فقه
النوازل هذا المجلد
يحتوي على خمس رسائل
في دراسة النوازل الآتية :
1- التقنين والإلزام .
2- المواضعة في الاصطلاح .
3- خطاب الضمان البنكي .
4- جهاز الإنعاش وعلامة الوفاة .
5 - طرق الإنجاب في الطب الحديث - طفل
الأنابيب .
(1/5)
" 1 "
التقنين والإلزام
عرض ومناقشة
(1/7)
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
: فلما كانت نازلة
إلزام القضاة بقولٍ مقنن أو مذهب معين من
النوازل* التي تستدعي بحثاً
وتوجب اهتماماً ؛ لأسباب متكاثرة يجمعها أمران
:
أولهما : لأنه على القضاء تدور المحافظة على
حقوق العباد ، ورعاية
حرماتهم ، ورد الظلامات بينهم ، وعمران
مدنيتهم ؛ متى ما سار التقاضي
على وحي السماء ، وهدي الشريعة الغراء ،
الكامن في الوحيين الشريفين :
كتاب الله تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إذْ أن حياة الأمة مرتبطة ثباتاً ونمواً
وارتقاءاً ، بقدر ما تحييه من العمل
بالوحيين الشريفين . ويكون نقصها واختلال
موازين الحياة فيها بقدر الفوت
من ذلك .
ثانيهما : ولأن فلكة التقاضي وفصل الخصام بعد
فهم الواقع
للخصومات ، واستقطاب النظر فيها هو فهم الواجب
في الواقع ، وهو كامن
في تطبيق أحكام الشريعة المطهرة على ذلكم
الواقع في كل قضية بعينها .
__________
(*) يراد بالنوازل : الوقائع والمسائل
المستجدة والحادثة المشهورة بلسان العصر
باسم : النظريات ، والظواهر . وفي مقدمة كتاب
" فقه النوازل " صنعت مقدمة رحيبة
الجناب واسعة الأطراف كشفت فيها عن مسالك
البحث العلمي في نوازل الأقضية
والأحكام وأبنت سبب العدول عن لفظ " نظرية "
ونحوها إلى لفظ " النوازل " وستتم
طباعتها بإذن الله تعالى بعد تكامل حلقات
الجزء الأول من هذا المشروع المبارك
وبالله التوفيق .
(1/9)
وهذا من معاقد
الإسلام ؛ والحاكم بنقيضه أي على خلاف ما أنزل
الرحمن
موصوف بالفسق ، والظلم ، والكفران فلا تستقر
لعبدٍ إذاً قدم في الإسلام
إلا إذا عقد قلبه على تحكيم شرع الله ودينه في
كل شئونه وعلاقاته .
وما أحسن ما قاله الإمام شمس الدين ابن قيم
الجوزية رحمه الله تعالى
في فاتحة كتابه " الصواعق المنزلة على الجهمية
والمعطلة " إذ يقول : (1)
(واعلم أنه لا يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى
يعقد قلبه على أن
الدين كله لله ، وأن الهدى هدى الله وأن الحق
دائر مع الرسول وجوداً
وعدماً ، وأنه لا مطاع سواه ، ولا متبوع غيره
، وأن كلام غيره يعرض على
كلامه ؛ فإن وافقه قبلناه ، لا لأنه قاله . بل
لأنه أخبر به عن الله ورسوله ،
وإن خالفه رددناه ، ولا يعرض كلامه صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على آراء
القياسيين ، ولا على
عقول الفلاسفة والمتكلمين ، ولا أذواق
المتزهدين ، بل تعرض هذه كلها
على ما جاء به ، عرض الدراهم المجهولة على
أخبر الناقدين ، فما حكم
بصحته فهو منها المقبول ، وما حكم برده فهو
المردود) .
فلما كانت هذه النازلة من الأهمية بهذه
المنزلة لهجت ألسنة العلماء
في بحثها ، وتناولتها أقلام الكاتبين بين
القبول والرد ؛ باحثين : هل يجوز
الإلزام بمذهب معين أو قول مقنن لمن يتولى
القضاء الشرعي ، أو بلسان
العصر : لمن يتولى منصب الحاكمية ؟؟ .
وقد تكاثرت البحوث فيها تبعاً واستقلالاً ،
وقوةً وضعفاً . غير أنه قد
صار من الضغث على إبالة ؛ أن بعض الأبحاث
المعاصرة في هذه النازلة
إضافة إلى ضعف مادتها ، أجرى عرض الخلاف على
وجه ليس محلاً
للخلاف : بمعنى هل يجوز التقنين أو لا يجوز ؟
.
__________
(1) انظر : مختصر الصواعق 1 / 33 المطبوع بمصر
بمطبعة الإمام .
(1/10)
وهذا خطأ صرف ،
وعدم وقوف على حقائق مسائل العلم ، ومواطن
الخلاف . فإن التقنين حقيقته تأليف ، والغلط
وقع في النزوع عن
مصطلحات الشريعة ، إذ أطلق هذا اللفظ عليه ،
فصار من آثاره السالبة مع
ذلك إبعاد الأفهام عن المعهود من الحقائق
والمضامين في علوم الشريعة
وأحكامها .
ومهما كانت التسمية تقنيناً ، أو تدويناً ، أو
تأليفاً ، فإن هذا عَرْضٌ
مغلوط ، ودائرة الخلاف إنما هي منحصرة في
الإلزام جوازاً أو منعاً .
لهذا فقد رأيت بحثها وتقرير ما توصلت إليه
فيها لتكون على طرف
الثمام أمام أهل الإسلام مشاركة مني في
النصيحة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولأئمة
المسلمين ، وعامتهم .
وقد أجريت الكلام فيما حررته مرتباً له في
مطالب ثلاثة :
المطلب الأول : وفيه عرض لتاريخ نشوء هذه
الفكرة ؛ وهي حمل
القضاة على مذهب معين .
المطلب الثاني : في بيان أوجه القول بها مع
بيان المصالح المترتبة
عليها ، ثم إتباعها بمناقشتها .
المطلب الثالث : في بيان وجوه المنع منها مع
بيان المضار المترتبة
على القول بها .
ولعل في ترتيب القول في هذه النازلة على هذا
النمط والسياق تقريباً
للأفهام ، ومزيداً من الوقوف بوضوح على القول
الحق فيها .
وهذه هي الطريقة التي سلكها شيخا الإسلام ابن
تيميه وابن القيم
رحمهما الله تعالى وأرشدا إليها ، وبها أخذ
أنصار الكتاب والسنة
(1/11)
المستضيؤون
بنورهما إلى يومنا هذا .
ومنه قول ابن تيميه في ذلك ما يلي (1) :
(يجب أن يكون الخطاب في المسائل المشكلة بطريق
ذكر كل قول ،
ومعارضة الآخر له ، حتى يتبين الحق بطريقه لمن
يريد الله هدايته ، فإن
الكلام بالتدريج مقاماً بعد مقام هو الذي يحصل
به المقصود ، وإلا فإذا
هجم على القلب الجزم بمقالات لم تحكم أدلتها
وطرقها ، والجواب عما
يعارضها كان إلى دفعها والتكذيب بها أقرب منه
إلى التصديق بها) .
ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى بإنعام الله
عليه في هذه الطريقة
فيقول (2) :
" ... ونحن نذكر مأخذ هذه الأقوال وما لكل قول
وما عليه ، وما هو
الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة ،
على طريقتنا التي منَّ
الله بها وهو مرجو الإعانة والتوفيق " .
وأسأل الله تعالى التوفيق والإعانة والسداد .
آمين .
المؤلف
بكر بن عبد الله أبو زيد
تحريراً في مدينة النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام 1392 هـ ، وأنا بها
مجاور ثم تم
تبييضه في مدينة الرياض عام 1401 هـ . وأنا
بها نزيل .
__________
(1) بواسطة طريق الوصول ص / 170 للشيخ عبد
الرحمن السعدي .
(2) كتاب الروح ص / 93 .
(1/12)
إيقاظ
وإنه قبل الأخذ بهذا تنبغي الإشارة مقدماً إلى
محل التجاذب في بيان
من هو القاضي الذي يُلْزَم وما هي الأحكام
التي يُلْزَم بها . وذلك ونظيره
منحصر في الأقسام الآتية :
1- إن الحكم الثابت بنص قطعي الثبوت والدلالة
من كتاب أو سنة
أو إجماع ؛ هو ملزم بنفسه ولا يحتاج إلى أمر
خارج عنه .
2- إن القاضي المجتهد الذي توفرت فيه أدوات
الاجتهاد ليس محل
خلاف في أنه لا يجوز إلزامه في التقليد لأحكام
مناطها الاجتهاد (لأن
التقليد لا يصح للمجتهد فيما يرى خلافه
بإجماع) كما حكاه ابن
فرحون (1) .
3- إذاً فإن محل التجاذب في الإلزام بالأحكام
المقننة هي الأحكام
الاجتهادية التي تجاذبتها الأدلة الشرعية أو
الإرجاع إلى قاعدة من القواعد
المرعية .
4- وإن محل التجاذب في الشخص المُلْزَم : هو
القاضي المقلِّد الذي
لم تتوفر فيه أدوات الاجتهاد .
__________
(1) تبصرة الحكام 1 / 57 .
(1/13)
المطْلَبُ
الأول : عَرْضُ تاريخِ نُشُوء هذِه الفِكْرَة
(1/15)
المطْلَبُ
الأوّل : عرَضُ تاريخِ نُشُوء هذه الفكرة
وهي جمع القضاة على مذهب معين
ومراحل العرض لتاريخ هذه الفكرة في هذا المطلب
حسب الاستقراء
والتتبع على ما يلي :
1- يرى بعض الباحثين أن مُبدي فكرة جمع الإمام
الناس على رأي
واحد في القضاء .. هو ابن المقفع .
وابن المقفع : هو عبد الله بن المقفع الأديب
المشهور . ترجمه جماعةٌ
منهم : الحافظان ؛ ابن كثير في تاريخه (1) ،
وابن حجر في : " اللسان " (2) .
ولم يذكرا في ترجمته ما يوحي بعدالته . بل قال
ابن حجر : ونقل عن ابن
مهدي أنه قال ... (ما رأيت كتاباً في زندقة
إلا هو أصله) أي : ابن
المقفع .
وقال ابن حجر أيضاً (3) : في ترجمة صالح بن
عبد القدوس صاحب
الفلسفة والزندقة كما وصفه الحافظ ابن حجر
بذلك : ... وقال الشريف أبو
القاسم المراغي في كتاب " غريب الفوائد " كان
كحماد الراوية وعَدَّ جماعةً
__________
(1) البداية والنهاية 10 / 96 .
(2) لسان الميزان 3 / 366 . (3) لسان الميزان
3 / 173 .
(1/17)
منهم : ابن
المقفع .. قال : (مشهورين بالزندقة والتهاون
بأمر الدين) .
انتهى .
ثم قال الحافظ : (قلت وليس لهؤلاء رواية فيما
أعلم) .
وفكرته هذه هي في كلامه الذي وجهه إلى أمير
المؤمنين المدوَّنِ في
رسالته المعروفة باسم : " رسالة الصحابة " (1)
.
وهذه الرسالة بطولها في كتاب : " جمهرة رسائل
العرب " (2) نقلاً منه لها
عن كتاب " المنظوم والمنثور " لابن طيفور .
وفيها ابتداءً من ص / 36 قول ابن المقفع :
(ومما ينظر أمير المؤمنين
من أمر هذين المصرين وغيرهما من الأمصار ،
والنواحي : اختلاف هذه
الأحكام المتناقضة التي قد بلغ اختلافها أمراً
عظيماً في الدماء والفروج
والأموال ؛ فيستحل الدم والفرج بالحيرة ، وهما
يحرمان بالكوفة .. إلى أن
قال : فلو رأى أمير المؤمنين أن يأمر بهذه
الأقضية والسنن المختلفة فترفع
إليه في كتاب ، ويرفع معها ما يحتج به كل قوم
من سنة أو قياس ثم نظر
أمير المؤمنين في ذلك ، وأمضى في كل قضية أمره
الذي يلهمه الله ويعزم
عليه ، ويَنْهى عن القضاء بخلافه ، وكتب بذلك
كتاباً جامعاً عزماً ؛ لرجونا
أن يجعل الله هذه الأحكام المختلفة الصوابَ
بالخطأ : حكماً واحداً
وصواباً . ورجونا أن يكون اجتماع السير قربة
لإجماع الأمر برأي أمير
__________
(1) المقصود بالصحابة هنا : صحابة الولاة
والخلفاء لا صحابة الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو
شائع ، واستعمال الكلمة بهذا المعنى معروف إذ
ذاك نسبة إلى المتصلين بهؤلاء
(انظر كتاب : عبد الله بن المقفع لجورج غريب ص
: 58) .
(2) جمهرة رسائل العرب 3 / 25 مؤلفه : محمد
زكي صفوت .
(1/18)
المؤمنين ،
وعلى لسانه ، ثم يكون ذلك من إمام آخر آخر
الدهر إن شاء
الله) . انتهى .
2- كما يروى في ذلك ما كان من الحوار ، بين
أبي جعفر المنصور
المتوفى سنة 158 هـ وبين الإمام مالك بن أنس
المتوفى سنة 179 هـ .
كما ذكرها مسندة الحافظان : ابن عساكر (1) ،
وابن عبد البر (2) .
وأسانيدها لا تخلوا من مقال ؛ ففي بعضها
الواقدي صاحب المغازي
محمد بن عمر بن واقد الأسلمي وهو متروك الحديث
(3) ، حتى مال ابن
جرير إلى كون القصة وقعت بين المهدي والإمام
مالك لا مع أبي جعفر .
ولما أراد أبو جعفر حمل الناس على رأي واحد
قال له مالك كما في رواية
ابن عساكر : (لا تفعل هذا فإن الناس قد سبقت
إليهم أقاويل ، وسمعوا
أحاديث وروايات وأخذ كل قوم منهم بما سبق
إليهم وعملوا به ودانوا به ،
من اختلاف الناس وغيرهم ، وإن ردهم عما
اعتقدوه شديد ، فدع الناس
وما هم عليه ، وما اختار أهل كل بلد منهم
لأنفسهم ، فقال : لعمري لو
طاوعني على ذلك لأمرت به) . انتهى .
وفي الرواية الثانية من طريق خالد بن نزار أن
مالكاً قال : (... فقلت
يا أمير المؤمنين إن أصحاب رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفرقوا في البلدان
واتبعهم
الناس فرأى كل فريق أن أتبع متبعاً) . انتهى .
__________
(1) كشف المغطا ص / 47 .
(2) الانتقاء ص / 41 . وانظر ص / 38 - 39 من
عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق
للباني .
(3) كشف المغطا ص / 47 .
(1/19)
وفي رواية ابن
عبد البر أن مالكاً قال : (.. يا أمير
المؤمنين قد رسخ
في قلوب أهل كل بلد ما اعتقدوه وعملوا به ،
ورد العامة عن مثل هذا
عسير) . انتهى .
وفي اختصار علوم الحديث لابن كثير (1) ، قال :
(وقد طلب المنصور
الإمام مالك أن يجمع الناس على كتابه فلم يجبه
إلى ذلك ، وذلك من
تمام علمه ، واتصافه بالإنصاف . وقال : إن
الناس قد جمعوا واطلعوا على
أشياء لم نطلع عليها) . انتهى .
3- ثم إنه نحواً من ذلك ما وقع بين المهدي
محمد بن أبي جعفر
المنصور المتوفى سنة 169 هـ وبين مالك رحمه
الله . كما رواها الحافظ
ابن عساكر في " كشف المغطا " (2) والحافظ ابن
عبد البر في " الانتقاء " (3) .
4- ويروى أيضاً أن هارون الرشيد بن المهدي بن
المنصور المتوفى
سنة 193 هـ وقع له مع الإمام مالك مثل ما وقع
لأبيه وجده مع مالك
رحمه الله تعالى كما رواها أبو نعيم في "
الحلية " (4) وفيها :
(قال مالك شاورني هارون الرشيد في ثلاث -
ذكرها - ومنها : في أن
يعلق الموطأ في الكعبة ، ويحمل الناس على ما
فيه ، وفي أن ينقض منبر
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ويجعله من جوهر وفضة .. فقال مالك : أما تعليق
الموطأ في
__________
(1) ص : 30 من اختصار علوم الحديث مع شرحه
الباعث الحثيث للشيخ أحمد
شاكر .
(2) ص : 48 .
(3) ص : 40 .
(4) حلية الأولياء 6 / 332 .
(1/20)
الكعبة ، فإن
أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في
الآفاق
وكل عند نفسه مصيب ..) إلخ .
وفي إسنادها عند أبو نعيم : المقدام بن داود
بن عيسى بن تليد
الرعيني ، أبو عمر البصري ، قال فيه النسائي :
ليس بثقة (1) . لكن قال
الشوكاني في " القول المفيد " (2) : وقد
تواترت الرواية عن الإمام مالك أن
الرشيد قال له : (إنه يريد أن يحمل الناس على
مذهبه ، فنهاه عن ذلك .
وهذا موجود في كل كتاب فيه ترجمة الإمام مالك
، ولا يخلوا من ذلك إلا
نادراً) . انتهى .
وممن أشار إلى وقوع هذه القصة لمالك مع الرشيد
: ابن القيم رحمه
الله تعالى كما في كتابيه : " إعلام الموقعين
" (3) ، و " الروح " (4) .
5- ثم يرى بعض الباحثين المعاصرين (5) ، أن
هذه الفكرة بقيت معطلة
بعيدة عن التنفيذ حتى اتجهت الحكومة العثمانية
في أواخر القرن الثالث
عشر الهجري قبل انقراضها بإخراج قانون
للمعاملات يتلائم وروح العصر ،
مقيداً بالمذهب الحنفي دون التقيد بالرأي
الراجح من المذهب الحنفي ،
فصدرت بذلك " مجلة الأحكام العدلية " متضمنةً
جملةً من أحكام :
البيوع ، والدعاوى ، والقضاء ... (وكان تاريخ
صدور هذه المجلة في عام
1869 م) (6) .
__________
(1) انظر : ميزان الاعتدال للذهبي 4 / 175 ،
ولسان الميزان لابن حجر 6 / 84 .
(2) القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد ص
: 17 .
(3) 2 / 363 - 364 . (4) ص : 266 - 267 .
(5) منهم : الأستاذ محمد سلام مدكور في كتابه
: القضاء في الإسلام ص : 111 .
(6) انظر : تاريخ القانون لزهدي يكن ص : 286 .
(1/21)
ثم ظهر بعد ذلك
قانون مستمد من المذهب الحنفي وغيره من مسائل
النكاح والفُرَق .
ثم إن الخديوي إسماعيل رفض الأخذ بها على ما
أشار به عليه
مستشاره الفرنسي .. (وفعلاً فقد تطلع الخديوي
إلى القوانين الغربية ، ولما
حدث هذا بدأ الإستياء على رجال الدين (1) ،
وظهر أثره في نفوس طوائف
الشعب ، فقام الفقيه : قدري باشا بعمل مجموعة
من القوانين من المذهب
الحنفي ، ولكن هذه القوانين لم يقدر لها أن
تصبغ بصبغة رسمية) (2) .
6- ثم إنه في هذا القرن اتجهت بعض الحكومات
التي تحكم
الأنظمة الوضعية إلى وضع قانون للأحوال
الشخصية (3) ، مستمد من
المذاهب الأربعة وبعضها مستمد من المذهب
الحنفي ، ولم تثبت تلك
على الوتيرة المختارة ، بل بين كل حين وآخر
يصدر لها مذكرة تفسيرية
وأخرى إلغائية واستبدالها برأي آخر وهكذا .
7- والخلاصة من هذا العرض وغيره للمراحل التي
مرت بها هذه
الفكرة هي ما يلي :
__________
(1) ليس في الإسلام طائفة تسمى برجال الدين ،
فهذا اصطلاح كنائسي . ولو عبر
الكاتب برجال العلم لكان أولى . وقد حررت هذا
في كتابي (معجم المناهي
اللفظية) .
(2) القضاء في الإسلام : يراد بهذا الاصطلاح
أحكام النكاح وتوابعه .. وهو اصطلاح
مرفوض شرعاً ، وله سوالبه الكثيرة . وقد بسطته
في كتابي (معجم المناهي اللفظية) .
(3) الأحوال الشخصية : يراد بهذا الاصطلاح
أحكام النكاح وتوابعه .. وهو اصطلاح
مرفوض شرعاً ، وله سوالبه الكثيرة . وقد بسطته
في كتابي (معجم المناهي اللفظية) .
(1/22)
أ - إن هذه
الفكرة لم تكن معهودة في صدر الخلافة
الإسلامية حتى
عام 144 هـ .
ب - إن مبدى هذه الفكرة بعد هو عبد الله بن
المقفع أحد الكتاب
الأدباء على ما تقدم بيانه وبيان حاله .
جـ - إن ثلاثة من خلفاء بني العباس وهم : أبو
جعفر المنصور ، وابنه
المهدي ، وحفيده هارون الرشيد ، طلب كل واحد
منهم - على ما يروى -
من الإمام مالك تنفيذ هذه الفكرة فمانع إمامُ
دار الهجرة كلَّ واحد منهم
في تنفيذها بحمل الناس عليها . قال ابن كثير
رحمه الله تعالى : (فكان هذا
من تمام علمه واتصافه بالإنصاف) (1) .
د - إنه لا يعرف للإمام مالك رحمه الله تعالى
منازع في عصره من
العلماء في رده ما دعاه إليه الخليفة .
هـ - إنه بدليل الاستقراء والتتبع ، لا يعرف
لهذه المسألة بين العلماء
والولاة ذكر ولا أثر منذ ذلك التاريخ حتى
أواخر القرن الثالث عشر ، وإلا
فمتعصبة المذاهب منتشرون من بعد انقراض القرون
المفضلة على ما في
القول المفيد للشوكاني (2) .
غير أن برهان الدين بن فرحون المالكي المتوفى
سنة 799 هـ قال
في : " تبصرة الحكام " (3) :
__________
(1) اختصار علوم الحديث ، ص : 30 .
(2) ص : 17 .
(3) تبصرة الحكام بحاشية فتاوى عليش : 1 / 57
.
(1/23)
(وقال أبو بكر
الطرطوشي : أخبرني القاضي أبو الوليد الباجي ،
أن
الولاة كانوا بقرطبة إذا ولوا رجلاً شرطوا
عليه في سجله ألا يخرج عن قول
ابن القاسم ما وجده . قال الشيخ أبو بكر :
وهذا جهل عظيم منهم . يُريد
لأن الحق ليس في شيء معين ، وإنما قال الشيخ
أبو بكر هذا لوجود
المجتهدين وأهل النظر في قضاة ذلك الزمان -
وعد جماعة منهم - ثم قال :
وهذا الذي ذكره الباجي ورد نحوه عن سحنون وذلك
أنه ولى رجلاً القضاء ،
وكان الرجل ممن سمع بعض كلام أهل العراق ،
فشرط عليه سحنون ألا
يقضي إلا بقول أهل المدينة ولا يتعدى ذلك .
قال ابن راشد : وهذا يؤيد
ما ذكره الباجي ويؤيد ما قاله الشيخ أبو بكر .
فكيف يقول ذلك ، والمالكية
إذا تحاكموا فإنما يأتون ليحكم بينهم بمذهب
مالك) . انتهى .
إيقاظ :
وأمام التعصب المذهبي ، أخذ العلماء بتفنيد
ذلك في تضاعيف
مؤلفاتهم ، وفي مؤلفات مستقلة ، منهم : ابن
عبد البر في " جامعه "
والشاطبي في " الاعتصام " وابن القيم في "
الإعلام " وشيخه في مواضع من
كتبه . وأبو شامة في كتابه " المؤمل في الرد
إلى الأمر الأول " والشوكاني في
" القول المفيد " وشيخنا محمد الأمين الشنقيطي
في كتابه " أضواء البيان في
إيضاح القرآن بالقرآن " والفلاني في " إيقاظ
همم أولي الأبصار " وغيرها
كثير .
وإن هذه المؤلفات وما جرى مجراها هي في الجملة
تفيد منع حمل
الناس على مذهب معين أو قول مقنن . والله أعلم
.
و - إنه لما صار التقنين في المجلة المذكورة
صار دركةً أولى لحلول
القانون الفرنسي .
(1/24)
ز - إنه لما
صار تقنين الأحوال الشخصية - على حد اصطلاحهم
- في
أوائل هذا القرن ، لم يستقر على ما حصل عليه
الاتفاق .
ح - إن موحد الجزيرة العربية بعد فرقتها إمام
المسلمين الملك
عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود -
رحمه الله - عرض أمر تلك
الفكرة شورى على علماء المملكة منذ نصف قرن
تقريباً ، فاجتمع رأيه مع
العلماء على ردها رحمة الله تعالى عليهم
أجمعين (1) .
__________
(1) انظر بيان ذلك في رسالة الشيخ عبد الله بن
عبد الرحمن بن بسام عضو هيئة التمييز
بالمنطقة الغربية - المسماة (تقنين الشريعة .
أضراره ومفاسده) .
(1/25)
المطْلَبُ
الثاني :
في بَيَان أوجُه القول بالإلزام مَع بيَان
المصالح
المترتّبة عَليْه ثمَّ اتباعِها بمُناقشتها
وإيضاح المطلب في فصولٍ ثلاثة
(1/27)
الفصل الأول
في أوجه القول بالإلزام
وجه القائلون بالإلزام قولهم به بطائفة من
الأدلة أهمها ما يلي :
1- استدلوا بقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } (1)
الآية .
قالوا : فإن ولي الأمر إذا أمر بما ليس فيه
معصية ، ولا يتعارض مع
أحكام الشريعة ، وجبت طاعته لهذه الآية ،
والإلزام بالتقنين ليس فيه معصية
لا ظاهراً ولا ضمناً ، ولا يتعارض مع الشريعة
بوجه وهو مصلحة رآها الوالي
فيجب الالتزام بما ألزم به .
2- والتقنين قد وجد ما يدل له من فعل السلف ؛
حيث جمع عثمان
رضي الله عنه الناس على مصحف واحد ، وقراءة
واحدة ، وأحرق ما عداه
من المصاحف ، وفيها القراءات الشاذة
والمتواترة . وذلك سداً منه لباب
الخلاف فكذلك هنا .
3- قالوا : الأصل في الشريعة كما ذكره علماء
الأصول : أن تكون
معلومة أو في حكم المعلومة ، لتكون ملزمة ، أي
فينبغي أن يكون ما هنا
كذلك .
__________
(1) الآية رقم 59 من سورة النساء .
(1/29)
4- ثم إن
التقنين يكون باختيار جماعة من علماء العصر
والإجماع
ينعقد بقول الأكثر من أهل العصر في قول
الجمهور والمخالفة شذوذ فهي
مطروحة . إذاً فينبغي الإلزام به .
5- قالوا : ومع هذا فليس هناك دليل يقضي برده
، فهو من المصالح
المرسلة . وقد رآه المسلمون حسناً فهو عند
الله حسن .
ومنها ما يأتي في الفصل بعده :
(1/30)
الفصل الثاني
فيما يترتب على الإلزام من مصَالح
ويندفع به من مفاسد
6- وإنه يترتب على الإلزام بالأحكام المقننة
مصالح ويندفع مفاسد
والشريعة مبنية على جلب المصالح وتكثيرها ودفع
المفاسد وتقليلها ومن
ترتبات هذا الفصل ما يلي :
أ - بالتقنين الملزم به تكون الأحكام الواجبة
التطبيق محددة مبينةً
معروفةً للقاضي والمتقاضي . وذلك أدعى إلى
تحقيق العدالة والتيسير على
الناس ، وأكفل لتحقيق المساواة بينهم ، وطمأنة
نفوسهم بالنسبة للقضاة ،
فلم يكن بدٌّ من وضع الأحكام الشرعية القضائية
على هذا المنوال .
ب - إن عدم التدوين كان سبباً لتهرب بعض
المدعين من المحاكم
الشرعية إلى محاكم فرنسا ، وأن أولئك المدعين
قالوا : " إن العدل غير
مضمون في تحكيم الشريعة الإسلامية " .
ففي هذا تشويه لسمعة البلاد التي تحكم الشريعة
، فيتعين إذاً التدوين
الملزم لدفع هذه المفسدة . إذ المدعين لعدم
ضمان العدل في المحاكم
الشرعية عللوا ذلك بعدم وجود نصوص مدونة
ومعروفة مسبقاً لدى الأطراف
ليلتزموا بها على نحو ما هو معهود في جميع
قوانين العالم .
(1/31)
جـ - إن استباط
الأحكام الفقهية لتطبيق الحكم منها على واقع
القضية يحتاج إلى مهارة علمية ، وملكة قوية ،
ودراية تامة بالكتب ومنزلتها
وتمييز قوي الروايات من ضعيفها ، وهذه المرتبة
وإن توفرت في البعض إلا
أنه يقصر عن بلوغها الأكثر .
د - ثم من المعلوم أن أكثر الفقهيات فيها خلاف
لا بين المذاهب الدائرة
فحسب ، بل خلاف حتى في المذهب نفسه ، فيكون
هناك مجال للحكم في
قضية على أحد القولين أو الأقوال ، والحكم
بقضية أخرى على القول الثاني
أو أحد الأقوال ، ومعنى هذا أن الحكم قد يكون
بالتشهي وفي الإلزام بأحكام
معينة دفع لذلك .
هـ - إنَّهُ يكون قضيتان متماثلتان هذه عند
قاضي بلد ، والثانية عند
قاضي بلد آخر ، فيختلفان في الحكم فيها فينتج
من هذا التباين ، تظلم
ووقيعة في عرض القاضي والقضاء .
و - إنه يقع تجاذب بين حاكم القضية ومدقق
الحكم لا من حيث واقع
القضية ولكن من حيث تطبيق الحكم الشرعي على
واقعها . ففي هذا من
الإضرار كما في سابقه .
فسداً لباب التقول ، وإشغال الجهات بالملاحاة
والمراجعات إلى غير
ذلك من دفع المفاسد وجلب المصالح يجب تقنين
الأحكام والإلزام
بالقضاء بها بحيث لا يجوز تخطيها ولا الحكم
على خلاف موادها .
(1/32)
الفصل الثالث
في مناقشة أوجه الإِلزام على لسان الممانع
هذا وللمانعين من الإلزام مناقشات وإيرادات
على هذه الأوجه ،
وتبيانها على ما يلي :
أولاً : أما الاستدلال بالآية فإنه لا يتجه
لما يلي : وهو أن الله سبحانه
أمر بطاعته وطاعة رسوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وحذف الفعل في طاعة أولي
الأمر ، لأن
طاعتهم إنما تكون فيما فيه طاعة لله ولرسوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله غير
واحد من علماء
التفسير . وكما أن مرد التنازع في الأمر هو
إلى الله وإلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كما
في أخر هذه الآية ، فكذلك الطاعة . وقد جاءت
السنة المطهرة تحدد ذلك
وتبينه من أن الطاعة لولي الأمر إنما تكون
بالمعروف وفيما فيه معروف ،
وهو ما جاءت به الشريعة لا غير . ففي الصحيحين
أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال :
" على
المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا
أن يؤمر بمعصية فإن أمر
بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
وهذه الجمل الشريفة من معتقد أهل السنة
والجماعة كما عقدها
الطحاوي في العقيدة فقال: (1)
(ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وأن
جاروا ، ولا ندعوا عليهم
__________
(1) الطحاوية مع شرحها ص : 428 .
(1/33)
ولا ننزع يداً
من طاعتهم . ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل
فريضةً ما
لم يأمروا بمعصية . وندعو لهم بالصلاح
والمعافاة) . انتهى .
لهذا فإن ولي الأمر إذا أمر وألزم بما فيه
طاعة لله ولرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كجباية
الزكوات مثلاً - وجبت طاعته ولم تجز مخالفته
إذ هذا معروف تجب
طاعته فيه - ولو فرض أن ثمة تنازعاً لوجب رد
أمر ذلك التنازع إلى أمر
الله وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فما وافقهما فهو الطاعة في المعروف
لا يجوز خلافه .
وفي موضع بحثنا هذا لو أمر الإمام وأوجب على
القضاة الحكم بأحد
القولين أو الأقوال في أحكام مناطها الاجتهاد
. وذلك المأمور المتأهل يعتقد
ديناً وشرعاً متحرياً الصواب أن الصحيح مقابل
ما أُلزِمَ به . فهل يجوز فيمن
سبيله كذلك الحكم بما أُلزم به وترك ما يعتقده
؟
قال محمد بني إدريس الشافعي رحمه الله تعالى :
(أجمع الناس على
أنه من استبانت له سنة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له أن يدعها
لقول غيره) .
انتهى .
وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة بيان لهذا عند
ذكر احتجاج المانعين
بهذه الآية . والله أعلم .
ثانياً : أما أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس
على قراءة واحدة
وأحرق باقي القراءات ... إلخ ، فلا بد أولاً
من تصحيح الدليل ، ثم يكون
الدفع ، فمن المعلوم أن القرآن كان مكتوباً
على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، لكنه
كان مفرقاً في العسب واللخاف . ثم إن أبا بكر
رضي الله عنه جمعه في
صحف ، هذا أمر مشهورة أخباره في الصحاح وغيرها
.
(1/34)
وقد ذكر
الطحاوي في العقيدة (1) ، أن مذهب أهل السنة
عدم الجدال
في القرآن وذكر الشارح من معانيه ... إنا لا
نحاول في القراءة الثابتة ، بل
نقرؤه بكل ما ثبت وصح ، وذكر حديث ابن مسعود
رضي الله عنه عند
البخاري في قصة رجل قرأ آية كان رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ
خلافها وفيه قال
ابن مسعود فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت
فعرفت في
وجهه الكراهية وقال : " كلاكما محسن لا
تختلفوا فإن من كان قبلكم
اختلفوا فهلكوا " قال الشارح : فنهى رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن
الاختلاف الذي فيه
جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق
.. ولهذا قال حذيفة
رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه :
أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم
قبلهم ، فجمع الناس
على حرف واحد اجتماعاً سائغا وهم معصومون أن
يجتمعوا على ضلالة
ولم يكن في ذلك ترك لواجب ، إذ كانت قراءة
القران على سبعة أحرف
جائزة لا واجبة رخصةً من الله تعالى وقد جعل
الاختيار إليهم في أي حرف
اختاروه) . انتهى .
فتبين من هذا أن عثمان رضي الله عن إنما جمع
الناس على حرف
واحد لا على قراءة واحدة ، والإجماع منعقد على
جواز الأخذ بالقراءة بكل
قناعة سبعية كما هو معلوم .
قال أبو شامة (2) ظن قوم أن القراءات السبع
الموجودة الآن هي التي
أريدت في الحديث وهو خلاف إجماع أهل العلم
قاطبة .
__________
(1) ص : 290 .
(2) انظر : فتح الباري لابن حجر :
9 /30 .
(1/35)
وقال بعض
المحققين : المراد بكون عثمان رضي الله عنه
جمع الناس
على حرف واحد هي وحدة جنسية لا نوعية ، أي لا
أنه أخذ حرفاً واحداً
وترك بقية الحروف والله أعلم .
وأما إحراق عثمان رضي الله عنه بقية المصاحف
فقد قال الزركشي (1) :
وفي الجملة : إنه أي عثمان رضي الله عنه إمام
عدل غير معاند ولا
طاعن في التنزيل ، ولم يحرق إلا ما يجب إحراقه
، ولهذا لم ينكر عليه أحد
ذلك ، بل رضوه وعدوه من مناقبه ، حتى قال علي
رضي الله عنه : لَوْ وَليت
ما ولى عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل . انتهى .
ومن هذا العرض الموجز لجمع عثمان رضي الله عنه
... يتبين
التصحيح لما عمله عثمان رضي الله عنه ، أما
الاستدلال به فهو قياس مع
وجود عدة فوارق منها ما يلي :
1- إن هذا الجمع الذي جمعه عثمان رضي الله عنه
أجمع الصحابة
رضي الله عنهم عليه فأمضوه ، وأما الإلزام
برأي أو مذهب معين فعامة
أقوالهم وما وقع لهم من الحوادث والاختلاف
فيها تفيد منع ذلك . وسيأتي
بيان طرف من أقوالهم إن شاء الله تعالى في
مقام أدلة المنع .
2- إن عامة القراءات الصحيحة التي لم تنسخ لا
خلاف في وجوب
العمل بها كالقراءة المعتبرة في المصحف ، أما
التقنين أو التدوين للأحكام
الملزم بها - فلا يجوز عند من ألزم بها العمل
بما عدا هذا القول الملزم
به ، والإجماع على خلاف ذلك . قال الخطيب
البغدادي (2) :
__________
(1) البرهان في علوم القرآن 1 / 240 .
(2) الفقيه والمتفقه 1 / 173 .
(1/36)
(باب القول في
أنه يجب اتباع ما سنه أئمة السلف من الإجماع
والخلاف وأنه لا يجوز الخروج عنه .. إذا اختلف
الصحابة رضي الله عنهم
في مسألة على قولين ، وانقرض العصر عليه لم
يجز للتابعين أن يتفقوا على
أحد القولين ، فإن فعلوا ذلك لم يترك خلاف
الصحابة . والدليل عليه : أن
الصحابة أجمعت على جواز الأخذ بكل واحد من
القولين ، وعلى بطلان
ما عدا ذلك ، فإذا صار التابعون إلى القول
بتحريم أحدهما لم يجز ذلك
وكان خرقاً للإجماع) . انتهى .
3- إن المصحف الذي جمع عثمان الناس عليه هو
صواب 100%
لا خطأ فيه وحق لا شك فيه فمن أنكره أو شيئاً
منه فهو كافر بإجماع
المسلمين ، وأما الأحكام الاجتهادية الملزم
بها فلا شك في وجود خطأ فيها
لأنها من اجتهاد غير معصوم والخطأ فيها متحتم
كما هو معلوم .
4- إن هذا الذي جمع عثمان الناس عليه هو من
جنس خصال الكفارة
من أن الإنسان مخير في واحدة منها فاقتصر على
قراءة بحرف واحد كمن
اقتصر فيمن لزمه كفارة على خصلة واحدة منها .
وهذا خلاف الإلزام هنا
فهو في أحد القولين أو الأقوال في مسألة الحق
فيها في أحد القولين أو
الأقوال . وقد أفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر
فقال (1) :
(والحق أن الذي جمع في المصحف هو المتفق على
إنزاله المقطوع
به المكتوب بأمر النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .. وما عدا ذلك من
القراءات فمما كانت القراءة
جوزت به توسعة على الناس وتسهيلاً عليهم فلما
آل الحال إلى ما وقع من
الاختلاف في زمن عثمان رضي الله عنه ، وكفر
بعضهم بعضاً ، اختاروا
__________
(1) فتح الباري 9 / 30 .
(1/37)
الاقتصار على
اللفظ المأذون في كتابته وتركوا الباقي . قال
الطبري : وصار
ما اتفق عليه الصحابة من الاقتصار كمن اقتصر
مما خُير فيه على خصلة
واحدة .. وقد قرر ذلك الطبري وأطنب فيه
وَوَهَّى من خالفه) . انتهى .
ثالثاً : أما أن الأصل في الشريعة أن تكون
معلومة لتكون ملزمة ..
إلخ . فإن صاحب " أضواء البيان " شيخنا محمد
الأمين رحمه الله تعالى أورد
ذلك في مذكرة له فقال في الجواب عنه :
(هذا فيه إجمال مانع من فهم المراد منه ،
فيقال : ما هو المراد بهذا
العلم ؟ الأصل في الشريعة أن تكون معلومة به
لتكون ملزمة عند
علماء الأصول ، فإن كان المراد به ما هو مشهور
عندهم : من أن المطلوب
بالتكليف قصد إيقاع الفعل المأمور به على وجه
الامتثال . وأن ذلك يتوقف
على العلم بما هو مكلف به ، ودون العلم به لا
يكون ملزماً به ، لأن
التكليف بالمجهول لا يصح ، فهذا صحيح ، ولكن
لا علاقة بينه وبين
موضوع البحث ، لأن المكلف بالقضاء الحاكم وهو
عالم أو في حكم
العالم بما هو مكلف به من القضاء .
وإن كان المراد أن الخصوم لا يلزمهم حكم
الحاكم حتى يعلموا ما
كلفهم به الحاكم بعد الحكم عليهم ، فهذا صحيح
أيضاً ، ولكنه أجنبي
من الموضوع .
وإن كان المراد أن حكم الحاكم بالشريعة يشترط
في إلزامه أن يكون
ما يحكم به الحاكم معلوماً عند جميع الخصوم
قبل التحاكم ، فهذا من
موضوع البحث ولكنا لم نفهم وجهه ، ولم نسمع به
عند أحد من أهل
الأصل ولا غيرهم ، ولذلك احتجنا لإيضاح المراد
به ، لأن اشتراط علم
السواد الأعظم بتفاصيل الأحكام التي يحكم لهم
وعليهم بها قبل التحاكم
(1/38)
في الإلزام
بالحكم يحتاج إلى إيضاح وجهه بالدليل .
وبإيضاح وجه هذا يتضح وَجْهُ أعظم الدواعي
للتدوين مع العلم بأن
بعض أهل العلم يمنع هذا النوع من التعليم ،
فلا يجيزون للقضاة الفتوى
للناس في شيء من الأحكام التي من شأنها أن
تعرض بين يدي الحكام
لأجل التحاكم فيها معللين ذلك بأن معرفتهم لما
عند الحكام قبل التحاكم
عون لهم على الفجور والحيل ، لأن الخصم إذا
عرف ما يحكم به الحاكم
للخصم وما يحكم به عليه ، أعانه ذلك على
التوصل إلى الحكم بالباطل
والحيل ، وهذا هو مذهب مالك ونقل عنه غير واحد
أنه ممنوع . وقيل عنه :
إنه مكروه ، وسوى بعضهم بين المنع والكراهة .
ولم نعلم أحداً روى عن
مالك جواز هذا النوع من التعليم . ولم نعلم
أحداً من أصحابه أجازه إلا
ابن عبد الحكم . وحمل بعضهم قول خليل في "
مختصره " : ولم يفت في
خصومه على الكراهة مع اعترافه بأن ظاهر كلامه
المنع . وهو الذي جزم
به ابن عاصم الغرناطي في " تحفته " بقوله :
ومنع الإِفتاء للحكام ... في كل ما يرجع
للخصام
وقال شارحه التاودي في شرحه المسمى " مجلي
المعاصم لبنت فكر
ابن عاصم " ما نصه :
(أي منع إفتاء الحكام في كل ما من شأنه أن
يرجع للخصام من أبواب
المعاملات لما فيه من تعليم الخصوم وإعانتهم
على الفجور لا في أبواب
العبادات أو لمتفقه) . انتهى .
وعبارة غيره : ولا يفتى في الخصومة ، وهو
لمالك وسحنون . وقال ابن
عبد الحكم : لا بأس به ، وبه العمل . وظاهر
المصنف المنع ، وأنه على
(1/39)
التحريم ،
ويحتمل الكراهة ، وعليه حملوا قول خليل : ولم
يفت في
خصومة . وحصل الحطاب في المسألة ثلاثة أقوال :
المنع ، والكراهة ،
والجواز ... انتهى منه .
وقال التسولي في شرحه للتحفة المسمى بالبهجة ،
ممزوجاً في قول
ابن عاصم : في كل ما يرجع للخصام ما نصه : في
كل ما : أي شيء يرجع
للخصام فيه بين يديه من أبواب المعاملات ، لأن
الخصم إذا عرف مذهبهم
تحيل للوصول إليه أو الانتقال عنه . انتهى محل
الغرض منه بلفظه .
وما ذكر بعد هذا من تفصيل فقد تبع فيه بعض
المتأخرين وليس
معروفاً في أصل المذهب ، وإنما المعروف في
مذهب مالك ما ذكرنا ،
وليس غرضنا مناقشة الأقوال في منع ذلك أو
كراهته ، أو جوازه ، وإنما
الغرض عندنا أن كل كلامهم على كل تقدير ،
مُصَرِّحٌ بأن ذلك النوع من
التعليم لا مصلحة فيه البتة ، فضلاً عن كون
العلم بذلك قبل التحاكم
شرطاً لكون الشريعة ملزمة) . انتهى كلامه رحمه
الله تعالى .
وفي تحرير حكم إفتاء القاضي للناس يقول ابن
القيم رحمه الله
تعالى (1) :
(الفائدة السادسة والثلاثون : لا فرق بين
القاضي وغيره في جواز
الإفتاء بما تجوز الفتيا به ، ووجوبها إذا
تعينت ، ولم يزل أمر السلف
والخلف على هذا ، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن
منصب القضاء عند
الجمهور .
فالقاضي مفتٍ ومثبتٌ ومنفذ لما أفتى به .
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 220 .
(1/40)
وذهب بعض
الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي إلى
أنه يكره
للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به
، دون الطهارة والصلاة
والزكاة ونحوها ، واحتج أرباب هذا القول بأن
فتياه تصير كالحكم منه على
الخصم ، ولا يمكن نقضه وقت المحاكمة . قالوا :
ولأنه قد يتغير اجتهاده
وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند
الإفتاء فإن أصر على فتياه
والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته . وإن
حكم بخلافها طرق
الخصم إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم
بخلاف ما يعتقده ويفتي به ،
ولهذا قال شريح : أنا أقضي لكم ولا أفتي ،
حكاه ابن المنذر ، واختار
كراهية الفتوى في مسائل الأحكام . وقال الشيخ
أبو حامد الإسفرائيني :
لأصحابنا في فتواه - أي القاضي - في مسائل
الأحكام جوابان ؛ أحدهما :
أنه ليس له أن يفتي فيها ، لأن لكلام الناس
عليه مجالاً ، ولأحد الخصمين
عليه مقالاً . والثاني : له ذلك ؛ لأنه أهل
له) . انتهى .
رابعاً : أما أن التقنين الملزم به يكون
اختيار أحكامه باتفاق أكثر
مجتهدي العصر فيكتسب الإجماع فيقال : إن
الإجماع لا ينعقد بقول
الأكثرين من أهل العصر في قول جمهور أهل العلم
. قال ابن قدامه رحمه
الله تعالى (1) :
فصل : ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل
العصر في قول
الجمهور ، وقال محمد بن جرير وأبو بكر الرازي
وقد أومأ إليه أحمد رحمه
الله تعالى .
ووجهه : أن مخالفة الواحد شذوذ ، وقد نهى عن
الشذوذ ، وقال عليه
__________
(1) روضة الناظر ، ص : 71 .
(1/41)
السلام : "
عليكم بالسواد الأعظم " (1) وقال : " الشيطان
مع الواحد ، وهو من
الاثنين أبعد " . ولنا : أن العصمة إنما تثبت
للأمة بكليتها وليس هذا إجماع
الجميع ، بل هو مختلف فيه ، وقد قال الله
تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ
الآخِرِ } . وقال تعالى :
{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } . انتهى .
ويقال أيضاً : هذه مجالس أهل العلم وطلابه
ينعقد الاجتماع فيها
لدراسة بعض من مباحث العلم ومطالبه ، ثم ينقضي
الاجتماع وهم
مختلفون غالباً فكيف يمكن اجتماع طائفة منهم
على تدوين مئات
المسائل ، بل الالآف منها ويكون الرأي فيها
واحداً بالإجماع منهم ، وهذا
متعذر بالإجماع في مجمع علمي يحمل ممثلوه
الشروط والسمات التي
تؤهلهم لذلك ، مبعدين لعامل المجاملة وانطواء
الضعيف تحت سلطان
القوي والله المستعان (2) .
خامساً : أما أنه ليس للمانعين دليل يقضي برد
الإلزام . فسيأتي إن شاء
__________
(1) هذا الحديث : عليكم بالسواد الأعظم . رواه
ابن ماجه من حديث أنس رضي الله
عنه قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول : " إن أمتي لا تجتمع
على ضلالة ، فإذا رأيتم
اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم " وفي الزوائد
(.. في إسناده : أبو خلف الأعمى
واسمه : حازم بن عطاء ، وهو ضعيف . وقد جاء
الحديث بطرق في كلها نظر ، قاله
شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي) .
وقد رواه أحمد في مسنده موقوفاً من قول أبي
أمامة رضي الله عنه 4 / 278 وموقوفاً
أيضاً من قول عبد الله بن أبي أوفى رضي الله
عنه 4 / 382 .
(2) ووازن بهذا المبحث ما ذكره العلامة محمد
سعيد الباني في كتابه (عمدة التحقيق
في التقليد والتلفيق ، ص : 44 - 46 فهو مهم) .
(1/42)
الله تعالى في
ذكر أدلة المانعين ما يفيد لهم المنع من عامة
طرق الأدلة .
أما حديث : ما رآه المسلمون حسناً .. الحديث .
فإنه لا يثبت مرفوعاً
إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
. قال العجلوني (1) : رواه أحمد في كتاب "
السنة " وليس في
مسنده كما وُهم . انتهى .
والعجلوني رحمه الله تعالى هو الواهم فإن
الحديث في مسند أحمد
أيضاً (2) . والذي عليه عامة حفاظ الأثر أن
هذا الحديث إنما يصح موقوفاً
من قول ابن مسعود رضي الله عنه . قال ابن
القيم رحمه الله تعالى (3) : (وهو
ثابت موقوفاً على ابن مسعود رضي الله عنه)
انتهى .
وقال أيضاً (4) : (إن هذا الحديث ليس من كلام
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وإنما
يضيفه في كلامه من لا علم له في الحديث ،
وإنما هو ثابت عن ابن
مسعود قوله . ذكره الإِمام أحمد وغيره ،
موقوفاً ، ثم ذكر الحديث) . انتهى .
وإذا لم يصح مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يصح الاستدلال به
مرفوعاً .
والله أعلم .
سادساً : لما ذكر أنه بالتقنين تتحقق مصالح
وتندفع مفاسد فمناقشتها
على ترتيبها المتقدم على ما يلي :
أ - أما عن الأولى .. فإنه من المعلوم لدى
الخاص والعام أن دين
__________
(1) كشف الخفاء : (2 / 245) ورقم الحديث :
2214 .
(2) المسند ، 1 / 379 .
(3) إعلام الموقعين .
(4) الفروسية ، ص : 60 .
(1/43)
الله دين
الإسلام صالح لكل زمان ومكان وأنه مر على
الإسلام عصور
مختلفة وأطوار متباينة ، منها عصور تطور
واتساع حتى كانت الدولة العباسية
تشمل القارات الثلاث وكانت أبواب الحكومات
الفقهية كلها نافذة وأمرها
راشد وهكذا في سائر عصوره وأدواره ومع ذلك فقد
تحققت العدالة بتحكيم
الشريعة ، وانتشر اليسر وارتفع الحرج والعسر ،
وفي هذه الأجيال المختلفة
المتعاقبة وأمام تلك الاختلافات والتطورات
والزيادة والنقص لا يعرف عن
واحد من الأئمة المعتبرين وجوب إلزام القضاة
في أحكامهم بمذهب أو
رأي معين ، بل لما أدلى بها بعض الخلفاء
العباسيين ولعله من تأثير بعض
الأدباء فامتنع إمام دار الهجرة من الإجابة
إليها وحاشاه أن يوقع الناس في
ضيق على حد قولهم ، وهو يجد له في الشريعة
مدفعاً . وهذا التعليل هو
ما أبداه ابن المقفع فلا يقال إنه احتجاج جديد
أو مصلحة تجددت ولن
يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها .
هذا وإن لنا من واقع غيرنا المشاهد دليلاً
ونظراً وهو أن البلاد الغربية
التي تسير أحكامها على أساس القانون الوضعي لم
ترتفع شقة الخلاف
فيها وهكذا في البلدان التي قننت فيها الأحوال
الشخصية وحددت موادها
وأحكامها لم يرتفع ذلك عنها وهذه مجلات
المحاماة ودوائر النقض والإبرام
تعاني من ذلك الشيء الكثير . فماذا صنع
التقنين . إذاً فما طريق تحقيق
تلك المصلحة لعل في الجواب عن الفقرة الرابعة
بعدُ بياناً لهذا .
ب - أما الجواب عن الفقرة (ب) فقد أورد هذا
الاعتراض العلامة
شيخنا محمد الأمين رحمه الله تعالى في جوابه
على المذكرة الإيضاحية
في ذلك وأجاب عليه وأنا أذكر هنا كلامه بطوله
لنفاسته وغزارة مادته ، قال
رحمه الله : (فإنا لم نفهم من هذا الكلام
شيئاً يشوه سمعة البلاد ، لأنا نرى
(1/44)
أن المتبادر
منه هو الثناء العظيم والمدح البليغ لهذه
البلاد ، لأنه لا شك
أن مرادهم بالعدل الذي ليس بمضمون فيها هو
التحاكم إلى الطاغوت كما
أوضحوا ذلك بقولهم : على نحو ما هو معهود في
جميع العالم ، لأن
المعهود في جميع العالم لا يخرج حرف واحد منه
البتة عن حكم
الطاغوت ، وذلك الذي سموه عدلاً ونفوا ضمانه
في هذه البلاد الذي هو
التحاكم إلى الطاغوت هو عين الكفر وأعظم أنواع
الظلم والجور والحيف .
والحقائق لا تتغير بتغيير العناوين .
والسعودية وكل مسلم قد أمرهم ربهم في كتابه
بالكفر بما سماه أولئك
عدلاً لما قال تعالى : { يُرِيدُونَ أَنْ
يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ
أُمِرُوا أَنْ
يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ
يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } . وقد جعل
الله تعالى
الكفر به شرطاً في الاستمساك بالعروة الوثقى ،
قال : { فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
ومفهومه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك
بالعروة الوثقى وهو
كذلك فأي تشويه للسمعة في كون الكفر والجور
والحيف الذي عبروا عنه
باسم العدل ليس مضموناً في المحاكم السعودية
أعاذها الله من ذلك
العدل ، فنفيه عنها في الحقيقة مدح وثناء .
وهو في الواقع حلقة من السلسلة المشهورة عند
الأوربيين ومن سار
في ركابهم من الطعن في هذه البلاد بسبب بقائها
وحدها معلنة التمسك
بنور السماء ، كالرجعية والتأخر والجمود
والوحشية وكبت الحرية ونحو ذلك .
ولا شك أن من هذا النوع قول هؤلاء المتحاكمين
إلى محاكم باريس
(إن العدل غير مضمون في المحاكم السعودية) ومن
المعلوم أنه ليس
(1/45)
مرادهم بالعدل
معناه الحقيقي ولا مجرد التدوين ، لأنهم لا
يرون في شرع
الإسلام إنصافاً أصلاً ولو كانوا يرونه فيه
لاتبعوه ، ولما سموا إقامة الحدود
وحشية ولا سموا المنع من الفوضى الخلقية
والعمالية والإباحية على ضوء
الدين السماوي كبت حرية كما هو واضح ، ولا
يعقل كون التدوين وحده
عدلاً بقطع النظر عن ما هو مدون كما لا يخفى ،
وبالجملة فإن العدل
المذكور إنما لم يكن مضموناً في محاكم هذه
البلاد ، لأن الكفر به من
أصول دينها .
ومما يوضح أنهم ليس مرادهم بالعدل مجرد
التدوين إيضاحاً لا لبس
فيه أن كل إنسان يعتقد نظاماً من الأنظمة
جوراً وظلماً لا يقتنع بمجرد حسن
عبارات ذلك النظام وإيضاحها وسهولة منهجها
وحسن ترتيبها وهذا
ضروري ، ولا شك معه أن العبرة بنفس المدون لا
ينضبط ، وحسن التدوين
وعلى كل حال فمما لا مجال للشك فيه أن هؤلاء
الذين فروا من المحاكم
الإسلامية بدعوى أن العدل ليس مضموناً فيها ،
وذهبوا يطلبون العدل
المضمون في محاكم باريس أنهم لا يريدون إلا
النظام الوضعي الذي هو
زبالات أذهان الكفرة ، وقد أوضحوا ذلك غاية
الإيضاح في قولهم : على
نحو ما هو معهود في جميع العالم .
ولهذا لم نفهم وجه كون كلامهم هذا تشويهاً
لسمعة الإسلام أو
المسلمين حتى يكون ذلك داعياً إلى معالجته
بالتدوين ، ورضي الله عن
حسان بن ثابت في الرد على ذم الكفار للمسلمين
:
ما أبالي أنب بالحزن تيس ... أم لحاني عن ظهر
غيب لئيم
ومما لا مجال للشك فيه أيضاً أن الذين يعلنون
التحاكم إلى وحي الله
(1/46)
الذي أنزله على
رسوله متسببون بذلك في توجيه أنواع الشتائم
وفنون الأذى
من كل من يتحاكمون إلى الطاغوت وهم سكان
المعمورة في جميع
نواحيها إلا من شاء الله ، فهم جديرون جداً
بالاستعداد الكامل للصبر
الجميل الذي لا تزعزعه عواصف الباطل ولهم بذلك
أعظم الأجر عند الله
وأحسن الأسوة في رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه في صبرهم على أذى
المشركين
واليهود كما قال تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ
تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ
عَزْمِ الأُمُورِ } ...
وإن كان أولئك الباريزيون قالوا إن محاكم
فرنسا أعدل من محاكم
المسلمين ، فللمسلمين أسوة حسنة في النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه
حين قال اليهود
إن كفار مكة المكرمة أهدى منهم سبيلاً وأنزل
الله في ذلك قوله تعالى :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا
نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ
بِالجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ
وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ
أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا .
أُولَئِكَ الَّذِينَ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } .
والواقع يشهد بكذب دعوى هؤلاء المتحاكمين إلى
محاكم باريس كما
يشهد به جميع من لم يكتم الحق في جميع نواحي
المعمورة ، لأن بلاد
هذه المحاكم التي نفوا ضمان العدل عنها يوجد
فيها من العدالة والطمأنينة
الكاملة على حفظ الأنفس والعقول والأنساب
والأموال والأعراض ما لا
يوجد معشار عشره في باريس ولا في غيرها ، وفي
كل موسم حج تأتي وفود
الحجيج من جميع أقطار الدنيا ، وكثرة أعدادهم
الهائلة لا يخفى ، فيسعهم
جميعاً العدل والإنصاف والرخاء والطمأنينة ،
وحفظ جميع ما يهمهم ، وذلك
كلّه بفضل الله ثم بعدالة هذا النظام السماوي
الذي تسير عليه هذه البلاد
التي زعم الباريزيون أن العدل أقرب في محاكم
باريس منه في محاكمها .
انتهى .
(1/47)
وقال الأستاذ
علاَّل الفاسي ، في معرض بيانه أن خوف
المسلمين من
انتقاد الأجانب والمثقفين - في تحكيم الشريعة
- وهمٌ موروث . قال (1) :
(وهي هزة يجب أن لا نفزع منها ، بل يجب أن
نعتبرها بمثابة خفقة
القلب التي تحصل لمن يخرج وحده في الظلام
أحياناً ؛ عبارة عن ضعف
الأعصاب وعدم الإرادة ، سرعان ما تزول إذا
تذكر الخائف أن الليل والنهار
سيان بالنسبة لحركة الإنسان وسكونه ، وأنه ليس
هنالك كما يعلم هو يقيناً
طارئ ولا تشكل من الكائنات ، إن هي إلا أوهام
وخزعبلات ، وكما
يشتد عزم ذلك الخائف . فيتحدى أوهامه ، كذلك
يجب أن يشتد عزم
الذين يضعفون خوف الاتهام بالرجعية ، فيعلمون
أن ذلك مجرد خزعبلات
موروثة عن الاستعمار ومن إيحاء رجاله) . انتهى
.
جـ - أما الفقرة الثالثة التي مفادها عدم بلوغ
كثير من القضاة رتبة
الاجتهاد ولو في مذهب إمامه فيقال ليعلم أولاً
أن مذهب الجمهور منهم
مالك والشافعي وأحمد والظاهرية وبعض الحنفية
هو شرطية توفر الاجتهاد
فيمن يولى للقضاء (2) وذلك بأن يكون عارفاً
بالأصول التي ترجع الأحكام
إليها لا أن يكون عالماً حكم كل قضية بعينها .
انتهى . ثم أن أهل العلم
قدروا حالة ضعف ذلك مثلاً فقرروا أن ما يشترط
في القاضي من الاجتهاد
والعدالة يجب تولية من وجدت فيه دون سواه .
وهكذا يولي الأمثل فالأمثل ومن توفرت فيه
الشروط على من دونه ولم
يذكروا اللجوء إلى الإلزام برأي أو مذهب معين
لا يجوز تعديه ولو كان
__________
(1) انظر كتابه : دفاع عن الشريعة ، ص : 255 .
(2) انظر : المغني 11 / 382 ، والمحلى 9 / 442
.
(1/48)
ذلك في صالح
البشر في أي زمان أو مكان وهو الأمر المهم
الذي يتعلق
بتحكيم الشريعة في دماء الناس وأموالهم
لبيَّنه الله سبحانه المحيط علمه
بكل شيء . بل من رأفته قوله تعالى : { لَا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
.
وقوله : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ } . وأمثالها كثير من الآيات ،
قال شيخ
الإسلام ابن تيميه رحمه الله (1) : وكذلك ما
يشترط في القضاة والولاة يجب
فعله بحسب الإمكان ، بل وسائر العبادات من
الصلاة والجهاد وغير ذلك ،
فكل ذلك واجب مع القدرة فأما مع العجز فإن
الله لا يكلف نفساً إلا
وسعها إلى آخر كلامه رحمه الله .
ثم إنه من واقع هذه البلاد إنه يتخرج في كل
عام عدد غير قليل من
كليات العلوم الشرعية التي فيها تدرس جملة
العلوم الشرعية من الكتاب
والسنة وعلومهما والفقه وأصوله مما لو طبق على
ما ذكره الأئمة في شرطية
الاجتهاد وبيانه لوجد ذلك مطابقاً أو مقارباً
. وإنه وإن أصاب البعض قصور
علمي فهو نتيجة للعجز البشري وما يكون في
البعض فلا يسري حكمه
على الكل . والعجز البشري أمر ملازم في غالب
الناس معهود في تعلم
سائر العلوم الإسلامية سوء كان الدارسون
مسلمين أم غير مسلمين ، وهذا
مما يدل على أن كمال القوى والقدر لا يتصف بها
إلا واهبها سبحانه ،
لكن الذي ينبغي بل يتحتم هو حسن الاختيار
والاجتهاد فيه وتولية الاختيار
إلى أهله المدركين الناصحين لله ورسوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأئمة المسلمين
وعامتهم .
وهكذا يكون علاج ذلك عن طريق السنة واقتفاء
الأثر والترسم لما كان عليه
الصدر الأول والتابعون لهم بإحسان ، ثم يقال
على سبيل التنزل : إذا جاز
هذا في حق من ذكرت حاله فما العمل في من هو
أهل للاجتهاد ، فهل
__________
(1) مجموع الفتاوى 28 / 388 .
(1/49)
يلزم الجميع أم
يجري التمييز بين من يلزم من غيره أم ماذا ؟
.. ثم إن
تطبيق الحكم الشرعي على الكثير الأغلب من
الخصومات والقضايا يعد من
أوائل المعلومات الشرعية بوجود نص قطعي على
أنه متى وردت مشكلة
قضائية وجب بذل الوسع والطاقة من البحث
والاستشارة متحرياً الصواب ثم
يكون إجراء الحكومة . وقد ذكر شيخ الإسلام
رحمه الله ذلك فقال (1) :
(ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل
عليه الكتاب والسنة كان
هو الواجب ، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو
عجز الطالب أو تكافؤ
الأدلة عنده أو غير ذلك فله أن يقلد من يرتضي
علمه ودينه هذا أقوى
الأقوال ، وقد قيل ليس له التقليد بكل حال ،
وقيل له التقليد بكل حال
والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وغيره) انتهى .
د - وأما أن في الإلزام بمذهب معين دفعاً
للحكم بالتشهي : فيقال إن
من شرط تولية القاضي للقضاء العدالة عند
جماهير العلماء ، بل حكى
اتفاق الأئمة عليه شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه
الله (2) قال : وسئل بعض
العلماء إذا لم يوجد من يولى القضاء إلا عالم
فاسق أو جاهل فأيهما
يقدم ؟ فقال : إن كانت الحاجة إلى الدين أكثر
لغلبة الفساد قدم الدين ،
وإن كانت الحاجة إلى العلم أكثر لخفاء
الحكومات قدم العالم . وأكثر
العلماء يقدمون الدين ، فإن الأئمة متفقون على
أنه لا بد في المتولي أن
يكون عدلاً أهلاً للشهادة ، واختلفوا في
اشتراط العلم وذكره) . انتهى .
ومن المعلوم أن حكم القاضي في قضية هو في تلك
فلا يعم حكمه
فيها جميع العالمين . ومن المعلوم أن حكم
الحاكم ينفذ ظاهراً لا باطناً ،
__________
(1) مجموع الفتاوى ، 28 / 388 .
(2) مجموع الفتوى ، 28 / 259 .
(1/50)
لأن القاضي
عرضة للخطأ وهو مأجور على كلا الحالين ، وهذا
سيد الأولين
والآخرين يقول إنكم تختصمون إلي ... الحديث ،
فالقاضي إذا حكم في
خصومة لديه بحكم اجتهادي على أحد القولين أو
الأقوال . وفي قضية
أخرى حكم بالقول الثاني فيها مُبيناً وجه
عدوله عن القول الأول ، فلا ينبغي
علينا التثريب عليه ، فإن حكمه الأول هو لتلك
القضية فلا يسري على
غيرها وحكمه في كلا القضيتين نافذ ظاهراً
والله أعلم .
قال الموفق رحمه الله (1) : (وروى أن عمر حكم
في المشركة بإسقاط
الإخوة من الأبوين ثم شرك بينهم بعد وقال تلك
على ما قضينا ، وهذه على
ما نقضي وقضى بالجد بقضايا مختلفة ولم يرد
الأولى ، ولأنه يؤدي إلى نقض
الحكم بمثله ، وهذا يؤدي إلى ألا يثبت الحكم
أصلاً ، لأن الحكم الثاني
يخالف الذي قبله والثالث يخالف الثاني فلا
يثبت حكمه) . انتهى .
وقال البيهقي في سننه (2) باب من اجتهد من
الحكام ثم تغير اجتهاده
أو اجتهاد غيره فيما يسوغ فيه الاجتهاد ولم
يرد ما قضى به ، وذكر آثاراً منها
أثر عمر المتقدم ذكره .
هذا ما ينبغي أمام من صار فيه شيء من ذلك على
فرض وقوعه ، فإنه
ظاهراً مجتهد في عين ذلك الحكم متحر للحق
والله تعالى يتولى بواطن
الأمور ، والكل مؤمن حق الإيمان بالمراحل
الإنسانية وما فيها من الوعد لمن
أطاع والوعيد لمن عصى وحكم بالهوى ، وفي
الحديث الصحيح عن بريدة
رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " القضاة ثلاثة
اثنان في النار وواحد
في الجنة " وفيه " رجل عرف الحق فلم يقض به
وجار في الحكم فهو في
__________
(1) المغني 9 / 57 .
(2) السنن الكبرى 10 / 120 .
(1/51)
النار " .
الحديث رواه الأربعة والحاكم وصححه . ونحن
نضرع إلى الله أن
يوجد بين علماء المسلمين من هذه حاله وصفته
قال شيخ الإسلام ابن
تيميه رحمه الله (1) : (فالمفتي والجندي
والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب
اجتهادهم اجتهاداً أو تقليداً - قاصدين لاتباع
الرسول بمبلغ علمهم لا
يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين وإن كانوا قد
أخطئوا خطأً مجمعاً
عليه ، وإذا قالوا إنا قلنا الحق واستدلوا
بالأدلة الشرعية لم يكن لأحد من
الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله ولا يحكم بأن
الذي قاله هو الحق دون
قولهم .. كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل
المذاهب لا يقول أحد أنه
يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه
حاكماً فإن هذا
ينقلب فقد يصير الآخر حاكماً فيحكم بأن قوله
هو الصواب إلى آخر كلامه
رحمه الله تعالى .
هـ - أما وجود قضيتين متماثلتين واختلاف
حكمهما فيقال إنه يكون
هناك قضيتان متماثلتان ظاهراً لا عند قاضيين
فحسب ، بل عند قاضٍ واحد
فيختلف الحكم فيهما اختلافاً جوهرياً عكسياً
فيبدوا لمن هو بعيد عن
مجرى تلك الحكومتين أن هذا من الظلم لكن من
تذوق القضاء وتروى
بمعرفة ملابسات الخصومات وما يحيط بها أبدى
التوقف عند ذلك . إذ لا
تكون القضيتان متماثلتين من كل وجه ، بل يكون
توفر في هذه من الوجوه
والدلائل ما يقضي بأن يكون حكمها على خلاف تلك
القضية التي يظن
مشابهتها بها من كل وجه . وخلاصة ما يظن منه
وجود تضارب في القضاء
هو منحصر في واحد من الوجوه الأربعة التالية :
1- قضيتان مماثلتان في الظاهر لكن أحاط بكل
واحدة منهما ما
__________
(1) مجموع الفتاوى ، 25 / 379 .
(1/52)
يوجب أن يكون
الحكم على خلاف الظاهر فاختلفتا حكماً فهذا
عين
العدل .
2- قضيتان متماثلتان من كل وجه عند قاضي واحد
فقضى فيهما بآن
واحد بحكمين مختلفين فهذا ممتنع شرعاً وواقعاً
. ولو فرض وقوعه فالعدالة
تأخذ مجراها في الحاكم وحكمه .
3- قضيتان متماثلتان عند قاضي واحد وقضى فيهما
بزمنين بحكمين
مختلفين عن اجتهاد ونظر أوضحه في حكمه وبرهن
عليه حيث اقتضى فيه
الرجوع عن رأيه الأول إلى الرأي المقابل ،
فهذا سائغ شرعاً كما وقع في
ذلك عدة قضايا لعمر وغيره من الصحابة رضي الله
عنهم فلا تثريب إذاً .
4- قضيتان متماثلتان من كل وجه فقضى بهما
قاضيان في بلدين مع
الاختلاف في الحكم ، فهذا لا مانع منه ما دام
أن كل واحد أخذ برأي
مأثور مجتهداً فيه متحرياً الحق ، وهذا هو
الذي منع الإمام مالك من العمل
على خلافه وقال في مقاله ابن كثير وهذا من
تمام علمه واتصافه
بالإنصاف (1) .
1- أما أن يقع تجاذب بين القاضي وهيئة تمييز
الأحكام : فيقال إن
التجاذب في ذلك غالباً ما يكون في فهم واقع
القضية ، فهذا الأخذ والرد
فيما لم يمحص حتى يجري تمحيصه وتصحيح المفاهيم
فيه وهذا النوع
هو الأغلب الأكثر ولا سلطان للبحث فيه هنا .
وأما الاختلاف في الفهم
للرأي المختار فقهاً في تطبيقه على قضية ما
فإن ذلك الحكم أمام جهة
النقض والإبرام على أنواع .
__________
(1) الباعث الحثيث ، ص : 30 .
(1/53)
منها : أن يكون
الحكم على وفق نص قطعي الثبوت والدلالة فهذا
لا
يجوز نقضه بحال .
منها : أن يكون الحكم على خلاف ذلك فهذا يجب
نقضه ولا يجوز
إبرامه بحال .
ومنها : أن يكون الحكم مسرحاً للاجتهاد فهذا
لا يجوز نقضه إذ يؤدي
نقضه إلى الدور والاضطراب وقد حكى الإجماع على
ذلك غير واحد منهم
الخطيب في الفقه والمتفقه (1) والآمدي في
الأحكام (2) ، والقرافي في
الإحكام (3) ، قال الآمدي المسألة الثامنة :
اتفقوا على أن حكم الحاكم لا
يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم
، فإنه لو جاز نقض
حكمه إما بتغير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر
لأمكن نقض الحكم بالنقض ،
ونقض النقض إلى غير نهاية ، ويلزم من ذلك
اضطراب الأحكام وعدم
الوقوف بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب
الحاكم لها إلى
آخر كلامه رحمه الله . وقال الخطيب : ولأن في
نقض الحكم فساداً لكونه
ذريعة إلى تسليط الحكام بعضهم على بعض فلا
يشاء حاكم يكون في
قلبه على حاكم شيء إلا تعقب حكمه بنقض فلا
يستقر حكمه ، ولا يصح
لأحد ملك ، وفي ذلك فساد عظيم . انتهى . والله
أعلم .
__________
(1) جزء 2 ، ص : 65 .
(2) 4 / 203 .
(3) ص : 66 ، 67 .
(1/54)
المطْلَبُ
الثَّالث
في أدلة المنع من الإلزام
مع بيان المضار المترتبة على القول بالإلزام
والكلام في هذا المطلب يترتب في فصلين
(1/55)
الفصل الأول
في أدلة المنع من الإلزام
وهي من الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقواعد
الجوامع باختبار
النتيجة وغيرها من القواعد المألوفة ، والأصول
المعروفة . ومنها ما يلي :
أولاً : أن الله سبحانه وتعالى أمر عند
التحاكم أن يحكم بالقسط فقال
لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
: { فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ
عَنْهُمْ
فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالقِسْطِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ
المُقْسِطِينَ } .
والقسط : العدل ، والمقسطون : العادلون ، فإذا
كان القول الملزم به
قد ظهر للقاضي من وجهه الأدلة الشرعية ، أن
الصحيح مقابل ذلك القول
الملزم به : صار القسط والعدل في أن يحكم وفق
معتقده لا بما أُلزم به
ولكل مجتهد أجر اجتهاده .
ثانياً : إن الله سبحانه بين المرجع عند
التنازع وهو الرد إلى الله تعالى
وإلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ
ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (2) .
__________
(1) الآية رقم 42 من سورة المائدة .
(2) الآية رقم 56 من سورة النساء .
(1/57)
فالرد إلى الله
: هو الرد إلى كتاب الله سبحانه ، والرد إلى
رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد مماته .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى
على هذه الآية (1) : (والله
سبحانه قد أمر في كتابه عند التنازع بالرد إلى
الله والرسول ، ولم يأمر عند
التنازع إلى شيء معين أصلاً) . انتهى .
وقال تلميذه ابن القيم رحمه الله تعالى (2) :
(فمنعنا سبحانه من الرد
إلى غيره وغير رسوله ، وهذا يبطل التقليد ،
وقال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ
اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ ... } .
وقوله : { وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا المُؤْمِنِينَ
وَلِيجَةً } .
ولا وليجة أعظم ممن جعل رجلاً بعينه مختاراً
على كلام الله وكلام رسوله
وكلام سائر الأمة - يقدمه على ذلك كله .)
انتهى .
وقال البيهقي رحمه الله تعالى في سننه (3) :
(باب ما يقضي به القاضي
ويفتي به المفتي فإنه غير جائز له أن يقلد
أحداً من أهل دهره ، ولا أن
يحكم أو يفتي بالاستحسان) . ثم ساق رحمه الله
الآية المتقدمة وقال :
وقال الشافعي رحمه الله تعالى : فإن تنازعتم
في شيء - والله أعلم -
هم وأمراؤهم الذين أمروا بطاعتهم ، فردوه إلى
الله والرسول ؛ يعني والله
أعلم : إلى ما قاله الله والرسول . وقال تعالى
: { أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى } وقال الشافعي : فلم يختلف أهل العلم
بالقرآن فيما علموا : أن
__________
(1) كتاب محنة ابن تيمية ، ص : 10 .
(2) إعلام الموقعين ، 2 / 170 .
(3) السنن الكبرى ، 10 / 113 .
(1/58)
السُّدى الذي
لا يؤمر ولا ينهى . ومن أفتى أو حكم بما لم
يؤمر به فقد أجاز
لنفسه أن يكون من معاني السدى) . انتهى .
وقال ابن حبان رحمه الله تعالى (1) : (الواجب
على كل من ركب فيه
العلم : أن يرعى أوقاته على حفظ السنن رجاء
اللحوق بمن دعا لهم النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إذ الله
جل وعلا أمر باتباع سنته وعند التنازع الرجوع
إلى ملته حيث
قال : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } . ثم
نفى الإيمان
عمن لم يحكمه فيما شجر بينهم فقال : { فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا
قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ولم يقل حتى
يحكموا فلاناً وفلاناً فيما شجر بينهم . ولا
قال : حرجاً مما قال فلانٌ وفلان .
فالحكم بين الله عز وجل وبين خلقه : رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط . فلا
يجب
لمن أشعر الإيمان قَلْبَه أن يُقصر في حفظ
السنن بما قدر عليه حتى يكون
رجوعه عند التنازع إلى قول من لا ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلنا
الله منهم بمنه) . انتهى .
وينتظم ما ذكره هؤلاء الأجلة من العلماء ما
بسطه ابن القيم في تفسير
هذه الآية إذ يقول (2) : وقال تعالى : {
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ وَلَا
تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } فأمر باتباع
المنزل منه خاصة :
واعْلَم أن من اتبع غيره فقد اتبع من دونه
أولياء .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي
الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
__________
(1) كتاب : المجروحين 1 / 5 .
(2) إعلام الموقعين 1 / 48 - 51 .
(1/59)
بِاللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلًا } . فأمر تعالى بطاعته وطاعة
رسوله ، وأعاد الفعل إعلاماً بأن طاعة الرسول
تجب استقلالاً من غير
عَرْضِ ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر
وجَبَتْ طاعته مطلقاً ، سواء كان
ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه ، فإنه
أوتي الكتابَ ومثلَه معه ، ولم
يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً ، بل حذف
الفعل وجعل طاعتَهم في ضمن
طاعة الرسول ، إيذاناً بأنهم إنما يُطاعون
تبعاً لطاعة الرسول ، فَمَنْ أمرَ
منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومَنْ أمرَ
بخلاف ما جاء به الرسول فلا
سَمْع له ولا طاعة كما صح عنه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : " لا طاعةَ
لمخلوقٍ في معصية
الخالق " . وقال : " إنما الطاعة في المعروف "
وقال في ولاة الأمر : " مَنْ
أمركم منهم بمعصية الله فلا سَمْعَ له ولا
طاعة " وقد أخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن الذين
أرادوا دخولَ النار لما أمرهم أميرُهم بدخولها
: " إنهم لو دَخلوا لما خَرَجوا
منها " مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة
لأميرهم ، وظناً أن ذلك واجب
عليهم ، ولكن لما قَصَّروا في الاجتهاد
وبادَرُوا إلى طاعة مَنْ أمَرَ بمعصية
الله وحَمَلوا عموم الأمر بالطاعة بما لم
يُرِدْه الآمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وما قد علم من بينه
إرادةُ خلافِهِ ، فقصَّروا في الاجتهاد
وأقْدَمُوا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها
من غير تثبُّت وتبيُّن هل فلا طاعة لله ورسوله
أم لا ، فما الظن بمنْ أطاع
غيرَه في صريح مخالفة ما بَعَث الله به رسولَه
؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع
فيه المؤمنون إلى الله ورسوله إن كانوا مؤمنين
، وأخبرهم أن ذلك خير لهم
في العاجل وأحسن تأويلاً في العاقبة .
وفد تضمن هذا أموراً : منها أن أهلَ الإيمان
قد يتنازعون في بعض
الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان ، وقد
تنازع الصحابة في كثير من
مسائل الأحكام ، وهم سادات المؤمنين وأكمل
الأمة إيماناً ، ولكن بحمد
الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل
الأسماء والصفات والأفعال ،
(1/60)
بل كلهم على
إثبات ما نطق الكتابُ والسنة كلمةً واحدة ، من
أولهم إلى
آخرهم ، لم يَسُوموها تأويلاً ، ولم
يُحَرِّفوها عن مواضعها تبديلاً ، ولم يبدوا
لشيء منها إبطالاً ، ولا ضربوا لها أمثالاً ،
ولم يَدْفَعُوا في صدورها
وأعجازها ، ولهم يقل أحد منهم يجب صرْفها عن
حقائقها وحملها على
مجازها ، بل تَلَقَّوها بالقَبُول والتسليم ،
وقابلوها بالإيمان والتعظيم ، وجعلوا
الأمر فيها كلها أمراً واحداً ، وأجرَوْها على
سَنن واحد ، ولم يفعلوا كما فعل
أهل الأهواء والبدَع حيث جعلوها عِضين ،
وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من
غير فُرْقان مبين ، مع أن اللازم لهم فيما
أنكروه كاللازم فيما أقروا به
وأثبتوه .
والمقصود أن أهل الإِيمان لا يُخْرِجُهم
تنازعُهم في بعض مسائل
الأحكام عن حقيقة الإيمان إذا رَدُّوا ما
تنازعوا فيه إلى الله ورسوله كما
شرطه الله عليهم بقوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَاليَوْمِ الآخِرِ } ولا رَيْب أن الحكم
المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه .
ومنها : أن قوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي
شَيْءٍ } نكرة في سياق الشرط تعم
كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين
دِقّّه وجِلِّه ، جَلِيَه وخَفِيه ، ولو
لم يكن في كتاب الله ورسوله بيانُ حكم ما
تَنَازعوا فيه لم يأمر بالردّ إليه ،
إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع
إلى مَنْ لا يوجَد عنده فَصْلُ
النزاع .
ومنها : أن الناس أجمعوا أن الرد إلى الله
سبحانه هو الرد إلى كتابه ،
والرد إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى
سنته بعد وفاته .
ومنها : أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ
الإيمان ولوازمه ، فإذا انْتَفى هذا
(1/61)
الرد انتفى
الإيمان ، ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه
، ولا سيما التلازم
بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين ، كل منهما
ينتفي بانتفاء الآخر ، ثم
أخبرهم أن هذا الرد خيرٌ لهم ، وأن عاقبته
أحْسنُ عاقبة ، ثم أخبر سبحانه
أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به
الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فقد حكَّم الطاغوتَ
وتحاكم إليه ، والطاغوت : كُلُّ ما تجاوز به
العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع
أو مُطَاعٍ ، فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون
إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه
من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من
الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون
أنه طاعة الله ، فهذه طواغيت العالم إذا
تأملتَها وتأملت أحوالَ الناس معها
رأيت أكثرهم (عَدَلُوا) من عبادة الله إلى
عبادة الطاغوت ، وعن التحاكم إلى
الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت ،
وعن طاعته ومتابعة رسوله
إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ، وهؤلاء لم يسلكوا
طريقَ الناجينَ الفائزين من
هذه الأمة - وهم الصحابة ومن تبعهم - ولا
قَصدُوا قَصْدَهم ، بل خالفوهم
في الطريق والقصد معاً .
ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم
تَعَالوا إلى ما أنزل الله
وإلى الرسول أعْرَضوا عن ذلك ، ولم يستجيبوا
للداعي ، ورَضُوا بحكم
غيره ، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة
في عقولهم وأديانهم وبصائرهم
وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به
الرسولُ وتحكيم غيره
والتحاكم إليه كما قال تعالى : { فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ
اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } اعتذروا بأنهم إنما
قصدوا الإحسان والتوفيق ، أي بفعل ما
يرضي الفريقين ويوفق بينهما كما يفعله من يروم
التوفيق بين ما جاء به
الرسول وبين ما خالفه ، ويزعم أنه بذلك محسن
قاصد الإصلاح والتوفيق ،
والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء
به الرسول وبين كل ما خالفه
من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي ، فمحض
الإِيمان في هذه الحرب
(1/62)
لا في التوفيق
، وبالله التوفيق .
ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن
العباد حتى يحَكِّمُوا
رسولَه في كل ما شَجَر بينهم من الدقيق
والجليل ، ولم يكتف في إيمانهم
بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم
الحَرَجُ والضّيق عن قضائه
وحكمه ، ولم يكتف منهم أيضاً بذلك حتى يسلموا
تسليماً ، وينقادوا
انقياداً .
وقال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا
أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ } فأخبر سبحانه أنه ليس لمؤمن أن
يختار
بعد قضائه وقضاء رسوله ، ومَنْ تخير بعد ذلك
فقد ضَلَّ ضلالاً مبيناً .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ
عَلِيمٌ } أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا تأمروا
حتى
يأمر ، ولا تُفتُوا حتى يفتي ، ولا تقطعوا
أمراً حتى يكون هو الذي يحكم فيه
ويُمْضِيه ، روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
رضي الله عنهما : لا
تقولوا خِلافَ الكتاب والسنة ، وروى العوفي
عنه قال : نُهُوا أن يتكلموا بين
يدي كلامه .
والقول الجامع في معنى الآية لا تعجلوا بقول
ولا فعل قبل أن يقول
رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أو يفعل .
وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ
كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمَالُكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } فإذا كان رَفْعُ
أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم
فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم
ومعارفهم على ما جاء به
(1/63)
ورفعها عليه ؟
أليس هذا أولى أن يكون مُحْبِطاً لأعمالهم ؟ .
وقال تعالى : { إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ
عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى
يَسْتَأْذِنُوهُ } فإذا جعل من لوازم الإيمان
أنهم
لا يذهبون مذهباً إذا كانوا معه إلا باستئذانه
فأولى أن يكون من لوازمه أن
لا يذهبوا إلى قول ولا مذهب علمي إلا بعد
استئذانه . اهـ .
فترتب من هذا الدليل أن الرد إلى قول مقنن أو
مذهب معين ملزم به
هو رد إلى اجتهاد غير معصوم وبالتالي فلا يكون
رداً محققاً إلى كتاب الله
تعالى وسنة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فكيف يتأتى الإلزام به ؟ .
ثالثاً : إن مبنى الشهادتين على تجريد الإخلاص
لله تعالى وتجريد
المتابعة لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وفي التقنين المُلْزم : توهين
لتجريد توحيد الاتباع
وخدش لحماه ، إذ أن حكم القاضي على خلاف ما
يعتقده تقديم لقول
غير المعصوم على ما يعتقده عن المعصوم ، والله
تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } (1) ، ويقول
سبحانه { يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ
أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } (2) .
والقلب الذي يعقد
حكماً على غير مراد الله ومراد رسوله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بقلب سليم فهو
على خطر عظيم
إذا قدم على الله تعالى وهو كذلك .
وفي ضوء هاتين الآيتين يوضح ابن القيم رحمه
الله تعالى هذا المعنى
فيقول (3) :
__________
(1) الآية رقم 1 من سورة الحجرات .
(2) الآية رقم 88 من سورة الشعراء .
(3) إغاثة اللهفان 1 / 7 - 8 .
(1/64)
... وقد اختلفت
عبارات الناس في معنى القلب السليم ، والأمر
الجامع : أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف
أمر الله ونهيه ، ومن كل
شبهة تعارض خبره فسلم من عبودية ما سواه ،
وسلم من تحكيم غير رسوله .
فسلم في محبة الله مع تحكيمه لرسوله ، في خوفه
ورجائه ، والتوكل عليه ،
والإنابة إليه ، والذل وإيثار مرضاته في كل
حال ، والتباعد من سخطه بكل
طريق . وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح
إلا لله وحده .
فالقلب السليم : هو الذي سلم من أن يكون لغير
الله فيه شرك بوجه
ما ، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى : إرادة ،
ومحبة ، وتوكلاً ، وإنابة ،
واخباتاً وخشية ، ورجاء ، وخلص عمله لله . فإن
أحب أحب في الله ، وإن
أبغض أبغض في الله ، وإن أعطى أعطى لله ، وإن
منع منع لله .
ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم
لكل من عدا رسوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فيعقد
قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء
به وحده ، دون
كل أحد في الأقوال والأعمال ، من أقوال القلب
: وهي العقائد ، وأقوال
اللسان : وهي الخبر عما في القلب . وأعمال
القلب : وهي الإرادة والمحبة
والكراهة وتوابعها . وأعمال الجوارح . فيكون
الحاكم في ذلك كله دِقِّه
وجلِّه : هو ما جاء به الرسول صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فلا يتقدم بين يديه
بعقيدة ولا قول ولا
عمل كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ
اللَّهِ
وَرَسُولِهِ } ، أي لا تقولوا حتى يقول ، ولا
تفعلوا حتى يأمر . قال بعض
السلف : ما من فعلة - وإن صغرت - إلا ينشر لها
ديوانان : لِمَ ؟ وكيف ؟
أي : لم فعلت ؟ ... وكيف فعلت ؟ .
فالأول : سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه :
هل هو حظ عاجل من
حظوظ العامل ، وغرض من أغراض الدنيا في محبة
المدح من الناس أو
(1/65)
خوف ذمهم ، أو
استجلاب محبوب عاجل ، أو دفع مكروه عاجل . أم
الباعث على الفعل : القيام بحق العبودية ،
وطلب التودد والتقرب إلى الرب
سبحانه وتعالى ، وابتغاء الوسيلة إليه .
ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل
هذا الفعل لمولاك ،
أم فعلته لحظك وهواك ؟
والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة
والسلام في ذلك
التعبد ، أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك
على لسان رسولي ، أم
كان عملاً لم أشرعه ولم أرضه ؟ .
فالأول سؤال عن الإخلاص ، والثاني عن المتابعة
، فإن الله سبحانه
لا يقبل عملاً إلا بهما .
فطريق التخلص من السؤال الأول : بتجريد
الإخلاص . وطريق
التخلص من السؤال الثاني : بتحقيق المتابعة ،
وسلامة القلب من إرادة
تعارض الإخلاص ، وهوىً يعارض الاتباع . فهذا
حقيقة سلامة القلب الذي
ضمنت له النجاة والسعادة . انتهى .
رابعاً : أن الله سبحانه وتعالى قد قطع الخيرة
في أمره وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
فقال تعالى (1) : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ
يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }
.
وعليه فإن التقنين الملزم به وهو من اجتهاد
غير معصوم - فيه قطع
للخيرة فيه . وهذا إلحاق مقدوح فيه بالقادح
المسمى بفساد الاعتبار وهو
__________
(1) الآية رقم 36 من سورة الأحزاب .
(1/66)
الإلحاق مع
الفارق - فبطل الإلزام إذاً لوجود الخيرة فيه
.
وقد كشف عن هذا العلامة ابن قيم الجوزية رحمه
الله تعالى في
تفسيره لهذه الآية فقال (1) : (فقطع سبحانه
وتعالى التخيير بعد أمره وأمر
رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فليس لمؤمن أن يختار شيئاً بعد أمره صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بل إذا أمر
فأمره
حتم ، وإنما الخيرة في قول غيره إذا خفي أمره
. وكان ذلك الغير من أهل
العلم به وبسنته ، فبهذه الشروط يكون قول غيره
سائغ الاتباع لا واجب
الاتباع . فلا يجب على أحد اتباع قول أحد سواه
، بل غايته أنه يسوغ له
اتباعه ، ولو ترك الأخذ بقول غيره ، لم يكن
عاصياً لله ورسوله ، فأين هذا
ممن يجب على جميع المكلفين اتباعه ويحرم عليهم
مخالفته ، ويجب
عليهم ترك كل قول لقوله ، فلا حكم لأحد معه
ولا قول لأحد معه كما لا
تشريع لأحد معه ، وكل من سواه فإنما يجب
اتباعه على قوله : هذا أمر بما
أمر به ، ونهى عما نهى عنه ، فكان مبلغاً
محصناً ومخبراً لا منشئاً ومؤسساً ،
فمن أنشأ أقوالاً وأسس قواعد بحسب فهمه
وتأويله ، لم يجب على الأمة
اتباعها ولا التحاكم إليها حتى تعرض على ما
جاء به ، فإن طابقته ووافقته
وشهد لها بالصحة قبلت حينئذٍ ، وإن خالفته وجب
ردها واطراحها . وإن لم
يتبين فيها أحد الأمرين جعلت موقوفة . وكان
أحسن أحوالها : أن يجوز
الحكم والاقتداء بها وتركه ، وأما أنه يجب
ويتعين فكلاَّ ولمَّا) .
خامساً : ما رواه الأربعة والحاكم من حديث
بريدة رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " القضاة ثلاثة : اثنان في النار
، وواحد في الجنة .
وفيه : رجل عرف الحق فلم يقض به وجار في الحكم
فهو في النار "
الحديث .
__________
(1) زاد المعاد 1 / 4 - 5 .
(1/67)
ففيه بيان
الوعيد للقاضي إذا حكم على خلاف ما يعتقده
حقاً لأنه
عمل محرم . ولا خلاف في تحريمه عند أهل العلم
. قال شيخ الإسلام
ابن تيميه رحمه الله تعالى : (ويجب على القاضي
أن يعمل بموجب اعتقاده
فيما له وعليه إجماعاً) انتهى .
وعلى هذا فالحاكم إذا استبان له رجحان مقابل
قول ملزم به فحكم
به على خلاف معتقده دخل في الوعيد . والله
أعلم .
وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى (1) : (قال
الشافعي : وإذا قاس من
له القياس واختلفوا وسع كلاً أن يقول بمبلغ
اجتهاده فلم يسعه اتباع غيره
فيما أداه إليه اجتهاده) . انتهى .
سادساً : أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن ، وسأله
كيف يقضي
قال : بكتاب الله ، قال له رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فإن لم يكن في
كتاب الله "
قال : فبسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قال : " فإن لم يكن في
سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ "
قال : اجتهد رأيي ولا آلوا ، قال : فضرب رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال
: " الحمد لله
الذي وفق رسولَ رسولِ الله إلى ما يرضي رسول
الله " .
فلم يرد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ معاذاً عن طريق الاجتهاد ، بل أقره
على سلوك
طريق الاجتهاد . والاجتهاد يكون بالمقايسة
الجليه ، والرجوع إلى القواعد
الشرعية ، وهذا النوع الذي مناط الخلاف فيه :
هو الاجتهاد الذي تقدم
حكاية الإجماع فيه أنه لا يجوز نقضه بحال
ويأتي أيضا حكاية الإجماع
في منع الإلزام به . ماذا كان الأمر كذلك فإن
الإلزام بمذهب معين فيه رد
لشيء معين سوى الكتاب والسنة ، والرسول صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيد معاذاً
بالرجوع إلى
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2 /
60 .
(1/68)
الاجتهاد
بعدهما والتباين في هذا من الظهور بمكان ، قال
الخطابي في
شرح السنن (1) : (وفيه دليل على أنه ليس
للحاكم أن يقلد غيره فيما يريد
أن يحكم به وإن كان المقلد أعلم منه وأفقه حتى
يجتهد فيما يسعه منه ،
فإن وافق رأيه واجتهاده أمضاه وألا توقف عنه
لأن التقليد خارج عن هذه
الأقسام المذكورة في الحديث) . انتهى .
سابعاً : إن هذا الحجر والإلزام بقول مقنن أو
رأي معين لم يسبق
الحمل عليه في صدر الإسلام ولا في القرون
المفضلة ، فلا يعلم من
هدي الصحابة رضوان الله عليهم مع مشاركتهم في
العلم والمشاورة مع
بعضهم لبعض إلزام واحد منهم للآخر بقوله ، بل
المعروف المعهود بالنقل
عنهم خلافه . قال أبو عمر بن عبد البر في
جامعه (2) وعن عمر رضي الله
عنه أنه لقي رجلاً فقال ما صنعت ، فقال قضى
عليّ وزيد بكذا فقال : لو
كنت أنا لقضيت بكذا قال : فما يمنعك والأمر
إليك ؟ قال : لو كنت أردك
إلى كتاب الله أو إلى سنة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفعلت ولكني أردك
إلى رأي
والرأي مشترك ، قال ابن عبد البر فلم ينقض ما
قال علي وزيد وهذا كثير
لا يحصى . انتهى .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله (3) :
(وعمر بن الخطاب رضي
الله عنه قد قال النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إنه قد كان قبلكم في
الأمم محدثون فإن يكن
أحد في أمتي فعمر " وروى أنه ضرب الحق على
لسانه وقلبه وقال : " لو
لم أبعث فيكم لبعث عمر " ومع هذا فما كان يلزم
أحداً بقوله ولا يحكم
__________
(1) معالم السنن 5 / 212 .
(2) جامع بيان العلم وفضله 2 / 59 .
(3) مجموع الفتاوى 35 / 384 .
(1/69)
في الأمور
العامة ، بل كان يشاور الصحابة ويراجع ، فتارة
يقول قولاً فترده
عليه امرأة فيرجع إليها وذكر القصة . ثم قال
وكان في مسائل النزاع مثل
مسائل الفرائض والطلاق يرى رأياً ويرى علي بن
أبي طاب رأياً ويرى
عبد الله بن مسعود رأياً ويرى زيد بن ثابت
رأياً ، فلم يلزم أحداً أن يأخذ
بقوله ، بل كان منهم يفتي بقوله وعمر رضي الله
عنه أمام الأمة كلها
وأعلمهم وأدينهم وأفضلهم ، فكيف يكون واحد من
الحكام خيراً من عمر) .
انتهى .
وقال ابن القيم في الإعلام (1) في معرض رده
على المقلدة ، وأيضاً فإنا
نعلم أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ
رجلاً منهم يقلده في
جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً وأسقط أقوال
غيره ، فلم يأخذ منها شيئاً ،
ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين
ولا تابعي التابعين
إلخ ... وقال أيضاً (2) .
وأما هدي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم
يكن منهم شخص
واحد يقلد رجلاً واحداً في جميع أقواله ويخالف
من عداه من الصحابة
بحيث لا يرد من أقواله شيئاً ولا يقبل من
أقوالهم شيئاً وهذا من أعظم البدع
إلخ ... .
وقال أيضا (3) : (ومن المعلوم بالضرورة أن
الصحابة لم يكونوا يعرضون
ما يسمعون من رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوال علمائهم ، بل لم
يكن لعلمائهم
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 189 .
(2) إعلام الموقعين 2 / 209 .
(3) إعلام الموقعين 2 / 211 .
(1/70)
قول غير قوله
ولم يكن أحد منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه
على موافقة
موافق أو رأي ذي رأي أصلاً ، وكان هذا هو
الواجب الذي لا يتم الإيمان
ألا به وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر
المكلفين إلى يوم القيامة . ومعلوم
أن هذا الواجب لم ينسخ بعد موته ، ولا هو مختص
بالصحابة فمن خرج
عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه الله ورسوله)
. انتهى .
وقال أيضاً في معرض رده على المقلدة (1) :
(وأيضاً فإنا نعلم أنه لم
يكن في عصر الصحابة رضي الله عنهم رجل واحد
اتخذ رجلاً منهم يقلده
في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئاً ، وأسقط
أقوال غيره فلم يأخذ منها
شيئاً . ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر
التابعين ولا تابعي
التابعين ، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك
سبيلهم الوخيمة في القرون
الفضيلة على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وإنما حدثت هذه البدعة
في القرن
الرابع المذموم على لسان رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فالمقلدون
لمتبوعهم في جميع
ما قالوا يبيحون به الفروج والدماء والأموال ،
ويحرمونها ولا يدرون إذ ذلك
صواب أم خطأ - على خطر عظيم ، ولهم بين يدي
الله موقف شديد يعلم
فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن
على شيء) .
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله تعالى في الرد
على المقلدة من واحد
وثمانين وجهاً في نحو تسعين صحيفة من كتاب : "
إعلام الموقعين " (2) .
وهي بجملتها تنسحب على مطلب إقامة الأدلة على
المنع من إلزام
القاضي بمذهب معين أو قول مقنن . ومما قاله في
ذلك رحمه الله
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 189 .
(2) 2 / 189 - 265 .
(1/71)
تعالى (1) :
(هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته :
إن هذا هو
دين الله الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه
وشرعه لعباده ولا دين له سواه ؟
أو تقول : إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه
؟ .
أو تقول : لا أدري ؟ .
ولا بدَّ لك من قول من هذه الأقوال ، ولا سبيل
لك إلى الأول قطعاً ،
فإن دين الله الذي لا دين له سواه لا تسوغ
مخالفته ، وأقل درجات مخالِفه
أن يكون من الآثمين . والثاني لا تدعيه ، فليس
لك ملجأ إلا الثالث فيالله
العجب ! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال
والحقوق وتحلل وتحرم بأمر
أحسن أحواله وأفضلها : لا أدري ؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري
فالمصيبة أعظم (2) .
اهـ .
ثامناً : إنه وقعت نازلة في خلافة معاوية رضي
الله عنه فكتب بها
معاوية رضي الله عنه إلى عامله أسيد بن حضير ،
فمانعه أسيد فيها ووقف
كل عند ما علمه .
وذلك فيما رواه النسائي (3) ، والحاكم (4) ،
وأحمد (5) ، بأسانيدهم عن
ابن جريج قال: (ولقد أخبرني عكرمة بن خالد أن
أسيد بن حضير
__________
(1) إعلام الموقعين 2 / 191 .
(2) وانظر في هذا المبحث : إعلام الموقعين 4 /
377 ، وبدائع الفوائد 3 / 156 .
(3) سنن النسائي 2 / 233 .
(4) المستدرك 2 / 36 .
(5) المسند 4 / 226 .
(1/72)
الأنصاري - ثم
أحد بني حارثة - أخبره أنه كان عاملاً على
اليمامة ، وأن
مروان كتب إليه ، إن معاوية كتب إليه : أنه
أيما رجل سرق منه سرقة فهو
أحق بها حيث وجدها ، ثم كتب بذلك مروان إليَّ
. وكتبت إلى مروان أن
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى
بأنه إذا كان الذي ابتاعها (يعني السرقة) من
الذي سرقها
غير متهم ، يخير سيدها ، فإن شاء أخذ الذي سرق
منه بثمنها ، وإن شاء
اتبع سارقه . ثم قضى بذلك أبو بكر وعمر وعثمان
. فبعث مروان بكتابي
إلى معاوية ، وكتب معاوية إلى مروان : إنك لست
أنت ولا أسيد تقضيان
عليّ ولكن أقضي فيما وليت عليكما ، فأنفذ لما
أمرتك به . فبعث مروان
بكتاب معاوية ، فقلت : لا أقضي به ما وليت أي
- بما قال معاوية)
انتهى (1) .
تاسعاً : وكما أن هذا هو هَدي السلف وعمل
القرون المفضلة من
عدم إلزام الناس بقول واحد وحملهم عليه ، فقد
صرح بحكاية الإجماع
عليه غير واحد منهم شيخ الإسلام ابن تيميه في
مواضع : كما في مجموع
الفتاوى 35 / 357 ، 360 ، 365 ، 372 ، 373 ،
وجلد
27 / 296 - 297 . وجلد 30 / 79 .
وتلميذه العلامة ابن القيم في " إعلام
الموقعين 2 / 217 " .
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لما سئل عمن
ولي أمراً من أمور
المسلمين ومذهبه لا يجوز شركة الأبدان فهل
يجوز له منع الناس ؟ .
فأجاب : ليس له منع الناس من مثل ذلك ولا من
نظائره مما يسوغ
فيه الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نص من كتاب
ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا
__________
(1) السلسلة الصحيحة للألباني 2 / 164 .
(1/73)
ما هو في معنى
ذلك .. إلخ) (1) .
وقال أيضاً (2) : (ولي الأمر إن عرف ما جاء به
الكتاب والسنة حكم بين
الناس به ، وإن لم يعرفه وأمكنه أن يعلم ما
يقول هذا ، وما يقول هذا ،
حتى يعرف الحق حكم به ، وإن لم يمكنه لا هذا
ولا هذا ترك المسلمين
على ما هم عليه كل يعبد الله حسب اجتهاده ،
وليس له أن يلزم أحداً
بقبول قول غيره وأن كان حاكماً .
وإذا خرج ولاة الأمور عن هذا فقد حكموا بغير
ما أنزل الله ووقع
بأسهم بينهم .. وهذا من أعظم أسباب تغير الدول
، كما قد جرى مثل هذا
مرة بعد مرة في زماننا وغير زماننا . ومن أراد
الله سعادته جعله يعتبر بما
أصاب غيره ، فيسلك مسلك من أيده الله ونصره ،
ويجتنب من خذله الله
وأهانه .. إلخ) .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) : (الأمور
المشتركة بين الأمة لا يحكم
فيها إلا الكتاب والسنة ، ليس لأحد أن يلزم
الناس بقول عالم ولا أمير ولا
شيخ ولا ملك ، وحكام المسلمين يحكمون في
الأمور المعينة لا يحكمون
في الأمور الكلية ، وإذا حكموا بالمعينات
فعليهم أن يحكموا بما في كتاب
الله فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن لم يجدوا
اجتهد الحاكم
رأيه) . انتهى .
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في معرض
نعيه على من قدم
__________
(1) مجموع الفتاوى 30 / 79 .
(2) مجموع الفتاوى 35 / 387 - 388 .
(3) انظره بواسطة : طريق الوصول للشيخ عبد
الرحمن السعدي ص : 209 .
(1/74)
أقوال
المتأخرين على أقوال الصحابة رضي الله عنهم ،
وألزم بها (1) .
لا يدري ما عذره غداً عند الله إذا سَوَّى بين
أقوال أولئك وفتاويهم
وأقوال هؤلاء وفتاويهم ، فكيف إذا رجحها عليها
؟
فكيف إذا عيَّن الأخذ بها حكماً وإفتاء ، وضع
الأخذ بقول الصحابة ،
واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها ، وشهد
عليه بالبدعة والضلالة
ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام ؟
تالله لقد أخذ بالمثل المشهور: " رمتني بدائها
وانْسَلَّت " وسمى ورثة
الرسول باسمه هو ، وكساهم أثوابه ، ورماهم
بدائه ، وكثير من هؤلاء يصرخ
ويصيح ويقول ويعلن : أنه يجب على الأمة كلهم
الأخذ بقول من قلدناه
ديننا ، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي وغيرهم من
الصحابة .
هذا كلامٌ من أَخَذَ به وتقلَّده ولاه الله ما
تولَّى . ويجزيه عليه يوم القيامة
الجزاء الأوفى . والذي ندين الله به ضد هذا
القول والرد عليه ...) (2) .
عاشراً : لا خلاف في أنه لا يجوز أن يقلد
القضاء لواحد على أن
يحكم بمذهب معين قال ابن قدامة رحمه الله
تعالى (3) :
(فصل : ولا يجوز أن يقلد القضاء لواحد على أن
يحكم بمذهب بعينه
وهذا مذهب الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً لأن
الله تعالى قال : { فَاحْكُمْ
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 118 - 119 .
(2) وانظر أيضاً إعلام الموقعين 2 / 363 .
(3) المغني 9 / 106 .
(1/75)
بَيْنَ
النَّاسِ بِالحَقِّ } . والحق لا يتعين في
مذهب ، وقد يظهر له الحق في
غير ذلك المذهب ، فإن قلده على هذا الشرط بطل
الشرط ، وفي فساد
التولية وجهان بناء على الشروط الفاسدة في
البيع) . انتهى .
وحكى الخلاف بنحوه الماوردي الشافعي في "
الأحكام السلطانية " (1)
والقاضي أبو يعلى الحنبلي في " الأحكام
السلطانية " (2) وقال :
(ويجوز لمن يعتقد مذهب أحمد أن يقلد القضاء من
يعتقد مذهب
الشافعي لأن للقاضي أن يجتهد رأيه في قضائه ،
ولا يلزمه أن يقلد (*) في
النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه) . انتهى
.
ومعنى هذا أن من وُلِّي على أن لا يحكم إلا
بقول مقنن فإنه لا يجوز
له تنفيذ هذا الشرط سواء بسواء ، بل ذهب
المحققون من أهل العلم إلى
بطلان شرط الواقف إذا شرط وقفه على من أخذ
بقول فقيه معين وفي بيان
بطلان شرط الوقف وتولية القاضي على هذا الشرط
يقول ابن القيم رحمه
الله تعالى (3) :
(ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من
ترك الواجب عليه ،
من طلب النصوص ومعرفتها ، والتفقه في متونها ،
والتمسك بها إلى الأخذ
بقول فقيه معين يترك لقوله قول من سواه ، بل
يترك النصوص لقوله ، فهذا
شرط من أبطل الشروط .
وقد صرح أصحاب الشافعي وأحمد رحمهما الله
تعالى بأن الإمام إذا
__________
(1) ص : 78 .
(2) ص : 47 .
(3) إعلام الموقعين 4 / 185 .
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة : في الأصل :
[ولا يلزمه أن يقلده] والتصويب من "الأحكام
السلطانية" للماوردي
(1/76)
شرط على القاضي
أن لا يقضي إلا بمذهب معين بطل الشرط ولم يجز
له التزامه . وفي بطلان التولية قولان مبنيان
على بطلان العقود بالشروط
الفاسدة .
وطَرْدُ هذا أن المفتي متى شرط عليه ألا يفتي
إلا بمذهب معين بطل
الشرط .
وطرده أيضاً أن الواقف متى شرط على الفقيه أن
لا ينظر ولا يشتغل
إلا بمذهب معين بحيث يهجر كتاب الله وسنة
رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وفتاوي الصحابة
ومذاهب العلماء ، لم يصح هذا الشرط قطعاً .
ولا يجب التزامه . بل ولا
يسوغ) .
وقال أيضاً في " جلاء الأفهام " (1) :
(روى أبو داود في مراسيله عن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى بيد بعض
أصحابه
قطعة من التوراة فقال : " كفى بقوم ضلالة أن
يتبعوا كتاباً غير كتابهم أنزل
على غير نبيهم) . فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك
: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى
عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
فهذا حال من أخذ دينه عن كتاب منزل على غير
النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف
بمن
أخذه عن عقل فلان وفلان . وقدمه على كلام الله
ورسوله ؟) .
وقال رحمه الله تعالى في معرض بيان الفروق
الشرعية من كتابه
الروح (2) :
__________
(1) ص : 98 .
(2) ص : 276 ، 277 .
(1/77)
والفرق بين
الحكم المنزل الواجب الاتباع والحكم المؤول
الذي غايته
أن يكون جائز الاتباع أن الحكم المنزل هو الذي
أنزله الله على رسوله
وحكم به بين عباده وهو حكمه الذي لا حكم له
سواه .
وأما الحكم المؤول فهو أقوال المجتهدين
المختلفة التي لا يجب
اتباعها ولا يكفر ولا يفسق من خالفها فإن
أصحابها لم يقولوا هذا حكم
الله ورسوله ، بل قالوا اجتهدنا برأينا فمن
شاء قبله ومن شاء لم يقبله ، ولم
يلزموا به الأمة قال أبو حنيفة هذا رأيي فمن
جاءني بخير منه قبلناه . ولو
كان هو عين حكم الله لما ساغ لأبي يوسف ومحمد
وغيرهما مخالفته فيه ،
وكذلك مالك استشاره الرشيد أن يحمل الناس على
ما في الموطأ ، فمنعه
من ذلك ، وأنه قد تفرق أصحاب رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البلاد وصار
عند كل
قوم علم غير ما عند الآخرين ، وهذا الشافعي
ينهى أصحابه عن تقليده
ويوصيهم بترك قوله إذا جاء الحديث بخلافه ،
وهذا الإمام أحمد ينكر على
من كتب فتاواه ودونها ويقول لا تقلدني ولا
تقلد فلاناً ولا فلاناً وخذ من
حيث أخذوا ولو علموا رضي الله عنهم أن أقوالهم
يجب اتباعها لحرموا على
أصحابهم مخالفتهم ولما ساغ لأصحابهم أن يفتوا
بخلافهم في شيء ، ولما
كان أحدهم يقول القول ثم يفتي بخلافه فيروى
عنه في المسألة القولان
والثلاثة وأكثر من ذلك فالرأي والاجتهاد أحسن
أحواله أن يسوغ اتباعه ،
والحكم المنزل لا يحل لمسلم أن يخالفه ولا
يخرج عنه .
وأما الحكم المبدل وهو الحكم بغير ما أنزل
الله فلا يحل تنفيذه ولا
العمل به ولا يسوغ اتباعه وصاحبه بين الكفر
والفسوق والظلم .
والمقصود التنبيه على بعض أحوال النفس
المطمئنة واللوامة والأمارة
وما تشترك فيه النفوس الثلاثة وما يتميز به
بعضها من بعض وأفعال كل
(1/78)
واحدة منها
واختلافها ومقاصدها ونياتها وفي ذلك تنبيه على
ما وراءه ، وهي
نفس واحدة تكون أمارة تارة ولوامة أخرى
ومطمئنة أخرى ، وأكثر الناس
الغالب عليهم الأمارة ، وأما المطمئنة فهي أقل
النفوس البشرية عدداً
وأعظمها عند الله قدراً وهي التي يقال لها : {
ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي .
وَادْخُلِي جَنَّتِي } .
والله سبحانه وتعالى المسؤول المرجو الإجابة
أن يجعل نفوسنا مطمئنة
إليه عاكفة بهمتها عليه راهبة منه راغبة فيما
لديه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا وأن لا يجعلنا ممن أغفل قلبه
عن ذكره واتبع هواه وكان
أمره فرطاً ولا يجعلنا من الأخسرين أعمالاً :
{ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعًا } إنه سميع الدعاء وأهل
الرجاء
وهو حسبنا ونعم الوكيل . انتهى .
الحادي عشر : وهو أن التقنين أو المذهب الملزم
به سواء كان بعمل
واحد أو باختيار جماعة ، لا بد أن يقع فيه خطأ
، إذ العصمة لا تتحقق
إلا للأنبياء فالإلزام بها إلزام بما يعتقد
أنه بمجموعة ليس صواباً بل لا بد
فيه من وقوع خطأ . وقد قال الشافعي رحمه الله
تعالى : أجمع المسلمون
على أنه من استبانت له سنة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس له أن يدعها
لقول أحد
سواه .
وحصر ذلك بالدليل الأصولي العظيم : وهو دليل
السبر والتقسيم أن
يقال : إنه بالتقسيم لهذا تبين انحصاره في
ثلاثة أوجه ، وتبين بسبر أوصافه
أن اثنين منها سلبيان وواحد إيجابي ولا بد
فيقال :
1- إن أحكام التقنين الملزم به كلها صواب لا
خطأ فيها .
2- إن أحكام التقنين الملزم به كلها خطأ لا
صواب فيها .
(1/79)
3- إن أحكام
التقنين الملزم به كلها فيها خطأ وصواب .
أما الأول فمتعذر لأنه تأليف عالم أو علماء
والعالم قد يزل ولا بد إذ
ليس بمعصوم ومن ليس بمعصوم لا يلزم قبول كل ما
يقوله . هذا
بالإجماع .
وأما الثاني : فلا يصح فهذان وجهان سلبيان .
وأما الثالث : فهو الإيجابي ، وهل هما
متساويان أم أحدهما مغالب
للآخر كل ذلك محتمل وقد علم أن العصمة غير
متحققة لانقطاعها مع
عالم النبوة والأنبياء ، وما كتب الله العصمة
لكتاب سوى كتابه { وَلَوْ كَانَ
مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلَافًا كَثِيرًا } فلا بد إذاً من وجود
خطأ في
الأحكام الاجتهادية الملزم بها بالخطأ خلاف
الحق وما هو خلاف الحق
لا يجوز قبوله ومالا يجوز قبوله حرم الأخذ به
وما حرم الأخذ به فيحرم
الإلزام به من باب أولى فوجب منع فرضه إذاً .
والله أعلم . قال ابن القيم
رحمه الله تعالى في أعلام الموقعين (1) بعد
نقول كثيرة نقلها عن ابن عبد
البر قلت : والمصنفون في السنة قد جمعوا بين
فساد التقليد وإبطاله وبيان
زلة العالم ليبينوا فساد التقليد وأن العالم
قد يزل إذ ليس بمعصوم فلا يجوز
قبول كل ما يقول وينزل قوله منزلة قول المعصوم
فهذا الذي ذمه كل عالم
على وجه الأرض وحرموه وذموا أهله . وهو أصل
بلاء المقلدين وفتنتهم
فإنهم يقلدون العالم فيما زل فيه وفيما لم يزل
فيه وليس لهم تمييز بين
ذلك . فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد ، فيحللون
ما حرَّم الله ، ويحرمون ما
أحل الله ، ويشرعون ما لم يشرع ، ولا بد لهم
من ذلك . وإذا كانت
__________
(1) 2 / 172 .
(1/80)
العصمة منتفية
عمن قلدوه فالخطأ واقع فيه ولا بد - ثم ذكر
حديثين عند
البيهقي - منها حديث ابن مسعود رضي الله عنه
أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال :
" أشد ما أتخوف على أمتي ثلاث ، زلة عالم ،
وجدال منافق بالقرآن ، ودنيا
تقطع أعناقكم " قال : ومن المعلوم أن الخوف في
زلة العالم تقليده ، إذ لولا
التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره ، فإذا
عرف أنها زلة لم يجز له
أن يتبعها باتفاق المسلمين .. ثم قال :
قال أبو عمر : وإذا ثبت أن العالم يزل ويخطىء
، لم يجز لأحد أن
يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه) . انتهى
باختصار والله أعلم .
ومن أدلة المنع ما يأتي في الفصل بعده :
(1/81)
الفصل الثاني
في معرفة ما يترتب على الإلزام
الثاني عشر : ثم يقال إن من القواعد الشرعية
المطبق عليها عند علماء
الإسلام أن سد الذرائع الموصلة إلى المحرم
واجب محتم . قال الناظم :
سد الذرائع إلى المحرم ... حتم كفتحها إلى
المنحتم
وإنه بدراسة التقنين المُلزم في ماضيه ،
وبالنظر يوماً يترتب عليه في
المستقبل يظهر أن هناك أشياء تترتب على
الإلزام بقول مقنن أو مذهب
معين البعض منها مغالب لكل مصلحة ذكرت مترتبة
على التقنين الملزم
به فكيف بها جميعها ، وذلك لتسلط هذه المخاطر
على روح الشريعة
وجوهرها قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيميه
رحمه الله تعالى (1) :
إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات
والسيئات يجب ترجيح
الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد
، وتعارضت المصالح
والمفاسد ويجب احتمال أدنى المفسدتين لدفع
أكبرهما ، وذلك بميزان
الشريعة فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم
يعدل عنها ، وإلا اجتهد
برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقل من تعوز
النصوص من يكون خبيراً بها
ولدلالتها على الأحكام . انتهى .
ومن المضار المترتبة على التقنين الملزم به ما
يلي :
__________
(1) بواسطة : طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن
السعدي ، ص : 25 .
(1/82)
1- بدراسة حال
التقنين الملزم به في الزمن القريب فإنه لم
يثبت على
وتيرة واحدة ، بل صار يدخله التغيير والتبديل
والمد حيناً والجزر أحياناً حتى
صار الحال إلى ما صار إليه ، وهذه فلكة المغزل
ومحور المسألة .
2- العمل به على خلاف الإجماع فقد حكى الشافعي
رحمه الله قال :
أجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليس
له أن يدعها
لقول أحد سواه . انتهى .
فمن استبان له صحة حديث قيل بتضعيفه ، أو عكسه
، أو استنباط
حكم فقهي من كتاب أو سنة ، فإنه لا يستطيع
الحكم به إذا خالف القول
الملزم به ، ففي هذا الإلزام إضعاف لحرمة
الإجماع ، ووقوع فيما انعقد
عليه المنع (1) ؟
3- إن في هذا الإلزام إعمالاً لأحد القولين أو
أحد الأقوال ، وحضراً
لما سواها من الأقوال . والإجماع محكي على
المنع من ذلك كما حكاه
الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه "
الفقيه والمتفقه " (2) . إذاً ففي
هذا خرق لهذا الإجماع .
4- إذا رأى القاضي أن حكم المسألة مثلاً - وهو
كذا كالشفعة رآها
على الفور لعموم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " لا ضرر ولا ضرار " ، ثم صار في
التقنين
الملزم به : أن الشفعة على التراخي ، لأنه لم
يثبت حديث يفيد فوريتها ،
أو كان بالعكس . والقاضي لم يتبين له بدليل
يجب الرجوع إليه ما يثنيه
عن رأيه ، ومعلوم أن خلاف الصواب هو الخطأ ،
والحق في واحد من
الأقوال ، فإن عدل عن رأيه لا لمرجع ولكن لأنه
ملزم به صار حاكماً بغير
__________
(1) انظر الصواعق المرسلة 1 / 33 .
(2) 1 / 173 .
(1/83)
ما يراه صواباً
. وبالتالي يكون الحكم بما لا يعتقده ديناً
ولا شرعاً . وإن
لم يعدل عن رأيه فماذا يكون ؟
ومنه الوجه الآتي
5- إن هذا مطرد في فروع الشريعة وجزئياتها في
حق كل من اعترض
له شيء من ذلك ، وفروعه لا تحصى كثرة . ومنه
على سبيل المثال لا
الحصر : الشهادة على العقود ، قال ابن تيميه
رحمه الله تعالى (1) : (الشهادة
على العقود المحرمة على وجه الإعانة عليها
حرام ، وأما الشهادة في العقود
المختلف فيها التي يسوغ فيها الخلاف فيجوز لمن
اعتقد حلها) .
ومنها دعاوي العقود كالأنكحة والبيوع وغيرها ،
فلا بد من ذكر شروط
العقد المدعى به ، وذلك من أجل الاختلاف فيها
. وبمعرفة الحال يعرف
القاضي كيف يحكم : إذ أن العقد ربما كان
صحيحاً عند غيره باطلاً
عنده ، والقضاء على خلاف معتقده ممتنع شرعاً ،
وقد نص العلماء رحمهم
الله على ذلك في أحكام تحرير الدعوى من كتاب
القضاء . والله أعلم .
6- إن من تبين له الحق في أحد القولين أو
الأقوال ثم تعداه إلى غيره
لا لمرجح ، فهو ظالم لنفسه ولمن تعدى إليه
حكمه . قال ابن تيميه رحمه
الله تعالى (2) :
(والظالم يكون ظالماً بترك ما تبين له من الحق
، واتباع ما تبين له أنه
باطل ، والكلام بلا علم . فإذا ظهر له الحق
فعدل عنه كان ظالماً ، وذلك
مثل الألد في الخصام) . انتهى .
__________
(1) بواسطة : طريق الوصول للشيخ عبد الرحمن
السعدي ، ص : 117 .
(2) وبواسطة : طريق الوصول للسعدي ، ص : 117 .
(1/84)
ومعلوم أن حال
المُلْزَم لا تخرج عن ذلك والله أعلم . ويزيد
هذا
وضوحاً ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في
الفائدة الخامسة عشرة من
الفوائد والإرشادات للمفتي إذ يقول (1) :
(ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي الله
سبحانه أن يفتي
السائل بمذهبه الذي يقلده ، وهو يعلم أن مذهب
غيره في تلك المسألة
أرجح من مذهبه وأصح دليلاً ، فتحمله الرياسة
على أن يقتحم الفتوى بما
يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائناً
لله ولرسوله وللسائل
وغاشاً له ، والله لا يهدي كيد الخائنين ،
وحرم الجنة على من لقيه وهو
غاشٌ للإسلام وأهله ، والدين النصيحة والغش
مضاد للدين كمضادة
الكذب للصدق ، والباطل للحق . وكثيراً ما ترد
المسألة نعتقد فيها خلاف
المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده
فنحكي المذهب الراجح
ونرجحه ، ونقول : هذا هو الصواب . وهو أولى أن
يؤخذ به وبالله التوفيق) .
انتهى .
7- وفي حديث الصحيفة عند البخاري أن رجلاً قال
لعلي رضي الله
عنه : هل ترك لكم نبيكم شيئاً غير القرآن ،
قال : " لا ، إلا ما في هذه
الصحيفة أو فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه "
فكان في هذا الإلزام منع
لتجدد الفهم والاستنباط من كتاب الله ، وأن من
استبان له حكم من كتاب
الله فليس له حق التعويل عليه إذا خالف القول
الملزم به .
8- إن الحوادث متكاثرة والوقائع متجددة ، فإذا
وقع شيء من ذلك
لدى قاضٍ ما فإذا ؟ هل يكون إرجاء الحكم حتى
يلقن الحكم من لجنة
__________
(1) إعلام الموقعين 4 / 177 .
(1/85)
الاختيار أم
ماذا ؟ . أم يسير على هدي الشريعة ودلها فيعمل
رأيه في
استظهار الحكم .
9- إن القاضي واحد من اثنين ، مجتهد أو مقلد
(والإجتهاد قابل
للتجزيء والانقسام فيكون الرجل مجتهداً في
مسألة أو صنف من العلم
دون غيره) . كما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه
رحمه الله تعالى (1) .
فالمجتهد لا يمكن قبوله للإلزام بما يخالف
اجتهاده للنص والإجماع
على منعه من الإلزام . والمقلد لا يعتقد إلا
تقليد إمامه الذي قلده وأخذ
بمذهبه . وهو من أئمة القرون المفضلة
والمُقَنَّنة ليست كذلك فلا يمكن
أخذه بها . إذاً فإن المآل هو التخلي من
المؤهلين للقضاء عن ولايتهم
القضاء والله المستعان .
10- إن في التقنين الملزم به حجراً على
الأحكام الاجتهادية ، إذ يمنع
مثلاً تغير الفتوى بتغير الزمان . ومن المعلوم
أن من قواعد الشريعة : تغير
الفتوى بتغير الأزمنة والأحوال (2) . ومنه
الوجه بعده :
11- إن من الأمور القضائية ما لا يحصى كثرة
يرجع فيها القضاء إلى
قاعدة الشريعة : في تحكيم العرف والعادة -
للبلد التي فيها التقاضي .
وبهذا قال العلماء : إنه لا يجوز للقاضي إجراء
الخصومات فيما سيبله
كذلك إلا بعد معرفة عادات الناس وأعرافهم .
ومن المعلوم أيضاً أن العرف
في بلد لا يكون مطرداً في بلد آخر بل قد يختلف
ذلك باختلاف البلدان ،
__________
(1) بواسطة : طريق الوصول للسعدي ص : 189 ،
وبسطه ابن القيم في إعلام
الموقعين 4 / 216 - 217 .
(2) انظر : إعلام الموقعين 3 / 14 - 107 حيث
بسط الكلام على هذه القاعدة .
(1/86)
فهذا أمر إذاً
لا يمكن تقنين جزئياته والإلزام بها . ثم
العرف أيضاً قد يتغير
من زمان لآخر ، لهذا فقد نص العلماء رحمهم
الله تعالى على أن المسائل
التي حصل فيها الكلام في مدوناتهم بناءً على
العرف ، أن الأصل فيها
بناؤها على العرف ، والتفصيل بناءً على عرف
زمانهم آنذاك ، فيتغير ذلك
بتغيره ، كما في أحكام إحياء الموات وغيره .
وقد فصل أحكام العرف :
ابن عابدين في رسالته : " نشر العَرف في بناء
بعض الأحكام والتصرفات
على العُرْف " (1) .
والنتيجة ، أن هذا مما لا يمكن تقنينه إلزاماً
به بحال . وتقنينه بإرجاع
كل قاض إلى عرف بلده تحصيل حاصل . إذاً فماذا
صنع التقنين الملزم
به في جل مادة مواده ؟ .
يقول الأستاذ علال الفاسي في كتابه " دفاع عن
الشريعة " (2) : (فإذا
اعتبرنا هذا الرأي الذي ساد في المذاهب
الفقهية من علم وتقنية القانون
الإيجابي ، عرفنا سلامة الطرق الإسلامية التي
اتبعت في الصدر الأول :
وهي التدوين مع عدم اعتباره كقانون إيجابي ،
بل اعتبار مصادر التشريع
التي استمد منها على أنها مجموعة مصادر ومبادئ
أساسية ينكشف منها
المجهول .. عن طريق الاجتهاد الذي ظل مفتوحاً
أمام المفتي والقاضي .
هذا الاجتهاد الذي يعتبر العرف ، والظروف
الاجتماعية ، وتقلبات الحياة
الإنسانية ، ويراعى مصالح الفرد والجماعة) .
انتهى .
12- إنه في البلدان التي يحكم فيها بالقوانين
الوضعية والتي قيل فيها
__________
(1) مطبوعة ضمن مجموع رسائل ابن عابدين .
(2) ص : 264 .
(1/87)
إنها ذات مواد
يمكن الرجوع إليها بسهولة ويسر . لم تزل
المواد التفسيرية
ترد من حين لآخر على تلك المواد المؤصّلة ،
وذلك للخلاف القائم بين
مفاهيم الحكام في تفسير النصوص وفي تطبيقها
على القواعد العملية وعلى
القضايا التي ترد إليهم إلى غير ذلك من أسباب
ورود المواد التفسيرية وهو
من لوازم العجز البشري الملازم لطبيعة الإنسان
، وهذا شيء بحكم
المستفيض المشهور . وأخباره مدونة في كثير من
كتب الصعيدين الشرقي
والغربي ، إذاً فالقانون في المواد لم يخلص
الناس قضاة ومتقاضين من
ورطة الخلاف ، وإمكان إيراد عدة مفاهيم على نص
واحد يمكن الحكم
في كل مرة بمفهوم منها .
ونتيجة لهذا (فالفرنسيون ومن حذا حذوهم تركوا
للمحاكم حق
الاجتهاد في تفسير النصوص وفي تطبيقها على
القواعد العملية وعلى
القضايا التي تعرض عليهم) (1) :
فما دام أن هذه الحقيقة المرة ماثلة أمامنا ،
فكيف نلجأ إليها ، وبالتالي
نستثمر مساوئها . فاللهم إنا نضرع إليك من
أصابع التصنع .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه تعالى (2) :
(من خرج عن الطريق
النبوي الشرعي المحمدي الذي عليه الكتاب
والسنة احتاج أن يضع نظاماً
آخر متناقضاً يرده العقل والدين . ولكن من كان
مجتهداً في طاعة الله
ورسوله ، فإن الله يثيبه على اجتهاده ، ويغفر
له خطأه { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا
وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا
بِالإِيمَانِ } . انتهى مختصراً .
__________
(1) انظر مقدمة في إحياء علوم الدين للمحامي
المحمصاني ص : 100 .
(2) بواسطة طريق الوصول للسعدي ص : 172 .
(1/88)
13- إن مسائل
الخلاف الفرعية لا يجوز إجماعاً أن يثرب فيها
أحد
على أحد إذا أخذ بأحد القولين أو الأجيال
مجتهداً متحرياً الحق . ومعنى
هذا الإلزام أن من حكم بقول سوى الملزم به فهو
مخطئ غير مأجور ولا
يحسب حكمه نافذاً .
14- إنه ليس هناك شخص ولا أشخاص يجب اتباعهم
بعينهم في كل ما
قالوا سوى نبينا ورسولنا خاتمة المعصومين محمد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي هذا
الإلزام جعل
شخص آخر مماثل له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ والتفريق بين اتباع المعصوم وغير
المعصوم
واجب .
15- إن من شرط تولية القضاء الاجتهاد والتقنين
الملزم به فيه منع
للاجتهاد بالقول أو بقوة القول ، بل يصبح
القاضي أشبه بالآلة .
16- إن القاضي الذي توجد فيه روح الاجتهاد ولو
في مسألة تعرض
له في الإلزام تقييد لروحه وإذابة لعلومه .
وبالتالي فيه قضاء على العلم
وخدمة العلم وإحيائه . ومن المعلوم صحة
التجزئة في الاجتهاد لدى
المحققين من أهل العلم .
17- إن القاضي الذي توجد فيه روح البحث
والتحري للحق والاجتهاد
في تطبيق حكم شرعي يراه راجحاً على قضية ما ،
في الإلزام غض بعلمه
وقسر لفهمه وبالتالي قضاء على علومه وعلمه .
18- إن الشكوى من قلة المجتهدين ، لكن في هذا
الإلزام قضاء على
هذه القلة لقطع طريق العلم والحرمان من
استقلال النظر .
19- إن في هذا الإلزام هجراً للمكتبة
الإسلامية وتضييعاً لجهود
علمائها ورجالها وسداً لطرق الدلائل
والاستنباط لكن عدم الإلزام يقضي
(1/89)
على تلك
الأشياء في مخدعها .
20- قالوا من الممكن أن الانحباس داخل جدار
الإلزام يورث
خلافات خارجية إذ أن هذا الملزم به لا يكون
نافذاً ولا جارياً إلى على
رقعة الولاية فإذا أحدثت عقود في ديار الإسلام
الأخرى على وفق اجتهاد
أو مذهب على خلاف ما صار به الإلزام فما العمل
وما الحل ؟ .
إن هذا الإلزام لن يقتصر على القضاة فحسب ، بل
سينفذ إلى المفتين
والمدرسين ومعاهد التعليم إذ لو كانت الفتوى
على خلاف ذلك لحصل
التباين وما على معاهد التعليم إلا فهم مواد
التقنين الملزم به ، وبدراسة
الخلاف وأدلته ودعم لروح الاجتهاد وترويض
للنفس عليه وهذا مع الإلزام
برأي معين لا حاجة إليه .
22- إن القانون المصنوع المختلق الموضوع يتكون
من صورة وحقيقة
فصورته على هيئة مواد وذات أرقام وتغيرها
بالمادة الأخرى وغير ذلك من
عبارات اصطبغ بها وهي وإن كانت في أصلها
معلومة .. إلا أنها أصبحت
عند الإطلاق تنصرف إلى ذلك انصرافاً أولياً
كانصراف كلمة (قانون) إلى
تلك الأحكام الوضعية وإن كانت من قبل موجودة
لدى بعض الفلاسفة كابن
سيناء ولدى بعض فقهاء الإسلام كابن جزي .
قالوا فكما أن الإلزام بأحكام
مناطها الاجتهاد ممتنع بعامة وجوه الأدلة .
فإنا كذلك نمانع في الأصل من
هذه التسمية (تقنين) وعلى هذه الهيئة والشكل ،
لأنه يخشى من وجود
الصورة والشكل أن ينفخ فيه روح أصله في
الأجيال المتعاقبة وإن كان ذلك
في حكم المستحيل إن شاء الله ، إلا أنه يجب
أخذ الحيطة والحذر ، حتى
نمشي عليها بيضاء نقية ونتركها لمن بعدنا كذلك
إن شاء الله .
(1/90)
قال ابن تيميه
رحمه الله تعالى (1) (ولا يحل امتحان الناس
بأسماء
ليست بالكتاب والسنة ، فإن هذا خلاف ما أمر
الله به ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وهو
محدث للفتن والتفريق بين الأمة ...) .
وقد بسط ابن القيم رحمه الله تعالى ذلك في
آداب المفتي من كتابه
" إعلام الموقعين " (2) فقال :
الفائدة التاسعة : ينبغي للمفتي أن يأتي بلفظ
النص مهما أمكنه ، فإنه
يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام ، فهو
حكم مضمون له الصواب ،
متضمن للدليل عليه في أحسن بيان ، وقول الفقيه
المعين ليس كذلك ،
وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين
سلكوا على منهاجهم يتحرون
ذلك غاية التحري ، حتى خلفت من بعدهم خُلُوف
رَغِبوا عن النصوص ،
واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص ، فأوجب
ذلك هجر النصوص ،
ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به
النصوص من الحكم والدليل
وحسن البيان ، فتولد من هجران ألفاظ النصوص
والإقبال على الألفاظ
الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من
الفساد ما لا يعلمه إلا الله ،
فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ
والتناقض والتعقيد
والاضطراب ، ولما كانت هي عصمة عهدة الصحابة
وأصولهم التي إليها
يرجعون كانت علومهم أصح من علوم مَنْ بعدهم ،
وخطؤهم فيما اختلفوا
فيه أقل من خطأ مَنْ بعدهم ، ثم التابعون
بالنسبة إلى مَنْ بعدهم كذلك ،
وهلم جرا ، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر
أهل الأهواء والبِدَع
__________
(1) سياسة طريق الوصول للسعدي ص : 167 .
(2) 4 / 170 - 172 .
(1/91)
كانت علومهم في
مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب
والتناقض ،
وقد كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سُئلوا عن مسألة
يقولون : قال الله كذا ،
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كذا ، أو فعل [ رسول ] الله كذا ،
ولا يعدلون عن ذلك
ما وجدوا إليه سبيلاً قط ، فمن تأمل أجوبتهم
وجدها شفاء لما في الصدور ،
فلما طال العهد وبَعُد الناس من نور النبوة
صار هذا عيباً عند المتأخرين
أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله ،
وقال رسول الله .
أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول الله
ورسوله لا يفيدُ اليقينَ
في مسائل أصول الدين ، وإنما يحتج بكلام الله
ورسوله فيها الحشوية
والمجسِّمة والمشبهة ، وأما فروعهم فقنعوا
بتقليد من اختصر لهم بعض
المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن الله ولا
عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ولا عن
الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه بينهم ، بل
عمدتهم فيما يفتون ويقضون به
وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء
والأموال على قول ذلك
المصنف ، وأجلهم عند نفسه وزعيمُهم عند بني
جنسه مَنْ يستحضر لفظ
الكتاب ، ويقول : هكذا قال ، وهذا لفظه ،
فالحلال ما أحله ذلك الكتاب ،
والحرام ما حرَّمه ، والواجب ما أوجبه ،
والباطل ما أبطله ، والصحيح ما
صححه . هذا ، وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه
الأزمان ، فقد دفعنا إلى أمر تضج
منه الحقوق إلى الله ضجيجاً ، وتعج منه الفروج
والأموال والدماء إلى ربها
عجيجاً ، تبدل فيه (1) الأحكام ، ويقلب فيه
الحلال بالحرام ، ويجعل
المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات ، والذي لم
يشرعه الله ورسوله من
أفضل القربات ، الحقُّ فيه غريبٌ ، وأغرب منه
من يعرفه ، وأغرب منهما
من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس ، قد فلق
بهم فالق الإصباح صُبْحَه
__________
(1) في نسخة " تستبدل فيه الأحكام ، ويغلب -
إلخ " .
(1/92)
عن غياهب
الظلمات وأبان طريقه المستقيم من بين تلك
الطرق الجائرات ،
وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه مع ما
عليه أكثر الخلق
من البِدَع المضلات ، رفع له علم الهداية فشمر
إليه ، ووضح له الصراط
المستقيم فقام واستقام عليه ، وطوبى له من
وحيد على كثرة السكان ،
غريب على كثرة الجيران ، بين أقوام رؤيتهم
قذَى العيون ، وشَجَى
الحلوق ، وكرب النفوس ، وحُمَّى الأرواح وغم
الصدور ، ومرض القلوب ،
وإن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف ، وإن
طلبته منهم فأين الثريّا من
يد الملتمس ، قد انتكست قلوبهم ، وعمي عليهم
مطلوبهم ، رَضُوا
بالأماني ، وابتلوا بالحظوظ ، وحصلوا على
الحرمان ، وخاضوا بحار العلم
لكن بالدعاوي الباطلة وشقائق الهذيان ، ولا
والله ما ابتلت من وَشَلِهِ
أقدامُهم ، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم ، ولا
ابيضت به لياليهم وأشرقت
بنوره أيامهم ، ولا ضحكت بالهوى والحق من وجوه
الدفاتر إذ بُلّتْ بمداده
أقلامهم ، أنْفَقُوا في غير نفائس الأنفاس ،
وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم
من الناس ، ضيعوا الأصول ، فحرموا الوصول ،
وأعرضوا عن الرسالة ،
فوقعوا في مَهَامه الحيرة وبيداء الضلالة .
والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص
ومعانيها في أتم
بيان وأحسن تفسير ، ومَنْ رام إدراك الهدى
ودين الحق من غير مِشْكَاتها فهو
عليه عسير غير يسير " . انتهى .
هذا من حيث المحذور من تشابك المعاني ، أما من
حيث وضعها
اللغوي فهي مشتقة من " القانون " وهو كلمة
دخيلة كما في كتب اللغة من
القاموس والمحيط وغيرهما .
ولهذا فإن بعض من جهدوا في بحث هذه النازلة
وسموها بلفظ
(1/93)
" التدوين " أو
" تدوين الأحكام الشرعية " بدلاً من " التقنين
" . وفيها يقول
بعض المعاصرين في محاضرة له بذلك (1) :
التدوين : كلمة سأستعملها بمعنى صياغة الأحكام
الشرعية في عبارات
إلزامية لأجل تنفيذها والعمل بموجبها ، وقد
استعمل بعض الزملاء في
الأقطار العربية الأخرى كلمة " التقنين "
بدلاً منها ، ولكن فضلت عليها
الكلمة العربية " التدوين " من فِعل : دون ،
تدويناً ، ومدونة ، لأن التقنين
مشتق من القانون ، وهو كلمة دخيلة كما تعلمون
، أخذها العرب عن طريق
السريانية من كلمة " كانون " اليونانية .
انتهى .
وقال أيضاً : في أوائل كتابه " فلسفة التشريع
" .
" إن كلمة " القانون " يونانية الأصل ، دخلت
إلى العربية عن طريق
السريانية وكان استعمالها في الأصل بمعنى "
المسطرة " ، ثم صار بمعنى
" القاعدة " وهي اليوم تستعمل في اللغات
الأوروبية بمعنى " الشريعة
الكنسية " .. انتهى .
فصارت النتيجة أن التقنين الملزم كما هو ممتنع
شرعاً فتسميته " تقنيناً "
مرفوضة لغة وإنما هو تأليف أو تصنيف أو نحوهما
من الألفاظ والإطلاقات
الأصيلة المعهودة والله المستعان .
ويتعلق بهذه وبعامة موضوع البحث كلام عظيم
لشيخنا محمد الأمين
رحمه الله وذكره في جوابه على المذكرة
الإيضاحية أذكره هنا بنصه قال
رحمه الله تعالى : (ومن المهمات التي من أجلها
أردنا بيان المصالح
__________
(1) هو الأستاذ صبحي المحمصاني في المحاضرة
الخامسة من كتابه مقدمة في إحياء
علم الشريعة .
(1/94)
والمفاسد في
المذكرة أن المصلحة أو المفسدة إذا عين أصلها
وبينت
مرتبتها أمكن البحث فيها بتفصيل واضح يتضح معه
الحق فتمكن المناقشة
نفسها هل هي مصلحة أو مفسدة أو ليست بمصلحة
ولا مفسدة ، وبيان
مرتبتها ونوعها يمكن الترجيح بينهما وبين ما
عارضها من المفاسد أو
المصالح ، فلو شخصت المفسدة الناشئة عن اختلاف
أحكام القضاة في
المسألة الواحدة بين هل هي من جنس الضروريات
أو الحاجيات وإن قيل
أنها من جنس الضروريات بين النوع الذي ترجع
إليه من الضروريات هل
هو ديني أو نفسي أو عقلي أو نسبي أو مالي أو
عرضي ، وإن قيل إنها من
جنس الحاجيات بينت الحاجة الداعية إليها
بياناً واضحاً لكان ذلك معيناً
على إعطاء البحث حقه من النظر والإمعان ، لأن
دفع مفسدة ذلك الخلاف
بالتدوين قد يقال : إنه مستلزم مفسدة أعظم من
مفسدة اختلاف القضاة في
المسألة الواحدة ولو كانت من أوكد الضروريات ،
ولا خلاف بين العلماء
في تخفيف الشر بارتكاب أخف الضررين فالمخالف
قد يقول :
إن هذا التدوين الذي يريدون به درء مفسدة
اختلاف القضاة يستلزم
مفسدة أعظم من ذلك ، لأنه خطوة إيجابية إلى
الانتقال عن النظام الشرعي
إلى النظام الوضعي وإيضاح ذلك أن النظام
الوضعي تتركب حقيقته من
شيئين : أحدها : صورته التي هي شكله وهيئته في
ترتيب مواده والحرص
على تقريب معانيها وضبطها بالأرقام ، والثانية
: حقيقة روحه التي هي
مشابكة لذلك الهيكل والصورة كمشابكة الروح
للبدن ، وتلك الروح هي
حكم الطاغوت فصار التدوين مشتملاً على أحدهما
والواحد نصف الاثنين
ومما يظن ظناً قوياً ويخشى خشية شديدة أن وضع
شكل وصورة النظام
الوضعي بالتدوين وضع حجر أساس لنفتح روح هذا
الهيكل الأصلية فيه ،
ولا شك أن الظروف الراهنة ومخايل الظروف
المستقبلة تؤكد أن تيارات
(1/95)
الإلحاد
الجارفة في أقطار المعمورة الناظرة إلى
الإسلام بعين الحط
والإزدراء يغلب على الظن ويخاف خوفاً شديداً
أنها بقوة مغناطيسها الجذابة
التي جذبت غير هذه البلاد من الأقطار من
نظامها الإسلامي التي توارثته
عشرات القرون إلى النظام الوضعي الذي شرعه
الشيطان على ألسنة أوليائه
ستجذب هذه البلاد يوماً ما إلى ما جذبت إليه
غيرها من الأقطار التي فيها
مئات العلماء كمصر لضعف الوازع الديني في
الأغلبية الساحقة من شباب
المسلمين وكون الثقافة المعاصرة من أعظم
الأسباب للانتقال إلى القوانين
الوضعية فجميع الملابسات العالمية معينة على
الشر المحذور إلا ما شاء
الله ولا سيما إن كنت هيئة كبار العلماء قد
يقال أنها ابتدأت وضع الحجر
الأساسي لذلك بالرضا بالانتقال عما توارثته
الأمة جيلاً بعد جيل إلى وضع
نظام شرعي ديني في مسلاخ نظام وضعي بشري
شيطاني وليس هذا من
الأمور الدنيوية البحتة التي تؤخذ عن الكفار
لأنه أمر قد يقال : إنه ذريعة
إلى أعظم فساد ديني مع أن اختلاف بعض القضاة
في بعض المسائل
المتماثلة أمر موجود من عهد الصحابة إلى اليوم
ولم يستلزم مفسدة عظيمة ،
والقضاة المختلفون في المسألة الواحدة في هذه
البلاد يلزم رفع اختلافهم
إلى هيئة تمييز من أمثل من يوثق بعلمه وعدالته
وربما رفع بعد ذلك إلى
هيئة قضائية عليا ، فالمفاسد اللازمة له في
النظر الصادق قد تكون أقل شيئاً
مما يقال ، وقد يقول المخالف أيضاً :
إن التدوين المذكور سن به فاعلوه التغيير لمن
يأتي بعدهم لأنهم
بتدوينهم ألفوا أقوال أهل العلم المخالفة لما
دونوا وذلك يدعو لصرف النظر
عن أصولها ومداركها الشرعية ، فالذين يأتون
بعدهم يوشك أن يقولوا :
هؤلاء الذين دونوا تركوا أقوالاً قالها من هو
أعلم منهم وأقدم زماناً ، وسنفعل
معهم مثل ما فعلوا مع غيرهم فسيكون ذلك طريقاً
إلى التغيير والتعديل ،
(1/96)
ويوشك أن ينهي
ذلك إلى التبديل الكلي - نرجو الله أن لا يقدر
ذلك -
والأمتان اللتان دونتا بعض الأحكام الشرعية
أعني الأتراك والمصريين انتهى
أمرهما إلى التبديل الكلي ، فهذه المفاسد التي
قد يقول المخالف أنها
يخشى أن تنشأ من التدوين هي أعظم المفاسد لأن
فيها القضاء على أصل
الدين ومثل هذا لا يصح أن يعارض شيء من
المفاسد الأخرى أو
المصالح .. انتهى .
(1/97)
خلاصَة البَحْث
وهي فيما يأتي :
أولاً : الممانعة من تسمية هذا المشروع "
تقنيناً " لما تقدم .
ثانياً : الممانعة من ترتيبه على هيئة تحاكي
القوانين الغربية في
صياغتها إذ ينبغي لأهل الإسلام - دين العزة
والأصالة - دفع عار
الاستجداء . والاستغناء بما عندهم من أصالة في
الشكل والمنهج
والمضمون ففيه الغنى إضافة إلى أن لفظ " مادة
" لهذا المعنى لا يساعد
عليه الوضع اللغوي فليعلم .
ثالثاً : إن إلزام القاضي بقول مقنن ، أو مذهب
معين ممتنع شرعاً
وواقعاً . فموقعه من أحكام التكليف حسب
الدلائل والوجوه الشرعية أنه :
محرم شرعاً لا يجوز الإلزام به ، ولا الالتزام
به .
رابعاً : إن تقريب الفقه الإسلامي للقضاة
وغيرهم من أهل الإسلام على
وجه يسهل الوقوف على أحكامه ودقائقه ، ليس
محلاً للتجاذب في هذه
النازلة .
وإن من رد العجز على الصدر : أن ألمح مرة أخرى
إلى خلاصة هذا
المبحث فأقول ، إن هذه النازلة :
1- تسميتها " تقنيناً " .
(1/98)
2- صناعتها على
صفة تحاكي القوانين الموضوعة المختلقة
المصنوعة .
3- إصابة شاكلة كل داهي : الإلزام .
إن هذه النازلة بهذا الشكل : مولود غريب ليس
من أحشاء الأمة
الإسلامية ، غريب في لغتها ، غريب في سيرها
وأصالة منهجها ، غريب في
دينها ومعتقدها ، فهو أجنبي عنها ومجلوب إليها
فغريب جداً أن تحتضنه
الأمة الإسلامية بمجرد فكرة الله أعلم
بدوافعها وإنه يتعين على أهل
الإسلام أن يحذروا من الانهزام ومعلوم أن من
كان على الحق فهو أمة
قوية لا تهزم وإن كان وحده .
هذا : ولعمري فقد نزع المانعون من الإلزام
بمنزع صحيح مؤيد
بالدليل الصريح والنظر الرجيح . والله أعلم .
وأخيراً أختم هذه الرسالة بما لهج ابن القيم
رحمه الله تعالى بذكره
في كتابه " أعلام الموقعين " (1) مما كان معاذ
بن جبل رضي الله عنه كثيراً
ما يقوله في خطبته كل يوم . قال ابن القيم
رحمه الله تعالى (2) :
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته
كل يوم ، قلما
يخطئه أن يقول ذلك : الله حكم قسط ، هلك
المرتابون ، إن ورائكم فتناً
يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن ، حتى
يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة
والصبي والأسود والأحمر ، فيوشك أحدهم أن يقول
: قد قرأت القرآن فما
__________
(1) إعلام الموقعين : 1 / 60 ، 104 ، 253 - 3
/ 297 وقد ذكرها أبو نعيم في " حلية
الأولياء " من ترجمة معاذ رضي الله عنه .
(2) إعلام الموقعين : 3 / 297 .
(1/99)
أظن أن يتبعوني
حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل
بدعة
ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد
يتكلم على لسان الحكيم
بكلمة الضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة
الحق ، فتلقوا الحق عمن جاء
به ، فإن على الحق نوراً . قالوا : كيف زيغة
الحكيم ؟ قال : هي كلمة
تروعكم وتنكرونها ، وتقولون ما هذه فاحذروا
زيغته ، ولا تصدنكم عنه ، فإنه
يوشك أن يفيء ويراجع الحق ، وإن العلم
والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة
فمن ابتغاهما وجدهما) . انتهى .
وهنا ينتهي ما أردت تحريره في فقه هذه النازلة
إلى أهل الإسلام والله
تعالى خليفتي عليهم والسلام .
(1/100)
|