فقه
السنة الجنايات:
الجنايات جمع جناية، مأخوذة من جني يجني
بمعنى أخذ، يقال، جنى الثمر إذا أخذه من الشجر.
ويقال أيضا جنى على قومه جناية، أي أذنب ذنبا يؤاخذ به.
والمراد بالجناية في عرف الشرع: كل فعل محرم.
والفعل المحرم: كل فعل حظره الشارع ومنع منه، لما فيه من ضرر واقع على
الدين، أو النفس، أو العقل، أو العرض، أو المال.
وقد اصطلح الفقهاء على تقسيم هذه الجرائم إلى قسمين.
(القسم الاول) ويسمى بجرائم الحدود.
(والقسم الثاني) ويسمى بجرائم القصاص.
وهي الجنايات التي تقع على النفس أو على ما دونها من جرح أو قطع عضو، وهذه
هي أصول المصالح الضرورية التي يجب المحافظة عليها صيانة للناس وحفاظا على
حياتهم الاجتماعية.
وقد تقدم الكلام على جرائم الحدود وعقوباتها وبقي أن نتكلم على جرائم
القصاص.
ونبدأ بتمهيد في وجهة الاسلام في المحافظة على الاسلام متبعين ذلك بالكلام
عن القصاص بين الجاهلية والاسلام، ثم الكلام عن القصاص في النفس والقصاص
فيما دونها.
وأما الجنايات في القانون فهي أخطر الجرائم، وقد حددتها المادة 10 من قانون
العقوبات بأنها الجرائم المعاقب عليها بالاعدام، أو الاشغال الشاقة
المؤبدة، أو الاشغال الشاقة المؤقتة، أو السجن.
(2/506)
المحافظة على النفس
كرامة الانسان:
ان الله سبحانه كرم الانسان: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له
ملائكته، وسخر له ما في السموات وما في الارض جميعا منه، وجعله خليفة عنه،
وزوده بالقوى والمواهب ليسود الارض، وليصل إلى أقصى ما قدر له من كمال مادي
واترقاء روحي.
ولا يمكن أن يحقق الانسان أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا توفرت له جميع
عناصر النمو، وأخذ حقوقه كاملة.
وفي طليعة هذه الحقوق التي ضمنها الاسلام: حق الحياة، وحق التملك، وحق
صيانة العرض، وحق الحرية، وحق المساواة، وحق التعلم.
قال الله تعالى: وهذه الحقوق، واجبة للانسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن
لونه، أو دينه، أو جنسه، أو وطنه، أو مركزه الاجتماعي.
" ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات،
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " (1) .
وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال:
" أيها الناس، ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم
هذا، في بلدكم هذا.
ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله، وعرضه ".
حق الحياة: وأول هذه الحقوق وأولاها بالعناية حق الحياة، وهو حق مقدس لا
يحل انتهاك حرمته ولا استباحة حماه.
يقول الله سبحانه: " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " (2)
__________
(1) سورة الاسراء: آية 70.
(2) سورة الاسراء: الاية 33.
(2/507)
والحق الذي تزهق به النفوس.
هو ما فسره الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله عن ابن مسعود رضي الله عنه:
" لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى
ثلاث، الثيب (1) الزاني، والنفس بالنفس (2) ، والتارك لدينه المفارق
للجماعة (3) ".
رواه البخاري ومسلم.
ويقول الله سبحانه وتعالى: " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم
وإياكم، إن قتلهم كان خطأ كبيرا ".
(4) ويقول سبحانه: " وإذا الموءودة سئلت، بأي ذنب قتلت " (5) .
والله سبحانه جعل عذاب من سن القتل عذابا لم يجعله لاحد من خلقه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم: " ليس من نفس تقتل ظلما إلا كان
على ابن آدم كفل من دمها، لانه كان أول من سن القتل " (6) . رواه البخاري
ومسلم.
ومن حرص الاسلام على حماية النفوس أنه هدد من يستحلها بأشد عقوبة.
فيقول الله تعالى: " ومن يقتل مؤمنا متعمدا، فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب
الله عليه، ولعنه وأعد له عذابا عظيما " (7) .
فبهذه الآية تقرر أن عقوبة القاتل في الآخرة العذاب الاليم، والخلود المقيم
__________
(1) الثيب الزاني: المتزوج.
(2) النفس بالنفس: أي فقتل النفس التي قتلت نفسا عمدا بغير حق بقتل النفس.
(3) التارك لدينه المفارق للجماعة: أي المرتد عن دين الاسلام.
(4) سورة الاسراء، الآية: 31.
(5) سورة التكوير: الآيتان 8، 9.
(6) هو قابيل الذي قتل هابيل.
والكفل: النصيب.
قال النووي: هذا الحديث من قواعد الاسلام، وهو أن كل من ابتدع شيئا من الشر
كان عليه وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل، مثل عمله يوم القيامة.
(7) سورة النساء: الآية 93.
(2/508)
في جهنم، والغضب واللعنة والعذاب العظيم.
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: " لا توبة لقاتل مؤمن عمدا ".
لانها آخر ما نزل، ولم ينسخها شئ، وإن كان الجمهور على خلافه.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ".
رواه ابن ماجه بسند حسن عن البراء.
وروى الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: " لو أن أهل السماء وأهل الارض اشتركوا في دم مؤمن، لاكبهم
الله في النار ".
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة، كتب بين عينيه يوم القيامة:
آيس من رحمة الله ".
ذلك أن القتل هدم لبناء أراده الله، وسلب لحياة المجني عليه، واعتداء على
عصبته الذين يعتزون بوجوده، وينتفعون به، ويحرمون بفقده العون، ويستوي في
التحريم قتل المسلم والذمي وقاتل نفسه.
ففي قتل الذمي جاءت الاحاديث مصرحة بوجوب النار لمن قتله.
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: " من قتل معاهدا (1) ، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها
بوجد من مسيرة أربعين عاما " (2) .
وأما قاتل نفسه فالله سبحانه وتعالى يحذر من ذلك فيقول:
__________
(1) المعاهد: من له عهد مع المسلمين - إما بأمان من مسلم - أو هدنة من حاكم
- أو عقد جزية.
(2) وعدم وجدان رائحتها يستلزم عدم دخولها.
قال الحافظ في الفتح: إن المراد بهذا النفي - وإن كان عاما - التخصيص بزمان
ما، لتعاضد الادلة الفعلية والنقلية: أي من مات
مسلما، وكان من أهل الكبائر فهو محكوم بإسلامه غير مخلد في النار، ومآله
الجنة ولو عذب قبل ذلك.
انتهى.
(2/509)
" ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " (1) .
ويقول: " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " (2) .
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قال: " من تردى (3) من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها
خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار
جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ (4)
بها في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ".
وروى البخاري عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار.
والذي يقتحم (5) يقتحم في النار ".
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان فيمن
قبلكم رجل به جرح، فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات (6)
قال الله تعالى: " بادرني عبدي بنفسه: حرمت عليه الجنة ". رواه البخاري.
وثبت في الحديث " من قتل نفسه بشئ عذب به يوم القيامة ".
ومن أبلغ ما يتصور في التشنيع على القتلة بالاضافة إلى ما سبق أن الاسلام
اعتبر القاتل لفرد من الافراد كالقاتل للافراد جميعا، وهذا أبلغ ما يتصور
من التشنيع على ارتكاب هذه الجريمة النكراء.
يقول سبحانه: " أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل
الناس
__________
(1) سورة البقرة: الآية 195.
(2) سورة النساء: الآية 29.
(3) التردي: السقوط.
أي أسقط نفسه متعمدا مثلا.
(4) يتوجأ: يضرب بها نفسه.
(5) يقتحم: يرمي نفسه.
(6) أي ما انقطع حتى مات.
(2/510)
جميعا. ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا
" (1) .
ولعظم أمر الدماء وشدة خطورتها، كانت هي أول ما يقضى فيها بين الناس يوم
القيامة (2) كما رواه مسلم.
وقد شرع الله سبحانه القصاص واعدام القاتل انتقاما منه، وزجرا لغيره،
وتطهيرا للمجتمع من الجرائم التي يضطرب فيها النظام العام، ويختل معها
الامن.
فقال: " ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب، لعلكم تتقون " (3) .
وهذه العقوبة مقررة في جميع الشرائع الالهية المتقدمة.
ففي الشريعة الموسوية جاء بالفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج: " أن من
ضرب إنسانا فمات فليقتل قتلا، وإذا بغى رجل على آخر فقتله اغتيالا فمن قدام
مذبحي تأخذه ليقتل، ومن ضرب أباه وأمه يقتل قتلا، وإن حصلت أذية فأعط نفسا
بنفس، وعينا بعين، وسنا بسن، ويدا بيد، ورجلا برجل، وجرحا بجرح، ورضا برض "
وفي الشريعة المسيحية يرى البعض أن قتل القاتل لم يكن من مبادئها مستدلين
على ذلك بما ورد بالاصحاح الخامس من إنجيل متى من قول عيسى عليه السلام: "
لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الايمن فحول له خدك الآخر أيضا.
ومن رأى أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا
فاذهب معه اثنين.
ويرى البعض الآخر أن الشريعة المسيحية عرفت عقوبة الاعدام مستدلا على ذلك
بما قاله عيسى عليه السلام: " ما جئت لانقض الناموس، وإنما جئت لاتمم ".
وقد تأيد هذا النظر بما ورد في القرآن الكريم:
__________
(1) سورة المائدة: الآية 32.
(2) وهذا فيما بين العباد، وأما حديث: أول ما يحاسب به العبد الصلاة فهو
فيما بين العبد وبين الله.
(3) سورة البقرة: الآية 179.
(2/511)
" ومصدقا لما بين يدي من التوراة ".
وإلى هذا تشير الآية الكريمة: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين
بالعين، والانف بالانف، والاذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص " (1)
ولم تفرق الشريعة بين نفس ونفس، فالقصاص حق، سواء أكان المقتول كبيرا أم
صغيرا، رجلا أم امرأة.
فلكل حق الحياة، ولا يحل
التعرض لحياته بما يفسدها بأي وجه من الوجوه، وحتى في قتل الخطأ، لم يعف
الله تعالى القاتل من المسئولية، وأوجب فيه: العتق، والدية، فقال سبحانه: "
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ، ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا " (2) .
وهذه العقوبة المالية إنما أوجبها الاسلام في القتل الخطأ احتراما للنفس
حتى لا يتسرب إلى ذهن أحد هوانها، وليحتاط الناس فيما يتصل بالنفوس
والدماء، ولتسد ذرائع الفساد، حتى لا يقتل أحد أحدا ويزعم أن القتل كان
خطأ.
ومن شدة عناية الاسلام بحماية الانفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدب
الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سبب حقيقي يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من
الموت، ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة.
القصاص بين الجاهلية والإسلام:
قام نظام القصاص في العرب على أساس أن القبيلة كلها تعتبر مسئولة عن
الجناية التي يقترفها فرد من أفرادها، إلا إذا خلعته وأعلنت ذلك في
المجتمعات العامة.
ولهذا كان ولي الدم يطالب بالقصاص من الجاني وغيره من قبيلته، ويتوسع في
هذه المطالبة توسعا ربما أوقد نار الحرب بين قبيلتي الجاني والمجني عليه.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 45.
(2) سورة النساء: الآية 92.
(2/512)
وقد تزداد المطالبة بالتوسع إذا كان المجني
عليه شريفا أو سيدا في قومه.
على أن بعض القبائل كثيرا ما كان يهمل هذه المطالبة، ويبسط حمايته على
القاتل ولا يعير أولياء المقتول أي اهتمام، فكانت تنشب الحروب التي تودي
بأنفس الكثير من الابرياء.
فلما جاء الاسلام وضع حدا لهذا النظام الجائر، وأعلن أن الجاني وحده هو
المسئول عن جنايته، وهو الذي يؤخذ بجريرته فقال: " يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم القصاص في القتلى (1) الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى،
فمن عفي له من أخيه شئ، فاتباع بالمعروف (2) وأداء إليه بإحسان. ذلك تخفيف
من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة
يأولي الالباب لعلكم تتقون ".
(3) إذا اختاروا القصاص دون العفو: قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: " كان
في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لاحدهما طول على الآخر،
فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد، والذكر بالانثى، فلما جاء الاسلام
تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت، وأمرهم أن يتبارأوا "
انتهى.
والآية تشير إلى ما يأتي:
1 - أن الله سبحانه أبطل النظام الجاهلي، وفرض المماثلة والمساواة في
القتلى.
فإذا اختاروا القصاص دون العفو، فأرادوا إنفاذه، فإن الحر يقتل إذا قتل
حرا، والعبد يقتل إذا قتل عبدا مثله، والمرأة تقتل إذا قتلت امرأة.
__________
(1) التقلى: جمع قتيل.
(2) فاتباع بالمعروف: مأخوذ من اقتصاص الاثر: أي تتبعه، لان المجني عليه
يتبع الجناية، فيأخذ مثلها.
(3) سورة البقرة: الآية 178.
(2/513)
قال القرطبي: " وهذه الآية جاءت مبينة حكم
النوع إذا قتل نوعه فبيتت حكم الحر إذا قتل حرا، والعبد إذا قتل عبدا،
والانثى إذا قتلت أنثى، ولم تتعرض لاحد النوعين إذا قتل الآخر.
فالآية محكمة، وفيها إجمال يبينه قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس " إلى آخر الآية.
وبينه النبي صلى الله عليه وسلم لما قتل اليهودي بالمرأة. قاله مجاهد.
2 - فإذا عفا ولي الدم عن الجاني فله أن يطالبه بالدية على أن تكون
المطالبة بالمعروف، لا يخالطها عنف ولا غلظة، وعلى القاتل أداء الدية إلى
العافي بلا مماطلة ولابخس.
3 - وهذا الحكم الذي شرعه الله من جواز القصاص والعفو عنه إلى الدية تيسير
من الله ورحمة حيث وسع الامر في ذلك، فلم يحتم واحدا منهما.
4 - فمن اعتدى على الجاني فقتله بعد العفو عنه، فله عذاب أليم، إما بقتله
في الدنيا أو عذابه بالنار في الآخرة.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما.
قال: " كان في بني اسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه
الامة: " كتب عليكم القصاص في القتلى ... " الآية
" فمن عفي له من أخيه شئ " قال: " فالعفو " أن يقبل في العمد الدية، و "
الاتباع بالمعروف " أن يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان. "
ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " فيما كتب على من كان قبلكم.
5 - وقد شرع الله القصاص لان فيه الحياة العظيمة، والبقاء للناس، فإن
القاتل إذا علم أنه سيقتل ارتدع، فأحيا نفسه من جهة، وأحياء من كان يريد
قتله من جهة أخرى.
6 - وقد أبقى الاسلام جعل الولاية في طلب القصاص لولي المقتول على على ما
كان عليه عند العرب.
(2/514)
يقول الله تعالى: " ومن قتل مظلوما فقد
جعلنا لوليه سلطانا، فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ".
والمقصود بالولي هو من له القيام بالدم، وهو الوارث للمقتول (1) ، فهو الذي
له حق المطالبة دون السلطة الحاكمة، فلو لم يطالب هو بالقصاص فإنه لا يقتص
من الجاني.
والسلطان: التسلط على القاتل، وإنما كان ذلك كذلك مخافة أن يصدر العفو من
غير رضا منه، وهوالذي اكتوى بنار الجريمة فتثور نفسه ويعمد إلى الاخذ
بالثأر، ويتكرر القتل والاجرام.
7 - قال صاحب المنار معلقا على هذه الآية: فالآية الحكيمة قررت أن الحياة
هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها، لان من علم أنه إذا قتل
نفسا يقتل بها يرتدع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه،
والاكتفاء بالدية لا يردع كل
أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع.
" فإن من الناس من يبذل المال الكثير لاجل الايقاع بعدوه.
" وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح
في العقوبة.
ويوطن النفس على قبول حكم المساواة، إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل
سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم " القصاص في النفس ليس كل
اعتداء على النفس بموجب للقصاص، فقد يكون الاعتداء عمدا، وقد يكون شبه عمد،
وقد يكون خطأ، وقد يكون غيرذلك.
ومن ثم وجب أن نبين أنواع القتل، ونبين النوع الذي يجب القصاص بمقتضاه.
__________
(1) هذا رأي الجمهور، وقال مالك: هم العصبة.
(2/515)
أنواع القتل:
القتل أنواع ثلاثة:
1 - عمد.
2 - شبه عمد.
3 - خطأ.
القتل العمد: فالقتل العمد هو: أن يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم (1)
بما يغلب على الظن أنه يقتل به.
ويفهم من هذا التعريف أن جريمة القتل العمد لاتتحقق إلا إذا توفرت فيها
الاركان الآتية: 1 - أن يكون القاتل عاقلا، بالغا، قاصدا القتل.
أما اعتبار العقل والبلوغ، فلحديث علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رفع القلم عن ثلاث: عن المجنون حتى يفيق،
وعن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم ".
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
وأما اعتبار العمد، فلما رواه أبو هريرة رضي الله عنه.
قال: " قتل رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع ذلك إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فدفعه إلى ولي المقتول، فقال القاتل: يا رسول الله،
والله ما أردت قتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للولي: " أما إنه إن
كان صادقا ثم قتلته دخلت النار " فخلاه الرجل، وكان مكتوفا بنسعة (2) فخرج
يجر نسعته. قال: فكان يسمى (ذا النسعة) ".
رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، والترمذي وصححه.
وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " العمد قود، إلا أن
يعفو ولي المقتول ".
وروى ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) أي لا يستحق القتل شرعا.
(2) النسعة: سير من الجلد.
(2/516)
" من قتل عامدا فهو قود، ومن حال بينه
وبينه فعليه لعنة الله والملائكة والنا س أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا
ولاعدلا ".
2 - أن يكون المقتول آدميا، ومعصوم الدم: أي أن دمه غير مباح
3 - أن تكون الاداة التي استعملت في القتل مما يقتل بها غالبا.
فإذا لم تتوفر هذه الاركان. فإن القتل لا يعتبر قتلا عمدا.
أداة القتل: ولا يشترط في الاداة التي
يقتل بها سوى أنها مما تقتل غالبا، سواء أكانت محددة أم متلفة لتماثلهما في
إزهاق الروح.
وقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رض (1) رأس يهودي
بين حجرين، وكان فعل ذلك بجارية من الجواري.
وهذا الحديث حجة على أبي حنيفة، والشعبي، والنخعي، الذين يقولون بأنه لا
قصاص في القتل بالمثقل.
ومن هذا القبيل القتل بالاحراق بالنار، والاغراق بالماء، والالقاء من شاهق،
وإلقاء حائط عليه، وخنق الانفاس، رحبس الانسان، ومنع الطعام والشراب عنه
حتى يموت جوعا، وتقديمه لحيوان مفترس.
ومنه ما إذا شهد الشهود على إنسان معصوم الدم بما يوجب قتله، ثم بعد قتله
يرجعون عن الشهادة، ويقولون: تعمدنا قتله، فهذه كلها من الادوات التي غالبا
ما تقتل.
ومن قدم طعاما مسموما لغيره، وهو يعلم أنه مسموم، دون آكله، فمات به، اقتص
منه.
روى البخاري ومسلم: " أن يهودية سمت النبي صلى الله عليه وسلم في شاة، فأكل
منها لقمة، ثم لفظها، وأكل معه بشر بن البراء، فعفا عنها النبي صلى الله
عليه وسلم ولم يعاقبها ".
أي أنه عفا عنها قبل أن تحدث الوفاة لواحه ممن أكل " فلما مات بشر بن
البراء قتلها به ".
لما رواه أبو داود: " أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها "
__________
(1) رض: كسر.
(2/517)
القتل شبه العمد: والقتل شبه العمد: هو أن
يقصد المكلف قتل إنسان معصوم الدم بما لا يقتل عادة، كأن يضربه بعصا خفيفة
أو حجر صغير، أو لكزه بيده، أو سوط ونحو ذلك.
فإن كان الضرب بعصا خفيفة أو حجر صغير " ضربة أو ضربتين " فمات من ذلك
الضرب، فهو قتل شبه عمد (1) .
فإن كان الضرب في مقتل أو كان المضروب صغيرا أو كان مريضا يموت من مثل هذا
الضرب غالبا، أو كان قويا، غير أن الضارب والى الضرب حتى مات فإنه يكون
عمدا.
وسمي يشبه العمد، لان القتل متردد بين العمد والخطأ، إذ أن الضرب مقصود،
والقتل غير مقصود.
ولهذا أطلق عليه شبه العمد، فهو ليس عمدا محضا، ولاخطأ محضا.
ولما لم يكن عمدا محضا سقط القود، لان الاصل صيانة الدماء فلا تستباح، إلا
بأمر بين.
ولما لم يكن خطأ محضا، لان الضرب مقصود بالفعل دون القتل وجبت فيه دية
مغلظة.
روى الدارقطني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " العمد قود اليد، والخطأ عقل لا قود فيه، ومن قتل في عمية بحجر أو
عصا أو سوط، فهو دية مغلظة في أسنان الابل ".
وأخرج أحمد وأبو داود عن عمرو بين شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: " عقل شبه العمد مغلظ، كعقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن
ينزو الشيطان بين الناس، فتكون الدماء في غير ضغينة ولاحمل سلاح ".
__________
(1) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وجماهير الفقهاء، وخالف في ذلك: مالك
والليث، والهادوية: فذهبوا إلى أن القتل إذا كان بآلة لا يقصد بمثلها القتل
غالبا، كالعصا والسوط واللطمة ونحو ذلك، فإنه يعتبر عمدا وفيه القصئاص، إذ
الاصل عندهم عدم اعتبار الآلة في إزهاق الروح.
فكل ما أزهق الروح أوجب القصاص.
(2/518)
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، أن النبي
صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال: " ألا وإن قتيل خطأ العمد بالسوط
والعصا والحجر ".
القتل الخطأ: والقتل الخطأ هو: أن يفعل المكلف ما يباح له فعله، كأن يرمي
صيدا، أو يقصد غرضا، فيصيب إنسانا معصوم الدم فيقتله، وكأن يحفر بئرا،
فيتردى فيها إنسان، أو ينصب شبكة - حيث لا يجوز - فيعلق بها رجل فيقتل،
ويلحق بالخطأ القتل العمد الصادر من غير مكلف، كالصبي والمجنون.
الآثار المترتبة على القتل قلنا إن القتل: عمد، وشبه عمد، وخطأ.
ولكل نوع من هذ الانواع الثلاثة آثار تترتب عليه.
وفيما يلي نذكر أثر كل نوع.
موجب القتل الخطأ: إن القتل الخطأ يوجب أمرين: (أحدهما) الدية المخففة على
العاقلة، مؤجلة في ثلاث سنين.
وسيأتي ذلك حين الكلام على الدية.
(ثانيهما) الكفارة، وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل
والكسب، فان لم يجد صام شهرين متتابعين (1) .
وأصل ذلك قول الله تعالى: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ.
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا.
فإن كان من قوم عدولكم وهو مؤمن، فتحرير
__________
(1) يرى الشافعية أن كفارة القتل يجوز فيها الاطعام إن عجز المكفر عن
الصيام لكبر سن أو مرض أو لحقه مشقة شديدة، فيطعم ستين مسكينا، يعطي كل
واحد مدا من طعام.
وخالفهم الفقهاء في ذلك لعدم ورود ما يدل عليه.
(2/519)
رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم وبينهم
ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين
متتابعين، توبة من الله، وكان الله عليما حكيما ".
(1) وإذا قتل جماعة رجلا خطأ.
فقال جمهور العلماء: على كل واحد منهم الكفارة.
وقال جماعة: عليهم كلهم كفارة واحدة.
الحكمة في الكفارة: قال القرطبي: " واختلفوا في معناها فقيل: أوجبت تمحيصا
وطهورا لذنب القاتل.
وذنبه ترك الاحتياط والتحفظ حتى هلك على يديه امرؤ محقون الدم.
وقيل: أوجبت بدلا من تعطيل حق الله تعالى في نفس القتيل، فإنه كان له في
نفسه حق، وهو التنعم بالحياة، والتصرف فيما أحل له تصرف الاحياء،
وكان لله سبحانه فيه حق، وهو أنه كان عبدا من عباده يجب له من اسم العبودية
- صغيرا كان أو كبيرا، حرا كان أو عبدا، مسلما كان أو ذميا - ما يتميز به
عن البهائم والدواب.
ويرتجى - مع ذلك - أن يكون من نسله من يعبد الله ويطيعه، فلم يخل قاتله من
أن يكون فوت منه الاسم الذي ذكرنا والمعنى الذي وصفنا، فلذلك ضمن الكفارة.
وأى واحد من هذين المعنيين كان ففيه بيان أن النص وإن وقع على القاتل خطأ،
فالقاتل عمدا مثله، بل أولى بوجوب الكفارة عليه منه ". اه ووسيأتي بيان
هذا.
موجب القتل شبه العمد: والقتل شبه العمد يوجب أمرين:
1 - الاثم، لانه قتل نفس حرم الله قتلها إلا بالحق.
2 - الدية المغلظة على العاقلة - على ما سيأتي.
__________
(1) سورة النساء: الآية 92.
(2/520)
أما القتل العمد، فإنه يوجب أمورا أربعة:
1 - الاثم.
2 - الحرمان من الميراث والوصية.
3 - الكفارة.
4 - القود أو العفو.
(1) فلا يرث القاتل من ميراث المقتول شيئا، لامن ماله ولا من ديته إذا كان
من ورثته سواء أكان القتل عمدا أم كان خطأ.
وقاعدة الفقهاء في ذلك: " من استعجل الشئ قبل أو انه عوقب بحرمانه ".
(2) وروى البيهقي عن خلاس أن رجلا رمى بحجر فأصاب أمه فماتت من ذلك فأراد
نصيبه من ميراثها، فقال له إخوته: لاحق لك، فارتفعوا إلى علي كرم الله وجهه
فقال له علي رضي الله عنه: " حقك من ميراثها الحجر، فأغرمه الدية.
ولم يعطه من ميراثها شيئا ".
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
ليس للقاتل من الميراث شئ ".
والحديث معلول وقد اختلف في رفعه ووقفه، وله شواهد تقويه.
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
ليس للقاتل شئ، وإن لم يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث
القاتل شيئا " (1) .
وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وكذلك الاحناف والشافعية، وذهبت الهادوية والامام مالك إلى أن القتل إن كان
خطأ ورث من المال دون الدية،
__________
(1) " أي أن بعض الورثة إذا قتل المورث حرم من ميراثه، وورثه من لم يرتكب
هذه الجريمة، فإن لم يكن له وارث إلا القاتل حرم من الميراث وقسمت تركته
على أقرب الناس منه بعد القاتل.
مثل: الرجل يقتله ابنه وليس له وارث غير ابنه، وللقاتل ابن، فإن ميراث
المقتول يدفع إلى ابن القاتل ويحرمه القاتل ".
(من معالم السنن للخطابي)
(2/521)
وقال الزهري وسعيد بن جبير وغيرهما: لا
يحرم القاتل من الميراث.
وكذلك تبطل الوصية إذا قتل له الموصى له الموصي.
قال في البدائع: القتل بغير حق جناية عظيمة تستدعي الزجر بأبلغ الوجوه،
وحرمان الوصية يصلح زاجرا كحرمان الميراث فيثبت.
وسواء أكان القتل عمدا أم خطأ لان القتل الخطأ قتل وأنه جاز المؤاخذة عليه
عقلا، وسواء أوصى له بعد الجناية أو قبلها.
(3) الكفارة في حالة ما إذا عفا ولي الدم أو رضي بالدية: أما إذا اقتص من
القاتل فلا تجب عليه كفارة.
روى الامام أحمد عن وائلة بن الاصقع.
قال: " أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم.
فقالوا: " إن صاحبا لنا قد أوجب.
قال: فليعتق رقبة يفد الله بكل عضو منها عضوا منه من النار ".
ورواه أيضا بسند آخر عنه قال: " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في
صاحب لنا أوجب قال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار ".
وهذا رواه أبو داود والنسائي.
ولفظ أبي داود قد أوجب " يعني النار " بالقتل.
قال الشوكاني في نيل الاوطار: " في حديث وائلة دليل على ثبوت الكفارة في
قتل العمد.
وهذا إذا عفا عن القاتل، أو رضي الوارث بالدية.
وأما إذا اقتص منه فلا كفارة عليه، بل القتل كفارته، لحديث عبادة المذكور
في الباب ولما أخرجه أبو نعيم في " المعرفة " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " القتل كفارة ".
وهو من حديث خزيمة بن ثابت.
وفي إسناده ابن لهيعة.
قال الحافظ: لكنه من حديث ابن وهب عنه، فيكون حسنا.
ورواه الطبراني في الكبير عن الحسن بن علي موقوفا عليه.
(2/522)
(4) القود (1) أو العفو:
القود أو العفو إما على الدية، أو الصلح
على غير الدية، ولو بالزيادة عليها.
كما أن لولي الجناية العفو مجانا.
وهو أفضل.
" وأن تعفوا أقرب للتقوى، ولا تنسوا الفضل بينكم " (2) .
وإذا عفا ولي الدم عن القاتل، فإنه لا يبقى حق للحاكم بعد في تعزيره.
وقال مالك والليث: يعزر بالسجن عاماو مائة جلدة (3) .
وأصل وجوب القود أو العفو قول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والانثى بالانثى، فمن
عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم
ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ".
(4) وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: " من قتل له قتيل فهو يخير النظرين: إما أن يفتدي، وإما أن يقتل
(5) " فالامر في العفو أو القصاص إلى أولياء الدم.
وهم الورثة، فإن شاءوا طلبوا القود، وإن شاءوا عفوا، حتى لو عفا أحد الورثة
سقط القصاص، لانه لا يتجزأ.
روى محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتي برجل
قد قتل عمدا، فأمر بقتله، فعفا عنه بعض الاولياء، فأمر
__________
(1) القود: سمي قودا لان الجاني يقاد إلى أولياء المقتول، فيقتلونه به إن
شاءوا.
وقيل: معناه المماثلة.
(2) سورة البقرة: الآية 238.
(3) قال الفقهاء: إن الجاني إذا كان معروفا بالشر، أو ظهر للحاكم أن
المصلحة تقتضي عقابه فله أن يعزره بما يراه محققا للمصلحة، إما بالحبس أو
السجن أو القتل.
(4) سورة البقرة: الآية 178.
(5) في هذا الحديث دليل على أن ولي المقتول بالخيار، إن شاء اقتص وإن شاء
أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل: وقيل: ليس له إلا القصاص، ولا يأخذ الدية
إلا برضا القاتل.
والاول أصح.
(2/523)
بقتله، فقال عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه: كانت النفس لهم جميعا، فلما عفا هذا أحيى النفس، فلا يستطيع أخذ حقه -
يعني الذي لم يعف - حتى يأخذ حق غيره.
قال فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل الدية في ماله، وترفع عنه حصة الذي عفا.
قال عمر رضي الله عنه: وأنا أرى ذلك.
قال محمد: وأنا أرى ذلك.
وهو قول أبي حنيفة.
وإن كان في الورثة صغير فإنه ينتظر بلوغه، ليكون له الخيار، إذ أن القصاص
حق لجميع الورثة.
ولا اختيار للصبي قبل بلوغه.
وإذا عفا الورثة جميعا أو أحدهم على الدية وجب على القاتل دية مغلظة، حالة
في حاله كما سيأتي ذلك مفصلا في باب الديات.
شروط وجوب القصاص:
ولا يجب القصاص إلا إذا توفرت الشروط الآتية: 1 - أن يكون المقتول معصوم
الدم.
فلو كان حربيا، أو زانيا محصنا، أو مرتدا، فإنه لا ضمان على القاتل،
لا بقصاص ولابدية، لان هؤلاء جميعا مهدور والدم.
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا
يحل دم امرئ مسلم: يشهد أن لاإله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى
ثلاثة: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
2 - أن يكون القاتل بالغا.
3 - أن يكون عاقلا.
فلا قصاص على صغير، ولا مجنون، ولا معتوه، لانهم غير مكلفين، وليس لهم قصد
صحيح أو إرادة حرة.
فإذا كان المجنون يفيق أحيانا، فقتل وقت إفاقته، اقتص منه.
وكذلك من زال عقله بسكر وهو متعد في شربه.
(2/524)
فعن مالك أنه بلغه " أن مروان بن الحكم كتب
إلى معاوية بن أبي سفيان، يذكر أنه أتي بسكران قد قتل رجلا، فكتب إليه
معاوية: أن اقتله به ".
فإن كان شرب شيئا ظنه غير مسكر، فزال عقله فقتل في هذه الحال، فلا قصاص
عليه.
وفي الحديث يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
" رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن
النائم حتى يستيقظ ".
وقال مالك: " الامر المجمع عليه عندنا: أن لاقود بين الصبيان، وأن قتلهم
خطأ ما لم تجب الحدود، ويبلغوا الحلم، وان قتل الصبي لا يكون إلا خطأ ".
4 - أن يكون القاتل مختارا، فإن الاكراه يسلبه الارادة، ولا مسئولية على من
فقد إرادته، فإذا أكره صاحب سلطان (1) غيره على القتل، فقتل آدميا بغير حق،
فإنه يقتل الآمر دون المأمور. ويعاقب المأمور.
وبهذا أخذ أبو حنيفة، وداود، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال الاحناف: وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف منه على نفسه، أو على
عضو من أعضائه، وسعه أن يفعل ذلك، ولصاحب المال أن يضمن المكره.
وإن أكرهه بقتل على قتل غيره، لم يسعه أن يقدم عليه، ويصبر حتى يقتل، فإن
قتله كان آثما.
والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا.
وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر.
وهو القول الآخر للشافعي.
وقال قوم: منهم مالك والحنابلة: يقتلان جميعا، إن لم يعف ولي الدم، فإن عفا
ولي الدم وجبت الدية، لان القاتل قصد استبقاء نفسه بقتل غيره، والمكره تسبب
في القتل بما يفضي إليه غالبا.
وإذا أمر مكلف غير مكلف بأن يقتل غيره: مثل الصغير والمجنون.
فالقصاص على الآمر، لان المباشر للقتل آلة في يده، فلا يجب القصاص عليه،
وإنما يجب على المتسبب.
__________
(1) عند الحنابلة: أن قول القادر: أقتل وإلا قتلتك، إكراه.
(2/525)
وإذا أمر الحاكم بالقتل ظلما، فإما أن يكون
المأمور عالما بأنه ظلم، أو لا يكون له علم به.
فإن كان عالما بأنه ظلم ونفذ أمره، وجب عليه القصاص، إلا أن يعفو الولي،
فتجب الدية عليه، لانه مباشر للقتل مع علمه بأنه ظلم، فلا يعذر ولا يقال
إنه مأمور من الحاكم، لان قاعدة الاسلام: أنه لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق، كما قال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وإن لم يكن عالما بعدم استحقاقه القتل، فقتله، فالقصاص - إن لم يعف الولي،
أو الدية - على الآمر بالقتل، دون المباشر، لانه معذور لوجوب طاعة الحاكم
في غير معصية الله.
ومن دفع إلى غير مكلف آلة قتل، ولم يأمره به، فقتل، لم يلزم الدافع شئ.
5 - ألا يكون القاتل أصلا للمقتول، فلا يقتص من والد بقتل ولده، وولد ولده
وإن سفل إذا قتله، بأي وجه من أوجه العمد، بخلاف ما إذا قتل الابن أحد
أبويه فإنه يقتل اتفاقا، لان الوالد سبب في حياة ولده، فلا يكون ولده سببا
في قتله وسلبه الحياة، بخلاف ما إذا قتل الولد أحد والديه فإنه يقتص منه
لهما.
أخرج الترمذي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقتل
الوالد بالولد ".
قال ابن عبد البر: " هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض
عندهم، وهو عمل أهل المدينة، ومروي عن عمر ".
وروى يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب: أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة "
حدف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات. فقدم سراقة بن جعشم على
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر ذلك له. فقال له عمر: " اعدد على " ماء
قديد " عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك. فلما قدم عليه عمر، أخذ من تلك
الابل ثلاثين حقة، وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة. ثم قال:
(2/526)
أين أخو المقتول؟ فقال هأنذا.
قال خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس لقاتل شئ ".
وخالف في ذلك الامام مالك، فرأى أنه يقاد الولد بالوالد، إذا أضجعه وذبحه،
لان ذلك عمد حقيقة، لا يحتمل غيره، فإن الظاهر في استعمال الجارح في القتل
هو العمد.
والعمدية أمر خفي، لا يحكم بإثباتها إلا بما يظهر من قرائن الاحوال، وأما
إذا كان على غير هذه الصفة، فيما يحتمل عدم إزهاق الروح، بل قصد التأديب من
الاب.
وإن كان في حق غيره، يحكم فيه بالعمد.
وإنما فرق بين الاب وغيره، لما للاب من الشفقة على ولده، وعليه قصد التأديب
عند فعله ما يغضب الاب، فيحمل على عدم قصد القتل، لقوة المحبة التي بين
الاب والابن.
6 - أن يكون المقتول مكافئا للقاتل حال جنايته، بأن يساويه في الدين،
والحرية، فلا قصاص على مسلم قتل كافرا.
أو حر قتل عبدا، لانه لا تكافؤ بين القاتل والمقتول، بخلاف ما إذا قتل
الكافر المسلم، أو قتل العبد الحر، فإنه يقتص منهما.
والاسلام وإن كان قد ألغى الفوارق بين المسلمين في هذا الباب، فلم يفرق بين
شريف ووضيع، ولابين جميل ودميم، ولابين غني وفقير، ولا بين طويل وقصير،
ولابين قوي وضعيف، ولابين سليم ومريض، ولابين كامل الجسم وناقصه، ولابين
صغير وكبير ولا بين ذكر وأنثى (1)
إلا أنه اعتبر الفارق بين المسلم والكافر، والحر والعبد، فلم يجعلهما
متكافئين في الدم.
فلو قتل مسلم كافر أو قتل حر عبدا فلا قصاص على واحد منهما.
وأصل ذلك حديث علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) ذهب أكثر الفقهاء إلى أن الرجل إذا قتل امرأة فإنه قتل بها.
وحكى ابن المنذر الاجماع على ذلك، وحكى أبو الوليد الباجي والخطابي عن
الحسن البصري: أنه لا يقتل الرجل بالانثى، وهو قول شاذ مردود. ففي كتاب
عمرو بن حزم الذي تلقاه الناس بالقبول: ان الذكر يقتل بالانثى.
(2/527)
" ألا لا يقتل مؤمن بكافر ".
أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم. وصححه.
وروى البخاري عن علي كرم الله وجهه أيضا أن أبا جحيفة قال له: " هل عندكم
شئ من الوحي ما ليس في القرآن.
قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن،
وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم (1) ، وفكاك الاسير،
وألا يقتل مسلم بكافر.
وهذا مجمع عليه بالنسبة للكافر الحربي: فإن المسلم إذا قتله، فإنه لا يقتل
به إجماعا.
وأما بالنسبة للذمي والمعاهد، فقد اختلفت فيهما أنظار الفقهاء.
فذهب الجمهور منهم إلى أن المسلم لا يقتل بهما لصحة الاحاديث في ذلك، ولم
يأت ما يخالفها.
وقالت الاحناف وابن أبي ليلى: لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر الحربي، كما
قال الجمهور. وخالفوهم في الذمي، والمعاهد.
فقالوا: " إن المسلم إذا قتل الذمي أو المعاهد بغير حق، فإنه يقتل بهما،
لان الله تعالى يقول: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ".
وأخرج البيهقي من حديث عبد الرحمن البيلماني (2) أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم: قتل مسلما بمعاهد.
وقال: " أنا أكرم من وفى بذمته ".
وقالوا أيضا: ان المسلمين أجمعوا على أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال
الذمي.
فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه.
رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل ذميا كافرا، فحكم عليه بالقود، فأتاه
رجل برقعة فألفاها إليه.
فإذا فيها:
__________
(1) تتكافأ: تتساوى في الدية والقصاص.
(2) ابن البيلماني ضعيف لا تقوم به الحجة، وحديثه هذا مرسل.
قال أبو عبد القاسم بن سلام: هذا الحديث ليس بمسند، ولا يجعل مثله إماما
تسفك به الدماء.
(2/528)
يا قاتل المسلم بالكافر - جرت، وما العادل
كالجائر يا من ببغداد وأطرافها - من علماء الناس أو شاعر استرجعوا وابكوا
على دينكم - واصطبروا، فالاجر للصابر جار على الدين أبو يوسف - بقتله
المؤمن بالكافر فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر، وأقرأه الرقعة.
فقال الرشيد: " تدارك هذا الامر لئلا تكون فتنة ".
فخرج أبو يوسف، وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها، فلم يأتوا
بها، فأسقط القود.
وقال مالك والليث: " لا يقتل المسلم بالذمي، إلا أن يقتله غيلة.
وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه، وبخاصة على ماله ".
هذا بالنسبة للكافر، وأما العبد، فإن الحر لا يقتل به إذا قتله، بخلاف ما
إذا قتل العبد الحر، فإنه يقتل به.
لما رواه الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رجلا قتل
عبده صبرا (1) متعمدا، فجلده النبي صلى الله عليه وسلم مائة جلدة، ونفاه
سنة، ومحاسهمه من المسلمين، ولم يقد به، وأمره أن يعتق رقبة ".
ولان الله تعالى يقول: " الحر بالحر ".
وهذا التعبير يفيد الحصر، فيكون معناه: أنه لا يقتل الحر بغير الحر.
وإذا كان لا يقتل به فإنه يلزمه قيمته، بالغة ما بلغت، وإن جاوزت دية الحر.
هذا إذا قتل عبد غيره.
أما إذا كان السيد هو الذي قتل عبده فعقوبته ما ذكر في الحديث.
وإلى هذا ذهب جمهور الفقهاء، منهم مالك والشافعي، وأحمد، والهادوية.
وقال أبو حنيفة: " يقتل الحر إذا قتل العبد، إلا إذا كان سيده ".
وذلك أن الآية الكريمة تقول:
__________
(1) صبرا: أي حبسا.
(2/529)
" وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ".
وهذا عام في كل الحالات، إلا إذا خصص، وقد خصصته السنة بحديث
البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقاد مملوك من مالكه.
ولا ولد من والده ".
ولو صح هذا لكان قويا، إلا أن الحديث من رواية عمر بن عيسى، وقد ذكر
البخاري أنه منكر الحديث.
وقال النخعي: يقتل الحر بالعبد مطلقا، أخذا بعموم قوله تعالى: " أن النفس
بالنفس ".
7 - ألا يشارك القاتل غيره في القتل، ممن لا يجب عليه القصاص، فإن شاركه
غيره ممن لا يجب عليه القصاص كأن اشترك في القتل، عامد ومخطئ، أو مكلف
وسبع، أو مكلف وغير مكلف: مثل الصبي والمجنون، فإنه لاقصاص على واحد منهما،
وعليهما الدية، لوجود الشبهة التي تندرئ بها الحدود، فإن القتل لا يتجزأ،
ويمكن أن يكون حدوثه من فعل الذي لا قصاص عليه - كما يمكن أن يكون ممن يجب
عليه القصاص - وهذه الشبهة تسقط القود.
وإذا سقط وجب بدله، وهو الدية.
وخالف في ذلك مالك والشافعي رضي الله عنهما.
فقالا: على المكلف القصاص، وعلى غير المكلف نصف الدية.
ومالك يجعلها على العاقلة، والشافعية يجعلونها في ماله.
قتل الغيلة: وقتل الغيلة عند مالك أن يخدع الانسان غيره، فيدخل بيته ونحوه،
فيقتل أو يأخذ المال.
قال مالك: " الامر عندنا أن يقتل به، وليس لولي الدم أن يعفو عنه، وذلك إلى
السلطان ".
وقال غيره من الفقهاء: لافرق بين قتل الغيلة وغيره، فهما سواء في
القصاص والعفو، وأمرهما راجع إلى ولي الدم.
وإذا قتلته جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية
(2/530)
من شاء وهو مروي عن ابن عباس، وبه يقول
سعيد بن المسيب، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، وقتادة.
وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق.
" فقد قتلت امرأة هي وخليلها ابن زوجها فكتب يعلى بن أمية إلى عمر ابن
الخطاب - وكان يعلى عاملا له - يسأله رأيه في هذه القضية؟ فتوقف رضي الله
عنه في القضية، وكان أن قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " يا أمير
المؤمنين: أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوا، وهذا
عضوا، أكنت قاطعهم؟ قال: نعم. قال: وذلك ".
وكان أن كتب أمير المؤمنين إلى يعلى بن أمية عامله: " أن اقتلهما، فلو
اشترك فيه أهل ضنعاء كلهم لقتلتهم ".
وذهب الشافعي إلى أن لولي المقتول أن يقتل الجميع به، وأن يقتل أيهم أراد،
ويأخذ من الآخرين حصتهم من الدية.
فإن كانوا اثنين وأقاد من واحد، فله أخذ نصف الدية من الثاني.
وإن كانوا ثلاثة، فأقاد من اثنين، فله من الآخر ثلث الدية ".
الجماعة تقتل بالواحد:
إذا اجتمع جماعة على قتل واحد فإنهم يقتلون به جميعا، سواء أكانت الجماعة
كثيرة أم قليلة، ولو لم يباشر القتل كل واحد منهم، لما رواه مالك في
الموطأ: أن عمر بن الخطاب، قتل نفر (1) برجل واحد، قتلوه قتل غيلة (2) .
وقال: " لو تمالا (3) عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ".
واشترطت الشافعية والحنابلة أن يكون فعل كل واحد من المشتركين في القتل
بحيث لو انفرد كان قاتلا، فإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص.
__________
(1) نفرا: قيل عددهم خمسة، وقيل سبعة.
(2) قتل الغيلة: هو أن يخدعه حتى يخرجه إلى موضع يخفى فيه ثم يقتله.
(3) تمالؤوا: اجتمعوا وتعاونوا، وتطلق الجماعة على اثنين فأكثر.
(2/531)
وقال مالك: " الامر عندنا: أنه يقتل في
العمد الرجال الاحرار بالرجل الحر الواحد، والنساء بالمرأة كذلك، والعبيد
بالعبد كذلك أيضا.
" وفي المسوى قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم.
قالوا: إذا اجتمع جماعة على قتل واحد، يقتلون به قصاصا.
وقد رأى هؤلاء الفقهاء أن ذلك هو المصلحة، لان القصاص شرع لحياة الانفس،
فلو لم تقتل الجماعة بالواحد، لكان كل من أراد أن يقتل غيره استعان بشركاء
له حتى لا يقاد منه.
وبذلك تبطل الحكمة من شرعية القصاص.
وذهب ابن الزبير، والزهري، وداود، وأهل الظاهر إلى أن الجماعة لا تقتل
بالواحد، لان الله تعالى يقول: " أن النفس بالنفس ".
إذا أمسك رجل رجلا وقتله آخر: وإذا أمسك رجل رجلا فقتله رجل آخر، وكان
القاتل لا يمكنه قتله إلا بالامساك، وكان المقتول لا يقدر على الهرب بعد
الامساك: فإنهما يقتلان، لانهما شريكان.
وهذا مذهب الليث، ومالك، والنخعي.
وخالف في ذلك الشافعية والاحناف.
فقالوا: يقتل القاتل، ويحبس الممسك حتى يموت جزاء إمساكه للمقتول.
لما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا
أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك ". وصححه
ابن القطان.
وقال الحافظ بن حجر: ورجاله ثقات.
وأخرج الشافعي عن علي أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر.
قال: " يقتل القاتل، ويحبس الآخر في السجن حتى يموت ".
ثبوت القصاص:
يثبت القصاص بما يأتي: (أولا) بالاقرار، لان الاقرار كما يقولون: " سيد
الادلة ".
(2/532)
وعن وائل بن حجر.
قال: " إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة،
فقال يا رسول الله: هذا قتل أخي.
فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
أقتلته؟ فقال: نعم قتلته.
إلى آخر الحديث.
رواه مسلم والنسائي.
(ثانيا) يثبت بشهادة رجلين عدلين.
فعن رافع بن خديج قال: " أصبح رجل من الانصار بخيبر مقتولا.
فانطلق أولياؤه النبي صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك له.
فقال: لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟ إلى آخر الحديث. رواه أبو داود.
قال ابن قدامة في المغني: " ولا يقبل فيه شهادة رجل وامرأتين، ولا شاهد
ويمين الطالب، لا نعلم في هذا - بين أهل العلم - خلافا.
وذلك، لان القصاص إراقة دم عقوبة على جناية، فيحتاط له باشتراط الشاهدين
العدلين، كالحدود، وسواء كان القصاص يجب على مسلم، أو كافر، أو حر، أو عبد
لان العقوبة يحتاط لدرئها.
استيفاء القصاص (1) :
يشترط لاستيفاء القصاص ثلاثة شروط:
1 - أن يكون المستحق له عاقلا، بالغا.
فإن كان مستحقه صبيا أو مجنونا لم ينب عنهما أحد في استيفائه: لا أب، ولا
وصي، ولا حاكم، وإنما يحبس الجاني حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، فقد حبس
معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى بلغ ابن القتيل، وكان ذلك في عصر الصحابة،
ولم ينكر عليه أحد.
2 - أن يتفق أولياء الدم جميعا على استيفائه، وليس لبعضهم أن ينفرد به، فإن
كان بعضهم غائبا، أو صغيرا، أو مجنونا، وجب انتظار الغائب حتى
__________
(1) أي توقيع العقوبة على الجاني.
(2/533)
يرجع، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى
يفيق، قبل أن يختار، لان من كان له الخيار في أمر لم يجز الافتيات عليه لان
في ذلك إبطال خياره.
وقال أبو حنيفة: للكبار استيفاء حقوقهم في القود، ولا ينتظر لهم بلوغ
الصغار.
فإن عفا أحد الاولياء سقط القصاص لانه لا يتجزأ.
3 - أن لا يتعدى الجاني إلى غيره، فإذا كان القصاص قد وجب على امرأة حامل،
لا تقتل حتى تضع حملها وتسقيه اللبأ.
لان قتلها يتعدى إلى الجنين، وقتلها قبل سقيه اللبأ يضربه، ثم بعد سقيه
اللبأ إن وجد من يرضعه أعطي له الولد، واقتص منها، لان غيرها يقوم على
حضانته، وإن لم يوجد من يرضعه ويقوم على حضانته، تركت حتى تفطمه مدة حولين.
روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا قتلت المرأة
عمدا لم تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها.
وإذا زنت لم ترجم حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملا، وحتى تكفل ولدها.
" وكذلك لايقتص من الحامل في الجناية على الاعضاء حتى تضع، وإن لم تسقه
اللبأ (1) .
متى يكون القصاص؟ يكون القصاص متى حضر أولياء الدم، وكانوا بالغين، وطالبوا
به، فإنه ينفذ فورا متى ثبت بأي وجه من وجوه الاثبات، إلا أن يكون القاتل
امرأة حاملا، فإنها تؤخر حتى تضع حملها، كما سبق.
بم يكون القصاص:
الاصل في القصاص أن يقتل القاتل بالطريقة التي قتل بها، لان ذلك مقتضى
المماثلة والمساواة، إلا أن يطول تعذيبه بذلك، فيكون السيف له أروح، ولان
الله تعالى يقول:
__________
(1) والحد مثل القصاص، إذا كان حدها الرجم.
(2/534)
" فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما
اعتدى عليكم " (1) .
ويقول: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " (2) .
وأخرج البيهقي من حديث البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من
غرض غرضنا له (3) ، ومن حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه ".
وقد رضخ الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي بحجر كما رضخ هو رأس المرأة
بحجر.
وقد قيد العلماء هذا بما إذا كان السبب الذي قتل به يجوز فعله، فإذا كان لا
يجوز فعله - كمن قتل بالسحر - فإنه لا يقتل به، لانه محرم.
قال بعض الشافعية: إذا قتل بإبجار الخمر، فإنه يؤجر بالخل.
وقيل يسقط اعتبار المماثلة.
ورأى الاحناف والهادوية: أن القصاص لا يكون إلا بالسيف.
لما أخرجه البزار وابن عدي عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " لاقود إلا بالسيف ".
ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وقال: " إذا قتلتم
فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ".
وأجيب على حديث أبي بكرة بأن طرقه كلها ضعيفة.
وأما النهي عن المثلة فهو مخصص بقوله تعالى: " وإن عاقبتم، فعاقبوا بمثل ما
عوقبتم به ".
وقوله: " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
هل يقتل القاتل في الحرم؟
اتفق العلماء على أن من قتل في الحرم فإنه قتله فيه.
فإذا كان قد
__________
(1) سورة البقرة: الآية 194.
(2) سورة النحل: الآية 126.
(3) أي اتخذ المقتول عرضا للسهام.
(2/535)
قتل خارجه ثم لجأ إليه، أو وجب عليه القتل
بسبب من الاسباب، كالردة، ثم لجأ إلى الحرم..فقال مالك: " يقتل فيه ".
وقال أحمد وأبو حنيفة: لا يقتل في الحرم، ولكن يضيق عليه، فلا يباع له ولا
يشترى منه، حتى يخرج منه، فيقتل خارجه.
سقوط القصاص: ويسقط القصاص بعد وجوبه بأحد الاسباب الآتية: 1 - عفو جميع
الاولياء أو أحدهم، بشرط أن يكون العافي عاقلا مميزا، لانه من التصرفات
المحضة التي لا يملكها الصبي ولا المجنون (1) .
2 - موت الجاني أو فوات الطرف الذي جنى به، فإذا مات من عليه القصاص، أو
فقد العضو الذي جنى به سقط القصاص، لتعذر استيفائه.
وإذا سقط القصاص وجبت الدية في تركته للاولياء عند الحنابلة وفي قول
للشافعي.
وقال مالك والاحناف: لا تجب الدية، لان حقوقهم كانت في الرقبة، وقد فاتت،
فلاسبيل لهم على ورثته فيما صار من ملكه إليهم.
وحجة الاولين: أن حقوقهم معلقة في الرقبة، أو في الذمة، وهم مخيرون
بينهما، فمتى فات أحدهما وجب الآخر.
3 - إذا تم الصلح بين الجاني والمجني عليه أو أوليائه.
القصاص من حق الحاكم: إن المطالبة بالقصاص حق لولي الدم كما تقدم، وتمكين
ولي الدم من الاستيفاء حق للحاكم.
قال القرطبي: لا خلاف أن القصاص في القتل لا يقيمه إلا أولو الامر، فرض
عليهم النهوض بالقصاص، وإقامة الحدود، وغير ذلك، لان الله سبحانه طالب جميع
المؤمنين بالقصاص، ثم لا يتهيأ للمؤمنين جميعا أن يجتمعوا على
__________
(1) إذا عفا الاولياء فليس للحاكم أن يتدخل بالمنع عن العفو.
كما أنه ليس له أن يستقل به إذا طلبوا القصاص.
(2/536)
القصاص، فأقاموا السلطان مقام أنفسهم في
إقامة القصاص وغيره من الحدود.
وعلة ذلك ما ذكره الصاوي - في حاشيته على الجلالين - قال: " فحيث ثبت القتل
عمدا عدوانا، وجب على الحاكم الشرعي أن يمكن ولي المقتول من القاتل، فيفعل
فيه الحاكم ما يختاره الولي من: القتل، أو العفو، أو الدية، ولا يجوز للولي
التسلط على القاتل من غير إذن الحاكم (1) ، لان فيه فسادا وتخريبا ".
فإذا قتله قبل إذن الحاكم عزر.
وعلى الحاكم أن يتفقد آلة القتل التي يقتص بها مخافة الزيادة في التعذيب
وأن يوكل التنفيذ إلى من يحسنه.
وأجرة التنفيذ على بيت المال.
الافتيات على ولي الدم: قال ابن قدامة: " وإذا قتل القاتل غير ولي الدم
فعلى قاتله القصاص،
ولورثته الاول الدية ".
وبهذا قال الشافعي رضي الله عنه.
وقال الحسن، ومالك: يقتل قاتله، ويبطل دم الاول، لانه فات محله.
وروى عن قتادة، وأبي هاشم أنه لاقود على الثاني، لانه مباح الدم، فلا يجب
قصاص بقتله.
وحجة الجمهور في وجوب القصاص على القاتل، أنه محل لم يتحتم قتله، ولم يبح
قتله لغير ولي الدم، فوجب بقتله القصاص.
القصاص بين الابقاء والالغاء: لقد ثار الجدل فعلا حول عقوبة الاعدام،
وتعرضت لها أقلام الكتاب، من الفلاسفة، ورجال القانون.
أمثال: " روسو، وبنتام، وبكاريا " وغيرهم.
__________
(1) فإذالم يكن للقتيل وارث فالامر فيه إلى الحاكم يفعل ما فيه مصلحة
المسلمين، فإن شاء اقتص، وإن شاء عفا على مال، وليس له أن يعفو على غير
مال، لان ذلك ليس له، وإنما هو ملك للمسلمين.
(2/537)
ومنهم من أيدها، ومنهم من عارضها ونادى
بإلغائها.
واستند القائلون بإلغائها إلى الحجج الآتية: (أولا) أن العقاب حق تملكه
الدولة باسم المجتمع الذي تذود عنه، وتقتضيه ضرورة المحافظة عليه وحمايته.
والمجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى يمكنه أن يحكم بمصادرتها.
(ثانيا) ولان الظروف وسوء الحظ قد يحيطان ببرئ، فيقضى خطأ بإعدامه، وعند
ذلك لا يمكن إصلاح هذا الخطأ، إذ لاسبيل إلى ارجاع حياة المحكوم عليه إليه.
(ثالثا) ولان هذه العقوبة قاسية وغير عادلة.
(رابعا) ولانها أخيرا غير لازمة، فلم يقم دليل على أن بقاءها يقلل من
الجرائم التي تستوجب الحكم بها، ورد القائلون ببقاء عقوبة الاعدام على هذه
الحجج: فقالوا عن الحجة الاولى: " وهي أن المجتمع لم يهب الفرد الحياة حتى
يصادر حياته " بأن المجتمع أيضا لم يهب الناس الحرية، ومع ذلك فإنه يحكم
بمصادرتها في العقوبات الاخرى المقيدة للحرية.
والاخذ بالحجة على إطلاقها يستتبع حتما القول بعدم مشروعية كل عقوبة مقيدة
للحرية.
على أن الامر ليس وقفا على التكفير عن خطأ الجاني، ولكنه أيضا للدفاع عن حق
المجتمع في البقاء، ببتر كل عضو يهدد كيانه ونظمه، الامر الذي يتحتم معه
القول بأن عقوبة الاعدام ضرورة تقتضيها عصمة النفس، والمحافظة على كيان
المجتمع.
وقالوا عن الحجة الثانية، وهي: " أن العقوبة تحدث ضررا جسيما لا سبيل
لاصلاحه ولا إيقافه - إذا حكم القضاء بها ظلما - " بأن احتمال الخطأ موجود
في العقوبات الاخرى، ولا سبيل إلى تدارك ما تم تنفيذه خطأ.
على أن حالات الاعدام خطأ تكاد تكون منعدمة، إذ أن القضاة يتحرجون عادة من
الحكم بتلك العقوبة، ما لم تكن أدلة الاتهام صارخة.
وردوا على القول ب " أنها غير عادلة " بأن الجزاء من جنس العمل.
وأما القول بأنها غير لازمة، فمردود عليه بأن وظيفة العقوبة - في الرأي
(2/538)
الراجح في علم العقاب - وظيفة نفعية: أي من
مقتضاها حماية المجتمع من شرور الجريمة.
وهذا يقتضي أن تكون العقوبة متناسبة مع درجة جسامة الجريمة، ذلك أن الجريمة
تحقق هوى في نفس المجرم، يقابله خوفه من العقاب، وكلما كان العقاب متناسبا
مع الجريمة أحجم الجاني عن الاقدام عليها، لانه سيوازن بين الامرين " بين
الجريمة التي سيقدم على ارتكابها، وبين العقوبة المقررة لها، فيدفعه الخوف
من العقاب إلى الاحجام عن الجريمة متى كانت العقوبة رادعة.
وفي ظل هذين الرأيين أقرت غالبية القوانين عقوبة الاعدام، ومنها قانون
العقوبات المصري، في حالات معينة، واستجابت بعض الدول لآراء من ثاروا عليها
فألغتها من قوانينها.
القصاص فيما دون النفس:
وكما يثبت القصاص في النفس، فإنه يثبت كذلك فيما دونها.
وهو نوعان:
1 - الاطراف.
2 - الجروح.
وقد أخبر القرآن الكريم عن نظام التوراة في القصاص في ذلك كله.
فقال: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، والعين بالعين والانف بالانف
والاذن بالاذن، والسن بالسن، والجروح قصاص، فمن تصدق فهو كفارة له، ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " (1) أي أن الله كتب على اليهود في
التوراة أن النفس تقتل بالنفس إذا قتلتها، " والعين تفقأ بالعين من غير فرق
بين عين صغيرة وعين كبيرة " ولا بين عين شيخ وعين طفل.
والانف يجدع بالانف. والاذن تقطع بالاذن.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 45.
(2/539)
والسن تقلع بالسن.
ولو كانت سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر.
والجروح يقتص فيها متى أمكن ذلك.
فمن تصدق بالقصاص، بأن مكن من نفسه، فهو كفارة لما ارتكبه.
وهذا الحكم، وإن كان كتب على من قبلنا، فهو شرع لنا، لتقرير النبي صلى الله
عليه وسلم له، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن
الربيع بنت النضر بن أنس كسرت ثنية جارية، ففرضوا عليهم الارش، فأبوا إلا
القصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر، فقال: يارسول الله تكسر ثنية الربيع،
والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس "
كتاب الله القصاص ".
قال: فعفا القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من عباد الله من
لو أقسم على الله لابره ".
وهذا كله العمد. أما الخطأ ففيه الدية.
شروط القصاص فيما دون النفس:
ويشترط في القصاص فيما دون النفس الشروط الآتية:
1 - العقل.
2 - البلوغ (1) .
3 - تعمد الجناية.
4 - وأن يكون دم المجني عليه مكافئا لدم الجاني.
وإنما يؤثر في التكافؤ: العبودية، والكفر، فلا يقتص من حر جرح عبدا أو قطع
طرفه.
ولا يقتص من مسلم جرح ذميا أو قطع طرفه كذلك، لعدم تكافؤ دمهما، لنقصان دم
العبد عن دم الحر، ودم الذمي عن دم المسلم.
وإذا لم يجب القصاص فإنه يجب بدله وهو الدية.
وإذا كان الجرح من العبد أو الذمي وقع على حر أو مسلم اقتص منهما.
ويرى الاحناف أنه يجب القصاص في الاطراف بين المسلم والكافر.
وقالوا أيضا: لاقصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس.
__________
(1) البلوغ يكون بالاحتلام أو السن، وأقصى السن 18 سنة وأقله 15 سنة، لحديث
ابن عمر، واختلف في الاثبات.
(2/540)
القصاص في الأطراف:
وضابط ما فيه القصاص من الاطراف، وما لاقصاص فيه: أن كل طرف له مفصل معلوم،
كالمرفق، والكوع، ففيه القصاص، وما لا مفصل له فلا قصاص فيه، لانه يمكن
المماثلة في الاول دون الثاني، فيقتص ممن قطع الاصبع من أصلها، أو قطع اليد
من الكوع أو المرفق، أو قطع الرجل من المفصل، أو فقأ العين، أو جذع الانف،
أو قطع الاذن، أو قلع السن، أو جب الذكر، أو قطع الانثيين.
شروط القصاص في الاطراف: ويشترط في القصاص في الاطراف ثلاثة شروط:
1 - الامن من الحيف بأن يكون القطع من مفصل، أو يكون له حد ينتهي إليه، كما
تقدمت أمثلة ذلك، فلا قصاص في كسر عظم غير السن، ولا جائفة، ولا بعض
الساعد، لانه لا يؤمن الحيف في القصاص في هذه الاشياء.
2 - المماثلة في الاسم والموضع، فلا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين، ولا
خنصر ببنصر، ولاعكس، لعدم المساواة في الاسم، ولا يؤخذ أصلي بزائد - ولو
تراضيا - لعدم المساواة في الموضع والمنفعة. ويؤخذ الزائد بمثله موضعا
وخلقة.
3 - استواء طرفي الجاني والمجني عليه في الصحة والكمال، فلا يؤخذ عضو صحيح
بعضو أشل، ولايد صحيحة بيد ناقصة الاصابع، ويجوز العكس، فتؤخذ اليد الشلاء
باليد الصحيحة.
القصاص من جراح العمد:
وأما جراح العمد، فلا يجب فيها القصاص إلا إذا كان ذلك ممكنا، بحيث يكون
مساويا لجراح المجني عليه من غير زيادة ولا نقص.
فإذا كانت المماثلة والمساواة لا يتحققان إلا بمجاوزة القدر، أو بمخاطرة،
أو إضرار، فإنه لا يجب القصاص، وتجب الدية، لان الرسول صلى الله عليه وسلم
رفع القود في المأمومة، والمنقلة، والجائفة، وهذا حكم ما كان في معنى هذه
من الجراح التي هي متالف: مثل كسر عظم الرقبة، والصلب، والفخذ، وما أشبه
ذلك.
(2/541)
والشجاج: وهي الجراحات التي تقع بالرأس
والوجه لاقصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا.
وسيأتي الكلام على بقية الشجاج في باب الديات.
ولا قصاص في اللسان، ولا في كسر عظم، إلا في السن، لانه لا يمكن الاستيفاء
من غير ظلم.
ومن جرح رجلا " جائفة " فبرئ منها، أو قطع يده من نصف الساعد، فلا قصاص
عليه، وليس له أن يقطع يده من ذلك الموضع، وله أن يقتص من الكوع، ويأخذ
حكومة لنصف الساعد، ولو كسر عظم رجل سوى السن، كضلع، أو قطع يدا شلاء أو
قدما لا أصابع فيها، أو لسانا أخرس، أو قلع عينا عمياء، أو قطع إصبعا
زائدة، ففي ذلك كله حكومة عدل.
اشتراك الجماعة في القطع أو الجرح: ذهبت الحنابلة إلى أنه إذا اشترك جماعة
في قطع عضو، أو جرح يوجب القصاص، فإن لم نتميز أفعالهم، فعليهم جميعا
القصاص، لما روى عن علي كرم الله وجهه: انه شهد عنده شاهدان على رجل بسرقة،
فقطع يده.
ثم جاء آخر، فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الاول، فرد شهادتهما على
الثاني، وغر مهما دية الاول، وقال: " لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما " وإن
تفرقت أفعالهم، أو قطع كل واحد من جانب، فلا قود عليهم.
وقال مالك والشافعي: يقتص منهم متى أمكن ذلك، فتقطع أعضاؤهم، ويقتص منهم
بالجراحة.
كما إذا اشترك جماعة في قتل نفس، فإنهم يقتلون بها.
وذهب الاحناف والظاهرية: إلى أنه لا تقطع يدان في يد، فإذا قطع رجلان يد
رجل، فلا قصاص على واحد منهما، وعليهما نصف الدية.
القصاص في اللطمة والضربة والسب:
يجوز للانسان أن يقتص ممن لطمه، أو لكزه، أو ضربه، أو سبه، لقول الله
سبحانه: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
(2/542)
عليكم، واتقوا الله ". (1) وقوله تعالى: "
وجزاء سيئة سيئة مثلها ". (2) وعلى هذا مضت السنة بالقصاص في ذلك.
ويشترط أن يكون، اللطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السب، الصادر من المجني
عليه مساويا للطم، أو اللكز، أو الضرب، أو السلب الصادر من الجاني، لان ذلك
هو مقتضى العدل الذي من أجله شرع القصاص.
كما يشترط في القصاص في اللطمة ألا تقع في العين أو في موضع يخشى منه
التلف.
ويشترط في القصاص في السب خاصة، ألا يكون محرم الجنس، فليس له أن يكفر من
كفره، أو يكذب على من كذب عليه، أو يلعن أب من لعن أباه، أو يسب أم من سب
أمه، لان تكفير المسلم أو الكذب عليه مما هو محرم في الاسلام ابتداء، ولان
أباه لم يلعنه حتى يلعنه.
وكذلك أمه لم تشتمه فيسبها، له أن يلعن من لعنه، ويقبح من قبحه، ويقول
الكلمة النابية، ويردها على وقائلها قصاصا.
قال القرطبي: " فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك، ومن شتمك فرد عليه مثل
قوله، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه، لا تتعدى إلى أبويه، ولا ابنه أو قريبه، وليس
لك أن تكذب عليه، وإن كذب عليك، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية.
فلو قال لك مثلا: يا كافر. جاز لك أن تقول له: أنت الكافر. وإن قال لك: يا
زان، فقصاصك أن تقول له: يا كذاب، يا شاهد زور.
ولو قلت له: يا زان كنت كاذبا، وأثمت في الكذب. وإن مطلك وهو غني - دون عذر
- فقل: يا ظالم. يا آكل أموال الناس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " (3) .
__________
(1) سورة البقرة: الآية 194.
(2) سورة الشورى: الآية 40.
(3) اللي: المطل.
والواجد: القادر على قضاء الدين.
(2/543)
" أما عرضه فيما فسرناه، وأما عقوبته
فالسجن يحبس فيه " (1) . انتهى.
والقصاص في اللطمة، والضرب، والسب، ثابت عن الخلفاء الراشدين وغيرهم من
الصحابة والتابعين.
ذكر البخاري عن أبي بكر، وعلي، وابن الزبير، وسويد بن مفرن أنهم أقادوا من
اللطمة وشبهها.
قال ابن المنذر: " وما أصيب به من سوط، أو عصا، أو حجر، فكان دون النفس،
فهو عمد، وفيه القود ".
وهذا قول جماعة من أصحاب الحديث.
وفي البخاري: " وأقاد عمر رضي الله عنه من ضربة بالدرة.
وأقاد علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، من ثلاثة أسواط، واقتص شريح من سوط
وخموش ".
وخالف في ذلك كثير من فقهاء الامصار، فقالوا: بعدم مشروعية القصاص في شئ من
هذا، لان المساواة متعذرة في ذلك غالبا.
وإذا كان لا يجب فيها القصاص فالواجب فيها التعزير.
وقد رجح شيخ الاسلام ابن تيمية الرأي الاول، فقال: " وأما قول القائل: إن
المماثلة في ذلك متعذرة، فيقال له: لابد لهذه الجناية من عقوبة: إما قصاص،
وإما تعزير.
فإذا جوز أن يكون تعزيرا غير مضبوط الجنس والقدر، فلان يعاقب بما هو أقرب
إلى الضبط من ذلك أولى وأحرى.
والعدل في القصاص معتبر بحسب الامكان.
ومن المعلوم أن الضارب إذا ضرب مثل ضربته أو قريبا منها، كان هذا أقرب إلى
العدل من أن يعزر بالضرب بالسوط.
فالذي يمنع القصاص في ذلك - خوفا من الظلم - يبيح ما هو أعظم ظلما مما فر
منه، فيعلم أن ما جاءت به السنة أعدل وأمثل " انتهى.
القصاص في إتلاف المال:
إذا أتلف إنسان مال غيره، كن يقطع شجره، أو يفسد زرعه، أو
__________
(1) قرطبي، ج 2، ص 360.
(2/544)
يهدم داره، أو يحرق ثوبه، فهل له أن يقتص
منه فيفعل به مثل ما فعل؟ للعلماء في ذلك رأيان:
1 - رأي يرى أن القصاص في ذلك غير مشروع، لانه إفساد من جهة، ولان العقار
والثياب غير متماثلة من جهة أخرى.
2 - ورأي يرى شرعية ذلك، لان القصاص في الانفس والاطراف جائز، ولاشك أن
الانفس والاطراف أعظم قدرا من الاموال.
وإذا كان القصاص جائزا فيها، فالاموال - وهي دونها - من باب أولى.
ولهذا جاز لنا أن نفسد أموال أهل الحرب إذا أفسدوا أموالنا، كقطع الشجر
المثمر.
وإن قيل بالمنع من ذلك لغير حاجة.
ورجح ابن القم هذا الرأي، فقال: " إتلاف المال، فإن كان مما له حرمة،
كالحيوان والعبيد، فليس له أن
يتلف ماله كما أتلف ماله، وإن لم تكن له حرمة، كالثوب يشقه، والاناء يكسره،
فالمشهور أنه ليس له أن يتلف عليه نظير ما أتلفه بل له القيمة أو المثل.
والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه، كما فعله الجاني به،
فيشق ثوبه كما شق ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه، إذا كانا متساويين، وهذا
من العدل، وليس مع من منعه نص، ولاقياس، ولا إجماع، فإن هذا ليس بحرام لحق
الله، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والاطراف، فإذا مكنه الشارع أن
يتلف طرفه بطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله هو أولى وأحرى.
وإن حكمة القصاص من التشفي، ودرك الغيظ، لا تحصل إلا بذلك.
ولانه قد يكون له غرض في أذاه وإتلاف ثيابه، ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك
عليه، لكثرة ماله، فيشفي نفسه منه بذلك، ويبقى المجني عليه بغبنه وغيظه،
فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه، ودرك ثأره، وبرد قلبه، وإذاقة الجاني
من الاذى ما ذاقه هو.
فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة، وقياسها معا يأبى ذلك.
وقوله تعالى: " فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
(2/545)
وقوله تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها ".
وقوله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ".
يقتضي جوازا ذلك.
وقد صرح الفقهاء بجواز إحراق زرع الكفار، وقطع أشجارهم، إذا كانوا يفعلون
ذلك بنا.
وهذا عين المسألة.
وقد أقر الله سبحانه الصحابة على قطع نخل اليهود، لما فيه من خزيهم،
وهذا يدل على أنه سبحانه يحب خزي الجاني الظالم، ويشرعه.
وإذا جاز تحريق متاع الغال، لكونه تعدى على المسلمين في خيانتهم في شئ من
الغنيمة، فلان يحرق ماله إذا حرق مال المسلم المعصوم، أولى وأحرى.
وإذا شرعت العقوبة المالية في حق الله، الذي مسامحته به أكثر من استيفائه،
فلان تشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى.
ولان الله سبحانه، شرع القصاص زجرا للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن
يوجب الدية استدراكا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أكمل وأصلح
للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس وللاطراف وإلا فمن كان في
نفسه من الآخر - من قتله أو قطع طرفه - قتله أو قطع طرفه وأعطى ديته
والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك.
وهذا بعينه موجود في العدوان على المال.
فإن قيل: هذا ينجبر بأن يعطيه نظير ما أتلفه عليه.
قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه، فهذا هو محض
القياس، وبه قال الاحمدان: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيمية.
قال في رواية موسى بن سعيد: " وصاحب الشئ يخير: إن شاء شق الثوب، وإن شاء
أخذ مثله " انتهى.
ضمان المثل: اتفق العلماء على أن من استهلك، أو أفسد شيئا من المطعوم، أو
المشروب أو الموزون، فإنه يضمن مثله.
(2/546)
قالت عائشة رضي الله عنها: " ما رأيت صانع
طعام مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما، فبعثت به،
فأخذني أفكل (1) ، فكسرت الاناء، فقلت: يا رسول الله.
ما كفارة ما صنعت؟ فقال: إناء مثل إناء، وطعام مثل طعام ". رواه أبو داود.
واختلفوا فيما إذا كان ما استهلك، أو أفسد، مما لا يكال ولا يوزن.
فذهبت الاحناف والشافعية: إلى أن على من استهلكه أو أفسده، ضمان المثل، ولا
يعدل عنه إلى القيمة إلا عند عدم المثل لقول الله تعالى: " فمن اعتدى
عليكم، فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
وهذا عام في الاشياء جميعها، ويؤيده حديث عائشة المتقدم.
وذهبت المالكية إلى أنه يضمن القيمة، لا المثل (2) الاعتداء بالجرح أو أخذ
المال إذا تعدى إنسان على آخر بالجرح، أو بأخذ المال، فهل للمعتدى عليه، أن
يأخذ حقه بنفسه إذا ظفر به؟ للعلماء في هذه المسألة أكثر من رأي، وقد رجح
القرطبي الجواز فقال: " والصحيح جواز ذلك، كيفما توصل إلى أخذ حقه، ما لم
يعد سارقا، وهو مذهب الشافعي، وحكاه الداودي عن مالك، وقال به ابن المنذر،
واختاره ابن العربي، وأن ذلك ليس خيانة، وإنما هو وصول إلى حق، وقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ".
وأخذ الحق من الظالم نصر له.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما
قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني،
__________
(1) أفكل، على وزن أفعل: وهو الرعدة، أي أنها ارتعدت من شدة الغيرة.
(2) قرطبي، ج 2، ص 259.
(2/547)
إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي
جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك ويكفي ولدك
بالمعروف ".
فأباح لها الاخذ، وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها.
وهذا كله ثابت في الصحيح، وقوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم " قاطع في موضع الخلاف.
قال: واختلفوا إذا ظفر بمال له من غير جنس ماله.
فقيل: لا يأخذ إلا بحكم الحاكم.
وللشافعي قولان: أصحهما الاخذ قياسا على ما لو ظفر له من جنس ماله.
والقول الثاني: لا يأخذ، لانه خلاف الجنس.
ومنهم من قال: يتحرى قيمة ماله عليه، ويأخذ مقدار ذلك، وهذا هو الصحيح لما
بيناه بالدليل " انتهى.
الاقتصاص من الحاكم إن الحاكم فرد من أفراد الامة، لا يتميز عن غيره إلا
كما يتميزا الوصي أو الوكيل، ويحري عليه ما يجري على سائر الافراد.
فإذا تعدى على فرد من أفراد الامة اقتص منه، لانه لا فرق بينه وبين غيره في
أحكام الله، فأحكام الله عامة، تتناول المسلمين جميعا، فعن أبي نضرة عن أبي
فراس، قال: خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أيها الناس: " إني
والله ما أرسل عمالا ليضربوا أبشاركم، ولاليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم
ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم، فمن فعل به شئ سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس
عمر بيده لاقصنه منه.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: " لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ "
قال: إي والذي نفسي بيده.
إذن لاقصنه منه، وكيف لا أقصه منه
(2/548)
وقد رأيت رسول الله يقص من نفسه " رواه أبو
داود، والنساتي.
وروى النسائي وأبو داود من حديث أبي سعيد بن جبير فقال: " بينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا بيننا، إذ أكب عليه رجل، فطعنه رسول الله
بعرجون كان معه. فصاح الرجل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعالى
فاستقد، فقال الرجل: بل عفوت يا رسول الله " وعن أبي بكر الصديق رضي الله
عنه أنه قال لرجل شكا إليه: أن عاملا قطع يده: " لئن كنت صادقا لاقيدنك منه
".
وقال الشافعي في رواية الربيع: وروى من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: "
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي القود من نفسه، وأبا بكر يعطي
القود من نفسه، وأنا أعطي القود من نفسي "
هل يقاد الزوج إذا أصاب امرأته بشئ: قال ابن شهاب: مضت السنة أن الرجل إذا
أصاب امرأته بجرح، أن عليه عقل ذلك الجرح، ولا يقاد منه.
وفسر ذلك مالك، فقال: إذا عمد الرجل إلى امرأته ففقأ عينها، أو كسر يدها،
أو قطع أصبعها، أو أشباه ذلك، متعمدا لذلك، فإنها تقاد منه.
وأما الرجل: يضرب امرأته بالحبل أو السوط، فيصيبها من ضربه ما لم يرده ولم
يتعمده، فإنه يعقل ما أصاب منها على هذا الوجه، ولا تقاد منه.
قال في المسوى: أهل العلم على هذا التأويل.
لا قصاص من الجراحات حتى يتم البرء:
لايقتص من الجاني في الجراحات، ولا تطلب منه دية حتى يتم برء المجني عليه
من الجراحة التي أصيب بها، وتؤمن السراية، فإذا سرت الجناية إلى أجزاء أخرى
من البدن ضمنها الجاني.
(2/549)
ولا يقاد في البرد الشديد، ولا الحر
الشديد، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه.
فإن اقتص منه في حر أو برد، أو بآلة كالة، أو مسمومة، لزمت بقية الدية إن
حدث التلف.
فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته، فجاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقدني.
فقال: حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال أقدني، فأقاده.
ثم جاء إليه فقال: يا رسول الله: عرجت.
فقال صلى الله عليه وسلم: قد نهيتك فعصيتني، فأبعدك الله، وبطل عرجك.
" ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه.
رواه أحمد، والدارقطني.
وفهم الشافعي من هذا أن الانتظار مندوب إليه، لان الرسول صلى الله عليه
وسلم كان متمكنا من الاقتصاص قبل الاندمال.
وذهب غيره من الائمة: إلى أن الانتظار واجب، وإذنه بالاقتصاص كان قبل علمه
بما يئول إليه من المفسدة.
وإذا قطع الجاني إصبعا عمدا، فعفا المجروح عنه، ثم سرت الجناية إلى الكف أو
النفس، فالسراية هدر إن كان العفو على غير شئ، وإن كان العفو على مال،
فللمجروح دية ما سرت إليه، بأن يسقط من دية ما سرت إليه الجناية أرش ما عفا
عنه، ويجب الباقي.
موت المقتص منه:
إذا مات المقتص منه بسبب الجرح الذي أصابه من أجل القصاص فقد اختلفت فيه
أنظار العلماء.
فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا شئ على المقتص، لعدم التعدي، ولان السارق إذا
مات من قطع يده، فإنه لاشئ على الذي قطع يده بالاجماع.
وهذا مثل ذلك.
وقال أبو حنيفة، والثوري، وابن أبي ليلى: " إذا مات وجب على عائلة المقتص
الدية، لانه قتل خطأ "
(2/550)
الدية:
تعريفها: الدية هي المال الذي يجب بسبب
الجناية، وتؤدى إلى المجني عليه، أو وليه.
يقال: وديت القتيل: أي أعطيت ديته.
وهي تنتظم ما فيه القصاص، وما لا قصاص فيه.
وتسمى الدية، ب " العقل " وأصل ذلك: أن القاتل كان إذا قتل قتيلا، جمع
الدية من الابل.
فعقلها بفناء أولياء المقتول: أي شدها بعقالها ليسلمها إليهم.
يقال: عقلت عن فلان إذا غرمت عنه دية جنايته.
وقد كان النظام الدية معمولا به عند العرب، فأبقاه الاسلام.
وأصل ذلك قول الله سبحانه: " وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا، إلا خطأ.
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا.
فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن، فتحرير رقبة مؤمنة، وإن كان من قوم بينكم
وبينهم ميثاق، فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين، توبة من الله، وكان الله عليما حكيما " (1) .
وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: " كانت قيمة الدية على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانماية دينار، أو ثمانية آلاف درهم.
ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين.
__________
(1) سورة النساء: الآية 92.
(2/551)
قال: فكان ذلك كذلك.
حتى استخلف عمر رحمه الله، فقام خطيبا فقال: ألا إن الابل قد غلت.
قال: ففرضها عمر على أهل الذهب (1) ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر
ألفا.
وعلى أهل البقر مائتي بقرة.
وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة (2) .
قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفعه من الدية.
قال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولامن أهل الورق إلا قيمة الابل
بالغة ما بلغت.
والمرجح أنه لم يثبت بطريق لا شك فيه تقدير الرسول الدية بغير الابل، فيكون
عمر قد زاد في أجناسها، وذلك لعلة جدت واستوجبت ذلك.
حكمتها: والمقصود منها: الزجر، والردع، وحماية الانفس.
ولهذا يجب أن تكون بحيث يقاسي من أدائها المكلفون بها، ويجدون منها حرجا
وألما ومشقة، ولا يجدون هذا الالم ويشعرون به، إلا إذا كان مالا كثيرا ينقص
من أموالهم، ويضيقون بأدائه ودفعه إلى المجني عليه أو ورثته، فهي جزاء يجمع
بين العقوبة والتعويض.
(3) قدرها: الدية فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدرها فجعل دية
الرجل الحر المسلم: مائة من الابل على أهل الابل (4) ، ومائتي بقرة على أهل
__________
(1) أهل الذهب هم: أهل الشام، وأهل مصر.
وأهل الورق هم: أهل العراق، كما في الموطأ ج 2.
(2) الحلل: إزار ورداء، أو قميص وسروال.
ولا تكون حلة حتى تكون ثوبين.
(3) تاريخ الفقه، صفحة 82.
(4) قال أبو حنيفة، وأحمد رضي الله عنهما في إحدى الرو ايتين عنه: " دية
العمد أرباع ": " خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون
حقاق وخمس وعشرون جذاع ".
(2/552)
البقر، وألفي شاة على أهل الشاء، وألف
دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الفضة، ومائتي حلة على
أهل الحلل.
فأيها أحضر من تلزمه الدية لزم الولي قبولها، سواء أكان ولي الجناية من أهل
ذلك النوع أو لم يكن، لانه أتى بالاصل في الواجب عليه.
القتل الذي تجب فيه: ومن المتفق عليه بين العلماء أنها تجب في القتل الخطأ
وفي شبه العمد، وفي العمد الذي وقع ممن فقد شرطا من شروط التكليف، مثل
الصغير (1) والمجنون.
وفي العمد الذي تكون فيه حرمة المقتول ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر إذا
قتل العبد.
كما تجب على النائم الذي انقلب في نومه على آخر فقتله.
وعلى من سقط على غيره فقتله، كما تجب على من حفر حفرة فتردى فيها شخص فمات،
وعلى من قتل بسبب الزحام.
وجاء في ذلك عن حنش بن المعتمر، عن علي رضي الله عنه قال: " بعثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فانتهينا إلى قوم قد بنو زبية للاسد،
فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق الرجل بآخر، حتى
صاروا فيها أربعة، فجرحهم الاسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من
جراحهم كلهم، فقام أولياء الاول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح
ليقتتلوا، فأتاهم علي رضي الله عنه على تفئة ذلك، فقال: تريدون أن تقتتلوا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي.
إني أقضي بينكم قضاء، إن رضيتم به فهو القضاء، وإلا حجر بعضكم
__________
وهي كذلك عندهما في شبه العمد.
وقال الشافعي، وأحمد في الرواية الاخرى عنه: هي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة،
وأربعون خلفة، في بطونها أولادها.
" وأما دية الخطأ " فقد اتفقوا على أنها أخماس: عشرون جذعة، وعشرون حقة،
وعشرون بنات لبون، وعشرون ابن مخاض وعشرون بنت مخاض.
وجعل مالك، والشافعي، رضي الله عنهما، مكان ابن مخاض ابن لبون.
(1) " الجناية إذا كانت من صغير أو مجنون تجب ديتها على العاقلة عند أبي
حنيفة ومالك ".
" وقال الشافعي رضي الله عنه: عمد الصغير في ماله ".
(2/553)
على بعض حتى تأتوا النبي صلى الله عليه
وسلم، فيكون هو الذي يقضي بينكم فمن عدا ذلك فلا حق له.
أجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر: ربع الدية.
وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة.
فللاول: ربع الدية، لانه هلك من فوق ثلاثة.
وللثاني: ثلث الدية.
وللثالث: نصف الدية.
وللرابع: الدية كاملة.
فأبوا إلا أن يمضوا، وأتو النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند مقام إبراهيم،
فقصوا عليه القصة، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
رواه أحمد، ورواه بلفظ آخر نحو هذا، وجعل الدية على قبائل الذين ازدحموا.
وعن علي بن رباح اللخمي أن أعمى كان ينشد في الموسم في خلافة عمر ابن
الخطاب، وهو يقول: يا أيها الناس لقيت منكرا - هل يعقل الاعمى الصحيح
المبصرا جرا معا كلاهما تكسرا وذلك أن أعمى كان يقوده بصير، فوقعا في بئر.
فوقع الاعمى على البصير فمات البصير، فقضى عمر بعقل البصير على الاعمى.
رواه الدارقطني.
وفي الحديث " أن رجلا أتى أهل أبيات فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات، فأغرمهم
عمر رضي الله عنه الدية ".
حكاه أحمد في رواية ابن منصور، وقال: أقول به.
ومن صاح على آخر فجأة، فمات من صيحته تجب ديته.
ولو غير صورتهوخوف صبيا فجن الصبي فإنه يضمن.
الدية مغلظة ومخففة: والدية تكون مغلظة ومخففة، فالمخففة تجب في قتل الخطأ،
والمغلظة تجب في قتل شبه العمد.
وأمادية قتل العمد إذا عفا ولي الدم فإن الشافعي والحنابلة يرون أنه يجب في
هذه الحال دية مغلظة.
(2/554)
وأما أبو حنيفة فإنه يرى أنه لادية في
العمد، وإنما الواجب فيه ما اصطلح الطرفان عليه.
وما اصطلحوا عليه حال، غير مؤجل.
والدية المغلظة مائة من الابل في بطون أربعين منها أولادها.
لما رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن قبة بن أوس،
عن رجل من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا إن قتل خطأ العمد
بالسوط، والعصا، والحجر فيه دية مغلظة: مائة من الابل، منها أربعون من ثنية
(1) إلى بازل عامها، كلهن خلفة ".
والتغليظ لا يعتبر إلا في الابل خاصة دون غيرها، لان الشارع ورد بذلك، وهذا
سبيله التوقيف والسماع الذي لا مدخل للرأي فيه، لانه من بات المقدرات.
تغليظ الدية في الشهر الحرام والبلد الحرام وفي الجناية على القريب: ويرى
الشافعي وغيره: أن الدية تغلظ في النفس والجراح بالجناية في البلد الحرام،
وفي الشهر الحرام، وفي الجناية على ذي الرحم المحرم، لان الشرع عظم هذه
الحرمات، فتعظم الدية بعظم الجناية.
وروي عن عمر، والقاسم بن محمد، وابن شهاب: أن يزاد في الدية مثل ثلثها.
وذهب أبو حنيفة ومالك: إلى أن الدية لا تغلظ لهذه الاسباب، لانه لا دليل
على التغليظ، إذ أن الديات يتوقف فيها على الشارع، والتغليظ فيما وقع خطأ
بعيد عن أصول الشرع.
على من تجب:
الدية الواجبة على القاتل نوعان:
1 - نوع يجب على الجاني في ماله (2) ، وهو القتل العمد، إذا سقط القصاص.
__________
(1) الثنية من الابل: مادخل في السنة السادسة من عمره، والبازل: الذي دخل
في التاسعة واكتمل قوته، ويقال له بعد ذلك: بازل عام، وبازل عامين.
والخلفة: الحامل من النوق.
(2) سواء كان رجلا أم امرأة.
(2/555)
يقول ابن عباس: " لاتحمل العاقلة عمدا، ولا
اعترافا، ولا صلحا في عمد ". ولا مخالف له من الصحابة.
وروى مالك عن ابن شهاب قال: " مضت السنة في العمد حين يعفوا أولياء المقتول
أن الدية تكون على القاتل في ماله خاصة، إلا أن تعينه العاقلة عن طيب نفس
منها.
وإنما لا تعقل العاقلة واحدا من هذه الثلاثة: أي لا يعقل العمد، ولا
الاقرار، ولا الصلح، لان العمد يوجب العقوبة، فلا يستحق التخفيف عنه بتحمل
العاقلة عنه شيئا من الدية، ولا تعقل الاقرار لان الدية وجبت بالاقرار
بالقتل لا بالقتل نفسه، والاقرار حجة قاصرة: أي أنه حجة في حق المقر، فلا
يتعدى إلى العاقلة.
ولا تعقل العاقلة الاقرار بالصلح، لان بدل الصلح لم يجب بالقتل، بل وجب
بعقد الصلح، ولان الجاني يتحمل مسئولية جنايته، وبدل المتلف يجب على متلفه.
2 - ونوع يجب على القاتل، وتتحمله عنه العاقلة، إذا كانت له عاقلة بطريق
التعاون، وهو قتل شبه العمد وقتل الخطأ (1) .
والقاتل كأحد أفراد العاقلة، لانه هو القاتل، فلا معنى لاخراجه.
وقال الشافعي: لا يحب على القاتل شئ من الدية لانه معذور.
والعاقلة: مأخوذ من العقل، لانها تعقل الدماء: أي تمسكها من أن تسفك: يقال
عقل البعير عقلا: أي شده بالعقال.
ومنه العقل، لانه يمنع من التورط في القبائح.
والعاقلة هي الجماعة الذين يعقلون العقل، وهي الدية، يقال عقلت القتيل: أي
أعطيت ديته، وعقلت عن القاتل.
أديت ما لزمه من الدية.
والعاقلة هم عصبة الرجل:
أي قرابته الذكور البالغون - من قبل الاب - (2) (1) وكذلك عمد الصغير
والمجنون على عاقلتهما، وقال قتادة، وأبو ثور، وابن ابي دليلى، وابن شبرمة:
دية شبه العمد في مال الجاني.
وهذا القول ضعيف.
(2) ويدخل فيهم الاب والابن عند مالك وأبي حنيفة وأظهر الروايتين عند أحمد.
(2/556)
الموسرون العقلاء، ويدخل فيهم: الاعمى،
والزمن، والهرم، إن كانوا أغنياء لا يدخل في العاقلة: أنثى، ولا فقير، ولا
صغير، ولا مجنون، ولا مخالف لدين الجاني، لان مبنى هذا الامر على النصرة،
وهؤلاء ليسوا من أهلها.
وأصل وجوب الدية على العاقلة: ما ثبت من أن امرأتين من هزيل إقتتلتا، فرمت
إحداهما الاخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بدية المرأة على عاقلتها.
رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وكانت العاقلة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة الجاني، وبقيت كذلك
حتى جاء عهد عمر رضي الله عنه، فلما نظم الجيوش، ودون الدواوين جعل العاقلة
هم أهل الديوان، خلافا لما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجاب السرخسي عن هذا الذي وضعه عمر.
فقال: " إن قيل: كيف يظن بالصحابة الاجماع على خلاف ما قضى به رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: هذا اجتماع على وفاق ما قضى به رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار
النصرة، وكانت قوة المرء ونصرته يومئذ بعشيرته.
ثم لما دون عمر رضي الله عنه الدواوين صارت القوة والنصرة للديوان، فقد كان
المرء يقاتل قبيلته عن ديوانه " اه.
وإذا كان الاحناف قد ارتضوا هذا، فإن المالكية والشافعية قد رفضوه، لانه
لانسخ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس من حق أحد أن يغير ما كان
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والدية التي تجب على العاقلة مؤجلة في ثلاث سنين (1) باتفاق العلماء
__________
(1) كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيها دفعة واحدة، تأليفا للقلوب
وإصلاحا لذات البين، فلما تمهد الاسلام قدرتها الصحابة على هذا النظام.
فإذا رأى الامام المصلحة في التعجيل كان له ذلك.
(2/557)
وأما التي تجب على القاتل في ماله، فإنها
تكون حالة عند الشافعي رضي الله عنه، لان التأجيل للتخفيف عن العاقلة، فلا
يلتحق به العمد المحض.
ويرى الاحناف أنها مؤجلة في ثلاث سنين، مثل دية قتل الخطأ.
وإيجاب دية قتل شبه العمد، والخطأ على العاقلة استثناء من القاعدة العامة
في الاسلام.
وهي: أن الانسان مسؤول عن نفسه ومحاسب على تصرفاته، لقول الله عزوجل: "
لاتزر وازرة وزر أخرى ".
ولقول الرسول الكريم: " لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه ".
رواه النسائي عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وإنما جعل الاسلام اشتراك العاقلة في تحمل الدية في هذه الحالة، من أجل
مواساة الجاني، ومعاونته في جناية صدرت عنه من غير قصد منه.
وكان ذلك إقرارا لنظام عربي، اقتضاه ما كان بين القبائل من التعاون والتآزر
والتناصر.
وفي ذلك حكمة بينة، وهي أن القبيلة إذا علمت أنها ستشارك في تحمل الدية،
فإنها تعمل من جانبها على كف المنتسبين إليها عن ارتكاب الجرائم، وتوجههم
إلى السلوك القويم الذي يجنبهم الوقوع في الخطأ.
ويرى جمهور الفقهاء أن العاقلة لاتحمل من دية الخطأ إلا ما جاوز الثلث، وما
دون الثلث في مال الجاني (1) .
ويرى مالك وأحمد رضي الله عنهما، أنه لا يجب على واحد من العصبة قدر معين
من الدية، ويجتهد الحاكم في تحميل كل واحد منهم ما يسهل عليه، ويبدأ
بالاقرب فالاقرب.
أما الشافعي رضي الله عنه، فيرى أنه يجب على الغني دينار، وعلى الفقير نصف
دينار.
والدية عنده مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالاقرب من بني أبيه ثم بني
جده، ثم من بني بني أبيه، قال: فإن لم يكن للقاتل عصبة نسبا
__________
(1) وقال الشافعي رضي الله عنه: عقل الخطأ على العاقلة، قلت الجناية أو
كثرت، لان من غرم الاكثر غرم الاقل، كما أن عقل العمد في مال الجاني: قل أو
كثر.
(2/558)
ولا ولاء، فالدية في بيت المال. لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " أنا ولي من لا ولي له ". وكذلك إذا كان فقيرا
وعاقلته فقيرة، لا تستطيع تحمل الدية، فإن بيت المال هو الذي يتحملها.
وإذا قتل المسلمون رجلا في المعركة - ظنا أنه كافر - ثم تبين أنه مسلم فإن
ديته في بيت المال.
فقد روى الشافعي رضي الله عنه، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
بدية اليمان - والد حذيفة - وكان قد قتله المسلمون يوم أحد، ولا يعرفونه،
وكذلك من مات من الزحام تجب ديته في بيت المال، لانه مسلم مات بفعل قوم
مسلمين، فتجب ديته في بيت المال.
روى مسدد: أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات، فوداه علي كرم الله وجهه، من بيت
مال المسلمين.
والمفهوم من كلام الاحناف أن الدية في هذه الازمان في مال الجاني، ففي كتاب
" الدرر المختار ": " إن التناصر أصل هذا الباب، فمتى وجد وجدت العاقلة،
وإلا فلا ".
وحيث لاقبيلة، ولا تناصر، فالدية في بيت المال فإن عدم بيت المال أو لم يكن
منتظما فالدية في مال الجاني.
وقال ابن تيمية: " وتؤخذ الدية من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي
العلماء ".
دية الاعضاء يوجد في الانسان من الاعضاء ما منه عضو واحد: كالانف، واللسان،
والذكر.
ويوجد فيه ما منه عضوان: كالعينين، والاذنين، والشفتين، واللحيين واليدين،
والرجلين، والخصيتين، وثديي المرأة، وثندوتي الرجل (1) ، والاليتين، وشفري
المرأة.
__________
(1) مثنى ثندوة، وهما للرجل كالثديين للمرأة.
(2/559)
ويوجد ما هو أكثر من ذلك.
فإذا أتلف إنسان من إنسان آخر هذا العضو الواحد أو هذين العضوين، وجبت
الدية كاملة، وإذا أتلف أحد العضوين وجب نصف الدية.
فتجب الدية كاملة في الانف، لان منفعته في تجميع الروائح في قصبته،
وارتفاعها إلى الدماغ، وذلك يفوت بقطع المارن.
وكذلك تجب الدية في قطع اللسان، لفوات النطق، الذي يتميز به الآدمي عن
الحيوان الاعجم.
والنطق منفعة مقصودة يقوت بفواتها مصالح الانسان، من إفهام غيره أغراضه،
والابانة عن مقاصده.
وكذلك تجب الدية بقطع بعضه، إذا عجز عن الكلام جملة لفوات المنفعة نفسها
التي تفوت بقطعه كله.
فإذا عجز عن النطق ببعض الحروف، وقدر على بعض منها، فإن الدية تقسم على عدد
الحروف.
وقد روي عن علي، كرم الله وجهه: أنه قسم الدية على الحروف، فما قدر عليه من
الحروف أسقط بحسابه من الدية.
وما لم يقدر عليه ألزمه بحسابه منها.
وتجب الدية في قطع الذكر، ولو كان المقطوع منه الحشفة فقط، لان فيه منفعة
الوطء، واستمساك البول.
وكذلك تجب الدية إذا ضرب الصلب فعجز عن المشي، وتجب الدية كاملة في
العينين، وفي العين الواحدة نصفها، وفي الجفنين كما لها، وفي جفني إحدى
العينين نصفها وفي واحدة منها ربعها، وفي الاذنين كمال الدية،
وفي الواحدة نصفها، وفي الشفتين كمال الدية، وفي الواحدة نصفها، يستوي
فيهما العليا والسفلى.
وفي اليدين كمال الدية، وفي اليد الواحدة نصفها، وفي الرجلين كمال الدية،
وفي الرجل الواحدة نصفها، وفي أصابع اليدين والرجلين الدية كاملة، وفي كل
أصبع عشر من الابل، والاصابع سواء، لا فرق بين خنصر وإبهام، وفي كل أنملة
من أصابع اليدين أو الرجلين ثلث عشر الدية، في كل أصبع ثلاث مفاصل،
والابهام فيه مفصلان، وفي كل مفصل منهما نصف عشر الدية، وفي الخصيتين كمال
(2/560)
الدية، وفي إحداهما نصفها، ومثل ذلك في
الاليتين، وشفري المرأة وثدييها وثندوني الرجل ففيهما الدية كاملة، وفي
إحداهما نصفها.
وفي الاسنان كمال الدية، وفي كل سن خمس من الابل، والاسنان سواء من غير ضرس
وثنية.
وإذا أصيبت السن ففيها ديتها، وكذلك إن طرحت بعد أن تسود.
دية منافع الاعضاء وتجب الدية كاملة إذا ضرب إنسان إنسانا فذهب عقله، لان
العقل هو الذي يميز الانسان عن الحيوان، وكذلك إذا ذهبت حاسة من حواسه: ك "
سمعه، أو بصره، أوشمه، أو ذوقه، أو كلامه بجميع حروفه " لان في كل حاسة من
هذه الحواس منفعة مقصودة، بها جماله وكمال حياته، وقد قضى عمر رضي الله عنه
في رجل ضرب رجلا، فذهب سمعه، وبصره، ونكاحه، وعقله، بأربع ديات والرجل حي.
وإذا ذهب بصر إحدى العينين، أو سمع إحدى الاذنين، ففيه نصف الدية، سواء
كانت الاخرى صحيحة أم غير صحيحة.
وفي حلمتي ثديي المرأة ديتها، وفي إحداهما نصفها.
وفي شفريها ديتها، وفي أحدهما نصفها.
وإذا فقئت عين الاعور الصحيحة، يجب فيها كمال الدية، قضى بذلك عمر، وعثمان،
وعلي، وابن عمر.
ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة، لان ذهاب عين الاعور ذهاب البصر كله، إذ
أنه يحصل بها ما يحصل بالعينين.
وفي كل واحد من الشعور الاربعة كمال الدية. وهي:
1 - شعر الرأس.
2 - شعر اللحية.
3 - شعر الحاجبين.
4 - أهداب العينين وفي الحاجب نصف الدية. وفي الهدب ربعها. وفي الشارب يترك
فيه الامر لتقدير القاضي.
(2/561)
دية الشجاج
الشجاج: هو الاصابات التي تقع بالرأس والوجه.
وأنواعه عشرة، وهي كلها لا قصاص فيها، إلا الموضحة إذا كانت عمدا، لانه لا
يمكن مراعاة المماثلة فيها والشجاج بيانه كما يأتي:
1 - الخارصة: وهي التي تشق الجلد قليلا.
2 - الباضعة: وهي التي تشق اللحم بعد الجلد.
3 - الدامية أو الدامغة: وهي التي تنزل الدم.
4 - المتلاحمة: وهي التي تغوص في اللحم.
5 - السمحاق: وهي التي يبقى بينها وبين العظم جلدة رقيقة.
6 - الموضحة: وهي التي تكشف عن العظم.
7 - الهاشمة: وهي التي تكسر العظم وتهشمه.
8 - المنقلة: وهي التي توضح وتهشم العظم حتى ينتقل منها العظام.
9 - المأمومة، أو الآمة: وهي التي تصل إلى جلدة الرأس.
10 - الجائفة: وهي التي تصل الجوف.
ويجب فيما دون الموضحة حكومة عدل، وقيل أجرة الطبيب، وأما الموضحة، ففيها
القصاص إذا كانت عمدا كما قلنا، ونصف عشر الدية إذا كانت خطأ، سواء كانت
كبيرة أم صغيرة، وهي خمس من الابل، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم في كتابه لعمرو بن حزم.
ولو كانت مواضح متفرقة، يجب في كل واحدة منها خمس من الابل.
والموضحة في غير الوجه والرأس توجب حكومة.
وفي الهاشمة عشر الدية، وهي عشر من الابل، وهو مروي عن زيد ابن ثابت، ولا
مخالف له من الصحابة.
وفي المنقلة عشر الدية، ونصف العشر: أي خمسة عشر من الابل.
وفي الآمة: ثلث الدية بالاجماع.
(2/562)
وفي الجائفة: ثلث الدية بالاجماع، فإن نفذت
فهما جائفتان، ففيهما ثلثا الدية.
دية المرأة:
ودية المرأة إذا قتلت خطأ: نصف دية الرجل، وكذلك دية أطرافها، وجراحاتها
على النصف من دية الرجل وجراحاته، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
فقد روي عن عمر رضي الله عنه، وعلي كرم الله وجهه، وابن مسعود رضي الله
عنه، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين: أنهم قالوا في دية المرأة: إنها
على النصف من دية الرجل، ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد، فيكون إجماعا، ولان
المرأة في ميراثها وشهادتها على النصف من الرجل.
وقيل: يستوي الرجل والمرأة في العقل إلى الثلث، ثم النصف فيما بقي.
فقد أخرج النسائي، والدارقطني، وصححه ابن خزيمة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن
جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى
يبلغ الثلث من ديته ".
وأخرج مالك في الموطأ، والبيهقي عن ربيعة بن عبد الرحمن أنه قال: " سألت
سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الابل، قلت: فكم في
الاصبعين؟ قال: عشرون من الابل.
قلت: فكم في ثلاث؟ قال: ثلاثون من الابل.
قلت: فكم في أربع؟ قال: عشرون من الابل.
قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها! فقال سعيد: أعراقي أنت؟
فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم.
فقال سعيد: " هي السنة يا ابن أخي ".
وقد ناقش الامام الشافعي هذا الرأي، وبين أن المقصود من السنة، هو سنة زيد
بن ثابت رضي الله عنه الذي قال بهذا الرأي، لاسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
فقال الشافعي رضي الله عنه:
(2/563)
" السنة إذا أطلقت يراد بها سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وروي أن كبار الصحابة - رضي الله عنهم - أفتوا بخلافه،
ولو كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خالفوه.
وقوله: سنة، محمول على أنه سنة زيد (1) ، لانه لم يرو إلا عنه موقوفا، ولان
هذا يؤدي إلى المحال، وهو ما إذا كان ألمها أشد، ومصابها أكثر أن يقل
أرشها، وحكمة الشارع تنشأ من ذلك.
ولايجوز نسبته إليه، لان من المحال أن تكون الجناية لا توجب شيئا شرعا.
وأقبح أن تسقط ما وجب بغيره.
دية أهل الكتاب ودية أهل الكتاب (2) إذا قتلوا خطأ نصف دية المسلم، فدية
الذكر منهم نصف دية المسلم، ودية المرأة من نسائهم نصف دية المرأة المسلمة.
لما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
بأن عقل أهل الكتاب نصف عقل المسلم ".
رواه أحمد رضي الله عنه.
وكما تكون دية النفس على النصف من دية المسلم، تكون دية الجراح كذلك على
النصف.
وإلى هذا ذهب مالك، وعمر بن عبد العزيز.
وذهب أبو حنيفة، والثوري، وهو المروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله
عنهم، إلى أن ديتهم مثل دية المسلمين، لقول الله تعالى: " وإن كان من قوم
بينكم وبينهم ميثاق، فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة ".
قال الزهري: " دية اليهودي، والنصراني، وكل ذمي مثل دية
المسلم ".
قال: وكانت كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر،
__________
(1) سنة زيد بن ثابت.
(2) سواء كانوا ذميين أو معاهدين مستأمنين.
(2/564)
وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، حتى كان
معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى المقتول نصفها.
ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية، وألغى الذي جعله معاوية لبيت المال.
قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز، فأخبره أن الدية
كانت تامة لاهل الذمة.
وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن دبتهم: ثلث دية المسلم، ودية الوثني
والمجوسي المعاهد أو المستأمن: ثلثا عشر دية المسلم.
وحجتهم أن ذلك أقل ما قيل في ذلك، والذمة بريئة ألا بيقين، أو حجة.
وهو بحساب ثمانماية درهم من اثني عشر الفا.
وروي عن عمر، وعثمان، وابن مسعود: ونساؤهم على النصف.
وهل تجب الكفارة مع الدية في قتل الذمي والمعاهد؟ قاله ابن عباس، والشعبي،
والنخعي، والشافعي واختاره الطبري.
دية الجنين إذا مات الجنين بسبب الجناية على أمه عمدا أو خطأ، ولم تمت أمه،
وجب فيه غرة (1) سواء انفصل عن أمه وخرج ميتا، أم مات في بطنها. وسواء أكان
ذكرا أم أنثى.
فأما إذا خرج حيا، ثم مات، ففيه الدية كاملة، فإن كان ذكرا وجبت مائة بعير.
وإن كان أنثى: خمسون.
وتعرف الحياة بالعطاس، أو التنفس، أو البكاء، أو الصياح، أو الحركة، ونحو
ذلك.
واشترط الشافعي في حالة ما إذا مات في بطن أمه، أن يعلم بأنه قد تخلق وجرى
فيه الروح.
وفسره ب " ما ظهر فيه صورة الآدمي: من يد، وأصبع ".
__________
(1) الغرة من كل شئ: أنفسه.
(2/565)
وأما مالك، فإنه لم يشترط هذا الشرط، وقال:
" كل ما طرحته المرأة من مضغة، أو علقة، مما يعلم أنه ولد ففيه لغرة ".
ويرجح رأي الشافعي، بأن الاصل براءة الذمة وعدم وجوب الغرة، فإذالم يعلم
تخلقه، فإنه لا يجب شئ (1) .
قدر الغرة: والغرة: خمسماية درهم، كما قال الشعبي والاحناف، أو ماية شاة،
كما في حديث أبي يريدة عند أبي داود، والنسائي.
وقيل: خمس من الابل.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قضى أن
دية الجنين غرة: عبد أو وليدة ".
وروى مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى في الجنين يقتل في بطن أمه: ب " غرة: عبد، أو وليدة ".
فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم ما لاشرب، ولا أكل، ولا
نطق، ولا استهل، ومثل ذلك يطل (2) .
فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن هذا من إخوان الكهان ".
هذا بالنسبة لجنين المسلمة، أما جنين الذمية، فقد قال صاحب بداية المجتهد:
قال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله،
في أن دية الذمي دية المسلم.
والشافعي على أصله، في أن دية الذمي ثلث دية المسلم.
ومالك على أصله، في أن دية الذمي نصف دية المسلم.
على من تجب: قال مالك وأصحابه، والحسن البصري والبصريون: تجب في مال
الجاني.
__________
(1) وقد أجمع العلماء على أن الام إذا ماتت، وهو في جوفها، ولم تلقه ولم
يخرج، فلاشئ فيه. واختلفوا فيما إذا ماتت من ضرب بطنها، ثم خرج الجنين ميتا
بعد موتها، فقال جمهور الفقهاء: لاشئ فيه، وقال الليث بن سعد وداود: فيه
غرة، لان المعتبر حياة أمه في وقت ضربها لاغير.
(2) يهدر.
(2/566)
وذهبت الحنفية والشافعية، والكوفيون، إلى
أنها تجب على العاقلة لانها جناية خطأ (1) فوجبت على العاقلة.
وروي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة
على عاقلة الضارب: وبدأ بزوجها وولدها.
وأما مالك، والحسن: فقد شبهاها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا.
والاول أصح.
لمن تجب:
ذهبت المالكية، والشافعية، وغيرهم: إلى أن دية الجنين تجب لورثته على
مواريثهم الشرعية، وحكمها حكم الدية في كونها موروثة، وقيل: هي للام، لان
الجنين كعضو من أعضائها، فتكون ديته لها خاصة.
وجوب الكفارة: اتفق العلماء على أن الجنين إذا خرج حيا ثم مات، ففيه
الكفارة مع الدية.
وهل تجب الكفارة مع الغرة إذا خرج ميتا أو لا تجب؟ قال الشافعي وغيره: تجب،
لان الكفارة عنده تجب في الخطأ والعمد.
وقال أبو حنيفة: لا تجب، لانه غلب عليهحكم العمد.
والكفارة لا تجب فيه عنده.
واستحبها مالك، لانه متردد بين الخطأ والعمد.
لادية الا بعد البرء قال مالك: إن الامر المجمع عليه عندنا في الخطأ، أنه
لا يعقل حتى يبرأ المجروح ويصح، وأنه إن كسر عظما من الانسان: يدا أو رجلا،
وغير ذلك من الجسد خطأ، فبرأ، وصح، وعاد لهيئته، فليس فيه عقل (2) ، فإن
__________
(1) سقوط الجنين ليس عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه، خطأ فيه.
(2) وهو مذهب أبي حنيفة، لانه لم يحدث شئ للمجني عليه سوى الالم، ولا قيمة
لمجرد الالم -
(2/567)
نقص، أو كان فيه عثل (نقص) ، ففيه من عقله
بحساب ما نقص.
قال: فإن كان ذلك العظم مما جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، عقل
مسمى، فبحساب ما فرض فيه النبي صلى الله عليه وسلم، عقل.
وما كان مما لم يأت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم عقل مسمى، ولم تمض فيه
سنة،
ولاعقل مسمى، فإنه يجتهد فيه.
وجود قتيل بين قوم متشاجرين:
إذا تشاجر قوم، فوجد بينهم قتيل، لا يدرى من قاتله، ويعمى أمره فلا يبين -
ففيه الدية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود: " من
قتل في عميا (1) في رميا، يكون بينهم بحجارة أو بالسياط أو ضرب بعصا، فهو
خطأ، وعقله عقل الخطأ، ومن قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه، فعليه لعنة
الله وغضبه، لا يقبل منه صرف ولاعدل " (2) واختلف العلماء فيمن تلزمه
الدية.
فقال أبو حنيفة: هي على عاقلة القبيلة التي وجد فيها إذا لم يدع أولياء
القتيل على غيرهم.
وقال مالك: ديته على الذين نازعوهم.
وقال الشافعي: هي قسامة، إن ادعوه على رجل بعينه، أو طائفة بعينها وإلا فلا
عقل ولا قود.
وقال أحمد: هي على عواقل الآخرين، إلا أن يدعوا على رجل بعينه، فيكون
قسامة.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف: ديته على الفريقين الذين اقتتلا معا.
__________
فهو نظير من شتم إنسانا شتما يؤلم قلبه فإنه لا يضمن شيئا. وإن كان لا يخلى
الشاتم من مسؤولية الشتم فإنه يعاقب تعزيرا، أو يقتص منه، على خلاف في ذلك
كما هو مبين في موضعه من هذا الكتاب، وقال أبو يوسف، على الجاني أرش الالم
وهي حكومة عدل، وقال محمد عليه أجر الطبيب وثمن الدواء.
(1) عميا: من العمى، رميا: من الرمي.
(2) الصرف: التطوع، والعدل: الفريضة.
(2/568)
وقال الاوزاعي: ديته على الفريقين جميعا،
إلا أن تقوم بينة من غير الفريقين: أن فلانا قتله، فعليه القصاص والدية.
القتل بعد أخذ الدية: وإذا أخذ ولي الدم
الدية، فلا يحل له بعد أن يقتل القاتل.
وروى أبو داود، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، قال: " لا أعفى (1) من قتل بعد أخذ الدية ".
وروى الدارقطني، عن أبي شريح الخزاعي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: " من أصيب بدم أو خبل (2) ، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن
أراد الرابعة فخذوا على يديه: بين أن يقتص، أو يعفو، أو يأخذ العقل، فإن
قبل شيئا من ذلك ثم عدا بعد ذلك فله النار خالدا فيها مخلدا ".
فإذا قتله، فمن العلماء من قال: هو كمن قتل ابتداءا، إن شاء الولي قتله وإن
شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة.
ومنهم من قال: يقتل ولا بد، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو.
وقيل: أمره إلى الامام يصنع فيه ما يرى.
اصطدام الفارسين: ذهب أبو حنيفة ومالك:
إلى أنه إذا اصطدم فارسان فمات كل واحد منهما، فعلى كل منهما دية الآخر،
وتتحملها العاقلة.
وقال الشافعي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لان كل
واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه.
ضمان صاحب الدابة:
إذا أصابت الدابة بيدها، أو رجلها، أو فمها شيئا، ضمن صاحبها،
__________
(1) أي: لاكثر ماله، ولا استغنى.
فهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) الخبل: العرج.
(2/569)
عند الشافعي، وابن أبي ليلى، وابن شبرمه.
وقال مالك، والليث، والاوزاعي: لا يضمن إذا لم يكن من جهة راكبها، أو
قائدها، أو سائقها، بسبب من همز، أو ضرب، فلو كان ثمة سبب، كأن حملها أحدهم
على شئ فأتلفته، لزمه حكم المتلف.
فإن كان جناية مضمونة بالقصاص، وكان الحمل عمدا، كان فيه القصاص، لان
الدابة في هذه الحال كالآلة.
وإن كان الحمل من غير قصد، كانت فيه الدية على العاقلة، وإن كان المتلف
مالا كانت الغرامة في مال الجاني.
وقال أبو حنيفة: إذا رمحت (1) دابة إنسان - وهو راكبها - إنسانا آخر، فإن
كان الرمح برجلها فهو هدر، وإن كانت نفحته بيدها، فهو ضامن، لانه يملك
تصريفها من الامام، ولا يملك منها ما ورائها.
وقال: وإذا ساق دابة، فوقع السرج أو اللجام أو أي شئ مما يحمل عليها، فأصاب
إنسانا، ضمن السائق ما أصاب من ذلك.
ولو انفلتت دابة فأصابت مالا، أو آدميا، ليلا أو نهارا، فإنه لا ضمان على
صاحبها، لانه غير متعمد.
ومن ركب دابة فضربها رجل أو نخسها، فنفحت إنسانا، أو ضربته بيدها، أو نفرت
فصدمته فقتلته ضمن الناخس دون الراكب.
وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا، لانه هو المتسبب.
فإن ألقت الراكب فقتلته كانت ديته على عاقلة الناخس.
وإذا بالت الدابة أو راثت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن، وكذا
إذا أوقفها لذلك.
ضمان القائد والراكب والسائق:
إذا كان للدابة قائد، أو راكب، أو سائق، فأصابت شيئا، وأوقعت به ضررا، فإنه
يضمن ما أصابته من ذلك.
فقد قضى عمر، رضي الله عنه، بالدية على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر.
__________
(1) رمحت: رفست.
(2/570)
ويرى أهل الظاهر أنه لا ضمان على واحد من
هؤلاء، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " جرح العجماء جبار، والبئر جبار،
والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس ".
وما استدل به الظاهرية محمول على ما إذا لم يكن للدابة راكب، ولا سائق، ولا
قائد " فإنه لا ضمان على ما أتلفته في هذه الحال بالاجماع ".
الدابة الموقوفة:
وأما الدابة الموقوفة إذا أصابت شيئا، فعند أبي حنيفة: يضمن ما أصابته ولا
يعفيه من الضمان أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه.
فعن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من وقف دابة
في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم،
فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن ".
رواه الدارقطني.
وقال الشافعي: إن أوقفها بحيث ينبغي له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يوقفها
بحيث ينبغي له أن يوقفها ضمن.
ضمان ما أتلفته المواشي من الزروع والثمار وغيرها ذهب جمهور العلماء -
منهم: مالك، والشافعي، وأكبر فقهاء الحجاز - إلى أن ما أفسدت الماشية
بالنهار من: نفس، أو مال، للغير، فلاضمان على صاحبها، لان في عرف الناس، أن
أصحاب الحوائط، والبساتين، يحفظونها بالنهار، وأصحاب المواشي يسرحونها
بالنهار، ويردونهما بالليل إلى المراح، فمن خالف هذه العادة، كان خارجا عن
رسوم الحفظ إلى التضييع.
هذا إذا لم يكن معها مالكها، وإن كان معها فعليه ضمان ما أتلفته، سواء كان
راكبها أو سائقها، أو قائدها، أو كانت واقفة عنده، وسواء أتلفت بيدها أو
رجلها أو فمها.
(2/571)
واستدلوا لمذهبهم هذا، بما رواه مالك، عن
ابن شهاب عن حرام بن سعيد بن المحيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط
(1) رجل فأفسدت فيه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن على أهل
الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها (2) .
قال أبو عمر بن عبد البر: وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور، أرسله
الائمة، وحدث به الثقات، واستعمله فقهاء الحجاز، وتلقوه بالقبول، وجرى في
المدينة العمل به. وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا
الحديث.
ويرى سحنون - من المالكية - أن هذا الحديث، إنما جاز في أمثال المدينة التي
هي حيطان محدقة.
وأما البلاد التي هي زروع متصلة، غير محظرة، وبساتين كذلك، فيضمن أرباب
النعم ما أفسدت من ليل أو نهار.
وذهبت الاحناف: إلى أنه إذا لم يكن معها مالكها فلا ضمان عليه، ليلا كان أو
نهارا، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " جرح العجماء جبار ".
فالاحناف يقيسون جميع أعمالها على جرحها.
وإن كان معها مالكها: فإن كان يسوقها فعليه ضمان ما أتلفت بكل حال، وإن كان
قائدها أو راكبها فعليه ضمان ما أتلفت بفمها أو يدها، ولا يجب ضمان ما
أتلفت برجلها.
وأجاب الجمهور، بأن الحديث الذي استدل به الاحناف عام، خصصه حديث البراء،
هذا فيما يتصل بالزروع والثمار، أما غيرها فقد قال ابن قدامة في المغني: "
وإن أتلفت البهيمة غير الزرع، لم يضمن مالكها ما أتلفته، ليلا كان أو
نهارا، ما لم تكن يده عليها ".
وحكي عن شريح: أنه قضى - في شاة وقعت في غزل حائط ليلا - بالضمان على
صاحبها.
__________
(1) الحائط: البستان.
(2) ضامن: مضمون.
(2/572)
وقرأ شريح: " إذ نفشت فيه غنم القوم (1) ".
قال: والنفش لا يكون إلا بالليل.
وعن الثوري: " يضمن وإن كان نهارا، لانه مفرط بإرسالها ".
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " العجماء جرحها جبار " متفق عليه، أي
هدر.
وأما الآية فإن النفش هو الرعي ليلا، وكان هذا في الحرث الذي تفسده البهائم
طبعا بالرعي وتدعوها نفسها إلى أكله بخلاف غيره، فلا يصح قياس غيره عليه.
انتهى.
ضمان ما أتلفته الطيور:
يرى بعض العلماء: أن النحل، والحمام، والاوز، والدجاج والطيور كالماشية،
وأنه إذا اقتناها وأرسلها نهارا فلقطت حبا، لم يضمن، لان العادة إرسالها.
ويرى البعض الآخر: أن فيها الضمان، فمن أطلقها، فأتلفت شيئا، ضمنه.
وكذلك، إن كان له طير جارح، كالصقر، والبازي، فأفسد طيور الناس وحيواناتهم،
ضمن.
وهذا الرأي هو الصحيح.
ضمان ما أصابه الكلب أو الهر:
في المغني: " ومن اقتنى كلبا عقورا، فأطلقه، فعقر إنسانا، أو دابة، ليلا أو
نهارا، أو خرق ثوب إنسان، فعلى صاحبه ضمان ما أتلفه، لانه مفرط باقتنائه.
إلا أن يدخل إنسان داره بغير إذنه، فلاضمان فيه، لانه متعد بالدخول متسبب
بعدوانه، إلى عقر الكلب له، وإن دخل بإذن المالك فعليه ضمانه، لانه تسبب في
إتلافه، وإن أتلف الكلب بغير العقر، مثل: أو ولغ.
__________
(1) سورة الانبياء: الآية 78.
(2/573)
في إناء إنسان، أو بال، لم يضمنه مقتنيه:
لان هذا لا يختص به الكلب العقور.
قال القاضي: " وإن اقتنى سنورا، يأكل أفراخ الناس ضمن ما أتلفه، كما يضمن
ما يتلفه الكلب العقور، ولافرق بين الليل والنهار، وإن لم يكن له عادة بذلك
لم يضمن صاحبه جنايته، كالكلب إذا لم يكن عقورا.
ولو أن الكلب العقور أو السنور حصل عند إنسان من غير اقتنائه ولا اختياره،
فأفسد لم يضمنه، لانه يحصل الاتلاف بسببه.
ما يقتل من الحيوان وما لا يقتل:
ولا يقتل من الحيوان إلا ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله.
وهو: " الغراب، والحدأة، والفأرة، والحية، والعقرب، والكلب العقور، والوزغ
" (1) .
ويلحق بها ما أشبهها في الضرر، مثل: الزنبور المؤذي، والنمر، والفهد
والاسد، فإنها تقتل ولو لم يصل واحد منها.
قالت عائشة رضي الله عنها: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمسة
فواسق في الحل والحرم: " الغراب، والحدأة والعقرب، والفأر، والكلب العقور
".
رواه البخاري ومسلم.
وفي الصحيحين من حديث أم شريك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل
الاوزاغ وسماه " فويسقة ".
وإذا قتلت فإنه لا ضمان في قتلها، ولاقتل غيرها من السباع والحشرات،
وإن تأهلت بالاجماع، إلا الهر فتضمن قيمته، إلا إذا وقع منه اعتداء.
ولا يقتل الهدهد، ولا النملة، ولا النحلة، ولا الخطاف، ولا الصرد، ولا
الضفدع، إذ لا ضرر فيها.
وقد روي النسائي، عن ابن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:
__________
(1) الوزغ: ضرب من الزحافات - (ج) وزغة.
(2/574)
" ما من إنسان يقتل عصفورا، فما فوقها بغير
حقها إلا سأله الله يوم القيامة عنها، قيل يا رسول الله: وما حقها؟ قال:
يذبحها ويأكلها، ولا يقطع رأسها ويرمي بها ".
وإذا قتلها فعليه أن يتوب إلى الله، ولا ضمان عليه.
وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من
الدواب: " النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد ".
ما لا ضمان فيه:
إذا كانت الجناية بسبب من الظالم المعتدي، فهي هدر: أي لا قصاص فيها،
ولادية لها.
ومن أمثلة ذلك: (1) سقوط أسنان العاض: فإذا عض الانسان غيره، فانتزع
المعضوض ما عض منه من فم العاض، فسقطت أسنانه، أو انفكت لحيته، فإنه لا
مسؤولية على الجاني، لانه غير متعد.
روى البخاري ومسلم، عن عمران بن حصين، أن رجلا عض يد رجل، فنزع يده من فمه
فسقطت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " يعض أحدكم
يد أخيه كما يعض الفحل (1) ..لادية لك ".
وقال مالك: يضمن، والحديث حجة عليه.
(2) النظر في بيت غيره بدون إذنه: ومن نظر في بيت إنسان، من ثقب أو شق باب،
أو نحو ذلك، فإن لم يتعمد النظر فلا حرج عليه.
__________
(1) الفحل: الذكر من الابل.
(2/575)
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عن نظرة الفجأة؟ فقال: " اصرف بصرك ".
وروى أبو داود والترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم، قال لعلي: " لاتتبع
النظرة النظرة، فإن لك الاولى، وليست لك الثانية ".
فإن تعمد النظر بدون إذن من صاحب البيت فلصاحب البيت أن يفقأ عينه، ولاضمان
عليه.
روى أحمد والنسائي، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من
اطلع في بيت قوم بغير إذنهم، ففقأوا عينه فلادية له، ولا قصاص ".
وروى البخاري ومسلم عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن
رجلا اطلع عليك بغير إذن، فخذفته (1) بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك جناح
".
وعن سهل بن سعد: أن رجلا اطلع في حجر باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
ومع رسول الله مدرى يرجل بها رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لو
أعلم أنك تنظر، لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاذن من أجل النظر ".
وبهذا أخذت الشافعية والحنابلة.
وخالف فيه الاحناف والمالكية، فقالوا: من نظر بدون إذن من صاحب البيت،
فرماه بحصاة، أو طعنه بخشبة، فأصاب منه، فهو ضامن، لان الرجل إذا دخل البيت
ونظر فيه وباشر امرأة صاحبه فيما دون الفرج فإنه لا يجوز أن يفقأ عينه، أو
يحدث به عاهة، لان ارتكاب مثل هذا الذنب لا يقابل بمثل هذه العقوبة، وهذا
مخالف للاحاديث الصحيحة التي تقدم ذكرها.
وقد رجح الرأي الاول ابن قيم الجوزية فقال:
__________
(1) الخذف، بالخاء: الرمي بالحصاة، وبالحاء: الرمي بالعصى، لا بالحصى.
(2/576)
" فردت هذه السنن بأنها خلاف الاصول، فإن
الله إنما أباح قلع العين بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جنى عليه
بلسانه لم يقطع، ولو استمع عليه بأذنه لم يجز أن تقطع أذنه، فيقال: بل هذه
السنن من أعظم الاصول، فما خالفها فهو خلاف الاصول وقولكم: " إنما شرع الله
سبحانه أخذ العين بالعين، فهذا حق في القصاص، وأما العضو الجاني المتعدي لا
يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه، فإن الآية
لا تتناوله نفيا ولا إثباتا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما
سكت عنه القرآن، لا مخالفا لما حكم به القرآن.
وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالاسهل
فالاسهل، إذ المقصود دفع ضرر حياله، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف،
وأما هذا المتعدي بالنظر إلى المحرم، الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما
يقع على وجه الاختفاء والختل.
فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه، ولا يقع هذا
غالبا إلا على وجه الاختفاء، وعدم مشاهدة غير الناظر إليه، فلو كلف المنظور
إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه، ولو أمر بدفعه بالاسهل فالاسهل
ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى جريمه هدرا.
" والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه
لناوللجاني، ما جاءت به السنة التي لا معارض لها، ولا دافع لصحتها من خذف
ما هنال ك، وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة وإن كان هناك بصر
عاد لا يلومن إلا نفسه، فهو الذي عرضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك،
والخاذف ليس بظالم له.
والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي هتكت حرمته
وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة، فحكم الله بما شرعه على
رسوله، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " اه.
(3) القتل دفاعا عن النفس أو المال أو العرض: ومن قتل شخصا، أو حيوانا،
دفاعا عن نفسه، أو عن نفس غيره، أو عن ماله، أو مال غيره، أو عن العرض،
فإنه لاشئ عليه، لان دفع
(2/577)
الضرر عن النفس، والمال واجب، فإن لم يندفع
إلا بالقتل فله قتله، ولاشئ على القاتل.
روى مسلم، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أن يأخذ مالي؟
قال: " فلا تعطه مالك ".
قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: " قاتله ".
قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: " فأنت شهيد ".
قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: " هو في النار ".
قال ابن حزم: " فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من لص أو غيره، فإن تيسر له
طرده منه ومنعه، فلا يحل له قتله، فإن قتله حينئذ فعليه القود، وإن توقع
أقل توقع أن بعاجله اللص فليقتله، ولاشئ عليه، لانه مدافع عن نفسه ".
ادعاء القتل دفاعا إذا ادعى القاتل أنه قتل المجني عليه، دفاعا عن نفسه، أو
عرضه، أو ماله، فإن أقام بينة على دعواه قبل قوله وسقط عنه القصاص والدية،
وإن لم يقم البينة على دعواه، لم يقبل قوله، وأمره إلى ولي الدم: إن شاء
عفا عنه وإن شاء اقتص منه، لان الاصل البراءة حتى تثبت الادانة.
وقد سئل الامام علي، رضي الله عنه، عمن وجد مع امرأته رجلا فقتلهما؟ فقال:
" إن لم يأت بأربعة شهداء (1) فليعط برمته ".
__________
(1) وقيل: يكفى شاهدان. " برمته " أي مسلم إلى أولياء المقتول ليقعل.
(2/578)
فإن لم يقم القاتل البينة، واعترف ولي الدم
بأن القتل كان دفاعا، انتفت عنه المسؤولية، وسقط عنه القصاص والدية.
روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه: " أنه كان يوما يتغذى، إذ
جاءه رجل يعدو، وفي يده سيف ملطخ بالدم، ووراءه قوم يعدون خلفه، فجاء حتى
جلس مع عمر، فجاء الآخرون.
فقالوا يا أمير المؤمنين إن هذا قتل صاحبنا.
فقال له عمر: ما يقولون؟ فقال: يا أمير المؤمنين إني ضربت فخذي امرأتي، فإن
كان بينهما أحد فقد قتلته.
فقال عمر: ما يقول؟ قالوا: يا أمير المؤمنين إنه ضرب بالسيف فوقع في وسط
الرجل، وفخذي المرأة.
فأخذ عمر سيفه فهزه، ثم دفعه إليه وقال: إن عادوا فعد ".
وروي عن الزبير: " أنه كان يوما قد تخلف عن الجيش، ومعه جارية له، فأتاه
رجلان فقالا: أعطنا شيئا.
فألقى اليهما طعاما كان معه.
فقالا: خل عن الجارية فضربهما بسيفه فقطعهما بضربة واحدة ".
قال ابن تيمية: فإن ادعى القاتل أنه صال عليه، وأنكر أولياء المقتول:
فإن كان المقتول معروفا بالبر، وقتله في محل لاريبة فيه، لم يقبل قول
القاتل.
وإن كان معروفا بالفجور والقاتل معروفا بالبر، فالقول قول القاتل مع يمينه.
لا سيما إذا كان معروفا بالتعرض له قبل ذلك.
ضمان ما أتلفته النار:
من أوقد نارا في داره كالمعتاد، فهبت الريح فأطارت شرارة، أحرقت نفسا أو
مالا، فلاضمان عليه.
(2/579)
ذكر وكيع، عن عبد العزيز بن حصين، عن يحيى
بن يحيى الغساني، قال: أوقد رجل نارا لنفسه، فخرجت شرارة من نار، حتى أحرقت
شيئا لجاره، قال: فكتب فيه إلى عبد العزيز بن حصين، فكتب إليه: ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " العجماء جبار " وأرى أن النار جبار.
إفساد زرع الغير:
ولو سقى أرضه سقيا زائدا على المعتاد، فأفسد زرع غيره، ضمن، فإذا انصب
الماء من موضع لا علم له به، لم يضمن، حيث لم يحدث منه تعد.
غرق السفينة:
من كان له سفينة يعبر بها الناس ودوابهم، فغرقت بدون سبب مباشر منه، فلا
ضمان عليه فيما تلف بها. فإن كان غرقها بسبب منه ضمن.
ضمن الطبيب:
لم يختلف العلماء في أن الانسان إذا لم تكن له دراية بالطب، فعالج مريضا
فأصابته من ذلك العلاج عاهة، فإنه يكون مسؤولا عن جنايته، وضامنا بقدر ما
أحدث من ضرر، لانه يعتبر بعمله هذا متعديا، ويكون الضمان في ماله.
لما رواه عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
قال: " من تطبب، ولم يعلم منه قبل ذلك الطب، فهو ضامن " رواه أبو داود،
والنسائي، وابن ماجه.
وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على
أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيما طبيب تطبب على قوم لا
يعرف له تطبب قبل ذلك فأعنت (1) فهو ضامن ". رواه أبو داود.
__________
(1) أضر بالمريض.
(2/580)
أما إذا أخطأ الطبيب، وهو عالم بالطب، فرأي
الفقهاء أنه تلزمه الدية، وتكون على عاقلته عند أكثرهم (1) .
وقيل: هي في ماله.
وفي تقرير الضمان الحفاظ على الارواح، وتنبيه الاطباء إلى واجبهم، واتخاذ
الحيطة اللازمة في أعمالهم المتعلقة بحياة الناس.
ويروى عن مالك: أنه لا شئ عليه.
الرجل يفضي زوجته:
وإذا وطئ الرجل زوجته فأفضاها، فإن كانت كبيرة بحيث يوطأ مثلها، فإنه لا
يضمن (2) ، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فعليه الدية.
والافضاء مأخوذ من الفضاء، وهو المكان الواسع، ويكون بمعنى الجماع ومنه قول
الله سبحانه:
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ".
ويكون بمعنى اللمس، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إذا أفضى أحدكم بيده
إلى ذكره، فليتوضأ ".
والمراد به هنا: إزالة الحاجز الذي بين الفرج والدبر.
الحائط يقع على شخص فيقتله:
إذا مال حائط إلى الطريق، أو إلى ملك غيره، ثم وقع على شخص فقتله، فإن كان
قد سبق أن طولب صاحبه بنقضه، ولم ينقضه مع التمكن منه، ضمن ما تلف بسببه،
وإلا فلا يضمن (3) .
ورواية أشهب عن مالك: أنه إذا بلغ من شدة الخوف إلى ما لا يؤمن
__________
(1) وإذا مات لا يجب عليه القود، وتجب الدية، لان العلاج كان بإذن المريض.
(2) هذا مذهب أبي حنيفة وأحمد.
وقال الشافعي، ورواية عن مالك: عليه الدية.
والمشهور عن مالك: أن فيه حكومة.
(3) هذا مذهب الاحناف.
(2/581)
معه الاتلاف، ضمن ما تلف به، سواء تقدم
إليه في نقضه، أم لم يتقدم، أو أشهد عليه، أم لم يشهد عليه.
وأشهر الروايات عن أحمد، وأظهر الوجوه عند الشافعية أنه لا يضمن.
ضمان حافر البئر إذا حفر إنسان بئرا، فوقع فيه إنسان، فإن حفر في أرض
يملكها، أو في أرض لا يملكها، واستأذن المالك فلا ضمان عليه، وإن حفر فيما
لا يملك، وبلا إذن صاحب الارض، ضمن، ولا ضمان إذا كان في ملكه أو إذن
المالك، أو كان في موات، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" البئر جبار "، أي أن من تردى فيه في هذه الحالة فهلك، فهدر لا دية له.
وقال مالك: " إن حفر في موضع جرت العادة بالحفر في مثله، لم يضمن وإن تعدى
في الحفر ضمن ".
ومن أمر شخصا مكلفا أن ينزل بئرا، أو أن يصعد شجرة ففعل، فهلك بنزوله
البئر، أو صعوده الشجرة، لم يضمنه الامر لعدم إكراهه له.
ومثل ذلك الحاكم إذا استأجر شخصا لذلك فهلك، فلا ضمان، لعدم الجناية
والتعدي منه.
ولو سلم إنسان نفسه أو ولده، إلى سابح يحسن السباحة فغرق، فلا ضمان عليه.
الإذن في أخذ الطعام وغيره:
ذهب جمهور العلماء: إلى أنه لا يجوز لاحد أن يحلب ماشية غيره إلا بإذنه،
فإن اضطر في مخمصة، ومالكها غير حاضر، فله أن يحلبها، ويشرب لبنها، ويضمن
لمالكها.
وكذلك سائر الاطعمة والثمار المعلقة في الشجر، لان الاضطرار لا يبطل حق
الغير.
روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه
(2/582)
وسلم قال: " لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته
(1) فتكسر خزانته، فينتقل منها طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم
أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ".
وقال الشافعي: لا يضمن، لان المسؤولية تسقط بالاضطرار، لوجود
الاذن من الشارع، ولا يجتمع إذن وضمان. |