فقه السنة

الجهاد:

الجهاد مأخوذ من الجهد وهو الطاقة والمشقة، يقال: جاهد يجاهد جهادا ومجاهدة، إذا استفرغ وسعه، وبذل طاقته، وتحمل المشاق في مقاتلة العدو ومدافعته، وهوما يعبر عنه بالحرب في العرف الحديث، والحرب هي القتال المسلح بين دولتين فأكثر، وهي أمر طبيعي في البشر، لاتكاد تخلو منه أمة ولا جيل وقد أقرته الشرائع الالهية السابقة.
ففي أسفار التوراة التي يتداولها اليهود، تقرير شريعة الحرب والقتال في أبشع صورة من صور التخريب والتدمير والاهلاك والسبي.
فقد جاء في سفر التثنية في الاصحاح العشرين عدد 10 ومابعده، ما يأتي نصه: " حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير، ويستعبد لك، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك، فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء، والاطفال، والبهائم، وكل ما في المدينة، كل غنيمتها فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا، التي ليست من مدن هؤلاء الامم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما - الحثيين والاموريين، والكنعانيين، والفرزيين، والحويين، واليوسيين، كما أمرك
الرب إلهك ".
وفي إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين، في الاصحاح العاشر عدد 24 وما بعده يقول: " لا تظنوا أني جئت لالقي سلاما على الارض، ما جئت لالقي سلاما، بل سيفا، فإنني جئت لافرق الانسان ضد أبيه والابنة ضد أمها، والكنة ضد

(2/618)


حماتها، وأعداء الانسان أهل بيته، من أحب أبا أو أما أكثر مني، فلا يستحقني، ومن أحب ابنا أو ابنة أكثر مني، فلا يستحقني، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني، فلا يستحقني، ومن وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ".
والقانون الدولي أقر الظروف والاحوال التي تشرع فيها الحرب، ووضع لها القواعد، والمبادئ، والنظم، التي تخفف من شرورها وويلاتها، وإن كان لم يتم شئ من ذلك عند التطبيق.
تشريع الجهاد في الاسلام أرسل الله رسوله إلى الناس جميعا، وأمره أن يدعو إلى الهدى ودين الحق ولبث في مكة يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان لابد من أن يلقى مناوأة من قومه الذين رأوا أن الدعوة الجديدة خطر على كيانهم المادي والادبي.
فكان توجيه الله له أن يلقى هذه المناوأة بالصبر، والعفو، والصفح الجميل.
" واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ". (1) " فاصفح عنهم، وقل سلام، فسوف يعلمون ". (2) " فاصفح الصفح الجميل ". (3) " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ". (4) ولم يأذن الله بأن يقابل السيئة بالسيئة، أو يواجه الاذى بالاذى، أو يحارب الذين حاربوا الدعوة، أن يقاتل الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات. " ادفع بالتي هي أحسن السيئة، نحن أعلم بما يصفون ". (5)
__________
(1) سورة الطور: الآية 48.
(2) سورة الزخرف: الآية 89.
(3) سورة الحجر: الآية 85.
(4) سورة الجاثية: الآية 14.
(5) سورة المؤمنون: الآية 96.

(2/619)


وكل ما أمر به جهادا في هذه الفترة أن يجاهد بالقرآن، والحجة، والبرهان. " وجاهدهم جهادا كبيرا ".
(1) ولما اشتد الاذى، وتتابع الاضطهاد حتى وصل قمته بتدبير مؤامرة لاغتيال الرسول الكريم، اضطر أن يهاجر من مكة إلى المدينة، ويأمر أصحاب بالهجرة إليها بعد ثلاث عشرة سنة من البعثة.
" وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ".
(2) " إلا تنصروه، فقد نصره الله ".
(3) وفي المدينة - عاصمة الاسلام الجديدة - تقرر الاذن بالقتال حين أطبق عليهم الاعداء، واضطروا إلى امتشاق الحسام، دفاعا عن النفس، وتأمينا للدعوة.
وكان أول آية نزلت قول الله سبحانه: " أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير.
الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله - ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز - الذين إن مكناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور ".
(4) وفي هذه الآيات تعليل للاذن بالقتال بأمور ثلاثة:
1 - انهم ظلموا بالاعتداء عليهم، وإخراجهم من ديارهم بغير حق إلا أن يدينوا دين الحق، ويقولوا: ربنا الله.
2 - انه لولا إذن الله للناس بمثل هذا الدفاع، لهدمت جميع المعابد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا، بسبب ظلم الكافرين الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
__________
(1) سورة الفرقان: الآية 53.
(2) سورة الانفال: الآية 30.
(3) سورة التوبة: الآية 40.
(4) سورة الحج: الآية 39، 40، 41.

(2/620)


3 - ان غاية النصر، والتمكين في الارض، والحكم: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
ايجابه وفي السنة الثانية من الهجرة، فرض الله القتال، وأوجبه بقوله تعالى:
" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". (1)
الجهاد فرض كفاية (2) : والجهاد ليس فرضا على كل فرد من المسلمين، وإنما هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض، واندفع به العدو، وحصل به الغناء، سقط عن الباقين.
(2) من الفرائض ما يجب على كل فرد أن يقوم به ولا يسقط بإقامة البعض له، مثل: الايمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج. فهذه فرائض عينية، يلزم كل فرد أداؤها، ولا يحل له أن يقصر فيها.
ومن الفرائض ما يجب على بعض الناس دون البعض الآخر، وتسمى هذه الفرائض بفروض الكفاية وهي أنواع: 1 - النوع الاول ديني، مثل: العلم، والتعلم، وحكم الشبهات، والرد على الشكوك التي تثار حول الاسلام، وصلاة الجنازة، وإقامة الجماعة، والآذان، ونحو ذلك.
2 - والنوع الثاني ما يتصل بإصلاح النظام المعيشي، مثل: الزراعة، والصناعة، والطب، ونحو ذلك من الحرف التي يضر تعطيلها أمر الدين والدنيا.
3 - والنوع الثالث من الفروض الكفائية ما يشترط فيه الحاكم، مثل: الجهاد، وإقامة الحدود فإن هذه من حق الحاكم وحده، وليس لاي فرد أن يقيم الحد على غيره.
4 - والنوع الرابع ما لا يشترط فيه الحاكم، مثل: الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الفضائل، ومطاردة الرذائل.
فهذه الفروض الكفائية لا تجب على كل فرد، وإنما الواجب أن ينهض بها بعض الافراد، فإذا قاموا بها، وحصلت بهم الكفاية، سقط الوجوب عن الافراد جميعا. وإذا لم يقوموا بها، أثموا جميعا.
__________
(1) سورة البقرة: الآية 216.

(2/621)


يقول الله تعالى: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
" (1) وقال سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ".
(2) وفي البخاري " ويذكر عن ابن عباس " انفروا ثبات ": سرايا متفرقين.
وقال سبحانه: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة كلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ".
(3) وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعث بعثا إلى بني لحيان - من هذيل - فقال: " لينبعث من كل رجلين أحدهما، والاجر بينهما ".
ولانه لو وجب على الكل لفسدت مصالح الناس الدنيوية، فوجب أن لا يقوم به إلا البعض.
متى يكون الجهاد فرض عين؟ ولايكون الجهاد فرض عين إلا في الصور الآتية:
1 - أن يحضر المكلف صف القتال، فإن الجهاد يتعين في هذه الحال.
يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ". (4)
__________
(1) سورة التوبة: الآية 122.
(2) سورة النساء: الآية 71. والنفير: الخروج لقتال الكفار.
(3) سورة النساء: الآية 95.
(4) سورة الانفال: الآية 45

(2/622)


ويقول الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ".
(1) 2 - إذا حضر العدو المكان أو البلد الذي يقيم به المسلمون، فإنه يجب على أهل البلد جميعا أن يخرجوا لقتاله، ولا يحل لاحد أن يتخلى عن القيام بواجبه نحو مقاتلته إذا كان لا يمكن دفعه إلا بتكتلهم عامة، ومناجزتهم إياه.
يقول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ".
(2) 3 - إذا استنفر الحاكم أحدا من المكلفين، فإنه لا يسعه أن يتخلى عن الاستجابة إليه.
لما رواه ابن عباس رضي الله عنهما، ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لاهجرة بعد الفتح، ولكن جهادونية، وإذا استنفرتم فانفروا " (3) رواه البخاري.
أي إذا طلب منكم الخروج إلى الحرب فاخرجوا.
يقول الله سبحانه: " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحياة الدنيا من الاخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ".
(4) على من يجب؟ يجب الجهاد على المسلم، الذكر، العاقل، البالغ، الصحيح، الذي يجد من المال ما يكفيه ويكفي أهله حتى يفرغ من الجهاد.
فلا يجب على غير المسلم، ولا على المرأة، ولا على الصبي، ولا على المجنون، ولا على المريض، فلا حرج على واحد من هؤلاء في التخلف عن
__________
(1) سورة الانفال: الآية 15.
(2) سورة التوبة: الآية 123.
(3) أي لاهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة، وكانت هذه الهجرة فرضا في أول الاسلام فنسخت بهذا الحديث.
أما الهجرة من دار الحرب إلى الاسلام فهي لم تنسخ، بل هي مفروضة على من لا يأمن فيها على دينه.
(4) سورة التوبة: الآية 38.

(2/623)


الجهاد، لان ضعفهم يحول بينهم وبين الكفاح، وليس لهم غناء يعتد به في الميدان.
وربما كان وجودهم أكثر ضررا، مع قلة نفعه.
وفي هذا يقول الله سبحانه: " ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ".
(1) ويقول الله تبارك وتعالى: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج ولاعلى المريض حرج ".
(2) وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: " عرضت على رسول الله صلى
الله عليه وسلم يوم أحد، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني ".
رواه: البخاري ومسلم.
ولانه عبادة، فلا يجب إلا على بالغ.
روى أحمد، والبخاري، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: " قلت: يا رسول الله، هل على النساء جهاد؟..قال: جهاد لاقتال فيه: الحج والعمرة ".
وفي رواية: لكن أفضل الجهاد حج مبرور.
وروى الواحدي، والسيوطي، في " الدر المنثور " عن مجاهد، قال: " قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث؟! ".
فأنزل الله تعالى: " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما ".
(3) ورويا عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد، فقلن:
__________
(1) سورة التوبة: الآية 91.
(2) سورة الفتح: الآية 17.
(3) سورة النساء: الآية 32، أي أنه للرجال عمل خاص بهم، كلفوا به، وللنساء عمل خاص بهن، كلفن به، فلا يصح أن يتمنى كل من الفريقين عمل الآخر.

(2/624)


" وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الاجر ما يصيب الرجال "، فنزلت الآية.
وهذا لايمنع من خروجهن للتمريض ونحوه.
عن أنس رضي الله عنه قال: " لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكرو أم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما (1) تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفر غانها في أفواه القوم ".
رواه الشيخان.
وعنه قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الانصار معه، فيسقين الماء، ويداوين الجرحى ".
رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي.
اذن الوالدين الجهاد الواجب لا يعتبر فيه إذن الوالدين.
أما جهاد التطوع، فإنه لابد فيه من إذن الوالدين المسلمين الحرين، أو إذن أحدهما.
قال ابن مسعود: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها.
قلت: ثم أي: قال: بر الوالدين.
قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله ".
رواه البخاري، ومسلم.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه في الجهاد.
فقال: أحي والداك؟ قال: نعم؟ قال: ففيهما فجاهد ".
رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه.
وفي كتاب شرعة الاسلام: " ولا يخرج إلى الجهاد إلامن كان فارغا عن الاهل والاطفال وعن خدمة الوالدين، فإن ذلك مقدم على الجهاد، بل هو أفضل الجهاد ".
__________
(1) أي الخلاخل في سوقهما، وسمي الخلخال خدمة بفتحتين، لانه ربما كان من سيور مركب
فيها ذهب وفضة، والخدمة في الاصل السير، والخدم موضع الخلخال من الساق.

(2/625)


اذن الدائن وكذلك لا يتطوع به مدين لا وفاء له إلا مع إذن، أو وهن محرز، أو كفيل ملئ.
فعند أحمد، ومسلم، من حديث أبي قتادة: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نعم وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل قال لي ذلك ".
الاستعانة بالفجرة والكفرة على الغزو يجوز الاستعانة بالمنافقين، والفسقة، على قتال الكفرة، وقد كان عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون للقتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقصة أبي محجن الثقفي - الذي كان يدمن شرب الخمر - وبلاؤه في حرب فارس مشهورة.
وأما قتال الكفرة مع المسلمين فاختلفت فيها آراء الفقهاء: فقال مالك وأحمد: " لا يجوز أن يستعان بهم، ولا أن يعاونوا على الاطلاق ".
قال مالك: " إلا أن يكونوا خداما للمسلمين، فيجوز ".
وقال أبو حنيفة: " يستعان بهم، ويعاونون على الاطلاق، الاسلام هو الغالب الجاري عليهم، فإن كان حكم الشرك هو الغالب كره ".
وقال الشافعي: يجوز ذلك بشرطين:
(أحدهما) أن يكون بالمسلمين قلة ويكون بالمشركين كثرة.
(والثاني) أن يعلم من المشركين حسن رأي في الاسلام وميل إليه.
ومتى استعان بهم رضخ لهم ولم يسهم: أي أعطاهم مكافأة ولم يشركهم في سهام المسلمين من الغنيمة.

(2/626)


الاستنصار بالضعفاء:
1 - عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: رأى أبي أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟! ".
رواه البخاري، والنسائي.
ولفظ النسائي: " إنما ينصر الله هذه الامة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم وإخلاصهم ".
2 - وعن أبي الدرداء، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " ابغوني في الضعفاء، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ".
رواه أصحاب السنن.
3 - وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رب أشعث، مدفوع بالباب، لو أقسم على الله لابره " (1) .
__________
(1) أي أن الرجل قد يبدو في هيئة لا تسترعي الانظار، ولكنه قوي الايمان، صادق اليقين، فلودعا ربه لاستجاب له بمجرد دعائه.

(2/627)


فضل الجهاد:
الجهاد أفضل نوع من أنواع التطوع:
الجهاد: إعلاء لكلمة الله، وتمكين لهدايته في الارض، وتركيز للدين الحق، ومن ثم كان أفضل من تطوع الحج، والعمرة، وأفضل من تطوع الصلاة، والصوم.
وهومع ذلك ينتظم كل لون من ألوان العبادات، سواء منها ما كان من عبادات الظاهر أو الباطن، فإن فيه من عبادات الباطن الزهد في الدنيا، ومفارقة الوطن، وهجرة الرغبات، حتى سماه الاسلام " الرهبنة ".
فقد جاء في الحديث: " رهبانية أمتي: الجهاد في سبيل الله ".
وفيه من التضحيه بالنفس، والمال، وبيعهما لله، ما هو ثمرة من ثمرات الحب، والايمان، واليقين، والتوكل.
" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ".
(1) وقد عظم الاسلام أمره، ونوه به في عامة السور المدنية وذم التاركين له، والمعرضين عنه، ووصفهم بالنفاق ومرض القلب.
المجاهد خير الناس المجاهد خير الناس عن ابن عباس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ألا أخبركم بخير الناس؟ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله.
__________
(1) سورة التوبة: الآية 111.

(2/628)


ألا أخبركم بالذي يتلوه: رجل معتزل في غنيمة له يؤدي حق الله فيها. ألا أخبركم بشر الناس: رجل يسأل باللهولا يعطي به ".
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، أي الناس أفضل؟ قال: " مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله ".
قالوا: ثم من؟ قال: " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره ".
فقوله صلى الله عليه وسلم: " ثم مؤمن في شعب بن الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شره " فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة عن الاختلاط، وفي ذلك خلاف مشهور.
فمذهب الشافعي، وأكثر العلماء، أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن.
ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل.
وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب، أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم، أو نحو ذلك من الخصوص.
وقد كانت الانبياء صلوات الله عليهم، وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين، فيحصلون منافع الاختلاط، كشهود الجمعة، والجماعة، والجنائز، وعيادة المرضى، وحلق الذكر، وغير ذلك.
وأما الشعب، فهو: ما انفرج بين جبلين، وليس المراد نفس الشعب خصوصا، بل المراد: الانفراد والاعتزال، وذكر الشعب مثالا، لانه خال من الناس غالبا.
وهذا الحديث نحو الحديث الآخر، حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة، فقال:
" أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ".
الجنة للمجاهد روى الترمذي: أن رجلا مالت نفسه إلى العزلة، فسأل النبي صلى

(2/629)


الله عليه وسلم عنها، فقال: " لا تفعل، فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة: اغزوا في سبيل الله. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة ".
المجاهد يرتفع مائة درجة في الجنة: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا سعيد، من رضي بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد نبيا وجبت له الجنة ".
فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل.
ثم قال: " وأخرى يرفع بها العبد مائة درحة في الجنة ما بين كل درجتين، كما بين السماء والارض ".
قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: " الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، مابين الدرجتين كما بين السماء والارض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش
الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ".
الجهاد لا يعد له شئ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد في سبيل الله عزوجل؟ قال: " لا تستطيعونه ".
فأعاد عليه مرتين، أو ثلاثا، كل ذلك يقول " لا يستطيعونه ".
وقال في الثالثة: " مثل المجاهد في سيبل الله كمثل الصائم القائم القانت

(2/630)


بآيات الله، لايفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ".
رواه الخمسة.
فضل الشهادة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكلم أحد في سيبل الله - والله أعلم بمن يكلم في سبيل الله - إلا جاء يوم القيامة وجرحه يثعب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك ".
قال محمد بن إبراهيم: أملى علي عبد الله بن المبارك حين ودعته للخروج هذه الابيات، وأرسلها معي إلى الفضيل بن عياض: يا عابد الحرمين لو أنصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خذه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الاطيب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق ... لا يكذب لا يستوي غبار أهل الله في أنف امرئ ودخان نار، لا يكذب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت، لا يكذب قال: فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن، ونصحني، ثم قال:

(2/631)


أأنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم.
قال: فاكتب هذا الحديث، أجر حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا.
وأملى علي الفضيل بن عياض: " حدثنا منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله.
فقال: " هل تستطيع أن تصلي فلاتفتر، وتصوم فلا تفطر؟ " فقال: يا رسول الله، أنا أضعف من أن أستطيع ذلك.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فوالذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله.
أو ما علمت أن المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات ".
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه: " لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من نمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم، ومشربهم، ومقيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، فقال الله تعالى: " أنا أبلغهم عنكم ".
وأنزل: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون - يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ".
(1) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت ".
وقال صلى الله عليه وسلم: " الشهيد لا يجد ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة ". (2)
__________
(1) سورة آل عمران: الآيات 169، 170، 171.
(2) القرصة: اللسعة.

(2/632)


وقال صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد أن يعقر (1) جوادك، ويراق (2) دمك ".
عن جابر بن عتيك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الشهادة سبع - سوى القتل في سبيل الله -: المطعون (3) شهيد، والغرق (4) شهيد، وصاحب ذات الجنب (5) شهيد، والمبطون (6) شهيد، وصاحب الحرق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجمع (7) شهيدة ".
روه أحمد، وأبو داود، والنسائي بسند صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما تعدون الشهيد فيكم "؟ قالوا: يا رسول الله: من قتل في سبيل الله، فهو شهيد. قال: " إن شهداء أمتي إذن لقليل ".
قالوا: فمن هم يا رسول الله؟ قال: " من قتل في سبيل الله، فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله (8) ، فهو شهيد، ومن مات في الطاعون، فهو شهيد، ومن مات في البطن، فهو شهيد، والغريق شهيد ". رواه مسلم.
وعن سعيد بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من قتل دون ماله، فهو شهيد، ومن قتل دون دمه، فهو شهيد، ومن قتل دون دينه، فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، فهو شهيد ".
رواه أحمد، والترمذي، وصححه.
قال العلماء: " المراد بشهادة هؤلاء كلهم، غير المقتول في سبيل الله،
__________
(1) يعقر: يجرح.
(2) يراق: يصب.
(3) المطعون: من مات بالطاعون.
(4) الغرق: الغريق.
(5) ذات الجنب: القروح تصيب الانسان داخل جنبه وتنشأ عنها الحمى والسعال.
(6) المبطون: من مات بمرض البطن.
(7) بجمع: أي التي تموت عند الولادة.
(8) في سيبل الله: أي في طاعته.

(2/633)


أنهم يكون لهم في الآخرة ثواب الشهداء، وأما في الدنيا، فيغسلون، ويصلى عليهم.
" وبيان هذا، أن الشهداء ثلاثة أقسام: شهيد في الدنيا والآخرة، وهو المقتول في حرب الكفار، وشهيد في الآخرة دون أحكام الدنيا، وهم هؤلاء المذكورون هنا، وشهيد في الدنيا دون الآخرة، وهو من غل من الغنيمة (1) أو قتل مدبرا ".
وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغفر الله للشهيد كل ذنب، إلا الدين ".
ويلحق بالدين مظالم العباد، مثل: القتل، وأكل أموال الناس بالباطل، ونحو ذلك.
الجهاد لاعلاء كلمة الله:
إن الجهاد لا يسمى جهادا حقيقيا إلا أذا قصد به وجه الله، وأريد به إعلاء كلمته، ورفع راية الحق، ومطاردة الباطل، وبذل النفس في مرضاة الله، فإذا أريد به شئ دون ذلك من حظوظ الدنيا، فإنه لا يسمى جهادا على الحقيقة.
فمن قاتل ليحظى بمنصب، أو يظفر بمغنم، أو يظهر شجاعة، أو ينال شهرة، فإنه لانصيب له في الاجر، ولاحظ له في الثواب.
فعن أبي موسى، قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم (2)
والرجل يقاتل للذكر (3) ، والرجل يقاتل ليرى مكانه (4) ، فمن في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله ".
__________
(1) راجع الجزء الرابع (المجلد الاول) من فقه السنة.
(2) أي لاجل الغنيمة.
(3) ليذكر بين الناس.
(4) يرى مكانه: يشتهر بالشجاعة.

(2/634)


وروى أبو داود، والنسائي: أن رجلا قال: يا رسول الله: أرأيت رجلا غزا يلتمس الاجر والذكر، ماله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " لاشئ له ".
فأعادها عليه ثلاث مرات: فقال: " لاشئ له، إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، وابتغي به وجهه ".
إن النية: هي روح العمل، فإذا تجرد العمل منها، كان عملا ميتا، لاوزن له عند الله.
روى البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنما الاعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ".
وإن الاخلاص هو الذي يعطي الاعمال قيمتها الحقيقية، ومن ثم فإن المرء قد يبلغ بالاخلاص درجة الشهداء، ولو لم يستشهد.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام:
" من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداءوإن مات على فراشه ".
ويقول صلى الله عليه وسلم: " إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلا كانوا معكم، حبسهم العذر ".
وإذا لم يكن الاخلاص هو الباعث على الجهاد، بل كان الباعث شيئا آخر من أشياء الدنيا وأعراضها لم يحرم المجاهد الثواب والاجر فقط، بل إنه بذلك يعرض نفسه للعذاب يوم القيامة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه: رجل استشهد. فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها. قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت، ولكنك قاتلت

(2/635)


لان يقال: جرئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها.
قال فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن.
قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم.
وقرأت القرآن ليقال هو قارئ.
فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.
ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال.
فأتي به فعرفه نعمه، فعرفها.
قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيهالك.
قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار ".
رواه مسلم أجر الاجير ومهما كان المجاهد مخلصا، وأخذ من الغنيمة، فإن ذلك ينقص من أجره.
فعن عبد الله بن عمرو.
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من غازية، أو سرية تغزو، فتغنم، وتسلم، إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم ".
" وما من غازية أو سرية تخفق أو تصاب، إلا تم أجورهم ".
رواه مسلم.
قال النووي: " وأما معنى الحديث فالصواب الذي لا يجوز غيره.
أن الغزاة إذا سلموا أو غنموا يكون أجرهم أقل من أجر من لم يسلم، أو سلم ولم يغنم.
وأن الغنيمة هي في مقابلة جزء من أجر غزوهم، فإذا حصلت لهم، فقد تعجلوا ثلثي أجرهم المترتب على الغزو، وتكون هذه الغنيمة من جملة الاجر.
وهذا موافق للاحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة كقوله: " منا من مات ولم يأكل من أجره شيئا.
ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهديها: أي يجتنيها ".
فهذا الذي ذكرنا هو الصواب.
وهو ظاهر الحديث، ولم يأت حديث

(2/636)


صريح صحيح يخالف هذا.
فتعين حمله على ذكرنا.
وقد اختار القاضي عياض معنى هذا الذي ذكرناه ".
وروى أبو داود عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ستفتح عليكم الامصار، وستكونون جنودا مجندة، يقطع عليكم فيها بعوث، فيكره الرجل منكم البعث فيها، فيتخلص من قومه، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم، يقول: من أكفه بعث كذا، وذلك الاجير، إلى آخر قطرة من دمه ".
فضل الرباط في سبيل الله توجد ثغور يمكن أن تكون منافذ ينطلق منها العدو إلى دار الاسلام ومن الواجب أن تحصن هذه الثغور تحصينا منيعا، كي لا تكون جانب ضعف يستغله العدو ويجعله منطلقا له.
وقد رغب الاسلام في حماية هذه الثغور، بإعداد الجنود ليكونوا قوة للمسلمين.
وأطلق على لزوم هذه الثغور، لاجل الجهاد في سبيل الله لفظ الرباط (1) ، وأقله ساعة، وتمامه أربعون يوما، وأفضله ما كان بأشد الثغور خوفا.
وقد اتفق العلماء على أنه أفضل من المقام بمكة.
وقد جاء في فضله من الاحاديث ما يلي: روى مسلم عن سلمان، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله (2) الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه (3) ، وأمن الفتان ".
قال: " كان ميت يختم (4) على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله،
__________
(1) الرباط: معناه الاقامة في الثغر بإزاء العدو.
(2) هذه فضيلة خاصة بالمرابطة.
(3) هذا كقوله تعالى: " أحياء عند ربهم يرزقون ".
(4) يختم على عمله: ينقطع عمله عنه ولا يصل ثوابه إليه.

(2/637)


فإنه ينمى (1) عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر ".
فضل الرمي بنية الجهاد:
رغب الاسلام في تعلم الرمي والمناضلة بنية الجهاد في سبيل الله، وحبب في التدريب على ذلك ورياضة الاعضاء بممارسة الرمي والمناضلة.
1 - عن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".
" ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ".
رواه مسلم.
2 - وعنه رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ستفتخ عليكم أرضون، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه، إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة نفر: صانعه (2) والممد به (3) والرامي به في سبيل الله.
" وقد شدد الاسلام تشديدا عظيما في نسيان الرمي بعد تعلمه، وأنه مكروه كراهة شديدة لمن تركه بلا عذر.
3 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو " قد عصى ".
رواه مسلم.
4 - وقال صلى الله عليه وسلم: " كل شئ يلهو به الرجل باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنه من الحق ".
قال القرطبي: " ومعنى هذا والله أعلم: أن كل ما يتلهى به الرجل، مما لا يفيده في العاجل ولا في الآجل فائدة، فهو باطل والاعراض عنه أولى.
وهذه الامور الثلاثة، فإنه وإن كان يفعلها على أنه يتلهى بها وينشط، فإنها
__________
(1) ينمي: يزداد وينمو.
(2) يحتسب في صنعه الخير.
(3) المناول له.

(2/638)


حق لاتصالها بما قد يفيد، فإن الرمي بالقوس، وتأديب الفزس جميعا من تعاون القتال، وملاعبة الاهل قد تؤدي إلى ما يكون عنه ولد يوحد الله ويعبده، فلهذا كانت هذه الثلاثة من الحق ".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا بني إسماعيل، أرموا فإن أباكم كان راميا ".
وتعلم الفروسية واستعمال الاسلحة فرض كفاية " وقد يتعين ".
الحرب في البحر أفضل من الحرب في البر:
لما كان القتال في البحر أعظم خطرا كان أكثر أجرا.
1 - " روى أبو داود عن أو حرام، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المائد (1) في البحر له أجر شهيد، والغرق له أجر شهيدين ".
2 - وروى ابن ماجه عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجبتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض الارواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم. ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين ".
صفات القائد:
وقد عد الفخري الصفات التي يجب أن تتوفر في قائد الجيش، فقال: قال بعض حكماء الترك: " ينبغي أن يكون في قائد الجيش عشر خصال من أخلاق الحيوان: جرأة الاسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح.
وغارة الذئب، وحراسة الكركي، وسخاء الديك.
وشفقة الديك على الفراريج، وحذر الغراب.
وسمن " تعرو "، وهي دابة تكون بخراسان تسمن على السفر والكد ".
__________
(1) المائد: الذي يصيبه القئ.

(2/639)


الجهاد مع البر والفاجر: لا يشترط في الجهاد أن يكون الحاكم عادلا، أو القائد بارا، بل الجهاد واجب على كل حال، وقد يكون للرجل الفاجر في ميدان الجهاد من البلاء ما ليس لغيره ".
الواجب على قائد الجيش:
يجب على القائد بالنسبة للجنود ما يأتي:
1 - مشاورتهم وأخذ رأيهم، وعدم الاستبداد بالامر دونهم، لقول الله سبحانه: " وشاورهم في الامر ".
(1) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشاورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
أخرجه أحمد والشافعي رضي الله عنهما.
2 - الرفق بهم، ولين الجانب لهم، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به ". أخرجه مسلم.
وروى عن معقل بن يسار أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لا يجتهد لهم، ولا ينصح لهم، إلالم يدخل الجنة ". وروى أبو داود، عن جابر رضي الله عنه.
قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخلف عن المسير، فيزجي الضعيف ويردف، ويدلهم ".
3 - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا يتورطوا في المعاصي.
4 - تفقد الجيش حينا بعد حين، ليكون على علم بجنوده، يمنع من لا يصلح للحرب من رجال وأدوات، مثل المخدل وهو الذي يزهد الناس في القتال، والمرجف الذي يطلق الشائعات، فيقول: ليس لهم مدد، ولا طاقة..
__________
(1) سورة آل عمران: الآية 159.

(2/640)


وكذلك من ينقل أخبار الجيش وتحركاته، أو يثير الفتن.
5 - تعريف العرفاء.
6 - عقد الالوية والرايات.
7 - تخير المنازل الصالحة، وحفظ مكانها.
8 - بث العيون ليعرف حال العدو.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها (1)
وكان يبث العيون ليأتوه بخبر الاعداء، وكان يرتب الجيوش، ويتخذ الرايات والالوية.
قال ابن عباس: وكانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض. رواه أبو داود.
وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الى قواده عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: " بشروا، ولا تنفروا، ويسروا، ولا تعسروا " (2) .
وعنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن، فقال: يسروا ولاتعسروا، وبشروا ولا تنفروا، وتطاوعا، ولا تختلفا " (3) . رواهما الشيخان.
عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخا
__________
(1) أي ذكر غيرها وأرادها هي، حتى لا يعرف العدو ما يريده عليه الصلاة والسلام.
(2) في بعض أمره: أي في أمر من أعمال الولاية والادارة. قال: بشروا، أي من قرب إسلامه ومن تاب من العصاة، بسعة رحمه الله وعظم ثوابه لمن آمن وعمل صالحا. ولا تنفروا بذكر أنواع التخويف والوعيد، ويسروا على الناس، ولا تشدوا عليهم، فإن هذا أدعى لمحبة الدين.
(3) أتركا الخلاف واعملا على الوفاق فهذا أدعى للنصر والنجاح، وصدر الحديث موجه باعتبار الجماءة، وعجزه باعتبار المثنى.

(2/641)


فانيا (1) ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة (2) ، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم،
وأصلحوا، وأحسنوا (3) إن الله يحب المحسنين ". رواه أبو داود.
وصية عمر رضي الله عنه:
وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهما، ومن معه من الاجناد، أما بعد: " فإني آمرك ومن معك من الاجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لان عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا، لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا أن عدونا شرمنا، فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفار المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدا مفعولا، أسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله ذلك لنا ولكم.
" وترفق بالمسلمين في سيرهم، ولا تجشمهم سيرا يتعبهم، ولا تقصر بهم عند منزل يرفق بهم يبلغوا عدوهم، والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو مقيم، حامي الانفس والكراع، وأقم بمن معك في كل جمعة يوما وليلة، حتى تكون لهم راحة يحيون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم، ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة، فلا يدخلها
__________
(1) إلا إذا كان مقاتلا أو ذارأي فقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل زيد بن الصمة الذي كان في
جيش هوازن للرأي فقط وعمره يربو على مائة وعشرين سنة.
(2) إلا إذا كانت مقاتلة أو والية عليهم أو لها رأي فيهم.
(3) بسند صالح: نسأل الله صلاح الحال.
في الحال والمال.
آمين.

(2/642)


من أصحابك إلامن تثق بدينه، ولا يرزأ أحدا من أهلها شيئا، فإن لهم حرمة وذمة، ابتليتم بالوفاء بها، كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فنولوهم خيرا، ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح.
" وإذا وطئت أرض العدو، فأذك العيون بينك وبينهم، ولا يخفى عليك أمرهم، وليكن عندك من العرب، أو من أهل الارض من تمطئن إلى نصحه وصدقه، فإن الكذوب لا ينفعك خبره، وإن صدقك في بعضه والغاش عين عليك، وليس عينا لك.
" وليكن منك عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع، وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا أمدادهم ومرافقهم وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل، فإن لقوا عدوا كان أول من تلقاهم القوة من رأيك، واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد، والصبر على الجلاد، ولا تخص بها أحدا بهوى، فتضيع من رأيك وأمرك أكثر مما حابيت به أهل خاصتك، ولا تبعثن طليعة ولا سرية في وجه تتخوف فيه غلبة أو صنيعة ونكاية.
" فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك، وطلائعك، وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقاتله، وتعرف الارض كلها كمعرفة أهلها، فتصنع بعدوك كصنعه بك.
" ثم أذك على عسكرك، وتيقظ من البيات جهدك، ولا تمر بأسير له عقد إلا ضربت عنقه، لترهب به عدو الله وعدوك.
" والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر لكم على عدوكم، والله المستعان " اه.
واجب الجنود:
وواجب الجنود بالنسبة لقائدهم: الطاعة في غير معصية.
فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الامير فقد أطاعني، ومن يعص الامير فقد عصاني. "

(2/643)


وأما الطاعة في المعصية، فإنه منهي عنها، لانه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقد روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه، قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، واستعمل عليهم رجلا من الانصار، وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ، فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ فقالوا: بلى.
قال: فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار.
فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لو دخلوها، ما خرجوا منها أبدا، وقال: لاطاعة في معصية الخالق، إنما الطاعة في المعروف."
وجوب الدعوة قبل القتال:
وجوب الدعوة قبل القتال يجب أن يبدأ المسلمون بالدعوة قبل القتال، أخرج مسلم عن بريدة، رضي الله عنه، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية (1) أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا (2) ، ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا (3) ، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال (4) ، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الاسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم
__________
(1) السرية: قطعة من الجيش.
(2) أوصاء بتقوى الله، وأوصاه بالمسلمين خيرا.
(3) لا تغلوا: أي لا تخونوا في الغنيمة، ولا تغدروا: لا تنقضوا عهدا، ولا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتل بقطع الانوف والآذان ونحوها، ولا تقتلوا وليدا: أي صبيا، وكذا الشيخ الكبير والمرأة لانهم لا يقاتلون.
(4) هي الاسلام والهجرة وإلا فالجزية.

(2/644)


ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا (1) ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين (2) .
ولا يكون لهم في الغنيمة والفئ شئ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن أبوا فسلهم الجزية (3) ، فإن هم أجابوك فاقبل وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذلك (4) ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله (5) ، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تقبل منهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا (6) ". رواه الخمسة إلا البخاري.
وحاصر أحد جيوش المسلمين قصرا من قصور فارس، وكان الامير سلمان الفارسي فقالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم (7) .
قال: دعوني أدعهم، كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فأتاهم، فقال لهم: إنما أنا رجل منكم، فارسي، والعرب يطيعونني، فإن اسلمتم فلكم مثل الذي لنا، وعليكم ما علينا، وإن أبيتم إلا دينكم، تركناكم عليه وأعطونا الجزية عن يد وأنتم صاغرون.
__________
(1) عن ديارهم ويجاهدوا.
(2) من الاعراب أهل البادية، وحكم الله فيهم أنه ليس لهم في الغنيمة والفئ شئ إلا إذا جاهدوا.
(3) فإن أبوا: أي عن الاسلام، فسلهم الجزية، لعل هذا قبل تخصيصها بأهل الكتاب الوارد في سورة التوبة.
(4) فأرادوك: أي طلبوا منك.
(5) الذمة: العهد، والاخفار: نقض العهد.
(6) والمراد عن عهد الله وحكمه احتراما لهما.
(7) تأمر الجيش بالزحف عليهم.

(2/645)


قال: ورطن إليهم بالفارسية: وأنتم غير محمودين (1) ، وإن أبيتم، نابذناكم على سواء (2) .
قالوا: ما نحن بالذي يعطي الجزية، ولكنا نقاتلكم.
قالوا: يا أبا عبد الله، ألا تنهد إليهم.
قال: فدعاهم ثلاثة أيام إلى مثل هذا (3) ، ثم قال: انهدوا إليهم، قال: فنهدنا إليهم ففتحنا ذلك القصر ".
رواه الترمذي.
قال أبو يوسف: لم يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط، فيما بلغنا، حتى يدعوهم إلى الله ورسوله.
وقال صاحب الاحكام السلطانية: ومن لم تبلغهم دعوة الاسلام، يحرم علينا الاقدام على قتالهم غرة وبياتا بالقتل والتحريق.
ويحرم أن نبدأهم بالقتال، قبل إظهار دعوة الاسلام لهم وإعلامهم من معجزات النبوة ومن ساطع الحجة بما يقودهم إلى الاجابة.
ويرى السرخسي من أئمة المذهب الحنفي: أنه يحسن أن لا يقاتلهم فور الدعوة، بل يتركهم يبيتون ليلة يتفكرون فيها ويتدبرون ما فيه مصلحتهم.
ويرى الفقهاء أن أمير الجيش إذا بدأ بالقتال قبل الانذار بالحجة والدعاء إلى إحدى الامور الثلاثة، وقتل من الاعداء غرة وبياتا ضمن ديات نفوسهم.
ذكر البلاذري في فتوح البلدان: " أن أهل سمرقند، قالوا لعاملهم " سليمان بن أبي السرى " إن قتيبة بن مسلم الباهلي غدر بنا وظلمنا، وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والانصاف، فأذن لنا، فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة، فأذن لهم، فوجهوا منهم قوما إلى " عمر بن عبد العزيز " رضي الله
عنه، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: إن أهل سمرقند، قد شكوا إلى ظلما أصابهم، وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم، فإذا أتاك كتابي فأجلس لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن
__________
(1) قال هذه الكلمة لهم بالفارسية.
(2) أعلمناكم به، وقاتلناكم.
(3) فيه طلب الدعوة ثلاثة أيام، رحمة بهم لعلهم يسلمون.

(2/646)


قضي لهم، فأخرجهم إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم، قبل أن ظهر (1) عليهم قتيبة.
فأجلس لهم سليمان " جميع بن حاضر " القاضي، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء، فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة.
فقال أهل السند، بل نرضى بما كان، ولا نجدد حربا، لان ذوي رأيهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم، وأقمنا معهم، وأمنونا وأمناهم، فإن عدنا إلى الحرب، لا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا، كنا قد اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الامر على ما كان، ورضوا ولم ينازعوا بعد أن عجبوا من عدالة الاسلام والمسلمين وأكبروها، وكان ذلك سببا في دخولها الاسلام مختارين.
وهذا عمل لم نعلم أن أحدا وصل في العدل إليه.
الدعاء عند القتال:
ومن آداب القتال أن يستغيث المجاهدون بالرب سبحانه، ويستنصرونه، فإن النصر بيد الله.
وقد كان هذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدي أصحابه من بعده.
1 - فعن أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ثنتان لا تردان: الدعاء عند النداء، وعند البأس، حين يلحم بعضهم بعضا ".
2 - قال الله عز وجل: " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " (2)
3 - روى الثلاثة عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها للعدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس، فقال:
__________
(1) أي رجعتم إلى ما كنتم عليه قبل الغزو.
(2) سورة الانفال: الآية 9.

(2/647)


" أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ".
تم قال: " اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الاحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم ".
4 - وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم، إذا غزا: " اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول (1) وبك أصول (2) ، وبك أقاتل ".
رواه أصحاب السنن.
5 - وروى البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دعا يوم الاحزاب فقال: " اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الاحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم ".
القتال الاسلام يهتم بدعوة العالم الانساني إلى الدخول في هدايته، لينعم بهذه الهداية ويستظل بظلها الظليل.
وإن الامة الاسلامية هي الامة المنتدبة من قبل الله لاعلاء دينه، وتبليغ وحيه، وهي منتدبة كذلك لتحرير الامم والشعوب.
وهي بهذا الاعتبار كانت خير الامم، وكانت مكانتها من غيرها مكانة الاستاذ من التلاميذ.
وما دام أمرها كذلك، فيجب عليها أن تحافظ على كيانها الداخلي، وتكافح لتأخذ حقها بيدها، وتجاهد لتتبوأ مكانتها التي وضعها الله فيها.
وكل تقصير في ذلك يعتبر من الجرائم الكبرى، التي يجازي الله عليها بالذل والانحلال، أو الفناء والزوال.
وقد نهى الاسلام عن الوهن، والدعوة إلى السلم، طالما لم تصل الامة
__________
(1) أحول: حتال في مكر كيد العدو.
(2) أصول: أحمل على العدو.

(2/648)


إلى غايتها ولم تحقق هدفها، واعتبر السلم في هذه الحالة لا معنى له إلا الجبن، والرضا بالدون من العيش.
وفي هذا يقول الله سبحانه: " فلاتهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم " (1) .
أي الاعلون: عقيدة، وعبادة، وخلقا، وأدبا وعلما، وعملا.
إن السلم في الاسلام لا يكون إلا عن قوة واقتدار، ولذلك لم يجعله الله مطلقا، بل قيده بشرط أن يكف العدو عن العدوان، وبشرط ألا يبقى ظلم في الارض، وألا يفتن أحد في دينه.
فإذا وجد أحد هذه الاسباب، فقد أذن الله بالقتال.
وهذا القتال هو القتال الذي تسترخص فيه الانفس، ويضحى فيه بالمهج والارواح.
إنه لا يوجد دين من الاديان دفع بأهله إلى خوض غمرات الحروب.
وقذف بهم إلى ساحات القتال، في سبيل الله والحق، وفي سبيل المستضعفين.
ومن أجل الحياة الكريمة، غير السلام.
ومن استعرض الآيات القرآنية، والسيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده، يرى ذلك واضحا جليا، فالله سبحانه ينتدب هذه الامة إلى بذل أقصى ما في وسعها، فيقول: " وجاهدوا في الله حق جهاده ".
(1) وبين أن هذا الجهاد هو الايمان العملي، الذي لا يكمل الدين إلا به، فيقول: " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون - ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " (3) .
ويوضح أن هذه سنة الله مع المؤمنين، وأنه ليس للنصر ولا للجنة سبيل غيره.
فيقول: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول
__________
(1) سورة محمد: الآية 35.
(2) سورة الحج: الآية 78.
(3) سورة العنكبوت: الآية 2، 3.

(2/649)


والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " (1) .
ويوجب إعداد العدة، وأخذ الاهبة.
فيقول: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم " (2) والاعداد يتطور بحسب الظروف والاحوال، ولفظ القوة يتناول كل وسيلة من شأنها أن تدحر العدو.
وقد جاء في الحديث الصحيح: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ".
ومن الاعداد الحيطة والتجنيد لكل قادر عليه.
" يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا " (3) وأخذ الحذر لايتم إلا بالاعداد البري، والبحري، والجوي.
ويأمر بالخروج لملاقاة العدو في العسر واليسر، والمنشط والمكره.
فيقول: " انفروا خفافا وثقالا ".
(4) والاسلام يعتمد على الروح المعنوية أكثر مما يعتمد على القوة المادية، ولهذا يستثير الهمم والعزائم، فيقول: " فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة.
ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما.
ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا. واجعل لنا من لدنك نصيرا " (5) ويصبر المؤمنين بأنهم إن كانوا يألمون فإن عدوهم يألم كذلك مع الاختلاف البعيد بين هدف كل منهم فيقول:
" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما
__________
(1) سورة البقرة: الآية 214.
(2) سورة الانفال: الآية 60.
(3) سورة النساء: الآية 71.
(4) سورة التوبة: الآية 41.
(5) سورة النساء: الآية 74، 75.

(2/650)


تألمون وترجون من الله ما لا يرجون " (1) .
ويقول: " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا " (2) .
أي أن المؤمنين لهم هدف سام، ولهم رسالة يجاهدون من أجلها، وهي رسالة الحق والخير وإعلاء كلمة الله.
ويوجب الثبات عند اللقاء فيقول: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرقا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " (3) .
ويرشد إلى القوة المعنوية، فيقول: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون - وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " (4) .
ويكشف عن نفسية المؤمنين، وأن من شأنها الاستماتة في الدفاع، فهم بين أمرين لا ثالث لهما: إما قاتلين، وإما مقتولين، فيقول:
" ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظم " (6) .
وفي الحالة الاولى لهم النصر، وفي الثانية لهم الشهادة: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنييين " (2) .
وإن القتل في سبيل الله ليس موتا أبديا، وإنما هو انتقال إلى ما هو أرقي
__________
(1) سورة النساء: الآية 76.
(2) سورة النساء: الآية 140.
(3) سورة الانفال: الآيتان 15، 16.
(4) سورة الانفال: الآيتان 45، 46.
(5) سورة التوبة: الآية 111.
(6) سورة التوبة: الآية 52.

(2/651)


وأبقى، وإن الفناء في سبيل الله هو عين البقاء.
" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون - فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون - يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " (1) والله مع المجاهدين لا يتخلى عنهم أبدا: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الاعناق واضربوا منهم كل بنان " (2) .
ثم هو سبحانه يعدهم على ذلك ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فيقول: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم - تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون - يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم - وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ".
(1) وبهذا الاسلوب ربي القرآن الكريم المسلمين الاوائل، وأوجد في نفوسهم الايمان الذي كان فيصلا بين الحق والباطل، ونهض بهم إلى حيث النصر، والفتح والتمكين في الارض.
" يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم (4) ".
" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قلبهم، وليمكنن لهم دينهم إلى ارتضى لهم وليبد لنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا (5) ".
__________
(1) سورة آل عمران: الآيات 169، 170، 171.
(2) سورة الانفال: الآية 12.
(3) سورة الصف: الآيات 10، 11، 12، 13.
(4) سورة محمد: الآية 7.
(5) سورة النور: الآية 55.

(2/652)


وجوب الثبات أثناء الزحف:
يجب الثبات عند لقاء العدو، ويحرم الفرار.
يقول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (1) ".
ويقول عز من قائل: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " (2) والآية توجب الثبات وتحرم الفرار إلا في إحدى حالتين، فإنه يجوز فيهما الانصراف عن العدو.
(الحالة الاولى) أن ينحرف للقتال، أي أن ينصرف من جهة إلى جهة إخرى حسب ما يقتضيه الحال، فله أن ينتقل من مكان ضيق إلى مكان أرحب منه، أو من موضع مكشوف إلى موضع آخر يستره، أو من جهة سفلى إلى جهة عليا وهكذا، مما هو أصلح له في ميدان الحرب والقتال.
(الحالة الثانية) أن يتحيز إلى فئة، أي ينحاز إلى جماعة من المسلمين، إما مقاتلا معهم، أو مستنجدا بهم.
وسواء أكانت هذه الفئة قريبة أم بعيدة.
روى سعيد بن منصور: أن عمر رضي الله عنه، قال: لو أن أبا عبيدة تحيز إلي لكنت له فئة.
وأبو عبيدة كان بالعراق، وعمر كان بالمدينة! وقال عمر أيضا: " أنا فئة كل مسلم ".
وروى ابن عمر رضي الله عنهما - أنهم أقبلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما خرج من بيته قبل صلاة الفجر، وكانوا قد فروامن عدوهم، فقالوا: " نحن الفرارون " فقال صلى الله عليه وسلم:
" بل أنتم العكارون (3) ، أنافئة كل مسلم ".
__________
(1) سورة الانفال: الآية 16.
(2) سورة الانفال: الآية 16.
(3) عكارون: جمع عكار، وهو العطاف الذي يعطف إلى الحرب بعد الحياد عنها.

(2/653)


ففي هاتين الحالتين المتقدمتين، يجوز للمقاتل أن يفر من العدو وهو - وإن كان فرارا ظاهرا - فهو في الواقع محاولة لاتخاذ موقف أصلح لمواجهة العدو.
وفي غير هاتين الصورتين يكون الفرار كبيرة من كبائر الاثم وموبقة توجب العذاب الاليم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات (1) " قالوا: وما هن يا رسول الله؟.
قال: " الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف (2) ، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات ".
الكذب والخداع عند الحرب:
يجوز في الحرب الخداع والكذب لتضليل العدو ما دام ذلك لم يشتمل على نقض عهد أو إخلال بأمان.
ومن الخداع أن يخادع القائد الاعداء بأن يوهمهم بأن عدد جنوده كثرة كاثرة وعتاده قوة لا تقهر.
وفي الحديث الذي رواه البخاري عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحرب خدعة ".
وأخرج مسلم من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها، قالت:
" لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شئ من الكذب مما يقول الناس إلا في الحرب، والاصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها " الفرار من المثلين تقدم انه يحرم الفرار أثناء الزحف إلا في إحدى الحالتين: " التحرف للقتال، أو التحيز إلى فئة ".
__________
(1) الموبقات: المهلكات.
(2) التولي يوم الزحف: الفرار من الحرب.

(2/654)


وبقي أن نقول: إنه يجوز الفرار أثناء الحرب إذا كان العدو يزيد على المثلين، فإن كان مثلين فما دونهما فإنه يحرم الفرار، يقول الله عزوجل: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين " (1) .
قال في المهذب: " إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار.
لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالافضل الثبات.
وإن ظنوا الهلاك، فوجهان: (الاول) يلزم الانصراف، لقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ".
(الثاني) فيستحب ولا يجب، لانهم ان قتلوا فازوا بالشهادة.
وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار، وإن ظنوا فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ".
ولايجوز، وصححوه، لظاهر الآية.
وقال الحاكم: " إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت، إذا لم يقصد الاقلاع عن الجهاد ".
وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك إلى: أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنهيجوز أن يفر الواحد عن واحد إذا كان أعتق جوادا منه، وأجود سلاحا، وأشد قوة وهذا هو الاظهر.
الرحمة في الحرب إذا كان الاسلام أباح الحرب كضرورة من الضرورات، فإنه يجعلها مقدرة بقدرها، فلا يقتل إلا من يقاتل في المعركة، وأما من تجنب الحرب فلا يحل قتله أو التعرض له بحال.
__________
(1) سورة الانفال: الآية 66.

(2/655)


وحرم الاسلام كذلك قتل النساء، والاطفال، والمرضى، والشيوخ، والرهبان، والعباد، والاجراء.
وحرم المثلة، بل حرم قتل الحيوان، وإفساد الزروع، والمياه، وتلويث الآبار، وهدم البيوت.
وحرم الاجهاز على الجريح، وتتبع الفار، وذلك أن الحرب كعملية جراحية، لا يجب أن تتجاوز موضع المرض بمكان.
وفي ذلك روى سليمان بن بريدة عن أبيه: " أن الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: " أغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، أغزوا ولاتغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا ".
وحدث نافع عن عبد الله بن عمر ان امرأة وجدت في بعض مغازي الرسول صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان. رواه مسلم.
وروى رباح بن ربيع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على امرأة مقتولة في بعض الغزوات ولعلها هي المرأة في الحديث المذكور قبل هذا.
فوقف عليها، ثم قال: " ما كانت هذه لتقاتل " ثم نظر في وجوه أصحابه وقال لاحدهم: " الحق بخالد بن الوليد، فلا يقتلن ذرية، ولاعسيفا أي أجيرا ولا امرأة ".
وعن عبد الله بن زيد قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبى والمثلة ". رواه البخاري.
وقال عمران بن الحصين: " كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة " (1) .
وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه لاسامة حين بعثه إلى الشام: " لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا
__________
(1) المثلة: هي تشويه القتيل بأي صورة من الصو

(2/656)


تقطعوا شجرة مثمرة، ولاتذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا، إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع " يريد الرهبان "، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ".
وكذلك كان يفعل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد جاء في كتاب له: " لاتغلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا، واتقوا الله في الفلاحين " وكان من وصاياه لامراء الجنود: " ولا تقتلوا هرما، ولا امرأة، ولا وليدا.
وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات ".
الغارة على الأعداء ليلا:
ويجوز الاغارة على الاعداء ليلا (1) .
قال الترمذي: " وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل، وكرهه بعضهم ".
وقال أحمد وإسحاق: " لا بأس أن يبيت العدو ليلا ".
وسئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم، فقال: " هم منهم ".
رواه البخاري ومسلم من حديث الصعب بن جثام.
قال الشافعي: النهي عن قتل نسائهم وصبيانهم، انما هو في حال التمييز والتفرد.
وأما البيات، فيجوز، وإن كان فيه إصابة ذراريهم ونسائهم.
انتهاء الحرب:
تنتهي الحرب بأحد الامور الآتية:
1 - إسلام المحاربين، أو إسلام بعضهم ودخولهم في دين الله، وفي هذه الحال يصبحون مسلمين، ويكون لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم من الحقوق والواجبات.
__________
(1) الاغارة ليلا، هي: التي يطلق عليها لفظ " البيات ".

(2/657)


2 - طلبهم إيقاف القتال مدة معينة، وحينئذ يجب الاستجابة إلى ما طلبوا، كما فعل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية.
3 - رغبتهم في أن يبقوا على دينهم مع دفع الجزية، ويتم بمقتضى هذا عقد الذمة بينهم وبين المسلمين.
4 - هزيمتهم، وظفرنا بهم، وانتصارنا عليهم، وبهذا يكونون غنيمة للمسلمين.
5 - وقد يحدث أن يطلب بعض المحاربين من الاعداء الامان، فيجاب إلى ما طلب، وكذلك إذا طلب الدخول في دار الاسلام، ومن ثم فإنا نتحدث بإجمال فيما يلي عن هذه الامور:
1 - عقد الهدنة والموادعة.
2 - عقد الذمة.
3 - الغنائم.
4 - عقد الامان.

(2/658)


الهدنة:
متى تجب الموادعة والهدنة: عقد الهدنة والموادعة هو الانفاق على ترك القتال فترة من الفترات الزمنية قد تنتهي إلى صلح، وتجب في حالين: (الحالة الاولى) إذا طلبها العدو، فإنه يجاب إلى طلبه ولو كان العدو يريد الخديعة، مع وجوب الحذر والاستعداد.
يقول الله تعالى: " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم - وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله " (1) .
وفي غزوة الحديبية هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي مكة، ووادعهم مدة عشر سنين، وكان ذلك حقنا للدماء، ورغبة في السلم.
عن البراء رضي الله عنه قال: " لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت (2) صالحه أهل مكة على أن يدخلها فيقيم بها ثلاثا، ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح، السيف وجرابه (3) ، ولا يخرج بأحد معه من أهلها، ولا يمنع أحدا يمكث بها ممن كان معه.
قال (4) لعلي أكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم (5) : " هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ".
فقال له المشركون: " لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن أكتب: محمد بن عبد الله.
__________
(1) سورة الانفال: الآيتان 60 و 61.
(2) لما منعه الكفار من دخول مكة هو وأصحابه وكانوا يريدون العمرة اصطلحوا بالحديبية.
(3) بيان لجلبان السلاح.
(4) الرسول صلى الله عليه وسلم.
(5) وفي رواية: ما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم.

(2/659)


فأمر عليا أن يمحوها (1) فقال: " لا والله لاأمحوها ".
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها، وكتب " ابن عبد الله ".
فأقام بها ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الثالث، قالوا لعلي:
هذا آخر يوم من شرط صاحبك، فمره فليخرج.
فأخبره بذلك، فقال: نعم، فخرج ".
وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه، أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عيبة مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال (2) . رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(الحالة الثانية) التي تجب فيها المهادنة: الاشهر الحرم، فإنه لا يحل فيها البدء بالقتال، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب.
إلا إذا بدأ فيها العدو بالقتال، فإنه يجب القتال حينئذ دفعا للاعتداء، وكذلك يباح فيها القتال إذا كانت الحرب قائمة ودخلت هذه الاشهر ولم يستجب العدو لقبول الموادعة فيها (3) .
يقول الله تعالى: " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والارض منها أربعة حرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ".
(4) وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع فقال: " أيها الناس: إنما النسئ زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا،
__________
(1) كلمة: رسول الله.
(2) العيبة: وعاء الثياب، ومكفوفة: مربوطة محكمة، ولا إسلال ولا إغلال: أي لاسرقة ولا خيانة، بل ولا كلام فيما مضى، ولكن قلوب صافية، وأمن وسلام تام.
(3) وحاصل الشروط أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون هذا العام، وأن يعودوا للعمرة العام القابل، ولا يحملوا إلا جلبان السلاح، ولا يأخذوا من تبعهم من أهل مكة، ولا يأخذوا من تأخر من المسلمين، ولا يمكثوا بمكة إلا ثلاثة أيام، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين، وأن يأمن الناس بعضهم بعضا.
(4) سورة التوبة: الآية 36.

(2/660)


يحلونه عاما ويحرمونه عاما، ليواطئوا عدة ما حرم الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والارض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر في كتاب الله، يوم خلق الله السموات والارض، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات، وواحد فرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، فهو الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت، اللهم اشهد ".
وما ورد من أن ذلك منسوخ، فهو ضعيف، لانه ليس فيه ما يدل على النسخ.

(2/661)


عقد الذمة:
الذمة هي العهد والامان: وعقد الذمة هو أن يقر الحاكم أو نائبه بعض أهل الكتاب - أو غيرهم - من الكفار على كفرهم بشرطين: (الشرط الاول) أن يلتزموا أحكام الاسلام في الجملة.
(والشرط الثاني) أن يبذلوا الجزية.
ويسري هذا العقد على الشخص الذي عقده، مادام حيا وعلى ذريته من بعده.
والاصل في هذا العقد قول الله سبحانه: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) .
وروى البخاري: أن المغيرة قال - يوم نهاوند -: أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية.
وهذا العقد دائم غير محدود بوقت ما دام لم يوجد ما ينقضه.
موجب هذا العقد:
وإذا تم عقد الذمة ترتب عليه حرمة قتالهم.
والحفاظ على أموالهم، وصيانة أعراضهم، وكفالة حرياتهم، والكف عن أذاهم، لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: " إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا ".
والقاعدة العامة التي رآها الفقهاء: " أن لهم ما لنا، وعليهم ما علينا ".
__________
(1) سورة التوبة: الآية 29.

(2/662)


الأحكام التي تجري على أهل الذمة:
وتجرى أحكام الاسلام على أهل الذمة في ناحيتين: (الناحية الاولى) المعاملات المالية، فلا يجوز لهم أن يتصرفوا تصرفا لا يتفق مع تعاليم الاسلام، كعقد الربا، وغيره من العقود المحرمة.
(الناحية الثانية) العقوبات المقررة: فيقتص منهم، وتقام الحدود عليهم متى فعلواما يوجب ذلك.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا بعد إحصانهما.
أما ما يتصل بالشعائر الدينية من عقائد وعبادات وما يتصل بالاسرى من زواج وطلاق، فلهم فيها الحرية المطلقة، تبعا للقاعدة الفقهية المقررة: " اتركوهم وما يدينون ".
وإن تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم لهم بمقتضى الاسلام، أو نرفض ذلك.
يقول الله تعالى: " ... فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (1) .
هذا ما يتعلق بالشرط الاول، وأما شرط الجزية فنذكره فيما يلي.
__________
(1) سورة المائدة: الآية 42.

(2/663)


الجزية:
تعريفها: الجزية مشتقة من الجزاء، وهي: " مبلغ من المال يوضع على من دخل في ذمة المسلمين وعهدهم من أهل الكتاب ".
الاصل في مشروعيتها: والاصل في مشروعيتها قول الله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) روى البخاري والترمذي عن عبد الرحمن بن عوف.
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر (2) .
وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس البحرين، وأخذها عمر رضي الله عنه من فارس، وأخذها عثمان من الفرس أو البربر.
حكمة مشروعيتها: وقد فرض الاسلام الجزية على الذميين في مقابل فرض الزكاة على المسلمين، حتى يتساوى الفريقان، لان المسلمين والذميين يستظلون براية
واحدة، ويتمتعون بجميع الحقوق وينتفعون بمرافق الدولة بنسبة واحدة، ولذلك أوجب الله الجزية للمسلمين نظير قيامهم بالدفاع عن الذميين وحمايتهم في البلاد الاسلامية التي يقيمون فيها: ولهذا تجب - بعد دفعها - حمايتهم والمحافظة عليهم، ودفع من قصدهم بأذى.
__________
(1) سورة التوبة: الآية 29.
(2) هجر: بلد في جزيرة العرب.

(2/664)


من تؤخذ منهم: وتؤخذ الجزية من كل الامم، سواء أكانوا كتابيين أم مجوسا أم غيرهم، وسواء أكانوا عربا أم عجما (1) وقد ثبت بالقرآن الكريم أنها تؤخذ من الكتابيين كما ثبت بالسنة أنها تؤخذ من المجوس، ومن عداهم يلحق بهم.
قال ابن القيم: " لان المجوس أهل شرك لاكتاب لهم.
فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الاوثان من العرب، لانهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها إنما نزلت بعد غزوة تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها له بالاسلام.
ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه، لانها لم تكن نزلت بعد، فلما نزلت أخذها من نصارى العرب، ومن المجوس، ولو بقي حينئذ أحد من عبدة الاوثان بذلها لقبلها منه، كما قبلها من عبدة الصلبان والاوثان والنيران.
ولافرق ولا تأثير لتغليظ كفر بعض الطوائف على بعض، ثم إن كفر
عبدة الاوثان ليس أغلظ من كفر المجوس، وأي فرق بين عبدة الاوثان والنيران، بل كفر المجوس أغلظ، وعباد الاوثان كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأنه لاخالق إلا الله، وأنهم انما يعبدون آلهتهم لتقربهم إلى الله سبحانه وتعالى.
ولم يكونوا يقرون بصانعين للعالم، أحدهما خالق للخير.
والآخر للشر، كما تقول المجوس، ولم يكونوا يستحلون نكاح الامهات والبنات والاخوات.
وكانوا على بقايا من دين إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، وأما المجوس فلم يكونوا على كتاب أصلا، ولادانوا بدين أحد من الانبياء، لافي عقائدهم، ولا في شرائعهم.
والاثر الذي فيه أنه كان لهم كتاب فرفع ورفعت شريعتهم لما وقع
__________
(1) وهذا مذهب مالك والاوزاعي وفقهاء الشام.
وقال الشافعي رضي الله عنه: تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أم عجما ويلحق بهم المجوس ولاتقبل من عبدة الاوثان على الاطلاق.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يقبل من العرب إلا الاسلام أو السيف.

(2/665)


ملكهم على ابنته، لا يصح ألبتة، ولو صح لم يكونوا بذلك من أهل الكتاب، فإن كتابهم رفع وشريعتهم بطلت، فلم يبقوا على شئ منها.
ومعلوم أن العرب كانوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكان له صحف وشريعة، وليس تغيير عبدة الاوثان لدين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وشريعته بأعظم من تغيير المجوس لدين نبيهم وكتابهم لو صح، فإنه لايعرف عنهم التمسك بشئ من شرائع الانبياء عليهم الصلاة والسلام، بخلاف العرب، فكيف يجعل المجوس الذين دينهم أقبح الاديان، أحسن حالا من مشركي العرب؟ وهذا القول أصح في الدليل كما ترى.
"
شروط أخذها: وقد روعي في أخذها: الحرية والعدل والرحمة.
ولهذا اشترط فيمن تؤخذ منهم:
1 - الذكورة.
2 - التكليف.
3 - الحرية.
لقوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا دينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " (1) .
أي عن قدرة وغنى، فلاتجب على امرأة، ولاصبي، ولاعبد، ولا مجنون.
كما أنها لا تجب على مسكين يتصدق عليه، ولا على من لا قدرة له على العمل، ولا على الاعمى، أو المقعد، وغيرهم من ذوي العاهات، ولا على المترهبين في الاديرة إلا إذا كان غنيا من الاغنياء.
قال مالك رضي الله عنه: " قضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب ولا على صبيانهم، وأن الجزية لا تؤخذ إلامن الرجال الذين قد بلغوا الحلم ".
وروى أسلم: أن عمر رضي الله عنه، كتب إلى امراء الاجناد: " لا
__________
(1) سورة التوبة: الآية 29.

(2/666)


تضربوا الجزية على النساء والصبيان، ولاتضربوها إلاعلى من جرت عليه المواسي " (1) .
والمجنون حكمه حكم الصبي.
قدرها: روى أصحاب السنن عن معاذ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى اليمن، أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافرة (2) .
ثم زاد فيها عمر رضي الله عنه، فجعلها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعين درهما على أهل الورق في كل سنة (3) .
فرسول الله صلى الله عليه وسلم علم بضعف أهل اليمن، وعمر رضي الله عنه، علم بغنى أهل الشام وقوتهم.
وروى البخاري أنه قيل لمجاهد: " ما شأن الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبل اليسار ".
وبهذا أخذ أبو حنيفة رضي الله عنه، ورواية عن أحمد، فقال: " إن على الموسر ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين درهما، وعلى الفقير اثني عشر درهما، فجعلها مقدرة الاقل والاكثر ".
وذهب الشافعي، ورواية عن أحمد: إلى أنها مقدرة الاقل فقط، وهو دينار، وأما الاكثر فغير مقدر، وهو موكول إلى اجتهاد الولاة.
وقال مالك، وإحدى الروايات عن أحمد، وهذا هو الراجح: " إنه لا حد لاقلها ولالاكثرها، والامر فيها موكول إلى اجتهاد ولاة الامر، ليقدروا على كل شخص ما يناسب حاله ".
" ولا ينبغي أن يكلف أحد فوق طاقته ".
الزيادة على الجزية: ويجوز اشتراط الزيادة على الجزية ضيافة من يمر بهم للمسلمين.
__________
(1) وهذا كناية على أنها لا تجب إلاعلى الرجل، وذلك إذا نبت شعره.
(2) المعافرة: ثياب باليمن وهي مأخوذة من معافرة، وهو حي من همدان.
(3) الورق: الفضة.

(2/667)


فقد روى الاحنف بن قيس: أن عمر رضي الله عنه شرط على أهل الذمة " ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته.
رواه أحمد.
وروى أسلم، أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر رضي الله عنه، فقالوا: " إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم.
فقال رضي الله عنه: " أطعموهم مما تأكلون، ولا تزيدوهم على ذلك ".
عدم أخذ ما يشق على أهل الكتاب وغيرهم: وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفق بأهل الكتاب وعدم تكليفهم فوق ما يطيقون.
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: " كان آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: " احفظوني في ذمتي ".
وجاء في الحديث: " من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه ".
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: " ليس في أموال أهل الذمة إلا العفو ".
سقوطها عمن أسلم: وتسقط الجزية عمن أسلم لحديث ابن عباس مرفوعا: " ليس على المسلم جزية ".
رواه أحمد وأبو داود.
وروى أبو عبيدة: أي يهوديا أسلم فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا.
قال: " إن في الاسلام معاذا ".
فرفع إلى عمر رضي الله عنه فقال: " إن في الاسلام معاذا ".
وكتب ألا تؤخذ منه الجزية.
عقد الذمة للمواطنين وللمستقلين:
وكما يجوز هذا العقد لمن يريد أن يعيش مع المسلمين وتحت ظلال الاسلام فإنه يجوز للمستقلين في أماكنهم، بعيد عن المسلمين.

(2/668)


فقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران عقدا، مع بقائهم في أماكنهم، وإقامتهم في ديارهم، دون أن يكون معهم أحد من لمسلمين.
وقد تضمن هذا العهد: حمايتهم، والحفاظ على حريتهم الشخصية، والدينية، وإقامة العدل بينهم، والانتصاف من الظالم.
وقام الخلفاء من بعده على تنفيذه حتى عهد هارون الرشيد، فأراد أن ينقضه، فمنعه محمد بن الحسن صاحب الامام أبي حنيفة، وهذا هو نص العقد: " لنجران وحاشيتها جوار الله، وذمة محمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته، اولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، وليس عليه دنية، أي لا يعامل معاملة الضعيف، ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النصف، غير ظالمين ولامظلومين، ومن أكل ربا (1) من ذي قبل، أي في المستقبل، فذمتي منه بريئة، ولا يؤخذ
رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذا الكتاب جوار الله، وذمة محمد النبي الامي رسول الله أبدا، حتى يأتي الله بأمره " فإذا أراد أحد الرؤساء استغلال المعاهدة لحسابه، وظلم شعبه، منع من ذلك.
جاء في المبسوط للسرخسي: " وإذا طلب ملك الذمة أن يترك يحكم في أهل مملكته بما شاء، من: قتل، أو صلب، أو غيره مما لا يصح في دار الاسلام، لم يجب إلى ذلك، لان التقرير على الظلم مع إمكان المنع حرام، ولان الذمي ممن يلتزم أحكام الاسلام فيما يرجع إلى المعاملات، فشرطه بخلاف موجب عقد الذمة باطل، فإن أعطى الصلح والذمة على هذا بطل من شروطه مالا يصح في الاسلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله باطل ".
__________
(1) قال ابن القيم: في هذا دليل على انتقاض عهد الذمة بإحداث الحدث وأكل الربا إذا كان مشروطا عليهم.

(2/669)


بم ينقض العهد؟
وينقض عهد الذمة بالامتناع عن الجزية، أو إباء التزام حكم الاسلام، إذا حكم حاكم به، أو تعدى على مسلم بقتل، أو بفتنته عن دينه، أو زنا بمسلمة، أو أصابها بزواج، أو عمل عمل قوم لوط، أو قطع الطريق، أو تجسس، أو آوى الجساوس، أو ذكر الله أو رسوله، أو كتابه، أو دينه بسوء، فإن هذا ضرريعم المسلمين في أنفسهم، وأعراضهم، وأموالهم، وأخلاقهم، ودينهم.
قيل لابن عمر رضي الله عنه: " إن راهبا يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لو سمعته لقتلته، إنا لم نعطه الامان على هذا ".
وكذا إذا لحق بدار الحرب، بخلاف ما إذا أظهر منكرا، أو قذف مسلما، فإن عهده لا ينتقض.
وإذا انتقض عهده، فإن عهد نسائه وأولاده لا ينتقض، لان النقض حدث منه فيختص به.
موجب النقض:
وإذا انتقض عهده كان حكمه حكم الاسير، فإن أسلم حرم قتله، لان الاسلام يجب ما قبله.
دخول غير المسلمين المساجد وبلاد الاسلام اختلف الفقهاء في دخول غير المسلمين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الاسلام.
وجملة بلاد الاسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: (القسم الاول) الحرم، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا، لظاهر قول الله سبحانه وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (1) .
وبه قال الشافعي، وأحمد، ومالك.
__________
(1) سورة التوبة: الآية 28.

(2/670)


فلو جاء رسول من دار الكفر والامام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم، بل يخرج إليه بنفسه، أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم.
وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم (1) .
ويقيم فيه مقام المسافر ولا يستوطنه.
ويجوز عنده دخول الواحد منهم الكعبة أيضا.
(القسم الثاني) من بلاد الاسلام: الحجاز، وحده ما بين اليمامة، واليمن، ونجد، والمدينة الشريفة، قيل نصفها تهامي، ونصفها حجازي، وقيل كلها حجازي (2) .
وقال الكلبي: حد الحجاز: ما بين جبلي طئ وطريق العراق، سمي حجازألانه حجز بين تهامة ونجد، وقيل: لانه حجز بين نجد والسراة، وقيل لانه حجز بين نجد وتهامة والشام.
قال الحربي: وتبوك من الحجاز، فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالاذن، ولكن لا يقيمون بها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام.
وقال أبو حنيفة: لا يمنعون من استيطانها والاقامة بها.
وحجة الجمهور ماروى مسلم، عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما ".
زاد في رواية لغير مسلم: وأوصى فقال: " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ".
فلم يتفرغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عم في خلافته، وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا.
وعن ابن شهاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ".
أخرجه مالك في الموطأ مرسلا.
__________
(1) يعني بإذن الامام أن الخليفة أو نائبه في الحكم.
(2) وهو الصحيح في عرف الاسلام، وأما الخلاف فهو في شكل البلاد الذي سمي الحجاز لاجله
حجازا ونجد نجدا.

(2/671)


وروى مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ".
قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق، إلى البحر.
وقال غيره: حد جزيرة العرب من أقصى (عدن أبين) إلى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام عرضا.
(القسم الثالث) سائر بلاد الاسلام، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأما وذمة، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم عند الشافعي.
وقال أبو حنيفة: يجوز دخولها لهم من غير إذن.
وقال مالك وأحمد: لا يجوز لهم الدخول بحال.

(2/672)


الغنائم:
تعريفها: الغنائم: جمع غنيمة، وهي في اللغة ما يناله الانسان بسعي، يقول الشاعر: وقد طوفت في الآفاق حتى - رضيت من الغنيمة بالاياب وفي الشرع: هي المال المأخوذ من أعداء الاسلام عن طريق الحرب والقتال، وتشمل الانواع الآتية:
1 - الاموال المنقولة.
2 - الاسرى.
3 - الارض.
وتسمى الانفال - جمع نفل - لانها زيادة في أموال المسلمين، وكانت قبائل العرب في الجاهلية قبل الاسلام إذا حاربت وانتصر بعضها على بعض أخذت الغنيمة ووزعتها على المحاربين، وجعلت منها نصيبا كبيرا للرئيس: أشار إليه أحد الشعراء فقال: لك المرباع (1) منها والصفايا (2) وحكمك والنشيطة (3) والفضول (4) إحلالها لهذه الامة دون غيرها: وقد أحل الله الغنائم لهذه الامة: فيرشد الله سبحانه إلى حل أخذ هذه الاموال بقوله: " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور ريحم " (5) .
__________
(1) المرباع: ربع الغنيمة.
(2) الصفايا: ما يستحسنه الرئيس ويصطفيه لنفسه.
(3) النشيطة: ما يقع في أيدي المقاتلين قبل الموقعة.
(4) الفضول: ما يفضل بعد القسمة.
(5) سورة الانفال: الآية 69.

(2/673)


ويشير الحديث الصحيح إلى أن هذا خاص بالامة المسلمة، فإن الامم السابقة لم يكن يحل لها شئ من ذلك.
روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي:
نصرت بالرعب مسيرة شهر. وجعلت لي الارض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة، فليصل. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لاحد قبلي. وأعطيت الشفاعة. وبعثت إلى الناس عامة ".
وسبب ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فلم تحل الغنائم لاحد من قبلنا. ذلك لان الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ". أي أحلها لنا.
مصرفها: كان أول صدام مسلح بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين يوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من الهجرة في بدر، وقد انتهى هذا الصدام بالنصر المؤزر والفوز العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ولاول مرة منذ البعثة يشعر المسلمون بحلاوة النصر، ويمكنهم الله من أعدائهم الذين اضطهدوهم طيلة خمسة عشر عاما، والذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: " ربنا الله ".
وقد ترك المشركون المنهزمون وراءهم أموالا طائلة فجمعها المنتصرون من المسلمين، ثم اختلفوا بينهم، فيمن تكون له هذه الاموال؟ أتكون للذين خرجوا في إثر العدو؟ أو تكون للذين أحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وحموه من العدو؟

(2/674)


فأرشد القرآن الكريم إلى أن حكمها يرجع إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي الآية الاولى من سورة الانفال يقول الله سبحانه وتعالى: " يسألونك عن الانفال، قل الانفال لله والرسول ".
كيفية تقسيم الغنائم: وقد بين الله سبحانه وتعالى كيفية تقسيم الغنائم، فقال: " واعلموا أنما غنمتم (1) من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل (2) إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير " (3) .
فالآية الكريمة نصت على الخمس يصرف على المصارف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وهي: الله ورسوله، وذو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، وذكر الله هنا تبركا.
فسهم الله ورسوله مصرفه مصرف الفئ، فينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد، ونحو ذلك من المصالح العامة.
روى أبو داود، والنسائي، عن عمرو بن عبسة قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعير من المغنم، ولما سلم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: " لا يحل لي من غنائكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم ".
أي ينفق منه على الفقراء، وفي السلاح، والجهاد.
__________
(1) غنمتم: أي أخذتموه من الكفار بواسطة الحرب وهو ليس على عمومه وإنما دخله التخصيص لان سلم المقتول لقاتله - والحاكم مخير في الاسارى والارض. ويكون المعنى إنما غنمتم من الذهب والفضة وغيرها من الامتعة والسبي.
(2) المساكين: الفقراء. وابن السبيل: المسافر المنقطع عن بلده.
(3) سورة الانفال: الآية 41.

(2/675)


أما نفقات الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت مما أفاء الله عليه من أموال بني النضير.
روى مسلم عن عمر، قال: " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولاركاب.
فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
فكان ينفق على أهله نفقة سنة، وما بقي جعله في الكراع (1) والسلاح عدة في سبيل الله.
وسهم ذي القربى: أي أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، الذين آزروا النبي صلى الله عليه وسلم وناصروه، دون أقربائه الذين خذلوه وعاندوه.
روى البخاري وأحمد عن جبير بن مطعم، قال: لما كان يوم خيبر، قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب.
فأتيت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله: أما بنو هاشم فلا ننكر فضلهم، لمكانك الذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال: " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام.
وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ".
وشبك بين أصابعه " ويأخذ منهم الغني (2) والفقير والقريب والبعيد، والذكر والانثى " للذكر مثل حظ الانثيين (3) ".
وهذا مذهب الشافعي، وأحمد.
وروي عن ابن عباس، وزين العابدين، والباقر: أنه يسوى في العطاء بين غنيهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، صغارهم وكبارهم، لان اسم القرابة يشملهم، ولانهم عوضوه لما حرمت عليهم الزكاة، ولان الله جعل ذلك لهم، وقسمه الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، وليس في الحديث أنه فضل بعضهم على البعض.
__________
(1) الكراع: الخيل.
(2) قال أبو حنيفة: يعطون لفقرهم إذا كانوا فقراء، وقال الشافعي: يعطون لقرابتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
(3) سورة النساء: الآية 11.

(2/676)


واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة فأشبه الميراث.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي عمه العباس وهو غني - ويعطي عمته صفية.
وأما سهم اليتامى، وهم أطفال المسلمين، فقيل: يختص به الفقراء وقيل: يعم الاغنياء والفقراء، لانهم ضعفاء وإن كانوا أغنياء.
روى البيهقي بإسناد صحيح، عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى، وهو معترض فرسا، فقلت: يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ قال: " لله خمسها، وأربعة أخماسها للجيش.
" قلت: فما أحد أولى به من أحد؟ قال: " لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك
المسلم.
" وفي الحديث: " وأيما قرية عصت الله ورسوله، فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم ".
وأما الاربعة الاخماس الباقية، فتعطى للجيش.
ويختص بها: الذكور، الاحرار، البالغون، العقلاء.
أما النساء، والعبيد، والصغار، والمجانين، فإنه لا يسهم لهم.
لان الذكورة، والحرية، والبلوغ، والعقل، شرط في الاسهام.
ويستوي في العطاء القوي، والضعيف، ومن قاتل، ومن لم يقاتل.
روى أحمد، عن سعد بن مالك، قال: " قلت: يا رسول الله، الرجل يكون حامية القوم، ويكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد، وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ".
وفي كتاب حجة الله البالغة: " ومن بعثه الامير لمصلحة الجيش، كالبريد، والطليعة، والجاسوس.
يسهم له وإن لم يحضر الواقعة، كما كان لعثمان يوم بدر، فقد تغيب عنها

(2/677)


بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل مرض زوجته، رقية بنت الرسول صلى الله عليه وسلم.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه ".
رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وتقسم الغنيمة على أساس أن يكون للراجل سهم، وللفارس ثلاثة: وقد جاءت الاحاديث الصحيحة الصريحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم:
كان يسهم للفارس وفرسه ثلاثة أسهم، وللراجل (1) سهما.
وإنما كان ذلك كذلك لزيادة مئونة الفرس واحتياجه إلى سايس " وقد يكون تأثير الفارس بالفرس (2) في الحرب ثلاثة أصعاف تأثير الراجل (3) .
ولا يسهم لغير الخيل، لانه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أسهم لغير الخيل، وكان معه سبعون بعيرا يوم بدر، ولم تخل غزوة من غزواته من الابل وهي غالب دوابهم، ولو أسهم لها لنقل الينا، وكذلك أصحابه من بعده لم يسهموا للابل.
ولا يسهم لاكثر من فرس واحد، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يرو عنه ولا عن أصحابه أنهم أسهموا لاكثر من فرس، ولان العدو لا يقاتل إلا على فرس واحد.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: " يسهم لاكثر من فرس واحد، لانه أكثر غناء وأعظم منفعة.
ويعطى الفرس المستعار والمستأجر، وكذلك المغصوب وسهمه لصاحبه.
النفل من الغنيمة: يجوز للامام أن يزيد بعض المقاتلين عن نصيبه بمقدار الثلث، أو الربع.
__________
(1) للراجل: المجاهد على رجليه.
(2) الفارس بالفرس يرى أبو حنيفة رضي الله عنه: ان للفارس سهمين وللراجل سهما، وهذا مخالف للسنة الصحيحة.
(3) يرى بعض العلماء التسوية بين الفرس العربي والهجين.
ويسمى البرذون والاكديش.
ويرى البعض الاخر أنه لا يسوى بينهما.
فإذا لم يكن الفرس عربيا، فإنه لا يسهم له، وأنه في هذه الحال يكون مثل الجمل في عدم الاسهام له.

(2/678)


وأن تكون هذه الزيادة من الغنيمة نفسها، إذا أظهر من النكاية في العدو ما يستحق به هذه الزيادة، وهذا مذهب أحمد وأبو عبيد (1) .
وحجة ذلك، حديث حبيب بن مسلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة، وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة ".
رواه أبو داود، والترمذي.
وجمع لسلمة بن الاكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم عنائه في تلك الغزوة.
السلب للقاتل: السلب هو ما وجد على المقتول من السلاح وعدة الحرب، وكذلك ما يتزين به للحرب.
أما ما كان معه من جواهر ونقود ونحوها، فليس من السلب، وإنما هو غنيمة.
وأحيانا يرغب القائد في القتال، فيغري المقاتلين بأخذ سلب المقتولين، وإيثارهم به دون بقية الجيش.
وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبل للقاتل، ولم يخمسه.
رواه أبو داود عن عوف بن مالك الاشجعي. وخالد بن الوليد.
وروى ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك: أن البراء بن مالك مر على مرزبان يوم الدارة، فطعنه طعنة على قربوص سرجه فقتله، فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لابي طلحة: " إنا كنا لا نخمس السلب، وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا. ولا أراني إلا خمسته ".
قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك: إنه أول سلب خمس في الاسلام.
__________
(1) يرى مالك: أن النفل يكون من الخمس الواجب لبيت المال. وقال الشافعي: يكون من خمس الخمس، وهو نصيب الامام.

(2/679)


عن سلمة بن الاكوع.
قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم عين (1) من المشركين، وهو في سفر، فجلس مع أصحابه يتحدث، ثم انفتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اطلبوه، فاقتلوه "، قال: فقتلته، فنفلني سلبه.
من لا سهم له في الغنيمة:
تقدم أن شرط الاسهام في الغنيمة: البلوغ، والعقل، والذكورة، والحرية.
فمن لم يكن مستوفيا لهذه الشروط فلا سهم له في الغنيمة، وإن كان له أن يأخذ منها دون السهم.
قال سعيد بن المسيب: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الامة.
وروى أبو داود، عن عمير قال: شهدت خيبر مع سادتي، فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأخبر أني مملوك، فأمر بي من خرثى المتاع: أي أردأه.
وفي حديث ابن عباس: أنه سئل عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ فأجاب: انه لم يكن لهما سهم معلوم، إلا أنه يحذيا (2) من غنائم القوم.
وعن أم عطية، قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنداوي الجرحى، ونمرض المرضى: وكان يرضخ لنا من الغنيمة.
وأخرج الترمذي عن الاوزاعي مرسلا، قال: أسهم النبي صلى الله عليه وسلم الصبيان بخيبر.
والمقصود بالاسهام هنا الرضخ.
وعن يزيد بن هرمز: أن نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما، يسأله عن خمس خلال أما بعد: فأخبرني: " هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟
__________
(1) جاسوس.
(2) يحذيا: يعطيا.

(2/680)


وهل كان يضرب لهن بسهم؟ وهل كان يقتل الصبيان؟ ومتى ينقضي يتم اليتيم؟ وعن الخمس لمن هو؟ " فقال ابن عباس: لولا أن أكتم علما ما كتبت إليه.
ثم كتب إليه، فقال: " كتبت تسألني: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء؟ وقد كان يغزو بهن، فيداوين الجرحى، ويحذين (1) من الغنيمة، وأما يسهم، فلا.
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقتل الصبيان، وأنت لاتقتلهم.
وكتبت تسألني: متى ينقضي يتم اليتيم؟ فلعمري، إن الرجل لتنبت لحيته، وإنه لضعيف الاخذ لنفسه، ضعيف
الوكاء منها، فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس، فقد ذهب عنه اليتم.
وكتبت تسألني: عن الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نقول: هو لنا، فأبى علينا قومنا ذاك ".
رواه الخمسة إلا البخاري.
الأجراء وغير المسلمين لا يسهم لهم:
وكذلك لا حق للاجراء الذين يصحبون الجيش للمعاش في الغنيمة، وإن قاتلوا، لانهم لم يقصدوا قتالا، ولا خرجوا مجاهدين، ويدخل فيهم الجيوش الحديثة، فإنها صناعة وحرفة.
وأما غير المسلمين من الذميين، فقد اختلفت فيهم أنظار الفقهاء فيما إذا استعين بهم في الحرب، وقاتلوا مع المسلمين.
فقالت الاحناف، وهو مروي عن الشافعي رضي الله عنه: يرضخ (2) لهم، ولا يسهم لهم.
__________
(1) يحذين: يعطين، والحذوة: العطية.
(2) يرضخ لهم: يعطون عطاء قليلا.

(2/681)


ومروي عن الشافعي أيضا: يستأجرهم الامام من مال لا مالك له بعينه، فإن لم يفعل أعطاهم سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الثوري والاوزاعي: يسهم لهم.

الغلول:
تحريم الغلول: يحرم الغلول، وهو السرقة من الغنيمة، إذ أن الغلول يكسر قلوب
المسلمين، ويسبب اختلاف كلمتهم، ويشغلهم بالانتهاب عن القتال، وكل ذلك يفضي إلى الهزيمة، ولهذا كان الغلول من كبائر الاثم بإجماع المسلمين.
يقول الله تعالى: " وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ".
(1) وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعقوبة الغال وحرق متاعه وضربه، زجرا للناس وكبحا لهم أن يفعلوا مثل ذلك.
فقد روى أبو داود، والترمذي، عن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه ".
قال: فوجدنا في متاعه مصحفا، فسألنا سالما عنه؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه.
وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، حرقوا متاع الغال وضربوه.
وقد رويت أحاديث أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لم يأمر بحرق متاع الغال، ولا ضربه، ففهم من هذا ان للحاكم أن يتصرف حسب ما يرى من المصلحة، فإن كانت المصلحة تقتضي التحريق والضرب حرق
__________
(1) سورة آل عمران: الاية 161.

(2/682)


وضرب، وإن كانت المصلحة غير ذلك فعل ما فيه المصلحة.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثقل (1) النبي صلى
الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة، فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هو في النار "، فذهبوا ينظرون إليه، فوجدوا عباءة قد غلها.
وروى أبو داود: " أن رجلا مات يوم خيبر من الاصحاب، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " صلوا على صاحبكم " فتغيرت وجوه الناس، فقال: " إن صاحبكم غل في سبيل الله "، ففتشوا متاعه، فوجدوا خرزا من خرز اليهود لا يساوي درهمين.
الانتفاع بالطعام قبل قسمة الغنائم: ويستثنى من ذلك الطعام، وعلف الدواب، فإنه يباح للمقاتلين أن ينتفعوا بها ماداموا في أرض العدو، ولو لم تقسم عليهم.
1 - روى البخاري، ومسلم، عن عبد الله بن مغفل، قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته، فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسم.
2 - وأخرج أبو داود، والحاكم، والبيهقي، عن ابن أبي أوفى قال: " أصبنا طعام يوم خيبر، وكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه، ثم ينطلق.
3 - وروى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب، فنأكله ولا نرفعه.
وفي بعض رواية الحديث عند أبي داود: فلم يؤخذ منهما الخمس.
قال مالك في الموطأ: لا أرى بأسا أن يأكل المسلمون إذا دخلوا أرض العدو من طعامهم، ما وجدوا من ذلك كله قبل أن تقع في المقاسم.
وقال: أنا أرى الابل والبقر والغنم بمنزلة الطعام، يأكل منه المسلمون إذا دخلوا أرض العدو كما يأكلون الطعام.
__________
(1) ثقل: متاع.

(2/683)


وقال: ولو أن ذلك لا يؤكل حتى يحضر الناس المقاسم ويقسم بينهم أضر ذلك بالجيوش.
قال: فلا أرى بأسا بما أكل من ذلك كله على وجه المعروف والحاجة إليه، ولا أرى أن يدخر بعد ذلك شيئا يرجع به إلى أهله.
المسلم يجد ماله عند العدو يكون له: إذا استرد المقاتلون أموالا للمسلمين كانت بأيدي الاعداء، فأربابها أحق بها، وليس للمقاتلين منها شئ، لانها ليست من الغنائم.
1 - عن ابن عمر أنه غار له فرس، فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان النبي صلى الله عليه وسلم.
2 - وعن عمران بن حصين قال: " أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء، ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة، قامت المرأة، وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا، فركبتها، ثم توجهت قبل المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: " بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية ".
وكذلك إذا أسلم الحربي وبيده مال مسلم، فإنه يرد إلى صاحبه.
الحربي يسلم:
إذا أسلم الحربي وهاجر إلى دار الاسلام وترك بدار الحرب ولده وزوجته وماله، فإن هذه تأخذ حرمة ذرية المسلم، وحرمة ماله، فإذا غلب المسلمون عليها لم تدخل في نطاق الغنائم، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأمولهم ".

(2/684)


أسرى الحرب:
أسرى الحرب، وهم من جملة الغنائم، وهم على قسمين: (الاول) النساء والصبيان.
(الثاني) الرجال البالغون المقاتلون من الكفار إذا ظفر المسلمون بهم أحياء.
وقد جعل الاسلام الحق للحاكم في أن يفعل بالرجال المقاتلين إذا ظفر بهم ووقعوا أسرى، ما هو الانفع والاصلح من المن، أو الفداء، أو القتل.
والمن: هو إطلاق سراحهم مجانا.
والفداء: قد يكون بالمال، وقد يكون بأسرى المسلمين، ففي غزوة بدر كان الفداء بالمال، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه فدى رجلين من أصحابه برجل من المشركين من بني عقيل.
رواه أحمد والترمذي وصححه.
يقول الله سبحانه وتعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم (1) فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها " (2) .
وروى مسلم من حديث أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أطلق سراح الذين أخذهم أسرى، وكان عددهم ثمانين، وكانوا قد
هبطوا عليه وعلى أصحابه من جبال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم.
وفي هذا نزل قول الله سبحانه وتعالى: " وهو الذي كف أيديم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " (3) .
__________
(1) الاثخان: المبالغة في قتل العدو.
(2) سورة محمد: الاية 4.
(3) سورة الفتح: الاية 24.

(2/685)


وقال صلى الله عليه وسلم لاهل مكة يوم الفتح: " اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
على أنه يجوز للامام، مع ذلك، أن يقتل الاسير إذا كانت المصلحة تقتضي قتله، كما ثبت ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قتل النضر ابن الحارث، وعقبة بن معيط، يوم بدر، وقتل أبا عزة الجمحي يوم أحد.
وفي هذا يقول الله سبحانه: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض " (1) .
وممن ذهب إلى هذا جمهور العلماء، فقالوا: " للامام الحق في أحد الامور الثلاثة المتقدمة ".
وقال الحسن وعطاء: لا يقتل الاسير، بل يمن عليه أو يفادى به.
وقال الزهري ومجاهد وطائفة من العلماء: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا.
وقال مالك: لا يجوز المن بغير فداء.
وقال الاحناف: لا يجوز المن أصلا، لا بفداء ولا بغيره.
معاملة الأسرى:
عامل الاسلام الاسرى معاملة إنسانية رحيمة، فهو يدعو إلى إكرامهم والاحسان إليهم، ويمدح الذين يبرونهم، ويثني عليهم الثناء الجميل.
يقول الله تعالى: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا - إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " (2) .
ويروي أبو موسى الاشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
__________
(1) سورة الانفال: الاية 17.
(2) سورة الدهر: الاية 9.

(2/686)


" فكوا العاني (1) ، وأجيبوا الداعي، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض ".
وتقدم أن ثماقة بن أثال وقع أسيرا في أيدي المسلمين، فجاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أحسنوا إساره ".
وقال: " اجمعوا ما عندكم من طعام فابعثوا به إليه ".
فكانوا يقدمون إليه لبن لقحة (2) الرسول صلى الله عليه وسلم غدوا ورواحا.
ودعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام، فأبى، وقال له: إن أردت الفداء، فاسأل ما شئت ما المال.
فمن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأطلق سراحه بدون فداء، فكان ذلك من أسباب دخوله في الاسلام.
وقد جاء في الصحاح في شأن أسرى غزوة بني المصطلق - وكان من بينهم جويرية بنت الحارث - أن أباها الحارث بن أبي ضرار، حضر إلى المدينة ومعه كثير من الابل ليفتدي بها ابنته، وفي وادي العقيق، قبل المدينة بأميال، أخفى اثنين من الجمال أعجباه في شعب بالجبل، فلما دخل على النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها.
فقال عليه الصلاة والسلام: " فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق في شعب كذا "؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما أطلعك على ذلك إلا الله. وأسلم الحارث وابنان له، وأسلمت ابنته أيضا، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها وتزوجها، فقال الناس: لقد أصبح هؤلاء الاسرى الذين بأيدينا أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنوا عليهم بغير فداء.
وتقول عائشة رضي الله عنها: " فما أعلم أن امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جويرية، إذ بتزوج الرسول صلى الله عليه وسلم إياها أعتق مائة من أهل بيت بني المصطلق ".
ولمثل هذا تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من جويرية، لا لشهوة يقضيها، بل لمصلحة شرعية يبتغيها، ولو كان يبغي الشهوة لاخذها أسيرة حرب بملك اليمين.
__________
(1) العاني: الاسير.
(2) اللقحة: الناقة الحلوب.

(2/687)


الاسترقاق:
إن القرآن الكريم لم يرد فيه نص يبيح الرق، وإنما جاء فيه الدعوة إلى العتق.
ولم يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب الرق على أسير من الاسارى، بل أطلق أرقاء مكة، وأرقاء بني المصطلق، وأرقاء حنين.
وثبت عنه أنه صلى الله عليه وسلم أعتق ما كان عنده من رقيق في الجاهلية.
وأعتق كذلك ما أهدي إليه منهم.
على أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ثبت عنهم أنهم استرقوا بعض الاسرى على قاعدة المعاملة بالمثل.
فهم لم يبيحوا الرق في كل صورة من صوره، كما كان عليه العمل في الشرائع الالهية والوضعية، وإنما حصروره في الحرب المشروعة المعلنة من المسلمين ضد عدوهم الكافر، وألغوا كل الصور الاخرى، واعتبروها محرمة شرعا لا تحل بحال.
ومع أن الاسلام ضيق مصادره وحصرها هذا الحصر، فإنه من جانب آخر عامل الارقاء معاملة كريمة، وفتح لهم أبواب التحرر على مصاريعها كما يتجلى ذلك فيما يلي:

معاملة الرقيق:
لقد كرم الاسلام الرقيق، وأحسن إليهم، وبسط لهم يد الحنان، ولم يجعلهم موضع إهانة ولا ازدراء، ويبدو ذلك واضحا فيما يلي:
1 - أوصى بهم فقال: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم " (1) .
__________
(1) سورة النساء: الاية 36.

(2/688)


وعن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ".
2 - نهى أن ينادى بما يدل على تحقيره واستعباده، إذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم عبدي أو أمتي وليقل فتاي وفتاتي، وغلامي ".
3 - أمر أن يأكل ويلبس مما يأكل المالك، فعن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " خولكم (1) إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم ".
4 - نهى عن ظلمهم وأذاهم، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه ".
وعن أبي مسعود الانصاري قال: بينا أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام ". فقلت: هو حر لوجه الله، فقال: " لو لم تفعل لمستك النار ". وجعل للقاضي حق الحكم بالعتق إذا ثبت أنه يعامله معاملة قاسية.
5 - دعا إلى تعليمهم وتأديبهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كانت له جارية فعلمها، وأحسن إليها وتزوجها، كان له أجران في الحياة وفي الاخرى. أجر بالنكاح والتعليم، وأجر بالعتق ".
طريق التحرير:
وقد فتح الاسلام أبواب التحرير، وبين سبل الحلاص، واتخذ وسائل شتى لانقاذ هؤلاء من الرق:
__________
(1) الخول: الخدم.

(2/689)


1 - فهو طريق إلى رحمة الله وجنته يقول الله سبحانه: " فلا اقتحم العقبة - وما أدراك ما العقبة - فك رقبة " (1) وجاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: " عتق النسمة، وفك الرقبة ".
فقال: يارسول الله: أو ليسا واحدا؟ قال: " لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ".
2 - والعتق كفارة للقتل الخطأ. يقول الله عزوجل: " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " (2)
3 - وهو كفارة للحنث في اليمين لقوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون هليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " (3) .
4 - والعتق كفارة في حالة الظهار، يقول الله سبحانه: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ". (4)
5 - جعل الاسلام من مصارف الزكاة شراء الارقاء وعتقهم، يقول أالله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب " (5) .
6 - أمر بمكاتبة العبد على قدر من المال، حيث قال تعالى: " والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ". (6)
__________
(1) سورة البلد: الايات 11، 12، 13.
(2) سورة النساء: الاية 92.
(3) سورة المائدة: الاية 89.
(4) سورة المجادلة: الاية 3.
(5) سورة التوبة: الاية 6.
(6) سورة النور: الاية 33.

(2/690)


7 - من نذر أن يحرر رقبة وجب عليه الوفاء بالنذر متى تحقق له مقصوده. وبهذا يتبين أن الاسلام ضيق مصادره الرق.
وعامل الارقاء معاملة كريمة، وفتح أبواب التحرير، تمهيدا لخلاصهم نهائيا من نير الذل والاستعباد، فأسدى بذلك لهم يدا لا تنسى على مدى الايام.

أرض المحاربين المغنومة:
الارض التي تؤخذ عنوة: إذا غنم المسلمون أرضا، بأن فتحوها عنوة بواسطة الحرب والقتال، وأجلوا أهلها عنها، فالحاكم مخير بين أمرين.
1 - إما أن يقسمها على الغانمين (1) .
2 - وإما أن يقفها على المسلمين.
وإذا وقفها على المسلمين ضرب عليها خراجا (2) مستمرا، يؤخذ ممن هي في يده، سواء أكان مسلما أم ذميا، ويكون هذا الخراج أجرة الارض يؤخذ كل عام.
وأصل الخراج هو فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، في الارض التي فتحها، كأرض الشام، ومصر، والعراق.
الارض التي جلا أهلها عنها خوفا أو صلحا: وكما تجب قسمة الارض المفتوحة على الغانمين، أو وقفها على المسلمين، يجب ذلك في الارض التي تركها أهلها خوفا منا، أو التي صالحناهم على أنها لنا، ونقرهم عليها نظير الخراج.
أما التي صالحناهم على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، فهي كالجزية تسقط بإسلامهم.
وإذا كان الخراج أجرة فإن تقديره يرجع إلى الحاكم فيضعه بحسب اجتهاده.
إذ أن ذلك يختلف باختلاف الامكنة والازمنة، ولا يلزم الرجوع
__________
(1) قال مالك رضي الله عنه: تكون وقفا على المسلمين ولا تجوز قسمتها على الفاتحين.
(2) الخراج: يكون الخراج على أرض لها ماء تسقى به ولو لم تزرع.

(2/691)


إلى ما وضعه عمر رضي الله عنه.
وما وضعه عمر وغيره من الائمة يبقى على ما هو عليه، فليس لاحد أن يغيره ما لم يتغير السبب، لان تقديره حكم.
العجز عن عمارة الارض الخراجية:
ومن كان تحت يده أرض خراجية فعجز عن عمارتها أجبر على أحد أمرين:
1 - إما أن يؤجرها.
2 - أو يرفع يده عنها.
لان الارض هي في الواقع للمسلمين، ولا يجوز تعطيلها عليهم.
ميراث الأرض المغنومة:
وهذه الارض يجري فيها الميراث، فينتقل ميراثها إلى وارث من كانت بيده على الوجه الذي كانت عليه في يد موروثه.

الفيء:
تعريفه: الفئ مأخوذ من فاء يفئ إذا رجع، وهو المال الذي أخذه المسلمون من أعدائهم دون قتال.
وهو الذي ذكره الله سبحانه في قوله: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم (1) عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على على شئ قدير - ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه
__________
(1) أوجفتم: أصل الايجاف سرعة السير. والركاب: الابل التي يسافر عليها لا واحد لها من لفظها، أي ما سقتم ولا حركتم خيلا ولا إبلا أي لم يعدوا في تحصيله خيلا ولا إبلا بل حصل بلا قتال.

(2/692)


وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب - للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون - والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون - والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " (1) .
فذكر الله المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة، ممن دخل في الاسلام قبل الفتح.
وذكر الانصار - وهم أهل المدينة - الذين آووا المهاجرين، وذكر من جاء من بعد هؤلاء إلى يوم القيامة.
تقسيمه:
قال القرطبي: قال مالك: " هو موكول إلى نظر الامام واجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير، ويعطي منه القرابة باجتهاده، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه قال الخلفاء الاربعة، وبه عملوا، وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم: " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم ".
فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا، وإنما ذكر في الاية من ذكر على وجه التنبيه عليهم، لانهم أهم من يدفع إليه.
قال: الزجاج محتجا لمالك: قال الله عزوجل: " يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين والتيامى والمساكين وابن السبيل " (2) .
__________
(1) سورة الحشر: الايات 6، 7، 8، 9، 10.
(2) سورة البقرة: الاية 215.

(2/693)


والرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الاصناف إذا رأي ذلك.
وذكر النسائي عن عطاء.
قال: خمس الله وخمس رسوله واحد - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل منه، ويعطي منه، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء.
وفي حجة الله البالغة: واختلفت السنن في كيفية قسمة الفئ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الفئ قسمه في يومه، فأعطى الاهل حظين وأعطى الاعزب حظا.
وكان أبو بكر رضي الله عنه، يقسم للحر والعبد، يتوخى كفاية الحاجة.
ووضع عمر رضي الله عنه الديوان على السوابق والحاجات، فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وعياله، والرجل وحاجته.
والاصل في كل ما كان مثل هذا من الاختلاف أن يحمل على أنه يفعل ذلك على الاجتهاد. فتوخى كل المصلحة بحسب ما رأى في وقته.
عقد الأمان:
إذا طلب الامان أي فرد من الاعداء المحاربين قبل منه، وصار بذلك آمنا، لا يجوز الاعتداء عليه بأي وجه من الوجوه.
يقول الله سبحانه: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " (1) .
من له هذا الحق:
وهذا الحق ثابت للرجال والنساء، والاحرار والعبيد، فمن حق أي فرد من هؤلاء أن يؤمن أي فرد من الاعداء يطلب الامان، ولا يمنع من هذا الحق أحد من المسلمين إلا الصبيان والمجانين، فإذا أمن صبي أو مجنون أحدا من
__________
(1) سورة التوبة: الاية 6.

(2/694)


الاعداء فإنه لا يصح أمان واحد منهما.
روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، عن علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: " ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم يد على من سواهم ".
وروى البخاري، وأبو داود والترمذي عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها أنها قالت: " قلت يارسول الله.
زعم ابن أم علي.
أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان (ابن هبيرة) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أجرنا (1) من أجرت يا أم هانئ ".
نتيجة الأمان:
ومهما تقرر الامان بالعبارة أو الاشارة، فإنه لا يجوز الاعتداء على المؤمن، لانه بإعطاء الامان له عصم نفسه من أن تزهق ورقبته من أن تسترق.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه بلغه أن بعض المجاهدين قال لمحارب من الفرس: " لا تخف، ثم قتله " فكتب رضي الله عنه إلى قائد الجيش: " إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج.
حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع، يقول له: " لا تخف " فإذا أدركه قتله! وإني والذي نفسي بيده.
لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
وروى البخاري في التاريخ، والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أمن رجلا على دمه فقتله، فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافرا " وروى البخاري ومسلم وأحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة ".
متى يتقرر هذا الحق:
ويتقرر حق الامان بمجرد إعطائه، ويعتبر نافذا من وقت صدوره إلا أنه
__________
(1) أجرنا: أمنا من أمنت.

(2/695)


لا يقر نهائيا إلا بإقرار الحاكم، أو قائد الجيش.
وإذا تقرر الامان، وأقر من الحاكم أو الجيش، صار المؤمن من أهل الذمة، وأصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم.
ولا يجوز إلغاء أمانه إلا إذا ثبت أنه أراد أن يستغل هذا الحق في إيقاع الضرر بالمسلمين، كأن يكون جاسوسا لقومه، وعينا على المسلمين.
عقد الأمان لجهة ما:
" إنما يصح الامان من آحاد المسلمين إذا أمن واحدا أو اثنين فأما عقد الامان لاهل ناحية على العموم فلا يصح إلا من الامام على سبيل الاجتهاد، وتحري المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لاحاد الناس صار ذريعة إلى إبطال الجهاد " (1) الرسول حكمه حكم المؤمن والرسول مثل المؤمن، سواء أكان يحمل الرسائل أو يمشي بين الفريقين المتقاتلين بالصلخ، أو يحاول وقف القتال لفترة يتيسر فيها نقل الجرحى والقتلى.
يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم لرسولي مسيلمة: " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ".
أخرجه أحمد، وأبود داود من حديث نعيم بن مسعود (2) .
وأوفدت قريش أبا رافع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع الايمان في قلبه، فقال: يارسول الله لا أرجع إليهم، وأبقى معكم مسلما.
فقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد فارجع إليهم آمنا، فإن وجدت بعد ذلك في قلبك ما فيه الان، فارجع إلينا ".
أخرجه أحمد، وأبو داود، والنسائي وابن حبان وصححه.
__________
(1) الروضة الندية ص 408.
(2) وكان الرسول قرأ كتاب مسيلمة، وقال لهما: ما تقولان أنتما.
قالا: نقول كما قال: أي أنهما يقولان بنبوته.

(2/696)


وفي كتاب الخراج لابي يوسف والسير الكبير لمحمد: أنه إن اشترط للرسول شروط وجب على المسلمين أن يوفوا بها، ولا يصح لهم أن يغدروا برسل العدو، حتى ولو قتل الكفار رهائن المسلمين عندهم، فلا نقتل رسلهم لقول نبينا: " وفاء بغدر خير من غدر بغدر ".
المستأمن:
تعريفه: المستأمن هو الحربي الذي دخل دار الاسلام بأمان (1) دون نية الاستيطان بها والاقامة فيها بصفة مستمرة، بل يكون قصده إقامة مدة معلومة،
لا تزيد على سنة، فإن تجاوزها، وقصد الاقامة بصفة دائمة، فإنه يتحول إلى ذمي ويكون له حكم الذمي في تبعيته للدولة الاسلامية، ويتبع المستأمن في الامان، ويلحق به زوجته وأبناؤه الذكور القاصرون، والبنات جميعا، والام، والجدات، والخدم، ماداموا عائشين مع الحربي الذي أعطي الامان.
وأصل هذا قول الله سبحانه وتعالى: " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنة " (2) .
حقوقه:
وإذا دخل الحربي دار الاسلام بأمان، كان له حق المحافظة على نفسه وماله وسائر حقوقه ومصالحه، مادام مستمسكا بعقد الامان، ولم ينحرف عنه.
ولا يحل تقييد حريته، ولا القبض عليه مطلقا، سواء قصد به الاسر، أو قصد به الاعتقال، لمجرد أنهم رعايا الاعداء أو لمجرد قيام حالة الحرب بيننا وبينهم.
قال السرخسي: " أموالهم صارت مضمونة بحكم الامان، فلا يمكن أخذها بحكم الاباحة ".
__________
(1) إذا دخل التبليغ رسالة ونحوها أو لسماع كلام الله، فهو آمن دون حاجة إلى عقد، أما إذا دخل للتجارة وأعطي الاذن ممن يملكه فهو مستأمن.
(2) سورة التوبة: الاية 6.

(2/697)


وحتى إذا عاد إلى دار الحرب فإنه يبطل الامان بالنسبة لنفسه، ويبقى بالنسبة لماله.
قال في المغني: " إذا دخل حربي دار الاسلام بأمان، فأودع ماله مسلما أو ذميا، أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا، فإن دخل تاجرا، أو رسولا، أو متنزها، أو لحاجة يقضيها، ثم يعود إلى دار الاسلام، فهو على أمانه في نفسه، وماله، لانه لم يخرج بذلك عن نية الاقامة في دار الاسلام، فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل دار الحرب مستوطنا، بطل الامان في نفسه، وبقي في ماله، لانه بدخوله دار الاسلام بأمان، ثبت الامان لماله، فإذا بطل الامان في نفسه بدخوله دار الحرب، بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه، فيختص البطلان فيه.
الواجب عليه:
وعليه المحافظة على الامن والنظام العام، وعدم الخروج عليهما، بأن يكون عينا، أو جاسوسا، فإن تجسس على المسلمين لحساب الاعداء حل قتله إذ ذاك.
تطبيق حكم الاسلام عليه:
تطبق على المستأمن القوانين الاسلامية بالنسبة للمعاملات المالية، فيعقد عقد البيع وغيره من العقود حسب النظام الاسلامي، ويمنع من التعامل بالربا، لان ذلك محرم في الاسلام.
وأما بالنسبة للعقوبات، فإنه يعاقب بمقتضى الشريعة الاسلامية إذا اعتدى على حق مسلم.
وكذلك إذا كان الاعتداء على ذمي، أو مستأمن مثله لان إنصاف المظلوم من الظالم وإقامة العدل من الواجبات التي لا يحل التساهل فيها.
وإذا كان الاعتداء على حق من حقوق الله مثل اقتراف جريمة الزنا فإنه يعاقب كما يعاقب المسلم، لان هذه جريمة من الجرائم التي تفسد المجتمع الاسلامي (1) .
__________
(1) خالف في ذلك أبو حنيفة فقال: إن العقوبات التي تكون حقا لله أو يكون فيه حق الله غالبا فانه لا يقام فيها الحد على المستأمن، وهذا رأي مرجوح.

(2/698)


مصادرة ماله: ومال المستأمن لا يصادر إلا إذا حارب المسلمين، فأسر واسترق وصار عبدا، فإنه في هذه الحال تزول عنه ملكية ماله، لانه صار غير أهل للملكية. ولا يستحق الورثة، ولو كانوا في دار الاسلام شيئا، لان استحقاقهم يكون بالخلافة عنه، وهي لا تكون إلا بعد موته، وهو لم يمت، وماله في هذه الحال يئول إلى بيت مال المسلمين، على أنه من الغنائم.
وإذا كان له دين على بعض المسلمين أو الذميين، يسقط عن المدين لعدم وجود من يطالب به.
ميراثه: إذا مات المستأمن في دار الاسلام، أو في دار الحرب فإن ملكيته لماله لا تذهب عنه، وتنتقل إلى ورثته عند الجمهور، خلافا للشافعي.
وعلى الدولة الاسلامية أن تنقل ماله إلى ورثته، وترسله إليهم، فإن لم يكن له ورثة، كان ذلك المال فيئا للمسلمين.

العهود والمواثيق:
احترام العهود: ان احترام العهود والمواثيق واجب إسلامي، لما له من أثر طيب، ودور كبير في المحافظة على السلام، وأهمية كبرى في فض المشكلات وحل المنازعات وتسوية العلاقات.
وجاء في كلام العرب: " من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته.
وظهرت عدالته، ووجبت أخوته ".
وهذا حق، فإن حسن معاملة الناس، والوفاء لهم، والصدق معهم دليل كمال المروءة، ومظهر من مظاهر العدالة، وذلك يستوجب الاخوة والصداقة.
والله سبحانه يأمر بالوفاء بجميع العهود والالتزامات، سواء أكانت عهودا مع الله، أم مع الناس، فيقول:

(2/699)


" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ". (1) وأي تقصير في الوفاء بهذا الامر يعتبر إثما كبيرا، يستوجب المقت والغضب: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون - كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون " (2) .
وكل ما يقطعه الانسان على نفسه من عهد، فهو مسئول عنه ومحاسب عليه: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا " (3) .
وحق العهد مقدم على حق الدين:
" والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق " (4) والوفاء جزء من الايمان، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " إن حسن العهد من الايمان " (5) .
وليس للوفاء جزاء إلا الجنة: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون - والذين هم على صلواتهم يحافظون - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ".
(6) ولقد كان الوفاء خلق الانبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام: " واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان
رسولا نبيا " (7) .
وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم المثل الاعلى في هذا الخلق: قال عبد الله بن أبي الحمساء: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ببيع قبل أن
__________
(1) سورة المائدة: الاية 1.
(2) سورة المنافقون: الاية 1.
(3) سورة الاسرار: الاية 34.
(4) سورة الانفال: الاية 72.
(5) قال الحاكم: إنه صحيح، وأقره الذهبي.
(6) سورة المؤمنون: الاية 11.
(7) سورة مريم: الاية 54.

(2/700)


يبعث، وبقيت له بقية (1) فوعدته أن آتيه بها في مكانه، فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال صلى الله عليه وسلم: " يافتى لقد شققت علي، أنا ها هنا منذ ثلاث (2) أنتظرك " وقد عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة اليهود عهدا، أقرهم فيه على دينهم، وأمنهم على أموالهم، بشرط ألا يعينوا عليه المشركين، فنقضوا العهد، ثم اعتذروا، ثم رجعوا فنقضوه مرة أخرى، فأنزل الله عزوجل: " إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون.
الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون " (3) وعاهد ثعلبة ربه على أن يعطي كل ذي حق حقه إذا وسع الله عليه في الرزق، وأغناه من فضله.
فلما بسط الله له من رزقه، وأكثر له من المال والثروة، نقض العهد وبخل على عباد الله، فأنزل الله في حقه: " ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين - فلما آتاهم من فضله بخلوا من وتولوا وهم معرضون - فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون " (4) ولما حضرت الوفاة عبد الله بن عمر، قال: " إنه خطب إلي ابنتي رجل من قريش. وقد كان مني إليه شبه الوعد. فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي ".
وهو يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " (5) .
__________
(1) بقيت له بقية: أي بقية من ثمن البيع.
(2) منذ ثلاث: أي ثلاث ليال. أي انه انتظره هذه المدة وفاء بالوعد.
(3) سورة الانفال: الايتان 55، 56.
(4) سورة التوبة: الايات من 75 - 77.
(5) رواه البخاري.

(2/701)


وفي التشنيع على الناقضين للعهود، يقول الله عزوجل: " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون - ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة - إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون " (1) .
شروط العهود:
ويشترط في العهود التي يجب احترامها والوفاء بها، الشروط الاتية:
1 - ألا تخالف حكما من الاحكام الشرعية المتفق عليها. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله (2) فهو باطل، وإن كان مائة شرط ".
2 - أن تكون عن رضا واختيار، فإن الاكراء يسلب الارادة، ولا احترام لعقد لم تتوفر فيه حريتها.
3 - أن تكون بينة واضحة، لا لبس فيها ولا غموض حتى لا تؤول تأويلا يكون مثارا للاختلاف عند التطبيق.

نقض العهود:
ولا تنقض العهود إلا في إحدي الحالات الاتية:
1 - إذا كانت مؤقتة بوقت، أو محددة بظرف معين، وانتهت مدتها، وانتهى ظرفها.
روى أبو داود والترمذي عن عمر بن عبسة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يجلن عهدا، ولا يشدنه، حتى
__________
(1) سورة النحل: الايتان 92، 93.
(2) كتاب الله: أي حكم الله.

(2/702)


يمضي أمده، أو ينبذ إليهم على سواء.
ويقول القرآن الكريم: " إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين " (1) .
2 - إذا أخل العدو بالعهد: " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين " (2) " وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون.
ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " (3) .
3 - إذا ظهرت بوادر الغدر ودلائل الخيانة.
" وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين " (4) الاعلام بالنقض تحرزا عن الغدر إذا علم الحاكم الخيانة ممن كان بينهم وبين المسلمين عهد فإنه لا تحل محاربتهم إلا بعد إعلامهم بنبذ العهد، وبلوغ خبره إلى القريب والبعيد حتى لا يؤخذوا على غرة.
يقول الله سبحانه في سورة الانفال: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين " (5) .
__________
(1) سورة التوبة: الاية 4.
(2) سورة التوبة: الاية 7.
(3) سورة التوبة: الاية 13، 14.
(4) سورة الانفال: الاية 58.
(5) سورة الانفال: الاية 58.

(2/703)


وقاعدة الاسلام: " وفاء بغدر خير من غدر بغدر ".
قال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: " لو بعث أمير المسلمين إلى ملك الاعداء من يخبره بنبذ العهد عند تحقق سببه، فلا ينبغي للمسلمين أن يغيروا عليهم وعلى أطراف مملكتهم، إلا بعد مضي الوقت الكافي لان يبعث الملك إلى تلك الاطراف خبر النبذ حتى لا نأخذهم على غرة، ومع ذلك إذا علم المسلمون يقينا أن القوم لم يأتهم خبر من قبل ملكهم فالمستحب لهم أن لا يغيروا عليهم حتى يعلموهم بالنبذ، لان هذا شبيه الخديعة..وكما على المسلمين أن يتحرزوا من الخديعة، عليهم أن يتحرزوا من شبه الخديعة ".
وحدث ان أهل قبرص أحدثوا حدثا عظيما في ولاية عبد الملك بن مروان فأراد نبذ عهدهم ونقض صلحهم، فاستشار الفقهاء في عصره، منهم: الليث بن سعد ومالك وأنس، فكتب الليث بن سعد: " إن أهل قبرص لا يزالون متهمين بغش أهل الاسلام ومناصحة أهل الاعداء " الروم " وقد قال الله تعالى: " وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ". وإني أرى أن تنبذ إليهم وإن تنظر هم سنة ".
أما مالك بن أنس فكتب في الفتيا يقول: " إن أمان أهل قبرص وعهدهم كان قديما متظاهرا من الولاة لهم، ولم أجد أحدا من الولاة نقض صحلهم، ولا أخرجهم من ديارهم، وأنا أرى أن لا تعجل بمنابذتهم حتى تتجه الحجة عليهم فإن الله يقول: " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ".
فإن لم يستقيموا بعد ذلك ويدعوا غشهم ورأيت الغدر ثابتا فيهم، أوقعت بهم بعد النبذ والاعذار فرزقت النصر ".

(2/704)


من معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 - ولقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم بني ضمرة من قبائل العرب، وهذا نص ذلك العهد: " هذا كتاب محمد رسول الله لبني ضمرة، بأنهم آمنون على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصر على من رامهم، إلا أن يحاربوا في دين الله، مابل بحر صوفة، وإن النبي " صلى الله عليه وسلم " إذا دعاهم إلى النصرة أجابوه، عليهم بذلك ذمة رسوله، ولهم النصر من برمنهم واتقى ".
2 - كما عاهد اليهود على حسن الجوار أول ما استقر به المقام بالمدينة، وفيما يلي نصها العهد: بسم الله الرحمن الرحيم " هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش، وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم. أنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون (2) بينهم، وهم يفدون عانيهم (3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الحارث (من الخزرج) على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
__________
(1) أمرهم الذي كانوا عليه.
(2) يأخذون ديات القتل ويعطونها. وأصله من العقل وهو ربط إبل الدية لدفعها لاهل القتيل.
(3) عانيهم: أسيرهم.

(2/705)


وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو عمر بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وبنو الاوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. وألا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة (2) ظلم، أو إثما، أو عدوانا، أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد أحدهم. ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافرا على مؤمن.
وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.
وأنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والاسوة (3) غير مظلومين ولا متناصر عليهم.
__________
(1) هو من أثقله الدين والغرم فأزال فرحه.
(2) الدسع: الدفع، والمعنى: طلب دفعا على سبيل الظلم أو ابتغى عطية على سبيل الظلم.
(3) في هذا ما يفيد أن النصر والمساواة لمن تبع اليهود.

(2/706)


وأن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم (1) .
وأن كل غازية غزت معنا يعقب (2) بعضها بعضا.
وأن المؤمنين يبئ (3) بعضهم على بعض.
بمال نال دماءهم في سبيل الله.
وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.
وأنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.
وأنه من اعتبط (4) مؤمنا قتلا عن بيئة فإنه قود به (5) ، إلا أن يرضى ولي المقتول بالعقل، وأن المؤمنين عليه كافة ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الاخر، أن ينصر محدثا أو يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل (6) .
وأنكم مهما اختلفتم فيه من شئ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد.
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين (7) .
وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم، فإنه لا يوتغ (8) إلا نفسه وأهل بيته (9) وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
__________
(1) يؤخذ من هذا أن إعلان الحرب على جماعة مسلمة إعلان لها على الامة الاسلامية كلها.
(2) أي يكون الغزو بينهم نوبا يعقب بعضهم بعضا فيه.
(3) يبئ: من أبأت القاتل بالقتيل إذا قتلته به.
(4) اعتبطه: قتله بلا جناية أو جريرة توجب قتله.
(5) فإن القاتل يقاد به ويقتل.
(6) فيه منع نصرة المجرم.
(7) فيه استقلال كل أمة المسلمين واليهود كما أنها تضمنت مخالفة عسكرية بمقتضاها تتعاون الامتان في كل حرب وعلى كل منهما نفقة جيشها خاصة.
(8) يوتغ: يهلك ويفسد.
(9) في هذا تقرير الحرية الدينية والاقتصادية.

(2/707)


وأن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
وأن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
وأن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
وأن ليهود بني الاوس مثل ما ليهود بني عوف.
وأن ليهود بني ثعلبة مثل ما ليهود بني عوف.
إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
وأن جفنة - بطن من ثعلبة - كأنفسهم.
وأن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف، وأن البر دون الاثم.
وأن موالي ثعلبة كأنفسهم.
وأن بطانة يهود كأنفسهم.
وأنه لا يخرج منهم أحد ألا بإذن محمد.
وأنه لا ينحجز على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته، إلا من ظلم، وأن له على أبر هذا.
وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح، والنصيحة، والبر دون الاثم (1) .
وأنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم (2) .
وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين.
وأن يثرب حرام جوفها لاهل هذه الصحيفة.
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
__________
(1) في هذا إلزام الطرفين التشاور والتناصح قبل دخول الحرب.
(2) لا بد من أن تكون الحرب مشروعة حتى يمكن للمسلمين المشاركة فيها.

(2/708)


وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده،
وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
وأنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها.
__________
(1) في هذا إلزام الطرفين التشاور والتناصح قبل دخول الحرب.
(2) لا بد من أن تكون الحرب مشروعة حتى يمكن للمسلمين المشاركة فيها.

(2/709)


وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
وأنه لا تجار قريش، ولا من نصرها.
وأن بينهم النصر على من دهم يثرب.
وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك، فإنه لهم على المؤمنين، إلا من حارب في الدين.
على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
وأن يهود الاوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لاهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الاثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم وأثم، وأن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله " صلى الله عليه وسلم " (1)
__________
(1) نقلا عن كتاب " الرسالة الخالدة " عن كتاب الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، للدكتور محمد حميد الله الحيدر أبادي، أستاذ الحقوق الدولية بالجامعة العثمانية بحيد أباد \ دكن.

(2/709)


بسم الله الرحمن الرحيم
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا
قرآن كريم

(3/5)


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الاولين والاخرين، سيدنا (محمد) وعلى آله ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:

فهذا هو الجزء الثاني عشر من كتاب (فقه السنة) نقدمه للقراء الكرام، سائلين الله سبحانه أن ينفع به، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم.
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
السيد سابق

(3/7)