربة واحد.
__________
(1) بداية المجتهد ج 2 ص 410 (2) اشتكى: مرض.
(3) الضنى: شدة الاجهاد من المرض.
(4) وقع عليها: زنا بها.

(2/426)


هل للمجلود دية إذا مات؟
إذا مات المجلود فلادية له.
قال النووي في شرح مسلم: " أجمع العلماء على أن من وجب عليه الحد فجلده الامام أو جلاده الحد الشرعي فمات فلادية فيه ولا كفارة، لاعلى الامام " الحاكم " ولا على جلاده، ولا في بيت المال ".
كان ما تقدم هو حكم جريمة الزنا، وبقي أن نذكر بعض الجرائم وأحكامها فيما يلي:
(1) عمل قوم لوط: إن جريمة اللواط من أكبر الجرائم، وهي من الفواحش المفسدة للخلق وللفطرة وللدين والدنيا، بل وللحياة نفسها، وقد عاقب الله عليها بأقسى
عقوبة. فخسف الارض بقوم لوط، وأمطر عليهما حجارة من سجيل جزاء فعلتهم القذرة.
وجعل ذلك قرآنا يتلى ليكون درسا.
قال الله سبحانه: " ولوطا إذ قال لقومه: أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين.
إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء، بل أنتم قوم مسرفون.
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون.
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين.
وأمطرنا عليهم مطرا، فانظر كيف كان عاقبة المجرمين: " (1) وقال تعالى: " ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا، وقال: هذا يوم عصيب. وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال: يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر
__________
(1) سورة الاعراف.
الآيات: 80، 81، 82، 83، 84.

(2/427)


لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟ قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد.
قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد؟ قالوا: يا لوط إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك، فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح، أليس الصبح بقريب!؟ فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليها
حجارة من سجيل منضود.
مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد ".
(1) وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل فاعله ولعنه.
روى أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به ".
ولفظ النسائي: " لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط. لعن الله من عمل عمل قوم لوط ".
قال الشوكاني: " وما أحق مرتكب هذه الجريمة، ومقارفي هذه الرذيلة الذميمة بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين، ويعذب تعذيبا يكسر شهوة الفسقة المتمردين.
فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين، أن يصلى من العقوبة بما يكون من الشدة والشناعة مشابها لعقوبتهم، وقد خسف الله تعالى بهم، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وثيبهم ".
وإنما شدد الاسلام في عقوبة هذه الجريمة لآثارها السيئة وأضرارها في الفرد والجماعة.
وهذه الاضرار نذكرها ملخصة من كتاب: " الاسلام والطب " فيما يلي (1) :
__________
(1) سورة هود الآيات: 77، 78، 79، 80، 81، 82، 83 (1) كتاب " الاسلام والطب " للدكتور محمد وصفي.

(2/428)


الرغبة عن المرأة:
من شأن اللواطة أن تصرف الرجل عن المرأة، وقد يبلغ به الامر إلى حد العجز عن مباشرتها، وبذلك تتعطل أهم وظيفة من وظائف الزواج، وهي إيجاد النسل.
ولو قدر لمثل هذا الرجل أن يتزوج، فإن زوجته تكون ضحية من الضحايا، فلا تظفر بالسكن (1) ، ولا بالمودة، ولا بالرحمة التي هي دستور الحياة الزوجية، فتقضي حياتها معذبة معلقة، لاهي متزوجة ولا مطلقة.
التأثير في الأعصاب: وإن هذه العادة تغزو النفس، وتؤثر في الاعصاب تأثيرا خاصا، أحد نتائجه الاصابة بالانعكاس النفسي في خلق الفرد، فيشعر في صميم فؤاده بأنه ما خلق ليكون رجلا، وينقلب الشعور إلى شذوذ، به ينعكس شعور اللائط انعكاسا غريبا، فيشعر بميل إلى بني جنسه، وتتجه أفكاره الخبيثة إلى أعضائهم التناسلية.
ومن هذا تستطيع أن تتبين العلة الحقيقية في إسراف بعض الشبان الساقطين في التزين وتقليدهم النساء في وضع المساحيق المختلفة على وجوههم، ومحاولتهم الظهور بمظهر الجمال بتحمير أصداغهم، وتزجيج حواجبهم، وتثنيهم في مشيتهم، إلى غيرذلك مما نشاهده جميعا في كل مكان.
وتقع عليه أبصارنا في كثير من الاحيان.
ولقد أثبتت كتب الطب كثيرا من الوقائع الغريبة التي تتعلق بهذا الشذوذ أضرب صفحا عن ذكرها.
ولا يقتصر الامر على إصابة اللائط بالانعكاس النفسي، بل هنالك ما تسببه هذه الفاحشة من إضعاف القوى النفسية الطبيعية في الشخص كذلك، وما تحدثه من جعله عرضة للاصابة بأمراض عصبية شاذة وعلل نفسية شائنة، تفقده لذة الحياة، وتسلبه صفة الانسانية والرجولة، فتحيي فيه لوثات وراثية
__________
(1) السكن: السكينة.

(2/429)


خاصة، وتظهر عليه آفات عصبية كامنة تبديها هذه الفاحشة، وتدعو إلى تسلطها عليه.
ومثل هذه الآفات العصبية النفسية: الامراض السادية، والماسوشية، والفيتشزم وغيرها.
التأثير على المخ: واللواط بجانب ذلك يسبب اختلالا كبيرا في توازن عقل المرء، وارتباكا عاما في تفكيره، وركودا غريبا في تصوراته، وبلاهة واضحة في عقله، وضعفا شديدا في إرادته.
وإن ذلك ليرجع إلى قلة الافرازات الداخلية التي تفرزها الغدة الدرقية، والغدد فوق الكلى، وغيرها مما يتأثر باللواط تأثرا مباشرا، فيضطرب عملها وتختل وظائفها.
وإنك لتجد هنالك علاقة وثيقة بين (النيورستانيا) واللواط، وارتباطا غريبا بينهما، فيصاب اللائط بالبله والعبط وشرود الفكر وضياع العقل والرشاد.
السويداء: واللواط إما أن يكون سببا في ظهور مرض السويداء أو يغدو عاملا قويا على إظهاره وبعثه.
ولقد وجد أن هذه الفاحشة وسيلة شديدة التأثير على هذا الداء من حيث مضاعفتها له وزيادة تعقيدها لاعراضه ويرجع ذلك للشذوذ الوظيفي لهذه الفاحشة المنكرة وسوء تأثيرها على أعصاب الجسم.
عدم كفاية اللواط: واللواط علة شاذة، وطريقة غير كافية لاشباع العاطفة الجنسية وذلك لانها بعيدة الاصل عن الملامسة الطبيعية، لا تقوم بإرضاء المجموع العصبي، شديدة الوطأة على الجهاز العضلي، سيئة التأتير على سائر أجزاء البدن.

(2/430)


وإذا نظرنا إلى فسيولوجيا الجماع والوظيفة الطبيعية التي تؤديها الاعضاء التناسلية وقت المباشرة، ثم قارنا ذلك بما يحدث في اللواط، وجدنا الفرق بعيدا والبون بين الحالتين شاسعا، ناهيك بعدم صلاحية الموضع وفقد ملاءمته للوضع الشاذ.
ارتخاء عضلات المستقيم وتمزقه: وإنك إذا نظرت إلى اللواط من ناحية أخرى وجدته سببا في تمزق المستقيم وهتك أنسجته وارتخاء عضلاته وسقوط بعض أجزائه، وفقد السيطرة على المواد البرازية وعدم استطاعة القبض عليها، ولذلك تجد الفاسقين دائمي التلوث بهذه المواد المتعفنة بحيث تخرج منهم بغير إرادة أو شعور.
علاقة اللواط بالأخلاق:
واللواط لوثة أخلاقية ومرض نفسي خطير، فتجد جميع من يتصفون به سيئي الخلق فاسدي الطباع، لا يكادون يميزون بين الفضائل والرذائل.
ضعيفي الارادة ليس لهم وجدان يؤنبهم ولا ضمير يردعهم، لا يتحرج أحدهم، ولا يردعه رادع نفسي، عن السطو على الاطفال والصغار واستعمال العنف والشدة لاشباع عاطفته الفاسدة والتجرؤ على ارتكاب الجرائم التي نسمع عنها كثيرا ونطالع أخبارها في الجرائد السيارة وفي غيرها، ونجد تفاصيل حوادثها في المحاكم وفي كتب الطب.
اللواط وعلاقته بالصحة العامة:
واللواط فوق ما ذكرت يصيب مقترفيه بضيق الصدر ويرزؤهم بخفقان القلب.
ويتركهم بحال من الضعف العام يعرضهم للاصابة بشتى الامراض ويجعلهم نهبة لمختلف العلل والاوصاب.
التأثير على أعضاء التناسل:
ويضعف اللواط كذلك مراكز الانزال الرئيسية في الجسم ويعمل على القضاء على الحيوية المنوية فيه، ويؤثر على تركيب مواد المني ثم ينتهي الامر

(2/431)


بعد قليل من الزمن بعدم القدرة على إيجاد النسل، والاصابة بالعقم مما يحكم على اللائطين بالانقراض والزوال.
التيفود والدوسنطاريا:
ونستطيع أن نقول: إن اللواط يسبب بجانب ذلك العدوى بالحمى التيفودية والدوسنطاريا وغيرهما من الامراض الخبيثة التي تنتقل بطريق التلوث بالمواد البرازية المزودة بمختلف الجراثيم، المملوءة بشتى أسباب العلل والامراض.
أمراض الزنا:
ولا يخفى أن الامراض التي تنتشر بالزنا يمكن أن تنتشر كذلك بطريق اللواط، وتصيب أصحابه فتفتك بهم فتكا ذريعا، فتبلي أجسامهم، وتحصد أرواحهم.
مما تقدم نتبين حكمة التشريع الاسلامي في تحريم اللواط، وتظهر دقة أحكامه في التنكيل بمقترفيه، والامر بالقضاء عليهم وتخليص العالم من شرورهم.
رأي الفقهاء في حكم اللواط:
ومع إجماع العلماء على حرمة هذه الجريمة، وعلى وجوب أخذ مقترفيها بالشدة، إلا أنهم اختلفوا في تقدير العقوبة المقررة لها مذاهب ثلاثة:
1 - مذهب القائلين بالقتل مطلقا.
2 - ومذهب القائلين بأن حده حد الزاني: فيجلد البكرويرجم المحصن.
3 - ومذهب القائلين بالتعزير.
(المذهب الاول) : يرى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والناصر، والقاسم بن إبراهيم، والشافعي في قول: أن حده القتل ولو كان بكرا، سواء كان فاعلا أو مفعولا به.
واستدلوا بما يأتي:
1 - عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه "

(2/432)


وسلم: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ".
رواه الخمسة إلا النسائي..قال في " النيل ": وأخرجه أيضا الحاكم والبيهقي.
وقال الحافظ: رجاله موثوقون إلا أن فيه اختلافا.
2 - وعن علي أنه رجم من عمل هذا العمل. أخرجه البيهقي.
قال الشافعي: وبهذا نأخذ برجم من يعمل هذا العمل محصنا كان أو غير محصن.
3 - وعن أبي بكر أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما ينكح النساء.
فسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب عليه السلام، قال: " هذا ذنب لم تعص به أمة من الامم، إلا أمة واحدة، صنع الله بها ما قد علمتم، نرى أن نحرقه بالنار ".
فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار.
أخرجه البيهقي وفي إسناده إرسال.
وأفاد الشوكاني بأن هذه الاحاديث تنهض بمجموعها للاحتجاج بها.
وهؤلاء اختلفوا في كيفية قتل مرتكب هذا العمل.
فروي عن أبي بكر وعلي: أنه يقتل بالسيف، ثم يحرق، لعظم المعصية.
وذهب عمر وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط.
وذهب ابن عباس إلى أنه يلقى من أعلى بناء في البلد.
وحكى البغوي عن الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، أنه يرجم.
وحكي ذلك الترمذي عن مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وروي عن النخعي أنه لو كان يستقيم أن يرجم الزاني مرتين لرجم من يعمل عمل قوم لوط.
وقال المنذري: حرق من يعمل هذا العمل أبو بكر وعلي، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الملك.
(المذهب الثاني) : وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح،

(2/433)


والحسن، وقتادة، والنخعي، والثوري، والاوزاعي، وأبو طالب، والامام يحيى، والشافعي في قول إلى أن حده حد الزاني، فيجلد البكر ويغرب، ويرجم المحصن.
واستدلوا بما يأتي:
1 - ان هذا الفعل نوع من أنواع الزنا، لانه إيلاج فرج في فرج، فيكون اللائط والملوط به داخلين تحت عموم الادلة الواردة في الزاني المحصن والبكر، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ".
2 - انه على فرض عدم شمول الادلة الواردة في عقوبة الزنا لهما، فهما لاحقان بالزاني بطريق القياس.
(المذهب الثالث) : وذهب أبو حنيفة، والمؤيد بالله، والمرتضى، والشافعي في قول إلى تعزير مرتكب هذه الفاحشة، لان الفعل ليس بزنا فلا يأخذ حكمه.
وقد رجح الشوكاني مذهب القائلين بالقتل، وضعف المذهب الاخير لمخالفته للادلة، وناقش المذهب الثاني فقال: " إن الادلة الواردة بقتل الفاعل والمفعول به مطلقا مخصصة لعموم أدلة الزنا الفارقة بين البكر والثيب على فرض شمولها المرتكب جريمة قوم لوط، ومبطلة للقياس المذكور على فرض عدم الشمول، لانه يصير فاسد الاعتبار، كما تقرر في الاصول (1) .
(2) الاستمناء: استمناء الرجل بيده مما يتنافى مع ما ينبغي أن يكون عليه الانسان من الادب وحسن الخلق، وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فمنهم من رأى أنه حرام مطلقا.
ومنهم من رأى أنه حرام في بعض الحالات، وواجب في بعضها الآخر.
__________
(1) لانه لا قياس مع النص.

(2/434)


ومنهم من ذهب إلى القول بكراهته.
أما الذين ذهبوا إلى تحريمه فهم المالكية والشافعية، والزيدية.
وحجتهم في التحريم أن الله سبحانه أمر بحفظ الفروج في كل الحالات، إلا بالنسبة للزوجة، وملك اليمين.
فإذا تجاوز المرء هاتين الحالتين واستمنى، كان من العادين المتجاوزين ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم.
يقول الله سبحانه: " والذين هم لفروجهم حافظون.
إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ".
(1) وأما الذين ذهبوا الى التحريم في بعض الحالات، والوجوب في بعضها الآخر، فهم الاحناف فقد قالوا: إنه يجب الاستمناء إذا خيف الوقوع في الزنا بدونه، جريا على قاعدة: ارتكاب أخف الضررين.
وقالوا: إنه يحرم إذا كان لاستجلاب الشهوة وإثارتها.
وقالوا: إنه لا بأس به إذا غلبت الشهوة، ولم يكن عنده زوجة أو أمة واستمنى بقصد تسكينها.
وأما الحنابلة فقالوا: إنه حرام، إلا إذا استمنى خوفا على نفسه من الزنا، أو خوفا على صحته، ولم تكن له زوجة أو أمة، ولم يقدر على الزواج، فإنه لاحرج عليه.
وأما ابن حزم فيرى أن الاستمناء مكروه ولا إثم فيه، لان مس الرجل ذكره بشماله مباح بإجماع الامة كلها.
وإذا كان مباحا فليس هنالك زيادة على المباح إلا التعمد لنزول المني، فليس ذلك حراما أصلا، لقول الله تعالى:
" وقد فصل الله لكم ما حرم عليكم " (2) .
وليس هذا ما فصل لنا تحريمه، فهو حلال لقوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا ".
قال: وإنما كره الاستمناء لانه ليس من مكارم الاخلاق ولا من الفضائل:
__________
(1) سورة المؤمنون.
الايات: 5، 6، 7.
(2) سورة الانعام.
الاية: 119.

(2/435)


وروي لنا أن الناس تكلموا في الاستمناء فكرهته طائفة وأباحته أخرى.
وممن كرهه ابن عمر، وعطاء.
وممن أباحه ابن عباس، والحسن، وبعض كبار التابعين.
وقال الحسن: كانوا يفعلونه في المغازي.
وقال مجاهد: كان من مضى يأمرون شبابهم بالاستمناء يستعفون بذلك، وحكم المرأة مثل حكم الرجل فيه.
(3) السحاق: السحاق محرم باتفاق العلماء، لما رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ".
والسحاق مباشرة دون إيلاج، ففيه التعزير دون الحد كما لو باشر الرجل المرأة دون إيلاج في الفرج.
(4) إتيان البهيمة:
أجمع العلماء على تحريم إتيان البهيمة.
واختلفوا في عقوبة من فعل ذلك: فروي عن جابر بن زيد أنه قال: من أتى بهيمة أقيم عليه الحد.
وروي عن علي أنه قال: إن كان محصنا رجم.
وروي عن الحسن: أنه بمنزلة الزاني: وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قول له، والمؤيد بالله، والناصر، والامام يحيى إلى وجوب التعزير فقط، إذ أنه ليس بزنا.
وذهب الشافعي في قول آخر: إلى أنه يقتل، لما رواه عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) السحاق إتيان المرأة المرأة.

(2/436)


" من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ".
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال: لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو.
وروى الترمذي وأبو داود من حديث عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس أنه قال: " من أتى بهيمة فلا حد عليه " وذكر أنه أصح.
وروى ابن ماجه، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من وقع على ذات محرم فاقتلوه، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة ".
قال الشوكاني: " وفي الحديث دليل على أنه تقتل البهيمة - والعلة في ذلك
ما رواه أبو داود والنسائي أنه قيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: ما أراه قال ذلك، إلا أنه يكره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل.
وقد تقدم أن العلة أن يقال: هذه التي فعل بها كذا وكذا.
وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها.
وإلى إنها تذبح علي عليه السلام والشافعي في قول له.
وذهبت القاسمية، والشافعية في قول، وأبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط.
قال في البحر أنها تذبح البهيمة ولو كانت غير مأكولة، لئلا تأتي بولد مشوه، كما روى أن راعيا أتى بهيمة فأتت بمولود مشوه.
انتهى.
قال: وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لاكله، فهو عام مخصص بحديث الباب " انتهى (1)
(5) الوطء بالاكراه: إذا أكرهت المرأة على الزنا فإنه لا حد عليها، لان الله تعالى يقول:
__________
(1) نيل الاوطار: ج 7 ص 900.

(2/437)


" فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ".
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
وقد استكرهت امرأة على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فدرأ عنها الحد.
وجاءت امرأة إلى عمر فذكرت له أنها استسقت راعيا فأبى أن يسقيها
إلا أن تمكنه من نفسها - ففعلت - فقال: " علي: ما ترى فيها؟ " قال: إنها مضطرة، فأعطاها شيئا وتركها.
ويستوي في ذلك الاكراه بالالجاء - بمعنى أن يغلبها على نفسها - والاكراه بالتهديد، ولم يخالف في ذلك أحد من أهل العلم، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها.
فذهب مالك والشافعي، إلى وجوبه.
روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب أن عبد الملك بن مروان قضي في امرأة أصيبت مستكرهة بصداقها على من فعل ذلك بها.
وقال أبو حنيفة: لا صداق لها.
قال في بداية المجتهد: " وسبب الخلاف: هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة فمن قال: هو عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والمحرمية ومن قال إنه نحلة خص الله به الاوزاج لم يوجبه.
ورأي أبي حنيفة أصح.
(6) الخطأ في الوطء: إذا زفت إلى رجل امرأة غير زوجته، وقيل له هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه باتفاق.
وكذلك الحكم إذا لم يقل له هذه زوجتك، أو وجد على فراشه امرأة ظنها امرأته فوطئها، أو دعا زوجته فجاء غيرها، فظنها المدعوة فوطئها، لا حد عليه في كل ذلك.
__________
(1) سورة البقرة.
الاية: 173.

(2/438)


وهكذا الحكم في كل خطأ في وطء مباح، أما الخطأ في الوطء المحرم،
فإنه يوجب الحد، فمن دعا امرأة محرمة عليه فأجابته غيرها فوطئها يظنها المدعوة فعليه الحد، فإن دعا محرمة عليه، فأجابته زوجته فوطئها يظنها الاجنبية التي دعاها، فلا حد عليه، وإن أثم باعتبار ظنه.
بقاء البكارة: وعدم زوال البكارة يعتبر شبهة في حق المشهود عليها بالزنا، عند أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، والشيعة الزيدية.
فإذا شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد ثقات من النساء بأنها عذراء فلاحد عليها للشبهة ولا حد على الشهود.
(7) الوطء في نكاح مختلف فيه: ولا يجب الحد في نكاح مختلف في صحته، مثل زواج المتعة، والشغار، وزواج التحليل، والزواج بلا ولي أو شهود، وزواج الاخت في عدة أختها البائن، وزواج الخامسة، في عدة الرابعة البائن، لان الاختلاف بين الفقهاء على صحة هذا الزواج يعتبر شبهة في الوطء، والحدود تدرأ بالشبهات خلافا للظاهرية، إذ أنهم يرون الحد في كل وطء قام على نكاح باطل أو فاسد.
(8) الوطء في نكاح باطل: وكل زواج مجمع على بطلانه، كنكاح خامسة زيادة على الاربع، أو متزوجة، أو معتدة الغير، أو نكاح المطلقة ثلاثا قبل أن تتزوج زوجا آخر، إذا وطئ فيه فهو زنا موجب للحد، ولا عبرة بوجود العقد ولا أثر له.

حد القذف:
(1) تعريفه: أصل القذف الرمي بالحجارة وغيرها.
ومنه قول الله تعالى لام موسى عليه السلام: " أن اقذ فيه في التابوت، فاقذ فيه في اليم " (1)
__________
(1) سورة طه.
الاية: 39.

(2/439)


والقذف بالزنا مأخوذ من هذا المعنى، والمقصود به هنا المعنى الشرعي، وهو الرمي بالزنا.
(2) حرمته: يستهدف الاسلام حماية أعراض الناس، والمحافظة على سمعتهم، وصيانة كرامتهم، وهو لهذا يقطع ألسنة السوء ويسد الباب على الذين يلتمسون للبرآء العيب، فيمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس ويغلوا في أعراضهم، ويحظر أشد الحظر إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا حتى تتطهر الحياة من سريان هذا الشر فيها.
فهو يحرم القذف تحريما قاطعا، ويجعله كبيرة من كبائر الاثم والفواحش، ويوجب على القاذف ثمانين جلدة - رجلا كان أو امرأة - ويمنع من قبول شهادته، ويحكم عليه بالفسق واللعن والطرد من رحمة الله، واستحقاق العذاب الاليم في الدنيا والاخرة، اللهم إلا إذا ثبت صحة قوله بالادلة التي لا يتطرق إليها الشك، وهي شهادة أربع شهداء بأن المقذوف تورط في الفاحشة يقول الله سبحانه: " والذين يرمون (1) المحصنات (2) ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة.
ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون.
إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (3) .
ويقول: " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، لعنوا في الدنيا والاخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين " (4) .
__________
(1) يرمون: يقذفون ويسبون.
(2) المحصنات: أي الانفس العفيفة ليدخل فيها الذكور والاناث خلافا لبعض فرق الخوارج الذين يرون أن حد القذف خاص برمي النساء دون الرجال وقوفا عند ظاهر الاية.
(3) سورة النور.
الاية 4: 5.
(4) سورة النور.
الايات: 23، 24، 25.

(2/440)


ويقول: " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة ".
وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات (1) .
قالوا وما هن يارسول الله؟.
قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف (2) ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
وكان هذا التحريم الذي نزلت به الايات بسبب حادث الافك الذي وقع لام المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري، قام النبي على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل عن المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وهم حسان ومسطح، وحمنة. رواه أبو داود.
ما يشترط في القذف: للقذف شروط لابد من توافرها حتى يصبح جريمة تستحق عقوبة الجلد.
وهذه الشروط منها ما يجب توافره في القاذف، ومنها ما يجب توافره في المقذوف، ومنها ما يجب توفره في الشئ المقذوف به.
شروط القاذف:
والشروط التي يجب توفرها في القاذف هي:
1 - العقل.
2 - البلوغ.
3 - الاختيار.
لان ذلك أصل التكليف، ولا تكليف بدون هذه الاشياء.
فإذا قذف المجنون أو الصبي أو المكره فلا حد على واحد منهم، لقول رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الموبقات: المهلكات.
(2) التولي يوم الزحف: الفرار من القتال.

(2/441)


" رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق ".
ويقول: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
فإذا كان الصبي مراهقا بحيث يؤذي قذفه فإنه يعزر تعزيرا مناسبا.
شروط المقذوف:
وشروط المقذوف هي:
1 - العقل: لان الحد إنما شرع للزجر عن الاذية بالضرر الواقع على المقذوف، ولا مضرة على من فقد العقل فلا يحد قاذفه.
2 - البلوغ: وكذلك يشترط في المقذوف البلوغ، فلا يحد قاذف الصغير والصغيرة، فإذا رمى صبية يمكن وطئها قبل البلوغ بالزنا، فقد قال جمهور العلماء: إن هذا ليس بقذف، لانه ليس بزنا، إذ لا حد عليها.
ويعزر القاذف.
وقال مالك: ان ذلك قذف يحد فاعله.
وقال ابن العربي: " والمسألة محتملة الشك.
لكن مالك غلب عرض المقذوف وغيره راعى حماية ظهر القاذف، وحماية عرض المقذوف أولى، لان القاذف كشف ستره بطرف لسانه، فلزم الحد ".
وقال ابن المنذر: " وقال أحمد في الجارية بنت تسع يجلد قاذفها، وكذلك الصبي إذا بلغ ضرب قاذفه ".
وقال إسحاق: إذا قذف غلام يطأ مثله فعليه الحد.
والجارية إذا جاوزت تسعة مثل ذلك.
وقال ابن المنذر: لا يحد من قذف من لم يبلغ، لان ذلك كذب.
ويعزر على الاذى.
3 - الاسلام: والاسلام شرط في المقذوف، فلو كان المقذوف من غير المسلمين لم يقر الحد على قاذفه عند جمهور العلماء، وإذا كان العكس فقذف النصراني أو اليهودي المسلم الحر فعليه ما على المسلم: ثمانون جلدة.

(2/442)


4 - الحرية: فلا يحد العبد بقذف الحر له، سواء أكان العبد ملكا للقاذف أم لغيره: لان مرتبته تختلف عن مرتبة الحر، وإن كان قذف الحر للعبد محرما لما رواه البخاري ومسلم.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قال ".
قال العلماء: وإنما كان ذلك في الاخرة لارتفاع الملك، واستواء الشريف والوضيع، والحر والعبد، ولم يكن لاحد فضل إلا بالتقوى، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة واقتص من كل واحد لصاحبه، إلا أن يعفو المظلوم عن الظالم.
وإنما لم يتكافأوا في الدنيا لئلا تدخل الداخلة على المالكين في مكافأتهم لهم (1) فلا تصح لهم حرمة ولا فضل في منزلة، وتبطل فائدة التسخير.
ومن قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد، وهو اختيار ابن المنذر، وقال الحسن البصري لا حد عليه.
وأما ابن حزم فإنه رأى غير ما رآه جمهور الفقهاء، فرأى أن قاذف العبد يقام عليه الحد.
وأنه لا فرق بين الحر والعبد في هذه الناحية.
قال: " وأما قولهم لا حرمة للعبد ولا للامة فكلام سخيف. والمؤمن له حرمة عظيمة ".
ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى.
ورأي ابن حزم هذا رأي وجيه وحق، لو لم يصطدم بالنص المتقدم.
5 - العفة: وهي العفة عن الفاحشة التي رمي بها سواء أكان عفيفا عن غيرها أم لا، حتى أن من زنا في أول بلوغه ثم تاب وحسنت حالته وامتد عمره فقذفه قاذف، فإنه لا حد عليه.
وإن كان هذا القذف يستوجب التعزير لانه أشاع ما يجب ستره وإخفاؤه.
ما يجب توفره في المقذوف به: أما ما يجب توفره في المقذوف به، فهو التصريح بالزنا أو التعريض
__________
(1) أي لئلا تفسد العلاقة بين السادة والعبيد.

(2/443)


الظاهر، ويستوي في ذلك القول والكتابة.
ومثال التصريح أن يقول موجه الخطاب إلى غيره: " يا زاني " أو يقول عبارة تجري مجرى هذا التصريح، كنفي نسبه عنه.
ومثال التعريض كأن يقول في مقام التنازع: " لست بزان ولا أمي بزانية ".
وقد اختلف العلماء في التعريض..فقال مالك: إن التعريض الظاهر ملحق بالتصريح، لان الكفاية قد تقوم - بعرف العادة والاستعمال - مقام النص الصريح.
وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه، وقد أخذ عمر رضي الله عنه بهذا الرأي.
روى مالك عن عمرة بنت عبد الرحمن: " أن رجلين استبا في زمان عمر بن الخطاب فقال أحدهما للاخر: " والله ما أبي بزان ولا أمي بزانية ".
فاستشار عمر في ذلك.
فقال قائل: مدح أباه وأمه.
وقال آخرون: قد كان لابيه وأمه مدح غير هذا.
نرى أن تجلده الحد فجلده عمر الحد ثمانين ".
وذهب ابن مسعود، وأبو حنيفة، والشافعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن حزم، والشيعة، ورواية عن أحمد: إلى أنه لا حد في التعريض، لان التعريض يتضمن الاحتمال، والاحتمال شبهة.
والحدود تدرأ بالشبهات.
إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان تعزير من يفعل ذلك.
قال صاحب الروضة الندية: كاشفا وجه الصواب في هذا:
" التحقيق أن المراد من رمي المحصنات المذكور في كتاب الله عز وجل هو أن يأتي القاذف بلفظ يدل - لغة أو شرعا أو عرفا - على الرمي بالزنا، ويظهر من قرائن الاحوال أن المتكلم لم يرد إلا ذلك، ولم يأت بتأويل مقبول يصح حمل الكلام عليه، فهذا يوجب حد القذف بلا شك ولا شبهة.
وكذلك لو جاء بلفظ لا يحتمل الزنا أو يحتمله احتمالا مرجوحا، وأقر أنه أراد الرمي بالزنا فإنه يجب عليه الحد.

(2/444)


وأما إذا عرض بلفظ محتمل ولم تدل قرينة حال ولا مقال على أنه قصد الرمي بالزنا، فلا شئ عليه، لانه لا يسوغ إيلامه بمجرد الاحتمال ".
بم يثبت حد القذف:
الحد يثبت بأحد أمرين:
1 - إقرار القاذف نفسه.
2 - أو بشهادة رجلين عدلين.
عقوبة القاذف الدنيوية: يجب على القاذف - إذا لم يقم البينة على صحة ما قال - عقوبة مادية، وهي ثمانون جلدة.
وعقوبة أدبية، وهي رد شهادته وعدم قبولها أبدا والحكم بفسقه لانه يصبح غير عدل عند الله وعند الناس.
وهاتان العقوبتان هما المقررتان في قول الله سبحانه وتعالى: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا، فإن الله غفور رحيم ".
وهذا متفق عليه بين العلماء إذا لم يتب القاذف.
بقي هنا مسألتان اختلف فيهما العلماء:
(المسألة الاولى) هل عقوبة العبد مثل عقوبة الحر أو لا؟ (المسألة الثانية) إذا تاب القاذف، هل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أولا؟.
أما المسألة الاولى فهي أنه إذا قذف العبد الحر المحصن وجب عليه الحد، ولكن هل حده مثل حد الحر، أو على النصف منه؟.
لم يثبت حكم ذلك في السنة، ولهذا اختلفت أنظار الفقهاء، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن العبد إذا ثبتت عليه جريمة القذف، فعقوبته أربعون جلدة، لانه حد يتنصف بالرق، مثل حد الزنا.
يقول الله سبحانه: " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " (1)
__________
(1) سورة النساء.
الاية: 25.

(2/445)


قال مالك: " قال أبو الزناد سألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك.
فقال: أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء، وهلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين ".
وروي عن ابن مسعود، والزهري، وعمر بن عبد العزيز وقبيصة بن ذؤيب، والاوزاعي، وابن حزم، أنه يجلد ثمانين جلدة.
لانه حد وجب، حقا للادميين، إذ أن الجناية وقعت على عرض المقذوف، والجناية لا تختلف بالرق والحرية.
قال ابن المنذر: والذي عليه الامصار القول الاول، وبه أقول.
وقال في المسوى: " وعليه أهل العلم ".
وقد ناقش صاحب الروضة الندية الرأي الاول، وقال مرجحا الرأي الثاني:
الاية الكريمة عامة يدخل تحتها الحر والعبد، والغضاضة بقذف العبد للحر أشد منها بقذف الحر للحر، وليس في حد القذف ما يدل على تنصيفه للعبد، لا من الكتاب ولا من السنة.
ومعظم ما وقع التعويل عليه هو قوله تعالى في حد الزنا: " فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ".
ولا يخفى أن ذلك في حد آخر غير حد القذف.
فإلحاق أحد الحدين بالاخر فيه إشكال، لا سيما مع اختلاف العلة وكون أحدهم حقا لله محضا، والاخر مشوبا بحق آدمي.
أما المسألة الثانية: فقد اتفق الفقهاء على أن القاذف لا تقبل شهادته ما دام لم يتب، لانه ارتكب ما يستوجب الفسق، والفسق يذهب بالعدالة، والعدالة شرط في قبول الشهادة، وأنه لم يتب من فسقه هذا، والجلد، وإن كان مكفرا للاثم الذي ارتكبه ومخلصا له من عقاب الاخرة، إلا أنه لا يزيل عنه وصف الفسق الموجب لرد الشهادة.
ولكن إذا تاب وحسنت توبته، فهل يرد له اعتباره وتقبل شهادته أم لا؟.
اختلف الفقهاء في ذلك إلى رأيين:
(الرأي الاول) يرى قبول شهادة المحدود في قذف إذا تاب توبة نصرحا

(2/446)


وهذا هو رأي مالك، والشافعي، وأحمد، والليث، وعطاء، وسفيان بن عيينة، والشعبي، والقاسم، وسالم، والزهري.
وقال عمر لبعض من حدهم في قذف: إن تبت قبلت شهادتك! أما (الرأي الثاني) فإنه يرى عدم قبولها، وممن ذهب إلى هذا: الاحناف،
والاوزاعي، والثوري، والحسن، وسعيد بن المسيب، وشريح، وابراهيم النخعي، وسعيد بن جبير.
وأصل هذا الخلاف هو الاختلاف في تفسير قول الله تعالى: " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون.
إلا الذين تابوا ".
فهل الاستثناء في الاية راجع إلى الامرين معا: أي عدم قبول الشهادة، والحكم بالفسق، أو راجع إلى الامر الاخير، وهو الحكم بالفسق؟.
فمن قال ان الاستثناء راجع إلى الامرين معا، قال بجواز قبول الشهادة بعد التوبة.
ومن قال إنه راجع إلى الحكم بالفسق، قال بعدم قبولها مهما كانت توبته.
كيفية التوبة:
قال عمر رضي الله عنه: توبة القاذف لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي لا حد فيه.
وقال الذين شهدوا على المغيرة: من أكذب نفسه أجزت شهادته فيما يستقبل.
ومن لم يفعل لم أجز شهادته.
فأكذب الشبل بن معبد، ونافع بن الحارث بن كلدة أنفسهما وتابا وأبى أبو بكرة أن يفعل، فكان لا يقبل شهادته.
وهذا مذهب الشعبي، ومحكي عن أهل المدينة، وقالت طائفة من العلماء: توبته أن يصلح ويحسن حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب، وحسبه الندم على قذفه والاستغفار منه وترك العود إليه.
وهذا مذهب مالك، وابن جرير.

(2/447)


هل يحد بقذف أصله؟
قال أبو ثور وابن المنذر: " إذا قذف القاذف ابنه فإنه يحد لظاهر القرآن الكريم فإنه لم يفرق بين قاذف ومقذوف.
وقالت الحنفية والشافعية: لا يحد، لانه يشترط في القاذف أن لا يكون أصلا كالاب والام، لانه إذا لم يقتل الاصل به فعدم حده بقذفه أولى، وإن قالوا بتعزيره، لان القذف أذى.
تكرار القذف لشخص واحد: إذا قذف القاذف شخصا واحدا أكثر من مرة، فعليه حد واحد إذا لم يكن قد حد لواحد منها، فإن كان قد حد لواحد منها ثم عاد إلى القذف، حد مرة ثانية، فإن عاد مرة ثالثة وهكذا يحد لكل قذف.
قذف الجماعة: إذا قذف القاذف جماعة ورماهم بالزنا، فقد اختلفت أنظار الفقهاء في في حكمه إلى ثلاثة مذاهب: (المذهب الاول) مذهب القائلين بأنه يحد حدا واحدا.
وهم أبو حنيفة، ومالك، وأحمد والثوري.
(والمذهب الثاني) مذهب القائلين بأن عليه لكل واحد حدا، وهم الشافعي والليث.
(والمذهب الثالث) مذهب الذين فرقوا بين أن يجمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم: يا زناة.
أو يقول: لكل واحد: يا زاني، ففي الصورة الاولى يحد حدا واحدا، وفي الثانية حد لكل واحد منهم.
قال ابن رشد: فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره: أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سمحاء، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلاعن بينهما ولم يحد شريكا، وذلك
إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل.
وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد.
وأما من فرق بين من قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات، أو في مجلس

(2/448)


واحد أو في مجالس، فلانه رأى أنه وجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لانه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف، كان أوجب أن يتعدد الحد.
هل الحد حق من حقوق الله أو من حقوق الآدميين؟: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحد حق من حقوق الله، ويترتب على كونه حقا من حقوق الله، أنه إذا بلغ الحاكم، وجب عليه إقامته، وإن لم يطلب ذلك المقذوف، ولا يسقط بعفوه، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى، ويتنصف فيه الحد بالرق مثل الزنا.
وذهب الشافعي إلى أنه حق من حقوق الآدميين، ويترتب عليه أن الامام لا يقيمه إلا بمطالبة المقذوف، ويسقط بعفوه، ويورث عنه ويسقط بعفو وارثه، ولا تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف.
سقوط الحد:
ويسقط حد القذف بمجئ القاذف بأربعة شهداء، لان الشهداء ينفون عنه صفة القذف الموجبة للحد، ويثبتون صدور الزنا بشهادتهم.
فيقام حد الزنا على المقذوف، لانه زان. وكذلك إذا أقر المقذوف بالزنا واعترف بما رماه به القاذف. وإذا قذفت المرأة زوجها فإنه يقام عليها الحد، إذا توفرت شروطه بخلاف ما إذا قذفها هو ولم يقم عليها البينة، فإنه لا يقام عليه الحد، وإنما يتلاعنان،
وقد تقدم ذلك في باب اللعان.

(2/449)


الردة:
تعريفها:
الردة: هي الرجوع في الطريق الذي جاء منه، وهي مثل الارتداد، إلا أنها تختص بالكفر.
والمقصود بها هنا: رجوع المسلم، العاقل، البالغ، عن الاسلام إلى الكفر باختياره دون إكراه من أحد - سواء في ذلك الذكور والإناث - فلا عبرة بارتداد المجنون ولا الصبي (1) لانهما غير مكلفين.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل ".
رواه أحمد وأصحاب السنن وحسنه الترمذي.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
والاكراه على التلفظ بكلمة الكفر لا يخرج المسلم عن دينه ما دام القلب مطمئنا بالايمان.
وقد أكره عمار بن ياسر على التلفظ بكلمة الكفر فنطق بها، وأنزل الله سبحانه في ذلك: " من كفر بالله من بعد إيمانه، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا، فعليهم غضب من الله، ولهم عذاب عظيم ".
(2) قال ابن عباس: أخذه المشركون، وأخذوا أباه وأمه سمية، وصهيبا وبلالا، وخبابا، وسالما، فعذبوهم، وربطت سمية بين بعيرين، وجئ
قبلها بحربة، وقيل لها:
__________
(1) وإن كان إسلام الصبي يصح وعبادته تقبل منه (2) سورة النحل.
الآية: 106

(2/450)


إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الاسلام.
وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها - فشكا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: " كيف تجد قلبك؟ " قال مطمئن بالايمان.
فقال الرسول: " إن عادوا فعد ".
هل انتقال الكافر من دين إلى دين كفري آخرى يعتبر ردة؟: قلنا: إن المسلم إذا خرج عن الاسلام كان مرتدا، وجرى عليه حكم الله في المرتدين، ولكن هل الردة قاصرة على المسلمين الخارجين عن الاسلام، أو أنها تتناول غير المسلمين إذا تركوا دينهم إلى غيره من الاديان الكافرة؟.
الظاهر أن الكافر إذا انتقل من دينه إلى دين آخر من أديان الكفر فإنه يقر على دينه الذي انتقل إليه ولا يتعرض له لانه انتقل من دين باطل إلى دين يماثله في البطلان، والكفر كله ملة واحدة، بخلاف ما إذا انتقل من الاسلام إلى غيره من الاديان، فإنه انتقال من الهدى ودين الحق إلى الضلال والكفر.
والله يقول (1) : " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه ".
(2) وفي بعض طرق الحديث: " من خالف دينه دين الاسلام فاضربوا عنقه ".
أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا.
وللشافعي قولان: (أحدهما) لا يقبل منه بعد انتقاله إلا الاسلام أو القتل.
وهذا يوافق إحدى الروايتين عن أحمد.
والرواية الاخرى تقول.
إنه إن انتقل إلى مثل دينه أو إلى أعلى منه أقر، وإن انتقل إلى أنقص من دينه لم يقر.
فإذا انتقل اليهودي إلى النصرانية أقر، لان اليهودية مثل النصرانية
__________
(1) هذا مذهب مالك وأبي حنيفة.
(2) سورة آل عمران.
الآية: 85

(2/451)


من حيث كونهما دينين سماويين في الاصل، دخلهما التحريف ونسخهما الاسلام.
وكذلك يقر المجوسي إذا انتقل إلى اليهودية أو النصرانية لانه انتقال إلى ما هو أعلى.
وإذا جاز الانتقال إلى الدين المماثل، فالانتقال إلى ما هو أعلى أحق وأولى.
وإذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى المجوسية لم يقر، لانه انتقال إلى ما هو أنقص.
لا يكفر مسلم بالوزر: الاسلام عقيدة وشريعة.
والعقيدة تنتظم الايمان:
1 - بالالهيات.
2 - والنبوات.
3 - والبعث، والجزاء.
والشريعة تنتظم:
1 - العبادات من: صلاة، وصيام، وزكاة، وحج
2 - والآداب والاخلاق من: صدق، ووفاء، وأمانة.
3 - والمعاملات المدنية من: بيع، وشراء ... الخ.
4 - والروابط الاسرية من: زواج وطلاق.
5 - والعقوبات الجنائية: قصاص، وحدود.
6 - والعلاقات الدولية من: معاهدات، واتفاقات.
وهكذا نجد أن الاسلام، منهج عام، ينتظم شئون الحياة جميعا.
وهذا هو المفهوم العام للاسلام كما قرره الكتاب والسنة وكما فهمه المسلمون على العهد الاول، وطبقوه في كل مجال من المجالات العامة والخاصة، وكان كل فرد يدين بالولاء لهذا الدين يعتبر عضوا في الجماعة المسلمة، ويصبح فردا من أفراد الامة الاسلامية تجري عليه أحكام الاسلام وتطبق عليه تعاليمه.
إلا أن من الناس الذكي والغبي، والضعيف والقوي، والقادر والعاجز، والعامل والعاطل، والمجد والمقصر.

(2/452)


فهم يختلفون اختلافا بينا في قواهم البدنية ومواهبهم النفسية والعقلية والروحية وتبعا لهذا الاختلاف فمنهم من يقترب من الاسلام، ومنهم من يبتعد عنه حسب حال كل فرد وظروفه وبيئته.
يقول الله سبحانه: " ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله " (1) ، إلا أن هذا الابتعاد عنه لا يخرج المقصر عن دائرته ما دام يدين بالولاء لهذا الدين، فإذا صدر من المسلم لفظ يدل على الكفر لم يقصد إلى معناه، أو فعل ظاهره مكفر لم يرد به فاعله تغيير إسلامه، لم يحكم عليه بالكفر.
ومهما تورط المسلم في المآثم واقترف من جرائم، فهو مسلم لا يجوز اتهامه بالردة.
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شهد أن لا إله إلا الله، واستقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما للمسلم، وعليه ما على المسلم ".
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من أن يقذف بعضهم بعضا بالكفر، لعظم خطر هذه الجناية، فقال فيما رواه مسلم عن ابن عمر: " إذا كفر الرجل أخاه، فقد باء بها أحدهما ".
متى يكون المسلم مرتدا: إن المسلم لا يعتبر خارجا عن الاسلام، ولا يحكم عليه بالردة إلا إذا انشرح صدره بالكفر، واطمأن قلبه به، ودخل فيه بالفعل، لقول الله تعالى: " ولكن من شرح بالكفر صدرا ".
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "، ولما كان ما في القلب غيبا من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله، كان لابد من صدور ما يدل على كفره دلالة قطعية لا تحتمل التأويل، حتى نسب إلى الامام مالك أنه قال:
__________
(1) سورة فاطر الآية: 32

(2/453)


" من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجها، ويحتمل الايمان من وجه، حمل أمره على الايمان ".
ومن الامثلة الدالة على الكفر:
1 - إنكار ما علم من الدين بالضرورة. مثل إنكار وحدة الله وخلقه للعالم وإنكار وجود الملائكة، وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن القرآن وحي من الله، وإنكار البعث والجزاء، وإنكار فرضية الصلاة والزكاة، والصيام والحج.
2 - استباحة محرم أجمع المسلمون على تحريمه، كاستباحة الخمر، والزنا، والربا، وأكل الخنزير، واستحلال دماء المعصومين وأموالهم (1) .
3 - تحريم ما أجمع المسلمون على حله " كتحريم الطيبات ".
4 - سب النبي أو الاستهزاء فيه، وكذا سب أي نبي من أنبياء الله.
5 - سب الدين، والطعن في الكتاب والسنة، وترك الحكم بهما، وتفضيل القوانين الوضعية عليهما.
6 - ادعاء فردمن الافراد أن الوحي ينزل عليه.
7 - إلقاء المصحف في القاذورات، وكذا كتب الحديث، استهانة بها واستخفافا بما جاء فيها.
8 - الاستخفاف باسم من أسماء الله، أو أمر من أوامره، أو نهي من نواهيه، أو وعد من وعوده، إلا أن يكون حديث عهد بالاسلام، ولا يعرف أحكامه، ولا يعلم حدوده، فإنه إن أنكر منها جهلا به لم يكفر.
وفيه مسائل أجمع المسلمون عليها، ولكن لا يعلمها إلا الخاصة، فإن منكرها لا يكفر، بل يكون معذورا بجهله بها، لعدم استفاضة علمها في العامة، كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث، وأن للجدة السدس، ونحو ذلك.
ولا يدخل في هذا الوساوس التي تساور النفس فإنها مما لا يؤاخذ الله بها.
فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) إلا إذا كان ذلك بتأويل - مثل تأويل الخوارج - فإنهم استحلوا دماء الصحابة وأموالهم - ومثل تأويل قدامة بن مظعون شرب الخمر، ومع ذلك - فجمهور الفقهاء على أنهم غير كافرين.

(2/454)


" إن الله عز وجل تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو يتكلم به " وروى مسلم عن أبي هريرة قال: " جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا: انا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم.
قال: ذلك صريح الايمان (1) ".
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: (هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟) فمن وجد من ذلك شيئا، فليقل: آمنت بالله ".
عقوبة المرتد: الارتداد جريمة من الجرائم التي تحبط ما كان من عمل صالح قبل الردة، وتستوجب العذاب الشديد في الآخرة.
يقول الله سبحانه: " ومن يرتدد منكم عن دينه، فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " (2) .
ومعنى الآية: أن من يرجع عن الاسلام إلى الكفر ويستمر عليه حتى يموت كافرا، فقد بطل كل ما عمله من خير، وحرم ثمرته في الدنيا، فلا يكون له ما للمسلمين من حقوق، وحرم من نعيم الآخرة، وهو خالد في العذاب الاليم، وقد قرر الاسلام عقوبة معجلة في الدنيا للمرتد، فضلا عما توعده به من عذاب ينتظره في الآخرة، وهذه العقوبة هي القتل (3) .
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من بدل دينه فاقتلوه ".
وروي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:
__________
(1) أي استعظام الكلام به خوفا من النطق به، فضلا عن اعتقاده دليل على كمال الايمان.
(2) سورة البقرة. الآية: 217 (3) لو قتله مسلم من المسلمين لا يعتبر مرتكبا جريمة القتل، ولكن يعزر لافتياته على الحاكم.

(2/455)


كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس ".
وعن جابر رضي الله عنه: " أن امرأة يقال لها أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عليها الاسلام: فإن تابت، وإلا قتلت.
فأبت أن تسلم، فقتلت ".
أخرجه الدارقطني والبيهقي (1) .
وثبت أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدين من العرب حتى رجعوا إلى الاسلام.
ولم يختلف أحد من العلماء في وجوب قتل المرتد.
وإنما اختلفوا في المرأة إذا ارتدت.
فقال أبو حنيفة: إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، ولكن تحبس، وتخرج كل يوم فتستتاب، ويعرض عليها الاسلام، وهكذا حتى تعود إلى الاسلام، أو تموت، لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء.
وخالف ذلك جمهور الفقهاء فقالوا: إن عقوبة المرأة المرتدة كعقوبة الرجل المرتد، سواء بسواء، لان آثار الردة وأضرارها من المرأة كآثارها وأضرارها من الرجل، ولحديث معاذ الذي حسنه الحافظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له لما أرسله إلى اليمن: " أيما رجل ارتد عن الاسلام فادعه، فإن عاد، وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الاسلام فادعها، فإن عادت، وإلا فاضرب عنقها ".
وهذا نص في محل النزاع.
وأخرج البيهقي، والدارقطني، أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها " أم قرفة " كفرت بعد إسلامها، فلم تتب، فقتلها.
وأما حديث النهي عن قتل النساء فذلك إنما هو في حال الحرب، لاجل ضعفهن وعدم مشاركتهن في القتال.
ولهذا كان سبب النهي عن قتلهن أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى امرأة مقتولة، فقال: " ما كانت هذه لتقاتل ".
ثم نهى عن قتلهن.
والمرأة تشارك الرجل في الحدود كلها دون استثناء.
فكما يقام عليها حد الرجم إذا كانت محصنة، فكذلك يقام عليها حد الردة، ولافرق.
__________
(1) والاسناد ضعيف.

(2/456)


حكمة قتل المرتد:
الاسلام منهج كامل للحياة فهو: دين ودولة، وعبادة، وقيادة، ومصحف وسيف، وروح ومادة، ودنيا وآخرة، وهو مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الانسان أو يقف حائلا دون الوصول إلى كماله المادي والادبي - ومن دخل فيه عرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومتنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم، والفطرة المستقيمة.
والانسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الانسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه - لان حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الاسلام كمنهج عام للحياة، ونظام شامل للسلوك الانساني، لاغنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه، فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه، ويزعزع بنيانه، ولاشئ أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لان الخروج عليه يهدد كيانه ويعرضه للسقوط والتداعي.
إن الخروج على الاسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية، فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.
إن أي انسان سواء كان في الدول الشيوعية، أم الدول الرأسمالية - إذ اخرج على نظام الدولة فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده، والخيانة العظمى جزاؤها الاعدام.
فالاسلام في تقرير عقوبة الاعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم.
استتابة المرتد: كثيرا ما تكون الردة نتيجة الشكوك والشبهات التي تساور النفس وتزاحم

(2/457)


الايمان، ولابد أن تتهيأ فرصة للتخلص من هذه الشبهات والشكوك، وأن تقدم الادلة والبراهين التي تعبد الايمان إلى القلب، واليقين إلى النفس، وتريح ما علق بالوجدان من ريب وشكوك.
ومن ثم كان من الواجب أن يستتاب المرتد ولو تكررت ردته، ويمهل فترة زمنية يراجع فيها نفسه، وتفند فيها وساوسه وتناقش فيها أفكاره، فإن عدل عن موقفه بعد كشف شبهاته، ورجع إلى الاسلام وأقر بالشهادتين واعترف بما كان ينكره، وبرئ من كل دين يخالف دين الاسلام، قبلت توبته، وإلا أقيم عليه الحد.
وقد قدر بعض العلماء هذه الفترة بثلاثة أيام، وترك بعضهم تقدير ذلك وإنما يكرر له التوجيه ويعاد معه النقاش حتى يغلب على الظن أنه لن يعود إلى الاسلام، وحينئذ يقام عليه الحد (1) والذين رأوا تقدير ذلك بالايام الثلاثة اعتمدوا على ما روي: " أن رجلا قدم إلى عمر رضي الله عنه من الشام، فقال " هل من مغربة (2) خبر ".
قال: نعم. رجل كفر بعد إسلامه.
فقال عمر: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه قال: هلا حبستموه في بيت ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله: اللهم إني لم أحضر، ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني: اللهم إني أبرأ إليك من دمه ".
رواه الشافعي.
والذين ذهبوا إلى القول الثاني استندوا إلى ما رواه أبو داود: أن معاذا قدم اليمن على أبي موسى الاشعري.
وقد وجد عنده رجلا موثقا.
فقال: ماهذا؟ قال: رجل كان يهوديا فأسلم، ثم رجع إلى دينه " دين اليهود " فتهود.
فقال: لا أجلس حتى يقتل.
ذلك قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتكرر ذلك ثلاث مرات فأمر به فقتل، وكان أبو موسى قد استتابه
__________
(1) هذا رأي الجمهور. وقيل يجب قتله في الحال وهو مذهب الحسن وطاووس، وأهل الظاهر، لحديث معاذ، ولانه مثل الحربي الذي بلغته، الدعوة. وعن ابن عباس: إن كان أصله مسلما لم يستتب والا استتيب.
(2) أي: عندكم خبر من بلاد بعيدة.

(2/458)


قبل قدوم معاذ عشرين ليلة، أو قريبا منها.
ومن طريق عبد الرازق: أنهم أرادوه على الاسلام شهرين.
قال الشوكاني: واختلف القائلون بالاستتابة.
هل يكتفي بالمرة؟ أو لابد من ثلاث، وهل الثلاث في مجلس واحد أو في ثلاثة أيام، ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا أحكام المرتد: إذا ارتد المسلم ورجع عن الاسلام تغيرت الحالة التي كان عليها.
وتغيرت تبعا لذلك المعاملة التي كان يعامل بها كمسلم، وثبتت بالنسبة له أحكام نجملها فيما يأتي: (1) العلاقة الزوجية: إذا ارتد الزوج أو الزوجة انقطعت علاقة كل منهما بالآخر لان ردة أي واحد منهما موجبة للفرقة بينهما، وهذه الفرقة تعتبر فسخا، فإذا تاب المرتد منهما وعاد إلى الاسلام، كان لابد من عقد ومهر جديدين، إذا أرادا استئناف الحياة الزوجية (1) .
ولايجوز له أن يعقد عقد زواج على زوجة أخرى من أهل الدين الذي انتقل إليه، لانه مستحق القتل.
(2) ميراثه:
والمرتد لا يرث أحدا من أقاربه إذا مات، لان المرتد لادين له، وإذا كان لادين له فلا يرث قريبه المسلم، فإن قتل هو أو مات ولم يرجع إلى الاسلام، انتقل ما له هو إلى ورثته من المسلمين لانه في حكم الميت من وقت الردة.
وقد أتي علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم، ثم ارتد عن الاسلام.
فقال له علي:
__________
(1) يرى الفقهاء الاحناف أن ردة الزوج تعتبر طلاقا بائنا ينقص من عدد الطلقات.

(2/459)


" لعلك إنما ارتددت لان تصيب ميراثا.
ثم ترجع إلى الاسلام؟ قال: لا.
قال: فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها، فأردت أن تتزوجها ثم تعود إلى الاسلام؟ قال: لا.
قال: فارجع إلى الاسلام.
قال: لا. حتى ألقى المسيح.
فأمر به فضربت عنقه فدفع ميراثه إلى ولده من المسلمين ".
قال ابن حزم: وعن ابن مسعود بمثله.
وقالت طائفة بهذا، منهم: الليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه.
وهذا مذهب أبي يوسف، ومحمد، وإحدى الروايات عن أحمد.
(3) فقد أهليته للولاية على غيره: وليس للمرتد ولاية على غيره، فلا يجوز له أن يتولى عقد تزويج بناته ولا أبنائه الصغار، وتعتبر عقوده بالنسبة لهم باطلة، لسلب ولايته لهم بالردة.
مال المرتد:
الردة لا تقضي على أهلية المرتد للتملك، ولا تسلبه حقه في ماله، ولا تزيل يده عنه، ويكون مثله في ماله مثل الكافر الاصلي، وله أن يتصرف في ماله كما يشاء.
وتصير تصرفاته نافذة لاستكمال أهليته، وكونه مستحق القتل لا يسلبه حقه في التملك والتصرف، لان الشارع لم يجعل للمرتد عقوبة سوى عقوبة القتل حدا، ويكون في ذلك كمن حكم عليه بالقصاص أو بالرجم.
فإن قتله قصاصا أو رجما لا يسلبه حقه في الملكية، ولا يزيل يده عن ماله.
لحوقه بدار الحرب:
وكذلك يبقى ماله مملوكا له إذ الحق بدار الحرب، ويوضع تحت يد أمين، لان لحوقه بدار الحرب لا يسلبه حقه في الملكية.

(2/460)


= 1601 ء = ردة الزنديق: قال أبو حاتم السجستاني وغيره: " الزنديق " فارسي معرب أصله: " زنده كرو " أي يقول بدوام الدهر، ثم قال: قال ثعلب: ليس في كلام العرب زنديق، وإنما يقال: زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا: ملحد ودهري.
أي يقول بدوام الدهر.
وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية.
وقال الحافظ ابن حجر: التحقيق ما ذكره من صنف في الملل والنحل: ان أصل الزندقة أتباع ديصان، ثم ماني، ثم مزدك (1) .
وقال النووي: الزنديق الذي لا ينتحل دينا.
وقال في المسوى ملخصا: إن المخالف للدين الحق ان لم يعترف به ولم يذعن له ظاهرا ولاباطنا، فهو الكافر.
وإن اعترف بلسانه، وقلبه على الكفر فهو المنافق.
وإن اعترف به ظاهرا وباطنا لكنه يفسر بعض ما ثبت من الدين ضرورة بخلاف ما فسره الصحابة والتابعون، وأجمعت عليه الامة فهو الزنديق، كما إذا اعترف بأن القرآن حق، وما فيه من ذكر الجنة والنار حق، لكن المراد بالجنة الابتهاج الذي يحصل بسبب الملكات المحمودة، والمراد بالنار، هي الذامة التي تحصل بسبب الملكات المذمومة، وليس في الخارج جنة ولا نار، فهو الزنديق.
وقوله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) وملخص مذهبهم أن النور والظلمة قديمان، وأنهما امتزجا فعدت العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب أن يسعى في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس. وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنه قبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور، وقام الاسلام والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك وأظهر جماعة منهم الاسلام خشية القتل. فهذا أصل الزندقة. وأطلق جماعة من الشافعية الزندقة على من يظهر الاسلام ويخفي الكفر مطلقا.

(2/461)


" أولئك الذين نهاني الله عنهم، هو في المنافقين دون الزنادقة ".
ثم قال: وإن الشرع كما نصب القتل جزاء للارتداد ليكون مزجرة للمرتدين، وذبا عن الملة التي ارتضاها، فكذلك نصب القتل جزاء للزندقة، ليكون مزجرة للزنا دقة، وذبا عن تأويل فاسد في الدين لا يصح القول به. قال: ثم التأويل تأويلان: تأويل لا يخالف قاطعا من الكتاب والسنة واتفاق الامة. وتأويل يصادم ما ثبت بقاطع، فذلك الزندقة. فكل من أنكر الشفاعة، أو أنكر رؤية الله تعالى يوم القيامة، أو أنكر عذاب القبر، وسؤال المنكر والنكير، أو أنكر الصراط والحساب، سواء قال: لا أثق بهؤلاء الرواة.
أو قال: أثق بهم، لكن الحديث مؤول، ثم ذكر تأويلا فاسدا لم يسمع من قبله، فهو الزنديق.
وكذلك من قال في الشيخين " أبي بكر وعمر " مثلا: ليسا من أهل الجنة، مع تواتر الحديث في بشارتهما، أو قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة، ولكن معنى هذا الكلام أنه لا يجوز أن يسمى بعده أحد بالنبي.
وأما معنى النبوة وهو كون إنسان مبعوثا من الله تعالى إلى الخلق مفترض الطاعة، معصوما من الذنوب، ومن البقاء على الخطأ فيما يرى، فهو موجود في الائمة بعده (1) ، فذلك هو الزنديق، وقد اتفق جمهور المتأخرين من الحنفية والشافعية على قتل من يجري هذا المجرى، والله أعلم. اه.
هل يقتل الساحر:
يتفق العلماء على أن للسحر أثرا، وعلى كفر من يعتقد حله، ويختلفون في أن له حقيقة، أو أنه تخيل، كما يختلفون في السحر: هل هو كفر أو ليس بكفر؟ وتبع ذلك اختلافهم في الساحر.
فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يقتل الساحر بتعلم السحر، وبفعله،
لكفره، دون استتابة.
__________
(1) كما يعتقد بعض القديانية في غلام أحمد مدعي النبوة الكذاب.

(2/462)


وقال الشافعية والظاهرية: إن كان الفعل أو الكلام الذي يسحر به كفرا، فالساحر مرتد، ويجري عليه حكم الردة، إلا أن يتوب.
وإن كان ليس كفرا فلا يقتل، لانه ليس كافرا، وإنما هو عاص فقط.
والظاهر أن السحر معصية من كبائر الاثم، وأن الساحر لا يقتل بسحره، إلا إذا اعتقد حله، فيكون مرتدا، لا بسحره، ولكن باستحلال ما حرم الله.
روى أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات "، فقيل: يارسول الله وما هن؟ قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، وأكل ما اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات ".
قال ابن حزم، بعد أن ناقش أدلة القائلين بكفره، ووجوب قتله: " وصح أن السحر ليس كفرا، وإذا لم يكن كفرا، فلا يحل قتل فاعله، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، ونفس بنفس ".
فالساحر ليس كافرا كما بينا ولا قاتلا، ولا زانيا محصنا، ولا جاء في قتله نص صحيح، فيضاف إلى هذه الثلاث، كما جاء في المحارب.
ثم قال: فصح تحريم دمه بيقين لا شك فيه، ورأى الشيعة أن الساحر مرتد
وحكمه حكم المرتد.
الكاهن والعراف (1) :
يرى الامام أبو حنيفة أن الكاهن والعراف يستحقان القتل؟ لقول عمر: " اقتلوا كل ساحر وكاهن ".
وفي رواية عنه: " انهما إن تابا لم يقتلا ".
ويرى متقدم والاحناف أن الكاهن أو العراف إن اعتقد أن الشياطين يفعلون له ما يشاء كفر.
وإن اعتقد أنه تخيل لا حقيقة له، لم يكفر.
__________
(1) الكاهن: هو الذي يتخذ من الجن من يأتيه بالاخبار.
والعراف: هو الذي يتحدث بالحدس والظن، مدعيا أنه يعلم الغيب.

(2/463)


الحرابة:
تعريفها: الحرابة - وتسمى أيضا قطع الطريق - هي خروج طائفة مسلحة في دار الاسلام، لاحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الاموال، وهتك الاعراض، وإهلاك الحرث والنسل (1) ، متحدية بذلك الدين والاخلاق والنظام والقانون.
ولا فرق بين أن تكون هذه الطائفة من المسلمين، أو الذميين، أو المعاهدين أو الحربيين، مادام ذلك في دار الاسلام، وما دام عدوانها على كل محقون الدم، قبل الحرابة من المسلمين والذميين.
وكما تتحقق الحرابة بخروج جماعة من الجماعات، فإنها تتحقق كذلك بخروج فرد من الافراد.
فلو كان لفرد من الافراد فضل جبروت وبطش، ومزيد قوة وقدرة
يغلب بها الجماعة على النفس والمال، والعرض، فهو محارب وقاطع طريق.
ويدخل في مفهوم الحرابة العصابات المختلفة، كعصابة القتل، وعصابة خطف الاطفال، وعصابة اللصوص للسطو على البيوت، والبنوك، وعصابة خطف البنات والعذارى للفجور بهن، وعصابة اغتيال الحكام ابتغاء الفتنة واضطراب الامن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدواب.
وكلمة الحرابة مأخوذة من الحرب، لان هذه الطائفة الخارجة على النظام تعتبر محاربة للجماعة من جانب ومحاربة للتعاليم الاسلامية التي جاءت لتحقق أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، من جانب آخر.
فخروج هذه الجماعة على هذا النحو يعتبر محاربة، ومن ذلك أخذت كلمة
__________
(1) أي: قطع الشجر، وإتلاف الزرع، وقتل الدواب والانعام.

(2/464)


الحرابة، وكما يسمى هذا الخروج على الجماعة وعلى دينها حرابة، فإنه يسمى أيضا قطع طريق، لان الناس ينقطعون بخروج هذه الجماعة عن الطريق، فلا يمرون فيه، خشية أن تسفك دماؤهم، أو تسلب أموالهم، أو تهتك أعراضهم أو يتعرضون لما لا قدرة لهم على مواجهته، ويسميها بعض الفقهاء ب " السرقة الكبرى (1) ".
الحرابة جريمة كبرى: والحرابة - أو قطع الطريق - تعتبر من كبريات الجرائم، ومن ثم أطلق القرآن الكريم على المتورطين في ارتكابها أقصى عبارة فجعلهم محاربين لله ورسوله، وساعين في الارض بالفساد وغلظ عقوبتهم تغليظا لم يجعله لجريمة أخرى.
يقول الله سبحانه: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب عظيم.
" (2) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن أن من يرتكب هذه الجناية ليس له شرف الانتساب إلى الاسلام، فيقول: " من حمل علينا السلاح فليس منا " (3) .
رواه البخاري، ومسلم من حديث ابن عمر.
وإذا لم يكن له هذا الشرف وهو حي، فليس له هذا الشرف بعد الوفاة، فإن الناس يموتون على ما عاشوا عليه، كما يبعثون على ما ماتوا عليه.
__________
(1) سميت بهذه التسمية، لان ضررها عام على المسلمين بانقطاع الطريق، بخلاف السرقة العادية، فإنها تسمى بالسرقة الصغرى، لان ضررها يخص المسروق منه وحده.
(2) سورة المائدة الاية: 33.
(3) من حمل علينا السلاح: أي حمله لقتال المسلمين بغير حق.
كنى بحمله عن المقاتلة إذ القتل لازم لحمل السلاح.
ليس منا: ليس على طريقتنا وهدينا، فإن طريقته نصر المسلم والقتال دونه، لا ترويعه وإخافته وقتاله.

(2/465)


وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من خرج على الطاعة، وفارق الجماعة ومات، فميتته جاهلية (1) ". أخرجه مسلم.
شروط الحرابة:
ولا بد من توافر شروط معينة في المحاربين حتى يستحقوا العقوبة المقررة لهذه الجريمة: وجملة هذه الشروط هي: 1 - التكليف.
2 - وجود السلاح.
3 - البعد عن العمران.
4 - المجاهرة.
ولم يتفق الفقهاء على هذه الشروط، وإنما لهم فيها مناقشات نجملها فيما يلي: (1) شرط التكليف: يشترط في المحاربين: العقل، والبلوغ، لانهما شرطا التكليف الذي هو شرط في إقامة الحدود.
فالصبي والمجنون لا يعتبر الواحد منهما محاربا، مهما اشترك في أعمال المحاربة، لعدم تكليف واحد منهما شرعا، ولم يختلف في ذلك الفقهاء، ولكن اختلفوا فيما إذا اشترك في الحرابة صبيان أو مجانين.
فهل يسقط الحد عمن اشتركوا فيها بسقوطه عن هؤلاء الصبيان أو المجانين؟ قالت الاحناف: نعم يسقط الحد، لانه إذا سقط عن البعض، فإن هذا
__________
(1) خرج على الطاعة: أي طاعة الحاكم الذي وقع الاجتماع عليه في قطر من الاقطار. فارق الجماعة: التي اتفقت على طاعة إمام، وانتظم به شملهم، واجتمعت به كلمتهم، وحاطهم من عدوهم. ميتة جاهلية: منسوبة إلى الجهل، وهو تشبيه لميتة من فارق الجماعة لمن مات على الكفر بجامع أن الكل لم يكن تحت حكم إمام.

(2/466)


السقوط يسري إلى الكل باعتبار أنهم جميعا متضامنون في المسؤولية، وإذا سقط حد الحرابة نظر في الاعمال التي ارتكبت على أنها جرائم عادية يعاقب عليها بالعقوبات المقررة لها.
فإن كانت الجريمة قتلا رجع الامر إلى ولي الدم، فله أن يعفو، وله أن يقتص.
وهكذا في بقية الجرائم.
ومقتضى المذهب المالكي، والمذهب الظاهري وغيرهما إنه إذا سقط حد الحرابة عن الصبيان والمجانين، فإنه لا يسقط عن غيرهم ممن اشتركوا في الاثم والعدوان، لان هذا الحد هو حق لله تعالى، وهذا الحق لا ينظر فيه إلى الافراد.
ولا تشترط الذكورة ولا الحرية، لانه ليس للانوثة ولا للرق تأثير على جريمة الحرابة، فقد يكون للمرأة (1) والعبد من القوة مثل ما لغيرهما، من التدبير وحمل السلاح والمشاركة في التمرد والعصيان، فيجري عليهما ما يجري على غيرهما من أحكام الحرابة.
(2) شرط حمل السلاح: ويشترط في المحاربين أن يكون معهم سلاح، لان قوتهم التي يعتمدون عليها في الحرابة: إنما هي قوة السلاح، فإن لم يكن معهم سلاح فليسوا بمحاربين، لانهم لا يمنعون من يقصدهم، وإذا تسلحوا بالعصي والحجارة، فهل يعتبرون محاربين؟ اختلف الفقهاء في ذلك.
فقال الشافعي، ومالك، والحنابلة، وأبو يوسف، وأبو ثور، وابن حزم:
وإنهم يعتبرون محاربين لانه لا عبرة بنوع السلاح، ولا بكثرته، وإنما العبرة بقطع الطريق.
وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين.
__________
(1) يرى أبو حنيفة اشتراط الذكورة في الحرابة، وذلك لقرة قلوب النساء، وضعف بنيتهن، ولسن من أهل الحرب وهذه رواية ظاهر الرواية.
وروى الطحاوي عنه: أن هذا ليس بشرط وأن النساء والرجال سواء في الحرابة.

(2/467)


(3) شرط الصحراء والبعد عن العمران: واشترط بعض الفقهاء أن يكون ذلك في الصحراء، فإن فعلوا ذلك في البنيان لم يكونوا محاربين، ولان الواجب يسمى حد قطاع الطريق، وقطع الطريق إنما هو في الصحراء، ولان في المصر يلحق الغوث غالبا فتذهب شوكة المعتدين، ويكونون مختلسين، والمختلس ليس بقاطع، ولا حد عليه.
وهو قول أبي حنيفة، والثوري، وإسحاق، وأكثر فقهاء الشيعة.
وقول الخرقي من الحنابلة، وجزم به في الوجيز.
وذهب فريق آخر إلى أن حكمهم في المصر والصحراء واحد، لان الاية بعمومها تتناول كل محارب.
ولانه في المصر أعظم ضررا، فكان أولى.
ويدخل في هذا العصابات التي تتفق على العمل الجنائي من السلب، والنهب، والقتل.
وهذا مذهب الشافعي، والحنابلة، وأبي ثور.
وبه قال الاوزاعي والليث والمالكية، والظاهرية.
والظاهر أن هذا الاختلاف يتبع اختلاف الامصار.
فمن راعى شرط الصحراء نظر إلى الحال الغالبة، أو أخذه من حال زمنه الذي لم يقع فيه مثل
ذلك في مصره، وعلى العكس من ذلك من لم يشترط هذا الشرط.
ولذا يقول الشافعي: إن السلطان إذا ضعف ووجدت المغالبة في المصر كانت محاربة.
وأما غير ذلك فهو اختلاس عنده.
(4) شرط المجاهرة: ومن شروط الحرابة المجاهرة بأن يأخذوا المال جهرا، فإن أخذوه مختفين فهم سراق، وإن اختطفوه وهربوا، فهم منتهبون، لا قطع عليهم، وكذلك إن خرج الواحد والاثنان على آخر قافلة، فسلبوا منها شيئا، لانه لا يرجعون إلى منعة وقوة، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم، فهم قطاع طريق.
وهذا مذهب الاحناف والشافعية والحنابلة.
وخالف في ذلك المالكية والظاهرية.
قال ابن العربي المالكي: والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر،

(2/468)


وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعنى الحرابة موجود فيها، ولو خرج بعضا في المصر يقتل بالسيف ويؤخذ فيه بأشد من ذلك لا بأيسره.
فإنه سلب غيلة، وفعل الغيلة أقبح من فعل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في قتل المجاهرة فكان قصاصا، ولم يدخل في قتل الغيلة، فكان حرابة، فتحرر أن قطع السبيل موجب للقتل.
وقال: لقد كنت أيام تولية القضاء قد رفع إلي أمر قوم خرجوا محاربين في رفقة، فأخذوا منهم امرأة - مغالبة على نفسها من زوجها، ومن جملة المسلمين معه - فاختلوا بها، ثم جد فيهم الطلب، فأخذوا وجئ بهم، فسألت من كان ابتلاني الله به من المفتين، فقالوا: ليسوا محاربين، لان الحرابة إنما تكون في الاموال لا في الفروج.
فقلت لهم: " إنا لله وإنا إليه راجعون " ألم تعلموا أن الحرابة في الفروج أفحش منها في الاموال، وإن الناس ليرضون أن تذهب أموالهم وتحرب بين أيديهم، ولا يرضون أن يحرب المرء في زوجته وبنته؟ ولو كان فوق ما قال الله عقوبة لكانت لمن يسلب الفروج، وحسبكم من بلاء صحبة الجهال، وخصوصا في الفتيا والقضاء.
وقال القرطبي: والمغتال كالمحارب، وهو أن يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح، ولكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر، فأطعمه سما فقتله، فيقتل حدا لا قودا، وقريب من هذا القول رأي ابن حزم حيث يقول: إن المحارب هو المكابر، المخيف لاهل الطريق، المفسد في سبل الارض، سواء بسلاح أم بلا سلاح أصلا.
سواء ليلا أم نهارا، في مصر أم فلاة، أم في قصر الخليفة، أم في الجامع سواء، وسواء فعل ذلك بجند أم بغير جند، منقطعين في الصحراء أم أهل قرية، سكانا في دورهم أم أهل حصن كذلك، أم أهل مدينة عظيمة أم غير عظيمة، كذلك واحد أم أكثر، كل من حارب المارة وأخاف السبيل بقتل نفس أو أخذ مال، أو لجراحة، أو لانتهاك عرض، فهو محارب عليه وعليهم، كثروا أو قلوا ".
ومن ثم يتبين أن مذهب ابن حزم وأسع المذاهب بالنسبة للحرابة، ومثله

(2/469)


في ذلك المالكية، لان كل من أخاف السبيل على أي نحو من الانحاء، وبأي صورة من الصور، يعتبر محاربا مستحقا لعقوبة الحرابة.
عقوبة الحرابة: أنزل الله سبحانه في جريمة الحرابة قوله: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض
فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض، ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الاخرة عذاب عظيم - إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
(1) فهذه الاية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الارض بالفساد، لقوله سبحانه: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ".
وقد أجمع العلماء على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدي المسلمين، فأسلموا فإن الاسلام يعصم دماءهم وأموالهم وإن كانوا قد ارتكبوا من المعاصي قبل الاسلام ما يستوجب العقوبة: " قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ".
(2) فدل ذلك على أن الاية نزلت في أهل الاسلام، ومعنى يحاربون الله ورسوله، أي يحاربون المسلمين بما يحدثونه من اضطراب، وفوضى وخوف وقلق، ويحاربون الاسلام بخروجهم عن تعاليمه وعصيانهم لها.
فإضافة الحرب إلى الله ورسوله إيذان بأن حرب المسلمين كأنها حرب الله تعالى ولرسوله، كقوله تعالى: يخادعون الله والذين آمنوا ".
(3) فالمحاربة هنا مجازية.
قال القرطبي: يحاربون الله ورسوله، إستعارة، ومجاز، إذ الله سبحانه
__________
(1) سورة المائدة. الايتان: 33، 34.
(2) سورة الانفال. الاية: 38.
(3) سورة البقرة. الاية: 9.

(2/470)


وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الاضداد والانداد.
والمعنى يحاربون أولياء الله.
فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لاذيتهم كما عبر بنفسه عن الفقراء والضعفاء في قوله تعالى: " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " (1) .
حثا على الاستعطاف عليهم، ومثله في صحيح السنة: " استطعمتك فلم تطعمني " اه.
سبب نزول هذه الاية: قال الجمهور في سبب نزول هذه الاية: " إن العرنيين (2) قدموا المدينة فأسلموا، واستوخموها (3) ، وسقمت أجسامهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة، فخرجوا، وأمر لهم بلقاح (4) ليشربوا من ألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي وارتدوا عن الاسلام وساقوا الابل.
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جئ بهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل (5) أعينهم، وتركهم في الحرة (6) يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا ".
قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله، فأنزل الله عزوجل: " إنما الذين يحاربون الله ورسوله " الاية.
العقوبات التي قررتها الاية الكريمة:
والعقوبة التي قررتها هذه الاية للذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في
__________
(1) سورة البقرة الاية: 245.
(2) جماعة من إحدى القبائل العربية المعروفة.
(3) أصابهم المرض والوخم.
لعدم موافقة هوائها لهم.
(4) لقاح جمع لقحة وهي الناقة الحلوب.
(5) تسمل: تفقا.
وفعل بهم ذلك لانهم كانوا فعلوا ذلك بالراعي فكان قصاصا.
وجزاء سيئة سيئة مثلها.
(6) الحرة: أرض خارج المدينة ذات حجارة سوداء.

(2/471)


الارض فسادا هي إحدى عقوبات أربع:
1 - القتل.
2 - أو الصلب.
3 - أو تقطيع الايدي والارجل من خلاف.
4 - أو النفي من الارض.
وهذه العقوبات جاءت في الاية معطوفة بحرف " أو "، فقال بعض العلماء: " إن العطف بها يفيد التخيير، ومعنى هذا ان للحاكم أن يتخير عقوبة من هذه العقوبات، حسب ما يراه من المصلحة، بصرف النظر عن الجريمة التي ارتكبها المحاربون ".
وقال أكثر العلماء: إن " أو " لنا للتنويع لا للتخيير ومقتضاه أن تتنوع العقوبة حسب الجريمة، وأن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير.
حجة القائلين بأن " أو " للتخيير: قال الفريق الاول: إن هذا ما تقتضيه اللغة، ويتمشى مع نظم الاية، ولم يثبت من السنة ما يصرف ما دلت عليه من هذا المعنى.
فكل من حارب الله ورسوله وسعى في الارض بالفساد، فإن عقوبته إما القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي من الارض حسب ما يكون من المصلحة التي يراها الحاكم في تنفيذ إحدى هذه العقوبات، سواء قتلوا أم لم يقتاوا، وسواء أخذوا المال أم لم يأخذوا، وسواء ارتكبوا جريمة واحدة أم أكثر.
وليس في الاية ما يدل على أن للحاكم أن يجمع أكثر من عقوبة واحدة أو يترك المحاربين دون عقاب.
قال القرطبي: " قال أبو ثور: الامام مخير على ظاهر الاية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، والضحاك، والنخعي، كلهم قال: الامام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الاحكام التي

(2/472)


أوجبها الله تعالى من: القتل، أو الصلب، أو القطع، أو النفي بظاهر الاية ".
قال ابن عباس: ما كان في القرآن " أو " فصاحبه بالخيار.
وهذا قول أشعر بظاهر الاية.
قال ابن كثير: إن ظاهر - أو - للتخيير، كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله تعالى في جزاء الصيد: " فجزاء مثل ما قتل من النعم، يحكم به ذوا عدل منكم، هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما ".
(1) وكقوله في كفارة الفدية: " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ".
(2) وكقوله في كفارة اليمين: " فإطعام عشرة مساكين، من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة ".
(3) هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الاية.
حجة القائلين بأن " أو " للتنويع: أما الفريق الثاني فقد استدل بما روي عن ابن عباس، وهو من أعلم الناس باللغة وأفقههم في القرآن الكريم، فقد روى الشافعي في مسنده عنه رضي الله عنه قال: " إذا قتلوا وأخذوا الاموال صلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا. وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الارض. "
__________
(1) سورة المائدة. الاية: 95.
(2) سورة البقرة الاية: 196.
(3) سورة المائدة الاية: 89.

(2/473)


قال ابن كثير ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن سنده - قال: حدثنا علي بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم، عن يزيد بن حبيب: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الاية، فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين، وهم من بجيلة (1) ، قال أنس: فارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الابل، وأخافوا السبيل،
وأصابوا الفرج الحرام.
قال أنس: فسأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء فيمن حارب فقال: " من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته، ومن قتل اقتله، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه ".
وقالوا: إن الذي يرجح أن الاية لتفصيل العقوبات، لا للتخيير هو أن الله جعل لهذا الافساد درجات من العقاب لان إفسادهم متفاوت، منه القتل، ومنه السلب والنهب، ومنه هتك العرض، ومنه إهلاك الحرث والنسل.
ومن قطاع الطرق من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه، فليس الحاكم مخيرا في عقاب من شاء منهم بما شاء، بل عليه أن يعاقب كلا منهم بقدر جرمه ودرجة إفساده، وهذا هو العدل: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ".
(2) وهذا مذهب الشافعي، وأحمد في أصح الروايات عنه، وقول أبي حنيفة على تفصيل في ذلك - وقد ناقش الكاساني في البدائع (3) رأي القائلين بأن " أو " للتخيير نقاشا علميا، فقال: " إن التخيير الوارد في الاحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير، إنما يجري ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحد، كما في كفارة اليمين، وكفارة جزاء الصيد.
أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه، كما في قوله تعالى:
__________
(1) قبيلة تسمى بهذا الاسم.
(2) سورة الشورى الاية: 40.
(3) ج 7 ص 9.

(2/474)


" قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ".
(1) إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين، بل لبيان الحكم لكل في نفسه، لاختلاف سبب الوجوب.
وتأويله: إما أن تعذب من ظلم، أو تتخذ الحسن فيمن آمن وعمل صالحا.
ألا ترى إلى قوله تعالى: " قال أما من ظلم فسوف نعذبه، ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا - وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى ".
(2) وقطع الطريق متنوع في نفسه وإن كان متحدا من حيث الاصل، فقد يكون بأخذ المال وحده، وقد يكون بالقتل لا غير، وقد يكون بالجمع بين الامرين، وقد يكون بالتخويف لا غير، فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير، بل على بيان الحكم لكل نوع، أو يحتمل هذا ويحتمل ما ذكر فلا يكون حجة مع الاحتمال.
وإذا لم يمكن صرف الاية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب.
فإما أن يحمل على الترتيب ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق، كأنه سبحانه وتعالى قال: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " إن قتلوا، أو يصلبوا، إن أخذوا المال وقتلوا، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن أخذوا المال لا غير، أو ينفوا من الارض، إن أخافوا، هكذا ذكر جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة الاسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاؤوا يريدون الاسلام.
فقد قال عليه السلام:
" إن من قتل قتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الاسلام ما كان قبله من الشرك ".
__________
(1) سورة الكهف الاية: 86.
(2) سورة الكهف الاية: 87.

(2/475)


بسط رأي القائلين بتنوع العقوبة إذا اختلفت الجريمة: قلنا إن جمهور الفقهاء يرى أن العقوبة تتنوع حسب نوع الجريمة، وإن ذلك ينقسم إلى أقسام:
1 - أن تكون الحرابة مقصورة على إخافة المارة وقطع الطريق، ولم يرتكب المحاربون شيئا وراء ذلك، فهؤلاء ينفون من الارض، والنفي من الارض معناه إخراج المحاربين من البلد الذي أفسدوا فيه إلى غيره من بلاد الاسلام. إلا إذا كانوا كفارا فيجوز إخراجهم إلى بلاد الكفر.
وحكمة ذلك أن يذوق هؤلاء وبال أمرهم بالابتعاد والنفي، وأن تطهر المنطقة التي عاثوا فيها فسادا من شرورهم ومفاسدهم، وأن ينسى الناس ما كان منهم من أثر سئ وذكرى أليمة.
وروي عن مالك أن النفي معناه الاخراج إلى بلد آخر، ليسجنوا فيه حتى تظهر توبتهم، واختاره ابن جرير.
ويرى الاحناف أن النفي هو الجسن ويبقون في السجن حتى يظهر صلاحم لان السجن خروج من سعة الدنيا إلى ضيقتها، فصار من سجن كأنه نفي من الارض إلا من موضع سجنه، واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الاموات فيها ولا الاحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا!
2 - أن تكون الحرابة بأخذ المال من غير قتل، وعقوبة ذلك قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، لان هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وما يقطع منهما يحسم في الحال، بكي العضو المقطوع بالنار أو بالزيت المغلي أو بأية طريقة أخرى، حتى لا يستنزف دمه فيموت.
وإنما كان القطع من خلاف حتى لا تفوت جنس المنفعة فتبقى له يد يسرى ورجل يمنى ينتفع بهما، فإن عاد هذا المقطوع إلى قطع الطريق مرة أخرى قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وقد اشترط جمهور الفقهاء أن يكون مبلغ المال المسروق نصابا، وأن يكون من حرز، لان السرقة جريمة لها عقوبة مقررة، فإذا وقعت الجريمة تعبها جزاؤها، سواء أكان مرتكبها فردا أم جماعة.
فإن لم يبلغ المال نصابا ولم يكن

(2/476)


من حرز فلا قطع، فإن كانوا جماعة، فهل يشترط أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا أو لا؟ أجاب عن ذلك ابن قدامة فقال: " وإذا أخذوا ما يبلغ نصابا ولا تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا قطعوا، قياسا على قولنا في السرقة.
وقياس قول الشافعي وأصحاب الرأي أنه لا يجب القطع حتى تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا.
ويشترط ألا تكون لهم شبهة.
ولم يوافق مالك ولا الظاهرية على هذا الرأي، فلم يشترطوا في المال المسروق بلوغ النصاب ولا كونه محرزا، لان الحرابة نفسها جريمة تستوجب العقوبة بقطع النظر عن النصاب والحرز.
فجريمة الحرابة غير جريمة السرقة، وعقوبة كل منهما مختلفة، لان الله تعالى قدر للسرقة نصابا، ولم يقدر في
الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة.
وإذا كان في الجناة من هو ذو رحم محرم ممن سرقت أموالهم فإنه لاقطع عليه، ويقطع الباقون الذين شاركوه من الجناة عند الحنابلة وأحد قولي الشافعي.
وقال الاحناف: لا يقطع واحد منهم لوجود الشبهة بالنسبة للقريب، والجناة متضامنون فإذا سقط الحد عن القريب سقط عن الجميع.
ورجح ابن قدامة رأي الشافعية والحنابلة فقال: " إنها شبهة اختص بها واحد، فلا يسقط الحد عن الباقين " ومعنى هذا أن شبهة الاسقاط لا تتجاوز ذا الرحم، فلا يقاوم عليه الحد وحده، لان الشبهة لا تتجاوزه. اه.
3 - أن تكون الحرابة بالقتل دون أخذ للمال، وهذا يستوجب القتل متى قدر الحاكم عليهم، ويقتل جميع المحاربين وإن كان القاتل واحدا، كما يقتل الردء - وهو الطليعة - لانهم شركاء في المحاربة والافساد في الارض.
ولاعبرة بعفو ولي الدم أو رضاه بالدية، لان عفو ولي الدم أو رضاه بالدية في القصاص لافي الحرابة.
4 - أن تكون الحرابة بالقتل وأخذ المال.
وفي هذا القتل والصلب.
أي أن عقوبتهم أن يصلبوا أحياء ليموتوا، فيربط الشخص على خشبة أو عمود

(2/477)


أو نحوهما منتصب القامة. ممدود اليدين، ثم يطعن حتى يموت.
ومن الفقهاء من قال: إنه يقتل أولا ثم يصلب للعبرة والعظة.
ومنهم من قال: إنه لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.
وكل ما تقدم فإنه اجتهاد من الائمة.
وهوفي نطاق تفسير الآية الكريمة،
وكل إمام له وجهة نظر صحيحة، فمن رأى تخيير الحاكم في اختيار إحدى العقوبات المقررة فوجهته ما دل عليه العطف بحرف - أو - وأن الامر متروك للحاكم يختار منها ما تدرأ به المفسدة وتتحقق به المصلحة. وأن من رأى أن لكل جريمة عقوبة محددة في الآية، فوجهه تحقيق العدالة مع رعاية ما تندرئ به المفاسد وتقوم بهالمصالح، فالكل مجمع على تحقيق غاية الشريعة من درء المفاسد وتحقيق المصالح.
وهذا الاجتهاد يسهل على أولياء الامور فهم النصوص وييسر طريق الاجتهاد، ويعين طالب العلم على الوصول إلى الحقيقة.
ولا شك أن أعمالا كثيرة تحدث من المحاربين المفسدين غير هذه الاعمال التي أشار إليها الفقهاء.
ويمكن استنباط أحكام لها مناسبة في ضوء ما استنبطه الفقهاء من الآية الكريمة من أحكام جزئية.
رد اعتراض ودفع إشكال:
قال في المنار: روى عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد أن الفساد هنا: الزنا، والسرقة، وقتل النساء، وإهلاك الحرث والنسل، وكل هذه الاعمال من الفساد في الارض.
واستشكل بعض الفقهاء قول مجاهد: بأن هذه الذنوب والمفاسد لها عقوبات في الشرع غير ما في الآية، فللزنا والسرقة والقتل، حدود، وإهلاك الحرث والنسل يقدر بقدره ويضمنه الفاعل ويعزره الحاكم بما يؤديه إليه اجتهاده ".
وفات هؤلاء المعترضين أن العقاب المنصوص في الآية خاص بالمحاربين من المفسدين الذين يكاثرون أولي الامر، ولا يذعنون لحكم الشرع، وتلك الحدود إنما هي للسارقين، والزناة أفرادا، الخاضعين لحكم الشرع فعلا.
وقد ذكر حكمهم في الكتاب العزيز بصيغة اسم الفاعل المفرد كقوله، سبحانه " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (1) ، وقال: " الزانية
__________
(1) سورة المائدة.
الآية: 28

(2/478)


والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " (1) وهم يستخفون بأفعالهم، ولا يجهرون بالفساد حتى ينتشر بسوء القدوة بهم ولا يؤلفون له العصائب ليمنعوا أنفسهم من الشرع بالقوة فلهذا لا يصدق عليهم أنهم محاربو الله ورسوله ومفسدون، والحكم هنا منوط بالوصفين معا.
وإذا أطلق الفقهاء لفظ المحاربين فإنما يعنون به المحاربين المفسدين، لان الوصفين متلازمان " انتهى واجب الحاكم والامة حيال الحرابة: والحاكم والامة معا مسئولون عن حماية النظام وإقرار الامن وصيانة حقوق الافراد في المحافظة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا شذت طائفة، فأخلوا السبيل، وقطعوا الطريق، وعرضوا حياة الناس للفوضى والاضطراب.
وجب على الحاكم قتال هؤلاء، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العرنيين، وكما فعل خلفاؤه من بعده، ووجب على المسلمين كذلك أن يتعاونوا مع الحاكم على استئصال شأفتهم وقطع دابرهم، حتى ينعم الناس بالامن والطمأنينة، ويحسوا بلذة السلام والاستقرار وينصرف كل إلى عمله مجاهدا في سبيل الخير لنفسه، ولاسرته، ولامته، فإن انهزم هؤلاء في ميدان القتال، وتفرقوا هنا وهناك، وانكسرت شوكتهم، لم يتبع مدبرهم، ولم يجهز على جريحهم إلا إذا كانوا قد ارتكبوا جناية القتل، وأخذوا المال، فإنهم يطاردون حتى يظفروا بهم ويقام عليهم حد الحرابة.
توبة المحاربين قبل القدرة عليهم: إذا تاب المحاربون المفسدون في الارض قبل القدرة عليهم، وتمكن الحاكم من القبض عليهم، فإن الله يغفر لهم ما سلف، ويرفع عنهم العقوبة الخاصة بالحرابة لقول الله سبحانه:
" ذلك لهم خزي في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
وإنما كان ذلك كذلك، لان التوبة قبل القدرة عليهم والتمكن منهم
__________
(1) سورة النور الآية: 2

(2/479)


دليل على يقظة الضمير والعزم على استئناف حياة نظيفة بعيدة عن الافساد والمحاربة لله ولرسوله، ولهذا شملهم عفو الله وأسقط عنهم كل حق من حقوقه إن كانوا قد ارتكبوا ما يستوجب العقوبة، أما حقوق العباد فإنها لا تسقط عنهم، وتكون العقوبة حينئذ ليست من قبيل الحرابة، وإنما تكون من باب القصاص.
والامر في ذلك يرجع إلى المجني عليهم لا إلى الحاكم، فإن كانوا قد قتلوا سقط عنهم تحتم القتل، ولولي الدم العفو أو القصاص، وإن كانوا قد قتلوا وأخذوا المال، سقط الصلب وتحتم القتل وبقي القصاص وضمان المال.
وإن كانوا قد أخذوا المال سقط القطع وأخذت الاموال منهم إن كانت بأيديهم، وضمنوا قيمة ما استهلكوا، لان ذلك غصب.
فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يجعله الحاكم عنده حتى يعلم صاحبه لان توبتهم لا تصح إلا إذا أعادوا الاموال المسلوبة إلى أربابها.
فإذا أرى أولو الامر إسقاط حق مالي عن المفسدين من أجل المصلحة العامة، وجب أن يضمنوه من بيت المال.
ولقد لخص ابن رشد في بداية المجتهد أقوال العلماء في هذه المسألة فقال: " وأما ما تسقطه عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:
1 - أحدها أن التوبة إنما تسقط حد الحرابة فقط، ويؤخذ، بما سوى ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين " وهو قول مالك.
2 - والقول الثاني أنها تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله من الزنا، والشراب، والقطع في السرقة، ولا تسقط حقوق الناس من الاموال، والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول (1) .
3 - والقول الثالث: أن التوبة ترفع جميع حقوق الله، ويؤخذ في الدماء وفي الاموال بما وجد بعينه.
4 - والقول الرابع: أن التوبة تسقط جميع حقوق الآدميين من مال، ودم، إلا ما كان من الاموال قائما بعينه.
شروط التوبة: للتوبة ظاهر وباطن، ونظر الفقه إلى الظاهر دون الباطن الذي لا يعلمه
__________
(1) هذا هو أعدل الاقوال الذي اخترناه ونبهنا عليه من قبل.

(2/480)


إلا الله، فإذا تاب المحارب قبل القدرة عليه، قبلت توبته وترتبت عليها آثارها، واشترط بعض العلماء - في التائب - أن يستأمن الحاكم فيؤمنه، وقيل: لا يشترط ذلك، ويجب على الامام أن يقبل كل تائب.
وقيل: يكتفي بإلقاء السلاح والبعد عن مواطن الجريمة وتأمين الناس بدون حاجة إلى الرجوع إلى الامام.
ذكر ابن جرير.
قال: حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم.
قال: " قال الليث وكذلك حدثني موسي المدني - وهو الامير عندنا - أن عليا الاسدي حارب، وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال، فطلبه الائمة والعامة، فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا.
وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة
الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ".
(1) فوقف عليه فقال يا عبد الله: أعد قراءتها.
فأعادها عليه فغمد سيفه، ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر.
فاغتسل، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس، فقاموا إليه، فقال: لا سبيل لكم علي، جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي.
فقال أبو هريرة: صدق، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة في زمن معاوية - فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل، فترك من ذلك كله.
قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر، فلقوا الروم فقرنوا سفينة إلى سفينة من سفنهم فاقتحم علي الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم، فغرقوا جميعا.
سقوط الحدود بالتوبة قبل رفع الجناة إلى الحاكم:
تقدم أن حد الحرابة يسقط عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرة عليهم لقول الله سبحانه:
__________
(1) سورة الزمر الآية: 54

(2/481)


" إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ".
(1) وليس هذا الحكم مقصورا على حد الحرابة، بل هو حكم عام ينتظم جميع الحدود، فمن ارتكب جريمة تستوجب الحد ثم تاب منها قبل أن يرفع إلى الامام سقط عنه الحد، لانه إذا سقط الحد عن هؤلاء فأولى أن يسقط عن غيرهم، وهم أخف جرما منهم، وقد رجح ذلك ابن تيمية فقال:
" ومن تاب من الزنا، والسرقة، وشرب الخمر قبل أن يرفع إلى الامام، فالصحيح أن الحد يسقط عنه.
كما يسقط عن المحاربين إجماعا إذا تابوا قبل القدرة عليهم ".
وقال القرطبي " فأما الشراب، والزناة، والسراق، إذا تابوا وأصلحوا.
وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الامام، فلا ينبغي أن يحدوا.
وإن رفعوا إليه فقالوا: تبنا لم يتركوا وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا ".
وفصل الخلاف في ذلك ابن قدامة فقال: وإن تاب من عليه حد من غير المحاربين وأصلح ففيه روايتان: (إحداهما) يسقط عنه لقول الله تعالى: " واللذان يأتيانها منكم فآذوهما، فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " (2) .
وذكر حد السارق ثم قال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم " (3) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " التائب من الذنب كمن لاذنب له " ومن لا ذنب له لاحد عليه، وقال في ماعز لما أخبر بهربه " هلاتركتموه يتوب فيتوب الله عليه "؟! ولانه خالص حق الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد المحارب.
(ثانيتهما) لا يسقط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله سبحانه: " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ".
__________
(1) سورة المائدة الآية: 34 (2) سورة النساء الآية: 39 (3) سورة المائدة الآية: 16

(2/482)


وهذا عام في التائبين وغيرهم.
وقال تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية وقطع الذي أقر بالسرقة وقد جاءوا تائبين يطلبون التطهير بإقامة الحد وقد سمى الرسول صلى الله عليه وسلم فعلهم توبة، فقال في حق المرأة: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم ".
وجاء عمرو بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني، فأقام الرسول الحد عليه.
ولان الحد كفارة فلم يسقط بالتوبة ككفارة اليمين والقتل، ولانه مقدور عليه فلم يسقط عنه الحد بالتوبة كالمحارب بعد القدرة عليه فإن قلنا بسقوط الحد بالتوبة فهل يسقط بمجرد التوبة أو بها مع إصلاح العمل؟ فيه وجهان: (أحدهما) يسقط بمجردها وهو ظاهر قول أصحابنا لانها توبة مسقطة للحد فأشبهت توبة المحارب قبل القدرة عليه.
(وثانيهما) يعتبر إصلاح العمل لقوله سبحانه: " فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما " وقال: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله غفور رحيم ".
فعلى هذا القول يعتبر مضي مدة يعلم بها صدق توبته وصلاح نيته.
وليست مقدرة بمدة معلومة.
وقال بعض أصحاب الشافعي: مدة ذلك سنة وهذا توقيت بغير توقيت فلا يجوز.
دفاع الانسان عن نفسه وعن غيره: إذا اعتدى على الانسان معتد يريد قتله، أو أخذ ماله أو هتك عرض حريمه، فمن حقه أن يقاتل هذا المعتدي دفاعا عن نفسه وماله وعرضه ويدفع
بالاسهل فالاسهل، فيبدأ بالكلام أو الصياح أو الاستعانة بالناس إن أمكن دفع الظالم بذلك فإن لم يندفع إلا بالضرب فليضربه فإن لم يندفع إلا بقتله فليقتله ولا قصاص على القاتل ولا كفارة عليه، ولادية للمقتول لانه ظالم معتد، والظالم المعتدي حلال الدم لا يجب ضمانه.

(2/483)


فإن قتل المعتدى عليه وهوفي حالة دفاعه عن نفسه وماله وعرضه فهو شهيد.
1 - يقول الله تعالى: " ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ".
(1) 2 - وعن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: فلا تعطه مالك.
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: فقاتله.
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: فأنت شهيد.
قال: فإن قتلته؟ قال: هو في النار ".
3 - وروى البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قتل دون ماله فهو شهيد.
ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ".
4 - وروي: أن امرأة خرجت تحتطب، فتبعها رجل يراودها عن نفسها، فرمته بفهر (2) فقتلته، فرفع ذلك لعمر رضي الله عنه فقال: " قتيل الله، والله لا يؤدى هذا أبدا ".
وكما يجب أن يدافع الانسان عن نفسه وماله وعرضه يجب عليه كذلك الدفاع عن غيره إذا تعرض للقتل أو أخذ المال، أو هتك العرض، ولكن بشرط أن يأمن على نفسه من الهلاك.
لان الدفاع عن الغير من باب تغيير المنكر والمحافظة على الحقوق، يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ".
وهذا من باب تغيير المنكر.
__________
(1) سورة الشورى الآية: 41 (2) الفهر: الحجر.

(2/484)


حد السرقة:
إن الاسلام قد احترم المال، من حيث انه عصب الحياة، واحترم ملكية الافراد له (1) ، وجعل حقهم فيه حقا مقدسا، لا يحل لاحد أن يعتدي عليه بأي وجه من الوجوه، ولهذا حرم الاسلام: السرقة، والغصب، والاختلاس، والخيانة، والربا، والغش، والتلاعب بالكيل والوزن، والرشوة، واعتبر كل مال أخذ بغير سبب مشروع أكلا للمال بالباطل.
وشدد في السرقة، فقضى بقطع يد السارق التي من شأنها أن تباشر السرقة، وفي ذلك حكمة بينة، إذ أن اليد الخائنة بمثابة عضو مريض يجب بتره ليسلم الجسم، والتضحية بالبعض من أجل الكل مما اتفقت عليه الشرائع والعقول.
كما أن في قطع يد السارق عبرة لمن تحدثه نفسه بالسطو على أموال الناس، فلا يجرؤ أن يمد يده إليها، وبهذا الاموال وتصان.
يقول الله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، نكالا من
الله، والله عزيز حكيم ".
(2) حكمة التشديد في العقوبة: والحكمة في تشديد العقوبة في السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الاموال هي ما جاء في شرح مسلم للنووي: قال القاضي عياض رضي الله عنه: " صان الله الاموال بإيجاب القطع على السارق، ولم يجعل ذلك في غير السرقة، كالاختلاس، والانتهاب، والغصب، لان ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة، ولانه يمكن استرجاع هذا النوع بالاستدعاء إلى ولاة الامور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة، فإنها تندر إقامة البينة عليها (3) فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها، ليكون أبلغ في الزجر عنها ".
__________
(1) احترام الاسلام للملكية لان ذلك فطرة أولا، وحافز على النشاط ثانيا، وعدالة ثالثا.
(2) سورة المائدة الآية: 38 (3) سيأتي بعد مزيد لابن القيم.

(2/485)


أنواع السرقة:
والسرقة أنواع:
1 - نوع منها يوجب التعزير.
2 - ونوع منها يوجب الحد.
والسرقة التي توجب التعزير، هي السرقة التي لم تتوفر فيها شروط إقامة الحد.
وقد قضى الرسول صلى الله عليه وسلم، بمضاعفة الغرم على من سرق ما لاقطع فيه: قضى بذلك في سارق الثمار المعلقة، وسارق الشاة من المرتع.
ففي الصورة الاولى، أسقط القطع عن سارق الثمر والكثر (1) ، وحكم أن من أصاب شيئا منه بفمه وهو محتاج إليه فلاشئ عليه، ومن خرج منه بشئ فعليه غرامة مثليه، والعقوبة، ومن سرق منه شيئا في جرينه (2) فعليه القطع إذا بلغت قيمة المسروق النصاب الذي يقطع فيه.
وفي الصورة الثانية، قضى في الشاة التي تؤخذ من مرتعها بثمنها مضاعفا وضرب نكال (3) وقضى فيما يؤخذ من عطنه بالقطع، إذا بلغ النصاب الذي يقطع فيه سارقه.
رواه أحمد، والنسائي، والحاكم، وصححه.
والسرقة التي عقوبتها الحد نوعان: (الاول) سرقة صغرى: وهي التي يجب فيها قطع اليد.
(الثاني) سرقة كبرى: وهي أخذ المال على سبيل المغالبة.
ويسمى الحرابة.
وقد سبق الكلام عليها قبل هذا الباب.
وكلامنا الآن منحصر في السرقة الصغرى.
تعريف السرقة: السرقة: هي أخذ الشئ في خفية.
يقال: استرق السمع، أي سمع مستخفيا.
ويقال: هو يسارق النظر إليه، إذا اهتبل غفلته لينظر إليه.
__________
(1) الكثر: هو جمار النخل.
(2) جرينه: ما يسمى عند العامة بالجرن.
(3) نكال: أي ضربا يكون فيه عبرة لغيره.

(2/486)


وفي القرآن الكريم يقول الله سبحانه: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين ".
(1) فسمى الاستماع في خفاء استراقا.
وفي القاموس: السرقة، والاستراق، المجئ مستترا لاخذ مال الغير
من حرز.
وقال ابن عرفة: " السارق عند العرب، هو من جاء مستترا إلى حرز فأخذ منه ما ليس له ".
ويفهم مما ذكره صاحب القاموس وابن عرفه، أن السرقة تنتظم أمورا ثلاثة: 1 - أخذ مال الغير.
2 - أن يكون هذا الاخذ على جهة الاختفاء والاستتار.
3 - أن يكون المال محرزا.
فلو لم يكن المال مملوكا للغير، أو كان الاخذ مجاهرة، أو كان المال غير محرز، فإن السرقة الموجبة لحد القطع لاتتحقق.
المختلس والمنتهب والخائن غير السارق: ولهذا لا يعتبر الخائن، ولا المنتهب، ولا المختلس، سارقا، ولا يجب على واحد منهم القطع، وإن وجب التعزير، فعن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس على خائن (2) ، ولا منتهب (3) ، ولا مختلس (4) قطع ".
رواه أصحاب السنن، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن حبان.
وعن محمد بن شهاب الزهري قال: " إن مروان بن الحكم أتي بإنسان قد اختلس متاعا فأراد قطع يده، فأرسل إلى زيد بن ثابت يسأله عن ذلك،
__________
(1) سورة الحجر الآية: 18 (2) الخائن: هومن يأخذ المال ويظهر النصح للمالك.
(3) المنتهب: هو الذي يأخذ المال غصبا مع المجاهرة والاعتماد على القوة.
(4) والمختلس: هو من يخطف المال جهرا ويهرب.

(2/487)


فقال زيد: ليس في الخلسة قطع ".
رواه مالك في الموطأ.
قال ابن القيم: وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم وترك قطع المختلس والمنتهب، والغاصب، فمن تمام حكمة الشارع أيضا، فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز بأكثر من ذلك، فلو لم يشرع قطعه لسرق الناس بعضهم بعضا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسراق، بخلاف المنتهب والمختلس فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه وغيره فلا يخلو من نوع تفريط يمكن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه.
وأيضا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حرز مثله غالبا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخليك وغفلتك عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبا، فهو كالمنتهب، وأما الغاصب فالامر منه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ كف عدوان هؤلاء بالضرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال.
جحد العارية:
ومما هو متردد بين أن يكون سرقة أو لا يكون جحد العارية، ومن ثم فقد اختلف الفقهاء في حكم ذلك، فقال الجمهور: لا يقطع من جحدها، لان القرآن والسنة أوجبا القطع على السارق، والجاحد للعارية ليس بسارق.
وذهب أحمد وإسحاق، وزفر، والخوارج، وأهل الظاهر، إلى
أنه يقطع، لما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
فأتى أهلها أسامة بن زيد رضي الله عنه فكلموه.
فكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

(2/488)


" يا أسامة، لاأراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل ".
ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا، فقال: " إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ". فقطع يد المخزومية.
وقد نَاصرَ ابن القيم هذا الرأي، واعتبر الجاحد للعارية سارقا بمقتضى الشرع.
قال في " زاد المعاد ": فإدخاله صلى الله عليه وسلم جاحد العارية في اسم السارق كإدخاله سائر أنواع المنكرات في الخمر، وذلك تعريف للامة بمراد الله من كلامه.
وفي الروضة الندية: ان الجاحد للعارية إذا لم يكن سارقا لغة فهو سارق شرعا، والشرع مقدم على اللغة.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: والحكمة والمصلحة ظاهرة جدا، فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بد لهم منها ولاغنى لهم عنها، وهي واجبة عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأجرة أو مجانا، ولا يمكن الغير كل وقت أن يشهد على العارية، ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعا وعادة
وعرفا، ولافرق في المعنى بين من توصل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها، وهذا بخلاف جاحد الوديعة، فإن صاحب المتاع فرط حيث ائتمنه.
النباش:
ومما يجري هذا المجرى من الخلاف: الخلاف في حكم النباش الذي يسرق أكفان الموتى، فذهب الجمهور إلى أن عقوبته قطع يده، لانه سارق حقيقة، والقبر حرز.
وذهب أبو حنيفة، ومحمد، والاوزاعي، والثوري، إلى أن عقوبته التعزير، لانه نباش، وليس سارقا، فلا يأخذ حكم السارق، ولانه أخذ مالا غير مملوك لاحد، لان الميت لا يملك، ولانه أخذ من غير حرز.

(2/489)


الصفات التي يجب اعتبارها في السرقة تبين من التعريف السابق أنه لابد من اعتبار صفات معينة في السارق.
والشئ المسروق، والموضع المسروق منه، حتى تتحقق السرقة التي يجب فيها الحد.
وفيما يلي بيان كل: الصفات التي يجب اعتبارها في السارق: أما الصفات التي يجب اعتبارها في السارق حتى يسمى سارقا، ويستوجب حد السرقة، فنذكرها فيما يلي:
1 - التكليف: بأن يكون السارق بالغا عاقلا، فلاحد على مجنون ولا صغير، إذا سرق، لانهما غير مكلفين، ولكن يؤدب الصغير إذا سرق.
ولا يشترط فيه الاسلام، فإذا سرق الذمي أو المرتد، فإنه يقطع (1) كما أن المسلم يقطع إذا سرق من الذمي.
2 - الاختيار: بأن يكون السارق مختارا في سرقته، فلو أكره على السرقة فلا يعد سارقا، لان الاكراه يسلبه الاختيار، وسلب الاختيار يسقط التكليف.
3 - ألا يكون للسارق في الشئ المسروق شبهة، فإن كانت له فيه شبهة فإنه لا يقطع، ولهذا لا يقطع الاب ولا الام بسرقة مال ابنهما لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " أنت ومالك لابيك ".
وكذلك لا يقطع الابن بسرقة مالهما، أو مال أحدهما، لان الابن يتبسط في مال أبيه وأمه عادة، والجد لا يقطع لانه أب سواء أكان من قبل الاب أو الام، ولا يقطع أحد من عمود النسب الاعلى والاسفل - أعني الآباء والاجداد - والابناء وأبناء الابناء.
وأما ذوو الارحام، فقد قال أبو حنيفة والثوري، لاقطع على أحد من ذوي الرحم المحرم، مثل العمة والخالة، والاخت، والعم، والخال، والاخ،
__________
(1) أما المعاهد والمستأمن: فإنهما لا يقطعان لو سرقا في أصح قولي الشافعية وعند أبي حنيفة وقال مالك وأحمد يقطعان.

(2/490)


لان القطع يفضي إلى قطيعة الرحم التي أمر الله بها أن توصل، ولان لهم الحق في دخول المنزل، وهو إذن من صاحبه يختل الحرز به (1) .
وقال مالك والشافعي، وأحمد وإسحق، رضي الله عنهم، يقطع من سرق من هؤلاء، لانتفاء الشبهة في المال.
ولا قطع على أحد الزوجين إذا سرق أحدهما الاخر، لشبهة الاختلاط وشبهة المال، فالاختلاط بينهما يمنع أن يكون الحذر كاملا، ويوجب الشبهة في المال.
وإذا لم يكن الحرز كاملا، وكانت الشبهة في المال يسقط القطع، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما في أحد قوليه وإحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه.
وقال مالك والثوري رضي الله عنهما، ورواية عن أحمد رضي الله عنه وأحد قولي الشافعي رضي الله عنه: إذا كان كل واحد منهما ينفرد ببيت فيه متاعه، فانه يقطع من سرق من مال صاحبه لوجود الحرز من جهة ولاستقلال كل واحد منهما من جهة أخرى.
ولا يقطع الخادم الذي يخدم سيده بنفسه (2) ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
قال: جاء رجل إلى عمر رضي الله عنه بغلام له.
فقال له: اقطع يده فإنه سرق مرآة لامرأتي.
فقال عمر رضي الله عنه: " لا قطع عليه، وهو خادمكم أخذ متاعكم ".
وهذا مذهب عمر، وابن مسعود.
ولا مخالف لهما من الصحابة.
ولا يقطع من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، لما روي، أن عاملا لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من بيت المال فقال: " لا تقطعه فما من أحد إلا وله فيه حق ".
وروى الشعبي: أن رجلا سرق من بيت المال، فبلغ عليا فقال كرم الله وجهه: إن له فيه سهما، ولم يقطعه.
فقول عمر وقول علي فيهما بيان
__________
(1) فيكون مثله مثل الضعيف الذي أذن له بالدخول فإنه لا يقطع إذا سرق.
(2) اشترط هذا الشرط مالك، وأما الشافعي فمرة اشترطه.
ومرة لم يشترطه.

(2/491)


سبب عدم القطع على من سرق من بيت المال، لان ذلك يورث شبهة تمنع إقامة الحد.
قال ابن قدامة: كما لو سرق من مال له شركة فيه.
ومن سرق من الغنيمة من له فيها حق (1) ، أو لولده أو لسيده، وهذا مذهب جمهور العلماء (2) وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن عبدا من رقيق الخمس (3) سرق من الخمس فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه.
وقال: " مال الله سرق بعضه بعضا ".
ولا يقطع من سرق من المدين الماطل في السداد، أو الجاحد للدين، لان ذلك استرداد لدينه، إلا إذا كان المدين مقرا بالدين وقادرا على السداد، فإن الدائن يقطع إذا سرق من المدين لانه لا شبهة له في سرقته، ولا قطع في سرقة العارية من يد المستعير لان يد المستعير يد أمانه، وليست يد مالك.
ومن غصب مالا وسرقه وأحرزه فسرقه منه سارق، فقال الشافعي وأحمد: لا يقطع، لانه حرز لم يرضه مالكه، وقال مالك: يقطع، لانه سرق مالا شبهة له فيه من حرز مثله.
وإذا وقعت أزمة بالناس، وسرق أحد الافراد طعاما فإن كان الطعام موجودا قطع، لانه غير محتاج إلى سرقته، وإن كان معدوما لم يقطع، لان له الحق في أخذه لحاجته إليه، وقد قال عمر رضي الله عنه: " لا قطع في عام المجاعة "، وروى مالك في الموطأ " أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها.
فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: أراك تجيعهم.
ثم قال: والله لاغر منك غرما يشق عليك.
ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم.
فقال عمر: أعطه ثمانمائة درهم.
__________
(1) فإذا لم يكن له فيها حق فإنه يقطع باتفاق العلماء.
(2) وذهب مالك إلى القطع عملا بظاهر الاية.
وهو عام غير مخصص.
(3) رقيق الخمس: أي الرقيق المأخوذ من الغنائم.
سرق من الخمس أي خمس الغنائم.

(2/492)


ويروي ابن وهب أن عمر بن الخطاب، بعد أن أمر كثير بن الصلت بقطع أيدي الذين سرقوا، أرسل وراءه من يأتيه بهم، فجاء بهم، فقال لعبد الرحمن بن حاطب: " أما لولا أني أظنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو وجدوا ما حرم الله لاكلوه لقطعتهم، ولكن والله إذ تركتهم لاغر منك غرامة توجعك ".
الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق: وأما الصفات التي يجب اعتبارها في المال المسروق فهي: (أولا) أن يكون مما يتمول ويملك ويحل بيعه وأخذ العوض عنه، فلا قطع على من سرق الخمر والخنزير حتى لو كان المالك لهما ذميا لان الله حرم ملكيتهما والانتفاع بهما بالنسبة للمسلم والذمي على السواء (1) .
وكذلك لا قطع على سارق أدوات اللهو مثل: العود، والكمنج، والمزمار، لانها آلات لا يجوز استعمالها عند كثير من أهل العلم، فهي ليست مما يتمول ويتملك ويحل بيعه، وأما الذين يبيحون استعمالها فيهم يتفقون مع من يحرمها في عدم قطع يد سارقها لوجود شبهة، والشبهات مسقطة للحدود.
واختلف العلماء في سرقة الحر الصغير غير المميز.
فقال أبو حنيفة والشافعي: لا قطع على من سرقه لانه ليس بمال ويعزر وإن كان عليه حلي أو ثياب فلا يقطع أيضا، لان ما عليه من الحلي تبع له
وليست مقصودة بالاخذ (2) .
وقال مالك: في سرقته القطع، لانه من أعظم المال ولم يقطع السارق في المال لعينه، وإنما قطع لتعلق النفوس به، وتعلقها بالحر أكثر من تعلقها بالعبد.
وسارق العبد الصغير غير المميز يقطع، لانه مال متقوم، وأما المميز فإنه لا يحد سارقه، لانه وإن كان مالا يباع ويشترى فإن له سلطانا على نفسه فلا يعد محرزا.
__________
(1) يرى أبو حنيفة أنه يباح للذمي الخمر والخنزير وأن على متلفهما ضمان القيمة، ولكنه يتفق مع الفقهاء في عدم قطع من سرقهما لعدم كمال المالية الذي هو شرط الحد.
(2) قال أبو يوسف: يقطع إذا كان الحلي قدر النصاب لانه إذا سرق الحلي وحده أو الثياب وحدها فإنه يقطع فيهما فكذا لو سرقها مع غيرها.

(2/493)


وأما ما يجوز تملكه ولا يجوز بيعه، كالكلب المأذون في بيعه، ولحوم الضحايا، فقال أشهب، من المالكية: يقطع سارق الكلب المأذون باتخاذه (1) ، ولا يقطع في كلب غير مأذون باتخاذه.
وقال أصبغ من المالكية في لحوم الضحايا: إن سرق الاضحية قبل الذبح قطع، وإن سرقها بعد الذبح فلا قطع.
وأما سرقة الماء، والثلج، والكلا، والملح، والتراب، فقد قال صاحب المغني.
" وإن سرق ماء فلا قطع فيه.
قاله أبو بكر وأبو إسحاق لانه مما لا يتمول عادة ولا أعلم في هذا خلافا.
وإن سرق كلا أو ملحا، فقال أبو بكر: لا قطع فيه لانه مما ورد الشرع باشتراك الناس فيه، فأشبه الماء.
وقال أبو إسحاق بن شاملا: فيه القطع، لانه يتمول عادة فأشبه التين والشعير.
وأما الثلج فقال القاضي: هو كالماء لانه ماء جامد فأشبه الجليد، والاشبه أنه كالملح لانه يتحول عادة فهو كالملح المنعقد من الماء.
وأما التراب فإن كان مما تقل الرغبات فيه كالذي يعد للتطيين والبناء فلا قطع فيه، لانه لا يتمول، وإن كان مما له قيمة كثيرة كالطين الارمني الذي يعد للدواء أو المعد للغسيل به، أو الصبغ كالمغرة احتمل وجهين:
1 - أحدهما لا قطع فيه لانه من جنس مالا يتمول فأشبه الماء.
2 - فيه القطع، لانه يتمول عادة، ويحمل إلى البلدان للتجارة فأشبه العود الهندي (2) . وأما سرقة المباح الاصل كالاسماك والطيور (3) . فإنه لا قطع على من سرقها ما لم تحرز فإذا أحرزت فقد اختلف فيها الفقهاء.
فمذهب المالكية، والشافعية يرى قطع سارقها لانه سرق مالا متقوما من حرز.
__________
(1) الكلب المأذون باتخاذه هو كلب الحراسة والزراعة وكلب الصيد.
(2) ج 10 ص 247 " المغني ".
(3) الاسماك بكل أنواعها ولو كانت مملحة، والطير بكل أنواعه، ويدخل فيه الدجاج والحمام والبط.

(2/494)


وذهب الاحناف والحنابلة إلى عدم القطع لما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الصيد لمن أخذه ".
فهذا الحديث يورث شبهة يندرئ بها الحد.
وقال عبد الله بن يسار: أتي عمر بن عبد العزيز برجل سرق دجاجة، فأراد أن يقطعه، فقال له سالم بن عبد الرحمن: " قال عثمان رضي الله عنه: لا قطع في الطير " وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز استفتى السائب بن يزيد فقال: ما رأيت أحدا قطع في الطير، وما عليه في ذلك قطع، فتركه عمر.
وقال بعض الفقهاء: الطير المعتبر مباحا هو الذي يكون صيدا سوى الدجاج والبط فيجب في سرقتها القطع لانه بمعنى الاهلي.
وقال أبو حنيفة: لا يقطع في سرقة الطعام الرطب كاللبن واللحم والفواكه الرطبة ولا في سرقة الحشيش والحطب، ولا فيما يسرع إليه الفساد، وإن بلغت قيمة المسروق منه نصاب السرقة، لان هذه الاشياء غير مرغوب فيها، ولا يشح مالكها عادة فلا حاجة إلى الزجر بالنسبة لها، والحرز فيها ناقص، ولقوله صلى الله عليه وسلم " لا قطع في تمر ولا كثر " ولان فيه شبهة المالكية، لوجود الشركة العامة، لقول الرسول: " الناس شركاء في ثلاثة: الماء، والكلا، والنار " ومما اختلف الفقهاء فيه سرقة المصحف، فقال أبو حنيفة لا يقطع من سرقة.
لانه ليس بمال، ولان لكل واحد فيه حقا.
وقال مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة وابن المنذر: يقطع سارق المصحف إذا بلغت قيمته النصاب الذي تقطع فيه اليد.
(ثانيا) والشرط الثاني الذي يجب توافره في المال المسروق أن يبلغ الشئ المسروق نصابا، لانه لا بد من شئ يجعل ضابطا لاقامة الحد، ولا بد وأن يكون له قيمة يلحق الناس ضرر بفقدها، فإن من عادتهم التسامح في الشئ الحقير من الاموال، ولهذا لم يكن السلف يقطعون في الشئ التافه.
وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا النصاب، فذهب جمهور العلماء إلى أن القطع لا يكون

(2/495)


إلا في سرقة ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، أو ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم.
وفي التقدير بهذا حكمة ظاهرة، فإن فيها كفاية المقتصد في يوم، له ولمن يمونه غالبا، وقوت الرجل وأهله مدة يوم، له خطره عند غالب الناس لما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن الرسول صلى الله عليه وسلم " كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " وفي رواية مرفوعا " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا ". رواه أحمد ومسلم وابن ماجه.
وفي رواية أخرى للنسائي مرفوعا: " لا تقطع اليد فيما دون ثمن المجن (1) ".
قيل لعائشة: ما ثمن المجن؟ قالت: ربع دينار.
ويؤيده حديث ابن عمر في الصحيحين " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم " وفي رواية: " قيمته ثلاثة دراهم ".
ومذهب الاحناف أن النصاب الموجب للقطع عشرة دراهم ولا قطع في أقل منها.
واستدلوا بما رواه البيهقي والطحاوي والنسائي عن ابن عباس وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في تقدير ثمن المجن بعشرة دراهم.
وذهب الحسن البصري وداود الظاهري، إلى أنه يثبت القطع بالقليل والكثير عملا بإطلاق الاية، ولما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الجمل فتقطع يده " وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن الاعمش راوي هذا الحديث فسر البيضة ببيضة الحديد التي تلبس للحرب، وهي كالمجن، وقد يكون ثمنها أكثر من ثمنه (2) .
والجمل كانوا يرون أن منه ما يساوي دراهم.
وربع الدينار كان يصرف بثلاثة دراهم وفي الروضة الندية قال الشافعي:
__________
(1) المجن: الترس يتقى به في الحرب.
(2) وقيل: هو إخبار بالواقع: أي أنه يسرق هذا فيكون سببا لقطع يده بتدرجه منه إلى ما هو أكبر منه.

(2/496)


" وربع الدينار موافق لرواية ثلاثة دراهم " وذلك أن الصرف على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اثنى عشر درهما بدينار.
وهو موافق لما في تقدير الديات من الذهب بألف دينار.
ومن الفضة باثنى عشر ألف درهم.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن النصاب الموجب للقطع هو عشرة دراهم أو دينار، أو قيمة أحدهما من العروض.
ولا قطع فيما هو أقل من ذلك، لان ثمن المجن كان يقوم على عهد الرسول بعشرة دراهم، كما رواه عمرو بن شعيب عن ابنه عن جده.
وروي عن ابن عباس وغيره هذا التقدير.
قالوا: وتقدير ثمن المجن تبعا لهذا التقدير أحوط.
والحدود تدفع بالشبهات.
والاخذ به كأنه شبهة في العمل بما دونها.
والحق أن اعتبار ثمن المجن عشرة دراهم معارض بما هو أصح منه كما تقدم في الروايات الاخرى الصحيحة.
وقال مالك وأحمد في أظهر الروايات عنه: نصاب السرقة ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ثلاثة دراهم من العروض.
والتقويم بالدراهم خاصة.
والاثمان أصول لا يقوم بعضها ببعض.
وقد اعترض على القطع اليد في ربع دينار مع أن ديتها خمسمائة دينار، فقال أحد الشعراء: يد بخمس مئين عسجد وديت - ما بالها قطعت في ربع دينار؟ تناقض مالنا إلا السكوت له - ونستجير بمولانا من العار وهذا المعترض قد خانه التوفيق فإنه الاسلام قد قطعها في هذا القدر حفظا للمال، وجعل ديتها خمسمائة حفظا لها.
فقد كانت ثمينة حين كانت أمينة فلما خانت هانت ولهذا قيل: يد بخمس مئين عسجد وديت - لكنها قطعت في ربع دينار حماية الدم أغلاها، وأرخصها - خيانة المال فانظر حكمة الباري

(2/497)


متى يقدر المسروق:
وتعتبر قيمة المسروق وتقديره يوم السرقة عند مالك.
والشافعية، والحنابلة.
وقال أبو حنيفة: يقدر المسروق يوم الحكم عليه بالقطع.
سرقة الجماعة:
إذا سرقت الجماعة قدرا من المال بحيث لو قسم بينهم لكان نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه القطع فإنهم يقطعون جميعا باتفاق الفقهاء.
أما إذا كان هذا القدر من المال يبلغ نصابا، ولكنه لو قسم بين السارقين لا يبلغ نصيب كل واحد منهم ما يجب فيه القطع فإنهم اختلفوا في ذلك.
فقال جمهور الفقهاء: يجب أن يقطعوا جميعا.
وقال أبو حنيفة: لا قطع حتى يكون ما يأخذه كل واحد منهم نصابا.
قال ابن رشد: فمن قطع الجميع رأي العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق
أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال، ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشارع فيه القطع.
ما يعتبر في الموضع المسروق منه: وأما الموضع المسروق منه فإنه يعتبر فيه الحرز.
والحرز هو الموضع المعد لحفظ الشئ، مثل الدار والد كان والاصطبل والمراح، والجرين، ونحو ذلك.
ولم يرد فيه ضابط من جهة الشرع ولا من جهة اللغة وإنما يرجع فيه إلى العرف، واعتبر الشرع للحرز لانه دليل على عناية صاحب المال به وصيانته له والمحافظة عليه من التعرض للضياع، ودليل ذلك ما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سأله رجل عن الحريسة (1) التي توجد في مراتعها، قال: فيها ثمنها مرتين وضرب نكال، وما أخذ من عطنه (2) ففيه القطع إذا
__________
(1) الحريسة: هي التي ترعى في الحقل وعليها حرس.
(2) العطن: الحظيرة.

(2/498)


بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن (1) قال: يارسول الله فالثوب وما أخذ منها في أكمامها قال: " من أخذ بفيه ولم يتخذ خبنة (2) فليس عليه شئ، ومن احتمل فعليه ثمنه مرتين وضرب نكال، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن ".
رواه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وحسنه الترمذي.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا قطع في تمر معلق ولا في حريسة الجبل، فإذا أواه المراح أو الجرين (3) .
فالقطع فيما بلغ ثمن المجن ".
ففي هذين الحديثين اعتبار الحرز.
قال ابن القيم: فإنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الثمار من الشجرة وأوجبه على سارقه من الجرين.
وعند أبي حنيفة رحمه الله أن هذا لنقصان ماليته لاسراع الفساد إليه، وجعل هذا أصلا في كل ما نقصت ماليته بإسراع الفساد إليه إليه وقول الجمهور أصح، فإنه صلى الله عليه وسلم جعل له ثلاثة أحوال: حالة لا شئ فيها، وهي ما إذا أكل منه بفيه وحالة يغرم مثليه ويضرب من غير قطع، وهي ما إذا أخرجه من شجره وأخذه، وحالة يقطع فيها، وهو ما إذا سرقه من بيدره، سواء كان انتهى جفافه أم لم ينته، فالعبرة بالمكان والحرز لا بيبسه ورطوبته، ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم أسقط القطع عن سارق الشاة من مرعاها، وأوجبه على سارقها من عطنها فإنه حرز. انتهى.
وإلى اعتبار الحرز ذهب جمهور الفقهاء.
وخالف في ذلك جماعة من الفقهاء ولم يشترطوا الحرز في القطع منهم: أحمد وإسحاق وزفر، والظاهرية، لان آية " والسارق والسارقة " عامة وأحاديث عمرو بن شعيب لا يصلح لتخصيصها للاختلاف الواقع فيها.
__________
(1) أوجب القطع على من سرق الشاة من عطنها، وهو حرزها، وأسقطه عمن سرقها من مرعاها.
وفي هذا دليل على اعتبار الحرز.
(2) أي لم يأخذ شيئا من المسروق في طرف ثوبه.
(3) الجرين: موضع تحفيظ الثمار.

(2/499)


ورد ذلك ابن عبد البر فقال: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب
إذا رواها الثقات.
اختلاف الحرز باختلاف الاموال: والحرز مختلف باختلاف الاموال، ومرجع ذلك إلى العرف فقد يكون الشئ حرزا في وقت دون وقت.
فالدار حرز لما فيها من أثاث، والجرين حرز للثمار، والاصطبل حرز للدواب، والمراح للغنم، وهكذا.
الانسان حرز لنفسه: والانسان حرز لثيابه ولفراشه الذي هو نائم عليه سواء كان في المسجد أم في خارجه.
فمن جلس في الطريق ومعه متاعه فإنه يكون محرزا به، سواء أكان مستيقظا أم نائما.
فمن سرق من إنسان نقوده أو متاعه قطع بمجرد الاخذ لزوال يد المالك عنه.
واشترط الفقهاء في النائم أن يكون المسروق تحت جنبه أو تحت رأسه واستدلوا بما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجاه والنسائي والحاكم عن صفوان ابن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي فسرقت، فأخذنا السارق فرفعناه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بقطعه، فقلت: يارسول الله أفي خميصة، ثمن ثلاثين درهما.
أنا أهبها له؟.
قال: " فهلا كان قبل أن تأتيني ".
" أي فهلا عفوت عنه ووهبت له قبل أن تأتيني ".
وفي هذا الحديث دليل على أن المطالبة بالمسروق شرط في القطع (1) ، فلو وهبه المسروق منه إياه، أو باعه قبل رفعه إلى الحاكم سقط عن السارق.
كما صرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: " هلا كان قبل أن
تأتيني به!؟ ".
__________
(1) سيأتي مزيد بيان لهذه المسألة.

(2/500)


الطرار:
واختلفوا في الطرار (1) .
فقالت طائفة: يقطع مطلقا سواء أوضع يده داخل الكم وأخرج المال أو شق الكم فسقط المال فأخذه.
وهو قول مالك، والاوزاعي وأبي ثور، ويعقوب، والحسن، وابن المنذر.
وقال أبو حنيفة، ومحمد بن الحسن، وإسحق: إن كانت الدراهم مصرورة في ظاهر كمه فطرها فسرقها لم يقطع، وإن كانت مصرورة إلى داخل الكم فأدخل يده فسرقها قطع.
المسجد حرز:
والمسجد حرز لما يعتاد وضعه فيه من البسط والحصر والقناديل والنجف.
وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم سارقا سرق ترسا كان في صفة النساء في المسجد ثمنه ثلاثة دراهم.
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي.
وكذلك إذا سرق باب المسجد أو ما يزين به مما له قيمة، لانه مال محرز لا شبهة فيه.
وخالف الشافعية في قناديل المسجد وحصرها، فمن سرقها لا يقطع، لان ذلك جعل لمنفعة المسلمين، وللسارق فيها حق.
اللهم إلا إذا كان السارق ذميا فإنه يقطع، لانه لا حق له فيها.
السرقة من الدار:
اتفق الفقهاء على أن الدار لا تكون حرزا إلا إذا كان بابها مغلقا.
كما اتفقوا على أن من سرق من دار غير مشتركة في السكنى لا يقطع حتى يخرج من الدار.
واختلفوا في مسائل من ذلك ذكرها صاحب كتاب الافصاح عن معاني الصحاح فقال:
__________
(1) الطرار هو الذي يشق كم الرجل ويأخذ ما فيه. مأخوذ من الطر وهو الشقي (وهو ما بسمى بالنشال) .

(2/501)


واختلفوا فيما إذا اشترك اثنان في نقب دار فدخل أحدهما فأخذ المتاع وناوله الاخر وهو خارج الحرز وهكذا إذا رمى به إليه فأخذه.
فقال مالك والشافعي وأحمد: القطع على الداخل دون الخارج.
وقال أبو حنيفة: لا يقطع منهما أحد.
واختلفوا فيما إذا اشترك جماعة في نقب ودخلوا الحرز وأخرج بعضهم نصابا ولم يخرج الباقون شيئا ولم يكن منهم معاونة في إخراجه.
فقال أبو حنيفة وأحمد: يجب القطع على جماعتهم.
وقال مالك والشافعي: لا يقطع إلا الذين أخرجوا المتاع واختلفوا فيما إذا قرب الداخل المتاع إلى النقب وتركه فأدخل الخارج يده فأخرجه من الحرز.
فقال أبو حنيفة: لا قطع عليهما.
وقال مالك: يقطع الذي أخرجه قولا واحدا وفي الداخل الذي قربه خلاف بين أصحابه على قولين.
وقال الشافعي: القطع على الذي أخرجه خاصة.
وقال أحمد: عليهما القطع جميعا.
وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب قال: " وإن نقب رجلان حرزا فأخذ أحدهما المال ووضعه على بعض النقب وأخذه الاخر ففيه قولان: أحدهما أنه يجب عليهما القطع لانا لو لم نوجب عليهما القطع صار هذا طريقا إلى إسقاط القطع، والثاني: أنه لا يقطع واحد منهما كقول أبي حنيفة وهو الصحيح، لان كل واحد منهما لم يخرج المال من الحرز.
وإن نقب أحدهما الحرز ودخل الاخر وأخرج المال ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: فيه قولان كالمسألة قبلها ومنهم من قال: لا يجب القطع قولا واحدا لان أحدهما نقب ولم يخرج المال والاخر أخرج من غير حرز ".
بم يثبت الحد؟ وهل يتوقف على طلب المسروق منه؟: لا يقام الحد إلا إذا طالب المسروق منه بإقامته (1) لان مخاصمته المجني عليه
__________
(1) هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في أظهر روايتيه وأصحاب الشافعي وقال مالك: لا يفتقر إلى المطالبة.

(2/502)


ومطالبته بالمسروق شرط ويثبت الحد بشهادة عدلين أو بالاقرار ويكفي فيه مرة واحدة عند مالك والشافعية والاحناف لان النبي صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق المجن وسارق رداء صفوان، ولم ينقل أنه أمره بتكرار الاقرار.
وما وقع من التكرار في بعض الحالات فهو من باب التثبت.
ويرى أحمد وإسحاق وابن أبي ليلى أنه لا بد من تكراره مرتين.
دعوى السارق الملكية: وإذا ادعى السارق أن ما أخذه من الحرز ملكه بعد قيام البينة عليه بأنه سرق من الحرز نصابا فقال مالك: يجب عليه القطع بكل حال ولا يقبل دعواه وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقطع وسماه الشافعي: " السارق الظريف "
تلقين السارق ما يسقط الحد: ويندب للقاضي أن يلقن السارق ما يسقط الحد، لما رواه أبو أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف، ولم يوجد معه متاع.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما إخالك سرقت (1) ؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا.
رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، ورجاله ثقات.
وقال عطاء: كان من قضى (2) يؤتى إليهم بالسارق، فيقول: أسرقت؟ قل: لا.
وسمى (3) أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وعن أبي الدرداء.
أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقت؟ قولي: لا.
فقالت: لا. فخلى سبيلها.
وعن عمر أنه أتي برجل سرق فسأله " أسرقت؟ قل: لا.
فقال: لا " فتركه.
عقوبة السرقة:
إذا ثبتت جريمة السرقة وجب إقامة الحد على السارق فتقطع يده اليمنى
__________
(1) إخالك: أي أظنك.
(2) من قضى: أي من تولى القضاء.
(3) أي ذكر أن أبا بكر وعمر كانا يفعلان ذلك حينما توليا القضاء.

(2/503)


من مفصل الكف وهو الكوع (1) لقوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " ولا يجوز العفو عنها من أحد لا من المجني عليه ولا من الحاكم، كما لا يجوز أن تستبدل بها عقوبة أخرى أخف منها أو تأخير تنفيذها أو تعطيلها، خلافا للشيعة الذين يرون أن القطع يسقط عن السارق بعفو المجني عليه في السرقة وكذلك يرون أن للامام مع وجوب إقامة الحد أن يسقط
العقوبة عن بعض الناس لمصلحة، وله تأخيرها عن بعضهم لمصلحة، وهذا مخالف لجماعة أهل السنة الذين يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " تجافوا العقوبة بينكم، فإذا انتهي بها إلى الامام فلا عفا الله عنه إن عفا ".
فإذا سرق ثانيا تقطع رجله، ثم إن الفقهاء اختلفوا فيما إذا سرق ثالثا بعد قطع يده ورجله.
فقال أبو حنيفة: يعزر ويحبس.
وقال الشافعي وغيره: تقطع يده اليسرى، ثم إذا عاد إلى السرقة تقطع رجله اليمنى ثم إذا سرق يعزر ويحبس.
حسم يد السارق إذا قطعت: وتحسم يد السارق بعد القطع، فتكوى بالنار، أو تتخذ أي طريقة من الطرق حتى ينقطع الدم فلا يتعرض المقطوع للتلف والهلاك.
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقالوا: يارسول الله، إن هذا قد سرق: فقال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) كان القطع معمولا به في الجاهلية فأقره الاسلام مع زيادة شروط أخرى: ويقال إن أول من قطع الايدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له دويك مولى لبني مليح بن عمرو بن خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده قال القرطبي: وقد قطع السارق في الجاهلية وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة فأمر الله بقطعه في الاسلام، وكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاسلام من الرجال الخيار ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف ومن النساء مرة بنت سمعان بن عبد الاسد من بني مخزوم وقطع أبو بكر اليمني الذي سرق العقد وهو رجل من أهل اليمن أقطع اليد والرجل وقد كان سرق عقدا لاسماء بنت عميس زوج أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقطع يده اليسرى.
وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة.

(2/504)


وسلم: " ما أخاله سرق (1) "، فقال السارق: بلى يارسول الله.
فقال: " اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه (2) ، ثم ائتوني به "، فقطع فأتي به.
فقال: تب إلى الله.
قال: قد تبت إلى الله.
فقال: " تاب الله عليك ".
رواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وصححه ابن القطان.
تعليق يد السارق في عنقه: ومن التنكيل بالسارق والزجر لغيره، أمر الشارع بتعليق يد السارق المقطوعة في عنقه.
روى أبو داود والنسائي والترمذي: وقال " حسن (3) غريب، عن عبد الله بن محيريز قال: سألت فضالة عن تعليق يد السارق في عنقه: أمن السنة هو؟ فقال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطعت يده، ثم أمر بها فعلقت في عنقه.
اجتماع الضمان والحد: إذا كان المسروق قائما رد إلى صاحبه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
فإذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله، وقطع ولا يمنع أحدهما الاخر، لان الضمان الحق الادمي، والقطع يجب لله تعالى، فلا يمنع أحدهما الاخر كالدية والكفارة.
وقال أبو حنيفة: إذا تلف المسروق فلا يغرم السارق لانه لا يجتمع الغرم مع القطع بحال لان الله ذكر القطع ولم يذكر الغرم.
وقال مالك وأصحابه: إن تلف، فإن كان موسرا غرم، وإن كان معسرا لم يكن عليه شئ.
__________
(1) في هذا إيحاء للسارق بعدم الاقرار وبالرجوع عنه.
(2) في هذا دليل على أن نفقة الحسم ومؤنته ليست على السارق وإنما هي في بيت المال.
(3) في إسناده الحجاج بن أرطأة قال النسائي: هو ضعيف لا يحتج بحديثه.

(2/505)