فقه
النوازل " 6 "
التشريح الجثماني والنقل
والتعويض الإنساني
(2/7)
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد :
فإن الطبيب يعايش في الوقت الحاضر ، أنواعاً
من الممارسات الطبية
الفاعلة على بدن الإنسان ، في مفردات متعددة
من العمليات يجمعها أوعية
ثلاثة :
1- العمليات المجردة .
2- التشريح .
3- النقل والتعويض الإنساني .
والعمليات المجردة كالزائدة الدودية ، والفتق
.. حكمها الجواز شرعاً
بالإجماع ، طرداً لقاعدة الشرع في أصل مشروعية
الجواز ، والذي قد يصل
إلى (الوجوب) إذا توقفت عليه الحياة .
والبحث إنما يكون في متعلقاتها من : التخدير
والعلاج بها على
البرء ..
والنظر الشرعي هنا يتجاذب معها ؟ الحوار في :
1- حرفة التشريح .
2- وصور النقل والتعويض الإنساني ، في دم ، أو
عضو ، أو أنسجة ،
أو شرايين ..
قد عُقدت لهذا ، أو لبعض مفرداته مؤتمرات :
وأعدت له ندوات ،
وكتبت فيه أبحاث ومؤلفات ، وصدرت به فتاوى ،
بين الإباحة والحظر ، في
(2/9)
إطار التفصيل
والضوابط والشروط .
فصار لابد من تحرير النظر لتلتقي الحقيقة
الشرعية مع الحقيقة
الطبية ، إذ الحكم فرع التصور، عسى أن ينتج من
هذا : القولُ الصحيح ،
المبنيُّ على الدليل الصريح ، والنظر الرجيح .
ويجري البحث في هذين على سبيل تخريج النوازل
على قواعدها ،
وإرجاع الفروع إلى أصولها ، وإناطة الأحكام
بعللها ومداركها .
لتعلم بعد حين : أن البحث في حكم التشريح
للتعلم والتعليم يستلزم
البحث في حصر صور التشريح .
وأن البحث في حكم القرنية ، والترقيع ، فرع
البحث في أحكام النقل
والتعويض الإنساني .
وإن هذين الوعائين ، بفروعهما المتكاثرة ،
والتي زادت في إنجاز
الطب عن عشرة فروع ، تلتقي في البحث
والاستدلال ، وتجاذب الخلاف
واختلاف الأنظار ، لأنها تنزع من قوس واحدة :
(التصرف الفاعل في بدن
الإنسان إدخالاً وإخراجاً) فهي مشتبكة ،
اشتباك الروح بالهيكل ، وكما أن
محلها بدن الإنسان ، فهي تلتقي في المآخذ
الشرعية من حيث الأصول
والقواعد الكلية من جهة :
بدن الإنسان في : طهارته ، ورعاية حرمته
وكرامته ، وهل هو مالك لبدنه
أم أمين ووصي عليه ، والموازنة بين المصالح
والمفاسد ، والمنافع
والمضار ، في إطار مقصد الشرع في (حفظ النفس)
.
والمهم في بيان أحكام هذه النوازل المستجدة
تحرير النتيجة الحكمية
(2/10)
من القواعد
التي تُخَرَّجُ عليها ، وسلامة التخريج ،
وتثبيت مدرك الحكم
والتعليل ، فإنه متى صحت مع الباحث هذه
المطالب سهل عليه بإذن الله
تعالى ترتيب الحكم بأمان واطمئنان .
وهذه رؤوس المُقَيَّدات فيها مع أبحاث تمهيدية
لها :
المبحث الأول : ما كتب فيها .
المبحث الثاني : حكم التداوي في أصل الشرع .
المبحث الثالث : التاريخ القديم لها .
المبحث الرابع : حصر التصرفات الطبية الفاعلة
على بدن الإنسان .
المبحث الخامس : القواعد والأصول الشرعية التي
تخرج عليها هذه
النوازل الطبية جوازاً أو تحريماً .
المبحث السادس : التخريج لهذه القضايا عليها :
1- العمليات المجردة .
2- التشريح .
3- النقل والتعويض الإنساني .
المبحث السابع : الشروط العامة للنقل والتعويض
.
المبحث الثامن : حكم المعاوضات المالية على
الدم والأعضاء .
وهذا أوانها ، والله الموفق والمعين .
(2/11)
المبحث الأول
وفيه بيان ما كتب في هذه النازلة من :
1- مؤلفات ، ورسائل .
2- أبحاث وأجوبة في مؤلفات .
3- بحوث مجمعية ، مؤتمرات ، ندوات .
4- أبحاث ومقالات في : الدوريات .
5- الفتاوى .
وهذا تقييدها :
أولاً : المؤلفات والرسائل :
1- الأحكام الشرعية للأعمال الطبية .
تأليف : أحمد شرف الدين . ص / 23 - 160 - طبع
عام 1407 هـ
بمصر .
2- نطاق الحماية الجنائية لعمليات زرع الأعضاء
في الشريعة الإسلامية
والقانون الوضعي .
رسالة (دكتوراه) قدمت لكلية الشريعة بالجامعة
الأزهرية فرع أسيوط .
(2/13)
تقع في (850)
صفحة .
3- نقل الدم وأحكامه الشرعية . تأليف محمد
صافي ، نشر : مؤسسة
الزعبي ، حمص عام 1392 هـ .
4- شفاء التباريح والأدواء في حكم التشريح
ونقل الأعضاء .
للشيخ إبراهيم يعقوب - رحمه الله تعالى - طبع
بدمشق عام 1407 هـ . نشر
مكتبة الغزالي . وهو مهم في بابه لما حواه من
النقول المتناثرة .
5- تعريف أهل الإسلام بأن نقل العضو حرام .
لأبي الفضل عبد الله بن
الصديق الغماري .
رسالة في (28) صفحة طبعت عام 1407 هـ في دار
مصر للطباعة .
6- تشريح جسم الإنسان لأغراض التعليم الطبي .
بحث : قنديل شاكر شبير . نشر عام 1978 م في
ليبيا .
7- زرع الأعضاء بين الحظر والإباحة . أحمد
محمود سعيد .
الطبعة الأولى عام 1406 هـ . نشر دار النهضة
العربية بمصر .
ثانياً : أبحاث وأجوبة في مؤلفات :
8- الفتاوى السعدية . للشيخ عبد الرحمن بن
سعدي رحمه الله تعالى .
بحث فيه جواب عن سؤال 1 / 320 - 325 . طبع عام
1388 هـ .
9- مجموعة بحوث فقهية . تأليف : عبد الكريم
زيدان . ص / 163 -
164 .
(2/14)
10- ردود على
أباطيل ، للشيخ : محمد الحامد - رحمه الله
تعالى -
ص / 125 - 126 .
11- بحث في تفسير (معارف القرآن) . أردو .
لمفتي باكستان : محمد شفيع
(م سنة 1396 هـ) رحمه الله تعالى . ترجم جملة
منه : محمد برهان
الدين السنبهلي في مجلة البعث الإسلامي عدد /
1 المجلد / 32 لعام
1407 هـ . ص / 67 - 68 .
12- من حقيبة المفتي . تأليف : أحمد العسكري .
ص / 168 ، 212 ،
239 .
ثالثاً : بحوث مجمعية . مؤتمرات . ندوات .
13- 15- ثلاثة بحوث في : نزع القرنية من عين
إنسان وزرعها في إنسان
آخر ، إعداد اللجنة الدائمة للبحوث العلمية
والإفتاء برئاسة : سماحة
الشيخ / عبد العزيز بن باز . عام 1396 هـ و
1397 هـ .
16- قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية
السعودية رقم / 66 في عام
1398 هـ بشأن نقل القرنية من عين إنسان إلى
آخر .
17- قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية
السعودية رقم / 99 لعام
1402 هـ بشأن نقل العضو من إنسان حي أو ميت
إلى آخر .
18- بحث : زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم
الإنسان . إعداد : الشيخ
عبد الله بن عبد الرحمن البسام . نشر في :
مجلة المجمع الفقهي
بمكة العدد / 1 عام 1408 هـ السنة الأولى . من
ص / 13 - 22 .
19- حكم العلاج بنقل دم الإنسان أو نقل أعضاء
أو أجزاء منها . إعداد :
(2/15)
أحمد فهمي أبو
سنة . نشر في مجلة المجمع الفقهي بمكة المكرمة
ص / 23 - 26 . العدد / 1 السنة / 1 عام 1408
هـ . بحث مقدم :
للمجمع الفقهي بمكة . ونشر أيضاً في مجلة
التضامن الإسلامي .
20- زراعة الأعضاء الإنسانية في جسم الإنسان .
إعداد : محمد رشيد
رضا قباني . نشر في مجلة المجمع الفقهي بمكة ص
/ 27 - 34 .
العدد / 1 السنة / 1 لعام 1408 هـ .
21 - قرار المجمع الفقهي بمكة - حرسها الله
تعالى - في دورته الثامنة
لعام 1405 هـ بشأن زراعة الأعضاء .
22- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً
أو ميتاً . الطبيب : محمد
علي البار . بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي
بجدة ، الدورة الرابعة
عام 1408 هـ .
23- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً
أو ميتاً . إعداد الشيخ
خليل محي الدين الميس . لبنان . بحث مقدم
لمجمع الفقه
الإسلامي بجدة عام 1408هـ .
24- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً
أو ميتاً . للشيخ / محمد
ابن عبد الرحمن ، بحث مقدم لمجمع الفقه
الإسلامي بجدة . الدورة
الرابعة عام 1408 هـ .
25- انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً
أو ميتاً . إعداد محمد
سعيد رمضان البوطي . بحث مقدم لمجمع الفقه
الإسلامي بجدة عام
1408 هـ .
26- بحوث بشأن نقل الأعضاء . من محفوظات قسم
الطب الإسلامي في
(2/16)
مركز الملك فهد
للبحوث الطبية بجامعة الملك عبد العزيز بجدة .
27- المؤتمر الإسلامي الدولي . انعقد في
ماليزيا في شهر إبريل عام
1969 م . وبحث فيه : نقل قرنية العين ،
والأعضاء . بواسطة بحث
رئاسة الإفتاء بالرياض : البحث الثالث لعام
1397 هـ ص / 22 .
28- ندوة نقل الكُلَى . عقدها المركز القومي
للبحوث الاجتماعية والجنائية
بالقاهرة عام 1978 هـ .
29- ندوة المركز الطبي لنقل الكُلَى في الرياض
. محرم عام 1408 هـ .
رابعاً : أبحاث ومقالات في الدوريات .
30- تشريح الميت . فتوى : للشيخ يوسف الدجوي .
نشرت في مجلة
الأزهر عام 1355 هـ العدد / 7 ، 8 . المجلد /
9 . وفي مجلة نور
الإسلام . المجلد السابع . وخلاصتها في : شفاء
التباريح والأدواء .
31- حرمة التشريح . للشيخ محمد عبد الوهاب
بحيري . نشر في مجلة
نور الإسلام . وهو رد على مقال الشيخ الدجوي .
32- ورد على الدجوي أيضاً الشيخ العربي بو
عياد الطنجي وخلاصته في :
شفاء التباريح والأدواء .
33- استخدام أعضاء الإنسان في جسم غيره من
الإنسان ، والأخطار
الناشئة عنه . بحث للشيخ أبي الأعلى المودودي
. نشر في مجلة
البعث الإسلامي ص / 53 - 55 . العدد / 2
المجلد / 32 لعام
1407 هـ .
34- نقل الكُلَى وموقف الإسلام منها . إعداد
عبد الرحمن النجار . نشر
(2/17)
في المجلة
الجنائية القومية بالقاهرة عام 1978 م . العدد
/ 1 .
35- حكم الشريعة الإسلامية في التداوي
بالأشياء النجسة ودم الإنسان .
بحث للشيخ برهان الدين السنبهلي . نشر في مجلة
البعث الإسلامي
ص / 62 - 73 . العدد / 1 المجلد 32 رمضان لعام
1407 هـ .
36- حكم الشريعة الإسلامية في زرع الأعضاء
الإنسانية . بحث : الشيخ
محمد برهان الدين السنبهلي . نشر في مجلة
البعث الإسلامي
ص / 44 - 55 . العدد / 2 المجلد / 32 عام 1407
هـ .
37- التصرف في أعضاء الإنسان . إعداد محمد
فوزي فيض الله . نشر
في مجلة الوعي الإسلامي . العدد / 276 . لشهر
ذي الحجة عام
1407 هـ .
38- الإنسان لا يملك جسده ، فكيف يتبرع
بأجزائه أو يبيعها ، بحث
للشيخ محمد متولي الشعراوي . نشر في مجلة
اللواء الإسلامي .
العدد / 226 . لشهر جمادى الآخرة عام 1407 هـ
.
خامساً : الفتاوى . وتقدم بعضها ، ومنها :
39- فتوى الشيخ محمد بخيت المطيعي . وخلاصتها
في شفاء التباريح
والأدواء .
40- فتوى مفتي مصر : الشيخ محمد حسنين مخلوف .
في فتاويه
1 / 360 .
41- فتوى الشيخ حسن مأمون في جواز نقل الدم ،
مفتي مصر سابقاً .
رقم الفتوى / 1065 .
(2/18)
42- فتوى الشيخ
حسن مأمون . مصر . رقم / 1087 عام 1378 هـ .
43- فتوى الشيخ محمد خاطر . مصر . عام 1392 هـ
بشأن علاج حروق
الأحياء من جلد الميت بشرطه .
44- فتوى الشيخ أحمد هريدي . مصر . برقم 992
عام 1966 م بشأن
سلخ القرنية من الميت للحي ، بشرطه .
45- فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق . مصر .
برقم / 1323 عام
1400هـ بشأن : نقل العضو من إنسان إلى آخر
بشرطه .
46- فتوى مفتي سوريا : الشيخ محمد أبو اليسر
عابدين . وخلاصتها في
شفاء التباريح والأدواء .
47- فتوى لجنة الإفتاء في المجلس الإسلامي
الأعلى في الجزائر . عام
1392 هـ . موجودة بنصها في البحث الثالث من
أبحاث اللجنة
الدائمة في رئاسة الإفتاء بالرياض . ص / 17 -
21 .
48- فتوى من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
بالكويت . رقم / 132 / 79
عام 1400 هـ بشأن نقل الأعضاء من حي أو ميت .
(2/19)
المبحث الثاني
في حكم التداوي
قال العز بن عبد السلام (1) :
" الطب كالشرع ، وضع لجلب مصالح السلامة
والعافية ولدرء مفاسد
المعاطب والأسقام " .
وقد علم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي ،
وأن حكمه في
الأصل الجواز ، توفيراً لمقاصد الشرع في حفظ
النوع الإنساني ، المعروف
في ضرورياته باسم " حفظ النفس " .
وقد حُكي الإجماع على أن حكمه الجواز ، لكن
قيل إن أحكام
التكليف تنسحب عليه ، فمنه ما هو واجب ، وهو
ما يعلم حصول بقاء
النفس به لا بغيره ... (2) .
فهو يختلف حكماً باختلاف الغاية منه ، ومنها
(3) :
1- حفظ الصحة الموجودة .
__________
(1) قواعد الأحكام 1 / 4 .
(2) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 5 / 106 ،
وفهارسها : 37 / 92 ، الفتاوى الهندية
5 / 355 ، تحفة المحتاج 3 / 182 .
(3) زاد المعاد 3 / 111 ، والطب النبوي ص /
114 .
(2/20)
2- إعادة الصحة
المفقودة بقدر الإمكان .
3- إزالة العلة أو تقليلها بقدر الإمكان .
4- تحمل أدنى المفسدتين لإزالة أعظمهما .
5- تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعظمهما .
(2/21)
المبحث الثالث
التاريخ القديم لعمليات النقل والتعويض
لقاء تزاحم التطورات الطبية في العصر الحديث ،
وغرابتها في
الإبداع ، وبُعد الإنسان خاصة المسلم عن قراءة
التاريخ ومآثر الأسلاف -
ظن أن هذه من مولدات العصر ، وأنها منقطعة
الاتصال بالقرون الخوالي ،
والحال ليس كذلك بل إن تاريخها يرجع إلى ما
قبل الإسلام ، لدى :
اليونان ، والرومان ، وسكان الأمريكيتين ،
والهند .. (1)
لكن كانت بحكم ما يملكونه من وسائل وإمكانات
في تلك العصور .
وعليه فالذي حصل إنما هو تطور في التشريح ،
والترقيع . وامتداده من
الإنسان إلى الإنسان .
والذي يهمنا هنا هو ذكر الوقائع التي حصل
الوقوف عليها في سالف
عصور الإسلام منها : يد ، ورجل ، وأصابع ،
وشعر للرأس ، ولحية ،
وأسنان ، وشدها بالذهب إلى غير ذلك . وفي
(مجلة المجمع العلمي
العراقي) بحث حافل في هذه الوقائع ، وبأكثر في
" النظائر" .
__________
(1) انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً
أو ميتاً . للطبيب محمد علي البار
ص / 2 - 4 . بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي
بجدة .
(2/22)
المبحث الرابع
حصر التصرفات الطبية الفاعلة على بدن الإنسان
من أعظم المطالب حصر المتفرق في ضوابط جامعة ،
وعبارات
مترابطة تكون كالمتن ، وما يلحقها كالشرح لها
، فإن ذلك أدعى للفهم
وجمع الذهن وعليه :
اعلم أن التصرفات الطبية الفاعلة على بدن
الإنسان ، تنقسم بحكم
التتبع والاستقراء إلى أقسام ثلاثة :
1- عمليات مجردة : كعملية الفتق ، و (الزائدة
الدودية) ونحوهما . وهذا لا
يعلم في جوازه خلاف ، طرداً لأصل مشروعية
التداوي ، وستعلم بَعْدُ
مدى انسحاب أحكام التكليف الخمسة على التداوي
.
2- عمليات (النقل والتعويض الإنساني) بين
شخصين ، أو في الشخص
ذاته في نقولاتها الأربعة : نقل الدم ، النقل
الذاتي ، النقل من حي إلى
حي ، النقل من ميت إلى حي . كزراعة الأعضاء
...
3- حرفة التشريح في واحد من أغراضه الثلاثة ،
لكشف الجريمة ، أو
لكشف المرض ، أو للتعلم والتعليم .
وهذان القسمان هما محل التجاذب ، والنزاع بين
أهل العلم في
مفرداتهما بالجملة ، فمنها ما هو محل نزاع قوي
كنقل عضو من حي إلى
حي ، ومنها ما هو محل خلاف ضعيف كنقل دم من حي
إلى حي ، ومنها
(2/23)
ما هو متفق على
تحريمه كنقل مضر بالحي إلى حي ، ومنها ما ليس
محل
خلاف على جوازه كترقيع الشفة من بدن الحي ذاته
. وتحرير النظر فيها
تراه بعد تحرير التصور الطبي الواقعي لها وهذا
أوانها .
(2/24)
المبحث الخامس
القواعد والأصول الشرعية التي تخَُرَّجُ عليها
هذه النوازل
الطبية
يمكن إجمال القول في تصنيف مهماتها إلى ما يلي
:
1- طهارة الآدمي :
القاعدة الفقهية أن (ما أُبين من حي فهو
كميتته) . للحديث في
ذلك ، - ويأتي - أي : كميتته طهارة ونجاسةً
فما أُبين من بهيمة الأنعام وهي
حية فله حكم الميتة منها حتف أنفها (النجاسة)
أي فهو نجس .
وما أبين من السمك والجراد وهو حي فله حكم
الميتة منها (الطهارة)
أي : فهو طاهر .
قالوا : والكافر نجس ، فما أبين منه حياً أو
ميتاً فهو نجس ، لقوله
تعالى { إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ } ،
وللأمر باغتساله إذا أسلم .
والآدمي المسلم ميتته نجسة ، فما أبين منه وهو
حي فله حكم
ميتته " النجاسة " فهو نجس . وبدليل تغسيله
بعد موته .
وعليه : فإن ترقيع المسلم بما هو نجس فيه
إخلال بواجبات الشريعة
كصحة الصلاة . لكن هذا التقعيد يرد عليه أمور
:
أولاً : أن تعلم أن أصل قول الفقهاء رحمهم
الله تعالى ما أبين من
(2/25)
حي فهو كميتته)
يذكرونه في بابي الطهارة ، والصيد ، ويريدون
ما أبين من
حيوان مأكول .
وأصل هذا قد ورد مقيداً بالبهيمة في حديث أبي
واقد الليثي رضي
الله عنه ، وحديث ابن عمر رضي الله عنهما ،
وحديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه ، وحديث تميم الداري رضي الله
عنه .
وهذا الحديث له قصة وهي كما في رواية أبي واقد
رضي الله عنه
قال :
(كان الناس في الجاهلية قبل الإسلام يجبُّونَ
أسنمة الإبل ويقطعون
إليات الغنم ، فيأكلونها ، ويحملون منها
الوَدَك ، فلما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سألوه
عن ذلك ، فقال :
" ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " رواه
أحمد ، وابن الجعد ،
وأبو يعلى ، وأبو داود ، والترمذي ، والدارمي
، والدارقطني ، والطبراني ، وابن
عدي ، والحاكم ، والبيهقي .
ترجم عليه أبو داود في الصيد بقوله : باب في
صيد قُطِعَ منه قطعة .
وترجم عليه الترمذي في الصيد بقوله : باب ما
جاء : ما قطع من الحي
فهو ميت .
وترجم له البيهقي ترجمتين في الطهارة بقوله :
باب المنع من الانتفاع
بشعر الميتة ، وفي الصيد بقوله : ما قطع من
الحي فهو ميتة .
وأما حديث ابن عمر فهو بلفظ : ما قطع من
البهيمة وهي حية فهو
ميت ، رواه ابن ماجه ، والبزار ، والدارقطني .
وحديث أبي سعيد : " ما قطع من حي فهو ميت "
رواه الحاكم .
(2/26)
ورواه أبو نعيم
في الحلية وابن عدي في الكامل : كل شيء قطع من
الحي فهو ميت .
وحديث تميم الداري رضي الله عنه بلفظ : " ما
أخذ من البهيمة وهي
حية فهو ميت " . رواه الطبراني . وابن عدي .
ورواه ابن ماجه بسنده عنه بلفظ : " يكون في
آخر الزمان قوم يجبون
أسنام الإبل ، ويقطعون إليات الغنم ، ألا فما
قطع من حي فهو ميت " .
وهذا اللفظ فيه : الهذلي وهو متروك .
هذا الحديث مقيد بسببه ولفظه بالبهيمة ، فلا
يتجاوزها إلى غيرها والله
أعلم .
وقد قال المناوي في شرحه له 5 / 461 : (فإن
كان طاهراً فطاهر ، أو
نجساً فنجس ، فيد الآدمي طاهرة ، وإلية الخروف
نجسة ، ما خرج عن ذلك
إلا نحو شعر المأكول وصوفه وريشه ووبره ومسك
فأرته فإنه طاهر لعموم
الاحتياج له) اهـ .
ثانياً : وأما آية التوبة / 28 { إِنَّمَا
المُشْرِكُونَ نَجَسٌ } فقد علم أن النجاسة
أنواع :
نجاسة خبث وحدث ، ونجاسة عينية وحكمية .
والمراد بنجاسة المشركين في هذه الآية هي
النجاسة الحكمية . وعلى
هذا المحققون من المفسرين بدليل : أن سؤر
اليهودي والنصراني طاهر ،
وآنيتهم التي يضعون فيها المائعات ويغمسون
فيها أيديهم طاهرة ، وقد أباح
الله للمسلمين التزوج بالكتابيات ولم يوجب
عليهم غسل الأيدي عند
(2/27)
ملامستهم أو
غسل ما لامسوه وهكذا - (21 / 67 الفتاوى) .
وأما غُسل الكافر
عند إسلامه ، فليس لنجاسته ولكن لما عسى أن
يكون عليه من جنابة ،
وإعلاناً بغسل الكفر وحبه للإسلام .
وأما تغسيل المسلم بعد وفاته فهو أمر تعبدي ،
لم يعلله أحد
بالنجاسة ، إذ لو كان نجساً ويطهر بالغسل لما
صلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
على قتلى
أحد وغيرهم من الشهداء ، بلا غسل لهم . فغسل
المسلم الميت ، لأنه
قادم على ربه فيكون في طهارة من الحدث متيقنة
، والله أعلم .
وبناء على ما تقدم ، فلم يظهر دليل يفيد نجاسة
بدن الآدمي مسلماً
كان أو كافراً ، فالكافر طاهر طهارة نسبية ،
والمسلم طاهر البدن طهارة
كاملة ، ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقيه في
بعض طرق المدينة وهو جُنُب ، قال : فانخنست
منه ، فذهبت
فاغتسلت ثم جئت ، فقال أين كنت يا أبا هريرة
قال : كنت جنباً فكرهت
أن أجالسك وأنا على غير طهارة ، فقال صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سبحان الله إن
المؤمن لا
ينجس " .
وقال البخاري : قال ابن عباس : المسلم لا ينجس
حياً أو ميتاً .
2- بدن الإنسان (1) :
يتردد البحث في بدن الإنسان ، قولاً ،
وتخريجاً على بعض القواعد
الأصولية ، والقواعد الفقهية الكلية - بعبارات
كلها بمعنىً :
__________
(1) بحوث دار الإفتاء بالرياض 1 / 25 - 26 ، 2
/ 18 - 19 ، 3 / 2 - 4 ، 24 . مجلة
البعث الإسلامي جـ / 432 / 2 ص / 45 - 55 .
تعريف أهل الإسلام
ص / 4 ، 13 ، 19 .
(2/28)
فيقال : بدن
الإنسان مملوك له أو لا . ؟
ويقال : بدن الإنسان مملوك له أم هو أمين ووصي
عليه . ؟
ويقال : بدن الإنسان حق لله ، أو حق للعبد ،
أو فيه الحقان وأي :
الحقين أغلب . ؟
ثم إذا قيل بملكية الآدمي لبدنه ، وأحقيته له
، فهل هي مثل تملكه
للمال والمتاع ، تدخل عليه مطلق التصرفات من
بيع ، وهبة ، وتبرع
وإسقاط ، ونحو ذلك مما يدور في محيط المصلحة ،
وتحقيقها كالشأن في
التصرف في الأموال لا يكون إلا بدائرة المصالح
، فلو كان مبذراً سفيهاً ،
حُجر عليه ، ومُنع من التصرف في ماله ، وأُقيم
عليه وصي لإدارة شؤونه
على ضوء المصلحة .
وإذا قيل بأنه حق لله تعالى ، فهل حق الله
سبحانه : هو الاستعباد .
وحق العباد : الاستعمال والاستمتاع ،
والانتفاع ؟ فكما أن له في حال
الجناية عليه : حق الإسقاط وأخذ العوض ،
والمجازاة في العمد عليه ، فله
حق التصرف ابتداء في عضو ونحوه تبرعاً كما أن
له بنص الشرع الخوض
في معارك الجهاد الشرعي ، وإلقاء نفسه حال
المسايفة والمبارزة ومقاتلة
المشرك لينال سلبه .
كل هذا محل تجاذب ونظر ، ولم ينفصل عن راقموه
بكبير شأن ، وإن
كان أظهرها اجتماع الحقين : حق الله ، وحق
عبده ، والأخذ بأحدهما
يختلف باختلاف الأحوال والتصرفات ومعلوم أن ما
اجتمع فيه الحقان فإن
إسقاط العبد لحقه مشروط بعدم إسقاط حق الله
تعالى ، وحق الله تعالى
هو الغاية من خلق الآدميين { وَمَا خَلَقْتُ
الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
فليس له حق التصرف في بدنه بما يضر في الغاية
من خلقه ولا بما
(2/29)
يخدشها . والله
أعلم .
3- قاعدة الشريعة في حفظ " الضروريات الخمس "
والمعروفة أيضاً باسم :
مقاصد الإسلام الخمسة وهي :
حفظ الدين .
فحفظ النفس .
فحفظ العقل .
فحفظ النسل " والعرض " .
فحفظ المال .
ومسائلها في الشرع معلومة . والقصد هنا ما
يتعلق بثانيها رتبة " حفظ
النفس " وعليه :
فاعلم أن " حفظ النفس " بما أنه من مقاصد
الشرع الكلية ومقاصده
الضرورية ، فقد أحاطته الشريعة بكل ما يمنع
النيل من هذه الصيانة ،
والحفظ في إطارات كلية وجزئية ، منها ما يلي :
أ - أن حرمة دم المسلم أو أي عضو منه ، وعصمته
. ذلك مما عُلم من
الدين بالضرورة ، والنصوص بهذا متظاهرة فلا
يجوز الاعتداء عليه
بقتل ، أو خدش فأكثر ، ولا قتل نفسه ولا العبث
ببدنه ، والتصرف فيه
بما يضره ولا ينفعه كالخصاء ، والوسم ، والوشم
، ونحوه . سوى ما كان
لموجب شرعي من حد أو قود في نفسه أو طرف ، أو
بتر عضو من
مريض لمرضه حتى لا يسري إلى بدنه .
ب - أن الشرع رتب التدابير الجزائية الرادعة
عن الاعتداء عليه من
قصاص ، ودية ، وكفارة ، وإثم .
(2/30)
ج - أنه لا
يباح شيء من بدنه بالإباحة ، فكما يحرم على
الإنسان : قتل
نفسه ، أو قطع عضو منه ، فيحرم عليه إباحة شيء
من ذلك لغيره .
قال القرافي في " الفروق " : " وحرم الله
القتل والجرح ، صوناً لمهجته ،
وأعضائه ، ومنافعها عليه ، ولو رضي العبد
بإسقاط حقه من ذلك ، لم يعتبر
رضاه ، ولم ينفذ إسقاطه " .
ونحوه في (الموافقات) للشاطبي ، وفي (كشاف
القناع) .
د - وإلى أبعد من هذا ذهب بعض أهل العلم
فقالوا بوجوب القصاص على
من جرح ميتاً أو كسر عظمه ، لعموم آيات القصاص
.
وممن قال بذلك ابن حزم رحمه الله تعالى (1) .
هـ - حماية الشرع له قبل ولادته ، فأوجبت
الدية في الجناية على الجنين ،
مع الإثم (2) .
و - تحريم الإجهاض ، فلو أجهضت أمه لوجبت
عقوبتها بديته لورثته (3) .
ز - النهي عن تمني الموت لضر نزل به ،
والأحاديث في هذا في الصحاح
من حديث أنس ، وأبي هريرة وغيرهما كحديث خباب
رضي الله عنه " لا
تتمنوا الموت " رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما .
ح - حث المسلم على إنقاذ الأنفس من الهلكة ،
وأن ذلك من أعظم
__________
(1) المحلى 11 / 39 . المجموع 5 / 283 ، 303 .
(2) المغني 7 / 799 ، زاد المعاد 3 / 200 .
(3) المغني 7 / 816 .
(2/31)
القربات ، وأجل
الطاعات ، قال الله تعالى : { مِنْ أَجْلِ
ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } .
ومن أسباب الهلاك (المرض) فبذل السبب من
المسلم لأخيه في إنقاذه
من مرضه ، إنقاذ له من الهلاك بأي سبب من علاج
، أو تغذيته بدم مضطر
إليه ...
ط - تحريم التمثيل به تشفياً وانتقاماً ،
وإهانة وإيذاء ، وإهداراً لحرمته
وكرامته ، وتغييراً لخلق الله كالتمثيل في
الحروب والمعارك وكتغيير خلق
الله مثل : خصاء الآدمي ، والوسم ، والوشم ،
والتنمص ، والتفلج ، ووصل
شعر الرأس من آدمي بآخر .
والنصوص في هذا متظاهرة من الكتاب والسنة ،
قال الله تعالى عن
عدوه إبليس : { وَلَآمُرَنَّهُمْ
فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ
يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ
اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا }
[النساء : 119] .
فهذه الآية : تشمل ما ذكر ، وتشمل نقل عضو من
عين ونحوها ، حتى
ولو كان لا يضر المنقول منه مطلقاً مثل نقل
شعر من آدمي لوصله في رأس
آخر .
وقد كان نزول هذه الآية في " فقء عيون الأنعام
، وشق آذانها " والعبرة
بعموم ألألفاظ لا بخصوص الأسباب ، ويشهد لهذا
العموم ، حديث ابن
مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لعن
الله الواشمات ،
والمستوشمات ، والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن
، المغيرات خلق الله
تعالى . مالي لا ألعن ما لعن رسولُ الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وهو في
كتاب الله تعالى" .
(2/32)
وفي الصحيحين
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ، قالت :
جاءت امرأة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فقالت : يا رسول الله ، إن لي
ابنة عريساً
أصابها حصبة ، فتمزق شعرها أفأصله ؟ فقال : "
لعن الله الواصلة
والمستوصلة " .
فهذا يدل على أمرين :
1- أن العلاج بنقل عضو لا يجوز ، للوعيد
المذكور ، فهو مثله .
2- أن من أصيب بداء من ذلك لا يجوز التعالج
بتعويضه من بدن إنسان
آخر . وهذا تغيير لخلق الله .
ولهذا قال النووي رحمه الله تعالى في وجه
الدلالة من هذه
الأحاديث (1) : إن وصلت بشعر رجل أو امرأة ،
وسواء شعر المحرم والزوج ،
وغيرهما بلا خلاف ، لعموم الأحاديث ، ولأنه
يحرم الانتفاع بشعر الآدمي
وسائر أجزائه ، لكرامته ، بل يدفن (2) شعره
وظفره ، وسائر أجزائه . اهـ .
وفي تفسير هذه الآية تكلم القرطبي على حرمة
خصاء الآدمي ونقل
عن ابن عبد البر قوله : (لا يختلف فقهاء
الحجاز ، وفقهاء الكوفة ، أن خصاء
بني آدم لا يحل ، ولا يجوز لأنه مُثْلَة ،
وتغيير لخلق الله تعالى وكذلك قطع
سائر أعضائهم في غير حد ولا قود) اهـ .
وقال النووي - رحمه الله تعالى - أيضاً : (ولا
يجوز أن يقطع - أي
الآدمي - لنفسه من معصوم غيره بلا خلاف ، وليس
للغير أن يقطع من
__________
(1) المجموع للنووي : 2 / ص 23 .
(2) انظر في دفن ما تساقط من بدن الآدمي :
تفسير القرطبي 2 / 102 ، المحلى
1 / 1118 ، مغني المحتاج 10 / 348 بحاشية
الشربيني .
(2/33)
أعضائه شيئاً
ليدفعه إلى المضطر بلا خلاف) اهـ .
لكن هذا الوجه من الاستدلال في حرمة التمثيل
على حرمة النقل
والتعويض والتشريح فيه نظر لما يلي : وهو أن
الأمور بمقاصدها ، فالتمثيل
المحرم هو المبني على التشفي والحقد والانتقام
والإيذاء . لهذا جاز
القصاص في النفس وما دونها : " العين بالعين ،
والسن بالسن ، والبادئ
أظلم " ولم يعد مثلة محرمة ، فتلحق بالتمثيل
المحرم ، بل هذا عين العدل
لأنه مبني على العقوبة بالمثل .
وهكذا يمكن أن يقال في التشريح لجثة الميت
لكشف الجريمة مثلاً
لمصلحته ومصلحة وارثه ، ومصلحة أمن الجماعة .
وهكذا في النقل والتعويض الإنساني فهذا والله
أعلم يعد من باب
الإحسان والإيثار . فالصورة في قلع العين كما
ترى واحدة ، والنتيجة
الحكمية مختلفة . فقلع العين كفعل العرنييْن
مثلة محرمة ، وقلع القرنية من
العين لمصلحة حي لا يحتسب مثلة بل يحتسب
إحساناً ، وقلع العين
قصاصاً يعتبر عدلاً . والله أعلم .
ي - رعاية حرمة المسلم ميتاً كرعاية حرمته
حياً .
وقد جاءت النصوص بتحريم كسر عظم الميت والنهي
عن إيذائه ،
والنهي عن وطء قبره ..
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " كسر عظم
الميت ككسر
عظم الحي " رواه أبو داود ، وابن ماجه ،
والدارقطني ، ولفظه : " كسر عظم
الميت ككسر عظم الحي في الإثم " .
ورواه ابن أبي شيبة بلفظ : " أذى المؤمن في
موته كأذاه في حياته " .
(2/34)
وعن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : " لأن يجلس
أحدكم على جمرة ، فتحرق ثيابه ، فتخلص إلى
جلده ، خير له من أن
يجلس على قبر " رواه مسلم والأربعة .
وجه الاستدلال :
إذا كانت حرمة المسلم ميتاً مساوية لحرمته
حياً فكيف تكون الجرأة
بهتك حرمته ، من تمزيق بدنه بتشريحه ، وانتزاع
عضو بل أعضاء منه .
قال الحافظ ابن حجر : (يستفاد منه أن حرمة
المؤمن بعد الموت باقية
كما كانت في حياته) اهـ .
ك - الحجر والمنع للمتطبب الجاهل رعاية للنوع
البشري من العبث ،
وتضمينه (1) " من تطبب ولم يُعلم منه طب فهو
ضامن " رواه أبو داود ،
والنسائي ، وابن ماجه ، والحاكم .
4- الموازنة بين المصالح والمفاسد ، والمنافع
والمضار . ثم هذه القاعدة
العظيمة التي تعني الحفظ العام ، والرعاية
الشاملة لهذه المقاصد الخمسة
بجزئياتها ، تدور مفرداتها في قاعدة الشريعة
الأخرى وهي : (الموازنة
... الخ) . فإن تغالبتا فالحكم للغالبة منهما
، وإن تساوتا قُدّم الحظر درءاً
للمفسدة .
5- اعتبار المصالح . ثم إن (المصلحة في الشرع)
، وهي مفسرة بما يعني :
جلب المنفعة ، ودفع المضرة ، تحقيقاً لأي من
المقاصد الخمسة المذكورة
- هي بالاعتبار لا تخلو من واحدة من ثلاث :
__________
(1) المغني 6 / 120 حاشية ابن عابدين 8 / 183
. الطب النبوي ص / 109 ، بداية
المجتهد 2 / 346 .
(2/35)
1- مصلحة شهد
الشرع باعتبارها ، كالحدود .
2- مصلحة لم يشهد الشرع لها بالاعتبار ، بل هي
منحطة عن مصالحه
المعتبرة . وهي ما شهد النص بإلغائها . كقول
من قال من العلماء :
بوجوب كفارة الصيام دون الإعتاق على من جامع
من الملوك في نهار
رمضان ، وهو صائم .
3- وثالثة لم يشهد لها الشرع نصاً بأي من هذين
الاعتبارين ، وهذه
تسمى (المصلحة المرسلة) . وسميت مرسلة لعدم
ورود النص بها .
6- مراتب المصالح :
ثم هذه المصالح المرسلة تدور بين رتب ثلاث :
1- مرتبة الضرورة .
2- مرتبة الحاجة .
3- مرتبة التحسين .
فما يتطلبه بدن الآدمي الحي من بدن إنسان آخر
لا يخلو أن يكون
أمراً تحسينيا تجميلياً فهل تنتهك حرمة بدن
الميت مثلاً لغرض
تحسيني . ؟ ومثله في غير الآدمي : يسير الذهب
في الإناء كالضبة .
وإما أن يكون حاجياً بمعنى أن يكون مكملاً
لعمل كفائي في بدن
الإنسان ، دون منزلة الضرورة . فهل تنتهك حرمة
الانتهاك لغرض
حاجي .. ؟ ومثل الحاجة في غير الآدمي : يسير
الفضة التابع كما في
حديث أنس رضي الله عنه : " إن قدح رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما انكسر
شعب
بالفضة " ، وإما أن يكون ضرورياً بمعنى توقف
حياته عليه . فهذا انتهاك
حرمة بدن ميت بجانب العمل على حياة آدمي معصوم
، فما الحكم . ؟
(2/36)
7- قواعد دفع
الضرر ورفع المشقة :
1- الضرر يزال .
2- والضرورات تبيح المحظورات .
3- ويرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما .
4- ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام .
5- والضرورة تقدر بقدرها .
6- والمشقة تجلب التيسير .
7- والأمر إذا ضاق اتسع .
ثم الضرورات إذا حصلت ، فإن : الضرر يزال ،
والضرورة تبيح
المحظور ، والمشقة تجلب التيسير .
وتأسيساً على هذه القواعد المترابطة الآخذ
بعضها بحجز بعض ،
جالت أنظار العلماء المتقدمين في عدد من
الفروع الفقهية في غذاء
الآدمي عند الاضطرار أو دوائه وأشياء أخرى
كلها واردة على مقصد الشرع
في ضرورة (حفظ النفس) - بين الجواز والمنع ،
والقبول والكراهة ، أسوق
رؤوس المسائل فيها دون التعرض لذكر الخلاف
فضلاً عن تحريره ، لأن
هذا مما يطول ، ولا يعنينا هنا تحرير الحكم
البات في كل مسألة بعينها ،
أكثر مما يعنينا ذكرها وإن أنظار العلماء جالت
فيها ، وإن كان الأكثر على
جواز أكثرها وقلَّ كتاب من كتب المذاهب
المعتبرة إلا ويذكرها أو بعضها
لعموم البلوى ، وقد ذكر أكثرها :
العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام 1 / 86
- 98) في مبحث : (ما لا
يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه) .
(2/37)
وابن قدامه في
(المغني 9 / 417 - 419 ، 11 / 78 - 80) وأتى
على عامة
النقول من المذاهب الأربعة
اليعقوبي في : (شفاء التباريح والأدواء ص / 45
- 74) وإلى رؤوس
المسائل فيها .
1- شق بطن المرأة الميتة التي في بطنها حمل
متحرك يضطرب ، وفي هذا
إنقاذ لحياة معصوم ، وهي مصلحة أعظم من مفسدة
انتهاك حرمة الميت (1) .
لكن هذا الشق يطابق وظيفة الأم الطبيعية ، وقد
توصل الطب الحديث
إلى عمله في المرأة الحية ، إذا تعسرت ولادتها
، فهو عملية مجردة في
محل واحد ، هو : الميت متصلاً به حي أو حي
متصل به ميت أو حي ،
ولا سبيل إلى إنقاذ الحي إلا بهتك حرمة وعائه
(الحي المتلبس به) بخلاف
المفارق كأخذ عضو من ميت إلى حي آخر فلا مماسة
، فافترقا ، فبطل إذاً
التنظير والقياس للاستدلال بها في النقل من
ميت إلى حي . والله أعلم .
__________
(1) حاشية ابن عابدين 2 / 602 ، 628 . الفتاوى
الهندية 5 / 360 ، عيون المسائل
للسمرقندي ص / 384 . الأشباه والنظائر لابن
نجيم ص / 88 . شرح المواق على
خليل 2 / 274 . المدونة 1 / 190 - 191 . فتاوى
عليش 1 / 319 ، 320 . شرح
الدردير على خليل 1 / 192 ، حاشية الصاوي على
الشرح الصغير 1 / 192 .
الروضة للنووي 2 / 140 ، المجموع 5 / 301 .
مغني المحتاج 1 / 207 . الإنصاف
للمرداوي 2 / 556 . الإقناع 1 / 235 - 236 .
الفروع وتصحيحه 1 / 961 .
المغني 2 / 413 - 415 . المحلى 5 / 166 ، 167
. قواعد الأحكام للعز بن عبد
السلام 1 / 79 ، 86 - 98 . شفاء التباريح ص /
45 - 74 .
(2/38)
2- رمي من تترس
به الكفار من أسارى المسلمين في الحرب (1) .
3- رمي الكفار بالمنجنيق إذا تترسوا بالحصون ،
وإن كان فيهم النساء
والأطفال (1) .
4- أكل المضطر لحم آدمي ميت إذا لم يجد غيره
مما يؤكل لسد رمقه (2) :
قال الحنابلة لا يجوز ، وقال الشافعية
والحنفية يجوز ، لأن حرمة الحي
أعظم .
5- بقر بطن الميت إذا ابتلع دنانير للغير (3)
.
لكن هذا جاز شق بطنه لأنه هتك حرمة نفسه
بتعديه على مال الغير
كالسارق إذا سرق قطعت يده . والله أعلم .
6- استهام ركاب السفينة لإلقاء بعضهم في حال
مشاهدة العطب تلافياً
للغرق (4) .
__________
(1) الأم 4 / 287 ، المغني 4 / 276 - 1277 .
الإنصاف 4 / 129 .
(2) شرح المواق على خليل 2 / 71 ، كتاب
الجنائز ، شرح الدردير على خليل
1 / 301 ، فتاوى عليش 1 / 596 ، وبداية
المجتهد . الروضة للنووي 2/ 284 -
285 . المغني 11 / 79 . الإنصاف للمرداوي 10 /
276 . والشرح الكبير
11 / 106 ، والمحلى 5 / 426 . المجموع 9 / 33
، 36. القواعد للعز بن عبد
السلام 1 / 89 . مغني المحتاج 1 / 359 ، 4 /
282 - 284 . حاشية الباجوري على
ابن قاسم 2 / 302 . فتح الوهاب شرح منهج
الطلاب 2 / 193 .
(3) قواعد الأحكام 1 / 97 . المغني 2 / 414 -
415 . المحلى 5 / 166 - 167 الأشباه
والنظائر لابن نجيم ص / 88 ، 1 / 113 ، 2 /
360 ، الفتاوى الهندية ، ومجلة
البعث الإسلامي عدد / 2 مجلد / 32 لعام 1407
هـ ص / 49 . المجموع 5 / 300 .
نهاية المحتاج للرملي 3 / 39 . مغني المحتاج
للشربيني 1 / 207 .
(4) قواعد الأحكام لابن عبد السلام 1 / 89 .
(2/39)
7- وصل عظم
الرجل بعظم أنثى وعكسه .
قال عبد الحميد الشرواني في حاشيته على تحفة
المحتاج شرح
المنهاج (1) : " يجوز للذكر الوصل بعظم الأنثى
وعكسه ، ثم قال : وينبغي
أن لا ينقض وضوءه ، ووضوء غيره به ، وإن كان
طاهراً ، ولم تحلّه
الحياة ، لأن العضو المبان لا ينقض الوضوء
بمسه إلا إذا كان من الفرج
وأطلق عليه اسمه " اهـ .
8- قال بعض أصحاب الشافعي : للمضطر إذا لم يجد
شيئاً أن يأكل بعض
أعضائه ، لأن له أن يحفظ الجملة بقطع عضو كما
لو وقعت فيه
الأكَلَةُ (2) .
9- إذا لم يجد المضطر آدمياً ، فإن كان
معصوماً محقون الدم فليس له
قتله ليسد به رمقه إجماعاً ولا إتلاف عضو منه
مسلماً كان أو كافراً . وإن
كان مباح الدم كالحربي والمرتد ، فذكر القاضي
أن له ذلك ، وبه قال
أصحاب الشافعي (3) .
__________
(1) انظر : منهج الطالبين للنووي ، وشرحه مغني
المحتاج 1 / 190 - 192 . المجموع
3 / 138 ، تحفة المحتاج 2 / 125 - 128 الفتاوى
الهندية 5 / 254 .
(2) الإقناع 4 / 313 . وغاية المنتهى 3 / 369
. المغني 9 / 417 . مغني المحتاج
4 / 285 ، قتل الوهاب شرح منهج الطلاب للشيخ
زكريا الأنصاري
2 / 193 - 194 .
(3) المغني 9 / 417 ، 11 / 78 - 80 . البدائع
للكاساني 7 / 177 . وغاية المنتهى
3 / 369 . الأشباه والنظائر لابن نجيم ص / 124
. رد المحتار 5 / 215 ، طبعة
الهند عمدة القاري 8 / 296 .
(2/40)
10- نبش القبر
لمصلحة ، وله وقائع متعددة (1) .
11- قطع اليد المتآكلة حتى لا تسري إلى البدن
(2) .
12- شرب لبن الميتة للمضطر ، وانتشار المحرمية
به (3) .
13- إجراء العمليات الجراحية إن غلب على الظن
نجاحها (4) . مثل بطّ
القرحة بالكي ، وقطع الأصبع الزائدة ، وشق
المثانة إذا كانت فيها حصاة .
14- تنبيه : في المغني وغيره ما نصه (5)
" قال أبو بكر بن داود : أباح الشافعي أكل
لحوم الأنبياء ... " اهـ .
وقال الباجوري (6) : " وللمضطر أكل ميتة
الآدمي إذا لم يجد ميتة غيره
لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت ، إلا إن
كان الميت نبياً فلا
يجوز الأكل منه جزماً ، لشرفه على غيره
بالنبوة " اهـ .
وقال التاج ابن السبكي في ترجمة المزني (7) ،
بعد جزمه بأن
__________
(1) القواعد لابن عبد السلام 1 / 96 . تحفة
المحتاج 3 / 205 - 206 . حاشية
الباجوري على شرح ابن قاسم 1 / 268 . المجموع
5 / 301 - 302 الإقناع
1 / 235 - 236 . مغني المحتاج للشربيني 1 /
367 نهاية المحتاج للرملي 3 / 40 .
(2) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام 1 / 87
. المغني 11 / 78 ، 79 . الفتاوى
الهندية 5 / 360 .
(3) المغني 9 / 198 - 199 . شفاء التباريح ص /
71 وفيه نقول عن الشافعية
والحنفية .
(4) شفاء التباريح ص / 72 عن : الدر المختار 5
/ 479 . الفتاوى الهندية 5 /360 .
(5) المغني 9 / 417 .
(6) حاشية الباجوري على شرح أبي القاسم 2 /
302 .
(7) طبقات الشافعية 2 /105 ط الحلبي .
(2/41)
الصحيح في
المذهب أن المضطر يأكل لحم الآدمي الميت
وقال التاج : " إبراهيم المروزي : إلا أن يكون
الميت نبياً " اهـ .
وقال النووي (1) : " قال الشيخ إبراهيم
المروزي : إلا إذا كان
الميت نبياً فلا يجوز الأكل منه بلا خلاف
لكمال حرمته ، ومزيته على
غير الأنبياء " اهـ .
وقال القرطبي (2) " ولا يأكل - أي المضطر -
ابن آدم ولو مات ، قاله
علماؤنا ، وبه قال أحمد وداود ، احتج أحمد
بقوله عليه السلام : " كسر
عظم الميت ككسره حياً " ، وقال الشافعي : يأكل
لحم ابن آدم ، ولا
يجوز أن يقتل ذمّياً لأنه محترم الدم ، ولا
مسلماً ، ولا أسيراً ، لأنه مال
الغير ، فإن كان حربياً ، أو زانياً محصناً :
جاز قتله والأكل منه " اهـ .
وهذا كله يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله
تعالى لم يقل
بإباحة أكل لحوم الأنبياء ، إضافة إلى أنه لا
سند لذلك إليه ، وعلى
فرض أنه قال ذلك - وحاشاه من أن يقوله - يكون
ذلك من قبيل ما نقله
شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1 / 219
عن ابن المبارك أنه
قال : " رب رجل في الإسلام له قدم حسن وآثار
صالحة كانت منه
الهفوة ، والزلة لا يقتدى به في هفوته وزلته "
اهـ .
15- وقد بلغ الحال إلى اتخاذ أعضاء مصطنعة من
الذهب والخشب .
ونحوهما . وحصل بالتتبع عدد من الواقعات من
عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إلى
القرن السادس . ومنه اتخاذ عرفجة رضي الله عنه
أنفاً من فضة لما
__________
(1) المجموع 9 / 36 .
(2) الجامع 2 / 211 - 212 .
(2/42)
أصيبت أنفه يوم
كلاب .
والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد
عين قتادة بن النعمان لما أصيبت يوم بدر . ورد
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عين أبي سفيان لما أصيبت يوم حنين. وهكذا في
وقائع على تعاقب
العصور .
ومنها اتخاذ الزمخشري سنة 538 هـ رجْلاً من
خشب . والله أعلم .
(2/43)
المبحث السادس
تخريج وتنزيل الإجراءات الطبية المعاصرة
على المدارك الشرعية
وبعد هذا التطواف المبين لمدارك ومآخذ الأحكام
التي فيها إجراءات
على بدن الإنسان ، وتنزيل الفروع الفقهية
المعاصرة لمتقدمي الفقهاء
عليها .
وبعد أن أحاط الناظر خبراً بأنواع الأعمال
الطبية الفاعلة على بدن
الإنسان وأوعيتها الثلاثة العامة وهي :
1- إجراء العمليات .
2- التشريح .
3- النقل والتعويض الإنساني .
وعلم أقسام كُلٍّ على سبيل التتبع والاستقراء
، مما به يعلم " التصور
الطبي للنازلة الطبية " حتى يمكن معرفة تقبل
القواعد الشرعية لها جوازاً أو
منعاً .
بعد هذا كله نأخذ بها واحدة إثر الأخرى في
أوعيتها العامة على ما يلي :
أولاً : إجراء العمليات :
(2/44)
طرداً لمشروعية
التداوي في الشرع ، فإن إجراء العمليات الطبية
الفاعلة على بدن الإنسان في عملية شق البطن
لرتق فتق ، أو قطع زائدة
دودية ونحو ذلك مما فيه دفع مرض ، والعادة
جارية بنجاحه في عرف الطب
الذي يعايشه الإنسان ... فهذا مما لا خلاف في
جوازه إلحاقاً له بحكم
الأصل .
نعم الخلاف في بعض متعلقات العملية من التخدير
بالبنج ،
والمشارطة على البرء ... وهذه ونحوها محررة
أحكامها في المدونات
الفقهية . والله أعلم .
ثانياً : التشريح
علم التشريح مرتكز أساس لحذق الطبيب ، وطريق
اكتسابه إما أن
يكون عملياً أو نظرياً ، ولا غنى للطبيب عن
عملياً .
والتشريح أيضاً هو الأساس في تشخيص الأمراض .
والتشريح مفيد إلى حدٍ ما في تحديد سبب الوفاة
هل هو باعتداء أو
بدون اعتداء ؟ وفي كشف الجريمة هل هي بمثقل أو
محدد ؟ وهل الوفاة
بسبب الجناية أو ليست بسببها ؟ .
والتشريح أساس للطب في إطار " النقل والتعويض
الإنساني " .
ومن إفادات التشريح في بعض المسائل الفقهية :
1- أن بعض أهل العلم قرروا في : عين الأعور
الدية كاملة . والعلة
أن العين العوراء يرجع نورها للصحيحة .
والتشريح يكشف عن تحديد هذا حتى يصحح القول
بوجوب الدية
كاملة ، أو نصف الدية كالشأن فيمن له عينان
سليمتان فجُني على إحداهما
(2/45)
ففيها نصف
الدية (1) .
2- ومنه البحث في طهارة المني ونجاسته (2) .
فقد علل القائلون بنجاسته وهم : المالكية ،
والحنفية ، بأنه من مجرى
البول .
والشافعية قالوا بأن لكل منهما مجرى فهو طاهر
. قال القاضي أبو
الطيب : " وقد شق ذكر رجل فوجد كذلك " .
فالحكم في قيام هذا التعليل أو إلغائه للتشريح
.
وبعد : فيرد السؤال المعاصر هل يُخَرَّجُ
التشريح في صوره الثلاث أو
في أحدها على الجواز أم المنع ؟ .
فيقال :
أ - أما تشريح الميت لكشف الجريمة ، فإنه متى
استدعى الحال -
لخفاء في الجريمة ، وسبب الوفاة باعتداء وهل
هذه الآلة المعتدى بها
قاتلة ، فمات بسببها أو لا - فإنه يتخرج القول
بالجواز ، صيانة للحكم عن
الخطأ ، وصيانة لحق الميت الآيل إلى وارثه ،
وصيانة لحق الجماعة من
داء الاعتداء والاغتيال . وحقناً لدم المتهم
من وجه ، فتحقيق هذه المصالح
غالبت ما يحيط بالتشريح من هتك لحرمة الميت ،
وقاعدة الشريعة ارتكاب
أخف الضررين . والضرورات تبيح المحظورات .
والله أعلم .
وهذا الجواز - عند من قال به - في ضوء الشروط
الآتية :
__________
(1) الفروق 3 / 191 .
(2) المجموع 2 / 573 .
(2/46)
1- أن يكون في
الجناية متهم .
2- أن يكون علم التشريح لكشف الجريمة بلغ إلى
درجة تفيد نتيجة
الدليل ، كالشأن في اكتشاف تزوير التوقيعات
والخطوط .
3- قيام الضرورة للتشريح بأن تكون أدلة
الجناية ضعيفة لا تقوى على
الحكم بتقدير القاضي .
4- أن يكون حق الوارث قائماً لم يسقطه .
5- أن يكون التشريح بواسطة طبيب ماهر .
6- إذن القاضي الشرعي .
7- التأكد من موت من يراد تشريحه لكشف الجريمة
: الموت المعتبر
شرعاً .
ب - أما التشريح لكشف المرض .
ج - وأما التشريح للتعلم والتعليم .
فحيث أن جثث الموتى من الوثنيين وغيرهم من
الكفار ميسورة الشراء
لهذين الغرضين برخص الأسعار ، وأموال المسلمين
نهاباً يبذل قسط منها
في غير مصارفه الشرعية فهي غير منتظمة المصارف
على رسم الشرع ، ولذا
لم أجرؤ على بحثهما .
ثالثاً - النقل والتعويض الإنساني
في أقسامه الأربعة
يقصد بالنقل والتعويض الإنساني : نقل قطعة من
جلد إلى مكان آخر
من بدنه ، أو نقل عضو ، أو دم ، من بدن إنسان
متبرع به إلى بدن إنسان
آخر ، يقوم مقام ما هو تالف فيه أو مقام ما لا
يقوم بكفايته ، ولا يؤدي وظيفته
بكفاءة .
(2/47)
وقد اشتهر بلقب
:
زراعة الأعضاء الإنسانية .
غرس الأعضاء .
انتفاع الإنسان بأعضاء الإنسان .
ترقيع الأعضاء .
والدم بخصوصه اشتهر بلقب : " نقل الدم " ، و "
التلقيح بالدم " .
لكن هنا من النقولات ما لم يشمله هذان اللقبان
وهو : النقل لغير دمٍ
أو عضو كنقل قطعة من جلد ، إذ لا يطلق عليها "
عضو " ، وأن يكون النقل
إليه أو إلى إنسان آخر .
ويمكن تقسيمها باعتبارين :
أولاً : أقسامها باعتبار المنقول وهي ثلاثة :
1- نقل الدم .
2- نقل عضو .
3- نقل ما دون العضو كقطعة جلد ، أو بعض شريان
.
ثانياً : أقسامها باعتبار طرفي النقل :
1- النقل الذاتي أي من بدن الإنسان إليه ذاته
من مكان إلى آخر مثل
ترقيع الشفة بقطعة من الفخذ ، وترقيع الجفن
بقطعة من الشفة .
2- النقل من حي إلى حي .
3- النقل من ميت إلى حي .
وللترابط بين هذين التقسيمين بهذين الاعتبارين
في ترتيب الحكم ،
(2/48)
فإنه يمكن لنا
حصر النقولات في أقسامها الأربعة الآتية :
القسم الأول : نقل الدم من إنسان حي إلى آخر .
ويقال : التبرع بالدم
وهذا أوسعها انتشاراً .
القسم الثاني : النقل الذاتي : من الإنسان
إليه ذاته . وهذا يليه في الانتشار ،
خاصة في عمليات التجميل .
القسم الثالث : النقل لعضو ونحوه من حي إلى حي
، للعلاج .
القسم الرابع : النقل لعضو ونحوه من إنسان ميت
إلى حي ، للعلاج .
وقد وصل الطب إلى عدد من مفردات النقل منها :
1- نقل القرنية : وقد أقيم لها مراكز عالمية .
والقرنية ، هي الجزء
الأمامي من جدار المقلة ، وهي قرص صلب شفاف
يغطي سواد العين
وتمتاز عن معظم أنسجة العين ، وأنسجة الجسم
كلها بأنها شفافة للضوء .
2- نقل الكلى وزرعها . وقد أقيم مراكز عالمية
لها .
3- العظام .
4- نقل شريان من الساق مثلاً للقلب .
5- توصيل الأمعاء المستأصلة . استئصال الأمعاء
، وتوصيلها .
6- المفاصل .
7- البنكرياس وخلاياه .
8- نقل القلب وزرعه .
9- الكبد .
10- الرئتان .
11- العضو التناسلي ، والغدد التناسلية .
(2/49)
النقل والتعويض
بين رتب المصالح
الضرورية والحاجية والتحسينية
يمكن تصنيف دواعي النقل والتعويض إلى ثلاث
مراتب :
1- ما يقع في مرتبة الضرورة ، والضرورة تكون
فيما تتوقف حياة
الإنسان عليه .
2- ما يقع في مرتبة الحاجة ، كالقرنية .
3- ما يقع في مرتبة التحسينات ، كسن وتسوية
شفة ونحوها .
تقسيمها باختلاف الدين
النقل والتعويض ينقسم باعتبار اختلاف الملة
إلى قسمين :
النقل من مسلم إلى كافر ، وعكسه ، لا سيما إذا
كان بين ولد مسلم
ووالدته الكتابية .
وللأطباء تقسيمات أخر باعتبار (1) :
الذاتية : أي كونها من الجسم ذاته وإليه من
منطقة إلى أخرى .
والتماثل : كالنقل بين التوأمين .
والتباين : كالنقل بين آدميين .
والدخيلة : كالنقل من حيوان ، أو مصنَّعة إلى
آدمي .
لكن هذه التقسيمات الطبية لا يترتب عليها
اختلاف في الحكم
الشرعي ، سوى " الدخيلة " وستعلم ما فيها بعدُ
إن شاء الله تعالى .
__________
(1) بحث الطبيب ، البار ص / 6 .
(2/50)
وباعتبار عملية
التعويض يقسمها الأطباء إلى تقسيم آخر إلى
قسمين (1) :
1- الموضع السوي : بمعنى غرس أو زرع العضو في
مكان التالف
ذاتاً أو منفعة . وهذا في : القلب والرئتين
والكبد والقرنية .
2- الموضع المختلف : بمعنى زرع العضو في غير
محله التالف .
مثاله : زرع الكلى في الحفرة الحرقفية بدلاً
من موضعها في الخاصرة .
النقل من ميت لحي
يتصور من حيث الإذن وعدمه إلى الصور الآتية :
1- ميت أذن قبل وفاته .
2- ميت لم يعقب وارثاً .
3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث .
4- ميت عقب ورثة فأذن بعضهم .
5- ميت عقب ورثة فأذنوا جميعهم .
التخريج الشرعي للمنقولات
أولاً : التخريج للتغذية بالدم
في أعقاب الإنجاز الطبي الحديث بنقل الدم من
إنسان إلى آخر
تعويضاً له عن نقص في مادة الدم أو عن نزيف
حصل له كالحال في
بعض الحوادث ، وحالات الولادة ولقاء إجراء
العمليات وهكذا - حصل
__________
(1) البار ، ص / 7 .
(2/51)
تقليب العلماء
للنظر فيها وتخريجها على ما يمكن تخريجها عليه
، والتنظير
لها بفروع من بابها ، وكيف الاعتذار في نظر
المبيح عن حديث النهي عن
التداوي بالمحرمات وكتبت في هذا أبحاث ،
ورسائل ، وبعد تطواف كبير
استقرت كلمة أهل العلم على الجواز في محيط
الشروط والضوابط الآتية
وهي :
1- قيام الضرورة وتحققها .
2- عدم وجود بديل له مباح .
3- غلبة الظن على نفع التغذية به .
4- تحقق عدم الخطر على المأخوذ منه .
5- توفر رضا المأخوذ منه وطواعيته .
6- أن يكون النقل بالتعويض بإجراء طبيب ماهر .
7- أن تكون التغذية به بقدر ما ينقذه فالضرورة
تقدر بقدرها .
والمدرك الفقهي لهذه المسألة ، الذي ينفي
الاضطراب ويقطع
اختلاف الأقوال هو : أن نقل الدم من إنسان إلى
آخر في إطار الشروط
المذكورة ومن أهمها (الاضطرار) هو : (من باب
الغذاء لا الدواء) فكمية
الدم نقصت مادتها فيحتاج إلى تغذيتها (1) ،
ولهذا فهو داخل في حكم
المنصوص عليه بإباحة تناول المضطر في مخمصة من
المحرمات لإنقاذ
نفسه من الهلكة كما في آيات الاضطرار ومنها
قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنْزِيرِ }
إلى قوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ
مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } .
__________
(1) انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 92
- 93 .
(2/52)
ولو قيل هو من
باب الدواء فيقال (1) : (إذا اضطررنا إليه فلم
يحرم علينا
حينئذ ، بل هو حلال فهو لنا حينئذ شفاء) .
هذا وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
تعالى في مواضع :
أن دم الآدمي طاهر ما دام في جسده فإذا ظهر
وبرز كان نجساً ، ورد على
من قال بنجاسته ما دام في جسد الآدمي بوجوه
متعددة من أهمها (2) :
عدم الدليل على تنجيسها والأصل الطهارة ، وإن
خاصية النجس
وجوب مجانبته في الصلاة ، وهذا مفقود فيها في
البدن من الدماء وغيرها ،
ومنها : (أن الدماء المستخبثة في الأبدان
وغيرها ، هي أحد أركان الحيوان
التي لا تقوم حياته إلا بها حتى سميت نفساً ،
فالحكم بأن الله يجعل أحد
أركان عباده من الناس والدواب نوعاً نجساً في
غاية البعد) .
لكن بقي هنا أبحاث :
الأول : أن الأصل هو التبرع به ، وبيعه فيه
إهدار لكرامة الإنسان وقيمته .
وفي هذا بحث سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر
أبحاث هذه النازلة .
الثاني : النقل والتعويض للدم بين مختلفي
الديانة كمسلم وكافر ، كحال
من كانت أمه كتابية ووالده مسلم .
الثالث : جمع الدم في (بنوك الدم) تحسباً
لوجود المضطر ومفاجأة أحوال
الاضطرار وتكاثرها ، تقتضي ذلك . فهو تبرع من
مالكه بشرطه من عدم
التأثير على صحته ... لمضطر يحتاج إليه .
__________
(1) المحلى 1 / 234 .
(2) الفتاوى 21 / 558 - 601 .
(2/53)
وقد نص بعض أهل
العلم على ما هو أقل من هذا في تزود المضطر
مما أبيح له أكله ضرورة .
قال البهوتي في (كشاف القناع) : (وللمضطر أن
يتزود من المحرَّم إن
خاف الحاجة إن لم يتزود) اهـ .
ثانياً : التخريج الشرعي للنقل الذاتي
النقل الذاتي من مكان من بدن الإنسان إلى مكان
آخر منه ذاته هو
في الحكم كإجراء عملية له كالفتق ، والزائدة
الدودية ، وقطع العضو
المتآكل ، وهذا طرداً لقاعدة التداوي : "
الجواز " في إطار شروط التداوي
العامة . والله أعلم .
ثالثاً : النقل من حي إلى حي
النقل من حي إلى حي ، لا يخلو من حيث التأثير
على حياة المنقول
منه وصحته من واحد من الأحوال الآتية :
1- لا تأثير له بأي ضرر مطلقاً كنقل قطعة من
جلد ونحوه مما لا
تتوقف حياته ولا صحته عليه . وهذا أمر افتراضي
ولم نعلم في أبحاث
الطب نقلاً من هذا النوع .
2- نقل يؤدي إلى ضرر جزئي محتمل لا خطر معه
على صحته ولا
حياته ، مثل : نقل سن ، أو نقل دم .
فهذا افتراض لا نعلمه في أبحاث الطب سوى نقل
الدم للتغذية به
وقد تقدم بيانه .
3- نقل يؤدي إلى ضرر بالغ بتفويت أصل الانتفاع
أو جلّه كقطع
(2/54)
كلية ، أو يد ،
أو رجل ...
والذي يظهر والله أعلم تحريمه وعدم جوازه ،
لأنه تهديد لحياة متيقنة
بعملية ظنية موهومة أو إمداد بمصلحة مفوتة
لمثلها بل أعظم منها .
ولأن حق الله تعالى متعلق ببدن الإنسان قال
الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ
الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }
فمن يفتقد عضواً عاملاً في بدنه يرتفع عنه
بمقدار عجزه عدد من تكاليف الشريعة { لَيْسَ
عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى
الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى المَرِيضِ
حَرَجٌ ... } .
فكيف يفعل الإنسان هذا بنفسه وإرادته ويفوت
تكاليف مما خلق من
أجْلِها ليوفرها لغيره بسبيل مظنون ، فالضرر
لا يزال بمثله ، فهذه المصلحة
المظنونة بتفويت المتيقنة مما يشهد الشرع
بإلغائها وعدم اعتبارها .
4- نقل يؤدي إلى الخطر على الحياة أو الصحة ،
أو يؤدي إلى
الموت ، كنزع القلب ، والرئة ... فهذا قتل
للنفس ، وانتحار بطيء ، والله
تعالى يقول : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
} وهو من أشد المحرمات في الشرع
والفطرة .
الرابع : النقل من ميت إلى حي
اعلم أن المراد بالميت هنا هو من فارقت روحه
بدنه بانقطاعها عن
بدنه انقطاعاً تاماً من توقف دقات قلبه طبعياً
، أو صناعياً ، واستكمال أماراته .
فهذه هي الوفاة التي تترتب عليها أحكام مفارقة
الإنسان للدنيا من انقطاع
أحكام التكليف ، وخروج زوجته من عهدته ، وماله
لوارثه ، وتغسيله ،
وتكفينه ، والصلاة عليه ، ودفنه ...
أما نصب (موت الدماغ ، أو : جذع الدماغ)
تحقيقاً لمدته مع نبض قلبه
(2/55)
ولو آليا فهذا
في نفس الأمر ليس موتاً لكنه نذير وسير إلى
الموت ، فما زال
له حكم الأحياء حتى يتم انفصال الروح عن البدن
. ولذا :
لا بد لنا هنا من تصور الأحوال حتى يكون بإذن
الله تعالى تنزيل
الحقيقة الشرعية على الحقيقة الواقعية الطبعية
لكل مسألة بخصوصها ،
وهنا طرفان : ميت ، وحي .
أما الميت المأخوذ منه : فتصور الحال من حيث
الإذن وعدمه إلى ما
يلي :
1- ميت أذن قبل وفاته بانتزاع عضو منه لمعين
أو لغير معين .
2- ميت لم يعقب وارثاً .
3- ميت عقب وارثاً ولم يأذن الوارث .
4- ميت عقب ورثة فأذن البعض .
5- ميت عقب ورثة فأذن جميعهم .
أما الحي فلا تخلو مصلحته من مراتب المصالح
الثلاث :
1- إما أن تكون ضرورية تتوقف حياته إلى ذلك
العضو .
2- وإما أن تكون حاجية لا تتوقف حياته عليه
كالحاجة إلى قرنية
ونحوها .
3- وإما أن تكون تحسينية كترقيع شفة أو نحوها
.
وعليه :
فإذا كانت المصلحة تحسينية فلا ينبغي الخلاف
بعدم الجواز ، سواء
أذن الميت قبل وفاته أم لا ، لأن حرمته ميتاً
كحرمته حياً ، فلا يجوز انتهاك
حرمته المحرمة لتوفير مصلحة تحسينية تجميلية ،
وفي هذا تعريض لجثة
(2/56)
الميت للانتهاك
، وتسويغ العبث بها .
وأما إن كانت مصلحة الحي حاجية ، فإن حرمة
الميت واجبة كحرمة
الحي ، وهتكها وقوع في محرم . فلا ينبغي خرق
الحرمة والوقوع في الحرام
لمصلحة مكملة للانتفاع .
وأما إن كانت ضرورية ، والضرورية هنا مفسرة
بما تتوقف حياته عليه
كالقلب ، والكلى ، والرئتين ونحوها من أصول
الانتفاع الضرورية .
فهنا يتخرج الجواز عند من قال به ، لما يأتي :
1- بالموازنة بين المصالح والمفاسد ، والمنافع
والمضار ، فإن مصلحة
الحي برعاية إنقاذ حياته أعظم من مصلحة الميت
بانتهاك حرمة بدنه وقد
فارقته الروح ، وأذن به فتفوت أدنى المصلحتين
لتحصيل أعلاهما . ولهذا
نظائر في الفروع المتقدمة عند عدد من أهل
العلم من التناول في حال
الاضطرار من : لبن المرأة الميتة ، ولحم
الآدمي ، وشق بطن المرأة الميتة
الحامل إذا كان حملها يضطرب وقد علمت ما فيه ،
ونبش القبر لمصلحة
حي ، وبقر بطن ميت ابتلع مال حي وقد علمت ما
فيه أيضاً ... إلخ .
إلى آخر ما تقدم من فروع على قواعد الضرر من
أنه يزال ، وأن
الضرورات تبيح المحظورات . والله أعلم .
2- وَشُرِطَ إذنه أو إذن ورثته ، لأن رعاية
كرامته حق مقرر له في الشرع
لا ينتهك إلا بإذنه ، فهو حق موروث كالحال في
المطالبة من الوارث في
- حدّ قاذفه - ولذا فإن الإذن هو إيثار منه أو
من مالكه الوارث - لرعاية حرمة
الحي على رعاية حرمته بعد موته في حدود ما أذن
به . ولذا صح ولزم شرط
الإذن منه قبل موته ، أو من ورثته جميعهم .
(2/57)
أما إن فات هذا
الشرط ولم يتحقق بإذنه ، أو أذن جميع ورثته
بأن أذن
بعض دون بعض فلا يجوز انتزاع عضو منه بل
المراغمة في هذا : هتك
تعسفي للحق وحرمة الرعاية له .
أما من لا وارث له إذا مات ببلد إسلام تحت
ولاية سلطان مسلم
يحكم الشرع ويقيم الحدود ، وينفذ أحكام
الإسلام فالسلطان ولي من لا
ولي له فهو مقام الوارث له .
وللمخالف أن يقول : وهذا الوجه غير وجيه ، لأن
(الكرامة) لا يجوز
لمسلم أن يتنازل عنها ، فكيف يتنازل وارث عن
كرامة مورثه .
(2/58)
المبحث السابع
في الشروط العامة
اعلم أن من قال بالجواز في أي من مسائل (النقل
والتعويض
الإنساني) لم يقل ذلك بفتيا مطلقة ، بل أحاطها
بشروط شرعية يجب توفرها
فمتى فقدت شرطاً فقدت الصفة الشرعية .
وهذه الشروط منها شروط عامة لا بد من توفرها
على صفة الثبات
والدوام في أي مسألة قيل بجوازها ، وشروط خاصة
في بعض منها .
وهذه الشروط منها ما يرجع إلى المنقول منه
ومنها ما يرجع إلى المنقول
إليه ، ومنها ما يرجع إلى الواسطة . وهي على
ما يلي :
الشرط الأول : تحقيق قيام الضرورة بطريق
اليقين ، بأي دلالة يقوم بها
اليقين كإخبار طبيب حاذق
ولا يشترط كونه مسلماً ، وما ورد من شرط
إسلامه عند بعضهم فهو قيد
اتفاقي .
الشرط الثاني : تحقيق انحصار التداوي به ،
لعدم وجود بديل له يقوم
مقامه ، ويؤدي وظيفته بكفاءة .
الشرط الثالث : أن تكون العملية بواسطة طبيب
ماهر لا متعلم .
الشرط الرابع : تحقق أمن الخطر على المنقول
منه في حال انتقل من
حي .
(2/59)
الشرط الخامس :
غلبة الظن على نجاحها في المنقول إليه .
الشرط السادس : عدم تجاوز القدر المضطر إليه .
الشرط السابع : تحقق الموازنة بتقدير ظهور
مصلحة المضطر المنقول
إليه على المفسدة اللاحقة بالمنقول منه .
الشرط الثامن : تحقق توفر شروط الرضا
والطواعية والأهلية من
المنقول منه .
الشرط التاسع : توفر الشرط الثامن في المنقول
إليه أو إذن وليه إن كان
قاصر الأهلية .
الشرط العاشر : توفر متطلبات العملية التي
بلغها الطب . وإلا كان
الطبيب مفرطاً يحمل جزاء تفريطه . والله أعلم
.
(2/60)
المبحث الثامن
في حكم بيع الآدمي لدم أو عضو منه
إذا علمت أن الأصل هو الحظر على الغير استعمال
جزء من الإنسان
أو دمه ، حفظاً للنوع الإنساني ، وصيانة
لقيمته وكرامته ، وسداً للطرق
الموصلة إلى إهدارها . وإذا كان انتزاع دم من
حي ، أو عضو من ميت عند
من قال به جائزاً عند الاضطرار ، والضرورة
المقدرة خوف هلاك حي أو
عضو فيه تتوقف عليه حياته - مقدرة بقدرها لا
يجوز تجاوزها ، وهذا القدر
المضطر إليه لا يعد إخلالاً بآدمية المنزوع
منه ، فاعلم أن الأصل لذلك
البذل أيضاً يكون بطريق التبرع والهبة لمنفعة
حي بسد ضرورته ، لوجوب
تلاحم النوع الإنساني على جسر من التعاون
والإخاء ، وشد بعضهم ببعض
استيفاء لنوعهم ، ورعاية لحرمتهم وحرمة
مصالحهم .
لكن يبقى هنا تساؤل عن حكم المعاوضة المالية
عليها ، وهل
المعاوضة تتنافى مع هذا القصد والتأسيس
الإنساني ؟ وأن هذا استرقاق
جزئي لآدميته في دم أو عضو ، وامتهان لحرمته
ليعود كالسلعة والبهيمة محلاً
للتجارة في دم أو عضو أو تشريح لكامل جسده ،
ويزاد - على الخلاف
المتقدم - أن الدم نجس ، وما قطع من حي فهو
كميتته نجس ، والنجس
لا يجوز بيعه ، وأنه وإن جوز الانتفاع به
تبرعاً لمضطر فلا يجوز بيعه
لقاعدة : إن جواز الانتفاع لا يستلزم جواز
البيع ، وعليه : فبيعها محرم لا
(2/61)
يجوز ، لكن إن
لم يحصل عليه مضطر إلا بثمن فيجوز من باذل
لدفع
الضرر لا في حق آخذ .
هذا ما يمكن أن يقال من وجهة مانع المعاوضة .
أم أن المعاوضة تجوز في وجهة نظر المجيز من أن
ذلك لا يناقض
آدميته ، بل يسيران في ركاب واحد فلا يُنقض
على الآدمي آدميته وكرامته ،
كالشأن فيمن قتل قتيلاً فإن له سلبه بشرط
الشرع ، والشأن فيمن حج عن
الغير بمال إذا أخذ ليحج ، والشأن في الاحتفاظ
بحقوق التأليف مع بيعها
ونفع المسلمين بها ، فهذه الأمور المتزامنة
المتضامنة غير متضاربة فلا
تفسد كرامةً قائمة ولا نيةً صالحة .
وهل كما يجوز هذا البيع من الحي لدمه ، والميت
لعضو منه قبل
موته - يجوز لوارثه . ؟
كل هذه أمور وأحوال لا بد من تحرير الحكم فيها
للترابط بينها ، وهي
بحاجة إلى نظر من حاز قصب السبق في الفقه
والتفقه ، وجميع ما ذكرته
في هذه الرسالة من مواطن الخلاف أسوقه بحثاً
ولم أجرؤ على الانفصال
عنه برأي . منح الله الجميع الفقه في الدين .
وصلى الله وسلم على نبينا
ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
بكر بن عبد الله أبو زيد
5 / 5 / 1408 هـ
(2/62)
|