فقه
السنة البيوع:
أحكام نذكرها فيما يلي:
بيع ما غاب عن مجلس العقد بشرط أن يوصف وصفا يؤدي إلى العلم به، ثم إن ظهر
موافقا للوصف لزم البيع وإن ظهر مخالفا ثبت لمن لم يره من المتعاقدين
الخيار في إمضاء العقد أو رده، يستوي في ذلك البائع والمشتري.
روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: بعت من أمير
المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال له بخيبر.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من اشترى شيئا لم يره
فله الخيار إذا رآه) .
أخرجه الدارقطني والبيهقي (1)
بيع ما في رؤيته مشقة أو ضرر:
وكذا يجوز بيع المغيبات إذا وصفت أو علمت أوصافها بالعادة والعرف.
وذلك كالاطعمة المحفوظة والادوية المعبأة في القوارير وأنابيب الاكسوجين
وصفائح البنزين والغاز ونحو ذلك مما لا يفتتح إلا عند الاستعمال لما يترتب
على فتحه من
__________
(1) وفي إسناده عمر بن إبراهيم الكروي وهو ضعيف.
(3/64)
ضرر أو مشقة.
ويدخل في هذا الباب ما غيبت ثمارة في باطن الارض مثل الجزر واللفت والبطاطس
والقلقاس والبصل، وما كان من هذا القبيل.
فإن هذه لا يمكن بيعها بإخراج المبيع دفعة واحدة لما في ذلك من المشقة على
أربابها، ولا يمكن بيعها شيئا فشيئا لما في ذلك من الحرج والعسر، وربما أدى
ذلك إلى فساد الاموال أو تعطيها.
وإنما تباع عادة بواسطة التعاقد على الحقول الواسعة التي لا يمكن بيع ما
فيها من الزروع المغيبة إلا على حالها.
وإذا ظهر أن المبيع يختلف عن أمثاله اختلافا فاحشا يوقع الضرر بأحد
المتعاقدين ثبت الخيار، فإن شاء أمضاه وإن شاء فسخه، كما في صورة ما إذا
اشترى بيضا فوجده فاسدا فله الخيار في إمساكه أو رده دفعا للضرر عنه (1) .
بيع الجزاف:
الجزاف: هو الذي لا يعلم قدره على التفصيل.
وهذا النوع من البيع كان متعارفا عليه بين الصحابة
__________
(1) مذهب الجمهور بطلان البيع في هذه الصورة لما فيها من الغرر والجهالة
المنهي عنها والاحناف جوزوا البيع وأثبتوا الخيار عند الرؤية.
(3/65)
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد
كان المتبايعان يعقدان العقد على سلعة مشاهدة لا يعلم مقدارها إلا بالحرز
والتخمين من الخبراء وأهل المعرفة الذين يعهد فيهم صحة التقدير، فقلما
يخطئون فيه، ولو قدر أن ثمة غررا
فإنه يكون يسيرا يتسامح فيه عادة لقلته.
قال ابن عمر رضي الله عنه: كانوا يتبايعون الطعام جزافا بأعلى السوق،
فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه.
فالرسول أقرهم على بيع الجزاف، ونهى عن البيع قبل النقل فقط.
قال ابن قدامة: يجوز بيع الصيرة جزافا، لا نعلم فيه خلافا، إذا جهل البائع
والمشتري قدرها.
6 - السادس: أن يكون المبيع مقبوضا إن كان قد استفاده بمعاوضة وفي هذا
تفصيل نذكره فيما يلي: يجوز بيع الميراث والوصية والوديعة وما لم يكن الملك
حاصلا فيه بمعاوضة قبل القبض وبعده. وكذلك يجوز لمن اشترى شيئا أن يبيعه أو
يهبه أو يتصرف فيه التصرفات المشروعة بعد قبضه.
أما إذا لم يكن
(3/66)
قبضه فإنه يصح له التصرف فيه بكل نوع من
أنواع التصرفات المشروعة، ما عدا التصرف بالبيع.
أما صحة التصرف فيما عدا البيع فلان المشتري ملك المبيع بمجرد العقد، ومن
حقه أن يتصرف في ملكه كما يشاء.
قال ابن عمر: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حبا مجموعا فهو من مال
المشتري. رواه البخاري.
أما التصرف بالبيع قبل القبض فإنه لا يجوز، إذ يحتمل أن يكون هلك عند
البائع الاول فيكون بيع غرر، وبيع الغرر غير صحيح سواء أكان عقارا (1) أم
منقولا وسواء أكان مقدرا أم جزافا.
لما رواه أحمد والبيهقي وابن حبان بإسناد حسن أن حكيم بن حزام قال: يا رسول
الله إني أشتري بيوعا فما يحل لي منها وما يحرم؟ قال: (إذا اشتريت شيئا فلا
تبعه حتى تقبضه) .
وروى البخاري ومسلم: أن الناس كانوا يضربون على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يؤدوه إلى
رحالهم.
__________
(1) مثل الارض والمنازل والحدائق والشجر.
(3/67)
ويستثنى من هذه القاعدة جواز بيع أحد
النقدين بالاخر قبل القبض.
فقد سأل ابن عمر الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الابل بالدنانير وأخذ
الدراهم بدلا منها فأذن له.
معنى القبض:
والقبض في العقار يكون بالتخلية بينه وبين من انتقل ملكه إليه على وجه
يتمكن معه من الانتفاع به فيما يقصد منه، كزرع الارض وسكنى المنزل
والاستظلال بالشجر أو جني ثماره ونحو ذلك.
والقبض فيما يمكن نقله كالطعام والثياب والحيوان ونحو ذلك يكون على النحو
الاتي: أولا: باستيفاء القدر كيلا أو وزنا إن كان مقدرا.
ثانيا: بنقله من مكانه إلى كان جزافا.
ثالثا: يرجع إلى العرف فيما عدا ذلك.
والدليل على أن القبض في المنقول يكون باستيفاء القدر ما رواه البخاري أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (إذا سميت
الكيل فكل) .
فهذا دليل على وجوب الاكتيال عند اشتراط التقدير بالكيل.
ومثله الوزن لاشتراكهما في أن كلا منهما معيار
(3/68)
لتقدير الاشياء، فوجب أن يكون كل شئ يملك
مقدرا يجري القبض فيه باستيفاء قدره سواء أكان طعاما أم كان غير طعام.
ودليل وجوب النقل من مكانه من رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله
عنهما أنه قال: (كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه) .
وليس هذا خاصا بالطعام بل يشمل الطعام وغيره كالقطن والكتان وأمثالهما إذا
بيعت جزافا، لانه لا فرق بينهما.
أما ما عدا هذا مما لم يرد فيه نص فيرجع فيه إلى عرف الناس وما جرى عليه
التعامل بينهم، وبهذا نكون
قد أخذنا بالنص ورجعنا إلى العرف فيما لا نص فيه.
حكمته: وحكمة النهي عن بيع السلع قبل قبضها زيادة على ما تقدم: أن البائع
إذا باعها ولم يقبضها المشتري فإنها تبقى في ضمانه، فإذا هلكت كانت خسارتها
عليه دون المشتري.
فإذا باعها المشتري في هذه الحال وربح فيها كان رابحا لشئ لم يتحمل فيه
تبعة الخسارة، وفي هذا يروي أصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن
(3/69)
بيع ربح ما لم يضمن.
وأن المشتري الذي باع ما اشتراه قبل قبضه يماثل من دفع مبلغا من المال إلى
آخر ليأخذ في نظيره مبلغا أكثر منه، إلا أن هذا أراد أن يحتال على تحقيق
قصده بإدخال السلعة بين العقدين، فيكون ذلك أشبه بالربا.
وقد فطن إلى هذا ابن عباس، رضي الله عنهما، وقد سئل عن سبب النهي عن بيع ما
لم يقبض، فقال: (ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ) .
الإشهاد على عقد البيع:
أمر الله بالاشهاد على عقد البيع فقال: (وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب
ولا شهيد) (1) .
والامر بالاشهاد للندب والارشاد إلى ما فيه المصلحة والخير.
وليس للوجوب كما ذهب إليه البعض (2) .
قال الجصاص في كتاب أحكام القرآن: (ولا خلاف بين فقهاء الامصار أن الامر
بالكتابة
__________
(1) سورة البقرة آية رقم 282.
(2) ممن ذهب إلى أن الاشهاد واجب في كل شئ ولو كان شيئا تافها: عطاء،
والنخعي، ورجحه أبو جعفر الطبري.
(3/70)
والاشهاد والرهن المذكور جميعه في هذه
الاية، ندب وإرشاد إلى ما لنا فيه الحظ والصلاح والاحتياط للدين والدنيا،
وأن شيئا منه غير واجب) .
وقد نقلت الامة خلفا عن سلف عقود المداينات والاشرية والبياعات في أمصارهم
من غير إشهاد، مع علم فقهائهم بذلك من غير نكير منهم عليهم، ولو كان
الاشهاد واجبا لما تركوا النكير على تاركه مع علمهم به.
وف ذلك دليل على أنهم رأوه ندبا، وذلك منقول من عصر النبي صلى الله عليه
وسلم إلى يومنا هذا.
ولو كانت الصحابة والتابعون تشهد على بياعاتها وأشريتها لورد النقل به
متواتر مستفيضا، ولانكرت على فاعله ترك الاشهاد.
فلما لم ينقل عنهم الاشهاد بالنقل المستفيض ولا إظهار النكير على تاركه من
العامة، ثبت بذلك أن الكتاب والاشهاد في الديوان والبياعات غير واجبين. اه.
البيع على البيع:
يحرم البيع على البيع لما رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا
بيع أحدكم على بيع أخيه) .
رواه أحمد والنسائي.
(3/71)
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: (لا يبيع الرجل على بيع أخيه) .
وعند أحمد والنسائي وأبي داود والترمذي وحسنه: أن من باع من رجلين فهو
للاول منهما) .
وصورته كما قال النووي: - أن يبيع أحد الناس سلعة من السلع بشرط الخيار
للمشتري، فيجئ آخر يعرض على هذا أن يفسخ العقد ليبيعه مثل ما اشتراه بثمن
أقل.
وصورة الشراء على شراء الاخر أن يكون الخيار للبائع، فيعرض عليه بعض الناس
فسخ العقد على أن يشتري منه ما باعه بثمن أعلى.
وهذا الصنيع في حالة البيع أو الشراء، صنيع آثم، منهي عنه.
ولكن لو أقدم عليه بعض الناس وباع أو اشترى ينعقد البيع والشراء عند
الشافعية وأبي حنيفة وآخرين من الفقهاء.
ولا ينعقد عند داود بن علي، شيخ أهل الظاهر، وروي عن مالك في ذلك روايتان)
اه.
وهذا بخلاف المزايدة في البيع فإنها جائزة، لان
العقد لم يستقر بعد، وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرض بعض السلع،
وكان يقول: من يزيد.
(3/72)
من باع من رجلين فهو للاول منهما من باع
شيئا من رجل ثم باعه من آخر لم يكن للبيع الاخر حكم بل هو باطل لانه باع
غير ما يملك إذ قد صار في ملك المشتري الاول، ولا فرق بين أن يكون البيع
الثاني وقع في مدة الخيار أو بعد انقضائها لان المبيع قد خرج من ملكه بمجرد
البيع.
فعن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة زوجها وليان فهي
للاول منهما.
وأيما رجل باع بيعا من رجلين فهو للاول منهما.
زيادة الثمن نظير زيادة الأجل:
يجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون بعضه معجلا
وبعضه مؤخرا، متى كان ثمة تراض بين المتبايعين.
وإذا كان الثمن مؤجلا وزاد البائع فيه من أجل التأجيل جاز، لان للاجل حصة
من الثمن.
وإلى هذا ذهب الاحناف والشافعية وزيد بن علي والمؤيد بالله وجمهور الفقهاء،
لعموم الادلة القاضية بجوازه.
ورجحه الشوكاني.
(3/73)
جواز السمسرة:
قال الامام البخاري: لم ير ابن سيرين وعطاء وإبراهيم والحسن بأجر السمسار
بأسا (1) .
وقال ابن عباس: لا بأس بأن يقول: بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو
لك.
وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا فما كان من ربح فهو لك أو بيني وبينك فلا
بأس به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) .
رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة.
وذكره البخاري تعليقا.
بيع المكره:
اشترط جمهور الفقهاء أن يكون العاقد مختارا في بيع متاعه، فإذا أكره على
بيع ماله بغير حق فإن البيع لا ينعقد لقول الله سبحانه: (إلا أن تكون تجارة
(2) عن تراض منكم) .
والتجارة كل عقد يقصد به الربح مثل عقد البيع وعقد الاجارة وعقد الهبة بشرط
العوض، لان المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الاعواض لا غير، وعلى
هذا فالتجارة أعم من البيع.
__________
(1) السمسار: هو الذي يتوسط بين البائع والمشتري لتسهيل عملية البيع.
(2) سورة النساء آية رقم 29.
(3/74)
ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما
البيع عن تراض) .
وقوله: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه.
رواه ابن ماجه ابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم.
وقد اختلف في حسنه وضعفه.
أما إذا أكره على بيع ماله بحق فإن البيع يقع صحيحا.
كما إذا أجبر على بيع الدار لتوسعة الطريق أو المسجد أو المقبرة.
أو أجبر على بيع سلعة ليفي ما عليه من دين (1) أو لنفقة الزوجة أو الابوين.
ففي هذه الحالات وأمثالها يصح البيع إقامة لرضا الشرع مقام رضاه.
قال عبد الرحمن بن كعب: كان معاذ بن جبل شابا سخيا.
وكان لا يمسك شيئا، فلم يزل يدان حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم فكلمه ليكلم غرماءه، فلو تركوا لاحد لتركوا لمعاذ لاجل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله،
حتى قام معاذ بغير شئ.
__________
(1) من غير تفرقة بين دين ودين ولا بين مال ومال.
(3/75)
بيع المضطر:
قد يضطر الانسان لبيع ما في يده لدين عليه، أو لضرورة من الضرورات
المعاشية، فيبيع ما يملكه بأقل
من قيمته من أجل الضرورة، فيكون البيع على هذا النحو جائزا مع الكراهة ولا
يفسخ.
والذي يشرع في مثل هذه الحال أن يعان المضطر ويقرض حتى يتحرر من الضيق الذي
ألم به.
وقد روي في ذلك حديث رجل مجهول.
فعند أبي داود عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: (سيأتي
على الناس زمان عضوض، يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك.
قال الله تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) (1) ، ويبايع المضطرون، وقد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر،
وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك)
بيع التلجئة:
إذا خاف إنسان اعتداء ظالم على ماله فتظاهر ببيعه
__________
(1) سورة البقرة آية رقم 237.
(3/76)
فرارا من هذا الظالم وعقد عقد البيع
مستوفيا شروطه وأركانه فإن هذا العقد لا يصح، لان العاقدين لم يقصدوا البيع
فهما كالهازلين.
وقيل: هو عقد صحيح، لانه استوفى أركانه وشروطه.
قال ابن قدامة: بيع التلجئة باطل.
وقال أبو حنيفة والشافعي: هو صحيح لان البيع تم بأركانه وشروطه خاليا من
مفسد فصح به، كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقد البيع بلا شرط، ولنا أنهما
ما قصدا البيع فلم يصح كالهازلين) اه.
البيع مع استثناء شئ معلوم:
يجوز أن يبيع المرء سلعة ويستثني منها شيئا معلوما، كأن يبيع الشجر ويستثني
منها واحدة، أو يبيع أكثر من منزل ويستثني منزلا، أؤ قطعة من الارض ويستثني
منها جزءا معلوما.
فعن جابر، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والثنيا
(1) إلا أن تعلم.
__________
(1) الثنيا: الاستثناء في البيع.
(3/77)
فإن استثنى شيئا مجهولا غير معلوم لم يصح
البيع، لما يتضمنه من الجهالة والغرر.
ايفاء الكيل والميزان يأمر الله، سبحانه، بإيفاء الكيل والميزان فيقول:
(وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) (1) .
ويقول: (وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم، ذلك خير وأحسن
تأويلا) (2) .
وينهى عن التلاعب بالكيل والوزن وتطفيفهما فيقول:
(ويل للمطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو
وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب
العالمين) (3) .
ويندب ترجيح الميزان:
عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرفة العبدي بزا من هجر فأتينا به مكة،
فجاءنا رسول الله صلى الله
__________
(1) سورة الانعام آية رقم 152.
(2) سورة الاسراء آية رقم 35.
(3) سورة المطففين آيات رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6.
(3/78)
عليه وسلم يمشي فساومنا سراويل فبعناه، وثم
رجل يزن بالاجر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (زن وأرجح) .
أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وقال الترمذي حسن صحيح.
السماحة في البيع والشراء:
روى البخاري والترمذي عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رحم
الله رجلا سمحا (1) إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) (2) .
بيع الغرر:
بيع الغرر (3) هو كل بيع احتوى جهالة أو تضمن مخاطرة أو قمارا، وقد نهى عنه
الشارع ومنع منه، قال النووي: النهي عن بيع الغرر أصل من أصول الشرع يدخل
تحته مسائل كثيرة جدا.
__________
(1) سمحا: سهلا.
(2) اقتضى: طلب حقه.
(3) الغرر: أي الغرور وهو الخداع الذي هو مظنة عدم الرضا به عند تحققه،
فيكون من باب أكل أموال الناس بالباطل.
(3/79)
ويستثنى من بيع الغرر أمران: أحدهما: ما
يدخل في المبيع تبعا، بحيث لو أفرد لم يصح بيعه، كبيع أساس البناء تبعا
للبناء واللبن في الضرع تبعا للدابة.
والثاني: ما يتسامح بمثله عادة، إما لحقارته أو للمشقة في تمييزه أو
تعيينه، كدخول الحمام بالاجر مع اختلاف الناس في الزمان، ومقدار الماء
المستعمل، وكالشرب من الماء المحرز، وكالجبة المحشوة قطنا.
وقد أفاض الشارع في المواضع التي يكون فيها.
وإليك بعضها حسب ما كانوا يتعاملون به في الجاهلية.
1 - النهي عن بيع الحصاة: فقد كان أهل
الجاهلية يعقدون على الارض التي لا تتعين مساحتها ثم يقذفون الحصاة حتى إذا
استقرت كان ما وصلت إليه هو منتهى مساحة البيع. أو يبتاعون الشئ لا يعلم
عينه، ثم يقذفون بالحصاة فما وقعت عليه كان هو المبيع. ويسمى هذا بيع
الحصاة.
2 - النهي عن ضربة الغواص: فقد كانوا
يبتاعون من الغواص ما قد يعثر عليه من لقطات البحر حين غوصه، ويلزمون
المتبايعين بالعقد
(3/80)
فيدفع المشتري الثمن ولو لم يحصل على شئ،
ويدفع البائع ما عثر عليه ولو أبلغ أضعاف ما أخذ من الثمن. ويسمى هذا ضربة
الغواص.
3 - بيع النتاج: وهو العقد على نتاج
الماشية قبل أن تنتج، ومنه بيع ما في ضروعها من لبن.
4 - بيع الملامسة: وهو أن يلمس كل منهما
ثوب صاحبه أو سلعته فيجب البيع بذلك دون علم بحاله أو تراض عنها.
5 - بيع المنابذة: وهو أن ينبذ كل من
المتعاقدين ما معه، ويجعلان ذلك موجبا للبيع دون تراض منهما.
6 - ومنه بيع المحاقلة: والمحاقلة بيع
الزرع بكيل من الطعام معلوم.
7 - ومنه بيع المزابنة: والمزابنة بيع
ثمر النخل بأوساق من التمر.
8 - ومنع بيع المخاضرة: والمخاضرة بيع
الثمرة الخضراء قبل بدو صلاحها.
(3/81)
9 - ومنه بيع الصوف في الظهر
10 - ومنه بيع السمن في اللبن.
11 - ومنع بيع حبل الحبلة:
ففي الصحيحين: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحوم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل
الحبلة: أن تنتج الناقة ما في بطنها ثم تحمل التي نتجت، فنهاهم النبي صلى
الله عليه وسلم عن ذلك.
فهذه البيوع وأمثالها نهى عنها الشارع لما فيها من غرور وجهالة بالمعقود
عليه.
حرمة شراء المغصوب والمسروق:
يحرم على المسلم أن يشتري شيئا وهو يعلم أنه أخذ من صاحبه بغير حق، لان
أخذه بغير حق ينقل الملكية من يد مالكه، فيكون شراؤه له شراء ممن لا يملك،
مع ما فيه من التعاون على الاثم والعدوان.
روى البيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اشتري سرقة وهو يعلم
أنها سرقة فقد اشترك في إثمها وعارها) .
بيع العنب لمن يتخذه خمرا وبيع السلاح في الفتنة لا يجوز بيع العنب لمن
يتخذه خمرا، ولا السلاح في
(3/82)
الفتنة ولا لاهل الحرب، ولا ما يقصد به
الحرام.
وإذا وقع العقد فإنه يقع باطلا (1) : لان المقصود من العقد هو انتفاع كل
واحد من المتبايعين بالبدل، فينتفع البائع بالثمن وينتفع المشتري بالسلعة.
وهنا لا يحصل المقصود من الانتفاع لما يترتب عليه من ارتكاب المحظور، ولما
فيه من التعاون على الاثم والعدوان المنهي عنهما شرعا، قال الله تعالى:
(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) (2) .
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله الخمر وشاربها
وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه) وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حبس العنب أبام القطاف حتى يبيعه ممن
يتخذه خمرا، فقد تقحم النار على بصيرة) .
وعن عمر بن الحصين قال:
__________
(1) يرى أبو حنيفة والشافعي صحة العقد لتحقق ركنه وتوفر شروطه، لان الغرض
غير المباح أمر مستتر ويترك فيه الامر لله يعاقب عليه.
(2) سورة المائدة آية رقم 2.
(3/83)
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
السلاح في الفتنة) أخرجه البيهقي.
قال ابن قدامة: (إن بيع العصير لمن يعتقد أن يتخذه خمرا محرم، إذا ثبت هذا
فإنما يحرم البيع ويبطل إذا علم قصد المشتري بذلك، إما بقوله وإما بقرائن
مختصة به.
فإن كان محتملا مثل أن يشتريها من لا يعلم حاله، أو من يعمل الخمر والخل
معا، ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز.
وهذا الحكم في كل ما يقصد به الحرام، كبيع السلاح لاهل الحرب، أو لقطاع
الطريق أو في الفتنة ... أو إجارة داره لبيع الخمر فيها وأشباه ذلك. فهذا
حرام، والعقد باطل. اه.
بيع ما اختلط بمحرم:
إذا اشتملت الصفقة على مباح ومحرم. فقيل: يصح العقد في المباح، ويبطل في
المحظور.
وهو أظهر القولين للشافعي، ومذهب مالك.
وقيل: يبطل العقد فيهما.
(3/84)
النهي عن كثرة الحلف:
1 - نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة
الحلف فقال: (الحلف منفقة للسلعة (1) ، ممحقة للبركة) .
رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة.
لما يترتب على ذلك من قلة التعظيم لله، وقد يكون سببا من أسباب التغرير.
2 - وعند مسلم: (إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه ينفق (2) ثم يمحق) .
3 - وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (إن التجارهم الفجار، فقيل: يا
رسول الله، أليس قد أحل الله البيع؟ قال: نعم، ولكنهم يحلفون فيأثمون،
ويحدثون فيكذبون) .
رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح.
4 - عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) السلعة: المبيع. ينفق: يروج وزنا ومعنى.
(3/85)
(من حلف على مال امرئ مسلم بغير حقه لقي
الله وهو عليه غضبان) .
قال: ثم قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله
عزوجل:
(إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لاخلاق لهم في
الاخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب
أليم) (1) . متفق عليه.
5 - روى البخاري أن اعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا
رسول الله، ما الكبائر؟ قال: الاشراك بالله.
قال: ثم ماذا؟ قال: اليمين الغموس، قال: وما اليمين الغموس؟ قال: الذ يقتطع
مال امرئ مسلم، يعني بيمين هو فيها كاذب.
وسميت غموسا لانها تغمس صاحبها في نار جهنم، ولا كفارة لها عند بعض
الفقهاء، لانها لشدة فحشها وكبر إثمها لا يمكن تداركها بالكفارة.
6 - وعن أبي أمامة إياس بن ثعلبة الحارثي، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال:
__________
(1) سورة آل عمران آية رقم 77.
(3/86)
(من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب
الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول
الله؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك) . رواه مسلم.
البيع والشراء في المسجد:
أجاز أبو حنيفة البيع في المسجد، وكره إحضار السلع وقت البيع في المسجد
تنزيها له. وأجاز مالك والشافعي مع الكراهة.
ومنع صحة جوازه أحمد وحرمه.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد
فقولوا: لا أربح الله تجارتك) .
البيع عند أذان الجمعة:
البيع عند ضيق وقت المكتوبة وعند أذان الجمعة حرام، ولا يصح عند أحمد (1)
لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم
__________
(1) وجوزه غيره مع الكراهة.
(3/87)
إن كنتم تعلمون) (1) .
والنهي يقتضي الفساد بالنسبة للجمعة، ويقاس عليها غيرها من سائر الصلوات.
جواز التولية والمرابحة والوضيعة:
تجوز التولية والمرابحة والوضيعة. ويشترط أن يعرف كل من البائع والمشتري
الثمن الذي اشتريت به السلعة.
والتولية، هي البيع برأس المال دون زيادة أو نقص. والمرابحة، هي البيع
بالثمن الذي اشتريت به السلعة
مع ربح معلوم. والوضيعة، هي البيع بأقل من الثمن الاول.
بيع المصحف وشراؤه:
اتفق الفقهاء على جواز شراء المصحف واختلفوا في بيعه.
فأباحه الائمة الثلاثة، وحرمته الحنابلة، وقال أحمد: لا أعلم في بيع
المصاحف رخصة.
بيع بيوت مكة وإجارتها:
أجاز كثير من الفقهاء، منهم الاوزاعي والثوري ومالك والشافعي.
وقول لابي حنيفة.
__________
(1) سورة الجمعة آية رقم 9.
(3/88)
بيع الماء:
مياه البحار والانهار وما يشابهها مباحة للناس جميعا لا يختص بها أحد دون
أحد، ولا يجوز بيعها ما دامت في مقارها.
وفي الحديث: يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (الناس شركاء في الماء
والكلا والنار) فإذا أحرزها إنسان أو حفر بئرا في ملكه أو وضع آلة يستخرج
بها الماء أصبحت ملكا له ويجوز له حينئذ بيع الماء، ويكون في هذه الحال مثل
الحطب المباح أخذه، الذي يحل بيعه بعد إحرازه.
وفي الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لئن يحتطب أحدكم حزمة من حطب
فيبيعها خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه) .
وثبت أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وفيها بئر تسمى بئر رومة،
يملكها يهودي ويبيع الماء منها للناس،
فأقره على بيعه وأقر المسلمين على شرائهم منه، واستمر الامر على هذا حتى
اشتراها عثمان رضي الله عنه وحبسها على المسلمين.
وبيع الماء يجري حسب ما يجري عليه العرف، إلا إذا كان هناك مثل العداد فإنه
يحتسب به القدر المبيع.
(3/89)
بيع الوفاء:
بيع الوفاء هو أن يبيع المحتاج إلى
النقد عقارا على أنه متى وفى الثمن استرد العقار ... وحكمه حكم الرهن في
أرجح الاقوال عندنا.
بيع الاستصناع:
والاستصناع هو شراء ما يصنع وفقا للطلب، وهو معروف قبل الاسلام.
وقد أجمعت الامة على مشروعيته. وركنه الايجاب والقبول. وهو جائز في كل ما
جرى التعامل باستصناعه.
وحكمه: إفادة الملك في الثمن والمبيع.
وشروط صحته: بيان جنس المستصنع ونوعه وصفته وقدره بيانا تنتفي معه الجهالة
ويرتفع النزاع.
والمشتري عند رؤية المبيع مخير بين أن يأخذه بكل الثمن وبين أن يفسخ العقد
بخيار الرؤية، سواء وجده على الحالة التي وصفها أم لا، عند أبي حنيفة ومحمد
رضي الله عنهما.
وقال أبو يوسف: إن وجده على ما وصف فلا خيار له دفعا للضرر عن الصانع، إذ
قد لا يشتري غيره المصنوع
(3/90)
بما يشتريه به هو.
بيع الثمار والزروع:
بيع الثمار قبل بدو الصلاح وبيع الزرع قبل اشتداد الحب لا يصح، مخافة التلف
وحدوث العاهة قبل أخذها.
1 - روى البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، (نهي عن
بيع الثمار حتى يبدو صلاحها: نهى البائع والمبتاع) .
2 - وروى مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع النخل حتى
يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة.
نهى البائع والمشتري) .
3 - وروى البخاري عن أنس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (أرأيت إن
منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟) .
فإن بيعت الثمار قبل بدو الصلاح، والزروع قبل اشتداد الحب بشرط القطع في
الحال، صح إن كان يمكن الانتفاع بها ولم تكن مشاعة، لانه لا خوف في هذه
الحال من التلف ولا خوف من حدوث العاهة.
فإن بيعت بشرط القطع ثم تركها المشتري حتى بدا
(3/91)
صلاحها، قيل إن البيع يبطل، وقيل لا يبطل
ويشتركان في الزيادة.
بيعها لمالك الاصل أو لمالك الارض: هذا هو الحكم بالنسبة لغير مالك الاصل
ولغير مالك الارض، فإن بيعت الثمار قبل بدو صلاحها لمالك الاصل صح البيع،
كما لو بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح مع الاصل.
وكذلك يصح بيع الزروع قبل بدو الصلاح لمالك الارض، لحصول التسليم بالنسبة
للمشتري على وجه الكمال.
بم يعرف الصلاح؟
ويعرف صلاح البلح بالاحمرار والاصفرار.
أخرج البخاري ومسلم عن أنس أن النبي، صلى الله عليه وسلم،: (نهى عن بيع
الثمرة حتى تزهو) .
قيل لانس: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار.
ويعرف صلاح العنب بظهور الماء الحلو واللين والاصفرار (1) .
__________
(1) وما ورد من النهي عن بيع العنب حتى يسود فإنه بالنسبة للعنب الاسود.
(3/92)
ويعرف صلاح سائر الفواكه بطيب الاكل وظهور
النضج.
روى البخاري ومسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الثمرة
حتى تطيب) .
ويعرف صلاح الحبوب والزروع بالاشتداد (1) .
بيع الثمار التي تظهر بالتدريج:
إذا بدأ صلاح بعض الثمر أو الزرع جاز بيعه جميعا صفقة واحدة، ما بدا صلاحه
وما لم يبد منه، متى كان العقد واردا على بطن واحدة.
وكذلك يجوز البيع إذا كان العقد على أكثر من بطن وأريد بيعه بعد ظهور
الصلاح في البطن الاول.
ويتصور هذا في حالة ما إذا كان الشجر مما ينتج بطونا متعددة كالموز من
الفواكه، والقثاء من الخضروات، والورد من الازهار، ونحو ذلك مما تتلاحق
بطونها، وإلى هذا ذهب فقهاء المالكية وبعض فقهاء الحنفية والحنابلة،
واستدلوا على هذا بما يأتي:
1 - أنه ثبت عن الشارع جواز بيع الثمر إذا بدا
__________
(1) وعند الاحناف أن بدو الصلاح يكون بأن تؤمن العاهة والفساد، أي أن
المعتبر ظهور الثمرة.
(3/93)
صلاح بعضه فيكون ما لم يبد صلاحه تابعا لما
بدا منه، فكذلك ما هنا: يقع العقد فيه على الموجود ويكون المعدوم تبعا له
(1) .
2 - أن عدم جواز هذا البيع يؤدي إلى محظورين:
(أ) وقوع التنازع.
(ب) وتعطيل الاموال.
أما وقوع التنازع، فإن العقد كثيرا ما يقع على المزاع الواسعة، ولا يتمكن
المشتري من قبض البطن الاول من ثمارها إلا في وقت قد يطول ويتسع لظهور شئ
من البطن الثاني، ولا يمكن تميزه من البطن الاول، فيقع النزاع بين
المتعاقدين ويأكل أحدهما مال الاخر.
أما المحظور الثاني، فإن البائع قلما يتيسر له في كل وقت من يشتري منه ما
يظهر من ثمره أولا فأول، فيؤدي ذلك إلى ضياع ماله.
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يجوز البيع في هذه الصورة، والقول بعدم الجواز يوقع
في الحرج والمشقة، وهما مرفوعان بقوله تعالى (2) :
__________
(1) هذا إذا اشترى جميع الثمار، أما إذا اشترى بعضها فلكل شجرة حكم بنفسها.
(2) سورة الحج آية رقم 78.
(3/94)
(وما جعل عليكم في الدين من حرج) (1) .
وقد رجح ابن عابدين هذا القول، وأخذت به مجلة الاحكام الشرعية.
بيع الحنطة في سنبلها:
يجوز بيع الحنطة في سنبلها والباقلاء في قشره والارز والسمسم والجوز
واللوز، لانه حب منتفع به، فيجوز بيعه في سنبله كالشعير، والنبي، صلى الله
عليه وسلم، نهى عن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، ولان الضرورة تدعو
إليه فيغتفر ما فيه من غ رر، وهذا مذهب الاحناف والمالكية.
وضع الجوائح:
الجوائح جمع جائحة، وهي الافة التي تصيب الزروع أو الثمار فتهلكها دون أن
يكون لادمي صنع فيها، مثل القحط والبرد والعطش.
وللجوائح حكم يختص بها.
فإذا بيعت الثمرة بعد ظهور صلاحها وسلمها البائع للمشتري بالتخلية ثم تلفت
بالجائحة قبل أوان الجذاذ،
__________
(1) يرى جمهور الفقهاء عدم جواز العقد في هذه الصورة وقالوا: يجب أن يباع
كل بطن على حدة.
(3/95)
فهي من ضمان البائع وليس على المشتري أن
يدفع ثمنها، لان الرسول صلى الله عليه وسلم (أمر بوضع الجوائح) .
رواه مسلم عن جابر.
وفي لفظ قال: (إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ من
ثمنه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟) .
وهذا الحكم في حالة ما إذا لم يبعها البائع مع أصلها أو لم يبعها لمالك
أصلها أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته، ففي هذه الحالات تكون من ضمان
المشتري.
فإن لم يكن التلف بسبب الجائحة بل كان من عمل الادمي، فللمشتري الخيار بين
الفسخ والرجوع بالثمن على البائع وبين الامساك ومطالبة المتلف بالقيمة.
وقد ذهب إلى هذا أحمد بن حنبل وأبو عبيد وجماعة من أصحاب الحديث.
ورجحه ابن القيم قال في تهذيب سنن أبي داود: وذهب جمهور العلماء إلى أن
الامر بوضع الجوائح أمر ندب واستحباب، عن طريق المعروف والاحسان، لا على
سبيل الوجوب والالزام.
وقال مالك بوضع الثلث فصاعدا، ولا يوضع فيما هو أقل من الثلث.
(3/96)
قال أصحابه: ومعنى هذا الكلام أن الجائحة
إذا كانت دون الثلث كان من مال المشتري، وما كان أكثر من الثلث فهو من مال
البائع.
واستدل من تأول الحديث على معنى الندب والاستحباب دون الايجاب: بأنه أمر
حدث بعد استقرار ملك المشتري عليها، فلو أراد أن يبيعها أو يهبها لصح ذلك
منه فيها.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربح ما لم يضمن.
فإذا صح بيعها ثبت أنها من ضمانه.
وقد نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها.
فلو كانت الجائحة بعد بدو الصلاح من مال البائع لم يكن لهذا النهي فائة. اه
الشروط في البيع:
الشروط في البيع قسمان: القسم الاول: صحيح لازم.
القسم الثاني: مبطل للعقد.
فالاول: ما وافق مقتضى العقد، وهو ثلاثة أنواع:
(3/97)
1 - شرط يقتضيه البيع، كشرط التقابض وحلول
الثمن.
2 - شرط ما كان من مصلحة العقد، مثل شرط تأجيل الثمن، أو تأجيل بعضه، أو
شرط صفة معينة في المبيع، كأن تكون الدابة لبونا أو حاملا، وكأن يكون
البازي صيودا فإذا وجد الشرط لزم البيع.
وإن لم يوجد الشرط كان للمشتري فسخ العقد لفوات الشرط.
يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: (المسلمون على شروطهم) .
وكان له أيضا أن ينقص من قيمة السلعة بقدر فقد الصفة المشروطة.
3 - شرط ما فيه نفع معلوم للبائع أو المشتري، كما لو باع دارا واشترى
منفعتها مدة معلومة كأن يسكنها شهرا أو شهرين.
وكذلك لو باع دابة واشترط أن تحمله إلى موضع معين.
لما رواه البخاري ومسلم، أن جابرا باع النبي، صلى الله عليه وسلم، جملا،
واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه.
وكذلك يصح أن يشترط المشتري على البائع نفعا معلو ما، كحمل ما باعه إلى
موضع معلوم (1) أو تكسيره
__________
(1) فإن لم يكن معلوما لم يصح الشرط: فلو شرط الحمل إلى منزله، والبائع لا
يعرفه لم يصح الشرط.
(3/98)
أو خياطته أؤ تفصيله.
وقد اشترى محمد بن مسلمة حزمة حطب من نبطي وشارطه على حملها، واشتهر ذلك
فلم ينكر.
وهذا مذهب أحمد والاوزاعي وأبي ثور وإسحاق وابن المنذر.
وذهب الشافعي والاحناف إلى عدم صحة هذا البيع، لان النبي، صلى الله عليه
وسلم، نهى عن بيع وشرط.
ولكن هذا النهي لم يصح. وإنما نهى عن شرطين في بيع.
القسم الثاني من الشروط:
الشرط الفاسد، وهو أنواع:
1 - ما يبطل العقد من أصله، كأن يشترط على صاحبه عقدا آخر، مثل قول البائع
للمشتري: أبيعك هذا على أن تبيعني كذا أو تقرضني.
ودليل ذلك قول الرسول، صلى الله عليه وسلم: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان
في بيع ". رواه الترمذي وصححه.
قال أحمد: وكذلك كل ما في معنى ذلك، مثل أن يقول: بعتك على أن تزوجني ابنتك
أو على أن أزوجك ابنتي، فهذا كله لا يصح، وهو قول أبي حنيفة والشافعي
(3/99)
وجمهور الفقهاء.
وجوزه مالك وجعل العوض المذكور في الشرط فاسدا، قال: ولا ألتفت الى اللفظ
الفاسد إذا كان معلوما حلالا.
2 - ما يصح معه البيع ويبطل الشرط، وهو الشرط المنافي لمقتضى العقد، مثل
اشتراط البائع على المشتري ألا يبيع المبيع أو لا يهبه، لقوله صلى الله
عليه وسلم: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط ".
متفق عليه.
وإلى هذا ذهب أحمد والحسن والشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأبو ثور.
وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع فاسد.
3 - ما لا ينعقد معه بيع، مثل: بعتك إن رضي فلان، أو إن جئتني بكذا. وكذلك
كل بيع علق على شرط مستقبل.
بيع العربون:
صفة بيع العربون أن يشتري شيئا ويدفع جزءا من ثمنه إلى البائع.
فإن نفذ البيع احتسب من الثمن، وإن لم ينفذ أخذه البائع على أنه هبة له من
المشتري.
وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم صحة هذا البيع، لما
(3/100)
رواه ابن ماجه أن النبي، صلى الله عليه
وسلم، نهى عن بيع العربون. وضعف الامام أحمد هذا الحديث، وأجاز بيع العربون
لما رواه عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية
بأربعة آلاف درهم، فإن رضي عمر كان البيع نافذا، وإن لم يرض فلصفوان
أربعمائة درهم.
وقال ابن سيرين وابن المسيب: لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد معها
شيئا، وأجازه أيضا ابن عمر.
البيع بشرط البراءة من العيوب:
ومن باع شيئا بشرط البراءة من كل عيب مجهول، لم يبرأ البائع - ومتى وجد
المشتري عيبا بالمبيع فله الخيار لانه إنما يثبت بعد البيع، فلا يسقط قبله.
فإن سمي العيب أو أبرأه المشتري بعد العقد برئ.
وقد ثبت أن عبد الله بن عمر باع زيد بن ثابت عبدا بشرط البراءة بثمانمائة
درهم، فأصاب به زيد عيبا، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى
عثمان فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا العيب. فقال: لا. فرده
عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم.
(3/101)
ذكره الامام أحمد وغيره.
قال ابن القيم: وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق
من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة.
الإختلاف بين البائع والمشتري:
إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن وليس بينهما بينة فالقول قول البائع مع
يمينه، والمشتري مخير بين أن يأخذ السلعة بالثمن الذي قال به البائع وبين
أن يحلف بأنه ما اشتراها بثمن أقل.
فإن حلف برئ منها، وردت السلعة على البائع، وسواء أكانت السلعة قائمة أم
تالفة.
وأصل ذلك ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن قيس ابن الاشعث عن أبيه عن جده
قال: اشترى الاشعث رقيقا من رقيق الخمس من عبد الله بعشرين ألفا، فأرسل عبد
الله إليه في ثمنهم.
فقال: إنما أخذتهم بعشرة آلاف.
فقال عبد الله: فاختر رجلا يكون بيني وبينك.
قال الاشعث: أنت بيني وبين نفسك.
قال عبد الله: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا اختلف
البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول
(3/102)
رب السلعة أو يتتاركان " (1) .
وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول.
وقال بعمومه الامام الشافعي، وأن البائع والمشتري كما يتحالفان إذا اختلفا
في الثمن فإنهما يتحالفان إذا اختلفا في الاجل أو في خيار الشرط أو في
الرهن أو في الضمين.
حكم البيع الفاسد:
البيع الصحيح ما وافق أمر الشارع باستيفاء أركانه وشروطه، فحل به ملك
المبيع والثمن والانتفاع بهما.
فإذا خالف أمر الشارع لم يكن صحيحا بل يقع فاسدا باطلا.
فالبيع الفاسد هو البيع الذي لم يشرعه الاسلام، وهو لهذا ينعقد ولا يفيد
حكما شرعيا ولا يترتب عليه الملك ولو قبض المشتري المبيع، لان المحظور لا
يكون طريقا إلى الملك.
قال القرطبي: " كل ما كان من حرام بين ففسخ فعلى المبتاع رد السلعة بعينها،
فإن تلفت بيده رد القيمة فيما له قيمة، وذلك كالعقار والعروض والحيوان،
والمثل فيما له مثل من موزون أو مكيل من طعام أو عرض) .
__________
(1) يفسخان العقد.
(3/103)
الربح في البيع
الفاسد:
ذهب الاحناف إلى أن المبيع بيعا فاسدا إذا قبض البائع الثمن وتصرفه فيه
فربح فعليه فسخ البيع ورد الثمن للمشتري والتصدق بالربح لحصوله له من وجه
منهي عنه ومحظور عليه بنص الكتاب.
التسعير:
معناه: التسعير معناه وضع ثمن محدد للسلع التي يراد بيعها بحيث لا يظلم
المالك ولا يرهق المشتري.
النهي عنه: روى أصحاب السنن بسند صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس:
يا رسول الله، غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله: " إن الله هو المسعر،
القابض الباسط الرازق. وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني
مظلمة في دم ولا مال.
وقد استنبط العلماء من هذا الحديث حرمة تدخل الحاكم في تحديد سعر السلع لان
ذلك مظنة الظلم، والناس أحرار في التصرفات المالية، والحجر عليهم مناف
(3/104)
لهذه الحرية.
ومراعاة مصلحة المشتري ليست أولى من مراعاة مصلحة البائع.
فإذا تقابل الامران وجب تمكين الطرفين من الاجتهاد في مصلحتهما.
قال الشوكاني: " إن الناس مسلطون على أموالهم والتسعير حجر عليهم والامام
مأمور برعاية مصلحة المسلمين، وليس نظره في مصلحة المشتري برخص الثمن أولى
من نظره في مصلحة البائع بتوفير الثمن، وإذا تقابل الامران وجب تمكين
الفريقين من الاجتهاد لانفسهم.
وإلزام صاحب السلعة أن يبيع بما لا يرضى به مناف لقول الله تعالى: (إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم) (1) .
اه.
ثم إن التسعير يؤدي إلى اختفاء السلع، وذلك يؤدي إلى ارتفاع الاسعار،
وارتفاع الاسعار يضر بالفقراء، فلا يستطيعون شراءها، بينما يقوى الاغنياء
على شرائها من السوق الخفية بغبن فاحش، فيقع كل منهما في الضيق والحرج ولا
تتحقق لهما مصلحة.
__________
(1) سورة النساء آية رقم 29.
(3/105)
الترخيص فيه عند الحاجة إليه:
على أن التجار إذ ظلموا وتعدوا تعديا فاحشا يضر بالسوق وجب على الحاكم أن
يتدخل ويحدد السعر صيانة لحقوق الناس، ومنعا للاحتكار، ودفعا للظلم الواقع
عليهم من جشع التجار.
ولذلك يرى الامام مالك جواز التسعير، كما يرى بعض الشافعية جوازه أيضا في
حالة الغلاء.
كما ذهب إلى إجازته أيضا في السلع جماعة من أئمة الزيدية ومنهم: سعيد بن
المسيب، وربيعة بن عبد الرحمن، ويحيى بن سعد الانصاري، كلهم يرون جواز
التسعير إذا دعت مصلحة الجماعة لذلك ... قال صاحب الهداية: (ولا ينبغي
للسلطان أن يسعر على الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون في
القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير،
فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصر) .
الإحتكار:
تعريفه: الاحتكار هو شراء الشئ وحبسه ليقل بين
(3/106)
الناس فيغلو سعره (1) ويصيبهم بسبب ذلك
الضرر.
حكمه:
والاحتكار حرمه الشارع ونهى عنه لما فيه من الجشع والطمع وسوء الخلق
والتضييق على الناس.
1 - روى أبو داود والترمذي ومسلم عن معمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(من احتكر فهو خاطئ) .
2 - وروى أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزار أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من احتكر الطعام أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه ".
3 - وذكر رزين في جامعه أنه صلى الله عليه وسلم قال: " بئس العبد المحتكر:
إن سمع برخص ساءه، وإن سمع بغلاء فرح ".
4 - وروى ابن ماجه والحاكم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
__________
(1) بعض العلماء ضيق المواد التي يكون فيهها الاحتكار: فيرى الشافعي وأحمد
أن الاحتكار لا يكون إلا في طعام لانه قوت الناس، ومنهم من وسعها. فيرى أن
الاحتكار في أي شئ حرام لضرره حيث لا يكون الثمن متعادلا مع السلعة
المحتكرة، ويرى بعضهم أنه إذا احتكر زرعه أو صنعة يده فلا بأس.
(3/107)
" الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون ".
والجالب هو الذي يجلب السلع ويبيعها بربح يسير.
5 - وروى أحمد والطبراني عن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من دخل في شئ من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله تبارك
وتعالى أن يقعده " بعظم من النار يوم القيامة ".
متى يحرم الاحتكار:
ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الاحتكار المحرم هو الاحتكار الذي توفر فيه
شروط ثلاثة:
1 - أن يكون الشئ المحتكر فاضلا عن حاجته وحاجة من يعولهم سنة كاملة، لانه
يجوز أن يدخر الانسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة، كما كان يفعله الرسول
صلى الله عليه وسلم.
2 - أن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ليبيع بالثمن الفاحش لشدة
الحاجة إليه.
3 - أن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه إلى المواد المحتكرة
من الطعام والثياب ونحوها.
فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار - ولكن لا يحتاج
(3/108)
الناس إليها - فإن ذلك لا يعد احتكارا، حيث
لا ضرر يقع بالناس.
الخيار:
هو طلب خير الامرين من الامضاء أو الالغاء، وهو أقسام نذكرها فيما يلي:
خيار المجلس إذا حصل الايجاب والقبول من البائع والمشتري وتم العقد فلكل
واحد منهما حق إبقاء العقد أو إلغائه ماداما في المجلس (أي محل العقد) ، ما
لم يتبايعا على أنه لا خيار.
فقد يحدث أن يتسرع أحد المتعاقدين في الايجاب أو القبول، ثم يبدو له أن
مصلحته تقتضي عدم إنفاذ العقد، فجعل له الشارع هذا الحق لتدارك ما عسى أن
يكون قد فاته بالتسرع.
روى البخاري ومسلم عن حكيم بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن
كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ".
(3/109)
أي أن لكل من المتبايعين حق إمضاء العقد أو
إلغائه ماداما لم يتفرقا بالابدان، والتفرق يقدر في كل حالة بحسبها، ففي
المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين
أو ثلاث، فإن قاما معا أو ذهبا معا فالخيار باق.
والراجح أن التفرق موكول إلى العرف، فما اعتبر في العرف تفرقا حكم به وما
لا فلا.
روى البيهقي عن عبد الله ابن عمر قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان رضي الله
عنه مالا بالوادي بمال له بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من
بيته خشية أن يردني البيع، وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يتفرقا.
وإلى هذا ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين.
وأخذ به الشافعي وأحمد من الائمة وقالا: إن خيار المجلس ثابت في البيع
والصلح والحوالة والاجارة وفي كل عقود المعاوضات اللازمة التي يقصد منها
المال (1) .
أما العقود اللازمة التي لا يقصد منها العوض مثل عقد
__________
(1) خالف ذلك أبو حنيفة ومالك وقالا: إن خيار المجلس باطل. والعقد بالقول
كاف لازم، وإذا وجب البيع فليس لاحدهما الخيار وإن كانا في المجلس. وحملا
التفرق في الحديث على التفرق في الاقوال.
(3/110)
الزواج والخلع فإنه لا يثبت فيها خيار
المجلس.
وكذلك العقود غير اللازمة كالمضاربة والشركة والوكالة.
متى يسقط: ويسقط خيار الشرط بإسقاطهما له بعد العقد وإن أسقطه أحدهما بقي
خيار الاخر. وينقطع بموت أحدهما.
خيار الشرط:
خيار الشرط هو أن يشتري أحد المتبايعين شيئا على أن له الخيار مدة معلومة
وإن طالت (1) إن شاء أنفذ البيع في هذه المدة وإن شاء ألغاه، ويجوز هذا
الشرط للمتعاقدين معا ولاحدهما إذا اشترطه.
والاصل في مشروعيته:
1 - ما جاء عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: " كل بيعين لا
بيع بينهما حتى يتفرقا إلا بيع الخيار ".
أي لا يلزم البيع بينهما حتى يتفرقا، إلا إذا اشترط أحدهما أو كلاهما شرط
الخيار مدة معلومة.
__________
(1) هذا مذهب أحمد: وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن مدة الخيار ثلاثة أيام
فما دونها.
وقال مالك: المدة مقدرة بقدر الحاجة.
(3/111)
2 - وعنه أن النبي، صلى الله عليه وسلم،
قال: " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا
جميعا، أو يخبر أحدهما الاخر فيتبايعا على ذلك فقد وجب البيع ". رواه
الثلاثة.
ومتى انقضت المدة المعلومة ولم يفسخ العقد لزم البيع.
ويسقط الخيار بالقول كما يسقط بتصرف المشتري في السلعة التي اشتراها بوقف
أو هبة أو سوم لان ذلك دليل رضاه.
ومتى كان الخيار له فقد نفذ تصرفه.
خيار العيب:
حرمه كتمان العيب عند البيع: يحرم على الانسان أن يبيع سلعة بها عيب دون
بيانه للمشتري.
1 - فعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:
" المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا وفيه عيب إلا بينه ".
رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني والحاكم والطبراني.
(3/112)
2 - وقال العداء بن خالد: كتب لي النبي،
صلى الله عليه وسلم،: هذا ما اشتراه العداء بن خالد بن هوذه من محمد رسول
الله اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة، ولا خبثة، بيع المسلم من
المسلم ".
3 - ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من غشنا فليس منا ".
حكم البيع مع وجود العيب: ومتى تم العقد وقد كان المشتري عالما بالعيب فإن
العقد يكون لازما ولا خيار له لانه رضي به.
أما إذا لم يكن المشتري عالما به ثم علمه بعد العقد فإن العقد يقع صحيحا،
ولكن لا يكون لازما، وله الخيار بين أن يرد المبيع ويأخذ الثمن الذي دفعه
إلى البائع وبين أن يمسكه ويأخذ من البائع من الثمن بقدر ما يقابل النقص
الحاصل بسبب العيب، إلا إذا رضي به أو وجد منه ما يدل على رضاه، كأن يعرض
ما اشتراه للبيع أو يستغله أو يتصرف فيه.
قال ابن المنذر: إن الحسن وشريحا وعبد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري
وأصحاب الرأي يقولون:
(3/113)
" إذا اشترى سعلة فعرضها للبيع بعد علمه
بالعيب بطل خياره ". وهذا قول الشافعي.
الإختلاف بين المتبايعين:
إذا اختلف المتبايعان فيمن حدث عنده العيب مع الاحتمال ولا بينة لاحدهما
فالقول قول البائع مع يمينه، وقد قضى به عثمان.
وقيل: القول قول المشتري مع يمينه ويرده على البائع.
شراء البيض الفاسد:
من اشترى بيض الدجاج فكسره فوجده فاسدا رجع بكل الثمن على البائع إذا شاء،
لان العقد في هذه الحال يكون فاسدا لعدم مالية المبيع، وليس عليه أن يرده
إلى البائع لعدم الفائدة فيه.
الخراج بالضمان:
وإذا انفسخ العقد وقد كان للمبيع فائدة حدثت في المدة التي بقي فيها عند
المشتري فإن هذه الفائدة يستحقها.
فعن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال:
(3/114)
" الخراج بالضمان ".
رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي.
أي أن المنفعة التي تأتي من المبيع تكون من حق المشتري بسبب ضمانه له لو
تلف عنده.
فلو اشترى بهيمة واستغلها أياما ثم ظهر بها عيب سابق على البيع بقول أهل
الخبرة فله حق الفسخ، وله الحق في هذا الاستغلال دون أن يرجع عليه البائع
بشئ.
وجاء في بعض الروايات: أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله ثم وجد به عيبا فرده
بالعيب.
فقال البائع: غلة عبدي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الغلة بالضمان ".
رواه أبو داود وقال فيه: هذا إسناد ليس بذاك.
خيار التدليس في البيع:
إذا دلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن حرم عليه ذلك.
وللمشتري خيار الرد ثلاثة أيام، وقيل إن الخيار يثبت له على الفور.
أما الحرمة فللغش والتغرير، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
(3/115)
" من غشنا فليس منا ".
وأما ثبوت خيار الرد فلقوله صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه عنه أبو
هريرة:
" لا تصروا الابل والغنم (1) فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها،
إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعا من تمر " (2) رواه البخاري ومسلم.
قال ابن عبد البر: هذا الحديث أصل في النهي عن الغش وأصل في أنه (أي
التدليس) لا يفسد أصل البيع، وأصل في أن مدة الخيار ثلاثة أيام، وأصل في
تحريم التصرية وثبوت الخيار بها.
فإذا كان التدليس من البائع بدون قصد انتفت الحرمة مع ثبوت الخيار للمشتري
دفعا للضرر عنه.
خيار الغبن (3) في البيع والشراء: الغبن
قد يكون بالنسبة للبائع، كأن يبيع ما يساوي خمسة بثلاثة.
__________
(1) أي لا تتركوا لبنها في ضرعها أياما حتى يعظم فتشتد الرغبة فيها.
(2) أي يرد معها صاعا من تمر أو شيئا من غالب قوتهم بدلا من اللبن الزائد
عن نفقتها إذا كانت تعلف، أو ما يرتضيه المتعاقدان من قوت وغيره.
(3) ويسمى بالمسترسل.
(3/116)
وقد يكون بالنسبة للمشتري، كأن يشتري ما
قيمته ثلاثة بخمسة.
فإذا باع الانسان أو اشترى وغبن كان له الخيار في الرجوع في البيع وفسخ
العقد، بشرط أن يكون جاهلا ثمن
السلعة ولا يحسن المماكسة، لانه يكون حينئذ مشتملا على الخداع الذي يجب أن
يتنزه عنه المسلم.
فإذا حدث هذا كان له الخيار بين إمضاء العقد أو إلغائه.
ولكن هل يثبت الخيار بمجرد الغبن؟ قيده بعض العلماء بالغبن الفاحش، وقيده
بعضهم بأن يبلغ ثلث القيمة، وقيده البعض بمجرد الغبن.
وإنما ذهبوا إلى هذا التقييد لان البيع لا يكاد يسلم من مطلق الغبن، ولان
القليل يمكن أن يتسامح به في العادة.
وأولى هذه الاراء أن الغبن يقيد بالعرف والعادة.
فما اعتبره العرف والعادة غبنا ثبت فيه الخيار، وما لم يعتبراه لا يثبت
فيه.
وهذا مذهب أحمد ومالك، وقد استدلا عليه بما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر،
رضي الله عنهما، قال:
(3/117)
ذكر رجل - اسمه حبان بن منقذ - للنبي صلى
الله الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال: " إذا بايعت فقل: لا خلابة
" (1) .
زاد ابن اسحاق في رواية يونس بن بكير وعبد الاعلى عنه: " ثم أنت بالخيار في
كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال،
فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فاردد ".
فبقي ذلك الرجل حتى أدرك عثمان وهو ابن مائة وثلاثين سنة، فكثر الناس في
زمن عثمان، فكان إذا اشترى شيئا، فقيل له: إنك غبنت فيه، رجع، فيشهد له رجل
من الصحابة بأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جعله بالخيار ثلاثا، فترد له
دراهمه.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يثبت الخيار بالغبن لعموم أدلة البيع
ونفوذه من غير تفرقة بين ما فيه غبن وغيره.
وأجابوا عن الحديث المذكور: بأن الرجل كان ضعيف العقل، وإن كان ضعفه لم
يخرج به عن حد التمييز، فيكون تصرفه مثل تصرف الصغير المميز
__________
(1) أي لا خديعة.
وظاهر هذا أن من قال ذلك ثبت له الخيار سواء غبن أم لم يغبن.
(3/118)
المأذون له بالتجارة، فيثبت له الخيار مع
الغبن، ولان الرسول، صلى الله عليه وسلم، لقنه أن يقول: لا خلابة، أي عدم
الخداع، فكان بيعه وشراؤه مشروطين بعدم الخداع، فيكون من باب خيار الشرط.
تلقي الجلب:
ومن صور الغبن تلقي الجلب، وهو أن يقدم ركب التجارة بتجارة فيتلقاه رجل قبل
دخولهم البلد وقبل معرفتهم السعر، فيشتري منهم بأرخص من سعر البلد،
فإذا تبين لهم ذلك كان لهم الخيار دفعا للضرر، لما رواه مسلم عن أبي هريرة
أن النبي، صلى الله عليه وسلم، نهى عن تلقي الجلب، وقال: " لا تلقوا الجلب،
فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار ".
وهذا النهي للتحريم في قول أكثر العلماء.
التناجش:
ومنه أيضا التناجش، وهو الزيادة في ثمن السلعة عن مواطأة لرفع سعرها ولا
يريد شراءها ليغر غيره بالشراء بهذا السعر الزائد.
وفي البخاري ومسلم عن ابن عمر: نهى رسول الله
(3/119)
صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو محرم
باتفاق العلماء.
قال الحافظ بن حجر في فتح الباري: " واختلفوا في البيع إذا وقع على ذلك،
ونقل ابن المنذر عن طائفة من أهل الحديث فساد ذلك البيع، وهو قول أهل
الظاهر ورواية عن مالك، وهو المشهور عند الحنابلة إذا كان ذلك بمواطأة
المالك أو صنعه.
والمشهور عند المالكية في مثل ذلك ثبوت الخيار، وهو وجه للشافعية قياسا على
المصراة، والاصح عندهم صحة البيع مع الاثم، وهو قول الحنفية ". اهـ.
الإقالة:
من اشترى شيئا ثم ظهر له عدم حاجته إليه.
أو باع شيئا بدا له أنه محتاج إليه.
فلكل منهما أن يطلب الاقالة وفسخ العقد (1) .
وقد رغب الاسلام فيها ودعا إليها.
روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
__________
(1) كما تصح من المضارب والشريك.
(3/120)
" من أقال مسلما أقال الله عثرته ".
وهي فسخ لا بيع.
وتجوز قبل قبض البيع، ولا يثبت فيها خيار المجلس ولا خيار الشرط ولا شفعة
فيها لانها ليست بيعا.
وإذا انفسخ العقد رجع كل من المتعاقدين بما كان له، فيأخذ المشتري الثمن
ويأخذ البائع العين المبيعة.
وإذا تلفت العين المبيعة أو مات العاقد أو زاد الثمن أو نقص فإنها لا تصح. |