فقه
السنة البيع
التبكير في طلب الرزق:
روي الترمذي عن صخر الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك
لامتي في بكورها) (1) .
قال: (وكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا،
وكان إذا بعث تجارة بعث أول النهار، فأثرى وكثر ماله) .
الكسب الحلال:
عن علي، كرم الله وجهه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى
يحب أن يرى عبده.
يعني في طلب الحلال) ، رواه الطبراني والديلمي.
وعن مالك بن أنس، رضي الله عنه، أن رسول الله
__________
(1) البكور: السعي مبكرا أول النهار.
(3/43)
صلى الله عليه وسلم قال: (طلب الحلال واجب
على كل مسلم) .
رواه الطبراني.
قال المنذري: وإسناده حسن إن شاء الله.
وعن رافع بن خديج أنه قيل: يا رسول الله، أي الكسب أطيب؟ (1) قال: (عمل
المرء بيده، وكل بيع مبرور) (2) .
رواه أحمد والبزاز.
ورواه الطبراني عن ابن عمر بسند رواته ثقات.
وجوب العلم بأحكام البيع والشراء:
يجب على كل من تصدى للكسب أن يكون عالما بما يصححه ويفسده لتقع معاملته
صحيحة، وتصرفاته بعيدة عن الفساد.
فقد روي أن عمر، رضي الله عنه، كان يطوف بالسوق ويضرب بعض التجار بالدرة،
ويقول: (لا يبع في سوقنا إلا من يفقه، وإلا أكل الربا، شاء أم أبى) .
وقد أهمل كثير من المسلمين الان تعلم المعاملة وأغفلوا
__________
(1) أي: أحل وأبرك.
(2) ماخلا من الحرام والغش: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة.
وأطيبها ما كان بعمل اليد، وما يكتسب من الغنائم التي تغنم بالجهاد، وقيل:
التجارة.
(3/44)
هذه الناحية وأصبحوا لا يبالون بأكل الحرام
مهما زاد الربح وتضاعف الكسب.
وهذا خطأ كبير يجب أن يسعى في درئه كل من يزاول التجارة، ليتميز له المباح
من المحظور، ويطيب له كسبه ويبعد عن الشبهات بقدر الامكان.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) .
فليتنبه لهذا من يريد أن يأكل حلالا ويكسب طيبا ويفوز بثقة الناس ورضي
الله.
عن النعمان بن بشير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (الحلال بين (1)
والحرام بين (2) وبينهما أمور مشتبهة (3) ، فمن ترك ما يشتبه عليه من الاثم
كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أوشك أن يواقع ما
استبان.
والمعاصي حمى الله. من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه) .
__________
(1) الحلال البين: هو ما طلب الشارع فعله.
(2) الحرام البين: هو ما طلب الشارع تركه طلبا جازما.
(3) الامور المشتبهة: هي ما تعارضت فيها الادلة واختلف فيه العلماء.
(3/45)
رواه البخاري ومسلم.
معنى البيع:
البيع معناه لغة: مطلق المبادلة.
ولفظ البيع والشراء يطلق كل منهما على ما يطلق عليه الاخر، فهما من الالفاظ
المشتركة بين المعاني المتضادة.
ويراد بالبيع شرعا مبادلة مال بمال (1) على سبيل التراضي أو نقل ملك (2)
بعوض (3) على الوجه المأذون (4) فيه.
مشروعيته: البيع مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الامة.
أما الكتاب فيقول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (5) .
وأما السنة: فلقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (أفضل الكسب عمل الرجل
بيده، وكل بيع مبرور) (6)
__________
(1) المال: كل ما يملك وينتفع به، وسمي مالا لميل الطبع إليه.
(2) احتراز عن ما لا يملك.
(3) احتراز عن الهبات وما لا يجوز أن يكون عوضا.
(4) احتراز عن البيوع المنهي عنها.
(5) سورة البقرة آية رقم 275.
(6) البيع المبرور: هو الذي لا غش فيه ولا خيانة.
(3/46)
وقد أجمعت الامة على جواز البيع والتعامل
به من عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى يومنا هذا.
حكمته:
شرع الله البيع توسعة منه على عباده، فإن لكل فرد من أفراد النوع الانساني
ضرورات من الغذاء والكساء
وغيرها مما لا غنى للانسان عنه ما دام حيا، وهو لا يستطيع وحده أو يوفرها
لنفسه لانه مضطر إلى جلبها من غيره.
وليس ثمة طريقة أكمل من المبادلة، فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه
بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه.
أثره:
إذا تم عقد (1) البيع واستوفى أركانه وشروطه ترتب عليه نقل ملكية البائع
للسلعة إلى المشتري، ونقل ملكية المشتري للثمن إلى البائع، وحل لكل منهما
التصرف فيما انتقل ملكه إليه بكل نوع من أنواع التصرف المشروع.
أركانه وينعقد بالايجاب (2) والقبول، ويستثنى من ذلك
__________
(1) العقد معناه: الربط والاتفاق.
(2) البيع وغيره من المعاملات بين العباد أمور مبنية على الرضى النفسي:
وهذا لا يعلم لخفائه فأقام الشارع القول المعبر عما في النفس من رضى مقامه،
وناط به الاحكام. والايجاب ما صدر أولا من أحد الطرفين. والقبول ما صدر
ثانيا. ولا فرق بين أن يكون الموجب هو البائع والقابل هو المشتري أو يكون
الامر بالعكس. فيكون الموجب هو المشتري والقابل هو البائع.
(3/47)
الشئ الحقير، فلا يلزم فيه إيجاب وقبول،
وإنما يكتفى فيه بالمعاطاة، ويرجع في ذلك إلى العرف وما جرت به عادات الناس
غالبا.
ولا يلزم في الايجاب والقبول ألفاظ معينة، لان العبرة في العقود بالمقاصد
والمعاني لا بالالفاظ والمباني.
والعبرة في ذلك بالرضى (1) بالمبادلة، والدلالة على الاخذ والاعطاء، أو أي
قرينة دالة على الرضى ومنبئة عن معنى التملك والتمليك، كقول البائع: بعت أو
أعطيت أو ملكت، أو هو لك، أو هات الثمن.
وكقول المشتري: اشتريت أو أخذت أو قبلت أو رضيت أو، خذ الثمن.
شروط الصيغة:
ويشترط في الايجاب والقبول، وهما صيغة العقد: أولا: أن يتصل كل منهما
بالاخر في المجلس دون أن يحدث بينهما مضر.
__________
(1) سيأتي حكم لبيع المكره.
(3/48)
ثانيا: وأن يتوافق الايجاب والقبول فيما
يجب التراضي عليه من مبيع وثمن، فلو اختلفا لم ينعقد البيع.
فلو قال البائع: بعتك هذا الثوب بخمسة جنيهات، فقال المشتري: قبلته بأربعة،
فإن البيع لا ينعقد بينهما لاختلاف الايجاب عن القبول.
ثالثا: وأن يكون بلفظ الماضي مثل أن يقول البائع: بعت، ويقول المشتري:
قبلت.
أو بلفظ المضارع إن أريد به الحال، مثل: أبيع وأشتري، مع إرادة الحال.
فإذا أراد به المستقبل أو دخل عليه ما يمحضه للمستقبل
كالسين وسوف ونحوهما كان ذلك وعدا بالعقد.
والوعد بالعقد لا يعتبر عقدا شرعيا.
ولهذا لا يصح العقد.
العقد بالكتابة:
وكما ينعقد البيع بالايجاب والقبول ينعقد بالكتابة بشرط أن يكون كل من
المتعاقدين بعيدا عن الاخر، أو يكون العاقد بالكتابة أخرس لا يستطيع
الكلام، فإن كانا في مجلس واحد، وليس هناك عذر يمنع من الكلام فلا ينعقد
بالكتابة، لانه لا يعدل عنا لكلام، وهو أظهر أنواع الدلالات، إلى غيره إلا
حينما يوجد سبب حقيقي
(3/49)
يقتضي العدول عن الالفاظ إلى غيرها.
ويشترط لتمام العقد أن يقبل من كتب إليه في مجلس قراءة الخطاب.
عقد بواسطة رسول:
وكما ينعقد العقد بالالفاظ والكتابة ينعقد بواسطة رسول من أحد المتعاقدين
إلى الاخر بشرط أن يقبل المرسل إليه عقب الاخبار.
ومتى حصل القبول في هاتين الصورتين تم العقد، ولا يتوقف على علم الموجب
بالقبول.
عقد الاخرس:
وكذلك ينعقد بالاشارة المعروفة من الاخرس، لان إشارته المعبرة عما في نفسه
كالنطق باللسان سواء بسواء.
ويجوز للاخرس أن يعقد بالكتابة بدلا عن الاشارة إذا كان يعرف الكتابة.
وما اشترطه بعض الفقهاء من التزام ألفاظ معينة لم يجئ بما قالوا فيه كتاب
ولا سنة.
شروط البيع:
لابد من أن يتوافر في البيع شروط حتى يقع صحيحا، وهذه الشروط: منها ما يتصل
بالعاقد، ومنها ما يتصل بالمعقود عليه،
(3/50)
أو محل التعاقد، أي المال المقصود نقله من
أحد العاقدين إلى الاخر، ثمنا أو مثمنا، أي مبيعا (1) .
شروط العاقد:
أما العاقد فيشترط فيه العقل والتمييز فلا يصح عقد المجنون ولا السكران ولا
الصبي غير المميز.
فإذا كان المجنون يفيق أحيانا ويجن أحيانا كان ما عقده عند الافاقة صحيحا
وما عقده حال الجنون غير صحيح.
والصبي المميز عقده صحيح، ويتوقف على إذن الولي، فإن أجازه كان معتدا به
شرعا.
شروط المعقود عليه: وأما المعقود عليه فيشترط في ستة شروط:
1 - طهارة العين.
2 - الانتفاع به.
3 - ملكية العاقد له.
4 - القدرة على تسليمه.
5 - العلم به.
6 - كون المبيع مقبوضا.
__________
(1) الثمن: ما لا يبطل العقد بتلفه ويصح إبداله والتصرف فيه قبل القبض وهو
المتصل بالباء في الغالب.
المبيع: هو ما لا يبطل العقد بتلفه واستحقاقه ويفسخ معيبه ولا يبدل إذ يصير
بيع ما ليس عنده.
(3/51)
وتفصيل ذلك فيما يأتي:
1 - الاول: أن يكون طاهر العين، لحديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: (إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام.
فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها
الجلود، ويتصبح بها الناس.
فقال: لا، هو حرام. والضمير يعود إلى البيع، بدليل أن البيع هو الذي نعاه
الرسول على اليهودي في الحديث نفسه.
وعلى هذا يجوز الانتفاع بشحم الميتة بغير البيع فيدهن بها الجلود ويستضاء
بها وغير ذلك مما لا يكون أكلا أو يدخل في بدن الادمي.
قال ابن القيم في أعلام الموقعين: (في قوله صلى الله عليه وسلم (حرام)
قولان:
أحدهما: أن هذه الافعال حرام.
والثاني: أن البيع حرام.
وإن كان المشتري يشتريه لذلك.
(3/52)
والقولان مبنيان على أن السؤال: هل وقع عن
البيع لهذا الانتفاع المذكور، أو عن الانتفاع المذكور؟ والاول اختاره
شيخنا.
وهو الاظهر.
لانه لم يخبرهم أولا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه،
وإنما أخبرهم عن تحريم البيع فأخبروه أنهم يبيعونه لهذا الانتفاع فلم يرخص
لهم في البيع ولم ينههم عن الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين عدم جواز البيع
وحل المنفعة) اه.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (قاتل الله اليهود، إن الله
لما حرم شحومها جملوه (1) ثم باعوه وأكلوا ثمنه) .
والعلة في تحريم بيع الثلاثة الاولى، هي النجاسة عند جمهور العلماء، (2)
فيتعدى ذلك إلى كل نجس.
والظاهر أن تحريم بيعها لانها تسلب الانسان أعظم مواهب الله له وهو العقل
فضلا عن أضرارها الاخرى التي أشرنا إليها في الجزء التاسع.
وأما الخنزير فمع كونه نجسا إلا أن به ميكروبات ضارة لا تموت بالغلي وهو
يحمل الدودة الشريطية
التي تمتص الغذاء النافع من جسم الانسان.
وأما تحريم بيع الميتة فلانها غالبا ما يكون موتها نتيجة أمراض فيكون
تعاطيها مضرا بالصحة، فضلا عن كونها مما تعافه النفوس.
وما يموت فجأة من الحيوانات فإن الفساد يتسارع إليه لاحتباس الدم فيه.
والدم أصلح بيئة لنمو الميكروبات التي قد لا تموت بالغلي.
ولذلك حرم الدم المسفوح أكله وبيعه لنفس الاسباب.
__________
(1) جملوه، أي: أذابوه.
(2) يراجع التحقيق في نجاسة الخمر في الجزء الاول من فقه السنة.
(3/53)
واستثنى الاحناف والظاهرية كل ما فيه منفعة
تحل شرعا فجوزوا بيعه، فقالوا: يجوز بيع الارواث والازبال النجسة التي تدعو
الضرورة إلى استعمالها في البساتين، وينتفع بها وقودا وسمادا.
وكذلك يجوز بيع كل نجس ينتفع به في غير الاكل والشرب كالزيت النجس يستصبح
به ويطلى به.
والصبغ يتنجس فيباع ليصبغ به ونحو ذلك، مادام الانتفاع به في غير الاكل.
روى البيهقي بسند صحيح أن ابن عمر سئل عن زيت وقعت فيه فأرة فقال:
(استصبحوا به وادهنوا به وأدمكم) .
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على شاة ليمونهة فوجدها ميتة ملقاة فقال:
هلا أخذتم إهابها فدبغتموه وانتفعتم به.
فقالوا: يا رسول الله إنها ميتة.
فقال: إنما حرم أكلها.
ومعنى هذا أنه يجوز الانتفاع في غير الاكل.
وما دام الانتفاع بها جائزا فإنه يجوز بيعها مادام القصد بالبيع المنفعة
المباحة (1) .
(3/54)
2 - الثاني: أن يكون منتفعا به، فلا يجوز
بيع الحشرات ولا الحية والفأرة إلا إذا كان ينتفع بها.
ويجوز بيع الهرة والنحل وبيع الفهد والاسد وما يصلح للصيد أو ينتفع بجلده،
ويجوز بيع الفيل للحمل ويجوز بيع الببغاء والطاووس والطيور المليحة الصورة،
وإن كانت لا تؤكل، فإن التفرج بأصواتها والنظر إليها غرض مقصود مباح، وإنما
لا يجوز بيع الكلب لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهذا في غير
الكلب المعلم وما يجوز اقتناؤه ككلب الحراسة وككلب الزرع، فقد قال أبو
حنيفة بجواز بيعه، وقال عطاء والنخعي: يجوز بيع كلب الصيد دون غيره لنهي
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد. رواه النسائي عن
جابر.
قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات.
وهل تجب القيمة على متلفه؟ قال الشوكاني: فمن قال بتحريم بيعه قال بعدم
الوجوب. ومن قال بجوازه قال بالوجوب. ومن فصل في البيع فصل في لزوم القيمة.
(3/55)
وروي عن مالك أنه لا يجوز بيعه وتجب
القيمة.
وروي عنه أن بيعه مكروه فقط.
وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويضمن متلفه.
بيع آلات الغناء: ويدخل في هذا الباب بيع آلات الغناء.
فإن الغناء في مواضعه جائز والذي يقصد به فائذة مباحة حلال، وسماعه مباح،
وبهذا يكون منفعة شرعية يجوز بيع آلته وشراؤها لانها متقومه.
ومثال الغناء الحلال:
1 - تغني النساء لاطفالهن وتسليتهن.
2 - تغني أصحاب الاعمال وأرباب المهن أثناء العمل للتخفيف عن متاعبهم
والتعاون بينهم.
3 - والتغني في الفرح إشهارا له.
4 - والتغني في الاعياد إظهارا للسرور.
5 - والتغني للتنشيط للجهاد.
وهكذا في كل عمل طاعة حتى تنشط النفس وتنهض بحملها.
والغناء ما هو إلا كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، فإذا عرض له ما يخرجه عن
دائرة الحلال كأن يهيج
(3/56)
الشهوة أو يدعو إلى فسق أو ينبه إلى الشر
أو اتخذ ملهاة عن الطاعات، كان غير حلال.
فهو حلال في ذاته وإنما عرض ما يخرجه عن دائرة الحلال.
وعلى هذا تحمل أحاديث النهي عنه.
والدليل على حله:
1 - ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة، رضي الله عنها، أن أبا بكر
دخل عليها وعندها جاريتان تغنيان وتضربان بالدف، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم مسجى بثوبه فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وجهه وقال: (دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد) .
2 - ما رواه الامام أحمد والترمذي بإسناد صحيح أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج في بعض مغازيه فلما انصرف جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله
إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى.
قال: (إن كنت نذرت فاضربي) .فجعلت تضرب.
3 - ما صح عن جماعة كثيرين من الصحابة والتابعين أنهم كانوا يسمعون الغناء
والضرب على المعازف.
(3/57)
فمن الصحابة: عبد الله بن الزبير، وعبد
الله بن جعفر وغيرهما.
ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز، وشريح القاضي، وعبد العزيز بن مسلمة،
مفتي المدينة وغيرهم.
3 - الثالث: أن يكون المتصرف فيه مملوكا للتعاقد، أو مأذونا فيه من جهة
المالك، فإن وقع البيع أو الشراء قبل إذنه فإن هذا
يعتبر من تصرفات الفضولي.
بيع الفضولي:
والفضولي هو الذي يعقد لغيره دون إذنه، كأن يبيع الزوج ما تملكه الزوجة دون
إذنها، أو يشتري لها ملكا دون إذنها له بالشراء.
ومثل أن يبيع إنسان ملكا لغيره وهو غائب، أو يشتري - دون إذن منه - كما
يحدث عادة.
وعقد الفضولي يعتبر عقدا صحيحا، إلا أن لزومه يتوقف على إجازة المالك أو
وليه (1) ، فإن أجازه نفذ وإن لم يجزه بطل.
__________
(1) هذا مذهب المالكية وإسحاق بن راهويه وإحدى الروايتين عند الشافعية
والحنابلة.
(3/58)
ودليل ذلك ما رواه البخاري عن عروة البازقي
أنه قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار لاشتري له به شاة،
فاشتريت له به شاتين.
بعت إحداهما بدينار وجئته بدينار وشاة، فقال لي: (بارك الله في صفقة يمينك)
.
وروى أبو داود والترمذي، عن حكيم بن حزام، أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشتري أضحية فأربح فيها دينارا فباعها
بدينارين، ثم اشترى شاة أخرى مكانها بدينار، وجاء بها وبالدينار إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (بارك الله لك في صفقتك) .
ففي الحديث الاول أن عروة اشترى الشاة الثانية وباعها دون إذن مالكها، وهو
النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع إليه وأخبره أقره ودعا له، فدل ذلك على
صحة شراء الشاة الثانية وبيعه إياها.
وهذا دليل على صحة بيع الانسان ملك غيره وشرائه له دون إذن.
وإنما يتوقف على الاذن مخافة أن يلحقه من هذا
(3/59)
التصرف ضرر.
وفي الحديث الثاني أن حكيما باع الشاة بعدما اشتراها وأصبحت مملوكة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم.
ثم اشترى له الشاة الثانية ولم يستأذنه، وقد أقره الرسول صلى الله عليه
وسلم على تصرفه وأمره أن يضحي بالشاة التي أتاه بها ودعا له، فدل ذلك على
أن بيعة الشاة الاولى وشراءه الثانية صحيح.
ولو لم يكن صحيحا لا نكره عليه وأمره برد صفقته.
4 - الرابع: أن يكون المعقود عليه مقدورا على تسليمه شرعا وحسا، فما لا
يقدر على تسليمه حسا لا يصح بيعه كالسمك في الماء.
وقد روى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لا تشتروا السمك في الماء
فإنه غرر) .
وقد روي عن عمران بن الحصين مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روي النهي عن ضربة الغائض.
والمراد به أن يقول من يعتاد الغوص في البحر لغيره: ما أخرجته في هذه
الغوصة فهو لك بكذا من الثمن.
ومثله الجنين في بطن أمه.
ويدخل في هذا بيع الطير المنفلت الذي لا يعتاد رجوعه
(3/60)
إلى محله، فإن اعتاد الطائر رجوعه إلى
محله، ولو كيلا، لم يصح أيضا عند أكثر العلماء إلا النحل (1) ، لان الرسول
صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع الانسان ما ليس عنده.
ويصح عند الاحناف لانه مقدور على تسليمه إلا النحل.
ويدخل في هذا الباب عسب الفحل، وهو ماؤه، والفحل الذكر من كل حيوان: فرسا،
أو جملا أو ت يسا، وقد نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
كما رواه البخاري وغيره، لانه غير متقوم ولا معلوم ولا مقدور على تسليمه.
وقد ذهب الجمهور إلى تحريمه بيعا وإجازة، ولا بأس بالكرامة، وهي ما يعطى
على عسب الفحل من غير اشتراط شئ عليه.
وقيل: يجوز إجارة الفحل للضراب مدة معلومة وبه قال: الحسن وابن سيرين، وهو
مروي عن مالك، ووجه للشافعية والحنابلة.
__________
(1) يرى الائمة الثلاثة جواز بيع دود القز والنحل منفردة عن الخلية إذا
كانت محبوسة في بيوتها ورآها المتبايعان، خلافا لابي حنيفة.
(3/61)
وكذلك بيع اللبن في الضرع - أي قبل انفصاله
- لما فيه من الغرر والجهالة.
قال الشوكاني: إلا أن يبيع منه كيلا، نحو أن يقول: بعت منك صاعا من حليب
بقرتي.
فإن الحديث يدل على جوازه لارتفاع الغرر والجهالة.
ويستثنى أيضا لبن الظئر فيجوز بيعه لموضع الحاجة.
وكذا لا يجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان، فإنه يتعذر تسليمه لاختلاط غير
المبيع بالمبيع.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يباع تمر حتى يطعم، أو صوف على ظهر (1) أو لبن في ضرع، أو سمن في اللبن.
رواه الدارقطني: والمعجوز عن تسليمه شرعا كالمرهون والموقوف، فلا ينعقد
بيعهما.
ويلحق بهذا التفريق بالبيع بين البهيمة وولدها لنهي الرسول صلى الله عليه
وسلم عن تعذيب الحيوان.
ويرى بعض العلماء جواز ذلك قياسا على الذبح
__________
(1) أما بيع الصوف على الظهر بشرط الجز، فقد أجازه الحنابلة في رواية عندهم
لانه معلوم ويمكن تسليمه.
(3/62)
وهو الاولى.
وأما بيع الدين: فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز بيع الدين ممن عليه الدين
- أي المدين.
وأما بيعه إلى غير المدين، فقد ذهب الاحناف والحنابلة والظاهرية إلى عدم
صحته لان البائع لا يقدر على التسليم.
ولو شرط التسليم على المدين فإنه لا يصح أيضا لانه شرط التسليم على غير
البائع، فيكون شرطا فاسدا يفسد به البيع.
5 - الخامس: أن يكون كل من المبيع والثمن معلوما.
فإذا كانا مجهولين أو كان أحدهما مجهولا فإن البيع لا يصح لما فيه من غرر،
والعلم بالمبيع يكتفى فيه بالمشاهدة في المعين ولو لم يعلم قدره كما في بيع
الجزاف.
أما ما كان في الذمة فلا بد من معرفة قدره وصفته بالنسبة للمتعاقدين.
والثمن يجب أن يكون معلوم الصفة والقدر والاجل.
أما بيع ما غاب عن مجلس العقد، وبيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر، وبيع الجزاف،
فلكل واحد من هذه
(3/63)
|